أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - -ثيلوفا-.2.















المزيد.....

-ثيلوفا-.2.


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 4152 - 2013 / 7 / 13 - 20:42
المحور: الادب والفن
    


"ثِيلُوفَا"
(بيان حكائي)

-2 -

في ذلك الصباح الشاحب،الأخضر اليابس، الأبيض الأسود، كانت قوافل الحنين الدافق ترسو على مضارب خيمة أطلسية، مغربية، إفريقية، تكتب تاريخ المرارة والقهر المتطاول على جدائل سفح عريق مسيج بهضبات مضمخة بطعم الخلاء، وجبال مترعة بندوب من خواء. السفح ظل سفحا، لم تجر باسمه ريح، يسند تاريخه للفراغ، حقول متناثرة على أطرافه تنساب مرهقة وتلتف بلون التعاسة. في صدر الخيمة المثقل بالسواد امرأة شامخة، صامتة كالصخر، باكرا أضرمت النار في قبضة التنور، حطت قدرا طينيا على لهيبها، توجته سلطانا أكحل على عشيرة الأثافي، وانشغلت في هدوئها بترتيب مواعين وأدوات رثة مبثوثة في مباهج الخيمة. و"حوسا" الطفل الغجري المعمد بالنسيان، البدر الذي لا تعرفه قوائم الإحصاء، ومدائن الحالات المدنية، الحادي عشر من جنسه، ولد عاريا كالهواء، كان قد استيقظ كعادته متأخرا، فتح عينيه اللامعتين واتجه صوب أمه يسألها متأهبا، وتجاهلته بلطفها، أطلت لجوف القدر، وكانت أحشاؤه تمور ويحلق رذاذه الصغير قريبا من الأعلى. وفي تلك الأثناء كان الطفل "حوسا" قد تحرر من جاذبية الخيمة قليلا، وانفلت كسهم عابر، يضحك من شجاعته الصغيرة. حين يكبر ستكبر معه هذه الشجاعة. أطلق عينيه نحو السماء، كان الجو هادئا، جريحا أحس برعشة وئيدة تساوره، تداعت أبراج من خيالات طائشة في براءته، أحس بنشوة دافقة، كما لو أنه يملك أجنحة:
- ها نَكّْ دِّيخْ آيْ مَّا..( أنا ذاهب، يا أماه..)
ولم تسمع أمه غير ريعان أصداء موشوشة توزعت على مشارف الخيمة.
غير بعيد تفقد "حوسا" عصاه القريبة منه، سار نحو المرعى، حيث يواصل السير على الدوام، حاصرته فرحة مهزوزة طول الطريق، كان يؤمن أن هذه العصا سلاح أبدي، أهوى بها على صخرة، ترددت أصداؤها في محيطه، فارتاح لها قلبه الصغير، سحب هرم جلبابته للأمام ، اقتضم بقايا كسرة خبز اجتذبها على جناح السرعة. الجوع مبدأه ومنتهاه، يعرفه معرفة وثيقة كما تعرف الأسود فرائسها. في تلك اللحظة كان قد انتأى عن الخيمة، ودنا من جمع صغار أتراب، تنحنح، وارتدت إليه كتل الأجساد الصغيرة يتنادون في مرح وهرج عابر:
- حُوسَا ... إيدَّادْ. ( حوسا ..مقبل)
غاب في زحمة الصغار، وقاتل في صفوفهم، غرق في الهمس واللمس والضجيج الضاري، حيث اللهو والقهقهات الذاوية. تذكر أن غنيماته القطيع الشامخ قد ابتعدت عن مرمى العين. وهو مرغم على أن يتفقدها. هرول في إيقاع مرتبك، أسرع في السير، وهو يردد في داخله مقاطع من أغنية مبتورة.
كانت الشمس تقترب من هوة المغيب، والجبال تتلون بلحاف من صفرة باهتة، قدماه الصغيرتان الحافيتان، ترتفعان، تنخفضان، تذرعان الأرض المريرة، والأشواك الحارقة، والتاريخ والهشيم والجغرافية المقهورة، صاريتان تطفحان بالأمل والخطو العريق..أعاد الكرة، رفع يديه نحو هرم جلبابته الكلسية، صدمته حجرة موبوءة، ضالعة في عبق الأرض، سقط، توكأ على عصاه الصغيرة، استعاد يقظته الهائلة، قال بصوت مشوب بنكهة بكاء بائس:
- تْفُو..
كانت بقايا أشواك علقت بتلابيبه تخلص منها في أناة، أحس ببذرة ألم مرابط في إصبع قدمه الكبير، لكنه سرعان ما تلاشى، واعتدل في خطوه من جديد. قطيعه الآن يبدو قريبا من جوف الغابة القريبة. الغابة هذا الليل الأبدي الزاحف.وقبل أن يرخي الظلام ملاءاته على أديم الكون، عليه أن يعود بالقطيع، أن يتعهد الأحمال الصغيرة بالارتضاع، ويؤازر أمه المتعبة في حلب البقرة الوحيدة القرن، ثم يتناول قدحا من اللبن وخبزا طريا. لقد وعدته أمه بذلك حين يعود هذا المساء.
كان "حوسا " قد نفض يديه من كل المهام المنوطة به، افترش الأرض الطيبة، قدمت له أمه قدح اللبن الموعود، أكل، شرب، وأحس برغبة جامحة تسري في مفاصله، انفلت كالسهم من الخيمة، وبسمته الصغيرة، الصغيرة، الرمادية الداكنة، تعاند الغسق الكث الذي استوطن شفاه المغيب. أسرع في الخطو، تنفس صعداء مؤخرته، ضحك في داخله الوحيد، رمقته الكلاب الأمينة، تداعت إليه، جرت جريانه المتواثب، داعبته، غمرته سحائب من الدفء والحنان المفقود، وغير بعيد رفع أستار جلبابته عن الجزء الأسفل من قامته الخشنة، جلس القرفصاء، ضغط على عضلاته الداخلية، خرج من فوهته الكمين تصاعد في الفضاء خيط من البخار، التقفت الكلاب رائحة النسيم، حفت بالجسد القابع، لوح بيديه، كادت تلطع الكلاب شفتي مؤخرته، نقل جسده في ذات الوضع، مد يده إلى حجرة ، حجرتين، ثلاثا.. مسح فوهة مؤخرته، تأكد من طهارتها، ونهض، أطلق تلابيب جلبابته، الستر الوحيد الذي يفصل بين جسده والهواء. أتت الكلاب على المعجون بتمامه، وولت الأدبار، بينما هو انتحى جهة البيدر القديم حيث كان على موعد مع قافلة الصغار الأتراب. كل مساء يتقاطرون في الموعد لهذا المزار المقدس، يستنزفون دماء طفولاتهم المتأججة، يتبادلون الأنخاب الحافية، ويهدرون أعمارهم الصاخبة التي ترعى قاماتهم البئيسة السائرة في طريق النمو. انتهى إلى صدر البيدر، كان الظلام قد جلل الأفق بسواده المترامي الأطراف القريب من العماء، والجبال الأثيرة، شرقا، كان ينبعث منها شعاع صاعد كسيف ممشوق. والقمر يبدأ زحفه معانقا هاماتها، ويتوغل في ضفائر سماواتها، وبعد حين سينشر نوره على هذه الربوع، ويفضح تعاسة هذه الأجساد الصغيرة التي تنتظر الميلاد، وتتعثر أسماؤها في هذه الأرض الظمأى للأقدام . وشرعت الوفود تصل تباعا الزرافات والوحدان، وحين اكتمل النصاب،كانت الأعالي قد أطلقت سراح القمر وضرج ضياؤه النافذ السهول البعيدة والقريبة، بينما تتعالى أهازيج صغيرة في رغوة الهدوء، وترسم خط المتعة القادمة:
- آوَاوَنَّا أُورْدِّيفِّيغَنْ إِيظَا...( من لم يخرج الليلة..)
- آذاسْ تِّيذِيكّْ ربي... ( قاتله الله..)
******
آنذاك كان (هو) يذرع المحطة جيئة وذهابا يخترق اللحظات في غير هدوء، متعبا ذليلا، وقطع عليه حبل الانتظار صوت قادم من أعلى - أسفل، اهتزت له أعماقه الغافية:
القطار القادم من ... إلى.... سيتأخر ساعات، أياما، شهورا، سنوات، قرونا.. أيها المسافرون الأنبياء، تغيير الاتجاه ممنوع، ممنوع..
دارت به الدائرة، وقال في سره: لماذا (هو) بالضرورة ينتمي إلى هذا الزمن الرديء. وحين لفظته محطة القطار أحس بسيول اغتراب وغبن تجرف دواخله، شعر بفيض من التفاهة واللاجدوى، وبؤس التاريخ الذي يغمره إلى أخمص الرأس. أنهكته الخطوات الثقيلة التي كان يزرعها، وتحاكي برودة الموت، وحين تحلل من رماد المحطة أحس بغصة تلفه في الظلام، وبمرارة الضحك على عباد الله الآمنين الغافلين.. بدا متبرما، متضايقا، ومتشنجا، ولم يعد بمقدوره أن يتلمس معالم الطريق، واللحظات القصيرة تمثلت له كما لو أنها أيام القيامة الموعودة، وسرحت به الذكريات والوساوس اللا هبة، وهو يخطو بخطى متداعية ومتضاربة، كأنما لا يخطو.
خرج من جاذبية بوابة عتيقة مر تحت أعطافها، وانتهى بالصدفة أو الاحتمال إلى حديقة "المصيدة الخضراء"تصور الفراغ بين يديه وتحت قدمبه: الورود الزائفة وعنفوان الأشجار والأضواء المتطاولة ومشهد النخل الباسق، لا تعني بالنسبة إليه شيئا. راع فضوله الذي لا ينام، سلة شاحبة غير بعد من جذع شجرة مهجور، تؤوي بقايا علب دخان التاريخ الفارغة، وشظايا أسمال وأزهار ذابلة، واستثارته بين ركامها ورقة كفيفة تجرأ وانتزعها من الدرك الذي هي فيه، وتأكد أنها من نسل دفتر منبوذ، تهجى كلماتها المجذومة دون تركيز،وركبته حمى ذكريات حامية استعاد عبر أثيرها الأيام العصيبة وشغب الفصول وحروف الجر والنصب والرفع والممنوعات من الصرف وأفعال القلب والتحويل والنواسخ والمنسوخات، وفي تلك الأثناء كان قد استوى على كرسي حجري مأزوم، يعرض مقاتله على بساط الحديقة، وفي انفعال غير مفاجئ مزق الورقة، وألقى بها في المهب دون أن يحافظ على نظافة ( مدينتهم).
بلغ الليل أشده العنيد، وأطلق غلالاته على صدر المدينة، الشوارع المفتعلة حافية، عارية، لا غاشي فيها ولا ماشي، ينقض على صمتها القفر أحيانا زئير سيارات عابرة فتقطع عليه أحلامه الملتهبة، ومع ذلك طافت عليه رعشات من هدوء مشبوه، وغزته سنة من نوم طاريء، وللحظات غدا كوكبا ميتا، تتصاعد فيه دفقات من زفير وشهيق، واغتالته شأفة النوم، فتناسى الهول وناقلات النفط والحروب الباردة والساخنة، والمحطات وقاصرات الطرف والعالمين أجمعين.هل كان يقظان لدرجة النوم أم كان نائما لدرجة اليقظة؟ أمر لا يمكن التكهن به، لكنه لم يدر كم كان عمر تلك الغفوة حين استفاق على قبضة يد عاتية استنفرت شعره المنفوش، ورجت رأسه الهضبة في مستقرها. قال صاحبها بصوت جهوري مسكون بما يشبه الرعب:
- سبحان الله..
فتح عينيه مندهشا أو مفزوعا، وانتهى إلى أن ظلا آخر شاخصا كان بجانب صاحب القبضة، هاج في وجهه حانقا:
- بطاقة التعريف...
وفي اضطراب مباشر وشرود واضح وانخفاض وارتفاع الضغط واليدين وسائر الأطراف، نقب في مخابئه حيث تتعايش كتلات من وريقات ندية، بحث عن البطاقة المطلوبة، وأخيرا وجدها، بعد أن نهره الظل الشاخص وقال له :
- حمار...
سدد البطاقة نحوه، واضطر للانتقال شطر العمود الكهربائي المثبت في الطرف الآخر من الحديقة، وعاد بعد ليستغرقه بعينات من أسئلة عادية جوفاء، كان يجيب عنها بعفوية وبكل الدقة المطلوبة. تبادل الظلان نظرات غادرة، وأصدر الأول أوامره للثاني:
- "طلَّّعْ دين مُّو"
وحين استجمع "دين مُّو" أفنان جسده المترنحة، تلقى تحية ركل عاثرة من الحذاء العسكري الصلب الذي كان يرصع قدم الرجل الظل الثاني. لم يشك القسوة، أو الصدمة، رغم أنها كانت مؤلمة.اقتاده أحدهما إلى رأس الشارع حيث كانت تنتظرهما سيارة موشومة تنوح منها رائحة غريبة، كرائحة الدم أو أي شيء من هذا القبيل.صعد في هدوء حذر، لكن قبضة ما تتدخل بعنف بارز، دفعته بقوة، وسقط في الدهليز ككيس من القش القديم، تعثر بأكوام وأجساد بشرية، ولم يسمع غير صدى الباب الخلفي ينغلق بالقوة ذاتها المعهودة.وحين فرض نفسه داخل عتمة الدهليز كان الرجلان الظلان قد اعتدلا في جلستهما في مقدمة السيارة الخانقة، وأشعل أحدهما سيجارة شعبية تناثر دخانها في قارعتها، لتنطلق في اتجاه معلوم. وبينما هو استغرقته خيالات وأوهام وأحلام صغيرة سوداء، أيقظه صوت أحد الظلين الذي استدار فجأة صوب المنطقة القطبية من السيارة، مقهقها، ومرددا في استهزاء حارق:
- تبارك الله عليكم..
وصمت الجميع في ذهول، ولم ينبس أحد ببنت شفة أو ابنها.
في الدهليز القطبي اهتدى بالفطرة والسليقة إلى وجود طفلين مغربيين، وهذا أمر لاغبار عليه، وفتاة بالغة أشدها، وأشخاص آخرين لم يتقر ملامحهم القريبة أو البعيدة.
كان الدهليز صامتا صمت القبور، هادئا كهدوء البراري، لكن الطقس الفعلي فيه كان على عكس ما روجته النشرة الجوية ذلك المساء. فثمة ضغط جوي يحط على الصدور، ولا أحد كان بمقدوره أن يفرج عن ضيقه إلا عبر إيقاعات سعال حاد، و متخاذل أحيانا، والسيارة تشق الطريق بلا نهاية. لا حظ أنها كفت عن اصطياد المزيد من الطرائد الليلية، ولم يغره ما يعني ذلك في شيء. وثبت بعد ذلك ثبوتا شرعيا أن الرجلين هبطا قعر حانة ليلية، وشربا حتى مات كلبهما، قبل أن يعودا إلى السيارة منهكين، ثقيلة خطاهما ثقل زمانهما، واعتدلا بصعوبة في موقعيهما داخل السيارة، لينطلق أزيزها دونما رحمة، وتنتهي عند أسوار بناية محروسة بكل ألوان الرجال والسلاح، ليرغم الجميع على الهبوط، حيث استقبلتهم وجوه جديدة لا تقل قساوة وشدة، وغاب الظلان دون سابق إنذار تحت سنابك الظلام.
( هذا هو الجحيم الصاعد من عرق المدينة، عرين السباع، والأفاعي السامة والجوارح والصقور الكاسرة. يرابط فيه الموت بكل شباكه على مدى العمر..) اصطفقت المداخل والمخارج بالأبواب الموصدة، والتف الحديد بالنار، والممرات بالأقفال الموقدة، والأحذية الرهيبة، وبدا كل شيء يمر كما لو أن الأمر يتعلق بمشهد من مشاهد حرب عريقة.ومرت برهات خانقة ولحظات مجنونة، واحتواه طابور أسلمه في النهاية لرماح من أسئلة عابرة مدججة بكل أدوات الاستفهام وآلياته.أجاب باقتضاب صاخب. والثور السائل يخور،ليقول للعجل المرادف:خذه للأسفل.لينزل السهل ويحل الأهل.
تطلع إلى شهوة الكلام، أو الصراخ القريب منه، لكنه فضل الانحناء. أخذه العجل المأمور إلى أسفل. أصبحا معا سافلين، أغلق عليه القبر، وتركه عاريا بلا صورة أو هوية، واستسلم لسيول من أحلام وحشية أغمض عينيه على ريحها الشائك، ليواصل صبره كمرفأ برتغالي على شاطئ إفريقي حزين.
كان وديعا حين استقل قبره على الرغم من أن أحدا لم يحضر مراسم دفنه، وطفق يراود سماوات من احتمالات هابطة وصاعدة، ومفازات فصول قانونية حارقة، ويستعيد قلاع القهر الخالدة (تازمامارت، لعلو، عين قادوس، سيدي سعيد...) وسيرة الأشجار المريرة والجراح العاصفة:
(كل جرح يولد، يكبر، يشتعل وطنا، يصبح وثنا.
تْفُو عليك أيها النهر الذي يعبر صمتنا ، ولا يضرم غدوته في سرة البحر.
تْفُو عليك أيها الوطن الحيظور فينا، العصي على الاختراق، المقتول في مزارع الأنواء..
تْفُو عليك أيها التاريخ المشلول ، المسلول، السارق من عيوننا بيارق الأحلام و الجنة الموعودة.
تْفُو عليك أيها الوطن المصلت كالأعداء، المعشوق الهارب من نوبة الفقراء..
تْفُو عليك أيها الوطن المعتمد على الزيف، المعتضد بالسيف، المعتصم بالحراب، المتوكل على الخراب، المستعين بالقهر، المقتدي بالعسف والقتل البطيء.
تْفُو عليك أيتها النفس المطمئنة، المأمونة، المودعة في حساب بنكي مشبوه..
تْفُو عليك أيها الوطن الشارد في ضفاف البور، الشاهد الأعمى على الجحور والقبور، وصبوة الفجور...)
أمضى الليلة وحيدا. مضى اليوم الأول كئيبا، ومضى اليوم الثاني كذلك. وهو راسخ في البئر الجديد.لم يسأل عنه أحد. ولم يعان من نيران وحشته. القبركان محكم الإغلاق كأنما هو مهيأ للتصدير. بلغ به الجوع سدرة المنتهى، وأرغمته آلامه السارحة أن يتمدد بشكل لولبي بين فكي كماشة القبر، وينام أو يكاد بعض الوقت.تلك هي الطريقة التي بدت له منطقية إلى حد كبير.غير ما مرة فكر في الهياج أو الهجوم المضاد والصراخ، وأن يعمد للباب الحديدي الذي يلغيه، ليركله كما ركلوه، ويشفي غليل جأشه، لكن ذلك سيزيد بلته الطين، لذلك أغمض عجاج قلبه واتحد بالأرض المعدنية الباردة التي يتبوأ مقعده فيها.
غداة اليوم الثالث انفتح باب البئر فجأة، بقوة متلبسة برنين من طقطقات لمفاتيح وأقفال وسلاسل ممدودة،
أطل عليه وجه آخر جديد، بنفس أمارات القسوة المتدلية من الوجوه التي اصطدم بها سابقا.سأله الأسئلة اليباب عن الملة والهوى والمأوى والزمان والمكان، وأوهمه بأنه يدون بالدقة المطلوبة كل المعلومات المتاحة التي كان يدلي بها، قبل أن يغادر البئر دون استئذان ويغلق منافذه الشاحبة. ومرت لحظات عسيرة كان يتقلب فيها بين اليأس والأمل، والعسر واليسر وليال عشرين، ويفاجئه الوجه الجديد بالعودة ثانية، استطاع ببداهة أن يلمس سحائب فرحة مخبوءة في ملامحه تحت سماوات القسوة السائدة، وبادره قائلا:
- أأنت أمازيغي..
قال:
- نعم..
أخذ بيده واستنهضه دون أن يضيف أية أسئلة، واهتدى به في النهاية للباب البراني للبناية المسلحة، ودعه في ما يشبه اعتذارا مواربا، وزوده بحزمة من تعليمات صغيرة، ثم انصرف. ووجد نفسه أمام البناية مهزوما، مثقوبا كالغربال، كفيفا أو غريرا، وأطلق ساقيه الباردتين، الكسيحتين للسباحة في مناكب الشارع الذي حضنه، دون أن يكلف نفسه ولو التفاتة عابرة للبناية التي أنجبته منذ لحظات. أصر أن هذا الإجراء مؤجل حتى يأمن ابتعاده عن المياه الإقليمية للبناية.
في الشارع كان يمشي بلا اتجاه، تهاوت أمام مخيلته صور أهليه البعيدين والمدينة الصماء، وهو يحدق في الواجهات متأملا قامته المحترقة، التي بدا لونها كالهشيم ،كالتبن أو الخراء، و ملامحه كهارب من مقبرة. التقمه حنين سافر إلى سيجارة يستعيد بها بعض توازنه، وعرج على أقرب دكان تبغ، وابتاع شريط علبة، سرعان ما أضرم النار في أحد قضبانه، وداهمه بابور من عياء مزمن وثقيل، وقرر أن يكون أول مشروعاته، وقد بلغ به الجوع حدود العرب، أن يقتات قليلا، فتداعى هيكله صوب المقهى المعهود الذي يلوذ به في مثل هذه المناسبات، وانتهى إليه بعد لأي، تبادل تحيات الصباح.المساء، مع صاحبها الآبد، وانزوى في ركن من أركانها حيث فسحت له أسراب الذباب بهجة الطريق، وطلب صحنا لم يرو نهمه، أو النار الملتهبة في أحشائه، طلب صحنا آخر وأحس بعده ببعض الرواء والجشاء، فاكتفى بهما، على الرغم من أنه كان بحاجة للمزيد.لو كانت المدينة صحنا لأتى عليها طائف منه.ظروفه الطارئة التعسة لم تتح له فرصة الحديث المعهود بينه وبين صاحب المقهى الذي انتابته شوكة من الدهشة و الاستغراب، وحين أدى ثمن الصحون الطائرة سأله عن ذعره وجوعه والرهبة التي تسكنه، وتحايل عليه في الرد بلطف زائف.
ألقى بنفسه من برج المقهى، وانغمس في حركة الشارع جثة متحركة،واستغرقه ضجيجه المتشابك المتعانق: أهازيج الحوز وتراتيل القرآن المجود، وأغاني الأجيال المغمورة، والأناشيد الضائعة.. وهو لا يبالي، كأنما الريح كانت تقوده في اتجاه محطة الحافلات، حيث سيدفع ثمن نقل جثمانه من جحيم هذه المدينة الماكرة. استل التذكرة من فرن الشباك، وهبط أدراجا قليلة ليحشر نفسه في سوق حافلة تتناثر فيها أشلاء مسافرين وأشباه مسافرين، ويسند رأسه إلى نشوة أقرب إلى إيقاعات الموت.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ثيلوفا- (بيان حكائي) 1
- ( الرجيع العربي)
- أمريكا وعقدة -الشين-
- ضد هدر - الكرامة الأصيلة- لسكان جبال الأطلس
- وزارة التعليم العالي و- الأسواق المدرجات-
- -أصدقاء السوء-
- - تجديد النخالات-
- -أمريكا تجني ثمار ما زرعت-
- - النفط قائدا ومناضلا-
- وزارة التعليم العالي: التلويح بمحاربة الفساد باليمنى، و-التش ...
- وزارة التعليم العالي تخلف وعد -مراسيمها-
- صناعة -السيبة- في كلية الآداب بمكناس
- - العملاء ورثة الأنبياء-
- في مديح - الفيتو-
- -دعاء الاستوزار-
- الحملة والشعارات الانتخابية
- - تنزيل الدستور وما يليه-
- - إن ينصركم الناتو فلا غالب لكم-
- في نقد حصيلة الحوار الاجتماعي: الأساتذة الباحثون والقبض على ...
- -الرافد العبري-


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - -ثيلوفا-.2.