أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل الثاني عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر















المزيد.....


الفصل الثاني عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر


سعدي عباس العبد

الحوار المتمدن-العدد: 4396 - 2014 / 3 / 17 - 15:49
المحور: الادب والفن
    


ثم طلب اليّ أبي ان أبيت عندهم الليلة ، فأعتذرت ..خشيةان يدهم بيتنا لص او يحدث شيء ما .... عدت عند حلول الظهيرة ، سلكت ذات الجادة التي قادتنا انا وأمّي ..إلى بيت أبي ..كنت أمشي بخطوات خائفة اقرب ما تكون إلى الجري منها إلى الخطوات المتباطئة المتمهلة ... تلوح ليّ البيوتات والمباني المهجورة حزينة منكسرة تغط في مجرى من التعاسة وسط ظهيرة غائمة تكتظ بالبرد والسكون ، مازالت البيوتات العابقة برائحة الدفء والذكريات نهبا لعصف القذاف والريح ..انعطفت باتجاه المحطة المفضية إلى بيتنا ..كان دوي الطائرات مايزال يوش في اسماعي لما دخلت البيت ..............

*** *** *** ***** ******

كان النهار مغبرا ، يضّج بحفيف الريح المحومة في اطراف صحراء [ حفر الباطن ] وسحب الدخان تلوح في الأفق البعيد ..دخان مكتظ بالسخام والغبار تحمل رائحته الريح ...
وفي السماء تلوح طائرات ترسم دوائر في الفضاء قبل ان تنقض على مدافع الكتائب المنتشرة في الصحراء .. لمحت إحدى الطائرات تتوجه من الأعلى صوب بطريتنا ..لمحتها عبر كوة في الملجأ ،فوجدتني ارتعد هلعا وانا أرى اليها تنقض ..فيأخذني الخوف في اشد اللحظات رعبا إلى حافات هاوية تلوح لعينيّ عند الأفق المدمى ..فأمتلاء باليأس وانا ارى الى قوس من نار يحلّق فوق احد الجنود الذي كان في تلك اللحظة النابضة بالموت خارج الملجأ ... فترتج اركان الملجأ ..فيهرع الجندي فيلوذ بكنفي ..فنحتمي معا بجدار من الخوف ..نستتر تحت سقف هشّ ..فيما كانت الريح التي هبت لاذعة من ناحية الشمال تحمل رائحة حرائق وحطام وخوف وخراب جعلت تمسح على وجهي المخضّب بالسخام والغبار والأوساخ ، فأرتد للوراء المكتظ بصفوف من الخوذ ، فأرتطم فأرتطم بالجندي فامسك عن الأرتدادثم ارتطم ثانية بالعريف ..العريف الذي نسي ذراعه الشمال في حضيرة 3 وفر هاربا بلا ذراع ناحية حضيرتنا ..التجأ اليّ انا الجندي المخابرة الأحتياط الخاتل في موضع الأسلاك .
ارتعد كأني سأطير من الموت الوشيك ..من الخراب المحدّق بي ..كأني سأحلّق بأخطائي
ونزواتي واحلامي وطيف زوجتي الذي يلوح ليّ عبر ذاكرتي .... وذكرياتي العابقة برائحة الشوارع والدرابين والحانات .وذكرياتي العابقة برائحة الشوارع والدرابين والحانات __ آخ ..لشد ما أفتقدت الحانات ..__ والأنهار ..فأرتج من الداخل رجا ..أرتج مثل اركان الملاجىء الهشّة ... كما لو إني أنسج كفنا من خيوط اسمالي الخاكية الرثة ...
في نور الغروب الفاتر وعند خمود اوار القصف وجذوة الحرائق .. رفعت رأسي في العراء وانا انصت لحفيف الريح يوّش ..فلمحت سائق الزيل ___ يردّد في الريح بنبرة ناقمة ..
: لم يبق احد !! كان يخاطبني ..: الجميع هربوا ... لم يبق جندي ، عدا واحد ما يزال خاتلا في الموضع ... مشينا في الظلام الذي كان يسيل غزيرا قاتما ناحية الجندي الخاتل ..كانت الريح تعوي في اسماع الموتى وتأتي من بعيد بوشيش غامض ورائحة سخام ينأى بنا ..لما عزمنا على الفرار ..... كان الليل في أوّله ..مشينا على مهل وسط الظلام ..
تجرّنا الجهات الداكنة البعيدة ... تاركين الكتيبة والمدافع واكياس التبغ ودفاتر اللف ومعاطفنا الطويلة الرثة وحضيرتين من الجند .. حضيرتين من الجند آثروا البقاء هناك يتضورون عزلة وحصارا وخوفا وجوعا ..تحت سماء من من قذائف وطائرات .. سماء نجومها قنابل مضيئة تدلق نورا مخيفا يسيل في الظلام ..تركةخوذتي الملطّخة بالوحل والغبار تنأى مع الريح ... كنا لوحدنا نحن الثلاثة وسط ظلام مترامي في خلاء فسيح موحش توّش فيه الريح وشيشّا كأنه فحيح الثعابين ..فيشتد روعي ، ويزداد بحثنا في الجهات الدامسة عن منفذ يقودنا صوب ملاذات آمنه ..فلا نرى غير كرات من لهب تتأجج في الظلام ولا نسمع سوى اشتداد حفيف الريح المشوب بأزيز طائرات تحرث في مروقها المدوي الفضاءات السود ..... فتتبدى الصحراء عبر ارتجاجات القذائف اكثر رعبا وظلاما ..
الصحراء التي صحونا ذات وقت ما فوجدنا نفوسنا فيها جنودا شعثين نتراكض في امتدادتها يقودنا جنرلات في مواكب حافلة بالموت والقهر والهزائم والخيبات ، صوب مسالك تنضح حمما زؤام ..فتمتلاء نفوسنا بالكفر والشتائم والبكاء الساكت ..فتتساقط خوذنا في الطريق دون ان نلتفت لفخاخ القذائف والنمامين الناسجين حولنا خيوطا من الضغائن والموت السريع جدا ..تلتف حول رقابنا ......
فتلوح في ذاكرتي ملامح حربنا الأوّلى فتلوح في ذاكرتي ملامح حربنا الأولى ..
وكأني اكتشف خراب طفولتي في حبال البساطيل ..اكوام من البساطيل راكدة ..ترقد وسط منحدرات واخاديد ضخرية ...ملّطخة بنقط موحلة من الدم..فأغرز روحي في حفرة من حفر الخوف والظلام ، وامكث مرتعدا اترقب شبح الموت عبر ذلك الخندق ....
فألمح جنودا من الفيلق الثاني تتعقبهم غربان تحلّ في فضاء من سخام ودوي .... فأثب في خطوات متلاحقة إلى الضفة البعيدة ..فألوذ بكنف اللاجدوى ...................
ذاك زمان ولى ..اعطاني ظهره وولى ..بكامل سنينه الطاعنة بالنسيان والرماد........
كم خريفا مرّ على غيابه ..؟ على انطماره في مدافن الذاكرة ..لا ادري ..كما لا ادري كيف وجدتني اعود ثانية لحرب ثانية ..
لقد مرّت سنوات قاهرة حافلة بتلك المرارة التي تحفر عميقا في الروح ..على إختفاء رياح عبادان والمحمرة ومهران ومرتفعات بنجوين وسوسن كرد وديزفول ...... ولشد ما يدهشني أن اتشمم زفيرها في حفر الباطن والكويت والمطلاع وشارع السالمي والجهراء وعلى مشارف الخفجي ..........................................
مازالت الجهات الداكنة تنأى بنا ... مرّ على فرارنا من الكتيبة شطر طويل من الليل والبرد والخوف والأشباح والقصف والتيه والنكد والقهر والكفر والشتائم ! حتى بتنا على مشارف
[ الغبشة ] التي عرت عبر انسفاح نورها الخجول الفاتر ملامح الصحراء ..أراعني التيه الذي وجدتني اتلاشى في اتساعه وما ان اشتد نور الغبشة وسال في انسكاب غزير وبانت السماء مضيئة ..حتى لاح لعيوننا ذيل طويل ناصع البياض يقتفي أثر مؤخرة طائرة ، تبان بحجم الكف من بعيد ..
طوينا مسافة طويلة من العذاب والأنهاك والوقت والعطش ..دون ان يلوح ايما ملمح او أثر لشارع السالمي ..
قبل ان نفر ، قيل لنا اياكم ان تنعطفوا [ يمنة .. يسرة ..] سيروا إلى الأمام ، عدل ... قيل لنا قيل الفرار . إياكم أنّ تنعطفوا ..
[ يمنة ...يسرة..] سيروا للأمام [ عدل ] ..وسوف تلوح لعيونكم معالم شارع السالمي المقفر طوال وقت الخفارات الجوية المعادية ...... فالطائرات هناك سترونها تملاء السماء ..
كان سربا من طائرات الشبح يحلّق فوق رؤوسنا ..جرينّا ناحية كثّيب رملي ..احسست
برطوبة الرمل تتسرب باردة تحت عجيزتي وتنفذ لاذعة إلى عظامي ، فتضاعف من برودة هواء الصباح في بدني ... تذكّرت [ قمصلة الفرو الروماني ] التي تركتها في الملجأ مع كيس [ ألتتن ] ... رفّ بسمعي ارتجاج دوّي بعيد فهوي رأسي على حديد البندقية البارد
التي سوف أتركها وسط الرمال ، سأتحرر من ثقلها وسأغدو خفيفا . سأكون حرا !! وانا اشق طريقي بهذهِ الأسمال الرثة منعتقا من أوساخ الجندي ! من اثقال الحرب ... !!
وحين سادخل غرفتي هناك في الضاحية أوّل شيء سأفعله ان اقمّط بدني بدثار ثقيل . أتمدّد بكامل طولي واوساخي ورائحتي الصحراوية تحت الغطاء او الدثار الثقيل ..سوف لن اري سوى الظلام والصمت ، واغط في نوم مديد ! وسانسي في خدر النوم وانا اتوغل في مسارب سبات طويل !! اسمال الجنود ، اقصد تلك الرائحة التي لا شبيه لها !!
الرائحة العابقة بنكهة ما ، اقرب ما تكون إلى مذاق الدم المتخثر في الفم !! وسوف لن ارى خوذا تتدحرج ..وابدان موقّدة تتفحم في حرائقها ...
وعندما اصحو من النوم . لن التحق لأي حرب ،يدعونني اليها ..حتى لو احتشد عند باب بيتنا ، مئات الرفاق من الفرق الحزبية ..سأصم اسماعي ولن اسمع هتافاتهم الملوّحة بالتهديد ..التهديد بالاعدام ...ولكن ماذا لو قطعوا صيوان الأذن ..فليفعلوا ما يشأون لن التحق لاي حرب ...
تخيّلت نفسي وانا امشي في الشوارع بلا أذن .تخيلت نفسي وانا امشي في الشوارع بلا أذن ..فأصابني الذعر ، وتخيّلت زوجتي تهوي برأسها وبشعرها الطويل المحلول الفاحم إلى الأرض ..وهي ترى غلى أذني المحزوزة او المتجزئة او المقطوعة وتجهش في بكاء ملتاع .فتأتيها مئات الاصوات الساخطة الناهرة ..تتدفق من البزات الزيتونية ..تهتف بوجهها صارخة ناقمة ... فألمحها تجري مذعورة متعثّرة بخوفها واحزانها إلى الباحة المكتظة بعويلها .. الذي سوف يأتيني عبر آلاف الجثث المتحللة في البراري .. اسمع هتافها النابض بعاصفة من الحنان والمفعم برائحة ذكريات مازالت طرّية ...........
ولما افقت من شرودي ، كان نور النهار يتبدّد حيال حشود الظلام الزاحفة عند حلول أول الليل الذي طفق ينشر عباءته الحالكة على حبل الفضاء في الصحراء المترامية ..يسيل ظلامه داكنا على الجهات التي اغلقت منافذها وغطت في سواد مريع ...
توغلنا في المدّيات نتعقب آثار الهاربين من الجبهة ممن سبوقنا في طريق العاصفة .. نقتفي آثار رائحة اسمالهم ورعبهم ... فأشمّ رائحة صدىء تأتي بها الريح .. تنبجس من مسامات الظلام العابق برائحة قذائف بائده ! .... تعود بذاكرتي للوراء ،لركض بين خرائب الدخان القديم والافتات السود التي شاعت إبّان ذلك الوقت ...................
مازال شارع السالمي المتشح بالسواد ، ينأى كالأحلام المستحيلة .. فأعدو متخبطا مشدودا إلى حبل من الأشجان والذكريات ... وهبوب الريح يشتد ، ينؤ بالبرد ..ويلتف على قدميّ ويطيح بي ،فأتكوّر في الليل واتساوى مع الظلام وأمسي جزءا من سواده
فاسمع صوت احد الجندين يطلب إليّ النهوض ، ثم نسمع معا هدير يتصاعد في الظلمة القاتمة .. فنجد ارواحنا ترتعد في المساحة المضيئة التي فاضت في النور المندلق من القنابل المضيئة المتدفقة من الطائرة .. والتي بدّدت جزءا من الظلام عبر النور الاصفر المنصب على رؤوسنا ..فأخذنا الخوف ...
فلاح عبر ذاكرتي حشد من الجنود القدامى في حربنا الأولى فتخيلّتهم ينهضون فلاح عبر ذاكرتي حشد من الجنود القدامى في حربنا الأولى ... فتخيّلتهم ينهضون من رماد البراري الغاربة ... خلتهم يلوّحون ليّ عبر خوذهم ..... كأنهم يدعونني للألتحاق في موكبهم الرمادي الذي باتت تفصلني عنه سنوات من السخام والدخان ... فأنحسرت المسافة كثيرا حالما هجست بايديهم المشّوهة المدماة تمسح على شفتيّ اليابستين ... رأيت ملامحهم المتفحمة تنشر رمادا متأججا ينسفح على ذقني النامي فتحيله إلى بياض ناصع فيلتمع في الظلام البرّي
في اللحظة التي كدت التحق فيها إلى موكبهم الرمادي ..تصاعد وشيش في الضوء الذي لم يخبو بريقه ... وتدفق صفير لاذع خفق في الريح ..فرأيت السائق الزيل [ ش ] من بعيد من وراء كثيب رملي __ كنا تشتّتنا اثناء الغارة __ يهوي بكامل اسماله المدماة فوق الرمال المضاءة بوهج ساطع يندلق من الطائره ..فاعترانا خوف شديد للغاية ، فجرينّا تاركين سائق الزيل يتفحم على الرمل ...كما لو كنا نجري منذ سنين طوال ! تحت سماء واطئة تشّع في اوقات متباعدة بريقا مذهّّبا ! ... كأننا نطالع اسلافنا _ ونحن نجري _ قبل ركام مهول من سنين خلت ! يمرقون الآن تحت سماء من حديد ...... نجري في ليل مدلهم يرشح بردا رطبا ينغرز في ظلوعي كدبابيس لاذعة .......
يمرّ وشيش الريح رخيا على اسماعي كفحيح افاع يتدفق من اغوار الظلام ..بقينا معا انا والجندي التركماني ..بعد ان فقدنا الجنود الاخرين في خضم المعمعة والموت ..بقينا معا محمولين على اكتاف من الخوف والريح والوجع والألم ..نشخص ابصارنا في المدى القاتم
كأننا نرنو منذ سنين متلفعين بتلك الأسمال الترابية التي عبأوا فيها ابداننا عبا ..
كنت اتقوّس وسط الظلام فيما كانت ذاكرتي تخوض في برك طفولة آسنه خضبّها العوز بعصير المجاعة المجفّف ...
جعلت انصت لنداء مشوّش يأتي من غور ناء جعلت اتنصت لنداء مشوّش يأتي من غور ناء .. يتدفق من اعماق تلك الطفولة المقفرة ... فيشتد جريان ساقيّ ..فلم يتسنى ليّ معرفة ماذا يقول صاحبي الجندي التركماني ..كان يعدو جنبي ..يجري مثل حمار هرِم ..
لم يفصل بيننا سوى حاجز من الموت ... فأستعيد خلال ذاكرتي المستلبة ! كلاما تلاشى في وشيش الريح : كلهم ماتوا ..قضوا ..او سيموتون ..، فاستدير برأسي الخاوي .. كان غارقا في الظلام ..او كأنني ضرير ، مصاب بالعمى فلم اره ، مد ذراعه في الظلام وأحاط كتفي برفق ..وطلب مني ان نستريح __ كانت الطائرة قد تلاشت __ قال ذلك بنبرة لاهثة ممدودة كالعواء المتدفق من كلب مطعون بانصال من الجوع ..تحسست بدني وانا اجري ..فارتطمت اصابعي بانتفاخات واورام نمت في مساحات متفرقة من جسدي ..نبتت في البقع الاكثر هشاشة وعند المساحات اللحمية الرخوة ...
ليس بوسعي ان اتصّور المدى الصحراوي الذي طويناه عبر مسيرتنا العصيبة ................
مدى تركناه يتراجع خلفنا بقوّة متلاحقة .. فكّرت بكل تلك الساعات المديدة الثقيلة العابقة برائحة هزيمة نفاذّة لا زالت تنمو في مساحة قاتمة من روحي ...
منذ يومين لم نر غير سماء تنحسر فوق رؤوسنا .. لم نطالع سوى الأمتدادات الشاسعة تتسع وهي ترتد صوب الملاجىء التي تلاشت في المدّيات او تهشمّت ، تحت سماء من البساطيل المحلّقة في ظلام لا يمسه سوى لهب متقد ينبجس من فراغات تلوح من هذا البعد كنجوم شاحبة خامده ...
لا أتذكّر كيف ومضت في ذهني فكرة الفرار ..برقت .دون تمهيد ..بيد إني شعرت على نحو ما ..ان الجميع كانوا يتهيأوا لذلك الامر ..لكنهم تخلّفوا ..كنت اطالعهم مذعورين ..ينقبون في رؤسهم الخاوية عن ملاذات تقيهم انهيارات الوقت الحرج المشلول النابض بالتوجسات والمتلفع بوشاح من الخوف ... عن ملاذات آمنه تقيهم انهيارات الوقت الحرج المشلول ! النابض بالتوجسات والمتلفع بوشاح من الخوف الذي شرعت رائحته تشيع مخلّفة صمت مهول يملاء الاأفواه المطبقة على خيط رهيف من مرارة لاذعة ، يلتف
على الروح المهيآة باستمرار لأنهيارات تترى ! كانوا يترقبون بكامل حواسهم المضغوطة ، يتنصتون لأدنى نأمة تند عن احدهم ... كان الوقت ينؤ تحت اثقال من الرعب ، يمرّ لزجا مضمخا برائحة رماد يضوع هائجا ، كنت أرى اليهم كأنهم مسمرين على حافة هاوية . ينتظرون اللأحد ! اتشمم زفير الأنهيار يفوح من اسمالهم المعفّرة بالغبار ... ومن اعماقهم المطبقة على شعلة من ذكريات ستخبو في لجّة من الحطام .. يترامقون وجلين كأنهم يترقبون احدا يومىء اليهم بذراع الهزيمة ! ..كانوا خائفين من كلّ شيء ! حتى من النفاذ بجلودهم او حتى من نفوسهم !! ..كانت أي إشارة من أي أحد كفيلة بأنتشالهم . وأعطاء ظهورهم ونفوسهم للمدى الداخن ...
لم تمسك الغيوم التي بلون الرماد والمشّربة بالرذاذ الحديدي والصدىء عن الأرواح والملاجىء ......... رأينا في المدى القريب هبوط القذائف وهي تحرث الهواء ..تندلق على مهل !! عبر شق غامض اسفل الطائرة ..في خضم ذلك الموت ، لم ننتظر ، فجرينا بكامل رعبنا .. كنا لما نزل مفروشين على الرمل لما لمحنا طائرة تحلّق على ارتفاع خفيض ..كانت قوانا تتبدّد متباطئة ، هذا هو اليوم الثالث من دون ان تبان ملامح شارع السالمي ..
او تطالعنا أيما علامة تشير إلى اقترابه من اقدامنا المكّبلة بالأورام والأنتفخات والدمامل ..
أنموت هنا ..؟ ننفق وسط هذه المتاهة او التيه . من دون ان نرى شارع ، شارع الخيبات .
والأحلام المقبورة ..أ أموت وسط المتاهة من دون ان أرى زوجتي للمرة الأخيرة ...
من دون ان احتفي بتلك المسافة التي ستغدو . من دون ان احتفي بتلك المسافة التي ستغدو علامة بارزة تكلّل مسيرة عمري الشقي بتيجان من الخوف والخيبة ..كأني بت خارج عني .!.. أنظر عبر كوة في جدار طفولة موغلة في البعيد ...فتطالعني تلك اللحظة الصحراوية ..كأنها تنبثق من الوراء البعيد ..او كأنها مكثت مئات السنين تتشكل حتى باتت كذكرى شاحبة !! عالقة في ذاكرة الصحراء التي مازالت رمالها تمسك باورامي ويديّ الممدودتين كشيء فائض !! ... أنصت لأنين الجندي التركماني __ هكذا كانوا ينادونه في الكتيبة ..الجندي التركماني __ الأنين الذي امسى فاترا يتبدّد في الريح .. اسمع بقايا نثار صوت يتدفق واهنا ... فامتلاء برغبة عارمة للبكاء .... رغبة مذبوحة من الوريد للوريد ..تمتد من ظلام الرحم حتى ظلام الصحراء ..تتفجر من غبار الطفولة ..تتصاعد من فضاءات الأزقة الحافية الموغلة في الفقر والحرمان .. تنضح من رطوبة جدران الغرف الباردة والمتصّدعة ..ومن النوافذ الصدئة ..تنبع من اغوار اليأس المداوم على ثلم قلوبنا الخافقة برياح من البكاء والشكوى المزمنة ....
كانت الرمال تنشر رائحة رطبة لما رفع الجندي التركماني رأسه ووجدني اجهش بالبكاء ..
فاطبق على شفتيه واستوى واقفا ومد ليّ يده عبر الظلام وسحبني برفق وهو يهتف بنبرة مفعمة بالفجيعة والأنين والظمأ وبقايا بكاء ..ويبوسة لحست شفاهنا رغم البرد
_ : لا اظن سننجو من الموت ..، ثم عصفت بلسانه عاصفة من السكوت .. نشرت الرمال رائحتها مجددا كأنها تضوع من زفيرنا المشّبع بالعطش .. كان الوقت يرتد بقوّة لما لاحت طلائع [ الغبشة ] ولأول مرة اشعر إني بحاجة شديدة للطيران ...اطير هناك عند فضاء البيت .ولإوّل مرة أشعر إني بحاجة شديدة للطيران ! للتحليق هناك ...أحلّق هناك عند فضاء البيت المستكين لطمأنينة حميمة أليفة ..
مازال نور الغبشه يتتّشكل متدرجا متباطأ ، مبدّدا قوّة الظلام ..لما لاحت لعينيّ معالم شارع السالمي ..بتنا محاذاة حواف الشارع لما تناهى لأسماعنا صوت سيارة عسكرية يأتي من بعيد ، فوثبنا وسط الشارع نلوّ ح بايدينا عاليا في الهواء ..في النور الفاتر ..حالما توقفت السيارة __ كانت سيارة تنكر لنقل المياه __ امتلكتنا خفّة مباغته وسرعان ما قفزنا الى الداخل جوار السائق الذي بادرنا بنبرة ناعسة __ : إلى أين ..؟ قلت __ : أي مكان خارج الخراب ..خارج حفر الخيبات او الباطن او الصحراء ..قال __ : لا اذهب ابعد من المذخر ..ثم اضاف ساتوقف هناك ..وسوف ترون اعدادا من الجنود الفارين كما انتم ..من حفر الباطن .. كل يوم عند الفجر اراهم في تزايد مستمر ..اراهم منتشرين هناك عند المدخر ينتظرون سيارات تقلهم إلى [ الدريهمية ] قلت __ : أترى ذلك كل فجر ..أجاب __ : منذ قرابة عشرين يوما او نحو ذلك .. ابصرهم يتكاثرون مندفعين من عمق الصحراء ..
تصوّر حتى الوحدة العسكرية التي انتسب اليها ..لم يبق فيها إلا اعداد ضئيلة من الجنود هم كذلك في طريقهم للفرار ...كلّهم هربوا ... ثم استدار برأسه وعاين عبر النافذة المشرعة وقال __ : انا ايضا سوف التحق بالفارين .... منذ أمد وانا افكّر بهذا الامر ... أأنتما من الجنوب ..قلت __ : كلا ..من مدينتين متباعدتين ..
كان الظلام يتفكك او يتحلل تحت ضغط طلائع نور الفجر لما لمحنا ارهاط مشتّته من الجنود يلوّحون للسائق الذي توقف فترجلنا ..توجهت من فوري إلى المذخر ، كنت جائعا وهناك ا . فتوجهت من فوري للمذخر ..كنت جائعا ... تناولت صمونتين وانا امشي خارجا من المذخر ... جعلت ابحث عن صاحبي الجندي ، فلم أره ، لا ادري اين اختفى ؟ ...ألوف الجنود يمرّون مواكب تترى يشقون طريقهم في الصحراءمتوجهين صوب القرى والقصبات الحدودية ..كان الفجر لما يزل ينشر نوره في التيه .. لاحت ليّ امتدادات هائلة من الصحراء تنكمش وتتضائل للوراء تتوغل في آماد بعيدة ... كما تلاشت تموجات رملية ...
وهناك عند المدى الغارق بنور فاتر ، بانت اشجار قاتمة __ هكذا تبدو للرائي من بعيد __
شاخصة اسفل افق ناء ، قادتني اليها ارض رخوة لينّة ممسكة بسجاجيد خضر من العشب يتوهج في ضوء الصباح الذي لاحت طلائعه مشّعة نورا غزيرا يتدفق على مهل ويسيل ناعما على البقاع المعشوشبة المفروشة تحت قدميّ المعبأتين داخل بسطالين تفتتا ..لم اكن أرى غير صف من اشجار مقوّس جعل يدنو متباطأ ، كأنه __ في اقترابه المتمهل __ يحلّق باجنحة عديدة خضراء !! بيد ان الجذوع تتبدى كما لو إنها تتفحم ! او تعوم في ضباب اسود قاتم ! يرتعش في عينيّ ... او كأنها تطفو راعشة على سطح غائم رجراج ! ..وكما لو شكّتني دبابيس لاذعة ..هجست بألام موجعة تنبجس من قدميّ المتورمتين المنفخوتين بأورام رخوه .. فجعلت امشي او ادرج ببطء شديد للغاية ..فيما كان رأسي يضّج بدويّ لصوّر التقطتها ذاكرتي إبّان فراري ... فبدت المرئيات متخيّلة تتموج في عينيّ وانا ادرج اشق ليّ ممشى وسط بقايا نباتات بليلة تتعقبني آثار دوي ناء ..موغل في آفاق مخيفة ....... وفي رأسي تكتظ اصوات أنين وصراخ خافت ينبجس من افواه جنود مكمّمة بوشاحات من اليأس والوجع وبكاء مشرع على مرافىء صدئة ..نابض بالشقاء والأنهاك ..وبدموع محمولة على حفيف الريح , وبدموع محمولة على حفيف الريح ، ..
كان الطريق يخلو من العجلات والجنود الذين تشتتوا في الخلاءات ..اذ كان هدفا في متناول الطائرات الخافرة في الصحراء ..توزع الجنود وسط الصحراء في انتشار ثلل وارهاط وافراد متباعدين ...كانت الشمس قد هطلت دافئة تتحسس عبر اصابعها المضيئة رأسي الحاسر تمشط خلال شعاعها الناعم شعري النافر كنت اتأرجح متمايلا في المماشي البليلة اقتفي آثار محفورة وسط البقاع الرخوة ..آثار من سبقوني في الفرار ...اتأرجح كشراع يخفق في عاصفة ..تحدوني قوّة خفيّة لبلوغ ذلك السياج القاتم من الاشجار ..
التي كانت تقترب متلهفة ! بكامل اخضرارها ... فأشعر بطمأنينة تحفر عميقا في روحي تنمو كلما كانت الأشجار تدنو ... تنمو بكّر اقتراب الأشجار التي سوف تبدّد في اعماقي المتصحرة اليبوسة اللاذعة ...
لشد ما اشعر الآن بكل ما مررت به خلال النهارات المنصرمة المتشّكلة من انهيارات وظمأ .
امشي وحيدا مثل كلب ضال ! وسط اهوال مريعة ..انا نفسي لا اصدّق إني مررت بها ...
ولا اريد ان اصدّق ... فقد آل كلّ شيء إلى خراب ..... حتى لم يعد هناك متسعا لمزيد من الخراب القادم ..بدأت مرحلة الخراب من أوّل الدوي ..من أول قذيفة اطلقتها الطائرات ..
حتى لم يعد احد يسأل عن احد !! كما لو إننّا في وقت الحشر ! ... فوجدنا احلامنا عالقة في رباط البساطيل ! بساطيلنا الممسكة بالمسافات المفضية للمدن القابعة في احواض من الخواء .....
كلّ ما مرّ كما لو كان محض خيال ... صوّر من افلام حربية ..محض خيال ..يهوم في ذاكرة مدن متداعية مفعمة برائحة بداة
كانت بقايا اصداء الدوي ما تزال تتصاعد في ذاكرتي لما تراءت ليّ عناقيد تشّع اخضرارا مضيئا , كانت بقايا اصداء الدوي ما تزال تتصاعد في ذاكرتي لما تراءت ليّ عناقيد خضر تشّع اخضرارا مضيئا ينتشر في شعاع الضحى المشدود لعين الشمس ..اخضرار تحف به مساحات ظليلة رطبة تختلج في جنح الضحى .. تملكني إحساس بالطمأنينة ..وانا اشعر بكل ذاك الهيجان المتخم بالرعب والقصف قد تلاشى ........... تصاعدت على مقربة ، رائحة اشجار متفجّرة في الهواء المظفور بوشاح داكن الخضرة .......... كنت امشي في الظلال اسفل الأغصان المكتظة برفيف اجنحة طيور متصل ..يحوم في الفراغات الفاصلة بين قمم الأشجار ... التي خلفّتها تتراجع حالما طالعت رفوف ساكنة من جدران طينية تقترب من نور الضحى ..كحائط طويل ، بدّد آخر بقايا الرعب المرين في روحي ... سحبتني الحجرات الطينية المتجاورة ، كعلب بنيّة متراصة عبر اقترابها الحميم من قدميّ المتورمتين .... فأمسك بي خيط من طمأنينة راح يلتف على قلبي الخافق برفيف البهجة ... فطفقت أجر قدميّ مترنحا كأني اخوض في بركة من الوحل اللزج .......... فأيقنت إني بت خارج مدى الخراب المعرش في مطحنة الصحراء تملكتني غبطة آسره حالما تناهى لأسماعي ثغاء ماعز !يتصاعد خلال فضاءات الطين ..
فشاعت في روحي رائحة ألفه حميمة مفعمة بذكريات طفولة ..................
أعلى قمم الحيطان ، عند الفراغ المتألق باخضرار متوهج .. انبثق رفيف اخترق الفراغ وهو يختلج في الهواء ... فلبثت مستكينا لفيضان الرفيف ..أرى إلى الفراغ الظليل .. الذي بدا اقرب ما يكون إلى حلم بهيج يبزغ من اغوار الظلام ... فطنت إلى إني ما زلت متسمرا في موضعي لا ابدي حراكا ..كما لو ان قدميّ علقتا في شرِاك ، حيال التشكيلة الطائرة الخافقة المستكينة لطمأنينة يشيعها نور الضحى



#سعدي_عباس_العبد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الحادي عشر . من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل العاشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل التاسع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثامن من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السادس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الخامس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الرابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثالث من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثاني من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الاوّل من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- محض رأي عابر
- منظر من زاوية حادة
- مراثي الامهات
- في تلك الايام .. / مقطع
- معا .. ومعا تماما في المعبد الحرام
- إنهم يقتلون كلّ شيئ
- الله كما رأيته راكبا حمارا ابيض / طفل في ريعان الاوهام
- ما زلنا نتلاشى
- مرثية / ا / 2...


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل الثاني عشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر