أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل الثالث عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر















المزيد.....


الفصل الثالث عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر


سعدي عباس العبد

الحوار المتمدن-العدد: 4397 - 2014 / 3 / 18 - 08:47
المحور: الادب والفن
    


المستكينة لطمأنينة يشيعها نور الضحى
وحصار الوميض الأخضر المتوهج عند قمم الحيطان التي قادتني قدميّ اليها ... فشعرت كأني احلّق في فراغ او فضاء من الأخضرار ..قبل ان يجفلني رنين إناء اصطدم بطرف بسطالي ... انطلق نباح كلب في الجوار ..كان ضخما مبقّعا بسواد وبخطم موحل وعينين تشّعان بريقا عدائيا .. رأيته يجري ناحيتي حتى بات على مرمى خطوة ..فبقيت متخشبا في موضعي ..في حين مكث هو يطلق نباحا مفزعا ، انهكني ..، كنت المح وميضا مخيفا يشّع من عينيه ..فوجدتني اقعى مذعورا مثل كلب طارء ، ضال ، منتهك ......... كان لسانه يندلق الى الخارج يسيل من طرفه الرطب لعاب مثل خيط طويل لزج .. ظل النباح يعلو ساخطا كما لو يتدفق من قطيع بكامله !! قطيع مرعب من الأشداق والأنياب المشرعة على صحاري صدئه ...
كان الوقت يمرّ مخيفا والكلب يزداد نباحا وعداءا واقتربا !! وقبل ان أنكفىء بظهري للوراء ...
سمعت نداء إمرأة يتصاعد من وراء حائط ..تنهر الكلب الذي تراجع حالما سمع النداء وهو يطلق هريرا فاترا ...
كانت المرأة قد اطلّت معبأة قامتها المشدودة المديدة داخل ثوب فضفاض اسود ...
قلت وانا امشي بخطى وئيده ناحيتها __ : أ أستطيع يا حاجه أن استريح عندكم ريثما استعيد قواي ... فنبرت المرأة __ : أجل يا ولدي ..تعال هنا ..لا تخف غادر الكلب ..واضافت
: كيف انتَ ... اطلقت حسرة اشبه بالعواء ...ثم حملتني قدماي المتورمتان على بساط رطب من الأعشاب الغارقة بنثار شعاع اخضر ... اقتفيت أثر المرأة في ممشى يحيط ضفتيه سياج من شجيرات تحجز خطواتي .اقتفيت أثر المرأة في ممشى تحيط ضفتيّه سياج من شجيراب تحجز خطواتي ... تلاشت المرأة في الداخل ، مخلّفة رائحة ازهار وادغال بريّة .. كانت تضوع من آثار قدميها وثوبها وبدنها .. اومأت ليّ عبر فرجة الباب المفتوح : ادخل ............ برز رجل .. انبثق من الداخل ..هش في طريقه خروفا يتواثب وسط ثلة من الديكة والبط ..تطلّع ناحيتي ثم اقتعدكرسيا من جريد النخيل وهو يرحب بي ... لاح فتى قادما من وسط الاشجار متلفعا كوفية بيضاء ..قال وهويخطو بإناة : اهلا .....
ثم اقتعد كرسيا جواري واضاف بنبرة ودودة __ : أ أنت قادم من هناك ...الجبهة قلت __ : نعم ... فار من الجبهة ... قال __ : منذ اكثر من عشرين يوما او نحو ذلك ، وهم يتوافدون في مواكب رثة متوترة ... يمرّون من هنا ..جنود شعثون ملطّخون بالسخام ..فارون من الصحراء ..متيبّبسون ..كأنهم مجفّفين في علب معدنية !! ... قلت في سري او كأنهم محفوظين في صناديق مغلقة باقفال من احلام صدئة ..قال الرجل بنبرة تشي بالدهشة __ : كيف حدث كلّ ذلك ... إنهم لا يمسكون عن التوافد او الفرار ..ارهاط متعاقبة ..... قلت __ : أتصدّق ..الصحراء هناك ، فرن متأجج يصهر كلّ شيء ! قال الفتى __ : رأيت عند المساء .......... مساء البارحة اعداد غفيرة من الفارين يخوضون في الظلام وانا في طريق العودة من الحقل ..، قلت __ : أترونهم كلّ مساء ! قال الفتى __ : اجل ...
ولكم هم متشابهون ..في رواحئهم....... قدمّت ليّ المرأة طاسة من اللبن وهي تقول __ : الا تأكل شيئا ... قلت __ : كلا ، ياأمّي معدتي مغلقة ...كم من الوقت يستغرق الوصول إلى المدينة مشيا .. قال الرجل __ : هناك شارع فرعي قائم على يمين القرية .. تمرّ من هناك سيارات مزارعين ... شارع يخلو من السيطرات ..سيقودك للمدينة ... لعل احدهم يقلك بسيارته ...
انحدرت للشارع الفرعي يشيّعني النهار الثاني وقد التمّت اطرافه البارده على الجدران الطينية وقمم الاشجار وقد امتلاء الهواء برائحة ثمار الاشجار .. لمحت سيارة تمرق متباطئة فاومأت لها ... تكومّت وسط حوضها المليء باكياس معبأة بالثمار ...
في الطريق لاحت اشجار شاخصة على الجانبين في نهار تنكمش شمسه على السواقي ..وبانت مساحات خضر تناثرت عندها ديكة واسراب من بط ودجاج ... وعلى ارتفاعات خفيضة كانت تحلّق فوقها طيور تخفق رشيقة في الهواء ... وعند البقاع البعيده لاحت ماشية ترعى وسط الاعشاب في خطوط متعرجة .... وعند الحقول المتناثرة المفروشة تحت سماء مكتظة باصداح الطيور ومحاذاة المساحات الخضر بانت فلاّحات ملفوفات بالسواد وراء الماشية المحاطة برهط من الكلاب ....... لمحت .وراء الماشية المحاطة برهط من الكلاب ..لمحت إحد الكلاب يجري ناحية السيارة وهو يطلق نباحا قوّيا سرعان ما تلاشى أثر توغل السيارة في الطريق ..فبدا مثل كتلة متحرّكة تتضاءل في الحقول التي كانت تتراجع هي الاخرى وتتضائل في الاتجاه المعاكس لسير العجلة ...
ولما اضحينا على مشارف المدينة على مقربة من الجسر , جسر المدينة ... رأيت جنودا يمشون مترنحين منهكين متلفعين باسمالهم الرثة ورأيت اطفالا ونساء ، منذ مدّة عسيرة لم أر نساء .. توقفت السيارة على مقربة من الجسر ..قال السائق يخاطبني وهو يترجل [ عيني هذا حدي ] واومأ بيده ناحية الجنود وهو يردّد ، اذهب مع هولاء ..إنهم يتوجهون للكراج ...كانوا يغذون الخطى صوب الجسر في مواكب متنامية ..في تشكيلات منكسرة .. قافلة من الجيش المخذول ..تخفق في سماءه الغائمة راية الهزيمة والاندحار .
في تلك اللحظة التي كنت فيها اعاين الجنود الناشرين خيباتهم واوجاعهم في النهار ، انقضّت طائرة مرقت بغته من فوق الجسر وقصفته ... فأرتجت الارض تحت قدميّانقضّت طائرة مرقت بغتة من فوق الجسر قصفته ... فأرتجّت الأرض تحت قدميّ ... أرتجّت بقوّة ..فوجدتني كما لو احلّق على ارتفاعات مهولة ..قذفتني رياح العصف __ او هكذا تراءى ليّ __ صوب ساقية ... لمحت الجنود الذين كانوا يعبرون الجسر ..يطيرون ..يطيرون في عاصفة من الرماد والدخان والغبار ... يطيرون قطعا متناثرة او اجزاء ... يطيرون ببقايا احلام وابدان وبساطيل واسمال خاكية وجوع وتراب ونعاس ودهشة ... يطيرون بأجنحة من رماد وذكريات ..يطيرون خارج مدى الجسر ..كنت لائذا بكنف الساقية ، في حفرة موحلة ..كأني مشدود اليها بخيط حميم من الخوف والذهول واليأس ... كان الخراب على اشده لما احسست بسائل لزج حار ينسدل على عينيّ ... فتغرق المرئيات في غشاوة غائمة للغاية ...فكأني أرى عبر حاجز من ضباب كثيف ...فهجست باوجاع طفقت تتنامى اسفل ظهري ..فاحسست كما لو إني مستغرق في حلم طويل ، بيد تلمسني كأنها تمتد عبر مسافات مهولة ..تطبق على ذراعيّ وترفعني برفق ..فوجدتني ارتطم بكتلة لينّة فأنكفىء ... فهوي رأسي إلى فراغ مخيف .وهوي رأسي إلى فراغ مخيف ..فرأيتني مكومّا .يوّش في اذنيّ عواء رفيع ممدود أقرب ما يكون إلى أنين فاتر يتدفق خلال فضاءات ملاجىء بعيدة ...ثم مالبث العواء ان تلاشى وسط لغط يحوم في اسماعي .. فلم اعد أرى سوى ظلام كثيف يغمر المكان الناضح رائحة حديد صدىء يتصاعد في الهواء البارد ..
فأمد يدي عبر الظلام ، اتحسس مايحف بي ..فتصطدم اصابعي بكتل غامضة لدنّة يند عنها لغط ..زحام مريع من اللغط ..قبل أنّ ترتد يدي ، اسمع العواء يتدفق ، كأنّه يخرج من الكتل الطرّية ، اللدنّة ..ولكن كان هذه المرّة اقرب إلى البكاء المكتوم المشّبع بالألم.. ينسل واهنا من الظلام ..فجعلت احبو للوراء كما لو اتوغل في نفق مغلق .. تحوم عند رأسي اصوات آدمية تنتشر في الظلام ، مبدّده نبرة العواء .. الذي احسست به كأنّه يتدفق من بدنّي ..ينبض بالوجع ..احسست بسائل كثيف يسيل على سحنتي ويحتشد عند زاويتيّ فمي ..فشعرت ببدني يخور ويضعف ..اسمع بوضوح اللغط الآدمي ..كأنّه راح ينأى في الظلام يدفعه الهواء عبر مسافات بعيدة ..كنت ماازال اغور في امتدادات قاتمة واحلّق في فضاءات حالكة من الغياب لما سمعت صوتا رفيعا يطلب اليّ ان اقف على قدميّ فوجدتني ازداد توغلا في الظلام .. فيغيب الصوت ..يغيب في أذنيّ ، يحشوهما بطنين يشبه الدوي .. فأفتح عينيّ ، فأرى وجوها كأنها اشباح تتقاطع ... لمحت إمرأة خلتها في الظلام أمّي تنهض من قبرها !! ثم سرعان ماعادت الظلمة اشد سوادا وتفحما تغشي عينيّ ..فاغور في مجرى من الغياب .. ومن اعماق ذلك الغياب ، كانت تأتي اصوات صراخ تتداخل في مجرى من الدوي .. وبكاء يهب عاصفا ملتاعا من اغوار مجهولة ، يتدفق من عمقفاجدني كأني محمول على بساط من العواصف ..اميل ناحية الأشجار منذ الضحى ..اتطلّع إلى البعيد العالق في المدى النائي
المطبق على حافات مغمورة بهالات من ضباب ..
منذ مساء البارحة ، كانت الريح في الصحراء ترسل صفيرا قوّيا يوش في اسماعي تحمل
آثار قصف يأتي عبر الريح ... وكلما اتوغل في المدى ..أراني كأني لم اتزحزح عن موضعي
او كأني مازلت ارواح في تلك البقعة البرّية التي باتت بعيدة ............
لم التفت للوراء من أوّل خطوة كأني أخشى ان اتحلل في رائحة الصدىء .. التي كان يزداد
تراجعها قوّة ، كلما اشق طريقي المحفوف بالريح صوب الجهة التي ما انفكت تجرنّي بحبال من الخوف ...
كأني ميت منذ سنين !! فمكثت تسحلني يد الرعب عبر المسافة البريّة ......
فلم اعد اتذكّر إني خلدت للنوم ، في أيّ لحظة مرّت في حياتي !! التي ما عاد في بوسعي ان اتذكّر ملامحها ............ لم اعد اتذكّر ... معالم تلوح غائمة ..
فهذه المرة الأولى التي اشعر فيها بفراغ مذهل يمسك بذاكرتي التي رغم ذلك مازالت
تهطل من سماءها الغائمة اكوام من البساطيل الطائرة في إعصار من دوي الطائرات ...
لا اتذكّر بوضوح ما جرى ليّ ........ كانت ملامح غائمة تمرق في ذاكرتي ..تتقاطع كأني ارى اطيافها عبر اوقات الغيبوبة التي جعلت اترسب في قعرها ... فخيّل ليّ كأني مازلت اركض لاهثا في صحراء حفر الباطن .. وفي المطلاع ..وفي شارع السالمي ..وفي المدى المشرف على القرية ... تدفعني الريح والخوف والدوي ..فاجدني كأني محمولا على بساط من العواصف ..فاجدني كأني محمول على بساط من العواصف ..اميل ناحية الأشجار منذ الضحى ..اتطلّع إلى البعيد العالق في المدى النائي
المطبق على حافات مغمورة بهالات من ضباب ..
منذ مساء البارحة ، كانت الريح في الصحراء ترسل صفيرا قوّيا يوش في اسماعي تحمل
آثار قصف يأتي عبر الريح ... وكلما اتوغل في المدى ..أراني كأني لم اتزحزح عن موضعي
او كأني مازلت ارواح في تلك البقعة البرّية التي باتت بعيدة ............
لم التفت للوراء من أوّل خطوة كأني أخشى ان اتحلل في رائحة الصدىء .. التي كان يزداد
تراجعها قوّة ، كلما اشق طريقي المحفوف بالريح صوب الجهة التي ما انفكت تجرنّي بحبال من الخوف ...
كأني ميت منذ سنين !! فمكثت تسحلني يد الرعب عبر المسافة البريّة ......
فلم اعد اتذكّر إني خلدت للنوم ، في أيّ لحظة مرّت في حياتي !! التي ما عاد في بوسعي ان اتذكّر ملامحها ............ لم اعد اتذكّر ... معالم تلوح غائمة ..
فهذه المرة الأولى التي اشعر فيها بفراغ مذهل يمسك بذاكرتي التي رغم ذلك مازالت
تهطل من سماءها الغائمة اكوام من البساطيل الطائرة في إعصار من دوي الطائرات ...
لا اتذكّر بوضوح ما جرى ليّ ........ كانت ملامح غائمة تمرق في ذاكرتي ..تتقاطع كأني ارى اطيافها عبر اوقات .كأني أرى اطيافها عبر اوقات موغلة في البعد ..او كأن سنينا عديدة مرّت عليها ..فبدت كأنها تتوارى في فضاء حالك ..
كان إحساسي بالخوف يزداد ضراوة ..كلما لاح عبر ذاكرتي ارتجاج قصف الطائرات في اوقات شديدة التقارب .... يلوح كإشارات ضؤية او وميض يندلق سريعا . مشّعا ..ينسفح عبر مساحة قاتمة من ذاكرتي ثم سرعان مايخبو ... ينطفأ قبل ان تبان في المدى عروق متفحمة من السيقان والأقدام المعبأة او المحشورة داخل بساطيل مجفّفة !
تتقاطع في انحدارها إلى الخراب المطبق على الأجساد ، التي بدت كخرق موقده او كتل هشّة ملتهبة ..
لا اعلم كيف طويت الصحراء ...بيد إني لا زلت أتذكّر على نحو غامض .. كيف قادتني قدماي إلى شارع السالمي .... ثم وجدتني أثب ..كأني احلّق في فضاء داخن عطن يتصاعد من بدن سائق الزيل المحترق ...... فرأيتني باركا وسط كثبان رملية ..... اصابتني الدهشة لما وجدتني واقفا في بقعة ما ..لم أر احدا ، كان السكون شاملا ..يسود الكون ! ولما اطلقت ساقيّ للريح والفرار والخوف .. كأني اطير .... وجدت إحساسي بالحياة ينمو بقوّة ..! فأي روح كانت تفور في بدني ... .... موشكة جذوتها على الخمود...
من يوم تلفعت باسمال الجندية وغمرتني رائحة البساطيل ...وجدت نفسي كأني جزء هشّ ، خاو ، من كتلة رمادية تغطي البرّية على طول مد البصر ...
كتلة هائلة تتناسل بقوّة وتنتشر وتتخاطر كالاشباح ..متخمة بنكهة دخان نفاذّة ..وتسيل من سحن مخضّبة بآثار سخام ... ومن انفاس ضاقت بزفير الحديد والصدىء المتصاعد باستمرار من بقايا حطام اسلحة ..واجساد تلتحف العراء كرماد متجمد او مجفّف !! مفروشة في الريح !
مازالت تفكك ذكرياتي اصابع الريح ............ كم كنت .مازالت تفكك ذكرياتي اصابع الريح ..
كم كنت اشعر باللاجدوى وانا اتطلّع للخوذ الشاخصة وسط رياح من اليأس والحطام ..
فاهرب إلى ذكرياتي المتوثّبة على الدوام للفرار مني !! فأجد نفسي بالكاد اتذكّر ملامح وجودي السابق !! او احلامي التي تلاشت في زمن ما ..من أزمنة الدخان والوجع والغربة .
او تفتّت في ذوبان قاس في مصهر من مصاهر الحرب والحطام والخراب ..فبقيت محض ذكرى شاحبة واهية عالقة في تلافيف عطب الذاكرة ..ذكرى في طريقها للأنطمار والنسيان ..
كنت في كلّ مرة عندما اطالع اعداد الموتى وهم يتناسلون في تكاثر مدهش ! اتساءل وانا انكمش واتضائل في ورطتي العويصة التي لا فكاك منها !؟ ترى بماذا ...! .....؟ فيصيبني الذهول حالما اكتشف إني سأغدو احدهم وسأغط عميقا في سبات سرمدي على وسادة من الصمت والفراغ ..وسأندس بين فجوات البساطيل المنفرجة . وانا الملم على شفتيّ آخر الاهات والأنين والدموع المدماة ! ربما ساطلق أخر الصرخات ..صرخة من تلك الصرخات النابضة بالذعر والخوف والندم والأنطفاء ..صرخة لا اصحو بعدها ابدا ...قبل ان تخمد على وسائد اللهب ..بوقت موجع وطويل ..كنت اصرخ وحيدا او سوف اصرخ وحيدا ..
وحيدا تماما إلا من صرختي وضّياعي في حفر الباطن والجراح والخيبات ..اصرخ من دون ان اتذكّر احدا ..
مساء البارحة إبّان قصف الطائرة الشبح التي اتت على سائق الزيل وكادت تودي بي . لو لا تلك الألتفاته الغامضة التي قادتني الى الكثيب الرملي .لو لا تلك الألتفاته الغامضة التي قادتني إلى الكثيب الرملي .. ثم وجدتني اركض او أطير ، فرأيت عبر سحب غائمة ومدّيات مدهشة من السنوات ذلك الطفل القديم الذي كنته ، ! ذات وقت بعيد ، يجري في الزقاق ، لمحته من بعيد ، عبر صحراء حفر الباطن ..!!! يعدو ناحيتي . يركض بقوّة عبر الريح ! باسماله الخافقة في الهواء والغبار والبرد والدموع . فيزداد توقي اليه . فيشتد ركضي يتضاعف جريان ساقيّ ... بيد إني لم اسمع غير حفيف الريح . يوش في اسماعي .. فيتلاشى وقع البساطيل .. يغيب في المسافات المبهمة ..في حين ظل جريان الطفل الذي كنته يتفاقم حتى بلغ اشده . فلاح لعينيّ كأنه يحلّق في سماء من ذكريات ............ كلما ازداد واشتد ركضه اراه يزداد علوا وصعودا في الآفاق ..ارنو إلى اسماله تحف بها الريح وهو يصعد متدرجا ..كان آخر ما لمحته ، ذراعه المشرعة وهي تلوّح من بعيد ..تومىء ليّ وهي تطل على مرافىء نائية ..حتى لم اعد اسمع سوى صوت يتدفق من اعماق لا ترى ..يهتف بي من وراء آفاق ممعنة في الغياب والتلاشي !!
لا اتذكّر متى اختفى الصوت ومتى غاب ذلك الطفل من ذاكرتي ؟؟ بيد إني اتذكّر ،..
مازلت اركض تاركا حفر الباطن تتراجع مسافات مديدة ،..فقد باتت محض خراب مهول ينمو في ذاكرتي المشّوشة ..ثم وجدتني فجأة امشي محاذاة نهر المدينة بمواجهة الريح المفعمة برائحة الادغال والطين والبيوتات المغمورة بظلال البساتين المطّلة على الجرف المشتعل بجذوة اخضرار مشّع في نور النهار ..المندلق كثيفا ..مسفوحا على كتف النهر المكتظ بالحشائش المفروشة فوق الماء . المكتظ بالحشائش المفروشة فوق الماء ..الطافيه على سطحه المتغضّن بقايا حزم ادغال طرّية . يدفعها الموج الرخي إلى الأقاصي او يبقيها منتشرة عند الجرف .. لما رفعت عينيّ عن المساحات المتوقدة باخضرار مضيىء ..والمشرعة على المسطّحات اللامعة ...
لاحت لعينيّ زوجتي بقامتها الفارعةمتلفعة عباءة فضفاضه.. كانت واقفة عند كتف النهر محاطة بحشد بارق من النباتات الملفوفة حول خاصرتها ... لمحت خلال الفجوات الخضر اعواد البردي تتسلق كتفيها ويديها الممدودتين عبر الفضاء الاخضر ، إلى النهر ماسكة بكومة اعشاب ...كانت قد لمحتني اترنح في المسافة الخضراء الفاصلة بيننا ..كان قد بلغ بي الاعياء اشده ..فلم اعد ارى سوى اسوار هشّة خضراء تنهار في الفضاء ........
اندهشت زوجتي لما رأتني أهوي إلى النهر بكامل اسمالي المدماة .. فجرت ناحيتي وانا مازلت مفروشا فوق الأدغال البليلة الطافية عند الجرف ..احسست بانفاسها الرطبة كخيط من دخان يرتعش ........... فأطلق صرخة مريعة ، ركضت على أثرها زوجتي مرعوبة .
كانت طيور النوارس تحلّق فوق المسطحّات المائية ، لمحتها عبر المسافات الخضر المضيئة .. فوجدتني اشرع ذراعيّ في الهواء ..كأني اومأ للنوارس ..ثم وجدتني احلّق وسط التشكيلات الطائرة .. اطير عاليا في سماء بعيدة ...
بينما بقيت زوجتي ترنو ترنو ذاهلة ..وانا احلّق بقدمين مشلولتين ......... .. ، ولما افقت من غيبوبتي كان الجسر المنهار يكتظ بالجثث . حيث الجنود الفارين من حفر الباطن ..
ثم وجدتني محمولا على اكتاف فلاحين ...ثم لا اعرف كيف دخلت المستشفى وكم بقيت راقدا فيها !! ولكني اتذكّر كيف دخلت البيت مشلولا ، كانت اطرافي السفلى ميتتين معطوبتين ..ممدودتين او راقدتين فوق السرير ..كما لو انهما تحلمان باستعادت خطوات الصحراء في حفر الباطن .......... استرد عبر ذاكرتي تلك الخطوات ..فتكتظ اسماعي بوقع الوف الخطوات ... وقع كأنه يتدفق الآن من تحت السرير !! من اسفل الجدران ..يتصاعد في الخارج المغلق ............. وفي نمو عزلتي التي مازالت تحبو .......
خطوات استعيدها بقوّة عبر ذاكرتي ..وعبر خرابي وانهياري .خطوات استعيدها بقوّة عبر ذاكرتي ..عبر خرابي ونهياري ..فأراها كأنما تثب في فراغ مرعب ، لتعود ترتطم بالفراغ ذاته ! ... كانت زوجتي لا تصدّق بإنّي سامشي بلا خطوات ..كانت تقف وسط الغرفة قبالة النافذة المحاذية للسرير والمطلّة على الخارج المحشو بالصمت والضوء .. تبحلق ذاهلة ..
وذراعاها العاريتان ، راكدتان ، سائبتان ، ممدودتان على جانبيّ خصرها الضامر .. كأنها تقول عبر نظراتها المشدوهة _ : ...... ولكن اين خطواتكَ ! ؟ أ نسيتها هناك ..! ؟
كان الفراغ يفصل بيننا ..فراغ مصاب بالعطب ..كانت تتطلّع إلى وجهي المطبوع بآثار حروق .
حروق الجسر .. ، تحدّق ..كأنها تراني في المنام ، في حلم مخيف يحشو رأسها بكوابيس يتردّد صداها في ارجاء الذكريات ..ترغب في توق ولهفة ان تفيق منه ...
يتقاطر الدمع من عينيها ..يتدفق كأنه يصرخ في نوبة من اشد النوبات يأسا وألما .........
كانت تتكلم بدموعها ..لغة الدموع ابلغ من الكلام ..اشد حزنا واثرا ..فقد تيبس الكلام على شفتيها ..جفّف ينابيعه الرعب والخيبة ..فغدت شفتيها واحة يابسة يترع عندها السكون والذهول .... كان وقع النظرات اشد حزنا وحسرة من الكلام ..واكثر فتكا..وادق واسرع تعبيرا عما يمور في الداخل ...... كانت ترى إلى ملامحي الجديده التي تشكلّت في حربنا في حفر الباطن ..ملامح دميمة مشّوهة شكلتها بشاعة الحرب .ملامح دميمة مشّوهة شكلتها بشاعة الحرب ..ترى الى ملامحي بخوف ...كانت تمرّر عيونها على البقع الأشد تشويها .. تلمس بنظراتها الراعشة ، المحشوة بالخوف اكثر البقع دمامة وتأثيرا في الروح ..فتستعيد خلال ذاكرتها معالمي القديمة ، علامتي الفارقة في زمن الرخاء والطمأنينة...فتنسي إني هو..
وتنذهل من ان الحروب تبدّل ملامح البشر في تغيّر بليغ ...وتجفّف ينابيع الحياة في صحراء الموت والصدىء ...كان فمها ملتما على طراوته ودهشته وصمته ..فبدا في اطباقة الشفتين كخيط معتم جفّف التورّد في خدودها ... في حين كان رأسي يكتظ بصوّر آلاف الأقدام تتناسل عنها ملاين الخطوات تتطوح في فراغات ثم تتلاشى تاركة صدى وقع اقدام يتردّد في فضاء الغرفة ..
امرّر يدي تتحسس الضمادات الملفوفة على الجروح ..كأني امشي بيديّ على الجروح ..
امشي بخطوات رخوة ..كأني ادوس باصابعي بقعا طرّية كالاسفنج ..وانا اختلس النظر اليها عبر يديّ الضاغطتين بخطوات هشّة على الضمادات ..فرأيتها تركض وهي واقفة ..تجري واقفة ..كأنها تحمل بدن غيرها ..بدن ينشر رائحة معطوبة ..رائحة بدن بلا قدمين ..بوجه ملتبس غير منظور فتكت به الذكرى ..
قالت _ : كأني لم ارك من قبل ..،قلت _ : وانا كذلك كأني لم أرني ..كما لو انا احد آخر او
كأني غيري ..قالت __ : وجهك لا يذكّرني بك ، وجه ممحو كأنه فراغ ..قلت _: انا لم ارني منذ عودتي معاقا ..لا ارغب برؤية وجهي بالمرآة ... رأيته مرة واحدة في مشفى الميدان ..
قالت __: وجه يشبه آثار خطوات على الرمل .. وجه رسمته الرمال ..قلت __ : افتحي النافذة ..كأنها مغلقة منذ سنين ..او منذ حربنا ........ قالت __ : كلّ صباح اشرعها باتجاه الريح ..
اقتربت بخطوات ناعمة من السرير ..في حين كان الخوف يزداد شدة يتضاعف مع نمو الاوجاع ..فاشعر بالخوف يقودني من ذاكرتي النابضة بسحر الذكريات .. فاطوف في ارجاء الماضي ... انغرزت نظراتي في سحنتها ... فبدت ليّ إمرأة تتموج في سراب داخن ! ..
كانت واقفة فوق رأسي ويدها الممدودة عبر الدخان الذي غشي عينيّ المترعتين بالدموع .. تتحسس الحمى الموقدة في بدني ..فاحس باصابعها الناعمة تمرّ على الضمادات ........... اصابع متشكّلة من انهيار ...تتلمسني بتمهل ... كأنها تتحسس بحافة ذاكرتها البعيدة ، خطواتي في الماضي
تجري واقفة كأنها تحمل بدن غيرها .



#سعدي_عباس_العبد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثاني عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الحادي عشر . من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل العاشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل التاسع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثامن من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السادس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الخامس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الرابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثالث من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثاني من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الاوّل من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- محض رأي عابر
- منظر من زاوية حادة
- مراثي الامهات
- في تلك الايام .. / مقطع
- معا .. ومعا تماما في المعبد الحرام
- إنهم يقتلون كلّ شيئ
- الله كما رأيته راكبا حمارا ابيض / طفل في ريعان الاوهام
- ما زلنا نتلاشى


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل الثالث عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر