رزكار نوري شاويس
كاتب
(Rizgar Nuri Shawais)
الحوار المتمدن-العدد: 4442 - 2014 / 5 / 3 - 04:47
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
مصر .. بلاد تختلف في كل تفاصيلها عن باقي بلاد الدنيا ، فيها اجتمعت الحضارات حول حضارتها الاعرق و تزاوجت ، فأنجبت خصوصية ثقافية و تراثية تميز شخصيتها التي لا مثيل لها ..
زيارة مصر امنية الملايين و كانت حلمي انا ايضا ، فمنذ صباي كنت مسحورا بتاريخها و اثارماضيها المتفوق العجيب ، و بادابها و واديها و صحاريها الشاسعة و بشعبها الشغيل ، المضحي و الصبور .. و شاءت الاقدار ان ازورها من دون اي تخطيط مسبق ، كان ذلك في زمن صعب و ظروف في غاية المرارة و القسوة ..!
حدث ذلك عام 1975 ( السنة التي ابرم في ربيعها ما عرف بأتفاقية الجزائر بين النظامين الساقطين البعثي العراقي و الشاهنشاهي الايراني لتصفية الحركة الكوردية في كوردستان العراق ) .. دخلتها انا الكوردي هاربا و ليس زائرا ، حيث كان الشعب الذي انتمي اليه يمر بمحنة عصيبة وبنفق مظلم نحو مصير مجهول .. في تلكم الايام السود من تاريخ شعبي المظلوم دخلت مصر هاربا ضاقت به السبل يطارده غاصبوا حقوقه و ناهبوا قوته . دخلتها بجواز سفر عتيق يعلن بلا حياء عدم صلاحيته ..! لكن وبعد شد و جذب استغرق و قتا بين استجواب مسؤولي الامن في مطار القاهرة و اجوبتي الواضحة الصريحة ، سمحوا لي بالدخول شرط تحديد محل اقامتي الذي اختاروه لي مسبقا ..!
سيد .. سيد محمد فهمي ، (سواق عربية الاجرة التي كان يصر دائما و بكل اعتزاز ان يسميها بالليموزين ) ، كان هو الشخص الذي اوصوه بتوصيلي لمحل اقامتي في بنسيون كان يدعى ( سويس ) وسط القاهرة قرب ميدان طلعت حرب ..
سيد محمد فهمي .. ربما كان من رجال المباحث و ربما لا ، لم اهتم ابدا بهذا الجانب من شخصيته و بغريزني لم اتوجس منه شرا .
كنت في حالة نفسية بالغة السوء ،غارق في لجة حزن لايبدو لها قرار في كآبة ضبابية تغمر كل مشاعري و منابع احساسي ..
هدير المحرك كان مزعجا يثير الصداع ، لم اسمع ما قاله الاسطة سيد السواق بوضوح ، لكنه كرر ما قال :
- اضربها بجزمة ..
رمقته بنظرة استفسار ..
- ملعونة الدنيا ، تبسم و النبي و بلاش التكشيرة دي الله يخليك
ابتسمت بحزن .. لكن احساس طيب من نوع ما بدأ يصارع مشاعر الريبة و القلق المشوبة بالحيرة و الحزن في ذهني ..
وهكذا و عبر مسافة الطريق تعرفنا على بعض اكثر ، عرف عني الجانب الاهم من قصتي و عرفت عنه الكثير من الاسرار الحقيقية و المبالغة فيها . الاسطة سيد كان اول صديق اتعرف عليه على ارض مصر . و مع الايام توطدت رابطة الصداقة بيني و بين الاخ سيد و عبره تعرفت على الكثيرين في المجتمع الشعبي المحيط بمحل اقامتي ، كان محيطا ضاجا بالحركة و الصخب ليل نهار ، كنت ارى فيها كل مصر ، شعب طيب ، ودود و ذكي ، كادح و مثقف ، و يكن لوطنه حب اشبه بالعبادة ، شعب صريح و واضح في مشاعره و مواقفه ، يعبر عنها بجرأة و عفوية و احيانا كثيرة بنكتة مرحة جادة .
غالبا كان الاسطى سيد يفاجئني بحضوره المفاجيء و بجولة مجانية في شوارع القاهرة و الجيزة و حسب اتجاهات و مقاصد الزبائن الذين كان يصطادهم في مشواره الحر . في واحدة من هذه الجولات اقترح علي قراءة اليافطات و العناوين المنصوبة على المحلات و المكاتب بحثا عن كورد ام الدنيا ..! و فعلا صادفت لقب الكوردي على بعضها..
ذات يوم تحدثنا عن صلاح الدين الايوبي ، فاصر و بالحاح على رحلة الى جبل المقطم شرق القاهرة حيث قلعة و دواوين حكم صلاح الدين الايوبي ، لكن لم يسعفني الحظ بمتعة التجوال بين ما تركه الناصر صلاح الدين من اثار في مصر ، فالقلعة الايوبية و المناطق المحيطة بها كانت بسبب اوضاع البلد الاستثنائية منطقة محظورة على الزوار و السواح ، الا ان الاسطة سيد نبهني الى متعة مشاهدة (ام الدنيا ) من على جبل المقطم ، و لحسن الحظ كان الجو صافيا و المشهد كان رائعا بالفعل ، يمتد و يعبر النيل الى اهرامات الجيزة و حواف الصحراء في مساحة تشكل بانوراما حية مترامية الاطراف لحكاية بدأت في غابر الزمان و لاتزال تنبض بصخب الحياة ..
فجأة سمعت احدهم يعلن حضوره :
- ترجمان يا بيه .. ترجمان يا باشا ؟
التفت لمصدر الصوت ، كان رجلا تجاوز الخمسين يرتدي جلابية انيقة و بشدة ناصعة البياض لفت بغناية خبير في شؤونها حول جمجمة مصرية اصيلة ، فمنحت شخصيته الهيبة و الوقار .. من دون اية مقدمات واضحة ، بدء يتكلم بعجالة غير مفهومة ، لم افهم ما يقول و لا ماذا يطلب ..! ركزت اكثر فاتضح لي انه يتحدث بالانكليزية ثم تحول الى الفرنسية و الايطالية و كلها بلكنة و نكهة صعيدية محببة للقلب . كان ( ترجمانا ) وهي مهنة تكاد تكون موازية لمهنة – المرشد السياحي - ، يعمل لحسابه الخاص بترخيص حكومي يمنح وفق شروط و ضوابط خاصة اهمها المامه بالخلفية التاريخية للموقع الذي يعمل ضمن نطاقه ، كذلك اجادته للغة اجنبية .. هذا ما فهمته من صاحبي الاسطة سيد الذي اوضح ان المام مرشدي السياحة الاهليين باللغات هو (وراثي )..! بمعنى انهم لم يتعلموها في المدارس و المعاهد ، بل يتوارثها الابناء عن الاباء في اسر و عوائل احترفت مهنة ( الترجمان
) و هكذا اتضح لي ان الاخ كان من سلالة ترجمانية عريقة . لقد كانت للحملة الفرنسية على مصر و قبلها الاختلاط المباشر بالرومان و اليونانيين و كذلك الاتراك العثمانيين ثم الاحتلال البريطاني .. كل ذلك ساهمت في نشر لغات تلك الامم و ثقافاتها و تقاليدها في حواضر و ريف مصر ، بل ان كثير من مفردات تلك اللغات داخلة في اللهجة المصرية الدارجة ..
لغات تلك الامم تعلمها و اتقنها الكثيرون من ابناء مصر من الاجيال القديمة و انتقلت من جيل لاخر مع اضافات لكلمات و مصطلحات على مر الزمان لايفهم لها اي معنى و لا وجود لها في اي معجم من معاجم لغات الدنيا ..!
و كأنه يؤدي دورا في مسرحية تاريخية ، اشار المعلم الترجمان ان اتبعه ، فتبعته بصمت و خشوع لندخل جامعا فخما في غاية الروعة و البهاء ، توقفنا امام ضريح فخم توج شاخصه بعمامة منحوتة نحتا دقيقا من حجر الغرانيت .. و بعد تلاوتنا لسورة الفاتحة ترحما لصاحب الضريح و امواتنا جميعا ، اشار الى الضريح و هو يقول بمهابة من يكشف عن سر تاريخي لأول مرة ..
- محمد علي باشا ..
كان ضريح والي مصرمحمد على باشا الكبير الذي شق عصا الطاعة على الامبراطورية العثمانية و استقل بحكم مصر عنها ، ليمتد حكم ذريته من بعده لغاية حكم الملك فاروق بن فؤاد ..
سألته عن صلاح الدين الايوبي و اثاره في مصر ، فافهمني بحركات من يده و لغته الانكلو صعيدية التي كان يصر بعناد ان يتحدث بها ، ان اثاره كثيرة و نفيسة لكن المنطقة محظورة عسكريا ، سألته عن قومية صلاح الدين الايوبي ، فرمقني بنظرة فيها الكثير من الفضول ، ثم قال بعجالة :
- الناصر صلاح الدين و كمان الباشا محمد على كانوا من ( الاقراد ) .
- ماذا ..؟ أقراد ؟!!
- أي نعم ، اقراد
- قصدك السعادين و النسانيس ؟
فانفجر في نوبة من ضحك صاخب ، انهاها بسلسلة من السعال الحاد ، ثم قال و هو يمسح عينيه بكمه :
- ليه كدة بس ؟ الله يرضى عليك يا باشا .. ايوة اقراد ، هم بشر زي و زيك ، ناس و نعم الناس ، امرا ، رجالة شجعان و طيبين و من عباد الله الصالحين ..
- طيب يامعلم .. انا كمان كوردي ، من الاقراد ..
- لّــع ؟!!
- و الله .. انا كوردي
- و النبي ؟؟
- آه و الله العظيم و نبيه الكريم ..
- يا سلام ، ده انت نورت مصر
- منورة دايما باهلها الطيبين يا معلم ..
حاولت معه كثيرا ان امنحه اجره ، حقه مقابل خدمته السياحية ، لكنه رفض بأباء الصعيدي الحشم ، صافحته مودعا ، و عدت الى عربية الاجرة حيث كان صاحبي سيد في الانتظار ، استقبلني بابتسامته الطيبة و سالني :
- انبسطت ؟
- أيوة ، لكن مش زي الأنبساط الي عندنا في العراق
- ازاي بقا ؟!
- يا سيدي المبسوط عندنا في العراق هو الي واخذ علقة سخنة من التمام التمام ، بعكس معناه الصعيد الاخر السطة عندكم ..
و ابتسمت بانشراح ، فعلق بحماس :
- ايو كدة يا عم ، تبسم .. يا ترى الهم و الغم راحوا فين ؟
- دابوا .. طاروا
- يا حلاوة
قلت له و كان منهمكا بتشغيل و ادارة محرك عربيته ( الليموزين )
- تعرف يا اسطة ، ان العيب مش في شعوب و اقوام المنطقة ، العيب في الحكام و الحكومات الي تحكم بالظلم و الباطل ..
- اهو الكلام العدل الصح في الصح ، انا ابصم عليه بالعشرة ..
ارتفع هدير المحرك ، سألني بأرتياح :
- على فين يا باشا ؟
- ميدان التحرير يا اسطة ..
#رزكار_نوري_شاويس (هاشتاغ)
Rizgar_Nuri_Shawais#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟