أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سامي العباس - مفترق طرق















المزيد.....

مفترق طرق


سامي العباس

الحوار المتمدن-العدد: 1243 - 2005 / 6 / 29 - 07:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مفترق طرق

يمثل الخياران الليبرالي – الأصولي الإسلامي مفرق طرق تتريث عنده الأزمة الراهنة لنظام رأسمالية الدولة. و يتوقف تحديد الطريق التي ستسلكها الأزمة نحو الحل , على من ستؤول له السيطرة داخل نظام الإنتاج الرأسمالي الذي يجري تعميقه في البنية الاقتصادية : البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة المدينية ؟
ذلك أن الدولة الشمولية بطابعها المركزي الشديد على صعيدي الاقتصاد و السياسة , و التي كانت خياراً أفضت إليه أزمة انحباس الرأسمالية داخل المدن بعد الاستقلال . و لعبت فيه البرجوازية الصغيرة الريفية دور الحامل الاجتماعي بسبب من أن موقع الأزمة الرئيسي فيه كان الريف الإقطاعي آن ذاك.
إن هذه الدولة الشمولية معرضة لإعادة إنتاج نفسها – إذا ما أخفق الخيار الليبرالي – على يد البرجوازية الصغيرة المدينية التي تصطف تحت راية الأصولية الإسلامية .
إن إخفاق اندماج كل من برجوازية السوق و برجوازية الدولة بما ذلك من تعقيدات طبقية و لاهوتية.
سيفتح الطريق أمام الخيار الآخر: خيار إعادة تجديد شباب الدولة الشمولية باحتلال الجناح المديني مكان الجناح الريفي كحامل اجتماعي.
و ذلك باستخدام الأصولية الإسلامية بديلاً للقومية الإشتراكية كملاط أيديولوجي في إطار سيرورة تقتفي فيه الأولى خطى الثانية فيما يشبه وقع الحافر على الحافر .
إن المنطق الذي ينتظم هذه التطورات المتوقعة هو المنطق الذي كشف عنه الراحل مهدي عامل في مؤلفه الهام. (أثر الفكر الاشتراكي على حركة التحرر الوطني العربية)..
((إن البرجوازية في المركز تحل أزمتها بالفاشية أما في المحيط فتحلها بفتح الطريق أمام البرجوازية الصغيرة للاستيلاء على جهاز الدولة))(1). إلا أن كلا المآلين يتقاطعان عند نقطة واحدة هي إنتاج الدكتاتور الملهم و إلا ما معنى هذه الرائحة المشتركة التي تفوح من جميع الطغاة !!
يكفي وضع الصلاحيات التي يعطيها الدكتاتور لنفسه - أكان معمماً أم حاسر الرأس - تحت الضوء لنجدها نفسها ..أما التمايز فهو فقط في صفة الشرعية. فهي ثورية عند حاسر الرأس و إلهية عند المعمم .
*******
و راء التحولات التي أفضت إلى نظام رأسمالية الدولة قبعت الأزمة.
أزمة تشرنق الرأسمالية داخل المدن بفعل تحالف الرأسماليين مع كبار الملاك العقاريين.و كان أمام الأزمة خيارين تتوقف حظوظهما على أي الباستيلين سيسقط أولاً : البرلمان أم الجيش ؟.. كان الطريق إلى البرلمان طويلاً و يحتاج إلى عمل سياسي منظم و تراكمي و إلى اختراق واسع على المستوى الشعبي للانحيازات الثقافية ( أديان- مذاهب- طوائف ... إلخ ) و كانت منابع التثاقف مع الغرب أكانت اشتراكية وطنية أم شيوعية سوفييتية تشاغب ثقافياً على الوعي الديمقراطي داخل الأحزاب الوطنية و القومية و العلمانية التي وسعت نفوذها على خلفية الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية الناتجة عن تشرنق الرأسمالية . و كان الجيش المخترق من البرجوازية الصغيرة الريفية و المثلوم الكرامة الوطنية بسبب هزيمة 1948م يبدو للعين الراديكالية شديد الإغراء و حصناً آيلاً للسقوط .
في الجانب الأيديولوجي صنع ضغط الغرب مزاجاً راديكالياً مهيجاً بأيديولوجيا نضالية شديدة الضوضاء , قصرت المدى البصري للنخب الثقافية الحديثة, و جعلتها لا ترى أبعد من موقع أقدامها . و بالتالي فإن سلبيات التغيير بواسطة الجيش لم تكن مرئية بوضوح من قبل عقل أسكرته الانتصارات السهلة عن رؤية المطب الاستراتيجي ...و هو الانتكاس من الديمقراطية البرلمانية إلى الاستبداد الشرقي المغلف بمكياج اشتراكي . على المقلب الثاني :
لم تنجح بعض الإشارات التي أطلقها الجناح المتنور من البرجوازية, الذي تلمس المخاطر الإستراتيجية التي قد يقود إليها ارتهان موقفه من المسألة الزراعية بموقف كبار الملاك العقاريين.
حاول خالد العظم النسج على منوال ليوتولستوي لجهة استعداده لتوزيع أملاكه على الفلاحين ، إلا أن الصراع الطبقي لا تخمده النوايا الطيبة . كانت مصالح الملاك العقاريين ووزنهم داخل التحالف الذي تسلم من فرنسا نظاماً جمهورياً ليبرالياً, يسمح لهم بالوقوف في وجه العاصفة حتى تصل إلى السرعة الكافية لاقتلاع الجميع.
مثّل دخول المؤسسة العسكرية على لعبة الصراع الاجتماعي، شكلاً من أشكال الثورة، لكنها ثورة داخل الثكنات. اختصرت على نحو قيصري الحل . كان العنف المستخدم ضيّق النطاق و انتقائياً لكنه كان فعالاً و سريعاً بحيث راح التاريخ يلهث على نحو مسموع, للوتيرة العالية التي اتخذتها عملية التبدل السياسي – الاجتماعي – الاقتصادي لمجتمعات المنطقة. يكشف المجرى المشترك للأحداث في ( سوريا – مصر – العراق – اليمن – الجزائر ) أن التحول الرأسمالي داخل المدينة قد جرى بعقبات أقل. و أن الريف الذي تحّول إلى العلاقات الإقطاعية قبل فترة وجيزة ( بدءاً من إصلاحات السلطان محمود الثاني المتزامنة مع إصلاحات محمد علي في مصر ) أن هذا الريف أصبح المكان الذي انعقدت الأزمة فيه ( أزمة التحول الرأسمالي ). وهنا لا بأس أن نتذكر ملاحظة ماركس الشهيرة ( التاريخ يتقدم من جانبه المتأخر )
كان الريف هو الجانب المتأخر في التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية للعالم العربي على نحو عام
. و كان الهامش الزمني - الذي استغرقته تحولات طبقة ( المقاطعجيين ) إلى اقطاعيين ثم إلى رأسماليين- ضيقاً. بمعنى أن تحول علاقات الإنتاج من النمط الخراجي إلى الإقطاعي فالرأسمالي كان سريعاً لا يسمح للمنطقة و سكانها بهضم و تّمثل ما يجري على المستويين العقلي و النفسي . و كان الرأسمال الرمزي للجماعات العربية – الإسلامية هو الذي يتلقى أقسى الضغوط، و يبلور في مواجهتها أشد ردود الفعل. كانت القيم و الأعراف و التقاليد الراسخة منذ قرون تهتزّ من جذورها. وكان الفضاء الثقافي الإسلامي يتعرض للعواصف الفكرية و الأيديولوجية ، فتختلط مكوناته بالمكونات الوافدة دون أن تتذاوب على نحو كافي, لضيق الوقت ، و العتبة العالية للكراهية التي خزنتها الذاكرة التاريخية حيال الآخر المختلف ديناً و لوناً و أنماط سلوك .
و كان طبيعياً أن تتمايز وتيرة التحولات على صعيد المكان. فالمدينة و الريف و البادية شكلت على مر تاريخ المنطقة, ثلاث مساحات متجاورة و متنافرة. وكان ديالكتيك الراعي الفلاح في أساس تجربة التحضر البشري حيث جرى استبطانها في الحكايات المرمزة التي تناسختها شعوب المنطقة و امتلأ بها مخيا لها المشترك .
إلا أن الريف الذي تتواجد فيه و سيلة الإنتاج الرئيسية ( الأرض ) في كلٍ من نمطي الإنتاج الخراجي و الإقطاعي, ظلّ لهذا السبب مكان الممانعة الرئيسي لتوسّع نمط الإنتاج الرأسمالي ... كان الملاك العقاريون الكبار المتحدرون في معظمهم من زعماء العشائر, و من بقايا العائلات المقاطعجية التي شكلت في المرحلة العثمانية الشريحةالادارية - العسكرية التي تتولى الجباية, و من الأكليروس الديني, يقفون كعظمة في حلق التوسع الرأسمالي باتجاه الريف .
على هذا فأن التمايز بين الريف و المدينة زاد تخندق الرأسمالية داخل المدن وضوحاً ,إلى المستوى الذي أصبح فيه الريف خزان التوتر الاجتماعي. و كان التمايز الأثني لمعظم الملاك العقاريين قد سّهل للخطاب القومي العربي أن يقوطب حوله بسرعة الشرائح الاجتماعية المتضررة من هيمنة كبار الملاك, في إطار جدلية ينعقد فيها القومي على الاجتماعي ليصنع مزيجاً عالي الراديكالية . إن الشرخ التركي – العربي الذي تكرس كواقع سياسي بعد الحرب العالمية الأولى, ظلت أصداؤه تتجاوب في فضاء التحولات الاجتماعية التي اشتدت وتيرتها بعيد الحرب العالمية الثانية . وكان صعود الريف بالتدريج لاستلام راية القومية العربية بدءاً من منتصف القرن العشرين هو الذي يفسر تعمّق الهوة بين الخيارات الإستراتيجية التركية - العربية. و كان الدينامو وراء ذلك هو الجذور التركية لمعظم عائلات الملاك العقاريين الذين خدم تمايزهم القومي آلية الصراع الطبقي في عموم الهلال الخصيب و مصر . في سورية على سبيل المثال أخذ – داخل المدن و البلدات الكبرى – يتبلور بالتدريج اصطفاف سياسي – اجتماعي على تناغم مع التمايز الأثني .و كان التمايز يشتد وضوحاً في المحافظات و الأقاليم التي أخذت فيها ملكية الأرض طابعاً أكثر تمركزاً, و الهوية الأثنية لكبار الملاك أكثر سطوعاً, كما على سبيل المثال في: حماه – إدلب – حوران – حمص ... إلخ في سلمية البلدة الزراعية على حا فة البادية قادت عائلات( ناصر و رستم و الجندي) على نحو مبكر المعارضة ضد الإقطاع الديني و الدنيوي لأمراء الطائفة الإسماعيلية ... و في حماة كانت بيوتات( الأسود و الحوراني) تكّتل حولها الريف الذي يئن تحت وطأة آل( باكير و ألبرازي و الكيلاني ... إلخ ). ولقد لعب أكرم الحوراني الشخصية الأبرز في سورية الوسطى دوراً مهماً في تشغيل دينامو الصراع الإجتماعي على محوري : البرلمان – الجيش .
كانت علاقته بالانقلابات الأولى واضحة, بمقدار ما كان وزنه داخل البرلمان يتنامى بسرعة . وكان حزبه : العربي الاشتراكي , يتحول بوتيرة عالية إلى حزب للفلاحين . و على مقلبي جبال الساحل السوري كان فلاحوا الأقليات الد ينية-الطائفية يعانون وضعاً أشد وطأة تحت تحالف نمط الإنتاج , وعناد الطبيعة . وكانت الهجرة سواء إلى الداخل السوري, أو إلى الاغتراب, قد أصبحت منذ منتصف القرن التاسع عشر مظهراً من مظاهر إعادة النظر في التموضع القروسطي للكوكتيل الديني- الطائفي في المنطقة . لقد باشرت الغيتوات الدينية و الطائفية فتح أبوابها على بعضها البعض , تحت ضغط النزعة القومية التي يعاد اكتشافها كرابطة عابرة للطوائف و الأديان في ضوء الثقافة الغربية الوافدة .
و في مجرى تولى شق أمتاره الأولى برجوازيوا المدن للأيديولوجيا القومية ,استكمل الريف المتحفز للخلاص من نير الإقطاع المهمة, بعد تطعيم هذه الأيديولوجيا بالاشتراكية .
في شهادة لأحد مؤسسي حزب البعث , الحزب الذي كان أوفر التعبيرات السياسية حظاً في الوصول إلى السلطة ووضع برنامجه المستوحى من الأيديولوجيا القومية – الإجتماعية موضع التنفيذ يقول جلال السيد (2) (الحزبيون من الطلاب كانوا من أبناء الريف, و كانوا من الأقليات الإسلامية , وكانوا من المسيحيين و هذا لا يعني أنه لم ينتسب إلى الحزب احد من أبناء المدن و لا من أبناء الطائفة السنية . بل يعني ان نسبة المنتسبين من هؤلاء أقل من المنتسبين من أولائك . وهذا أمر له معناه و مغزاه , وله أسبابه و بواعثه و هو أمر لم يقع مصادفةً ولا عفواً )
لقد تحول البعث الذي بدأ كتعبير عن الجناح المتنور لبرجوازية المدن , الذي يعطي للمشروع الرأسمالي طابعه القومي العربي , إلى حزب للبرجوازية الصغيرة الريفية بنزعاتها الإشتراكية و سذاجتها العقلية . إن هجائيات ياسين الحافظ لسيرورة الترييف التي انخرط فيها المجتمع السوري بدأً من الستينات تحت قيادة البعث كانت تحسساً مبكراً بالتخوم التي ستقف عندها عملية التحول نحو الرأسمالية .
كان التبدل الإجتماعي الذي طرأ على حزب البعث , و الذي يشكوا منه أحد مؤسسيه ( جلال السيد ) يندرج في هذا السياق الجانبي الذي أفضت إليه أزمة التوسع الرأسمالي نحو الريف. و بهذا المعنى فإن حزب ميشيل عفلق لم يعد يسهل التعرف عليه بعد أقل من عقد على التأسيس ..راح الريف الزاحف على المدينة يحتل بالتدريج الفضاء السياسي الذي أفلتت من قبضة كبار الملاك العقاريين.
تتساوى في ذلك حركة القوميين العرب أم الحزب القومي السوري الإجتماعي .. أم التيارات التي انحازت إلى عبد الناصر في تنافسه مع البعث على معظم الشط الآسيوي من العالم العربي.. من هذه الزاوية فإن جدلية ريف مدينة كانت تستبطن في واقع الأمر جدلاً طبقياً طرفاه كبار الملاك العقاريين الساكنين في المدينة تاريخيا من جهة, و فلاحوا الأرياف من جهة ثانية. إن تصّدر هذه الجدلية الجدليات الأخرى التي تستبطنها البنية الإقتصادية – الإجتماعية , هو تعبير عن الإنزياحات التي تضطر لها التناقضات من هذا الموضع إلى ذاك داخل الطابور . من هنا فإن إخضاع سلوك المؤسسة العسكرية السورية – على سبيل المثال – للتفحص , يكشف تبدل العصبيات التي قادت الانقلابات في المرحلة الأولى عن الثانية ثم الثالثة . إن التبويب هنا لا ينفع في تعليم التخوم بين المراحل بل فقط في كشف المنطق التي خضعت له التناقضات و هي تمارس شق تاريخية خاصة لعملية التحول إلى الرأسمالية . ففي بنية تشاغب فيها الإنقسامات العمودية و الأفقية على بعضها البعض يرتسم المنحنى التالي : المرحلة الأولى –تتقدم الانقسامات الأفقية على العمودية في رسم الإصطفافات و التحيزات داخل المؤسسة العسكرية, إذ أخذ ت التخوم بين الريف المدينة تلعب دوراً فاعلاً في خلق الإنقسامات داخل هيئة الضباط مع استثناءات قليلة هنا أو هناك . كانت التجمعات ذات الطابع المناطقي تتبادل فتح الأبواب على بعضها , ليعاد اكتشاف مشتركات تتجاوز الإنحيازات التقليدية ( دينية , مناطقية ... إلخ ) و كانت هذه المشتركات مزيجاً من نواتج التلاقح الثقافي مع الغرب بمعسكريه آن ذاك , و محصلة لتبلور تناقض طبقي بين الإقطاع و الفلاحين على خلفية تحول المقاطعجيين إلى إقطاعيين في العقود الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية .
لقد كانت المؤسسة العسكرية بعد نشوئها إبان المرحلة الكولونيالية مسرحاً بمؤهلات خاصة , و ممراً إجبارياً لحسم أزمة تشرنق الرأسمالية , و نقطة تلاقي للبشر الخارجين من غيتواتهم التاريخية . و لذلك فإن فرصة حصول الإصطفافات الأفقية في هذه المرحلة , سنجد تراكماتها في القرن التاسع عشر الذي شهد ثلثه الأول محاولات السلطان محمود الثاني للإصلاح , حيث أفضت الى إعادة النظر بالتوضع الد يموغرافي للأقليات الإسلامية و المسيحية .
إن حركة انسحاب الأقليات إلى الغيتوات التي أفضى إليها الصراع الديني – المذهبي بعد تفكك الخلافة الفاطمية قد باشرت حركةً معاكسة على خلفية الحاجات المتنوعة التي بدأت تولدها النزعات التحديثية طيلة القرن الأخير من عمر الإمبراطورية العثمانية . فعلى سبيل المثال وّلد التفكير باستخدام السكك الحديدية لنقل الحجاج إلى الديار الإسلامية المقدسة الحاجة إلى إعمار السهول الداخلية لبلاد الشام - التي يسمح بها خط الأمطار للزراعة - بالفلاحين , وذلك لبلورة ممانعة محلية في وجه البدو المتعيشين على نهب القوافل ..
مثلت هذه الحركة أول الغيث في جدلية الخروج من نظام الملل العثماني, وبدء حياكة نسيج اجتماعي قائم على مفهوم المواطنة الحديث..كانت الحداثة تشتغل على جبهتين في آنٍ واحد . جبهة العقل , وجبهة الحاجات المادية , وهي هنا و هناك تطلق جدليات فكرية و اقتصادية و سياسية من عقالها , وتقود إلى هذا التراكم أو ذاك لشروط إطلاق جدليات أخرى , في إطار سيرورة انتقال عامة من نمط إنتاج خراجي إلى إقطاعي ثم إلى رأسمالي بوتيرةٍ عالية .
اتكاءً على هذا المشهد الذي نزيح الغطاء عنه يمكن فهم الحركة المركبة للإصطفافات و التحيزات العمودية و الأفقية داخل( الأحزاب و الجيوش ) فرسي عربة التقدم التاريخي في العالم العربي – الإسلامي .
ففي الحالة السورية يمكن فهم التناغم الطويل نسبياً بين كلٍ من الأحزاب العقائدية و الجيش بالمايسترو الذي التقط إيقاع أزمة انحباس الرأسمالية داخل المدن . و لعل أول من لعب هذا الدور ( المايسترو ) هو أكرم الحوراني
و لئن توالى على الخشبة آخرون فإن فضل السبق يبقى لهذه الشخصية المركبة التي جربت أن تحدث توازناً بين فرسي الجر قبل أن ينفرد الجيش بجر العربة .
إلا أن الاقتراب من السلطة و الإمساك بها كان يطلق جدليةً أخرى... جراء أن الإصطفافات الأفقية تعاني من قلة الملاط بالمقارنة مع الإصطفافات العمودية . و كان الإمساك بالسلطة يضع في الامتحان كل هذه الإنحيازات على تفاوت الملاط الذي يحدد مستوى تماسكها .
سنشهد طيلة المرحلة الأولى مستوى مقبول من التماسك داخل الإنقسام الأفقي ( ريف مدينة ) و سنرى جنرالات الجيش المتحدرين من أصول ريفية أكثر تماسكاً في مواجهة برلمان مسيطرٌ عليه من قبل تحالف كبار الملاك العقاريين – و البرجوازية . و ستستمر هذه المرحلة على هذا الوضوح من الإصطفافات حتى إنقلاب 8 آذار 1963 .
في المرحلة الثانية سنشهد فاعلية أعلى للانقسامات العمودية ( الدينية ) يظهر هذا في تركيبة اللجنة العسكرية التي تولت إعادة نفوذ حزب البعث إلى الجيش , في الفاصل البرلماني ( 961 – 963 ) بين دولة الوحدة و دولة البعث . إن تطعيم هذه اللجنة بعد نجاح الانقلاب بشخصيات عسكرية من خارج تحالف الأقليات كان يأخذ طابعاً رمزياً فقط , ولا يعكس استعادة نقية لصيغة الإصطفافات الأفقية التي سادت في المرحلة الأولى . بل إن الوقت الذي يمضي كان يحمل المزيد من تساقط الملاط الذي يلحم العصبية الأفقية ...
كانت سلسلة الانقلابات الناجحة و الفاشلة طيلة السنوات السبع التي سبقت انقلاب تشرين الثاني 1970 بمثابة مواعيد سقوط مزيد من الملاط الذي يلحم تحالف الأقليات داخل الجيش ليد شن انقلاب تشرين الثاني 1970 انقلاباً في التوازن بين الجدليات التي تستمد عناصرها من الإنقسامات الأفقية و الجدليات التي تستمد عناصرها من الإنقسامات العمودية لمصلحة هذه الأخيرة .
ولذلك راحت سيرورة الانفكاك عن نظام الملة العثمانية- التي انخرط فيها الاجتماع السوري طيلة قرن و نصف- تواجه مصاعب جدية . إن جل ما تم مراكمته في هذا الإتجاه طيلة القرن و نصف الماضي قد بوشر في تبديده طيلة العقود الثلاثة الأخيرة لتصل سورية إلى نهاية الألفية الثانية نظاماً سياسياً – اقتصادياً شديد البلادة و مجتمعاً تعصف به الإنقسامات العمودية .

سامي العباس...

هوامش:
(1)-مهدي عامل-مقدمات نظرية-القسم الثاني
(2)-جلال السيد –حزب البعث العربي دار النهار-ص-30-



#سامي_العباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة باردة في موضوع ساخن
- محولة للتفكير بصوت عال
- بين نصين مقدسين
- شعر
- التغيير الديمقراطي في سورية
- قراءة في اية
- تحية لفالح عبد الجبار
- الراعي الكذاب..تراجيديا السياسة العربية
- مزاح ثقيل مع الدكتور طيب تيزيني
- دراما استعادة الليبرالية
- العرب والسياسة
- ستاتيكو لغوي
- العرب نظرة الى المستقبل
- الحزب العقائدي
- برسم الانتلجنسيا العربية
- ملاحظات على هامش الماركسية الايديولوجية
- الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط
- مشتركات الوعيين الاسلامي - السوفييتي
- رد على لؤي حسين
- قصة من مجموعة -ابطال من هذا الزمان


المزيد.....




- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...
- -أنصار الله- تنفي استئناف المفاوضات مع السعودية وتتهم الولاي ...
- وزير الزراعة الأوكراني يستقيل على خلفية شبهات فساد
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- دراسة حديثة: العاصفة التي ضربت الإمارات وعمان كان سببها -على ...
- -عقيدة المحيط- الجديدة.. ماذا تخشى إسرائيل؟
- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سامي العباس - مفترق طرق