|
أم آسيا
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4455 - 2014 / 5 / 16 - 08:43
المحور:
الادب والفن
- يا أختي العزيزة ، يا أم آسيا الوردة ، إسمعيني زين ، و إن كنتِ أختي الأكبر : إياك و أن تسمحي لنفسك بالحمل مرة أخرى ! ست بنات تكفي ، و زيادة ! - و لكنك تعلم بأن زوجي حسين هو الابن الوحيد لأبيه ، و هو يتعرض للضغط الشديد من جانب أهله و معارفه ، و نحن نسكن قرية يعتز أهلها بالخلفة الذكور ، و أنا لا أقبل له أن يشعر بالحرج لكونه محروماً من الإبن الذكر الذي يديم نسله . أنا زوجته ، و يجب علي أن أرفع رأسه بين أهله و أقربائه بالحمل منه مرة أخرى لمنحه الابن الذي يريد . لا بد لي أن أثبت جدارتي أمام أهله و معارفه ، فلا ينبتر سلساله . - لقد سمعتُ منكِ هذا الكلام منذ أن أنجبتي إبنتك الأولى ، آسيا ، قبل أربع عشرة سنة . ثم سمعته بعدئذٍ إثر ولادة كل واحدة من شقيقاتها الخمس ؛ و هنَّ أحلى باقة زكية من الورود اليانعة التي يجمل بكل رب عائلة أن يفتخر بها . أسالك سؤالاً واحداً فقط : كيف سيتسنى لكِ التأكد من أن مولودكِ السابع لن تكون بنتاً سابعة ، مثل سابقاتها ؟ ها ؟ - هذا صحيح ؛ مثل صحة إستحالة التأكد من أنه لن يكون مولوداً ذكراً . الله كريم ، و هو أرحم الراحمين . هل تقبل أن يُقال عن أختك أنها لا تستطيع أن تمنح زوجها إبناً ؟ ها ؟ - أرجوكِ ، يا أم آسيا الوردة ، أن تفهميني جيداً ، و أن تستوعبي تماماً دواعي قلقي الشديد على حياتك الغالية . إن مرض دوالي القدمين مستفحل جداً لديكِ ، و قد تعرِّضين حياتك للخطر الجسيم إذا ما حملت بطفلٍ للمرة السابعة . هل تريدين أن تموتي لكي يرضى أهل القرية و زوجك عنك ؟ ها ؟ أ تموتين لإرضاء زوجك ، فيتزوج بغيرك ، و تتيتم بناتك الستة ؟ - و ما ذا أعمل للدوالي ؟ ها ؟ أنت تدري بأنني مضطرة للوقوف طيلة النهار لإنجاز أشغال البيت العديدة التي لا تنتهي . ثم إن بناتي كلهن صغيرات ، و هن بأمس الحاجة للرعاية في كل شيء ، و أنت لا تقبل لي أن أحملهن مسؤولية الطبخ و النفخ في البيت و هن ما زلن طفلات . هل يجوز لي أن أكلفهن بشغل البيت لكي أبقى طول النهار مستلقية في الفراش على ظهري ، و ساقاي مرفوعتان على مقعد الكرسي مثلما تقول الطبيبة ؟ ثم إن هناك الضيوف . كل أصدقاء زوجي ، خصوصاً البعثيين منهم ، يحبّون طبخي ، و لا سيَّما الباجة و كباب لحم الخاصرة و الرأس ؛ و لا يكاد يمر يوم واحد دون تشريف جماعة منهم لداري ؛ و الضيوف ضيوف الله ، و هم يطلبون الأكَلات التي يريدون بلسانهم ؛ و أنت لا تقبل لأختك أن تقصِّر في إكرامهم وفادتهم حسب الأصول ، أليس كذلك ؟ - أطبخي للبعثيين السم الزعاف ليتسنى للعراقيين أن يرتاحوا ! أولاد الكلب ! - إنه كفيان شر ! زوجي مضطر لمجاملتهم ؛ فهو شيوعي ، و أنت تعرف ذلك ! - نسيت أن أسألكِ : أين بلغ البنيان في مسجد القرية الذي يشيده زوجكِ على حسابه ؟ - لم تبق سوى القبة . - و المنارة ؟ - لقد إكتمل بناؤها ، و الحمد لله . تعال زُرْنا لتراها . لقد أصبحت جميلة المنظر بعد تغليفها بالكاشي الكربلائي اللمّاع الثمين الذي استنفد كل مدخراتنا ! - و هل تبرَّع أحد من بعثيي القرية بشيء لبناء المسجد ؟ - كلا ، و لا حتى بفلس أحمر واحد . - الله أكبر ! لالتهام لحم الباجة و الكباب مجاناً في بيت حسين ، هم مسرعون ؛ أما للتبرع بالمال لبناء مسجد رب حسين ، فهم مستنكفون ؛ و يتهموننا نحن بالكفر ! يا للحقارة و الخِسَّة ! - الله لا يقطع ؛ وحده الإنسان يقطع ! - كل البشر يرضعون المسرة من صدر الطبيعة ؛ الأخيار منهم و الأشرار ؛ كلهم يمشي دربها المنثور بالغار ! عسى الله ، يا أم آسيا ، أن ينيلك مرادك ؛ فيشرح لكِ قلبك ، و يسعدك مع زوجك و بناتك ! - آمين ! - و كيف هي أحوال حسين الآن بعد أن صرف كل مدخراته في بناء المسجد ؟ أقصد هل ما زال لطيف المعشر و لين العريكة على عادته ؟ - أنت تعلم بحسين : أنه زوج رائع بأخلاقه الراقية ؛ و هو أب ممتاز ، و رب بيت مجتهد . - و كيف هو شغله في محل تصليح الساعات الذي إفتتحه مؤخراً للعمل فيه بعد إنتهاء دوامه بالمدرسة ؟ - زين ، و الحمد لله . و لقد أصبح يصلِّح الراديوات و المسجلات و التلفزيونات أيضاً فيه ! - عظيم ! و هل ما زال يعمل في التأسيسات الكهربائية للمساكن الجديدة ؟ - نعم ، و كلها مجاناً ! - لا أكتمك القول ، يا أم آسيا ، بأن زوجك رجل موهوب و رائع بكل معنى الكلمة . فهو معلم متميز ، و فلاح ناجح في بساتين المرحوم والده ، و ها هو يبدع الآن في تصليح الساعات و الكهربائيات و الأجهزة المنزلية كما لو كان ينتج الذهب بيديه المجردتين ! إن الجمع بنجاح بين كل هذه المهارات لأمر نادر ؛ بل هو إنجاز فريد يستحق كل الإعجاب و التقدير و الإكبار ؛ وفَّقه الله ، و أسعدكما أنتما الإثنين ، و بارك لكما ، و أطال في عمركما لتمنحا خلفتكما أحسن التربية ! - دق على الخشب ، فعيونك ملوَّنة !
بعد مضي تسعة شهور على هذه المحاورة ، كانت أم آسيا حاملاً بشهرها السابع بطفلها السابع . فجأة أصيبت بنزف داخلي بسيط ، فأدخلت مستشفى الحلة الجمهوري ، حيث واظب زوجها حسين على زيارتها و جلب الطعام و الفاكهة لها كل يوم بلا إنقطاع طيلة أسبوعين . إنقطع النزف ، و تحسنت حاتها كثيراً ، فأعلمتها طبيبتها الخاصة ، بيروز ، بأنها ستخرج من المستشفى بعد يومين . في اليوم الخامس عشر من رقودها في المستشفى ، تم إعتقال زوجها من طرف جلاوزة البعث أثناء دوامه الصباحي في المدرسة . علمت والدة أم آسيا بالإعتقال بنفس اليوم ، فطلبت من إبنها الكبير - و أسمه هو الآخر حسين - بزيارة أخته في المستشفى ؛ و حمّلته طعام الغداء و الفاكهة لها . دخل حسين الردهة الخصوصية الراقدة فيها أم آسيا ، و فرح لرؤيته إشراقة وجهها الملائكي و هي تنظر إليه بإبتسامة طفولية ، و تستشرف النظر بترقب خلفه . - السلام عليكم يا أختي العزيزة ! كيف حالك اليوم ؟ ما شاء الله ! أراك عال العال ! - و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته . لا بد أن زوجي قد أتى معك ، أليس كذلك ؟ سألته أخته ، و قد زادت إشراقة إبتسامتها المترقرقة ! - ؟ - أين ذهب زوجي ؟ ألم يأتِ معك ؟ - ؟ - لماذا لم يأت زوجي مثل عادته كل يوم ؟ سألته و قد تحولت الإبتسامة الزاهية إلى وجوم كالح . - هم ، لقد إنشغل اليوم بأمر طارئ ! سيزورك قريباً ، إنشاء الله ! - إعتقلوه ؟ - ؟ - أصدقني القول : هل إعتقلوه ؟ سألته و عيناها قد تحولتا إلى مصابيح كاشفة نفذت إلى إعماق أعماقه - ؟ لاحظ حسين الإنقلاب الرهيب الذي طرأ حالاً على وضع أخته ، التي راحت تتقيأ و تتلوي و هي تمسك ببطنها كمن يرقد على جمار الغضا . ثم بدأت الدماء تتدفق على فراشها كتيار النافورة . هرول حسين لمناداة الطبيبة بيروز . حضرت الطبيبة على عجل ، و فحصت أم آسيا ، فأمرت بنقلها على جناح السرعة إلى صالة العمليات الكبرى لأجراء عملية ولادة قيصرية لها بسبب النزف الشديد الحاصل لديها فجأة . و أخيراً ، فقد منحت أم آسيا زوجها الوريث الذكر الذي يريد ؛ و استشهدت جراء النزيف بعد إنتهاء العملية القيصرية مباشرة . كما أستشهد زوجها حسين بعد ذلك بستة شهور لإعدامه بتهمة الإنتماء لحزب دينجي ، و هو لا يعلم بمصير زوجته !
حيّوا مأساة كل زوجين نبيلين ، و ابكوهما بقلب صامت ، مثلي !
بابل ، 1981.
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 2
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 5
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 4
-
حكاية الكلب المثقف :- سربوت -
-
قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 1
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 3
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 2
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 1
-
هيجل و رَسْل : الأسد يُعرف من فكيه
-
عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك / 2 و
...
-
حكاية الطَّبْر و الهَبْر
-
الفتى صالح و السبحة الكهرب
-
عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك /1
-
الحمار و عبد الكريم
-
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 7 - الأخيرة
-
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 6
-
قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا
...
-
قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا
...
-
ألحمار المناضل
-
طبيعة قوانين الديالكتيك و طريقة إستنباطها و فحصها و علاقتها
...
المزيد.....
-
1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا
...
-
ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024
...
-
-صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل
...
-
أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب
...
-
خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو
...
-
في عيون النهر
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
-
”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا
...
-
غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم
...
-
-كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|