أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل الثامن من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر















المزيد.....


الفصل الثامن من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر


سعدي عباس العبد

الحوار المتمدن-العدد: 4394 - 2014 / 3 / 15 - 19:58
المحور: الادب والفن
    


كان يخطو على اطراف اصابعه نحو المعاق او الجنديّ المعاق او زوجي ، لا فرق ..الذي خيّل ليّ انه ما زال يخوض غمار ظلام برّي ...
ظلام من خرابات متوالية ... عاد _ م _ وهو لا يزال يتلفت قبل ان تستقر عيناه على صورة الجندي المعاق . المعلّقة أعلى الجدار فوق النافذة ... كانت الصورة قديمة تعود لأيام حربنا الأوّلى .. قبل زواجي منه . جلبها مع مقتنياته العديده الى عش الزوجية ..علّقها في الصالة فبقيت عالقة منذ ذلك اليوم البعيد في ثبات راسخ على إحد الجدران ...
رفع _ م _ بصره ناحية الصورة كما لو يراها للمرّة الأولى ..فظل مشدودا اليها وللمرتفعات التي تبان واضحة في الصورة ..المرتفعات المخضّبة سفوحها باخضرار باهت يندلق اسفله ركام ناصع من الثلج المشّع بياضا في انحداره البطيء للاسفل المشغول فضاءه الساكن بمكابدات جنديّ شاخص اسفل المرتفعات مغمور بفتائل او ندف من الوفر الذي محا علامته الترابية او الكاكية بوهج فضّي يلتمع في نهار مشمس ..فبدا كما لو انه جزء حميم من السفوح البيض المحلّقة على ارتفاعات محنّطة اعلى راسه المغطى بقبعة من الثلج .. لما اشاح _ م _ عينيه عن صورة الجندي ، طالعه وجهه في المرآة كأنه مغمور بنثار اعشاب بريّة مجفّفة غير منظورة ..لمحت وجهه يحدّق فيَّ وانا مكوّرة كتلة هائجة من اللحم الطري النابض بالاغواء متراجعة بظهري للحائط الساند كتف _ م _ ..كنت اغرز عينيّ المفعمتين ببريق الرغبة في ظهره والمتلاشيتين في جانب المرآة المشطورة ...
فيما كانت صورة الجندي المعاق غاطستين في عمق المرآة ... تلوحان لعينيّ في الجدار . في المرآة كأنهما تبحثان عني .... عن ذكرى ما ..افتقدها في البراري ..ذكرى شاحبة موغلة في مجرى عميق من المكابدات .ذكرى شاحبة موغلة في مجرى عميق من المكابدات ... ذكرى اهاجها جسدي في ذاكرة الجندي القابع في الصورة ..في حين كنت ما ازال المس بعينيّ وجه _ م _ فينكىء صدره العاري اوقات قاتمة من الجفاف المعرّش في ثدييّ الطريّين ..اوقات جدب مفعمة بالتأوهات المخظّلة بالدموع ..دموع حارّة منسكبة على الدوام ............ طوال مدّة غياب الجنديّ في عوّقه ...... طوال انشغاله بمحاولته العقيمة ............ طوال مدّة يأسه واصابته باللاجدوى ......
رفعت عينيّ عن المرآة فطالعني _ م _ يتملى الفراغ المحيط بنافذة زوجي في الجانب الاخر ...... فجعلت ارى الى تفاصيل جسدي المنطوي على اعماق مهشّمة .......
قال _ م _ وهو يرنو الى الصورة __ : كم يبدو محطما ....... قلت _ : منْ ، قال بنبرة تشي بالأنكسار _ : ذاك..الجنديّ القابع في الصوره ... اسفل مرتفعات الثلج .. قلت _ : آه.. زوجي ..كان في وقت ما.. ملاذي ...اتدفء بكنفه .. وانشر رائحتي الفائرة على جسده المفعم بحمى الرغبة ............... كان ذلك قبل ان يصاب في الحرب .... لا اعلم كيف حدث ذلك ..كان يقول ليّ ابان اشتداد اليأس في الايام الاولى على السرير ، انا رجل لا يصلح لشيء ! خرّبتني الحرب والبراري ...بيد إني لم أره منذ ذلك الوقت يدخله في احشائي ... تصوّر منذ ذلك اليوم ! او منذ اصابته في الحرب ... كان _ م _ يتملى وجهي المخضّب بالدموع يبحلق في خدودي المضّرجه باحمرار خفيف ... افردت ذراعيّ في الهواء وعقدتهما خلف رأسي فانسفح شعري الفاحم على عينيّ ..فبدا ليّ _ م _ كأنه يغرق في ضباب اسود .فبدا ليّ _ م _ كأنه يغرق في ضباب اسود متموج في الفراغ ..أزحت الخصلات المسدولة على عينيّ ، فغمرت ثدييّ النافرين اللامعين عبر شق مضيء يشطر أعلى صدري لتفاحتين رطبتين تشّعان بياضا متموجا مائعا ريانا طرّيا بلون النهار! ..ليس هذا النهار ...بل كان نهارا فضّيا متأججا كأنه ذلك النهار الموغل في مجرى ايام الجنديّ الأولى الضّاجة بفحيح لافح لاهث حارّ..نهار مفعم برائحة زفير لزج واعشاب بريّة وازهار ..رائحة تتلاشى منذ وقت بعيد تحت سماء من الجدب واليأس والصدود ... ايام تفتّت تحت سقف من الكراهية والنفور ..كراهية تحجب عني رؤية ملامح الجنديّ المعاق ..فأراه كأنه غاطس في مستنقع تغمره طحالب متماسكة ، كأنه يترسب في قعر بئر ...أراه على الدوام مهيأ للأنطمار تحت ركام مهول من الرماد المنتشر وسط فراغات ........... كنت اجاهد ضد مجرى الرماد باستمرار __ الطافح بأنين يخفق في ذاكرة الجندي _ الذاكرة التي امسكت في وقت ما ، من اوقات الحرب اطرافه السفلى عن الحراك تماما . حالما اخترقت عظامه شظية انغرزت عميقا اسفل ظهره ..حدث ذلك عند عبور الجسر ... وقبل ان يلتقط خرابه او انفاسه الشحيحة .. كانت قد نبتت اسفل ظهره نتؤات من نثار حديد لاذع كدبابيس متقد ..
تطلع _ م _ إلى وجهي المشّع في النور الوفير ...وانا ما زلت سانده ظهري للجدار ..شارده في تيه ..كأنني لا اقوى على الخروج من بوابة رغبتي المحمومة ..المغلقة على نداءات خفيّة تختلج في بدني ..في يديّ في نظراتي اللامعة بنداء فاتر .نظراتي اللامعة بنداء فاتر ... نداء تفضحه عيوني العاكسة ما يمور بداخلي من ارتجاجات ترّف باجنحة توق حميم لملامسة الجسد . لشم رائحته ..
كان _ م _ ذاهلا كأنه لم يفطن لذاك الصراخ العارم المتدفق من عينيّ ..من ملامسة يدي ..كأنه لم يتنبه لتلك النداءات المتوالية . كأنه غاط في شرود ..لم يسمع ذاك النداء الضّاج بالتأوهات إلا في وقت متأخر كان زوجي فيه يطلق سعالا محشرجا طويلا ياتي عبر النافذة فبرق في ذاكرتي على الفور طيفه وهو يعبر جسورا من الخراب والعوّق والندم ..
يعبر مرّة واحدة غير مكررة ..مرّة لا يعود بعدها للعبور ابدا ..فخيّل ليّ جسده كأنه هو الجسر تمرّ فوقه اقدام مدماة ثقيلة ..تمرّ فوقه كتل من رماد .. ارهاط من عظام هشّة ومن اشباح ..او بقايا جنود يحيطونه بهالات مهولة من ظلام ومن رواح نفاذّة تفوح من احلامهم الميته ومن خرابهم وذكرياتهم وابدانهم ...........
ولكني كنت لا ازال اتلظى في موقد الرغبة ..كأني اغوص في حوض هائل من الرغبة ..
فينحسر ثوبي عن فخذيّ المنفرجين على مهل ..كما لو انشر طهارتي على حبل _ م _ على حبل من الأنتهاك ..أروم جذب _ م _ بخيط من الاغواء ..ولكنه كان مشغولا بمعاينة النافذة والانصات لسعال الجندي المصاب في الحرب ... الجندي الذي ما زالت تتوالى عبر ذاكرته اشباح جسور وجنود ..جنود بأذرع رمادية تجوس في فراغات قاتمه . تشغل مساحة مروعة من ذكرياته التي ما زالت تمسك بتلابيب حاضره المفتّت . قلت بنبرة فاترة _ : تعال واومأت بيدي ناحية البساط المفروش كأني اومأ صوب سريري المشغول منذ امدّ عصيب بمساحة مقفرة من جدب وجفاف .كأني اومأ ناحية سريري المشغول منذ امد عصيب بمساحة مقفرة من جدب وجفاف وما زال معرشا وسط فضاءه الناعم .. واضفت اخاطب _ م _ هذه المرّة بنبرة خافته يشوبها التضرع والرجاء __ : سوف تكون مبتهجا معي ... او
سنكون نحن الأثنين مسرورينَ معا على البساط ومن دون ان التفت لما يجري هناك وراء النافذة ..جعلت ارسل لشفتيه المزمومتين المطبقتين على صمت متوتر قبّلات ساخنة عبر الهواء.... قال _ م _ _ : كلا ... لا استطيع الآن ان افعل ... فلنرجىء ذلك لوقت آخر ..ستأتي أمّكِ ..انها طلبت أليَّ ان لا اغادر . قالت ليّ مشوار واعود في الحال ............
فوجدتني اطوّق رأسه بذراعيّ وامسح على فمه بشفتيّ وألثم خدوده ..فخيّل ليّ وانا افعل ذلك إني اسمع صوت نشيج طاعن بالذكريات يتصاعد عبر نافذة زوجي .. فتحيط عينيّ غلاله من ضباب انتشرت عبر المسافة الممتدة حتّى تخوم النافذة .. المسافة الحرجة الملغومة بالأرتياب ... فبدت ليّ النافذة كما لو انها تغرق في بركة راكدة من دموع مشرّبة بأنين خافت يتصاعد متدهورا منهارا عبر حاجز الضباب ...
أنين فاتر كأنه يتدفق من الجندي المعاق الرث ..كأنه ما زال متلفعا بضمادات مستشفى الميدان او ضمادات مستشفى المدن التي افعمت انفاسي في ذلك الوقت برائحة لزجة ..
كما لو انها تنتشر الآن ..في فضاء الصالة .. فتذكّرني بالعجز الذي اتلف قوى الجندي الذكورية وبدّد المساحة الخصبة في بدنه .بالعجز الذي اتلف قوى الجندي الذكورية وبدّد المساحة الخصبة في بدنه ..قلت اخاطب _ م _ : أ تشعر بشيء ما ...، لم يقل شيئا كأنه لم يسمعني ..كأن صوتي يأتي ..من بعيد ! ...كأن صوتي لم يكن سوى صوت الجندي يتدفق عبر مدّيات مهولة موغلة في العقم واللاجدوى ...ثم تدفق صوتي هذه المّرة قوّيا ...فشعرت كما لو إني اصرخ في بريّة ..حتّى إني سمعت صداه يتردّد في الفضاء ، يرتطم بجدران الغرفة ...
رأيت _ م _ ينهض مسرعا ويخطو ناحية نافذة الصالة المطلّة على الخارج ، فاقتفيت أثره ..
كانت الريح تهبّ عبر النافذة التي لم اغلقها ..تركتها مشرعة للريح والشعاع الفاتر المشوب بغبار راكد مطبوع على زجاج مستقر في قعر سكون عميق كما لو ان يدا لم تلامسه منذ أمد بعيد ... كانت بقايا صوتي قد تركت بقايا طنين ما يزال يوّش في اسماعي وكأنه يترسّب في الأشياء الساكنه ..يعلق في زجاج النافذة .. حتى راودني إحساس ان صوتي الذي يشابه صرير باب عتيق تعبث فيه الريح ..لابد ان اشاع في داخل _ م _ اضطرابا ما..او ذكرى ما ..فقد رأيته يتلفت مذعورا ..كما لو فاق من حلم مخيف ..
ثم ما لبث ان تصاعد صوتي جوار النافذة ، يتدفق عميقا يشي بالأستياء والسأم والسخط .. صوت ينم عن توقي للانعتاق من اسر الجفاف الذي يحفر عميقا في بدني .. صوت كان يخرج من فمي المفتوح ..فمي الذي بدا ليّ كأنه ملتحم باسماعه اوكأن صوتي يخرج من اسماع _ م _ !! الذي لم يبدِ ايما حراك ، كما لو اصابه رعب مباغت ..فمكث مقتعدا الكرسي ساندا ظهره لحافة النافذة تغمره هالة من نور الشمس ، كأنه ما زال غاطسا وسط بركة من ضوء ينصت لبقايا نبرات صوتي .بالعجز الذي اتلف قوى الجندي الذكورية وبدّد المساحة الخصبة في بدنه ..قلت اخاطب _ م _ : أ تشعر بشيء ما ...، لم يقل شيئا كأنه لم يسمعني ..كأن صوتي يأتي ..من بعيد ! ...كأن صوتي لم يكن سوى صوت الجندي يتدفق عبر مدّيات مهولة موغلة في العقم واللاجدوى ...ثم تدفق صوتي هذه المّرة قوّيا ...فشعرت كما لو إني اصرخ في بريّة ..حتّى إني سمعت صداه يتردّد في الفضاء ، يرتطم بجدران الغرفة ...
رأيت _ م _ ينهض مسرعا ويخطو ناحية نافذة الصالة المطلّة على الخارج ، فاقتفيت أثره ..
كانت الريح تهبّ عبر النافذة التي لم اغلقها ..تركتها مشرعة للريح والشعاع الفاتر المشوب بغبار راكد مطبوع على زجاج مستقر في قعر سكون عميق كما لو ان يدا لم تلامسه منذ أمد بعيد ... كانت بقايا صوتي قد تركت بقايا طنين ما يزال يوّش في اسماعي وكأنه يترسّب في الأشياء الساكنه ..يعلق في زجاج النافذة .. حتى راودني إحساس ان صوتي الذي يشابه صرير باب عتيق تعبث فيه الريح ..لابد ان اشاع في داخل _ م _ اضطرابا ما..او ذكرى ما ..فقد رأيته يتلفت مذعورا ..كما لو فاق من حلم مخيف ..
ثم ما لبث ان تصاعد صوتي جوار النافذة ، يتدفق عميقا يشي بالأستياء والسأم والسخط .. صوت ينم عن توقي للانعتاق من اسر الجفاف الذي يحفر عميقا في بدني .. صوت كان يخرج من فمي المفتوح ..فمي الذي بدا ليّ كأنه ملتحم باسماعه اوكأن صوتي يخرج من اسماع _ م _ !! الذي لم يبدِ ايما حراك ، كما لو اصابه رعب مباغت ..فمكث مقتعدا الكرسي ساندا ظهره لحافة النافذة تغمره هالة من نور الشمس ، كأنه ما زال غاطسا وسط بركة من ضوء ينصت لبقايا نبرات صوتيو الشمس المندلقة على جسدي المعبأ بثوب ناعم شفاف تحتل مساحته الرقيقة اسفل الثديين العاريين من الأعلى ، ازهار حمر تنبثق من وسط النسيج وتلتمع في الضوء ..كأنها تنمو الآن وسط الثديين الطريين !! او كأنها تتزود بمزيد من نور الشمس فتغرق بفيض نهار لن يتكرر . وأضفت اخاطب _ م _ أ تشعر بفراغ ..
إني أتّوجه صوب الفراغ تماما ..او سأغادر اليه ..قال _ : ولكنكِ تتحركين الآن وسط فراغ هائل يحيطنا نحن الاثنين ..كما لو انّه موجود من أجلنا ، انا وأنتِ .. أجبت _ : ولكنّي أشعر به الآن فسيحا واسعا ، مثل قارة باردة !! ...
جاء نباح الكلبة من وراء النافذة كأنين فاتر ..او صراخ مكمّم بعواء الرغبة ..عواء لاهث جعل يتبدّد دون ان يترك أثرا ... فيما استمر نباح قوّي يأتي من بعيد .. قلت __ : النباح غالبا ما يأتي عند الهزيع الأخير من الليل ..ولكن لا ادري لماذا الآن ..أيكون بسبب اشتداد الرغبة ..
او ربمّا بعض الكلاب يساورها خوف ما ..او فراغ ..او يأس أو ندم كونها كلاب وليس شيئا آخر ..قال __ : لا زلتِ كما كنتِ تفكّرين كما لو انكِ مخلوق آخر ينمو خارج الحاضر ..
قلت __ : أنتَ ايضا ما زلت تحلّق خارج الحاضر .. في ماض او فراغ لا فرق . لم يقل شيئا
استدار برأسه ناحية الجدار ..فتلاشت الأزهار البرّية وانا والنافذة ، وبقيت صورة الجندي المعاق وحدها تملاء عينينه ..قال وهو يشير الى الصورة __ : كأني أراه يتحرك قادما ناحيتي ..كأنه يتدفق من بقاع غامضة ... من أغوار حرب ..من براري ..من خلوات مريبة ..من ظلام بعيد ! ..من اكوام رماد عظام ..من شيء ما ..قادم بقوّة كأنه يروم الأمساك بي ..الامساك بنا نحن الأثنين ............. أراه يطفو على بحيرة من ضوء ..ضوء شمس الشتاء ..كأنه يغادر الصورة ..يغادر مكانه القديم ..وخرابه ..انّه قادم نحوي بقوّة ... انظري انّه مقبل . لا يتراجع ..!! قلت __ : ولكنّه يمشي بلا خطوات ... بلا قدمين ..انه يطير كالدخان .. يطير بلا قدمين ..بلا بدن ..تحجبه غيوم كثيفة من الدخان ....قال _ : أهو نائم في الغرفة ..؟ أم ما زال يترصدنا ..قلت _ : انه غير موجود ..غادر الحياة لم يبق سوى شبحه .قلت _ : انّه غير موجود ..غادر الحياة ..لم يبق سوى شبحه الذي سمعته يسعل قبل الآن ..الذي يسعل لم يكن سوى شبحه ..سوى بقاياه ..
بقايا الجندي المعاق او الطائر ! الرث ..استدرت برأسي الى النافذة ، فلاح لعينيّ عند حافة زقاق فرعي يحجب نصف فمه المفغور او واجهته المشرعة جانبا من النافذة المتصل بالحائط ، رهطا من نساء مشتّت يلوح عبر النافذة ... كتل سوداء خاملة ..ابدان ملفوفة او معبأة بسواد حالك ..كأنها متشّكلة من ظلام ورائحة عتمة رطبة مستديمة او من بقايا سخونة حجرات منحسرة مفعمة بهواء راكد ..يخترقن المنعطف المتصل بالشارع ..كسلاحف تدب واهنة ، يغمرهنَ نور النهار ..يتحسس جلودهّنَ عبر النسيج الاسود الملفوف بالكامل على ابدانهن ... ينّشف بقايا رائحة رطوبة غرف غاطسة في ظلام ..
في الطريق القريب الموازي لحافة فم الزقاق المفتوح ..تتدفق كلاب بليّلة تخرج من بركة تطفو على سطحها الراكد الأخضر ، مخلّفات خليط من قنان فارغة وعلب عصائر وبقايا مبهمة ..تجري بقوائم رشيقة موحلة ، كما لو تقتفي أثر النساء الداخلات بقوّة في ضوء الشمس ،كعلامات سود تدرج او تتفتّت ..قبل ان يختفي أخر ملمح للعلامات السود او النساء ويتلاشى في المسافة التي حجبها فراغ ساكن ... برز قطيع الكلاب حالما توارت النساء ، فشغل الفراغ المضيء المخترق بهجوم لمعان اخضر يندلق من اغصان اشجار حدائق البيوتات المجاورة ... قلت وانا ادنو برأسي من النافذة _ : كنت تنظر للكلاب ....
يا إلهي لماذا لم نرَِ سوى الكلاب ..! كم اشعر بالتعاسة كوني لم انتمِ لعالمها ....
قال _ : وانا كذلك ..ولكن ما جدوى التفكير بهذا الأمر ... إنها محض رغبة ميّتة ....... محض احلام في مهب التعاسة وأضاف : الأنتماء للفراغ ايضا رغبة ..او حلم عقيم !! قلت وانا اتّطلع للكلب الذكر الذي تغلغل في بقعة ظليلة ومنخفضات زوايا خضر لم تتسلل اليها الاقدام ..توغل في الفراغات الظليلة المتوارية اسفل الجدران واسفل الشرفات ....
يتوالى اختفاء الكلب عبر النافذة تقتفي أثره الكلبة ..فيتضاجعان هناك .يتوالى اختفاء الكلب عبر النافذة تقتفي أثره الكلبة ، فيتضاجعان هناك ...قلت _ : أشعر إني أحتضر كفأرة محجوزة بين نابيّ قط رث..
أو بين ساقيّ جنديّ معاق ، مشلولتين ........... أنّ كلّ شيء يتغيّر باطراد وبسرعة مدهشة ، حتّى لم يعد ثمة متسع للأمساك بأيما شيء ...
كنت اشعر ان لصوتي وقع مفعم بالفجيعة .. يوغل عميقا في روحي وذكرياتي ..ذكرياتي المحمومة القديمة النابضة على السرير مع الجنديّ الطائر او المعاق . او مع الصورة ...كم تبدو الآن بعيدة تلك الذكريات وهي تتفتّت في مدى ناء ..تتفتّت في بدن مجدب ..في ذاكرة خاوية ..في ايام غاربة ..موغلة في الأمحاء والتلاشي ..رأيته يرفع رأسه كأنه يزيح كتلة ثقيلة جاثمة على عنقه ..فوقع بصره على قطرات بلورية مشّعة عالقة في عينيّ ..
كنت اشعر برغبة حارقة للبكاء فكانت نبرات صوتي مشّربة ببحة الفجيعة ..مشبّعة بأسى عميق وهيّ تتدفق عبر غصات محشورة راحت تتوالى ..قال _ : الأنفصال عن الجنديّ المعاق هو الحل لكل الأحزان ..الانفصال عنه سوف يبدّد الركود ويطفىء جذوة السأم المتأججة على الدوام ..يجب ان يحدث الانفصال قبل ان يتيبس بدنكِ في رياح الرغبة المجفّفة ..... قلت __ : إني هنا اموت عشرات المرّات عند كل لحظة ..احس بفيضان من اليبوسة تغرُقني باستمرار لا احد يرطّب اعماقي المجفّفة المستلبة ...قال _ : انا الأخر اموت باستمرار ...كم افتقدكِ ..في كلّ الأوقات ..حتى وانتِ معي ! ..يجب ان تنفصلا ..
صرخت _ : ولكن كيف .. كيف وهناك كم من المعوّقات القانونية ..قال _ :اذن ..لم يبق غير .. نغادر معا .. ..نغادر هذا البيت ... _ : ولكن متى ..؟ متى يحدث ذلك ..متى .. أ عند حلول الموت ..متى ..هل نغادر حين موتنا نحن الاثنين ...قال _ : سنغادر بالتأكيد ... كلا لن نغادر ..سوف نطرده ..نطرد الجنديّ المعطوب .سوف نطرده ..نطرد الجنديّ المعطوب ..من البيت..ومن خلوتنا ، ومن الحياة برمتها !..لقد حان قذفه خارج مدار احلامنا ..وسعادتنا القادمة في الطريق ..قلت __ : ولكن إلى أين ..؟ نطرده إلى أين ..انّه لا يعرف أحدا في الضاحية ..وإن كان هناك احد .. فلن يأوي حطاما ..ليس لديه عائلة .. أسرته تفتّت كلّها في الحرب !! اغلبها تلاشى في الشتات ..في النزوح..او نفقت ! ..او قضت تحت القصف على الضواحي ..او توارت في قرى او خلوات نائية .. لا ادري .. هو نفسه لا يدري .... لم يسأل عنه احد ، منذ جاؤا به محمولا على كرسي متنقل...مرّ وقت عصيب دون أنّ أرى أحدا يتفقده ... كما لو أنّه غير موجود ..او غير مرغوب فيه ..او ميت ! كأنه شبح او فراغ ..
لا يُرى !! كأنه بقايا رائحة عطنة يتحاشاها الاخرون .. __ : نقذفه إلى الشوارع ..المقاهي .. البنايات المحطّمة المهجورة ...العراء ...الخلوات البعيدة ..إلى اشداق الكلاب ..هذا ليس شأننا ..، استدرت برأسي إلى الجانب فأرتطمت عيناي بالجنديّ المحنّط في الصورة ... اصطدمتا بقوّة ..فهالني بريق عينيه ، وهو ينفذ عميقا في عينيّ المشدوهتين .... كان يرى الينا من تحت المرتفعات الثلجية ..فخيّل ليّ ..انه يقترب ..يخطو ناحيتي ..بلا قدمين .ولكن ..كان وقع خطواته شديدا صاخبا في اسماعي !! ..............* ثم يمدّ يده عبر فراغ مهول من السنين ويتحسس وجهي برفق .. فتسمرت في موضعي ذاهلة دهشة وانا أرى الى عينيه المفتوحتين على اتساعهما.. وانصت لأنين خافت يتلاشى في الهواء ... كانت قدماه تخوضان وسط فراغ عميق ! ..كأنهما تتوغلان في ظلام لا يرُى ..تخفقان ... فيما كان الهواء يوّش في أذنيّ ..وتزداد قوّة الأنين . فشعرت بنظراته تحاصرني ..كما لو نور شموس عديدة ! تنبثق من سماء الماضي ..مفجّرة في بدني صراخ مكتوم ..لم اسمع صوته ..ولكن كان الأنين يتناغم مع وقع الخطوات التي بلا قدمين ..! فيحدث صوتا ضاغطا كأنه يهتف بأسمي ..صوتا اليفا كأنه يخرج من بدني ....... يخرج من اغوار ذكريات ... يتدفق من ينابيع طفولة مسرفة في البعد ..
كلا ..لن نقذفه إلى الشوارع ..ليس بمقدوري ان افعل ذلك ... بيد ان الصوت ظل يتدفق قوّيا ..هذه المرّة كان يخرج من اعماق الصورة ..يتصاعد في الهواء فيندس في اسماعي واضحا ..ينفذ الى شعري وعيوني وذراعيّ العاريتين وثدييّ النافرين من من اعلى الشق او فتحة الصدر ... يتصاعد نفاذّا في نور النهار .. وعلى مهل يتحوّل الصوت إلى صراخ ساخط ... فألمح يد الجندي ترتفع في الهواء متناغمة مع ارتعاشات الصراخ الذي تحوّل الى بكاء مرير يخرج ملتاعا من الصورة او فم الجندي .. ضراخ ناقم يخرج من قدميه العاطلتين ............من خطواته المتلاشية في الفراغات ... من ذراعيه اللتين جعلتا تلوّحان في الفضاء ..عبر ايماءات تتتلاحق مع اشتداد الصراخ الذي تخلله سعال مكث يتدفق لوقت عصيب ...
قبل ان افيق او اصحو من تلك اللحظة التي مرّت على خيالي والنابضة بالخوف واليأس واللاجدوى ..رأيتني اتفحص بدني .والنابضة بالخوف واليأس واللاجدوى ......
رأيتني اتفحص جسدي ..اتملى يديّ المبسوطتين في فراغ ..وشعري الفاحم المنسفح على كتفي وعلى الأزهار الحمر المتناثرة اسفل ثدييّ في مساحات شفافة من الثوب المشّع في الضوء ..كأني اغرق في ضباب ... في ذكريات محمومة ... ذكريات الجنديّ القديمة الذي هيأ ليّ إني لمحته يمشي بلا قدمين ............ بيد إني لم اعد اتذكّر ..
متى غاب وكيف ..؟ .. أ أبتلعته قوّة عميقة من الأمحاء ...تلاشى كشبح ،لم يترك أثرا سوى سعال ممدود ، قلت وانا اتملى وجه _ م _ المستكين لفاصل عميق من التأمل والشرود __ : أشعر ان المدّيات التي تفصلني عن الجندي او زوجي تتسع بتوالي الوقت كما لو انهيارات تترى تتخللها ..مدّيات كأنها ضّاجة بدوي حروب وبكاء ...
قبل ان يتصاعد نباح الكلاب في الخارج على مقربة من النافذة وجدتني افكّر بالجندي الذي تلاشى او تهشّم في ضباب مرآيا الوجود ........... افكّر كأني احتفي بعزلتي او عزلته الخاملة المشرعة على مدن بلا علامات ..مشرعة على نهارات عقيمة ...عزلته المطّلة على افق من التعاسة والفراغ ..كأنه مترسب داخل صندوق أثري مغلق ...
حالما غادر _ م _ وجدتني اعاود النظر عبر النافذة ..يدفعني توق قديم لمعاينة الكلاب المتلذذة بجريانها الشبق أثر الكلبة التي كانت تنشر رائحتها الأنثوية في خطوم الذكور التي طفقت تنتشر وهي تحيطها وسط حلقة كلبية رثة مشحونة ... موحلة يتقاطر من جلودها نثار الطحالب



#سعدي_عباس_العبد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السادس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الخامس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الرابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثالث من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثاني من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الاوّل من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- محض رأي عابر
- منظر من زاوية حادة
- مراثي الامهات
- في تلك الايام .. / مقطع
- معا .. ومعا تماما في المعبد الحرام
- إنهم يقتلون كلّ شيئ
- الله كما رأيته راكبا حمارا ابيض / طفل في ريعان الاوهام
- ما زلنا نتلاشى
- مرثية / ا / 2...
- حدث ذلك بعد الموت بسنوات
- قصة قصيرة : الشبح
- ذلك العواء البعيد
- هناك .. حيث لا احد سوى القبور


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل الثامن من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر