الإسلام السياسي والديموقراطية
:
خصوصيات المجتمع العراقي
.
"الجزء الثالث
والأخير"
[email protected]
تلك الوقفة ( في الجزء الثاني من الدراسة )
عند التجربة الجزائرية ليست استطرادا ترفيا بل تمليها الحاجة الى التأسيس السياسي
والتأصيل النظري ويمكن أيضا التوقف عند أمثلة أخرى مهمة المضامين تخطئ المنطق
الإلغائي للعلمانوية المتطرفة أو للإسلاموية المتطرفة فقد وصلت أحزاب إسلامية إلى
السلطة في أكثر من بلد وتقيدت بأصول وقواعد "باللعبة الديموقراطية" ودفع بعضها ثمن
نهجه الديموقراطي من شرعيته ووجوده وقادته كما هي الحال مع حزب الرفاه في تركيا
الذي كان الحزب الأهم من حيث الوزن الانتخابي في البلاد وقد وافق على الدخول في
ائتلاف سياسي حاكم مع حزب علماني هو حزب "الطريق القويم" بزعامة السيدة طونسون
تشيلر وتنسم رئيسه منصب رئيس الوزراء لعدة أشهر ثم عوقب هذا الحزب من قبل المؤسسة
العسكرية العلمانوية الفاشية بالحل والقمع الشامل. ويمكن الاستنتاج أن الأساس
المتين لاعتدال وديموقراطية هذا الحزب هو الذي حماه ومنعه من الانزلاق إلى مستنقعات
الدماء والانتقام الوحشي الذي رأيناه في ساحة أخرى. لقد أتينا ببعض الأمثلة
التوضيحية والتدليلية من بلدان ذات نسيج مجتمعي غير منقسم طائفيا أو أنه منقسم بشكل
طفيف، أما في بلدان أخرى تعاني من انقسام قومي وطائفي عميقين فإن الأخطار ستتضاعف
وستكون أكثر تدميرا وقد تؤدي بالبلد المعنى إلى الزوال ومجتمعه إلى التحلل
والانهيار. ويمكننا اعتبار العراق من أبرز الأمثلة على هذا النوع من المجتمعات
المنقسمة طائفيا وقوميا، إذ يشكل العرب أغلبية سكانية تقترب من الثمانين بالمائة
إلى جانب أقلية كردية تتجاوز 15% وما تبقى فهو نسبة الأقليات القومية الأخرى
أما طائفيا ودينيا فيشكل المسلمون الشيعة أغلبية تتجاوز النصف بقليل فيما يشكل
السلمون السنة من العرب والأكراد أكثر من 40% وما تبقى يشكل نسبة الأقليات الدينية
والطائفية الأخرى من مسيحيين وصابئة ويزيديين وشبك ويهود.
إن الانقسام القومي
والطائفي لعميق جدا وإذا كان من الصحيح أن المجتمع العراقي لم يشهد طاهرة التطييف
السياسي مثلما شهدتها دول أخرى كلبنان رغم وجود نزوع طائفي أكيد في بعض أركان الحكم
فإن الانقسام القومي يعتبر مسألة راهنة وقابلة للتفجر في أي وقت.إن هذا القول لا
يعني عدم وجود أخطار التفجر والنزاع الطائفي خصوصا إذا ما تدخلت القوى الإقليمية
كإيران الشيعية النظام والدول العربية السنية المجاورة كل لصالح الرموز الطائفية
المماثلة له طائفيا وإذا ما استمر ضعف وتهميش البديل الديموقراطي الوطني العلماني.
إن "تعريق" النقاش حول موضوعتي الحزب الديني والحزب السياسي ذي التوجهات الدينية
والنظر إلى تجلياتهما من خلال منظار الحالة الاجتماسية العراقية سيجعلنا نلاحظ فورا
وبوضوح شديد خصوصية وفرادة الواقع العراقي في التفاصيل كما في الخطوط العريضة
وخصوصية الظاهرة موضوع البحث أي ظاهرة الأحزاب الدينية الطائفية. فالواقع السكاني
المنشطر قوميا وطائفيا يقدم حلا يبدو سهلا للوهلة الأولى، مفاده استحالة قيام حكم
طائفي شيعي مثلا بالأساليب الانتخابية بسبب استحالة تحويل الحجم السكاني الذي يزيد
على النصف بقليل إلى أغلبية انتخابية بصورة آلية أو حلا مماثلا وأكثر سهولة مفاده
استحالة قيام حكم طائفي سني بسبب كون الحجم السكاني للسنة العرب والأكراد يظل
أقلويا. إن هذين الحلين على وجاهتهما الظاهرية ينطويان على خطر كارثي يحاول البعض
تناسيه أو غض الطرف عنه وهو خطر حقيقي وأكثر احتمالية من الحلين السابقين ألا وهو
دخول المجتمع العراقي في حرب أهلية طائفية طاحنة بمجرد رفع الشعارات الدينية
الطائفية المنادية بإقامة الدولة الإسلامية على الطريقة الإيرانية أو السودانية
وسيزيد من اشتعال نيرانها تدخلات الجوار والقوى الإمبريالية الغربية والتي عينها
على النفط العراقي وليس على المآذن والقبب الذهبية في النجف الأشرف وكربلاء
وبغداد.لقد سلفت الإشارة إلى أن حالة طائفية سياسية تامة ومنجزة وراسخة في تقاليد
وتركيبات وآليات اجتماعية وحكومية لا وجود لها في العراق مقارنة بالحالة في لبنان
مثلا ولكن هذا الأمر لا يقدم صمام أمان مطلق فالفرق بين حالة العراق وحالة لبنان هو
كالفرق بين الظاهرة الاجتماعية في ذاتها والظاهرة الاجتماعية لذاتها. بمعنى أن
الطائفية العراقية أقرب إلى مجموعة من التقاليد الشعبية والعادات الاجتماعية
والمركبات النفسية الآخذة بالاضمحلال منها إلى الاصطفاف والولاء السياسي العميق
والذي قد يفوق الولاء "الانتماء" للوطن ذاته. غير أن هذه الحال ليست نهائية وجامدة
فقد تتحول تحت ضغط الواقع الموضوعي وتعمق الصراع المذهبي والسياسي إلى حال أخرى لا
تختلف عما رأيناه في لبنان السبعينات المشتعل.
إن الخطر الأعظم الذي سوف يسهل
كثيرا وقوع الاحتمال الأسوأ إنما يتمثل في ضعف وغياب وتشرذم القوى الديموقراطية
الوطنية العراقية والممارسات الخاطئة التي قامت بها بعض أطرافها كالدخول في تحالفات
وعلاقات مشبوهة مع أعداء العراق الإمبرياليين والرجعيين المحليين واستمرار بعض
القوى المحسوبة على هذا العنوان بالتعامل وإضفاء الشرعية السياسية على عدد من تلك
الأحزاب الدينية الطائفية كما هي الحال في العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب
المجلس الأعلى بقيادة الشيخ الحكيم الذي دعا قبل عدة أسابيع من مقره في طهران إلى
إقامة نظام حكم إسلامي في العراق ، أو قيام قوى أخرى محسوبة على ذات العنوان بشن
حملة عدائية تتجاوز الأحزاب الدينية لتطال الدين والجماهير المؤمنة نفسها ونجد
مثالا على هذه المواقف المتشنجة في بعض وثائق وبيانات وفعاليات الحزب الشيوعي
العمالي العراقي.ولكن هذا الخطر على فداحته لن يرقى إلى خطورة غياب التمييز
والتفريق السياسي العملي والنظري العلمي بين نوعين من الأحزاب: الأول هو الحزب
الديني الهادف لبناء الحكم الثيوقراطي الشمولي المطلق والمعادي للديموقراطية على
طريقة طالبان مثلا والذي ينبغي أن يناضل الديموقراطيون بما فيهم ذوي التوجهات
الإسلامية والقوى التقدمية ضده بالوسائل الديموقراطية والدستورية بهدف عزله
جماهيريا وجعله في حجمه الحقيقي والثاني هو الحزب السياسي ذو التوجهات الدينية الذي
يعتمد الوسائل السلمية والديموقراطية في التبشير ببرنامجه السياسي المعلن وغير
الداعي لإقامة الحكم الديني والانقلاب على العملية الديموقراطية بواسطة استفتاء
ديماغوجي. إن أسلوب إحلال الدولة الدينية عن طريق الاستفتاء الشعبي كما حدث في
إيران بعد الثورة التي سيطر عليها التيار الديني الطائفي ليس إلا خدعة رهيبة فقد تم
تصوير الصراع وكأنه بين مؤمنين وكفار وكان السؤال المخادع يقول في طبقته الأولى (
هل تريدون جمهورية إسلامية أم لا؟) وفي طبقته الثانية يقول ( هل تريدون الإسلام أم
الإلحاد؟) وبما أن الناس تحب دينها وتوقر مقدساتها فسوف تصوت بنعم على سؤال آخر وهي
تعتقد إنها تصوت لدينها ومقدساتها، وكان السؤال "الآخر" يقول صراحة وكما أثبتت
الأحداث التالية على امتداد سنوات عمر النظام: (هل تريدون دكتاتورية ولاية الفقيه
أم لا؟).
إن الحزب السياسي ذا التوجهات الدينية جدير بالتضامن معه من أجل
الترخيص له بالنشاط والعمل السياسي السلمي من قبل جميع الديموقراطيين الحقيقيين ولن
يكون للديموقراطية السياسية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أي معنى أو صدقية دون
وجود بعض الأحزاب السياسية التي تستوحي المثل الأخلاقية من الدين الإسلامي في وضع
برامجها السياسية ولكن ينبغي بالمقابل النضال سلميا وديموقراطيا ضد الأحزاب الدينية
الطائفية المعادية صراحة للديموقراطية والدعية لإقامة الدولة الدينية بوصفها دولة
ثيوقراطية تطبق القوانين الدينية.