أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - -ثيلوفا- ( بيان حكائي) -3-















المزيد.....


-ثيلوفا- ( بيان حكائي) -3-


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 4173 - 2013 / 8 / 3 - 19:33
المحور: الادب والفن
    


-3 -
وحده الطفل "حوسا" كانت تضايقه على الدوام مزارات السؤال، بينما كان (هو) في دوامة الغياب، ومرات كان يرتاد سفائنه القريبة، بحثا عن أي رد يمتد إليه أو يغريه دون جدوى.أمه تراوغه أو تداريه، وأبوه لا يأبه لأسئلته الصغيرة، ينظر إليه بعطف أبوي كبير، ولا يفرغ قلبه من هوس السؤال.أخوه الأكبر منه قليلا الذي يغتال عمره الشامخ في جامع القرية لم يكن بمقدوره أن يسترد المتاهات أو يفتح ناصية الجواب، رغم أنه يحفظ عن ظهر قلب السور القصيرة من القرآن العربي أو مايليها.
وهذا المساء يعود "حوسا" إلى الخيمة متقلب المزاج، غاضبا حد الضراوة، وحين تناول فتات عشائه التمس إعفاءه من مهام الرعي غدا، فقد قرر الرحيل إلى" إِيغْرَمْ"* ليقضي بياض وسواد يومه هناك وسيصطحب أخاه الأكبر باكرا.
- اعذروه... قالت الأم. هم الأطفال دائما يحزمون حقائبهم للمستحيل، ولا يثقون بغير الرحيل. يلقون ببراءتهم في مهب الريح، سلاطين يلوحون بمفاتيح التاريخ الذي لا يأتي.
"إيغرم" ليس قارة عذراء ولا كوكبا غريبا، ولا بئر نفط، لكنه في ذاكرة "حوسا" والأطفال القادمين مملكة من أساطير جامحة تلون الحياة بعبق الجلال، وتأسر رائحة الوجود وتلف جذوة الأعماق. إنه تاريخ آخر من ظلال وزوايا يتولى أهل القرية كتابته كي يسقطوا في ممراته ويمضون لركوب الموج.. و"حوسا" الطفل المهووس بالزنبوع والتمر البلدي الأصيل يصر على أن يكتشف تضاريس هذه القارة ومعالمها الغريبة، ويرسم صورته في حوافيها ويطلق سهامه ليقلد الكبار، في ما يفعلون وفي ما يختلفون. إنها كما يتخيل الجدول الصغير، كوة نور سيهبط منها أرضا بعيدة وينعم بسقف حياة عابرة تشتعل بألوان الفرح واللذة الراقصة.
صباح الغد أخذ "حوسا" عدته واستقال من مهامه كراع، ورافق أخاه الأكبر يحصي معه مواقيت القهر والطريق اللامتناهية.كانت صورة "إيغرم" تلوح في الأفق شبحا أو مرآة صدئة تنوء بتاريخ متعب وذكريات رمادية وخطوات تتنفس عبير الجحيم: منازل من خراب متناثرة وسطوح جوفاء مغطاة بألواح خشبية أنهكتها أشعة الشمس، تبدو دكناء أو سوداء تختزل البؤس في مرأى العين، وتخفي سراديب الحزن العتيد الذي يتوغل في شهوة الجدران، وطرقات مريرة تحفظ سر الغبار، يرخي النسيان بظلاله على ضفافها وتمتد في التواءات متشابكة كأنها قطعة من دمار.. منذ تاريخ بعيد وسيرة هذه الأطلال تنشر غسيلها للتاريخ وللعالمين، كل شيء فيها قاس قسوة المطرقة، حاد حدة الفأس، ومع ذلك تواصل رحلتها في ملح السنين.في قرة الشتاء العمياء تتهاوى الجدران وتتداعى مع رجفة الريح، وفي عز الصيف تستعيد تماسكها،حيث الأهالي يتولون ترميمها،وتتصاعد أبراجا بئيسة في عرض الهباء.دورة الزمن هكذا تستقيم: انهيار وإعادة بناء، وانهيار وإعادة بناء..حتى البساتين الصغيرة المحدقة به، هي أقرب إلى غابة وحشية، تمتد أدغالها في غمرة السماء وتغطي بنبضها يرقات رحم أرض في لون السراب.
بين هاتيك الأطلال اليانعة كان "موحا" الجندي المجهول،المعلوم، الذي أفنى جزءا من عمره في فيالق الجيش الفرنسي، يعلم أجيال السغب من أبناء قريته فنون الحرب والقتال والمبارزات، ويلقنهم بعض ما تلقاه من تداريب وتمارين عسكرية، واكتسب الكثيرون على يديه تقنيات عسكرية أهلتهم للانخراط في سلك الجندية بعد سنوات من الاستقلال العقيم الذي علقوا عليه آمالا غزيرة ذهب دويها أدراج الرياح.
وصل "حوسا" إلى عمق "إيغرم" منبهرا، مشدوها، مغلوقا كصندوق عتيق، حاملا سؤاله الظامئ كجزيرة العرب، عابرا كل الممرات الصدئة مسكونا بإحساس لامرئي غريب، ينفث فيه روح المقاومة وعناد الطفولة الصلدة. انفصل عنه أخوه الأكبر الذي توجه للجامع المجزوم، وانسل هو بين الظلال والأحجار والمعابر الرثة ليعانق أطفالا من سنه يمرحون ويرتدون غبار الجدران. أصدقاء جدد سيعرف منهم أسرار هذه القلعة الغامضة المضرجة بالأحلام. وهو الآن بينهم أكثر حرية، أكثر انتشاء أكثر وحدة أكثر فرحة أكثر حيوية، يمضي جيئة وذهابا، ويرسم مجاري طفولته لتواصل تدفقها الشريد وتلبس هودج الطريق...
في الكون الصغير الجديد، تحرر"حوسا" من سلاسل الرعي المستطابة، وتحمل العبء أبوه الشامخ، السامق، الصارم، الدفق العارم حتى أقاصي الأرض، الصارية، الشاهد على البطولات والثورات المغدورة، والتاريخ الضالع في المكائد والأغلال..."حدو" قافلة من الأحزان، والالآم والأحلام والنكسات الناصعة، بركان خامد، ونهر ينزف الصمت.لا يقرأ الشعر، ولا يرعاه التاريخ، ولا يراه الله في وحدته، في قسماته المرة تولد سيرة الأشياء.. شجرة، إزميل، حجر الأعماق، تحترق ضفافه على قبضات الخبز البلدي الخشن وحلاوة الشاي والكسكس المترع برائحة الأرض وغبار السنين، يغرس خطوه في سمت الغرابة المعلقة بلون الهواء كسفر محظور. متزوج من سنديانة على مدى عقود طويلة يشرب من بئرها الحنان والمودة والحب القريب من المحال.في صباه تعهد الفرنسيون الغزاة وجعه، وقتلوا أباه على مشارف خيمته، وسقط شظايا كنجمة قطبية، وأيقظ فيه القتل في صغره ريح الهتافات الطليقة، لكأنه الآن يرى المشهد ماثلا، تحضره الصورة البعيدة كما لو أنها تحدث كل لحظة، الأفق مخالج بظلال من الرهبة، والمنحدر القريب من الخيمة مشبوب، تتخلل أساريره مسحة من نور غريب،وفي لحظة ما يلعلع الرصاص وينشر روعه، ويصعد في عرض السماء الكئيبة نواح من نساء يولولن عواصف هوجاء..حين أرغمته الظروف على الانخراط في المدرسة التي شيدها الاستعمار، أبى واستكبر، وقابلها بالرفض والهروب، كان يتوهم أن الجهل في الوطن أعلى مرتبة وأحسن منزلة من طلب العلم تحت سطوة الأعداء، ضحت أمه بأساورها وما ملكت خزائنها، بشيخوختها العاتية،بالسمن والعسل الحائلين، وتوسلت الأذناب المقدمين والشيوخ والمخبرين الألداء، لتحصينه من تعاليم الفرنسيين والمدارس الطوابير، فشب على شيء يشيب عليه الآن.
من ذريته سنابل وأفنان، لم تكتب أسماؤهم في سجلات دورية، ولم يحفظ مقامها في أوراق رسمية كعادة الخيول الأصيلة.آخرهم يترقب دوره للغرق في سلك القوات المساعدة حيث سينضم على قافلة أبناء قريته الذين غيرت ملامحهم البذلات العسكرية ولا يعودونها إلا حين يدور الحول أو الحولان.
حين عرج لمصلحة إدارية حديثة، ارتدته الدهشة القاتلة، إذ أنكروا وجوده، وحياته وحياة أبنائه، وحليلته التي قاسمته خطاه، واغتسلت باسمه عمرا مديدا، اتهموه بالسفاح والوجود خارج القانون ومنطق الدولة، مسحوا الطاولة الأثيرة ومسحوا ظله من أديمها، وطالبوه بإعادة ترتيب حياة جديدة من أوراق وشواهد ثبوت الزوجية وشواهد الحياة حيث لا حياة.. وفي كل مرة كان يتردد على أي مصلحة، ويحاول أن يضع الحروب المؤجلة جانبا، كان يقابله أكثر من مسؤول بكل الوقاحة المعهودة في الإدارات الطحلبية:
- ألا تفهم..؟ مالك لا تفهم..؟.. وحش..
وغالبا ما تتم المناداة في هذه الحالات على " مخزني" كاسر يبادر إلى مطاردته كالوحوش، فينسحب حسيرا، وهو يردد في دواخله:
-.. أنا الذي في أول لحريق..
لما اقتطع من ميراثه الرمادي قطعة من حقل معدوم ليواجه تكاليف انخراط احد أبنائه في خندق الجندية، صدموه بالملك العائلي والرسم العقاري، فكفر برب العائلات والعقارات واضطر ليبيعها خارج معايير التوثيق وعدل العدول، وتحمل هول الصعود والهبوط، وصرير أحلامه المجهضة.. تمنى من الأعماق لو أن يوما فاصلا،لحظة واحدة،أحدة، تطل من عهود السيبة والفوضى، ليأخذ ثأره من كل هؤلاء الأعداء المتجبرين ويموت على الفور.
لم يحضر مؤتمرا حزبيا، أُمة لوحده من الحياد الأسود. نقطة منسابة في دفق الانحدار، شاهد على برية الاستقلال الفاجر الذي تدثر بكل أحلام الأعداء، وترك الشعب المنكوس على حافات من خراب. الفرنسيون أرحم بنا، أقرب إلينا من هؤلاء الأجلاف الذين يحتسون خيرات البلاد. هكذا كان يقول. كان قد رفض أن يحتفل بعيد لا يعرف عنه الأصل والفصل، لما أرغموه أن يرحل بخيمته لينصب مفاتنها الكبرى على طول الطريق المؤدي للتهييج والتهريج، فحكموا عليه بمائة وثمانين يوما سجنا نافذا قضاها صامدا كصومعة من عهد الفتوحات.حصل قبل سنوات على ورقة هوية مقابل ثمن خروف عرضه في مزاد السوق الأسبوعي الذي يرتاده بين الحين والآخر، وارتكب كبيرة "القرض الفلاحي" الذي خادعوه بأن يكون بساط الريح الذي سيحمله على أجنحة الحياة الرغيدة، وكل عام تهدده عصا مصادرة أملاكه، وبمناسبة سنوات الجفاف المفترضة ضغطوا عليه أكثر ليؤدي قروضه الأبدية.باع آخر مرة بساطا أطلسيا مزخرفا بركام من ألوان الدم والطلقات والطبيعة الرحبة لينجو من اقتصاص المخزن الأليم، وقبلُ، لم يؤد ضريبة "الترتيب" واحتج لدى الشيخ والحاكمين بأمر الوقت، والمصالح المختصة وغير المختصة، فحوكم بتهمة العصيان و إهانة رجال سلطة أثناء أداء مهامهم، وانقرضت من عمره ب"أوطيطا" تسعون يوما، خرج منها وواصل نشيج الحياة..
"حدو" لم يقرأ صحيفة، ولا تمعن في مقدمات أبناء وبنات خلدون أو مؤخراتهم، ولا تفحص مصنفات أبناء وبنات الحجر، العالم بين يديه كابوس مطبق يقوم على هذه الأعمدة الرخامية: المقدم والشيخ والدركي والقائد،والجغرافية بين عينيه تبدأ تضاريسها وتنتهي من الخيمة ومضاربها والمراعي والمروج المريرة، والسوق الأسبوعي.. حين بلغه موت "عبد الناصر" ناح نواحه وبكى بحرارة عاصفة نزيف التاريخ والثورات الواعدة، وعزى ذكراه بالقول:
- لا نملك غير صبرنا نقاتل به.
- هي الأرض لا تموت. وستظل أقدامنا أبدا على مرمى العشب.
لا يستمع إلى نشرات الأخبار المسعورة، الموجزة منها والمفصلة، الموحية منها والصريحة، الصادقة والكاذبة، لأنه ببساطة لا يفهم معناها، ولا يهتم بالنشرات الجوية لأنه أكبر منها ويعرف بالغريزة والانتماء تحولات الطقس المنتظرة وغير المنتظرة.
"حدو": مسك، تراث، أرض، سماء، جنة ، نار، بحر ، هواء ، تراب.. آخر أذكاره رسالة توصل بها من ابنه البكر المفكك في جبهة القتال(حيث لا قتال)، لم يستطع فقيه الجامع فك رموزها لأنها،كما زعم، مرشومة بخط رديء كرداءتنا:
أبي الشاهد : حدو المغربي.
إني أعشق بلادي.
أعشق سلاحي.
نحن قاب قوسين أو أدنى من الشفق البعيد، نكتب تاريخ الزحافات والعلل..
الموت لكل الأعداء.
وسلامي لكل سواقي العائلة، الصغير منها والكبير.
وإلى اللقاء، اليوم أو الغد، على ضفاف النهر القادم.
****
كانت الشمس شاردة، حزينة، والسماء تلبس دروع الغرابة عن الأرض، والأرض تدور على غير عادتها بشكل مخيف، والأشعة تتبرز في المقامات وعلى الهامات،وسنابك الحر تتقلب على المناسم، والأوراق والمجرات والممرات، و"اللات" و"العزى" ربما كانا في طريقيهما إلى الاستجمام على سواحل البحر الأحمر على طريقة الآلهة المحترمين، وركابو"سريع الشمال والجنوب" أطلقوا الأستار والأزرار لمواجهة حاقات الشمس.كان الجميع يصعد من الباب الأمامي بحثا عن مقاعد في الصفوف الأمامية، فتلك أقوى مؤشر على الاستمتاع بحلاوة الركوب والتخلص من المقاعد الخلفية التي لا يعتصم بها إلا الجهلة، والمتخلفون الأرذلون. الحافلة ضاجة وصاخبة كمدينة ثالثة، تعتصر فيها الأجسادُ الأجسادَ ويتزاحم بعضها مع البعض لدرجة الحلول، وتتشابك الأقدام والأطراف جميعها كقرون خرفان العيد الكبير، في وقت تتعالى فيها الصيحات والأسئلة الشائعة:
- خاوية هذي..
- عامرة..
- خا....
وعويل الصبيان والصبايا ينساب بين الظلال وموجة الأجساد والتلابيب المتناثرة، وفقاقيع الدخان وروائح العرق المغربي والعطر المستورد، والزيت، والزيتون، والمرق الفائض والفوسفات والتحرشات المتبادلة وسوء التفاهم الساري والحنق المتطاير:
- مقعدي، هذا، تلك حقيبتي..
- لا. هذا منديلي...
- رقم مقعدك..
- أنا أسبق منك..
تستنفر الكلمة السحرية:"سر على الله" الأجواء، ويعمها هدوء خفي، ويتراجع برزخ الرغبات إلى حد كبير.
استأذنه في لحظة وجه مغربي الملامح، وهو ثابت في صف المقاعد الخلفية، يحمل تحت إبطه إكليلا من الجرائد المطوية مع سبق الإصرار، اقتعد جانبه، وضع الجرائد في المنطقة المحايد الفاصلة بينهما، وبدأ يقرأ، بينما (هو) يسترق النظرات ويسرق بعض العناوين الكبيرة المثبتة بخط عريض، ولما أنس به طلب منه السماح لأخذ إحدى الجرائد، تمكن منها، وقرأ العناوين بشكل سريع، فهو ليس بحاجة إلى الغوص في التفاصيل البعيدة. لم يتبادلا منذ البداية أي حديث، كانا حذرين أشد ما يكون الحذر، وكلما رفع أحدهما يديه أو قدميه وشعر بأنه يضايق الآخر اعتذر له بشكل كاظم متميز من الغيظ.
حين طمس سريع الشمال والجنوب صورة المدينة عن أعين الجميع، وابتعد عن الخبط في شوارعها وحاراتها المتكلسة، بدأت تخترق المجال الطلق ريح دافئة تتسرب إلى القلوب والأجساد المتراصة عبر النوافذ الزجاجية المفتوحة، وأحس الركاب بفرجة الانفلات من قبضة المدينة وشوكها، إذ ذاك تبادلا بعض الأسئلة المحدودة، وعاد كل منهما إلى قاعدته سالما إلا من القلق الدفين الذي يسكن قعر الذاكرة. وسريع الشمال والجنوب يطوي الأرض بحيث يبدو كل شيء كأنما يجري لمستقر له. في الزاوية المحاذية للسائق المترهل الغامض ملصقات وإعلانات وبطاقات بريدية وصور مشوشة لمشاهير فنانين في أوضاع مثيرة، وكتابات منقوشة بدقة: "ممنوع الكلام مع السائق". لكن الجميع كان يلاحظ أن السائق كان ثرثارا لحد القرف.
قال لجاره العابر:
- أأنت ذاهب إلى ...
وجاءه الرد توا بالنفي.
- .. أنت من بواكير هذه المدينة...
- لا.. بصراحة، أنا من توابيت العاصمة، وعادة أغزو هذه المدينة الصغيرة من حين لآخر، أدفن فيها بعض شتات الغضب والاغتراب والعزلة والقنوط والانفصام. أشعر هنا برعشة الحياة وجدواها، بالدفء والحنان والمحبة التي لا تنتهي في فساتين النساء وعمامات الشيوخ والباعة المتجولين.. منذ سنوات تعرفت على نفسي هنا، حيث يتسع الملأ لرغبتي وأنام ملء الهوى، أرسم تضاريس لذتي وأحفر الطريق نحو الهوة المغلقة..صاحبتي هنا، يخطفني رصيفها، في كل مرة أرتدي اسمها وأواصل صرخة الميلاد. أنا في الواقع صخرة صماء، لا أقرأ عادة هذه الجرائد السامة، ولكن حين يسافر المرء من الضروري أن يظهر بمظهر مثقف بارز ومحترم..
أدخل حضن صاحبتي في هذه المدينة الصغيرة الظمأى كالجدران المشدودة للحريق، نتعانق في هدوء الموت، نمسح دموع القهر الراقصة، ونفرغ محطات اللذة من رمالها. صاحبتي تعرف منارات العشق الذي لا يفنى، تعلمني الصدق وطلاوة اللمس وطيبة الحواس السبع... معجب بصدر هذه المدينة الصغيرة المسقوفة كقبرة برية، أهلها من الشوك والصبار.. لا أخفيك سرا إذا قلت لك، قبل أيام فقط قدمت ملتمسا إلى رؤسائي المباشرين ليحيلوني للموت هنا.. قتلتنا الردة في مجاري ومجالس العاصمة: البؤس فرض عين، الخبز فرض عين، والموت الدائم، المتجدد فرض عين، وظروف العمل قاهرة كثعابين إفريقيا المتوحشة.. أنا موظف بسيط كحبة خردل، متزوج، أسير مكاتب من القش والفضلات.. هذا الوقت أصعب مما تتصور. أكبر منا، وليس لنا إلا القبر..كان الحديث ينهال كخطرات ليلية من ليالي بغداد القديمة، لكن سريع الشمال والجنوب توقف في بهو المدينة المعصوبة العينين، وغادره الجار، مودعا إياه بحرارة خط الاستواء. وأطرق مكانه في انتظار نزيل عابر آخر..
عادت الجلبات وسحائب الصخب والشغب تستنفر الراكبين من كل حدب وصوب، حيث تتقاطع حركات الصعود والنزول والحيرة، وشأفة البحث عن المقاعد الأمامية المشرفة، قالت امرأة غاضبة حين تطاول عليها أو ضايقها رجل مشتت بين ممرات المقاعد ومناكبها، نزعت عن وجهها البرقع المسكوك بالسواد، وصرخت في وجهه الملطخ بالحرمان:
- أنا بعيدة عنك.. بنت الأصل والفصل.. والحسب والنسب..
لم يطق الرجل الإهانة، فاض جنونه وأخذته العزة، وثار ثورته:
- سيماهم في وجوههم.. آلفاجرة..
واستيقظت الفتنة على المشارف، اشتعلت الحرب، واستجمعت المرأة قواها كالفريسة المنهوكة:
- الفاجرة هي أمك.. يا سافل الرجال.. الكلب..
وتدخلت قوات حفظ السلام والردع ولجان المساعي الحميدة وغير الحميدة، وانتهوا إلى وضع حد لتلك المناوشات، ولو بشكل مؤقت.
قال شيخ كسيف هرم كان بمحاذاة السائق وتظهر صورته بين الحين والآخر في المرآة العليا المقابلة، ذو لحية بيضاء كثلوج الوطن التائهة:
- العنوا الشيطان.. لعن الله امرأة رفعت صوتها بين الرجال..
اغتاظ شخص آخر ثالث في مؤخرة الحافلة، قال في طيش بائن، وقلق وتشنج صريحين:
- لعن الله رجلا رفع صوته بين النساء... لعن الله امرأة .. لعن الله رجلا... لعن الله الجميع.. لعن الله هذا الزمن.. تْفُو..
وكاد الصراع يأخذ مجرى المواجهات الدامية، لكن التدخلات السريعة من ذوي النيات الحسنة أخمدت النار في مهدها، ومع ذلك كانت الحافلة تطفح بردود أفعال وعبارت بذيئة وقهقهات متواترة وكلام ساقط
خارج حدود اللياقة.
اعتدل السائق المترهل في قمطره الفني، مزهوا،ممتقعا، غاضبا، نهر بقسوة مبالغ فيها امرأة تصعد من الباب الأمامي محملة بأثقال من القش المتلاطم، عادت أدراجها للتو مهزومة، وارتفعت في فناء الحافلة أصداء الكلمة السحرية:
- سر على الله...
في استئناف الطريق تواضع وافد جديد واحتل جنبه، حياه بإيماءة معقوفة وساد صمت لوقت قصير بينهما، قبل أن يغتنم الوافد فرصة اجتياز سريع الشمال والجنوب الحواجز المفترضة التي تقام في مداخل المدينة ومخارجها، وسل من جيوبه الداخلية سيجارة شقراء، فتك بها عنوة، و"بَرَمَ" من حطامها "جواناً" تعهده في غاية الإحكام والإتقان، تداولته يداه برهات قبل أن يشعل فيه النار. جذب منه نفسا، نفسين، أطلق سحائب الدخان إلى أعلى، فاحت رائحة المنتوج المغربي الأصيل في مسالك وممرات سريع الشمال والجنوب. أحس باختناق يداهمه وطلب منه أن يفتح النافذة المحاذية لعل أفقها يبدد بعض هذه الشذى الفائح، وبالمناسبة عرض عليه أخذ نفَس أو نفَسين من السيجارة الساحرة، لكنه اعتذر ببرودة قاتمة:
- لا .. الحشيش.. لا.
وأغاظته كلمة "الحشيش" على ما يبدو، وانخرطا معا في جدال عاصف، ليواجهه الجار العابر في شجاعة نادرة:
- غريب..أكاد لا أصدق.. نحن تماما في جيل يعكس الصرخة القادمة.. من هنا يبدأ شاقول التغيير، والهوس بالحلم المفقود... من منا لا يغوص في برية الغيب يغازل فتنته اللامرئية الدفينة.. ما يجدي أن تقرأ جريدة، أن تكتب قصيدة، أوكتابا، أن تنتمي لخلية أو حزب، أن تشغل عمرك بالصراع الطبقي والخلايا المكسورة والمنظمات الموازية والجماهير الشعبية واللاشعبية.. أنا بصراحة خارج الملات، والأوزان، تتوغل في عظامي الرغبة في ما يشبه الجنون..
أول من اكتشف النار .. نبي.
أول من اكتشف الهذيان.. نبي.
أول من اكتشف لذة الحشيش.. نبي.
ومن لم يذق ظلم الحشيش كظلمه، متخلف، رجعي، انعزالي، جاسوس...
- ....
كانت معاول الحوار تتقدم في اتجاه غير مقصود، وحين أطفأ الجار الوافد " جوانه" الملهم ، شعر بما يشبه الانهيار،وتداعت كل رواسي جسده على المقعد الذي يواجهه، أثبت عليه رأسه الدائر بحذر شديد، أغمض عينيه دفعة واحدة، واختطفته بهجة نوم غريب.
افترقا في محطة الرسو التالية دون أن يعرف أحدهما الآخر، أو يودعه. وكان عليه (هو) في هذه المحطة أن ينتظر إقلاع حافلة أخرى تمضي في اتجاه نقطة الوصول التي هي مبتغاه. وفي انتظار ذلك أحس بتعب غائم يداعب دواليه، وقرر أن يحط رحاله في إحدى المقاهي الشعبية اليابسة التي تزخر بها المدينة. هبط قليلا سلم الشارع الحلزوني المقابل، واستطاع بعد جهد أن ينكس رايته على مقعد شبه محترم، رسا على المقعد، بادره النادل بلطف زائف، طلب كاس شاي أصيل. على مقربة منه كان هناك نزيلان قد استهلكا واستنفدا مشروبيهما، لذلك امتعض النادل بشدة حين طلب أحدهما كأس ماء عادي. كانا منهمكين في شؤونهما وشؤون الآخرين، يتجادلان بصوت مرتفع، حاد، ومنخفض أحيانا. أشعل سيجارة، وطفق يستمتع بنارها وغبارها، بينما كان حديث النزيلين الجارين يغزو مسامعه بقوة، قال أحدهما في توتر وانفعال بائنين:
- لا..لا..المدير عمليا لا شخصية له تماما.جالوق مثقوب.لاإرادة له.السلطة ابتداء وانتهاء بيد "الشاوش"، لولا حزبيته الشفيعة ما وصل. الشاوش رجل قانون، عارف، وخبير.. المدير " طائح" في ابنة "الشاوش" التي تتابع دراستها الجامعية.. الشاوش "طائح" في زوجة المدير، لذلك تظل كلمته هي العليا: يذهب إلى السوق، يحمل الخبز للفران، يتعهد الأولاد والحدائق الوهمية، والمكتب، والكلب، ويتخذ القرارات، يسهر في بيت المدير حتى ساعة متأخرة من الليل بدعوى أنه يتتبع المسلسل العربي المليء بالمفاجآت.. ابنة المدير"طائحة" في مرتزق أجنبي، والتلاميذ طائحون في المرتزق الأجنبي..ابنة صاحب العمارة طائحة في السائق الذي يتأبطها في العربة صباح مساء لباب المؤسسة وينتظرها على أحر من الجمر، دقائق قبل مغادرتها لها.صاحب العمارة طائح في زوجة الجندي المغروس في جبهة القتال، شهرا إثر شهر تتلقى حوالة بريدية تنفقها ذات اليمين وذات الشمال، وتبعث له في الحال رسالة مستعجلة تطالبه بالتعجيل بقدر مالي مهم فأبناؤه على حافة الإفلاس والموت من الجوع. حرم صاحب العمارة طائحة في صاحب الفران... وهم،.. هم طائحون في الوطن.
تحرر من الاستماع، وتفقد الوقت، ووجد أن الساعة وضعت إشارتها على الموعد. وغادر المقهى ليستقل الحافلة الموعودة. وبالمقعد الذي احتله قرر أن يخلد لغابات النوم، ليستريح من قيد التعب الساكن عينيه، وكذلك فعل، ولم توقظه إلا ريح وهتافات المدينة التي تجري أساريرها في حرائقه، وغدواته وروحاته..
كانت الشمس قد احتواها الغروب، ودبيب الظلام يسري في عروق الأفق المطبق على المدينة، غادر الحافلة، وفضل مرة أخرى أن يأوي إلى مقهى ليسترد بعض حيويته، وطلب كوب شاي، أشعل كالعادة سيجارة، وبدأ يرقب موتها على مهل..( ها أنت الآن تعود منخورا، تزحف من شدة الانطفاء كمحارب تالف، تائه، لا تحمل هوية غير هذه الغمامات التي تظللك، تطوي ضجيج المدينة وحيدا، ولا تزال كآبتك هي المثوى، شارع مفتوح على البوح، لا دليل إليك أيها التعب الذاهب في وطن الشتات...).
غادر المقهى بعدما شعر بشآبيب طمأنينة عابرة تغزوه، وانخرط في دوامة زحام الشوارع الحافية التي يعرف أسرارها، حدجه طفل منهوك في عمر كتاب بنظرة ثاقبة، حدق فيه الصرخة والصرختين، ثم تقدم منه الخطوة ، وعيناه الرماديتان الكليلتان تؤججان سؤالا مغروسا في وتر الأرض الغاربة، اقترب منه كأنه ينحر عزلته، قال:
- خاص..ك، شي بنات...
تأمل الطفل الذي انسل هاربا بسرعة غير منتظرة، ولم يتملك ملامحه الشاهدة، قال في شرود منسوج من صمت وغضب مرير:هذا أنت، أنا ، نحن، قوادو التاريخ، والأمهات والمعارك المؤجلة... وخفف من خطوه يطوي كساد الشوارع.وحين توغل في غياباتها الصغيرة قابلته وجوه عديدة، وبادل الكثيرين برد التحيات، والابتسامات الصفراء العابرة.
في منعطف مجلل بالموت والحرمان المخيف، فجأة، ربتت على كتفيه امرأة تقترب من سدرة الشموخ، لم يكتشف جغرافيتها أول وهلة، لذلك بدا وكأنه مأخوذ بفرحة أو حنين مباغت، حدق في تضاريسها الممكنة، المخبوءة تحت أجنحة إزار مغربي منسكب على الأطراف يحجب القسمات والمفاتن المحروسة،لم تمهله طويلا، كشفت عن بريق وجهها الغجري وبادرته بالعناق. طارت مرحا، صرخ بها انشراحا، عانق فيها وحشة بلدته المهجورة، وتيه الطفولات البعيدة.سألته عن الحال والمآل، والوطن والخيبات والذكريات الصغيرة، وتوسلته النزول عندها الليلة، ولم يجد بدا من القبول.





• إيغْرَمْ: ( أمازيغية) المنزل أو القصر. مجموعة منازل أو مجمع سكني صغير.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ثيلوفا-.2.
- -ثيلوفا- (بيان حكائي) 1
- ( الرجيع العربي)
- أمريكا وعقدة -الشين-
- ضد هدر - الكرامة الأصيلة- لسكان جبال الأطلس
- وزارة التعليم العالي و- الأسواق المدرجات-
- -أصدقاء السوء-
- - تجديد النخالات-
- -أمريكا تجني ثمار ما زرعت-
- - النفط قائدا ومناضلا-
- وزارة التعليم العالي: التلويح بمحاربة الفساد باليمنى، و-التش ...
- وزارة التعليم العالي تخلف وعد -مراسيمها-
- صناعة -السيبة- في كلية الآداب بمكناس
- - العملاء ورثة الأنبياء-
- في مديح - الفيتو-
- -دعاء الاستوزار-
- الحملة والشعارات الانتخابية
- - تنزيل الدستور وما يليه-
- - إن ينصركم الناتو فلا غالب لكم-
- في نقد حصيلة الحوار الاجتماعي: الأساتذة الباحثون والقبض على ...


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - -ثيلوفا- ( بيان حكائي) -3-