أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعد **















المزيد.....



ذهب ولم يعد **


شعوب محمود علي

الحوار المتمدن-العدد: 4493 - 2014 / 6 / 25 - 21:45
المحور: الادب والفن
    


ذهب ولم يعد **


في منتصف الليل سمعت قرقعة على الباب . لاح رجل من افراد الدائرة . ينادي احمد وكان رجل آخر اسمه احمد .
قاما الاثنان معاً .
ابتسم الرجل المكلّف بجلب احمد , واشار اليه بالخروج من السرداب , وقال للآخر اجلس مكانك لم يحن دورك بعد . نحن نعرفك وقد خبرنا اجندتك , وعندما ننظر اليك كانّما ننظر الى لوح من الزجاج الشفّاف , لذلك لسنا بحاجة لنضيّع وقتنا معك . نحن نريد الغوص في كهف الطين , والوصول الى التربة اليابسة , واللعب في ساحة الفروسيّة . على الجواد الذي لم تستهلكه المسافات الطويلة .
الليلة عندنا جلسة .. او سمّوها ما شئتم .
صفقة مع فارس جديد قد نطلق عليه السباع في ساحة عراقيّة
وليس في الساحة الرومانيّ كما هو معروف
كان الرجل قد تفوّه على سبيل التهديد المبطّن , وفي حيّز ضيّق دون ان يعطي لصوته نبرات عالية . اقتاد احمد مثلما يقتاد الذئبُ الخروفَ ومن ثمّ اغلق الباب . صار الموقوفون بين متطيّر , وبين من يمتلك زمامه , وكبح الجماح . فيما يخص الذين كانوا معه قد اجتاحهم نوع من الريبة والشكوك العميقة
كونهم لم يتعرّفوا عليه من قبل , وبما انّهم ابناء مدينة بغداد , ومن مناطق متقاربة . ومن خلال المظاهرات , والاضرابات كطلّاب , وعمّال , وكسبة, ولفترات طويلة . ومن خلال التنظيم .. كانوا يعرفون بعضهم بعضاً وبشكل خاص عندما تفتح ابواب المعتقلات لاستقبالهم
ايّام الازمات السياسيّة تجمعهم المحن .
امّا ما يخص احمد فهناك من اعتبره عيناً عليهم خلال فصل ممسرح بتقنيّة عالية. والّا لم اهتم هاؤلاء به وهو كجندي مجهول؟
وقد ظهر بغتة على خشبة مسرح الحدث. استمرّ لغط وجدال طويل بينهم حول ذلك اللغز, وسر اهتمام الدائرة به بشكل مميّز . فجّر احدهم القنبلة الموسميّة حيث همس مع غياب احمد لغرض التحقيق : ظهر الفساد في الارض
ان لم اقل ظهر الشك بيننا , اوكاد يتجاوز ضفة الامان
وقد كانت نار التحسس تلسعه وهو يطلق صفّارة انذار وجدانيّة
دون جمع الخيوط لنسيج اللعبة ,
ثمّ نطق وهوبين الشك واليقين .
رفاق نحن نجهل موقع الرجل , ومع تفاهة هؤلاء , (القرقوزات)
وخوفهم من بعض الذين ضربوا بالشمع الاسود على ابجديّة انتمائهم .
من هنا يتسرّب الشك اليهم . فهم يتحسّبون في يقظتهم وفي احلامهم , وتصوّراتهم عنّا حتى عالم النسيان وداخل حصونهم طالما يوجد من يفتح عينيه على زجاج نوافذهم المطلي بالقار. فالخوف يصبح قدرهم .
صعد احمد السلّم الى الطابق العلوي المطل على النهر بمعيّة الرجل وما ان دخل احدى الغرف حتى تعثّر وكاد يسقط على وجهه مثل جمل معصوب العين . كانت الغرفة مستطيلة , ونوافذها قبالة ذلك المجرى للنهر
في الليل الذي يضم المدينة تحت قفطانه الاسود .
كان احمد مخترقاً بالخوف , وبانعدام الطمأنينة وهومحاط بالكواسج البشريّة وعلى الارض المسمّاة بارض السواد . كان داخل الغرفة شخصان , وعند دخوله دعي الى الجلوس على المصطبة ليستقر , وليراجع حساباته , وفي موقف قد يهتز الانسان في حالة هشاشته .
احمد لا يعرف ما يريده هؤلاء . بعد صمت طويل ,
حدّق احمد بوجه احدهم من بعيد
فتذكّر انّ هذا الرجل : هو نفسه الذي حقّق معه في المستشفى
ثمّ لمح خلف الرجل رفوفاً استقرّ عليها الكثير من الملفّات..
الضابط المحقّق لأحمد اقترب , واجلس هنا , واشار بيده الى المكان الذي
حدّده له . جلس احمد بالقرب من الضابط . سحب الرجل علبة سجائر من على الطاولة وقدّم لأحمد سجارة وقال تفضّل دخّن . اجاب احمد بكلّ ادب شكراً سيّدي انا لا ادخّن :
الضابط هذه من حسنات الانسان فالتدخين ليس سوى عبث ينخر مثل الارضة في الاثنين معاً : في المال والصحّة ولكن ما الحيلة .
لقد اصبح التبغ عادة لأيّ مدخّن , ويصعب الخلاص من تلك العادة الكريهة والمنهكة , انا رجل ازاول العمل الوظيفي , واصارع هموم العصر , ولا استطيع الاقلاع عن التدخين الذي اصبح بنظر البعض من الناس صفة من صفات المتحضّرين . كلّ هذا الحديث الطويل والممل حول التدخين ومضارّه, واستحسان , واطراء من يكون في منجى منه كعادة ذميمة . الحديث عن السجائر , والتبغ , ومضار النيكوتين جعلت احمد يطمأن الى جاب الرجل , ولكّنه اخذ جانب المستمع ولم يغامر ,
او ينوي الدخول في الحوار. اخيراً التفت الضابط الى الشخص الذي اصطحب احمد وقال له لو جلبت لنا قدحين من الشاي . اجاب الرجل نعم سيّدي . ذهب الرجل .
الضابط اسمع احمد انا اريد ان احميك مما انت فيه قد تورطت .
سيّدي انا لم ولن اتورّط , وليس لي علاقة بكل ما حدث , انا رجل قروي جئت الى المدينة لأعيش . نعم , نعم اسألك فقط لماذا غادرت قريتك .؟ غادرتها لصعوبة العيش فيها . من يصدّقك .. سيّدي انت ترى , وتسمع عن الهجرة والمهاجرين .
اليوم يغزون المدن من قرى , وقصبات ارض السواد
وبشكل خاص العاصمة وذلك للحياة التي عاشها ويعيشها الفلّاحون
وانت من خلال موقعك كمسؤول ومطّلع اجزم بأنّك تعرف ظروف البلاد
و كيف يعيش الناس هناك ولو كانت حياتنا الاقتصاديّة مستقرّة
لما هاجرنا الى المدينة لنسقط في المطبّات التي نجهل ما خلف سدفها .
المحقّق : انا نفسي اقف بين قوسي المساءلة والاتّهام .
انا لا اريد ان اظلمك : ومن حقّنا كرجال
مناطة بنا حماية الملك , وامن البلاد ..
بموجب القوانين , والدستور.. ,
ومع هذا فانا انصحك ..
دخل الرجل حاملاً ا قداح الشاي ووضع تلك قبالة الضابط
ثمّ انسحب بعيداً عمّا يدور من حديث قد يشكّل نسيجاً في متن التحقيق
الذي يضع النقاط على الحروف ..
الضابط لأحمد شايك .
اخذ أحمد قدحه وراح يرتشف الشاي ,
ويتحسّس الفرج وقد انزاح عن صدره الهم .
صار يتفاءل بقرب انفتاح باب القفص ليطلق جنحيه
في فضاء الحرّية الذي يسع كل المقيّدين في الارض ..
سحب الضابط نفساً عميقاً وقال لاحمد اعتقد انّك ما زلت تتذكّر حديثي في المستشفى وقد حاولت ان اقدّم لك عملاً مضافاً الى عملك لتستقرعلى قاعدة اقتصاديّة تقيك شر العوز , والتشرّد .
سيّدي انا في وظيفتي والحمد لله : ما اتقاضاه من عملي يكفيني .
ابتسم الضابط وقال لا تفكّر في وظيفتك بعد ان القي القبض عليك وانت سابح بدمك . سيّدي ان وجودي هنا كان وما زال , وقبل ان يطرح تبريراً
قاطعه الضابط , وقال نحن مقتنعون وقد اعتمدنا على افراد الدائرة ..,
وكذلك على الشرطة الذين دخلتم معهم في معركة . لا تنكر ما انت عليه
نحن نقرأ ما تحت الاقنعة من اخاديد حفرتها سنوات العمر , وما دار ويدور في الصدور هناك شهود حضروا , وشاهدوا ميدانيّاً , وشخّصوا وانت بالذات علامة فارقة
بملابسك وقد شاهدوك وانت تصرخ حتى تنتفخ اوداجك ..
ليخرج الشاه محمّد رضا من بلادنا .
الشاه ظل الله في الارض . وليس الشاه وحده يحمل
هذه الصفةالكريمة ..,
فكل الملوك , والاباطرة , والخلفاء اكتسبوا صفة الظل ..
ومظاهرتكم كانت خرقاً للدستور . بل لجميع القوانين المقدّسة
السماويّة والوضعيّة . عليكم ان تعلموا نحن لم ولن نتوّج الشاه ملكاً على العراق : ولكن الشاه وغيره يكتسبون تلك الصفة كونهم الملوك في الارض.
وقد قال السيّد المسيح ع اعطوا ما لقيصر لقيصر, وما لله لله. والقرآن الكريم يقول يا ايّها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم . واولي الامر هم الهرم المتمثّل بأعلى ذروة في السلّم التصاعدي من القاعدة العريضة في البلاد,
ثمّ ايّ بلاد من بلدان العالم فعل مشاغبوه مثل ما انتم تفعلون .
انتم دائماً وابداً تتخبّطون , وتخرجون عن الطريق , وكأنّكم ولدتم وولدت المعرفة معكم , وكذلك تعتبرون افكاركم هي نهاية الشوط لتكامل بناء
العالم . انتم تحاولون ان تعكسوا للناس تصوّراً عن اجمل , واكمل , واروع فردوس يناسب كلّ المجتمعات ,
ويجعل الجنس البشري موحّداً ومتساويّاً في الواجبات والحقوق , وقد تختفي في مجتمعكم البطالة , وتنتهي ازمات الانسان في الحصول على كلّما تطرحه الحياة مع تسارع حركة وتائر الانتاج المتطوّرة والمدعومة بنظريّة الاقتصاد المبرمج حيث يكون الانسان, سيّد الارض , وسيّد نفسه ,
خارج اطرالإحتكار, وتحكّم الاقلّيّة الطفيليّة التي عاشت وتعيش على هامش الحياة . وانا ضابط امن , ومحقّق احيط بمعارف واسعة الى جانب خبرتي لسنين طويلة , ومن خلال احتكاكي بكم , وتورّطي لفترة زمنيّة معكم , ومطالعاتي للفكر المضاد , وتجربتي الغزيرة في الحياة .
اقول لك انتم تريدون سحب البساط المطرّز بالحكمة الى جانب حصيلة
كل العقول المتفتّحة من فجر التاريخ وانتم تحاولون كنس ما ترسّب
من سماة , وعظاة الى يومنا هذا .
اجل تريدون سحب البساط من تحت كل الجماعات التي كان لها السبق عليكم في جميع الميادين ..
احمد قلّي هل انا محق ام لا ؟
سيّدي انا لا اعرف تلك الاشياء التي تتحدّث عنها .
وفي السر كان احمد قد خمّن موقف هذا الضابط كونه تفّاحة فجّة سقطت من الغصن بعد ان تعفّنت , ولا مجال لمقارنتها بتفّاحة نيوتن التي كانت سبباً في اكتشاف الجاذبيّة ..
فالفرق شاسع بين ثمرة البركة , وثمرة اللعنة ..
احمد قل .. سيّدي قلت لك انا لا اعرف عمّا تتحدّث .
فكّر واجزم كون الضابط غير عادي .
وربّما كان من نفس الفصيلة وقد حصلت له صعقة قويّة فانقلب على عقبيه,
والّا كيف يكون له مثل هذا الاطّلاع في عالم السياسة ,؟ ووضع النظم .
ربّما كان ملاكاً وقد ضربه نيزك فمسخه من ملاك الى شيطان .
الضابط راوده احساس بانكماش احمد , وعدم تجاوبه لكل الطروحات
التي استحضرها من خزينه القديم .
نهض الضابط من مكانه واتّجه الى الرجل الواقف بعيداً عنه ,
وهمس في اذنه فانسحب الرجل على وجه السرعة .
كانت الدقائق تمر ببطء , وكانّها الساعات الطوال ,
بل العمر كلّه بالنسبة لاحمد
حيث قطع الضابط حديثه بعد ان تغيّرت ملامح وجهه .
تشاغل احمد بمسح العرق عن وجهه وهو يتلمّس ازرار سترته
وكانّما الملح يتحجّر بين اجفانه , وسوط القلق يجلده
وهو يغيب عن المكان في محيط تصوّراته وقد
يجول فوق التربة التي نبت عليها , ونما , وترعرع .
الاخيلة لا تغادره ..
والهواجس تنبت في حقل مخاوفه ..
كان يحس مثل قطار تحرّك من غبش ميلاده , ليدخل نفق الغروب .
اعتقد انّه عبر المسافة الممتدّة بين القرية والعاصمة
ولكنّه اكتشف كونه مازال على خطوات من الجحيم
ولا فردوس يلوح ولو في معرض رسم .
صار يوجه نقداً لاذعاً لتفاؤله كونه كان ساذجاً ,
وقرويّاً غريراً وحالماً ..
كونه كان يحكم على الامور قبل ان تحكم الامور على نفسها
والّا كيف لا يوظف فراسته , وبعد نظره عن المدينة المنكوبة
وهي تحمل اثر الجدري على وجهها , ونقص المناعة كالقرية تماماً
لها امراضها الكارثيّة كونها خاضعة للنفوذ الاقطاعي كما تخضع المدينة لسادة رأس المال , ولصاحب القبّعة المدوّرة والذي يمثّل حلقة من سلسلة الاغتصاب التتري ,العثماني , الانجليزي المتمثّل بذوي االعيون الزرق.
احدث الباب صريراً عند فتحه .
دخل ذلك الرجل ومعه امرأة طاعنة في السّن يلوح على وجهها الاصفرار وقد تجاوزت العقد السادس من عمرها
وهي تتأرجح في مشيها مثل اوزّة مثقلة بهمومها تسحب انفاسها
بصعوبة , مصحوبة بالانين والحسرات ..
الضابط استريحي ,
واشار بيده الى مكان بحيث تكون وجهاً لوجه قبالة احمد ,
وقد ترقرقت الدموع بين جفونها .
قالت المرأة العجوز انا منذ زمن رهن التوقيف .
الضابط المحقّق: ان ابديت تعاوناً معنا فسنفرج عنك .
صارت المرأة تتوسّل بالضابط في ان يفرج عنها , وانّها هنا في وضع ليس لها ناقة ولا جمل , واخذت تتحدّث للضايط وتقول اجعلني فدائاً لك واخرجني من هذا الجب فأنا متعبة وقد اخذت منّي ايّام العسر والقهرحصّتها : سيّدي ان كانت بقيّة رأفة في قلبك فارحم حالي انا امرأة تعبة تقف قي المحطّة الاخيرة من سفرة العمر .
اسمعيني جيّداً .. انا رهن ماتقول لاسمع..
اقول لك بصراحة كلّما ابديت تعاوناً اكثر
تكون خطواتك اقرب من عالم حرّيتك التي تطالبيننا بها .
سيّدي ما نوع التعاون ؟.
ان تقولي لي اين ولدك ؟
واين يختبئ ؟
واين زوجته ؟
هل عندي علم الغيب اين هما , وانت اعرف حين حصلت المداهة لبيتنا
في منتصف الليل المرعب , وقد صحب الدهم اطلاق عيارات ناريّة .
في تلك اللحظة التي تفرّ منها اقوى الصقور . انا نفسي التي ليس لي علاقة
باسرار هذه الملاحقة , وما يترتّب عليها من عنف لو كنت املك خفّة , ورشاقة الغزال لأطلقت ساقيّ للريح , ولكنت اسبق منهم في الفرار نتيجة زغاريد مسدّسات فرسانكم الابطال إإ
تسخرين منّا وانت تتوسّلين لخروجك من القفص .إإ
انا لا اسخر ولكنّ اعيد الى ذهنك الصورة المرعبة ..
وانت تعلم , وكنت تصحبهم وقد هربا معاً امام عينيك , وبقيت انا الموهنة
الجناح تحت مرمى الصيّاد : فالقيتم القبض عليّ وانا اجهل ما دار وما يدورحولي انا البريئة .
علّق الضابط قائلاً براءة : الذئب من دم يوسف .
قالها وهو يضحك في حالة هستيريّة .
لو تركتموني في البيت لحقّ لكم ان تسألوني عن ولدي وزوجته .
امّا ان تعتقلوني في وقت دخولكم , وقد تزامن الهرب مع اعتقالي
فكيف لي ان اعلم وانا هنا اين ولدي وزوجته .
بالله عليك قلّي كيف تسترسلون في الشك , والريبة في موقفي ,؟
لكم ان تقولوا لي انت امّه .
امّا ان اعتقل وأنت تطالبني في معرفة مكانه فهذا محال , ويتعذّر تحقيقه .
فانا هنا رهن اربعة جدران منذ فرار ولدي .
كيف تطالبني بتسليمه , او ارشادكم الى مكانه .
الا يعد ما تطالبوني به شكلاً من اشكال المستحيل .؟
اجل انت تطالبني بما يفوق طاقتي , وحدسي ..,
بل وفراستي ان كانت لي فراسة ..
الضابط : لندع هربه , وهرب زوجته جانباً ,
ولنضع الموضوع على الرف,
ولنعد لمسألة اخرى في بيتك , في مدينة الكاظميّة
ما ذا في في بيتي ؟ ايوجد فيه تحضير للجن إإ؟
ام طقوس لشكل من اشكال السحر , والشعوذة
لا هذا ولا تلك ,
بل مطبعة ..,
ومنشورات سريّة..,
ورسائل خطيرة يمكن ان يجرّم عليها القانون ..,
اجل كانت تلك المبرزات تعود لوكر من اوكار الحزب الشيوعي العراقي .
وكذلك عثر في الوكر نفسه الذي هو بيتك على قصيدة شعريّة خطيرة
كانت تلقى اثناء اضربات عمّال شركة الدخّان الاهليّة , وهي تحرّض على
... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ابني انا لا اعرف عن هذه الاشياء التي تتكلّم عنها .
كيف لا تعرفين وفي بيتك , تلقى العصيّ وحبال سحرة الفرعون .؟
ومن بيتك ينطلق المارد .. وانت تقولين لا اعرف .
اذاً من هو يعرف ؟ ابني انا اجهل كل الذي تقرع به رأسي ..
اذاً سيكون سكنكِ هنا , وبشكل دائم ,
وبلا دفع ايّ مبلغ مقابل طعامكِ ومنامكِ الذي لا يعرف مدّته الّا الله .
بعد صمت طويل: قال الضابط لندع كلّ ما دار من احاديث على الرف,
ولندخل في موضوع اكثر تبسيطاً , لكي يخرجك من بين قوسي احتجاب حرّيّتكِ . اُقسم لكِ سوف تسهّل جميع امورك المتعلّقة بالتوقيف
ان قدّمت لنا خدمة متواضعة . ما هي الخدمة ؟
لاح على وجهها الاعياء .
وتصوّرت نفسها في قعر بئر طلي باطنه بشوحم االخنازير ..
الضابط انظري الى هذا الجالس امامك , وخبّريني عن زياراته لولدك في البيت . شعر احمد بقشعريرة اجتاحته وهو تحت الكابوس ..
بدأت انفاسه تتصاعد . وازدادت ضربات قلبه متجاوزة حركتها الاعتياديّة .
ارتبك, وشعر كانّما فجّرت قربه عبوة ناسفة ولكنّه حاول في السر ان يخاطب قلبه بلغة صامتة , وبالشفرة الباطنيّة في ان يهدأ , وان لا يفضحه
وهو البريء من كلّ طروحات هذا الذئب وهو في دوة استحالته
والمسكون بوأد الآخر, والمنتشي بحسرات الغير , وانين من تلقي بهم
الاقدار في شبكته الحرباويّة وقد يغيّر جلده باللون الذي يريد .
وعلى ضوء ما تتطلّبه طبيعة التحقيق وفقاً لاحتياجات الوصول لتنكيس
البيارق النقيّة , ورميها للوحل ,
ولكي لا يظهرفاشلاً مع من يقعون في بئرة الدبابير , وفي حيّز دائرته
التحقيقيّة , وخوفاً من ان يقال فيه ما لا يحمد كونه كان في الايام السالفة
يعمل مع فرق النحل التي تفرز عسل الحياة كي يصب في إناء الفقراء .
ارسلت المرأة حسرة وسلّطت نظراتها على احمد ,
اطالت التحديق .
شعر احمد وكأنّ قوة هائلة اخذت تخرق جلده السميك , وتسلّط
عليه الضوء من قمّة راسه حتى اخمص قدميه .
سرت رعدة في جسده,
وصبغت وجهه بالزعفران ,
وكأنّه سقط في الفخ .
المرأة مشغولة بتسليط نظراتها من الاعلى الى الاسفل ,
وبتركيز بالغ الخطورة : ثمّ هزّت رأسها بالنفي
وقالت اُقسم بالله , ولا انطق الا بالحق انا ما رأيت هذا الرجل طيلة حياتي.
الضابط المحقّق ....
يضغط اكثر فاكثر إإ
وهو يردّد انها فرصتك الذهبيّة ,
وباب الخلاص الذي يفضي لاكتساب حرّيّتك, ونهاية معاناتك فلا تضيّعيها,
وستحصلين على كلّ شيء مقابل تعاونك معنا .
قلت لم اره : فكيف اُقحمه في قضيّة قد يفقد حياته وهو بريء .
كيف حكمتِ على براءته ؟ انا احكم على براءته من خلال عدم دخوله بيتي. وانتِ .. استولى عليها الخوف فقالت ماذا أنا ؟
احسّ انّكَ تصر على شيء لم يقع .
اسمعي انّ النسيان مثل فصل الخريف حين تسقط الاوراق عن الغصون
وقد يسقط النسيان اوراق الذاكرة عن الدوحة البشريّة .
لو الححنا في بعث ذكرياتنا :
ربّما عثرنا على الكثير مما فقدناه تحت غبار النسيان , وانهيار الذاكرة
في ملفّاتنا الذاتيّة المغمورة تحت اكداس الغبار .
الناس من كبار السن ينسون , وقد يقبضون على
عصافيرهم الفارّة من اقفاص الماضي .
انا انسى , وانت تنسين , وغيرنا ينسى , ولو حاصرنا ما في ملفّات ذاكرتنا
التي تختبأ في صندوقنا الاسود فسنحصل على ما نريد ان ثابرنا على التذكّر , واستحضار الماضي باحداثه.
انا ادعوك بحرارة , وجد , واخلاص ان تقومي بتحريك مفاتيح الذاكرة
لحصر التصوّ رات واستحضارها :
وانا الكفيل بالوصول لنقطة الهدف وهي امامك الآن
اكرر الطلب منك ان تستعرضي الرجل ليس بملابس الجباة .
ربّما زاركم بالزي القروي : بالعقال مثلاً .
او بالزي الكردي . هذا لايستبعد .
تذكّري وجهه وهو في ضيافتكم .
المرأة تقسم بانّها مارأت الرجل حتى في احلامها .
يأس الضابط المحقّق , وفشلت مناوراته الخبيثة ..
تحقّق كونه عاجزاً امام مصداقيّة المرأة النقيّة .,
على امتداد زمنيّة الاعتقال المعادل للموت البطيء .
خيّم صمت طويل ..
واخيرا هتف بالرجل الواقف قرب الباب وقال خذها لمكانها اللائق بها .
بعد ان غادرت المكان : اتجه الضابط صوب النهر وهو غارق في تأمّلاته , وتصوّراته الجهنّميّة .
كان النهر يفصل بينه , وبين السفارة البريطانيّة .
ظلّ ينظر من شرفة المبنى, والهواجس تحلّق من حوله كموجة من الخفافيش في الظلام , الذي يزيده احساساً وكأنه سيّج بالاشواك السامّة مثل حقل من العقارب . غاص في عالمه المشتبك بالاحداث السلبيّة , والمستفرغة من كلّ ما هو نبيل وخيّر .
تذكّر يوم ما قبل سقوطه عندما كان قريباً من الصفوة,
ومن المريدين الذين يطوفون حول الهيكل .
ومن ثمّ انقلب على عقبيه مدنّساً وحاسداً لكلّ من بقي طاهر الذيل
وفي مسرح الاحداث صار (كشمشون الجبّار يهتف في صمته المكتوم عليّ
وعلى اعدا ئ يارب)
هاهو بين الهلوسة والصفاء : صفاء ما بعد الفوت ,
وعبور قطار الصبح الذي ينتظره الخيّرون في محطّات المواصلة ,
والبذل خارج انقلابيّة الذين يسيرون في الصفوف الخلفيّة باتّجاه مغيب الشمس . بعد هذه الدورة الفلكيّة , والدوران الحلزوني داخل القوقعة ,
والاقتراب اكثر فاكثر من الحواة , ومن جحور الافاعي ..
بين السحرة والافّاقين ليس الّا الادانة ,
وخسّة التطبّع على الايقاع بالآخرين ..
كفلسفة لا تصلح الا للمهزومين , والتنكّر للخلفيّات تحت شعاع الشمس
وقد يكون النسيان رحمة لمن انقلب على ذاته..
وهو يسبح داخل فقاعات المستنقع .
خرج الضابط من هذه الدوّامة جرّاء تخبّطه ,
واحباط خططه المرسومة للايقاع بالضحايا .
ربما ستدفعه لقاع الهاوية .
وفي هذه الجولة الداخليّة في صندوقه الاسود
تأكّد من فشله في االالتفاف على ذلك القروي المتحضّر كما يسمّيه .
وفي الصمت القاتل اطلق الصفير من فمه لعلّه يزيح ما تراكم على صدره من ردود الافعال .
ظلّ ينصت الى صفيره الذي يقترب من الفحيح الثعباني حتى اتعبه الانصات . ثمّ انخفض رويداً رويداً في محيط الصمت الظلامي .
كانت الصور تتراقص امامه , وكانّه كان يشاهد مسلسل حياته .
انعطف انعطافة حادة لايّام فتوّته قبل ان تدنّسه الكبوات , والذوبان في حوض نرجسيّته .
راح يوغل في تضاعيف نشاطاته يوم كان يجري مثل النهر بنشاط ,
وحيويّة تبعث على الفخر والزهو .
تذكّر كيف كان ينتفظ وهو مساق بحيويّة الشباب ضدّ سلبيّات النظام
الذي يحيطه الآن بحدقات عيونه , ويطوّقه بكلّ ما يملك من قوّة ,
واسلحة فكريّة لا تتساوق مع انتشار الوعي ,
وترسيخ , وخضوع الحقائق للمنطق الجدلي .
امّا تراكم الهراء من ابجديّة المحسّنات الكاذبة والتي لا تصمد امام الحقائق اليوميّة التي نعيشها بشكلها قد تقودنا الى الحضيض , والدوران في الحلقة المفرغة من كل اللمسات التي يعيشها الناس في بلادي .
كان الضابط المحقّق كوردة تزهو على الغصن , ورفاق الدرب يتدافعون للاستنشاق من عطرها مثلما تقترب الفراشات من حقل الازهار لتتزوّد من رحيقها , وتتمتّع بعطرها .
والآن هو عبارة عن جثّة نتنة تزكم الانوف , ويفر من رائحتها كلّ من يقترب منها .
كان الضابط يجري مسحاً عامّاً لمسيرته الطويلة بين الكبوة والنهوض وهو يحدّث نفسه بلغة باطنيّة ..
كيف التبست عليّ الامور ؟ وانا صاحب تجربة غزيرة ,
وقد قطعت المسافة الواقعة ما بين نهارهم , وليلي الذي انا فيه الآن .
شربت من النبع الصافي ايّام احلامي العريضة. والآن اكرع من ماء المستنقع . لقد طرقت كلّ المداخل مثل من يقتحم رمال (الربع الخالي)
كيف عجزت عن الوصول الى الجذور , وانا الذي مارس كل الطقوس ,
وغشّ في الورق .. وارتاد دورالاستحالحة كأيّ حرباء ,
كيف يصمد امامي مثل سيّد منيع الجانب ..؟
هذا القروي الرقيع , والمغلق كطلّسم ..
ربما قد اعطيت لقضيّته اكثر مما ينبغي , وهو قد لا يفقه ما يدور حوله ,
وفي كل الاحوال احسده حدّ القتل ان عبر من تحت رمحي :
ولم يستعر رجلاً ثالثة .
انا الآن في صحوي , ويقظتي لم ولن تأخذني لجّة الغفلة ,
او السنة من النوم . اجل احسده حدّ القتل ان ثبت لي كان غصناً من الشجرة الحمراء التي تجذّرت في ارض السواد .
سحب علبة السجائرمن جيب سترته , واخرج سجارة منها , ووضعها بين شفتيه وهو يقف في الظلام الدامس , وفي المكان الذي لا يصله الضوء .
اشعل عود الثقاب , وسلّط اللهب على طرف سجارته . جفل كونه كان داخل الغرفة المجاورة لذلك التيس العنيد الذي كانت نظراته تكاد تخترقني
لم اصادف احداً طيلة تجربتي في التحقيق من يكسر نظراتي بتحديقه .
كلّما حاولت قراءة السطور من كتابه السرّي اشعر وكأنّه اطّلع على ما اكتم وقد صفعني بابتسامته الماكرة .
حاولت ان اتذكّر متى دخلت هذه الغرفة المظلمة والمهجورة ؟
ولماذا اغلقت على نفسي الباب وانحشرت في الظلام الدامس وانا استنشق الروائح الكريهة والعفنة .؟
هل القروي المتحجّر سلب عقلي وانتزع منّي حصانتي. ؟
كانت الغرفة مشمولة بالظلام .
تهاوى على احد الكراسي وهو يرسل نظراته الى سقف الغرفة المزحومة
بالاشباح . ربّما كانت محطّة تعذيب وقفص تأوّهات , وقيود مع سلاسل
للتعليق على المراوح . كذلك تحتوي على فايلات قديمة ينام عليها الغبار منذ سنين
جمرة السجارة كانت تضيء جانباّ من المكان الذي يجلس فيه الضابط .
صار ينفث الدخان بشكل جنوني . هو يوقد الواحدة بعد الاخرى , وما ان اتى على السجارة الاخيرة
وهي تبعث الضوء خافتاً وقد اجهزت على جمرتها دمعتان حزينتان اعادته
الى الماضي الذي كان يصب كجدول من نور في المحيط الظلامي
الخالي من النجوم ..
وقف وهو في دوّامة افكاره كوثن لعنته حتى جاهليّة القرن العشرين
اخيراً خرج من مكانه المعتم وهو مثل سفينة ضربها الموج .
دخل غرفة التحقيق وقال للرجل المنزرع في مكانه , والساكن مثل سكون المقابر . خذ الحثالة الى القبو .
سمع احمد ذلك الكلام البذيء , والجملة النشاز ,
والتي هي لاتنطبق الّا على الضابط نفسه .
مسك الرجل ذراع احمد , واقتاده الى المكان الذي جلبه منه ثمّ عاد الى الضابط وقال سيّدي منذ متى كبش الاهوار يقف بوجه سيادتكم . الضابط
الكثير الكثير عليه وانت تصفه بالكبش بل حتى وصفه بخروف قرية المكاسب قد نضفي عليه مسحة من الاطراء ونحن نعطيه صفة الخروف .
نعم سيّدي كنت احدّث نفسي وانت مشغول معه.
منذ متى يعبر هذا وامثاله من وراء تقليب التربة , ؟ والخوض في ماء الاهوار , او شدّه الى الناعور ليتحدّث بلغة الخارجين على القوانين وهو
يحلم بمطاردة الملوك والرؤساء , واصحاب المقامات العليا والباشوات. الضابط نحن نعيش في آخر الزمان .
دخل احمد وكان وجهه يعكس ما وراء غيابه عن المعتقلين ,
وقلقه , وضيق صدره .
كان متجهّماً , وتلوح عليه علامات ما وراء تعابير وجهه .
جلس احمد على فراشه وقد دهمته موجة من التحسّب وهو يفكّر بمصيره
ومستقبله , وكيف يرى هؤلاء الذين رهنوا ضمائرهم :
هم مثل حفّاري القبور , يدعون الله ليفتح عليهم
باباً من ابواب الرزق الوافر.
كان المعتقلون يغرقون بالاحاديث الحادّة , والساخرة , ولا يبالون ,
وكأنّ الزمن معدوم لديهم .لا يبالون بتراكم الليالي ,
ولا يحصون النهارات المتواترة ,
والعابرة كل المحطّات دون توقّف قطارالزمان المتحالف مع حركة عقارب
الساعة .
التفت احدهم الى احمد وقال خيراً ان شاء الله .
احمد الدنيا كلّها خير : وان كنّا في الجانب المظلم من وجه القمر.
ولابدّ للديلاب ان يدور .
آخر الى اين يدور ؟
من اليمين الى اليسار .
ام من اليسار الى اليمين عبرتقلّبات الاعوام , وانكفاء الشهور التي
ما زالت تدور في فلك الملوك , والاباطرة , والامراء .
آخر علّ القدر يضرب ضربته في ساعة سعد لتمر الكرة من خارج عارضة (اوديب ..)
ولتنقشع الغيوم الداكنة , وقطار التاريخ قد يخرج عن سكّته , وفي كثير من
بقاع العالم قد دخلت الماكنة على غفلة من عيون الذئاب المفتوحة لتجر خلفها عربات الخلاص كما حصل في في باريس ليطاح برأس
(لويس السادس عشر) وزوجته النمساويّة (ماري انطوانيت) , وكذلك اكتسحت واطاحت رياح التغيير ب (نقولاالثاني) وقفزت ب (كرنسكي) .
ومنذ (اسبارتاكوس) وثورة ال (كومون) و(المسيرةالكبرى) التي اطاحت بالكومنتانغ. وتلك التي صعدت ب (المهاتماً غاندي) .
فالرحم النسوي لا يعقم , ونحن في ارض السواد سبقنا كلّ تلك القفزات البشريّة , ورسمنا الخطوط البيانيّة منذ (زنج البصرة..) .
آخر يبدو ان الرفيق ماهر في مسحه للتاريخ , والتأشير على موضع القرحة المزمنة , وتسليط الضوء على المكان جاء وفق المعايير الثوريّة
وقد وضع بصمته على الثمرة الناضجة , وما يتجمّد من الماء قد يحصل الذوبان فتنهار الاقطاب الجليديّة لتهدّد بالطوفان الكاسح .
هذه هي القضيّة التي تحكمها القوانين .
لا احد يستطيع تفعيل الاحداث :
طالما هي لم تختمر , او تنضج في وقتها المناسب
ومع رصد التحوّلات .
قد يجيء جواد الصبح ليسحب خلفه عربة المحرومين
ولينهي فصلاً من فصول المسرحيّة المأساويّة..
جلس المعتقلون بعد ذهابهم الى الحمّام ليتناولوا وجبة الإفطار الشحيحة وهي عبارة عن قدح من الشاي , وقطعة جبن , ورغيف خبز .
بعد ان يفرغوا من طعامهم ينقلبون لتصريف ساعات النهار.. , وليضيفوا رقماً جديداً يدخل في حسابات صرف الايّام الخالية من ثمرة الجهد .
وهي ايضاً خارجة عن موضوع (كلّ يعمل حسب طاقته , ويأخذ حسب
طاقته : هنا في البقعة المرتفعة من حولها الاسوار لا تأخذ القوانين الاشتراكيّة مداها تماماً بين من يجلسون على تلال الفضّة والذهب
والناس مثل الطيور الحبيسة في ابراجها , وقد تحصل للطيور فرص التحليق بعيداً عن القيود . ولو لساعات الا انّ هؤلاء الذين يقبعون خلف القضبان الحديديّة , والجدر الصمّاء : لم ولن يحصلوا على فرص التجوال
كالتي حصلت عليها الطيورا من كلّ الاصناف .
قد يكون بينهم الطبيّب والمهندس , والاستاذ , والمدير والكاسب , والعامل , والفلّاح وهم ممّيّزون عن جميع شرائح الشعب , ويمتازون عن بقيّة السجناء الّذين عادة يكونون من السرّاق , والقتلة , ومن ارباب السوابق ,
والجرائم المشينة والذين هم بحاجة الى التطهير من رجس وشوائب العلاقات الاجتماعيّة غير المتوازنة والتي ليس لها خلفيّة فكريّة , او دينيّة , او معتقد يدل على السمو بالروح الانسانيّة الوثّابة دائماً وابداً .
احياناً نرى السجناء الضيوف وهم يحملون التراكمات التي خلّفتها القرون
المظلمة : وهم يمتازون بالجهل , والمرض , والفقر
ويصطفّون بعيداً عن شواطئ
المعرفة , والاحساس بالانسجام االاجتماعي الذي يضع الانسان نظير الانسان كذلك نرى ادارة السجن تحرص على عزل السجناء السياسيّين
عن السجناء العاديّين خوفاً من ان يتلقّحوا بالاستنارة , ويتزوّدوا بالمعرفة
التي تسلّط الضوء على صياغة القوانين التي تغلّب مصلحة الاقلّية على
مصلة الاكثريّة لذلك نتلمّس كيفيّة عزل هؤلاء عن اولائك لتكن السلطة
في مأمن من اقتراب العاصفة .
كان احمد يعطي السمع العنان , ويسحب لجام لسانه
لكي لا ينطلق في مضمار يجهل منعطفاته ولم يجرّب السباحة
مع تلك الخيول كونه صفر المعرفة بتلك الجماعة ولم يكن على يقين
من صدق ما يتحدّثون به في هذا الجب .
ربّما هناك نجوم انطفأت ولم يبق منها الّا الضوء الخافت والذي قد تستثمره
دائرة الثعابين , من سحرة وفلكيّ ارض السواد .
كان احمد يردّد مع نفسه المثل القائل .
(اذا كان الكلام من الفضّة فالسكوت من الذهب)
كذلك البحيرة قد لا تخلو من الكواسج التي ترتدي
جلد الاسماك الوديعة .
هاكذا كانت هواجس احمد بين هاؤلاء المعتقلين كمن يشعر وكانّه علّب,
في صندوق زجاجي تحت عدسات المراقبة التي تسلّطها دائرة الثعابين على ضحاياها , لذلك ضرب على نفسه طوقاً من العزلة الكتمان
كي لا يقع في شبك من يتربصون به في عالم مجهول , وغير واضح للعيان . كان مفتوناً بالحرّيّة ويرهقه شريط تخيّلاته التي لا تركن الى السكون .
احمد يعيش بين مجموعة كبيرة من الرفاق الذين يكاد المكان يضيق به وبهم ويلازمه شعور بالخيبة كون العدو عمل ويعمل على قصّ جناحه لذلك
فرض العزلة على نفسه تحسّباً للمحذور .
عقارب الساعة المنهكة تراوح بين منحدرات الليالي وصعود النهارات .
واحمد يعيش بعده الاقصا , والدورة حول نفسه , وحول الارض .
في هذا التجوال , او الركض في الماراثون الذي غزاه الخدر , وقاده لباب النوم ..
انتقل من احلام اليقظة الى احلام الخلط بين الكوابيس والجنان .
اندهش لوقوف هديّة امامه حزينة وهي تعاتبه و تعول بمرارة وتقول
كيف طاوعك قلبك وانت تبتعد عن محورك الذي تدور حوله ,؟
احمد بيتنا لو زرع بمئآت الفوانيس دون قنديلك فهو مظلم
قلّي بربّك متى متى تعود ؟
لقد نفد صبرنا , واختلّ توازننا : نحن بين الامل والخيبة ,
عائلتك مثل محطّة تنتظر قطار الفرح .
حبيبي احمد ايّها الطائر الضارب في البعيد . الكل بانتظارك
اين انت ؟ وفي ايّ الجزر القصيّة ؟
منذ متى صرت تألف الوحدة ؟
والابتعاد عن بيتك الذي يضمّك بدفئه . احمد صرنا على وشك الرحيل ,
اتخمتنا المرارات , وليس لنا من ثمار سوى ما تقدّمه لنا شجرة الزقّوم .
نحن على حافة هاوية لاندرك قرارها .
كن رحيماً وعد على جناح السرعة .
بل على جناح زاجل يحمل لنا البشائر المزحومة بالاحلام من قلعتك النائّية.
لا ادري ان كانت تقع على احدى الجزر المحاطة بالاسرار
وقد آتيك باجنحة بيضاء لاحلّق وادور حول قلعتك ببدلة عرسي الزاهية مطرّزة بالورد , والازهار , وباغصان خضراء تتمايس بجمالها وجلالها .
تيقن احمد ان هديّة مازالت تركض في المضمار مثل ايّ فرس عاشقة , ومتعلّقة بقطع اشواط العمر مهما تكلّفت كدحاً وعناءاً .
وما ان مسكت بيد احمد, واقتربت انفاسها من انفاسه وهي تلهث , وتعول ,
وتقول ايّها النسر الى متى انت في الغربة , والتجوال؟
متى تعود الى عشّك ؟
انهمرت الدموع من عيني احمد وكان احدهم يسحب يد احمد ويهتف احمد احمد كيف تنام وانت جالس, وجفونك مبتلّة وكانّك تبكي .
انهض , وتمدّد على فراشك : اشك في انّ ايّام الاعتقال قد نالت منك
فقم ونم على فراشك .الله يلعن الساعة التي قد يضعف فيها الرجل , وقد يضيق في المكان الذي يحيط به حتى ولو وسع العالم كلّه . قم حبيبي يظهر انّك في كوابيس من الاحلام . وكذلك نحن نحلم بحرّيّتنا في وطن تكثر فيه السجون والمعتقلات وتشح فيه الحدائق والمتنزّهات.
كيف علمت انّني احلم .؟
الرجل كان صوتك يرتفع ويجترح السكون وانت في السبات .
كلّنا سمعنا صوتك مثل نشيج غريق .
الآخر : بل مثل صهيل فرس تركض في المضمار.
نهض احمد وفرش بطّانيّته , وتمدّد , وغاص في نوم عميق .



00 0


كان احمد مثل السندباد البحري الاسطوري يعيش مغامراته بأدق التفاصيل
منذ ان عاش وتفتّحت عيناه على تراب قرية المكاسب التي هجرها
من اجل ان يدخل فردوس حماقاته : مثلما ذهب (جلجامش) وهو يبحث عن الخلود ..
ركض احمد حدّ اللهاث في مضمار العمر , وقطع المسافة ,
مساقة ارض السواد التي امتدّت من قرية المكاسب لبوّابة عاصمة الرشيد.
لاجل ذلك الفردوس الذي حلم به .

هاهو يقبع الآن في قعر الجحيم من فردوس احلامه الكاذبة والتي تزهو ,
وتشرق على الورق , في عالم من الوهم الذي تصوّره عالماً مثاليّاً ينمو , ويترسّخ في تصوّراته الراسبة في قعر البئر الذي استوعب كل المهاجرين من رومانسيّ ارض السواد , ومن السذّج .., الذين لم يقرؤا
الفصل الاخير من رواية العروس التي اغتصبها في ليلة عرسها التتريّون ,
والعثمانيّيون , والانجليز فكان الفردوس يخضع لتلك التصوّرات الثلاثيّة
في الحالة الغريزّيّة .., .., المنعكسة على الابناء .
مثلما ينمو الدغل في الارض الطيّبة : تنمو النفوس التي لا تميّز بين الفردوس , والجحيم .
ولتشكيل رافداً يجري في النفوس مجرى الدماء , وعنداما نستعرض تلك اللوحة التاريخيّة , تلوح في تضاعيفها تلك الانكسارات النفسيّة الدفينة , ولرد الاعتبار يجرون لأخذ الثأر الثلاثي : ولكن ممن يأخذون الثأر , ومن يأخذ .. ؟
الاضعب من الاقوى. هذه الصورة تجلّت في مخيّلتي
و في الجوهر من موقف المحقّق وهو يمنّي المرأة
العجوز برفع الضيم عنها لصبّه على رأسي .هكذا تتصاعد عندنا القاعدة الهرميّة معوجّة كمنارة الحدباء. ومثلما حبل البئر الرقيق يحزّ في الصخر مع مرور الليالي وتعاقب النهارات . اجل هكذا تتعثّر الايّام وتتداعى الشهور في مجتمع ارض السواد . كان عليّ ان ادرك ان شيخ القرية وسراكيله يتجسّدون في الضابط المحقّق ومن يحيطون به من فوق , ومن تحت وهم كدرجات السلّم تجري في دمائهم العدوى . وها انا الآن احدق في جغرافيا الكون لاتلمّس موقعي الفردوس والجحيم للفرز بينهما كما لا استطيع الفرز بين القرية والمدينة .
انهك احمد وهدّت جسده تلك التصوّرات في الليلة الليلاءا وهو خلف القضبان , وداخل القفص الحديدي وقد جعلته الاحلام مثل كرة بين عارضتين تحت ضعط الكوابيس
حيث انطبعت تلك الحكاية بين الاقوى , والاضعف (((يوم قال لصاحبه ان صدنا ارنباً فلك ارنب وان صدنا غزالاً فلك ارنب))) كان على احمد ان يقرأ الفصل الاخير من رواية العروس قبل دخوله الى الفردوس .
لقد عاش ايّاماً غير قليلة في المعتقل , وكانت تلك الليالي تمر محترقة والنهارات تغوص في الذاكرة دون ان يحسب لها حساباً .
ايّام الاعتقال تشد من عزمه , وتصلّب عوده الطري الّا هذه الليلة الفريدة ,
الغريبة , والمشحونة بالاحلام المشوّشة التي ما برحت تضغط على
اعصاب احمد , وتعتصره مثلما تُعتصر الليمونة بين قبضتين حديديّتين .
في الصباح , وبعد هتاف الديكة نهض احمد بعد ان نادى عليهم حارس المعتقل لاستلام فطور الصباح .
بينما كان احمد نهباً لتصوّراته جاء ذلك الرجل الذي اصطحبه بالامس , وفتح الباب , واشار اليه بيده .
ان انهض . نهض احمد , وخرج مع الرجل مثل حمل وديع .
قال الرجل لاحمد : لعلّ ساعة الفرج تقترب لانّك اتعبتنا واتعبناك . لم يعقّب احمد على كلام الرجل , بل ظلّ ساكتاً , وبعد ان وصل غرفة الضابط نظر احدهما الى الآخر .
قال الضابط اهلاً احمد .
لم يجب احمد وظلّ معتصماً بالصمت لاينبس .. مثل حجر الصوّان ..
الضابط : كم كان بودّي ان اقدّم لك خدمة لتبقى نكهتها , وطعمها
على طرف لسانك
ما حيّيت ولكنّك كنت وما زلت صخرة صمّاء لا تعرف مصلحتك كونك لم
تمر بعد بالمنعطفات المظلمة, ولم تذق ثمرة الحنظل وقد اخترت الطريق الوعر , والاشقى , والاشدّ مرارة .. اما نحن فاستنفدنا معك كلّ الذي نملك من اسلحة فكريّة تنطوي على حب الخير .. ولكنّك رفضت كلّ ما قدّمناه لك بالمجّان ولا حيلة عندنا بعد جميع تلك النصائح . لم يجب احمد وظلّ ساكتاً مثل تمثال من الجرانيت , ثمّ عقّب الضابط : الم تجب على حديثي ولو بحرف واحد قبل قتل الفرصة بانتظار الفرصة . ومثلما يقال عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة .
احمد ظلّ ساكتاً سكوت الموتى داخل في القيور .
التفت الضابط وقال للرجل افتح له ملفّاً فيه عنوانه . صورته الشمسيّة .
ادق المعلومات عنه . عن محيطه العائلي . اهم من يحيطون به
من الاصدقاء . واطلق سراحه حينما تستخلص ما نطلب منه .
ثمّ التفت الضابط لاحمد وقال :عيوننا خلفك اينما تتجه يميناً , او شمالاً .
شرقاً , او غرباً . احذّرك .. إإ
ايّاك والعود . .
سنطلق خلفك كلاباً تشمّ رائحة المطلوب وان اختفا خلف السحب ,
او في اعماق شط العرب . عليك ان تعرف حجمك . طول
قامتك وانت تقف بوجه الشوامخ من اسياد البلاد . انّها لمهزلة ما بعدها مهزلة : مثلك انت الابله البليد تطالب بطرد ملكاً من ملوك العصر . وممن ينحني له العالم اجلالاً , واحتراماً . طروحات آخر الزمان . انت يا دجاجة ارض المكاسب تحلم ان تكون ديكاً على مزبلة من مزابل بغداد وانت تهتف بحنجرة منتفخة ليخرج الشاه محمّد رضا من بلادنا ..,
انسحب الضابط ووجهه يتلوّن بين الزعفران , واللون البنجري وهو يرتعش مثل شجرة تكاد تقتلعها الريح من باطن الارض , وصفق الباب بقوّة , وتوارى مثل ضوء افل في محيط الظلام .



00000000000000000000000









طرق احمد الباب وما ان فتح حتّى وقعت عيناه على هديّة ذات الوجه المشرق رغم اطاره الحزين المعلّم برموز الفقر, والحرمان , وما سبّب لها
اعتقال احمد من ويلات , ومصائب تتسجّر لها القلوب الرحيمة .
وردة الحياة لا تتفتّح حين ينطوي قمرها في البعيد.
من هول المفاجئة فقدت هديّة توازنها , ودار رأسها في دوّامة وهي تهمس
اح اح احمد . ثمّ انهارت مع انهمار الدموع الغزيرة وفقدت وعيها .
هرع من في البيت واخذ كلّ واحد يهتف الحمد لله لقد انتهت احزاننا ,
والخوف الذي غزا امننا . راحوا يسكبون الماء على وجه هديّة, ويفركون جسدها لتعود الى وعيها .
بعد وقت قصير عادت هديّة لعالمها وهي تحدّق بوجه احمد وتحمد الله جابر القلوب الكسيرة , كذلك راحت
ترفع آيات الشكر للعلي القدير على هذه النعمة لظهور احمد من غيبته , ثمّ رفعت يدها الى السماء وهي تردّد ربّ لقد يسّرت علينا . فيسّر على كلّ مفقود ولا تعسّر بعد ان يسّرت .
كان احمد بين اهله مثل دوحة نضرة , ومزهرة تحيطها السعادة وتسري في غصونها النشوة .
في تلك اللحظة الغامرة بالفرح والحبور.
جاء محمد وعلي فانحنيا على والدهما وامطراه قبلاً .
ثمّ اتت فاطمة ودموع الفرح تطفر من عينيها , ومعها مهنّد والسيّد طاهر,
واخيراً ناصر وعائلته يهنّؤون هديّة واولادها بهذه المناسبة الرائعة , والتي تعتبر فلتة من فلتات القدر . نعم ان احمد يعتبر من المحظوظين في خروجه
بمثل هذه الانسيابيّة غير المألوفة من قبل هذه الدائرة وتعاملها مع ضحاياها
وخاصّة بابها الذي يجب ان يكتب عليه _ نهاية المطاف لكلّ زائر من زوّارها_ في هذا التجمّع الصاخب, والاحاديث الساخنة , والاستغراب من
خروج احمد بهذه الفترة الوجيزة فيما لو قيست بالايام الخالية فهي فلتة , بل معجزة من معجزات اقبية الاموات الاحياء . واحمد في نظر من خبروا اساليب ومكر الدائرة اشبه بسمكة افلتت من شبكتها الحديديّة .
هديّة ردّدت نتيجة لدهشتها , واستغراب الجميع : لعلّ الضابط الذي اطلق سراح احمد من اهل المرؤة , ومن عنده ضمير , ويتحسّب , ويرق لحالة المظلومين . ومازال الخير علامة من علامات تسامح بعض المتنفّذين من اهل النخوة ولا اقول الجميع ولو خليت قلبت . ابتسم احمد بمكر ولم يعلّق وفي غمرة هذا الجمع العائلي قدّمت وجبة العشاء , ثمّ الفواكه , وبعدها اقداح الشاي . لقد استقرّت النفوس , وهدأت القلوب ,
وتوقّفت عن الاضطراب , نهض ناصر وقال اللهمّ اجعل هذا البيت بعيداًعن التصدّع , والكوارث, وادخل على اهله الفرح, والسعادة. نهض احمد واولاده يودعون ناصر وعائلته وقد شكروا مواقفه الكريمة ,
والمشرّفة وقد انطبعت على شغاف قلوبهم الملتاعة والمكتوبة يشواظ الحزن . ثمّ انسحب السيّد طاهر , وولده مهنّد , وزوجته .كان احمد مرهقاً ,
ومتعباَ, ويحسّ بالاعياء, وانسدال الجفون. ادركت هديّة ان لابد لاحمد الذهاب الى الفراش فهو بحاجة لاخذ قسطاً من النوم , وليكون بعيداً عن الضوضاء فقد اخذت منه ايّام وليالي المعتقل ما فيه الكفاية . هديّة تهتف باحمد ان انهض فانّك في حالة اعياء وتعب للغاية .
نعم فانا تعب واريد ان اخلد الى النوم .هديّة امّا نحن فدعنا في غمرة الفرح والحبور . وربّما لا ننام الليلة وقد اتخمنا بالمفاجئة السعيدة .
ذهب احمد وتكوّر على فراشه كعنكبوت في شبكته وهو يستحضر كلمات الضابط حين قال احمد نحن نحبّك وانت تبغضنا , وانت مثل جواد يحاول عبور الصحراء , واقتحام الربع الخالي . نعم لقد غاص الكثير من الفرسان في رماله , والاقل الاقل خرجوا من تحت الظل ليصطفّوا تحت شمس النهار الحارقة في صيف لا يرحم يوم اجتاحتهم العواصف الرمليّة حيث اندمج الرمل بالرمل , والطين بالطين. اما انت فستأخذ دورتك
مثلما تأخذ النجوم المطفأة دورتها . احمد انت قد تخرج عن دائرة الضوء متحدّياً ااكد لك
ستعود منكسراً وانت تطلب التسوية بعد ان اضعت فرصتك الثمينة وانت في غمرات الموج تحلم بالضفة قبل الغرق, ولا من منقذ . هكذا كان يحدّث نفسه . انتفض , ولعن هذه التداعيات, والصور التي رسمها الضابط
بصيغ الجد وليس بالرسم التخيّلي .
لقد تعبت , ودمّرت اعصابي , واهتزّ كياني مثلما تهتز الاشجار العملاقة عند هبوب رياح الخريف المجنونة , والشبيهة
بالهزّت الارضيّة حسب مقياس رختر.
وآخر عبارة انطلقت من فم الضابط
ستعود لنا نادماً : حفرت هذه التهديدات
في جمجمة احمد مثلما يحفر الازميل في الصخر.
كانت الكوابيس لا تتوقّف , واحلام الرعب تقض مضجع احمد .
انقسمت الليلة بين السعادة والاحزان : يكاد احمد يسقط عن سريره .
فهو مثل من يشاهد فلماّ من افلام الرعب المجسّمة التي لا تشاهد
الّا بواسطة النظّارات الملوّنة .
سمع احمد صوت الديك من على سطح في الجوار .
فتذكّرديك (بطرس..)راح يتعوّذ من الشيطان الرجيم , ومن ديك الجيران
الذي يذكّره بحراجة بطرس , وانكار العلاقة بينه وبين السيّد المسيح ع
نهض ورأسه مثقل بالاساطير , والاحلام ,وطفح الطموحات التي تبدّت له في منحنيات الطريق المسدود اذ لا فردوس إلّا على الورق , ولا نعيم في الجزر القصيّة , ولاوضوح في الطريق الممتدة من قرية المكاسب الى بغداد سوى الضياع , واللهاث وراء السراب .
القلم قد يدخل الماراثون على مساحات شاسعة وهو يتزلّج على مسطحات الورق في مرسم مفكّر, اوشاعر خصب الخيال ليرسم له (جنّة الحسن الصبّاح) والتي اشادها له خيال الحاقدين والكذبة ممن يرفعون العروش في الهواء . ما كان يسمعه احمد من اقاصيص , واساطير متناقلة من هنا , وهناك يجد صداه في رحلات السندباد البحري ..
لكنّه الآن صار يكتم ما نبت على جلده من شوك يدمي الجهلة بواقع المدينة
المزوّقة كما تتزوّق العجوز وهي تحلم بعرس غير متوقّع . غسل يديه ووجهه وهو يستعجل نور الشمس ويستعيد تلك الاحلام الساذجة والخليط بين نوم الملائكة , ولهاث الشياطين.
كان احمد قبل ان يستيقظ على هتاف الديك في الجوار . استيقظ وهو يرتعش , وفي حالة فزع رهيب وهديّة تحتضنه بحنان , وهي تصلّي على النبي محمد ع , وتصرخ احمد ما بك . فتح عينه وعجز عن النطق وهو في حالة ذهول . اخذته الهواجس وهو يقول في صمته المطبق انا
هنا , وفي بيتي , وبين من احبّهم ويحبّوني تنقلب المعادلة , وتنشط الاشباح
في حصني الحصين . ظلّ يبحث عن تفسير لهذه التحدّيات الليلية التي ترعب حتى الجن وليس البشر وحدهم .
كيف اهتز وانا مثل نخلة قريتي ؟ لقد ضربت جذوري في اعماق تلك الافكار التي تدفع الظلم عن المطلومين .
كيف اهتز وترهبني كوابيس هؤلاء وانا انا ..؟
قام على عجل .
هتفت هديّة الى اين ؟
الى موقع عملي .
ولم العجالة . خذ قسطاً من الراحة لمدى يومين على الاقل , ولكي تسترجع عافيتك لقد علّبوك كعلب السردين ,
فاترك جسدك يستريح ومن ثمّ يمكنك الذهاب الى دائرتك .
عملك لن يفرّ من بين يديك .
هديّة ارجوك يستوجب ان اذهب .
اذهب في حفظ الله مادمت تصر ..
خرج احمد تحت اشعة الشمس وقد خالجه شعور من الغرابة وكأنّه كان جديداً عليها ولم يمر في طرقاتها بشكل يومي. حاول تثبيت الحقائق كما هي الّا ان مشاعره تأبى , وتصر على التجاهل . كان يقف امام المقاهي , والحوانيت , ودور السينما , وكأنّ كلّ شئ ينتمي الى الحداثة حتى الشوارع القديمة التي شكّلت جزئّياتها معالم
المدينة . كان احمد مسكوناً بالدوران والعثور على الشئ في اللاشئ .
لقد خرق المدينة طولاً , وعرضاً واخيراً وخزه الاحساس بالتعب , وقيّده
الاعياء .. فركب في احدى حافلات مصلحة نقل الركّاب .
دخل الى دائرته . التقى اصحابه ممن تربطه وايّاهم علاقات العمل .
صاروا يستفسرون منه عن الغياب.
احمد انا الآن في وضع مزاجي لا يسمح لي بشرح السبب لهذا الانقطاع الطويل . دخل احمد على احد المعنييّن ليعلن عن تواجده , وللالتحاق بعمله ردّ عليه المسؤول بشكل جاف , وقال اين كنت ؟ في الغيبة الصغرى . ؟ ام.. وقبل ان يجيبه احمد . عقّب المسؤول : انت تعمل في دائرة مصلحة نقل الركّاب التابعة للدولة . ام انت تشتغل في (مسطر عمّالة ؟ ام سكن)
في سيّارة اجرة ؟ متى شئت تواريت عن الانظار , ودخلت في قوقعتك . احمد على مهلك لماذاهذا الجفاء , والتهجّم قبل ان تسألني , وتفهم مشكلتي ؟ . نحن نفهم مشكلتك , ولا تراجعني فقضيّتك لا تعود لي , وبالتالي هي تعود للمدير العام وانا ابلّغك كونك غبت عن العمل لفترة طويلة دون عذر شرعي : نصيحتي ان تذهب لمدير الحسابات لتستلم ما
بذمّة الدائرة مما تبقّى لك من حقوق والسلام على من اتبع الهدى .
انت تتصرّف معي بهذا الشكل الفض , ولا يحقّ لك . وقبل ان يكمل حديثه احمد : اجابه بشكل مقتضب اخي فصلك من الدائرة صدر من فم الذهب,
ولاوضّح لك اكثر صدر ممن يترصّدون تحرّكاتك وهم في الظل .
وليس من عندي. انّما صدر بحقّك من قيل حكومة الظل .. احمد لو سمحت لي فسأشرح لك قضيّتي . لا تشرح , ولا هم يحزنون .
احمد لماذا لا تعطني فرصة : ايّة فرصة وقد ضربك الاعصار الاحمر . احمد لا افهم ماذا تعني ؟
بل تفهم وقد سبقتك صحيفة اعمالك وهي بمثابت بطاقة إإ؟
وانا انصحك ان شئت العودة الى عملك فاذهب , واجلب معك بطاقة تزكية . من اين ؟ من نفس المكان الذي كنت فيه . اكرر ايّ مكان ؟ الفندق , والمطعم المجّاني وهم سيزوّدونك بها ان طلبت منهم . واقول لك بصراحة
المدير العام لا يحل ولا يربط ان فكّرت الذهاب اليه .
وعلى الرغم مما سمعه احمد الّا انّه قرّر مع نفسه ان يزور المدير العام .
خرج من الدائرة , وشعر ان المقابلة الآن مستحيلة لأن وقت الدوام اوشك على الانتهاء .
خرج وشعر ان رأسه كالسندان تحت المطرقة . كان يحس بثبات رغم الافكار , والهواجس الكاسحة , والتي تكاد تقتلع جذوره من فردوس الوهم . راح يدخل في مناقشات مع نفسه , ويحاول ان يجد تبريرات, وقناعات للعودة الى جحيم قرية المكاسب في اسوء الحالات ثمّ صار يناقش نفسه هل يستطيع ان يعود كبيرق مكسور إإ؟
وما هو الموقف من شيخ القرية , وسراكيله ؟
وهل يستطيع تجاوز نظرات التشفّي , والتنكيل ؟
وفي افضل الحالات قبوله تحت السقف المزري بانسانيّته , وعلى الارجح
ستغلق ابواب قرية المكاسب بوجهه , والويل له لو ركب قطار العودة
الذي هو الاصعب من الموت . كان يتعثّر في سيره مثل من غاب عن الوعي , ولا يدري اين ستقوده قدماه , وعلى غفلة سمع صوت الدواليب وهي تضرب عن الدوران ويصرخ سائق العجلة الا تخجل
وانت ثمل .؟ لم يأتي الليل بعد لتعود من الحانة وانت تتأرجح .
بربّك كيف تسير وانت مخموراً ؟ وقبل ان يجيب احمد , قال السائق اذهب والّا .., تحرّك قبل ان يرغمه الزحام على الوقوف لتبديد وقت اطول .
عاد احمد الى نفسه مهموماً مغموماً وهو يردّد احمد , احمد لا ينبغي لك ان تضعف لهذه الدرجة وانت على فاتحة الدرب , والخطوات الوليدة . كيف
ترهبك اوّل صعقة فارغة من شحنتها القاتلة ؟ والّا كيف نذرت نفسك للناس؟ . اانت ام غيرك الذي جعل من نفسه سفينة للعبور بقافلة المعدمين
من المياه الضحلة لاقتحام امواج المحيط المضطرب لمقبلات
ايّام زاهية ؟ . والآن , الآن تعاني ضعفاً قبل ان تطرق بابك المقبلات من الدواهي الحبالى بالكوارث الفادحة ؟
احمد عليك ان تعرف انّ الدرب له مصدّات من الاسلاك الشائكة , والاشواك تغور في بطن قدميك . قد تدخل في حرب ضروس مع جند الشيطان . وقد تذهب هدراً وانت صريع المخاوف .
عليك ان تثق بالمستقبل , والمستقبل فقط حليفك طالما انت صاحب قضيّة
عادلة لاتصب في مصلحتك انت : بل تصب في مصلحة الاكثريّة ,
وجموع هذا الشعب وانت منه , ومن يتصدّى للظلم , ويعمل على تغيير اللوحة قد يدفع ثمناً باهضاً : احمد عليك ان لا تقف في مفترق الطريق بعد ان حصلت لك قناعة تامة للاختيار ..
ها انت ترى هناك من وضعوا الصوى عند العوم , وكسروا التيّرات , ورسموا العلامات المضيئة في منعطفات الظلام . وروّضوا , المتاهات قبل ان تبتلعهم اللجة . احمد اجعل حدسك غير قابل للقشعريرة من المياه الزمهريريّة , او في المياه الحارة : وبينما هو مستغرق قي حواره الباطني تذكّر الاستاذ فاضل العاني , ذلك العنصر النيّر الفذ واسع المعرفة الذي غرس البذرة الاولى في الارض البكر , وفي الطين المبارك
في قرية المصائب المسمّاة بقرية المكاسب : لا ادري هل حلّت بي لعنة المعرفة ؟ , ام لعنة الارض التي حملت على ظهرها (قابيل) و (قارون)
ومن يشبههم في كل عصر من عصورنا الماضية . وستستنسخ الارحام
من هم اطول ذراعاً , واقوى مخلباً , واحدّ منقاراً , وهم ينحتون العروش ,
وينقشون التيجان , ويمارسون الحركة على المسرح برشاقة راقصة باليه ,
ليزيلوا الصدأ عن نجمة داودع. ويباركون الصليب المعقوف . وفي وويلي ستريت يبيعون يوسف بثمن بخس الى الى جانب براميل البترول .
فلو كنت كما كنت قبل لقائ بذلك الاستاذ لما حصل هذا الاضطراب , والوسواس , والقلق المرعب , والمطعّم بالالم , والغصّة ,
والجرح النازف..
اعود فاسأل نفسي : هل انا مسؤول عن حماية الناس من الظلم ,؟
وعن الاوضاع الشاذة , والتي يعانون منها ما يعانون .
لقد جرّعتني المعرفة السم الزعاف .
ها انا الآن اتناول منه نصيبي مع ظهور كلّ هلال اسود في سماء بيضاء
, كما تناول (سقراط) نصيبه ولكن لمرّة واحدة .
هناك العشرات من المتعلّمين وقد انقلبوا على جدول المعرفة بعد ان لبسوا الاقنعة , والنظّارات الملوّنة , وراحوا يساعدون على ترسيخ قواعد المغالطة , وتحدّي القواعد الانسانيّة , والعمل على تغيير جلودهم
قبل دبغها . اما انا فليس لي من منفذ . ها هي آثار سياط نظريّة المعرفة تجلدني في احلامي , وفي ىيقظتي . وفي كلّ صفحة من صفحات كتاب
رسمت حروفه بريش النعام , وقارورة الدماء . منذ خريف (اسبارتاكوس)
و غروب (كومونة باريس) حتى (ثورة زنج البصرة)
لم اصب بعقدة النسيان حتى ولو كان الكتاب يصبّ في نهر خفافيش الظلام,
ذلك لانّي لم افقد حاسة الشم , ولذّة الطعم , وتمييز اللون ..
هذه هي لعنتي . بل امنيّتي التي اعيش من اجلها . ولاجلها يهون كلّ شيء.
اخيراً صحا احمد , وخرج من شبكة الافكار المنفتحة بين النورانيّة والظلاميّة . تذكّر ما كان يطالع في صفحات كتاب القدر الذي يسرد سيرة المهاتماً (غاندي) يوم جعل ارض الهند تهتز تحت اقدام الغرباء.
كان يمشي وهو يتنفّس بعمق , ويحس بقوّة تفوق قوّة الانسان البدائ .
وصل البيت . ما ان طرق الباب حتى فتحت هديّة الباب وقالت بشّر.
خيراً ان شاء الله . الم تطلب اجازة ولو لبضعة ايّام لكي تسترد عافيتك.؟
كلّا لم اطلب منهم اجازة .
احمد لماذا تقسو على نفسكِ ..؟
اقسم عليك ان تعجّل بطلب الاجازة , وذلك لكي تستردّ عافيتك , ولنشبع من
النظر اليك . لقد غبت عنّا طويلاً وان طلبت منهم ذلك فسيمنحوك الاجازة .
احمد كيف .؟
هديّة انالا اعلم ولكن اقدّرذلك .
هديّة انت قد لا تعرفين هؤلاء .
كيف لا اعرفهم ؟
ربما يكونون اهون من سراكيل قرية المكاسب لانهم من المتعلّمين
عزيزتي انت تحكمين على الآخرين من خلال مشاعرك الرفيعة .
رجال الامن الم يكونوا من المتعلّمين .
هم نفس الاخوة قابيل وهابيل يفترثقان ثمّ يلتقيان في نفس الدائرة .
نحن نعوم في محيط ليس له ساحل .
ولا نصيب للتعليم في نزع المخالب ..
الصراع قائم منذ حروب الحجارة ..
لظهور حروب العصا .
ومن حروب العصا الى حروب السيف
ومن حروب السيف
لىحروب البندقيّة
ومن حروب البندقيّة
الى كارثتي هيرو شيما ونكزاكي : ونحن بانتظار ماهو اعنف.
كل ذلك قد حصل , وسيحصل . وقد تحدّث عنه شاعر المعرّة.. ولكن بشكل اضيق حيث قال واشرف من ترى الارض قدراً يعيش الدهر عبدفم وفرج.
قد تكون الحياة اوسع من هذه النظرة الضيّقة ,
والمحصورة بين قوسي اللذة , واسكات المعدة .
فالنظرة الماديّة التي ترسم طموحات الانسان تاكّد ما يكمل اللوحة التي هي
من نتاج الحركة بين المادي والروحي , وبذلك يتحقّق
اللحن الكوني للانسان الوارث.. , والمتحرّك في فلكي المادة والروح. والمرتبط اكثر فاكثر بحبل الرحم الطيني
والعامل باصرار على استقراء وفك رموز الطلّسم , وقد اطلق الرؤيا الباحثة عن مكنونات ما ابدعه الله في نطاق قدرته اللامحدودة , وقد عمل الانسان منذ حبا على مدرج طفولته لاستقراء
اللوحة بتداعيات حالمة . امّا انسان الغد, فهو مشحون بحيويّة بالغة قد تدفعه على تغيير الصورة بشكل ينسجم وسمفونيّة الوجود, والانسان يترك
بصمات واسعة , ومضافة الى متطلّبات الفم واللذّة .. ,
اخيراً راح احمد يراجع وضعه , ويبحث عن منفذ يمكن المرور
منه دون ان يلامس انفه التراب , ثمّ قال كيف يحق لهم فصلي عن العمل وانا المواضب , والكادح بلا كلل , والمرافق لتلك الحافلة والتي اصبحت غصناً من شجرتي , وانا مثل دواليبها التي تدور بها في شوارع بغداد الفردوسيّة , والممتدة مثل شارع العمر المحفوف بالعوسج البشري السام .
سحب سسجارة من العلبة , واصبح من سرايا المدخّنين .
اولع عود الثقاب الكبريتي , وراح يسحب النفس القوي ثمّ ينفثه دخاناً يغطّي
اشكاليّات تصوّراته المؤثّرة والتي تحدث شروخاً عميقاً في مسار حياته التي لم تسعفها السعادة.., وها هي مثل سحابة مستفرغة مما ينتظر المزارعون :
صفوفاً من اشجار الفاكهة التي تقرب مما يوصف في جنان النعيم .. وطوراً تعكس صوراً لحيوانات منقرضة , وخرافيّة , او عمارات كناطحات السحاب .
كان الرماد يتساقط على بنطال احمد مثلما تتساقط السنين العجاف التي خلت من اللون , والطعم , والرائحة .
كانت محصّلتها بحراً من السراب : كلّما اقترب منه تلاشى.
تسلّط عليه سلطان النوم .
كانت الغفوة بعد الغفوة مثل نخلة تتجاذبها الريح , واحمد يسرح على مسطّحات الاحلام العابرة , عبور دخان سجارته .
اخيراً استسلم الى النوم , وصحا على صوت هديّة تهتف احمد , احمد انت متعب فاذهب الى فراشك .
نهض احمد وهولا يستطيع فتح عينيه والقى بنفسه على الفراش , وبعد وقت
قليل صرخ احمد بصوت مسموع : سيّدي انا عائد من عملي , فحصل الذي حصل ولا اعرف عن المظاهرة شيئاً .
انا لم اكن معهم .
كان احمد ينشدّ في حلمه بقوّة وتأخذه الرعشة .
حرّكت هديّة احمد بيدها من كتفه وهي تردّد بسم الله
واعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم.
احمد مابك هل رأيت ما يزعجك ؟
فتح احمد عينيه , واطلق زفيراً مشحوناً بالمرارة , وقال لا شئ
انّها اضغاث احلام ثمّ عاد الى النوم .
مع اوّل المساء استيقظ احمد , ونهض , وراح يغسل وجهه ليستعيد نشاطه , وهو يستحضرصور الاحلام التي كانت تتراقص امامه .
خرج من البيت , ومن شبكة الخيال , والتوتّر ,
دخل الى المقهى وجلس في مكان منفرد ,
صارينصت الى قطعة موسيقيّة تبثّها محطّة بغداد .
كان يحلّق الى الاعالي بروحه الوثّابة
كعصفور يخفق بجناحيه داخل القفص الطيني .
يرتشف الشاي من القدح المنقوش باشكال مذهّبة .
في تلك اللحظة كاد يطير من الفرح , والبهجة .
نسي محنته
ثمّ عاد يفكّر في الغد وما يضمره الغد.
هتف في داخل صندوق صدره انّ غداً لناظره قريب .
راح يردّد احمد اقلب الصفحة من كتاب القدر , وما يضمّه الغد .
عش اللحظة بسلام مع نفسك ,
ولا تعكّر ساقية النغم وانت مع السنباطي ملك الموسيقى
وسيّدة الطرب امّ كلثوم وهي تضرب على وتريّة الجرح المفتوح , والحنجرة المتّقدة , وهي تطالب بالحرّيّة التي هي المتنفّس لكلّ انسان على وجه الارض .
قد تنهل الروح من ذلك الشلّال الانسيابي المتداعي
مثل برد يتساقط في صيف تمّوزي , ليطرد الهموم المتراكمة عبر مسيرة العمر . والانسان المهمّش على ضفاف المجهول : يسترجع آدميّته
في مجتمع تصطرع فيه الاضداد. وتكون الغلبة للمخالب الحادة ,
وللّذين يجلسون على تلال الذهب , وعروش الفضّة .
في تلك اللحظات حلّق احمد لعالم علوي في منأى عن جسد الطين الذي يسكنه . كانت كوكب الشرق تردّد اعطني حرّيّتي اطلق يديّا .
في ذلك الجوالذي انشدّ له احمد . جلس احد الروّاد بالقرب من احمد . سلّم
فردّ احمد السلام واعطى جانباً من اهتمامه لجليسه . الّا انّ حنجرة ام كلثوم
الفضّيّة كانت الغطاء المسيطر على مشاعر احمد .
كان صوتها مثل حمامة تدور بفلكه لتفتح كلّ النوافذ الرحبة مع انسيابيّة نغميّة على صفحات نهرمتموّج .
قال الرجل لاحمد اراك منشغلاً , ومأخوذاً بصوت كوكب الشرق امّ كلثوم ,
وحنجرتها الفضّيّة ذات التردّد الاخّاذ .
نعم انّها العالم الذي اذوب فيه , واللوحة التي اعشقها صوتاً , ولحناً , ورنيناً , وموسقة , ورقّة , ورقصة ترفعها الى ذرى قمّة بين روابي الفنون
العربيّة . لذلك تراني منشغلاً , ومأخوذاً بها حدّالوله . ثمّ عقّب حقّاً
انّها رائعة من روائع الفنون التي قد لا يجود الدهر بمثلها حيث
تلتقي فيها الروافد العديدة لتشكّل نهراً رفيع المستوى , لا يقف عند حدود الاغنية اليوميّة العابرة, والتي تذبل مثل وردة ما ان يمر موسمها حتى تجف, و تتناثر وريقاتها , وتصبح نهباً لرياح الخريف. انّها المواسم كلّها .
الرجل انا ايضاً من محبّي ام كلثوم .
هي عملة نادرة : بل الذهب عيار 24
احمد . ومع هذه المتعة نبقى فريسة الهموم امام القضايا المصيريّة لشعبنا المظلوم . الرجل الجميع لهم همومهم .
احمد هذا صحيح . من منّا خالي من الهموم . انا وانت , وغيرنا نشكّل مجرّة بشريّة حزامها الهموم تدورحول الافق . وقد يعوّقها الفقر , والمرض , والجهل الى جانب الحاضنة .؟
الرجل وما الحاضنة؟
احمد الحاضنة يا عزيزي وم ادراك ما الحاضنة : انّها البطالة
لعنة ابناء ارض السواد الذين يلوكون العاقول ومن تحت اقدامهم يجري الذهب الاسود , ليصبّ في جيوب القوارين.
وامّنا الرؤوم اقدامها تغوص في الطين , وتتدفّق من تحت اظافرها نافورات
هائلة من البترول لتغمر جزر سيّدة البحار.
انّها المفارقة .
ويا للهول لهذه المفارقة.
الرجل بل القسمة . انتفض احمد وقال للرجل ايّة قسمة تعني؟
بل قل الاقتسام تحت مظلّت قوانين الغاب. ومثلما يقال ان صدنا ارنباً فلك ارنب , وان صدنا غزالاً فلك ارنب ذلك هو الاقتسام . ابتسم الرجل, واخذ
يلتفت يميناً وشمالاً اتقاء الجفون المسدلة , والآذان المفتوحة المميّزة للنبرات حتى في ضجيج سوق الصفّارين وقال لاحمد على مهلك فانا اعيل عصبة لها افواه تجيد الطحن بالاضراس الحادة , ولا تعرف الكلل ,
وهي متمرّدة على كلّ قوانين الصبر , والتريّث , واخشى ما اخشى التزحلق على جليد الشيطان .



#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (صفحة من كتاب الرمل)
- ذهب ولم يعد
- رؤيا مشوشة
- لسلام للسيّد العراق
- في غرفة مغلقة
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟الجزءالخامس 4
- بين الماضي والحاضر
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 3
- بأنتظار التحول
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 2
- رواية) ذهب ولم يعدإإ الجزء الخامس
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الرابع
- ذهب ولم يعد إإ ؟
- رواية : ذهب ولم يعد إإ؟ 2
- ذهب ولم يعدإإ ؟
- الملك
- الصعود لبرج بابل
- (بانتظار القصاص)
- (جولة في حقول النوّاب)
- بين المسرح والقضبان


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعد **