أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعدي عبد اللطيف - الماركسية والتفكيكية















المزيد.....



الماركسية والتفكيكية


سعدي عبد اللطيف

الحوار المتمدن-العدد: 4349 - 2014 / 1 / 29 - 15:57
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بقلم: كيت سوبر
اعداد وترجمة: سعدي عبد اللطيف *

في هذا المبحث، كما يوحي العنوان، سأقدم بعض الافكار حول التجابه بين الماركسية والتفكيكية كما تجسد في مثال كتاب جاك دريدا الأخير "أطياف ماركس"(1). وأقترح قبل كل شيء، كطريقة لتقديم خلفية واطار لمناقشتي هذه، ايراد ملاحظات عمومية حول وضع الماركسية اليوم، والتأثير الذي تركته عليها النظرية المعروفة عموما باسم "ما بعد الحداثة" وعلم سياستها.

قلة، كما اعتقد، تخالف حقيقة ان الاضطراب الفكري والسياسي معا، في السنوات الاخيرة – وبخاصة هيمنة أنماط تفكير ما بعد الحداثة في الغرب سوية مع انهيار "الاشتراكية القائمة" في وسط وشرق اوروبا، والزوال اللاحق لبنية الحرب الباردة – قد غير دراماتيكيا الاطار الذي يتناوله اي شكل من الفكر الاشتراكي الآن. وأدى ذلك الى ان يجادل البعض من جهة اليسار بأننا يجب الا نحاول بعد الآن انقاذ فلسفة انهارت فيها الثقة مضاعفا. وانه في ضوء الاحداث التي جرت في اوروبا الشرقية يجب تقبل حقيقة تحليل ما بعد الحداثة للماركسية على اعتبارها عقيدة من عقائد "السرديات الكبرى" تنتهي لامحالة الى ممارسة توتاليتارية، وأن ننكر بالتالي مثل هذه الخطط الفخمة للتطوير الاجتماعي، فيما تبنى آخرون موقف الرد المضاد فكريا، مجادلين انه لم يطرأ شيء على هذا الاطار المتبدل بما يستدعي السماح بتشويش اتزان الفكر الماركسي. وأشار هؤلاء الى ان الأسس النظرية للاشتراكية وبرامجها لم تتهدد اطلاقا، لا بانهيار نظام أبعد مايكون عن "الاشتراكية الحقة"، ولا بمختلف تيارات نظرية مابعد الحداثة، وهي تيارات لا تشكل الا انعكاسا لمنطق الرأسمالية المتشيئ سلعيا ولا تمثل الا آخر شكل للتعبير عن فكر البرجوازية الليبرالية. وطبقا لوجهة النظر هذه بصدد التطورات الاخيرة، ليس ثمة مايدعو قط للقيام بأي نوع من اعادة بناء الفكر الاشتراكي او الماركسي، بل ان الواجب يقضي، على العكس من ذلك، باعادة توكيد معتقداته الاساسية بقوة اكبر لمجابهة ليبرالية اليسار الزاحفة.

وأرى وجوب رفض كل من هذين الاتجاهين. فكلاهما يخطئ في فهم تعقيدات الوضع الفعلي الذي نواجهه الآن، وكلاهما يعتمد نظرة مبسطة (رغم انهما يستخلصان استنتاجات متباينة) عن التعارض بين المنظور الاشتراكي ومنظور "مابعد الحداثة".

ان الاتجاه الاول يغفل بجلاء النكوص والارتداد الذي يميز على نحو مباشر الكثير مما حصل منذ الايام المنتشية لثورة 1989، فلعل الاشتراكية القائمة قد رحلت، لكن الفضاء الذي اخلته بقي خاليا، دون ان تملأه اليوتوبيا التعددية الداعية لغزارة الاختلاف التي طرحها علينا دعاة مابعد الحداثة في هجماتهم المستديمة على الماركسية ومنطقها "الكلاني". وتمكن المجادلة على العكس من ذلك، ان كل اشكال ثقافة الضد المعارضة (من النزعة الانثوية، والبيئية، والمضادة للعسكرة، والديمقراطية الاشتراكية) قد اقصيت وحرمت من اي مجال للتمثيل السياسي الفعلي في اوروبا الوسطى والشرقية، رغم ان ثقافة الضد المعارضة هذه كانت تطمح الى تأسيس نوع من "طريق ثالث" يتجاوز التضاد الثنائي للحرب الباردة. وبهذا المعنى، بتنا نشهد، ليس تأسيس منطق بديل لتضاد الرأسمالية مع منطق الشيوعية، بل تطوير زخم اقتصادي وسياسي يهدد بابتلاع كل " الاختلاف" المعارض داخل "هوية" مجتمع السوق ذي النمط الغربي.

لكن بلورة اعتراضي على الاتجاه الأول بهذه الصيغة، يتوخى لفت الانتباه الى خطيئة الاتجاه الثاني، الماركسي المتزمت، في اغفال اهمية الطابع البناء لأشكال النشاط السياسي القائمة على "الاختلاف" والتي اعترضت على الطريقة التي تجاهلت بها الماركسية المتزمتة قضايا السلام والبيئة والاضطهاد العرقي والجنسي والتمييز الجنسي2* ، أو سعت الى اخضاع هذه القضايا لمتطلبات النظرة الطبقية في السياسة.

وبقدر مايمكن ان توصف هذه الحركات الاجتماعية الجديدة التي برزت في مجرى هذا الاعتراض بانها "مابعد حديثة" نظرا لتوكيدها على "هويات جديدة" واعتمادها فاعلين سياسيين جددا، وارتيابها في اشكال معينة من النزعة الانسانية لعصر الأنوار ومذاهبه العلمية، فبودي اطرح قول مؤداه ان تأثير فكر ما بعد الحداثة على الاشتراكية المتزمتة لم يكن كله سلبيا تماما. حقا ان من المهم تمحيص عقلانية عصر الانوار والايمان بالعلم والتكنولوجيا ومفاهيم " الحياة الحسنة" المستلهمة من هذه العقلانية ، وذلك لانها ، في الاقل ، قد شجعت ظهور نظرة أبوية وتقنية جامدة الى الرفاه الانساني، وحفزت ظهور نماذج للنمو والاستهلاك، سرعان ماباتت ادامتها مستحيلة من الوجهة البيئية، وولدت توزيعا للثروة يهدد بالانفجار على النطاق الكوني بصورة اعتى من اي وقت مضى.

وبالمثل، فقد كنا ومانزال بحاجة الى الاعتراض على فكرة النزعة الانسانية، وبمعنى اننا بحاجة الى ان نكون واعين بحال الجماعات والمجتمعات التي جرى اقصاءها وتهميشها بفعل الادعاءات الشاملة، وفي بعض الاحيان الامبريالية تحديدا، لهذه النزعة. وبهذا الخصوص، فان الاندفاع الى التمسك بالاختلاف مقابل التماثل، والى فضح الميول الاستعمارية في خطاب النزعة الانسانية، واثارة قضية ((التولتارية)) المتأصلة في النظرية الكلانية، امور هامة بالنسبة الى اليسار. وان الانعطاف الذي جاءت به مدرسة مابعد الحداثة في مقاربة موضوع العلم والسلطة الذاتية واللغة، يمكن ان يلفظ جانبا بوصفه اشكالا متنوعة من ((التحريفية البرجوازية)) ولكن ثمن ذلك سيكون حرمان الفكر الماركسي من الانغمار في معاينة تلك القضايا والانخراط في هموم تلك الجماعات مما قد يجدد للفكر الماركسي قواه.

مع ذلك، اعتقد ان علينا الاقرار بان حركة مابعد الحداثة تمتلك ديناميكية تقذف بها في مواقع نظرية تضع فكرها في موضع التصادم مع العديد من التطورات الثقافية التي ساعدت هي نفسها على بلورتها ونشوئها في البداية. ان المنطق الذي يعارض انواعا معينة من فكر الهوية (التماثل)، ويفكك مفاهيم معينة حول الحقيقة، والتقدم والنزعة الانسانية وما شابه ذلك، قد مضى الى التشكيك في امكانية التوصل الى الموضوعية او الاشارة في اللغة الى مالم ينشأ عن خطاب. وهذا منطق لايطلب منا فقط ان نتخلى عن الفرضيات المنمقة عن التضامن والمصالح المشتركة حسب، بل ان ننظر بارتياب عميق الى كل ما يتصل بالتضامن. كما يفترض هذا المنطق ان اي محاولة لتقديم تشخيص اوعلاج سياسي عام تعني الوقوع في مطلب نظرية ((كلانية))، تنزلق الى ممارسة توليتارية. وبتعبير اخر، ثمة دينانيكية ((نظرية)) في ما بعد الحداثة تسحب البساط من تحت اقدام الاصرار الأصلي المتجسد في الحركات الاجتماعية الجديدة، تجعلنا نفكر بلغة ((هويات جديدة)). واذا ماجنح منطق الاختلاف الى حده الاقصى ، فانه يستبعد اي نوع من التحليل الكلي والموضوعي الذي يتيح لنا تحديد الهويات والحركات بأنها ((رأسمالية ))أو((بطرياركية)) أوحتى ((توليتارية))، كما يستبعد التوصل الى مشاريع تغيير مما يدعو اليه مثل هذا التحليل .

والتلازم الفلسفي الناشئ عن ذلك هو نزعة نسبية كلية تدعونا الى نبذ التطلع الى الحقيقة بوصفها هدفا يتعذر بلوغه من حيث المبدأ، حتى لو كان الامر يتعلق بفكرة ناظمة. فالنظريات، حسب مدرسة مابعد الحداثة، لاتزيد عن مجرد ((سرديات))، وبازاء السرديات يمكن للمرء ان يختار ذاتيا مايبدو الاكثر نفعا او مايمنح راحة اكبر. ومن هذا المنظور، تغدو الاحكام الاخلاقية مسائل تفضيل شخصي، مما يحرمنا من اية ارضية موضوعية، لتأييد أو شجب اية ممارسة ثقافية محددة. والنتيجة، كما حاجج النقاد، ان نظرية مابعد الحداثة تلغي امكانية الاستمرار في اي نوع من الانغماس النقدي في عصرنا، وان هذه النظرية اذ ترفض أي تأسيس ثابت للقيم فانها تتغاضى، من حيث المبدأ، عن اكثر الممارسات السياسية قمعا ورجعية(2).

ولعل من الادق، والاكثر انصافا، القول ( مادام انصار تعددية مابعد الحداثة، يدافعون دوما عن هذا باعتباره الاساس للسياسات الاكثر ديمقراطية) ان المسألة المطروحة هنا هي مسألة مدى تساوق الخطاب السياسي لفكر مابعد الحداثة مع موقفها الانطولوجي المضاد للواقع، مسألة المدى الذي تستطيع ان تحافظ به ، بصورة متماسكة، على التزاماتها الديمقراطية والمساواتية الجازمة بينما هي ترفض الاعتراف باي خواص للعالم او لانفسنا تكون خواص غير معيارية او خارج ادراك الذات العارفة، خواص قد تتيح تفسير او تسويغ الخيار الاخلاقي الموائم لالتزاماتها.

لا يمكن للمرء ان ينكر الانتهاكات التي ارتكبت تحت ستار الخطاب الليبرالي، ذي النزعة الانسانية، ولا ينكر الى اي حد جرت حماية مصالح نخب سلطوية معينة عبر الادعاء المنافق الذي يصور هذه المصالح باعتبارها مصالح شاملة تمثل المجتمع الانساني ككل. وحين نقوم بفضح شرور الامبريالية الغربية، او اشكال السطوة الثقافية في بلادنا ذاتها، فاننا نستهجن ازدراء هذه الممارسات بالقيم الانسانية، وكرامة وحقوق المتعرضين للاضطهاد من دون الاعتراف، ضمنا على الاقل، بان هناك حاجات انسانية مشتركة. واذا لوينا العصا الى ابعد حد في صالح وجود الاختلاف والنسبية الثقافية، وأنكرنا وجود أية قيم اخلاقية شاملة، أو خصائص مشتركة بين بني البشر، فاننا عندئذ لن نقوض الأسس ذاتها التي يرتكز اليها اي تضامن اصيل مع معاناة الاخرين حسب، بل نمضي الى اعتبار اي فارق مهما كان بين الاشخاص باعتباره مظهرا جوهريا، متأصلا فيهم، ومظهرا لافكاك له عن هوياتهم الفردية.

وباختصار، اذا رضخنا لمنطق الاختلاف وحده، فاننا سنلغي الاساس، بالتأكيد، لاي دعاوى بأن للهويات المختلفة حقوقا متساوية في نيل الاعتراف ذاته: أي اننا نفكك الاساس الذي يمكن ان تترسخ عليه أية سياسات ديمقراطية ترسخا معقولا. وقد يجادل احدهم قائلا ان حساسية دريدا بالذات من طابع "سياسة الاختلاف" المدمرة لذاتها بذاتها، قد دفعته، حتى الآن، الى الاحجام عن قول اي شيء محدد حول علم الاخلاق وعلم السياسة القائمين على مذهب التفكيكية. لكن دريدا أعرب، في الوقت نفسه، عن تحسسه لاتهامات نقاده بأن التفكيكية تظاهرت، طوبلا، بالتزام اخلاقي وسياسي، "يساروي"، بينما رفضت الاقرار بذلك صراحة، او رفضت اضفاء شرعية فلسفية على هذا الالتزام. من هنا مبعث الاثارة في كتاب اطياف ماركس ، ذلك لان دريدا، في هذا الكتاب بالذات، يرقى اخيرا الى تحدي متهميه بالمراوغة في هذه القضايا، مما يدفعه الى تسليط بض الاضواء عليها.

دعوني ابدأ بالاشارة الى ثلاثة جوانب في أطياف ماركس وثيقة الصلة بهذا الموضوع.

في المقام الاول، يقدم الكتاب بيانا محددا عن الانتماء السياسي. فدريدا يعلن بوضوح ابتعاده عن المحتفين بزوال الماركسية وعن جميع الذين يرجعون صدى نبوءات فوكوياما الظافرة عن "نهاية التاريخ" (3). ويبدي دريدا استعداده التام للاقرار بأننا اذا قسنا درجة "اضطراب" عصرنا(4) بدرجة التعاسة الانسانية سواء القائمة منها او الوشيكة، فان عصرنا منحرف بلا مراء. ويبين دريدا بوضوح تام- من خلال اتهاماته العشرة للرأسمالية الكونية(5) انه يتبنى وجهة نظر قريبة عموما من الماركسية حول منابع الاضطراب.

وفيما يتناول دريدا بتفصيل لايكل القضية الفلسفية المتعلقة بمعنى "اضطراب " العصر أو "استقراره"، ويخبرنا، حقا، بأن من الخطأ السعي الى تحديد مايجعل العصر "مستقرا" (مادام ذلك يؤدي الى تجسيد انطولوجي ( وجودي)، أو فرض جسد على ماهو روح أو وعد طيفي، يتشوه بمجرد السعي الى تجسيده ماديا...)، وفيما يحجم، أبدا، عن الافصاح عن اي قول محدد يعين ماهية "استقرار" العصر، او الافصاح ايضا عن الوسائل العملية لتكييف العصر باتجاه الاستقرار، فان دريدا يستهجن ومع ذلك، في لحظات مكاشفاته النقدية، حالات الاستغلال والاضطهاد في النظام العالمي المعاصر، استهجانا جليا ومعتبرا الاقتصاد الرأًسمالي جذر المشكلة فينحاز، في هذه الحدود، الى صف ماركس.

ثانيا، يعكف دريدا هنا، ولأول مرة، على تناول كتابات ماركس بتفصيل مسهب، فيقدم في مجرى ذلك عددا من القراءات ذات الصلة الوثيقة بالموضوع. ان بعض هذه القراءات بعيد عن الجدة الاصيلة ( فالمثالب المميزة لنهج ماركس الواقعي في تصوير الايديولوجيا في كتاب، الايديولوجيا الالمانية، قد حظيت باهتمام هائل من جاتب دارسين سابقين) لكن هناك انتقادات فريدة تخص دريدا، ابرزها التعليق المسهب الذي يقدمه حول القسم المنبوذ الى حد كبير في كتاب الايديولوجيا الالمانية الذي ينغمر فيه ماركس انغمار مهوسا بطرد "اشباح" انوية ماكس شتيرنر. وقد تساءل محللون كثيرون لماذا يبذل ماركس هذا القدر الهائل من الجهد ليدقق دفاع شتيرنر عن فرادة الفرد في كتابه الأنا وخاصيته(6). واعتقد ان دريدا يقطع شوطا حسنا في الاجابة عن السؤال، حين يلمح الى ماركس، هنا، كان حبيس صراع لانكار الذات مع نفسه – اي صراع مع شبح كزدوج لذاته، او لافكاره.

والقضية المطروحة اساسا، هنا، على الرغم من ان دريدا لايفصح عن الامر بالطريقة التي سنوردها تماما، هو مدى اعتماد دفاع شتيرنر عن الانوية على الافكار ذاتها التي استخدمها ماركس وأنجلز، تحديدا، ضد النزعة الانسانية التجريدية لدى فيورباخ ومايقترن بها من معتقدات شيوعية. (الحق، ان الكتاب "انطلى" على انجلز بحيث انه كتب الى ماركس عام 1844 يقول ان هناك "هفوات قليلة"، ينبغي اثارتها بصدد شتيرنر، "لكن علينا القبول بما هو صحيح في مبادئه "). واذا ماكان كتاب شتيرنر مثيرا لقلق ماركس ، فمرد ضلك انه اضطره الى ان يبين كيف يمكن في ان واحد ، رفض النزعة الانسانية التجريدية، والدفاع عن الشيوعية ضد التهمة القائلة انها تؤدي الى التضحية بالفرد الفعلي على مذبح مجتمع تجريدي. ان كتاب شتيرنر قد لسع ماركس مما حفزه الى تبيان ان الشيوعية التي يتوقان اليها هو وأنجلز، لاتنسجم مع تحقق الفردية حسب، بل انها الطريق الوحيد لتحقيق الفرد لذاته.

لعل دريدا لايتفق مع ذلك تماما. ولكن يبدو لي ان جزءا من اهتمامه بنزاع ماركس – شتيرنر، وجزءا من انشغاله بهذا الموضوع في كتاب اطياف ماركس، يستهدف تناول تلك النقطة في كتابات ماركس التي كان ماركس نفسه يصارع، خلالها، بنوع من مبدأ تفكيكي- أولي لتوكيد الاختلاف "الفردي" بوجه دمج أو تذويب الاثنين (الفرد والمجتمع) من جانب الجماعة الشيوعية.

دعوني اتوقف عن الاستطراد في هذه القضية، لأتناول ما اعتبره المظهر الثالث البارز في كتاب دريدا، وأعني تحديدا قرار الكتاب بأن ربط التفكيكية بعلم الاخلاق او علم السياسة، سيجعل التفكيكية معتمدة، عندئذ، في نظرتها على عنصر يتعذر اختزاله، عنصر يقاوم عملية التفكيك، ولا بد للتفكيكية من ان تركز على اساس من القيم. او حسب قول دريدا نفسه، فان اي سياسة تحررية بحاجة الى نوع من ((مهدوية)) (خلاصية) فكرة معينة عن العدل والديمقراطية. وكتب يقول ((ان مايتعذر اختزاله الى اي تفكيك، ومايبقى عصيا على التفكيك، شأن امكانية التفكيك ذاتها، يتمثل في تجربة معينة من الوعد التحرري، او لربما شكلانية المهدوية البنيوية، مهدوية بلا دين، بل مهدوية بلا مهدي مخلص، فكرة عن العدالة))(7).

ويمكن لنا ان نتساءل عن هذه ال((ربما)) في المقتبس اعلاه( هل يرغب دريدا حقا ان نفهم ان عليه، بعد، ان يحسم رأيه حول هذه النقطة؟) بل بالطبع يسارع دريدا الى التوكيد بأن هذه ليست بالفكرة العادية عن العدالة، بل هي عدالة ينبغي تمييزها عن اي من المفاهيم المتداولة عنها ومحمولاتها المتعينة. مع ذلك، يعترف دريدا، اعترافا جازما، بضرورة تبني موقف ارشادي معين- وهذا تنازل هام لاولئك الذين دأبوا على الاشارة الى وجود تناقض بين نزعة اللاحسم الاخلاقي للتفكيكية، واستخدام التفكيكية أداة لدعم برنامج سياسي تحرري. لابد اريد بذلك الالماح الى ان دريدا لم يتحدث سابقا عن الاساس المتعذر تفكيكه في النقد التفكيكي، بل اقصد ان يعترف ، في مواجهته مع ماركس، بوضوح اكبر من ذي قبل، بلزوم تثبيت الأهداف او الغايات المستقبلية التي يمكن للمرء، في ضوئها، ان يرفض ماهو قائم فعلا، ولربما ايضا لزوم قول شيء عن وسائل تحقيق تلك الغايات، مهما كان هذا التثبيت والقول مقتضبا.

بعد هذا لابد من القول انه حيثما تتميز محاججات دريدا في اطياف ماركس، بأنها متوقعة تماما، وقليلة الجدة، فان ذلك يكمن في الطابع الشكلي الخالص لاعتراف دريدا المذكور اعلاه. ورغم استعداد دريدا للقبول بفكرة ان النقد التفكيكي لن يكون معقولا الا على خلفية او في اطار التزام اخلاقي محدد، فانه يبدو عازفا تماما عن ان يعطي لهذا الالتزام اي محتوى. اذ حين يأتي الامر على ذلك، فان المغزى الطاغي في كتابه يظل يكمن في وجوب الامتناع عن التجسيد الانطولوجي ابدا، وان نبقى مسكونين بروح السياسة التحررية ليس الا، والا نسعى الى تجسيدها في اية مجموعة من السلع والمؤسسات والاستراتيجيات، فمثل هذا التجسيد – كما يقول ضمنا- يضارع خيانة الروح نفسها لامحالة.

ويقول دريدا ان مايجمع بين ماركس وخصوم الشيوعية هو خوف من طيفها- خوف يتضاد مع خوفهم، ذلك لأنه كان هلعا ليس من ان تكتسي الشيوعية لحما وتغدو حضورا مجسدا، بل ذعر من الا يتحقق لها ذلك، اي ان تبقى كائنا طيفيا ، والنتيجة وجود خوف مشترك من الطيفية ذاتها. وعلى حين ان دريدا يؤكد ان ماينبغي التخوف منه اكثر من اي شيء اخر، بل والحذر منه اكثر من سواه، هو الاندفاع نحو طرد الارواح – الانطلاق نحو اكساء الروح لحما وتحويل توقنا المهدوي للخلاص الى كيان ملموس. فينبغي ان نحب الشبح، ونعانق الطيف- وهذا يعني ان علينا ان نفكر ونتصرف دوما داخل الفضاء القائم بين المثل الاعلى ، الشكلي بصورة مطلقة، والناظم بلا محتوى، وبين تجسيد او تمثيل هذا المثل الاعلى بأي حضور ((ممتلئ)). ويطالبنا المنطق الطيفي، ان جاز القول، بأن نقبل فكرة ان الموضع الوحيد للفضيلة السياسية يكمن في الافتراض بالذات.

وهكذا يتوجب علينا ان نمارس نقدا محايثا متصلا ضد عجز الواقع القائم عن الارتفاع الى مستوى مثله العليا عن العدل والديمقراطية. ولكن يتوجب علينا، في الوقت ذاته، نقد تلك المثل العليا ذاتها في ضوء عدالة لاصلة لها بعدالة القانون والحق، وديمقراطية لايجوز خلطها مع اي من مفاهيمها الحالية- اي نوع من عدالة وديمقراطية لايجوز لنا ان ننتظر من اي واقع فعلي بديل ان يحققها لنا قط، ولا ان يعرضها لنا باعتبارها قابلة للتحقق. بل يجب علينا ان نمضي في اطار روح عدالة مرجأة بلا حدود: اي مايسميها دريدا((عدالة العطاء)) التي لاتتوقع من الاخر ولا تتطلب منه اي مقابل، بروح ديمقراطية مرجأة بلا حدود التي تقوم اخلاقها في ((قبول الغريب)) على الضيافة المطلقة التي لاتضع شروطا على الاستقبال، اخلاق تحجم عن جميع تمثلات الهوية، ولا تفرض مطاليب على ((الاخر)) لكي يمتثل لاي نظام قائم من الحقوق والشرعية، او لاي قواعد محددة سلفا عن الشرف او العدالة.

وهناك الآن عدة نقاط يمكن تناولها بصدد اعادة الصياغة التفكيكية للوعد التحرري الماركسي. فاولا ، يمكن لنا بالتاكيد، ان نتساءل عن معنى القول ، ان كان لذلك من معنى، بان المرء ماركسي حتى بالروح. ولنأخذ النقطة التي يثيرها دريدا (وهي ليست نقطة خلافية اصلا مما يرفضه الماركسيون، ذلك لانهم هم انفسهم قد طرحوها مرارا) ومفادها ان نوع الماركسية الموائم لعصرنا هو ماركسية جرى اصلاحها او حتى تنفيحها تنقيحا جذريا. مع ذلك يمكن للمرء ان يجادل قائلا ان التفكير وفق روح ماركس يملي علينا القيام بما يتجاوز شجب ماهو قائم فعلا في ضوء المستحيل.

او دعونا نعالج هذه المسألة من زاوية مختلفة بعض الشئ، وعندها يمكن لنا ان نتساءل: هل يوجد حقا شيء اسمه روح ماركس، طالما ان سائر كتاباته ( نعني ان كتاباته عن الحتمية الاقتصادية، وعن البنية الفوقية والقاعدة، عن التناحر الطبقي وصراع الطبقات، عن الايديولوجيا والمادية وعن((البشر الفعليين وظروفهم)) وباختصار عن انطولوجيا نمط الانتاج الرأسمالي ووسائل واتجاه تحوله، قد غلفت بالغموض وحولت الى اطياف)قد شجبت على اساس انها لم تعد ملائمة لعصرنا، او انها افرغت من معناها الحرفي.

ان دريدا يحيل نفسه الى ماركس، ويريدنا ان نحيل انفسنا الى ماركس، لكن مايعرضه علينا هو ماركس كما يراه صالحا للتقديم (له ولنا ولعصرنا) شريطة ان نرجئ ثقتنا بمعانيه الحرفية، ليس هو ماركس((غير الماركسي)) فقط بل ليس ماركس اصلا. بمعنى، وعندها ينبغي ان ان نسأل لماذا- لماذا ماركس؟ وبأختصار نتساءل متى يكف العمال بروح ماركس فقط عن ان يكون ماركسيا- ويصبح، مثلا ، ليبرالية – يسارية ، او ((ديمقراطية راديكالية)) مثل فكر ارنستو لاكلاو وشانتال موف اللذين لايترددان عن وصف نفسيهما بأنهما ((مابعد ماركسيين))(8) رغم ان صيغة الماركسية التي ينزع دريدا تجسدها الواقعي هي اقرب الى تحليلاتهما منها الى الاعمال الفعلية لماركس نفسه.
ومثلما انني لااعتبر هذه المسائل لفظية محضة، فأنني لا استبق الحكم في الاجابة عنها، لكن نصيحة دريدا تتضمن معاني عديدة جديرة بالاعتبار، وأود ان اعبر عن معارضتي الاكيدة لها. فأولا، لماذا ينبغي ان نلتزم بمنطق تنصب تأكيداته، كما يبدو، على الطبيعة التساومية لأية سياسة ملتزمة، نشيطة، وليس على المكاسب التي تستطيع هذه السياسة تحقيقها؟ وقد يبدو ان ذلك يفترض ضمنا ان ليس بمقدرونا ان نكون حساسين سياسيا الا في الفكر والا في الفلسفة، لا في الممارسة الفعلية. دعوني اضيف بهذا الخصوص بأني لم استطع مقاومة الاحساس بان دريدا لايعطي انتباها كافيا، من طراز((ان تكون او لاتكون)) لجانب كبير من النشاط السياسي لليسار، وعلى سبيل المثال السعي النشيط والملموس لليسار من اجل بلورة ((طريق ثالث))يخترق انطولوجيات الحرب الباردة، باصراره على المناداة بالعدالة والمساواة والديمقراطية، دون الوقوف الى جانب العدالة والمساواة والديمقراطية التي تنادي بها الشيوعية او الرأسمالية الليبرالية، والتزامه بطائفة من البرامج الوسطية (بين الماركسية والوجودية، بين الاستجابات البروميثيوسية والاستجابات اللاعقلانية تجاه ازمة البيئة، بين السياسة القائمة على اساس الطبقات من جهة، والسياسة القائمة على كل مايصلح لان يكون مابعد حداثة ، من جهة اخرى). لا أقصد بذلك ان التمثيلات المحددة لهذه المواقف السياسية منيعة على النقد التفكيكي، بل بالاحرى ان هذا النقد انصهاري اكثر مما ينبغي، فهو يدعونا الى اعتبار كل الممارسة العملية مقضي عليها بالفشل مسبقا لعجزها عن ان تجسد ديمقراطية اصيلة او حقيقية، ولا يقدم لنا اي ضمان او معيار للمفاضلة بين الطابع الاكثر تقدما او الاقل تقدما مما يميز مختلف الافعال والممارسات وأشكال المؤسسات . وأن قولي هذا يؤكد ان دريدا لايهتم الا قليلا بالطرائق التي يمكن ان يقال بها عن الممارسات اليسارية انها جسدت ((الاطياف)) وانها انطلقت في هدى روح وساوسها . وان قيام دريدا بتغليف احتراساته ضد الماركسية ((اللاهوتية))ببلاغة لفظية جديدة ينبغي الا تحجب عن اعيننا حقيقة ان الروح العامة التي يحرك بها هذه الاحتراسات، قد وردت مرارا وتكرارا داخل معسكر الماركسيين والاشتراكيين، بل انها تجسدت، احيانا، في بعض الاشكال، النظيفة نسبيا، من الممارسات العملية.
ولكن اذا كان منطق الطيف يدعونا الى اسقاط التمايزات بين السياسات المتحققة لليسار، قهو بالمقابل ، يخطئ في الاماح الى امكان ةجود سياسة لاتتضمن نوعا من الاختيار، نوعا من القرار، حول اسلوب وتوقيت التحرك، ونوعا من تمثيل الاخر كشرط لذلك التحرك. واذا كان ذلك نوعا من التلوث، فسنقول نعم ليست هناك من سياسة بلا تلوث. فنحن لانستطيع تغيير العالم، مهما التغيير ضيئلا ، اذا التزمنا القول بالابتعاد عن التجسيد الانطولوجي. ولن يترسخ ويتسع التعاطف او التضامن مع ضحايا الاضطهاد ولن يكون ((بريئا))(اذا كان هذا التعبير دقيقا) من قراءة او تمثيل محنة الضحايا في ضوء هويتنا نفسها، اي في ضوء تصور ماسيكون عليه حالنا لو كنا في مثل ظروفهم- او ماذا كنا سنشعر لو كنا سنعاني مصيرهم. ان الانفتاح او الضيافة المهدورية(الخلاصية) نحو الاخر امر حسن لو طرح ببساطة كاحتراز مضاد للصهر السياسي العجول- او كتحد للسياسات الحكومية الراهنة حول هجرة الاجانب. ولكن اذا كان دريدا يعني اننا نستحق اللوم عما يصيب الاخرية المطلقة للاخرين من الازدراء في كل تمثيل للاخر واي تمثيل للاخر مثل تمثيل الذات، فان ذلك يبدو بمثابة توصية، لا من اجل العدل والديمقراطية، بل من اجل السكوت السياسي: فنحن ، بحرفية القول، قد نجرح الاخر بمجرد افتراضنا ان هذا الاخر يعاني العذاب او الاذلال على يد المعذب او المضطهد، ولعل من الافضل الا نتدخل. فيا منظمة العفو الدولية انتبهي!
سيقال ان دريدا نفسه يعترف باستحالة مايدعو اليه ، وهذا صحيح بمعنى ما. فدريدا يكتب عن الانفتاح المهدوي (الخلاصي) قائلا(( ان الامر سيكون سهلا، بل سهلا تماما، ان نبين ان مثل هذه الضيافة المفتوحة بلا حدود هي المستحيل بعينه، رغم انها شرط الحدث وبالتالي شرط التاريخ نفسه (....)، وان شرط امكان الحدث هذا هو ايضا شرط استحالته)) لكن الاعتراف جاء في اطار فكرة مفادها انه من دون تجربة المستحيل هذه، فان المرء قد يتخلى عن اية عدالة، وعن اي مطالبة بسياسة تقوم على ((ضمير سليم)). ويدعي دريدا ((ان المرء قد يقرأ ايضا بالحساب الاقتصادي ويعلن عن جميع الحواجز التي ما تزال الاخلاق والضيافة او مختلف ضروب المهدوية (الخلاصية) تنصبها على حدود الحدث، من اجل تفتيش القادم ...))(9). ان السياسة العادلة اي تجربتنا لها امر مستحيل من جهة، ومن جهة اخرى ليست هناك سياسة نزيهة او عادلة بدون ان نجربها.

ولكن بمقدور المرء الادعاء ايضا ان شرط اي سياسة ذات ((ضمير سليم)) انما يكمن في رفض هذه الثنوية المتقابلة. اذ ما ان نطرح السؤال عن سبب ((استحالة)) مايدعى بديمقراطية الضيافة المفتوحة ، حتى نواجه حقيقة ان فكرة ((المستحيل)) تخفي، هنا، العجز عن الالتزام السياسي- الاخلاقي. ان ذلك مستحيل (كما اشرت سابقا)لانه لايمكن قول ((لا)) امام معاناة الاخر، اذا كان قول ((نعم)) للغريب يعني الاحجام عن اي وكل تصور مسبق عن الطريقة التي ينبغي ان يعيش بها الغرباء. ان ذلك مستحيل لان احترام الاختلاف المطلق للاخر- عدم فرض اية شروط على الضيافة – سيحرم الاخر، منطقيا، ومن اي اساس للاعتراض حتى على اكثر اشكال الاستقبال بعدا عن الضيافة، وسيتطلب من كل وأي ((مضيف)) قبول جميع اولئك الغرباء الذين تكمن غربتهم في عجزهم الجذري عن قبول او استيعاب المبادئ الاساسية للضيافة، والديمقراطية ، او العدالة. ان ذلك مستحيل لان العدالة ليست مسألة سخاء او احسان ، بل علاقة متبادلة لايمكن ان تقوم، بحكم طبيعتها بالذات ، الا في اطار التزامات ومسؤوليات متبادلة. ان بوسعنا ان نفهم ممانعة دريدا من الاعتراف بهذه الشروط المتعلقة بامكانية الديمقراطية والعدالة في ضوء انعدام المساواة والتفاوتات في التوزيع المرتكبة باسم مفاهيمها القائمة واشكالها المحددة. لكن نقد هذه التفاوتات داخل الاقتصاد العالمي لن يكون له اي معنى الا اذا تجذر في فكرة العدالة بوصفها نوعا من المشاركة- اي كونها تنطوي على التزام بتوزيع منصف للسلع والموارد. اما انا، على اية حال ، فلا ارى كيف يكون من العدل تجاوز مثل هذا المفهوم عن العدالة، واعتقد يقينا ان البلاغة اللفظية في الحديث عن ((عدالة العطاء)) منكودة اذا كان يراد بها ان اشكالا معينة من ((العطاء)) غير المشروط التي يمكن عبرها تحقيق هكذا عدالة بصورة افضل- الغاء ديون العالم الثالث مثلا- ماهي الا ((هبات)) او ((عطايا)) عوض ان تكون ارجاع ماأخذ ونهب وصودر في السابق .

ان رفض دريدا لمبدأ التجسيد الانطولوجي – اي مقاومته المعترضة على التفكير في الاشكال والمؤسسات السياسية التي قد تحقق مفهومه المتعالي عن الديمقراطية والعدالة يجعله عرضة لتهمة انه لايعنى حقا بأخلاقيات العدالة والديمقراطية اطلاقا، بل حتى عرضة للادعاءات التهكمية القائلة بان ((عدالة العطاء))هي اكثر ما تحقق في الوقت الحاضر، ولكن القسط الاكبر من عدالة العطاء هذه قائم لصالح المجتمعات الاكثر غنى وامتيازات في عالمنا. هناك حدود لمدى قبولنا بفكرة ان توصيات دريدا للحفاظ على سياسات ((الضمير السليم))هي توصيات ذات ضمير سليم، وذلك نظرا لغياب اي مخطط (اوبرنامج) يحدد شروط الامكانية، او اي انخراط في النزاعات الاخلاقية التي تتيح لها الضيافة المفتوحة مجالا لاحدود له.

لكن هناك هناك جانبا اخر في اخلاقيات دريدا بقول ((نعم للغريب)) مما يوجب الاحتراس والحذر حياله،الا وهو دعوة هذه الاخلاق الى اسقاط او تفتيت التمييزات المفهومية بين ((الانسان))و((الحيوان))، او بتعبير اكثر دقة دعوة دريدا الى التعامل مع كل التمايزات الحدسية التي تفصل بين ((الاخر)) الانساني والاخر اللاانساني كشكل من الرقابة البوليسية المفاهيمية غير المبررة. فمثلا نجد ان دريدا يوصي في مقابلة جرت مؤخرا ، ان ((الشخص ما)) الذي يعامل بانفتاح مهدوي (خلاصي) هو ((شخص ما)) لايجوز ولا يمكن لنا ان نحدد ماهيته مسبقا – ولا يجوز ان نتحدث عنه ((لاكذات ، ولاكوعي ذاتي، ناهيك عن ان يكون بمثابة حيوان او اله، او شخص، او رجل او امراة، او كائن حي، او ميت))(10)، وهناك عدد من الاقوال بالمعنى ذاته مما يرد في كتاب أطياف ماركس. ولكن هل يجوز لنا حتى ان نقرر ماهو ((الشخص ما)) او ماليس هو، اذا مارضخنا لهذا الحكم من دريدا: فماذا يعني ان نكون ((شخصا ما)) في ظل غياب اي تعريف او تحديد؟ بتعبير اخر، هل هذا الحكم من دريدا متماسك منطقيا؟ وحتى لو كان متماسكا، فهل يمكن ان يكون اخلاقيا؟ هل يمكن لهذا اللاتمييز ان يشكل اساسا لنظام سياسي عادل؟ لعلني صرت، هنا، ساذجة، لكني اجد من المحير ان يعمد دريدا الى مناصرة منظور اخلاقي يبدو، للوهلة الاولى، ميالا تماما للتجرد والتنصل من تلك الاختلافات- من قبيل استخدام اللغة، او ادراجنا في منظومة رمزية- التي تميز بني البشر عن المخلوقات الاخرى، هذه الاختلافات التي احتلت بؤرة اهتمام المذهب البنيوي ومابعد البنيوي.

ألا يقوم دريدا هنا بايراد حججه على نحو قد يضع الاخلاق التفكيكية في موضع الاصطفافات مع اكثر اشكال المذهب الطبيعي تبسيطا واختزالا ، مع اولئك الداعين الى توسيع المجموعة الاخلاقية لكي تشمل الثدييات الحيوانية من غير البشر. او مع خصوم ((مركزية الانسان))الذين يرفضون اي امتياز لبني البشر على اشكال الحياة الاخرى؟ ومن الواضح ان لابد من مناقشة هذه القضايا ، وان هناك طيفا من المواقف التي قد يتبناها المرء فيما يتعلق بها. واعتراضي هنا ان دريدا يشير الى التفتيت المفهومي للتمايز بين الانسان والحيوان، دونما اي اعتبار للصعوبات المضادة للواقع في ذلك، وذلك بمعزل تام عن النقاشات الهامة والمحتدمة التي تدور حول هذه القضايا في ميدان الاخلاق البيئية.

اخيرا، دعوني اعرض هذه النقطة الواضحة، وهي ان قول دريدا بأن(( ليس ثمة مستقبل بدون ماركس)) امر معين، وانه لأمر اخر تماما ان نفترض بأننا سنرى تفويضا شعبيا للاشتراكية في المستقبل. انه لشيء ان ننصح بمعالجة الدين الخارجي بروح النقد الماركسي (ايا كان معنى ذلك بالتحديد)، ولكنه شيء اخر ان نفترض بان ذلك سيحقق عبر القضاء على الرأسمالية العالمية. واذا كانت مسألة هل ان ماركس سيعود ثانية تفسر باعتبارها مسألة عودة التأييد الساحق للبرنامج الاشتراكي، فعندئذ ارى انه قد يكون ثمة مستقبل بدون ماركس لفترة طويلة قادمة، في الاقل. الواقع ليس ثمة حقبة لايجول فيها شبح الشيوعية في اوروبا مثل هذه الحقبة الراهنة. ولكن اذا كان هناك شبه بهذا الشبح، مهما كانت درجة الشبه بعيدة، يراد الابقاء عليه في متناول اليد كوسيلة مضمونة لكسب الاصوات في المستقبل، فأظن ان ذلك يتطلب من كل الملتزمين بروحه ان يتمردوا على الفيتو الدريدي: ان يكسو هذا البديل عن الواقع الفعلي باللحم، وان يفكروا في الاشكال المؤسساتية التي قد تحقق هذا السراب المسمى اشتراكية ديمقراطية او اشتراكية اصيلة. وعلى اية حال، يتهيأ لي ان مايبقي على النظام الرأسمالي لايكمن في الايمان الواسع بقدرته على ضمان الحياة الحسنة او درء الازمات الرئيسية لعصرنا، بقدر ما يكمن في التشكيك العميق، والمبرر من نواح عدة، في قدرة اي بديل عن هذا النظام في التحقق الفعلي. وبهذا المعنى، قد يجادل المرء ان مشكلة اليسار لاتكمن في وفرة البرامج والخطط، بل في شحتها- اي الاستعداد المفرط لطرح فكرة ((الاشتراكية الأصيلة)) كطريقة للتنصل مما جرى باسم الماركسية، والانتباه الهزيل تماما المكرس للأشكال الملموسة التي يمكن بها تحقيق هذا المثل الاعلى.

واذا كنا نرغب حقا في ان نتصدى لحوادث افظع من البؤس الأبادة ، والبربرية البيئية، والحروب القاضية (كما يلمح دريدا) فان سائر الالتزامات العملية لليسار- العمل النظري على اشتراكية السوق، وعلى السياسات الاقتصادية البديلة، وعلى المفاهيم الجديدة للمواطنة، وعلى اشكال التفويض الديمقراطي للحكم، وعلى التحرر من العمل، وعلى المؤسسات ذات الطابع الكوزموبوليتي الجديد: ان ذلك كله يبدو انفع بكثير من تحذيرات دريدا المستمرة من استباق الاشكال التي سيتحقق بها المستقبل.

وبهذا الخصوص، لايسع المرء الا ان يلاحظ اية مفارقة صارخة تكمن في ان يوصي دريدا بماركسي طيفي، اذا ماعرفنا مدى اشمئزاز ماركس نفسه من الا يفعل شيئا سوى استحضار شبح الشيوعية، واذا ما عرفنا معارضة ماركس لتحديد المؤسسات السياسية التي يمكن ان تجسد تلك الاطروحات التجريدية الشهيرة: مجتمع الوفرة، مستقبل لايقاس بأي معيار اخلاقي راهن، التوزيع حسب الحاجة، التطور الثري والشامل للفرد. ولعل بالوسع القول ان اكثر موضع يقترب فيه ماركس من روح التفكيكية انما يتمثل في هذه الاشارات الفكرية الى مجتمع مايزال متعاليا على الواقع الفعلي القائم بحيث لايمكن ، بعد، بلورة شروط تحققه في صيغة مفاهيم. وان ماركس هو طيف ماركس في رفضه رسم صورة تفصيلية عن الشيوعية في تصوره لها، وفي طوباويته المضادة للطوباوية(11). انني لا أرثي لحال هذه الرؤيا بذاتها، واعتقد ان عالما لايتوق، بعد، الى اي سمو سياسي من هذا النوع، عالم جديب. اقصد بذلك ان الفراغ الانطولوجي قد يقدم نفسه رهينة للمقادير، وان رفض ماركس التفكير في العالم السياسي للشيوعية خلق عددا من هذه الفراغات، وانه بمقدار ما ان هذه الفراغات ملئت ب((الاشتراكية القائمة)) فانها لعبت دورا في انهيار الماركسية نفسها. دعونا نعبر عن ذلك بصيغة اخرى: ان رفض المرء للتجسيد الانطولوجي قد لايجنبه، بالضرورة، فظائع التوتاليتارية المهدوية (الخلاصية)، بل انه قد يفسح لها بذلك مجالا أرحب، ولابد لنا، قطعا، من الاحتراس من جميع اولئك الذين يعرفون كيف يغيرون العالم، والاحتراس مما سيبدو عليه هذا العالم بعد ان يفرغوا من تغييره. ولكن مادام العالم سيتغير من كل بد، فهناك ايضا مخاطر تتمثل في ان يحصر المرء نفسه، على نحو ضيق تماما، في مهمة ((النقد النقدي)): النقد الدائم لاضطراب جميع العصور، والفشل الأزلي للواقع الفعلي في قياس عقلانية لن تأتي ابدا(12). ان دريدا يمقت سياسة (( الحاضر الممتلئ))، سواء اتخذت شكل احتفاء بنهاية التاريخ، او شكل معرفة مطلقة بالكيفية التي ينتهي بها هذا التاريخ. وأني لاوافقه على ذلك. لكن خير احتراس من انماط الكمال هذه لايتحقق بترك الفراغات الانطولوجية كليا.

1998
انتهى
الهوامش
(1)Jacques Derrida، Spectres of Marx، trans. Peggy Kamuf ( Routledge، New York and London.1994)
(2) هناك حكاية استشهدت بها مارثا نيوسباوم في مقالة اخيرة لها تحت عنوان (الوظيفة الانسانية والعدالة الاجتماعية: دفاعا عن الماهيوية الأرسطية) نشرت في مجلة (Political Theory، Vol. 20، No. 2، May 1992)، تقدم توضيحا بارعا للنزاعات التي نشبت في النطاق الاكاديمي حول هذه القضية. وتروي نيوسباوم انها حضرت مؤتمرا دوليا حول القيمة والتكنولوجيا حيث قدم عالما انثروبولوجي فرنسي محاضرة عبر فيها عن أسفه على ادخال البريطانيين لقاح الجدري الى الهند لأنه قضى على عبادة احدى الالهات التي اعتادت احدى المجموعات المحلية الصلاة لها لتفادي الجدري. وعندما اعترض أحد الحاضرين انه افضل بالتأكيد المعافاة على المرض . اجاب العالم ان الطب الغربي لايفكر الا وفق التناقض الثنائي للصحة مقابل المرض ، والحياة مقابل الموت ، ولهذا فان بصيرته عمياء عن الاخرية الراديكالية للثقافات الاخرى.
Fracis Fukuyama The End of History and the Last Man (The Free Press، (3)
1992 New York .)
(4) يلعب كتاب اطياف ماركس مطولا على فكرة العصور، المضطربة، (انظر خاصة الفصل الاول ، وصفحة 77-78) والاشارة هنا الى كلمة هاملت ردا على ظهور شبح والده في بداية المسرحية، فالزمان مضطرب، اه ياللكيد اللعين، ان اكون قد ولدت لاصلح منه مساره. (هاملت، الفصل الاول، المشهد الخامس).
(5) انظر اطياف ماركس 81-86. يورد دريدا قائمة ب (كوارث)) النظام الدولي المعاصر وهي: 1)البطالة الجديدة 2) التشرد 3) المنافسة الاقتصادية 4) تناقضات (السوق الحر) 5) الدين الخارجي 6) صنع الاسلحة 7) الاسلحة النووية 8) الحروب بين الاثنيات 9) (الدول الشبحية ) للرأسمالية مثل المافيا وكارتيلات المخدرات 10) هيمنة الغرب على تفسير وتطبيق القانون الدولي.
(6) القسم الاطول من الايديولوجية الالمانية مكرس لمناقشة كتاب شتيرنر رغم ان ماركس يصف مؤلفه بأنه يمتلك ، اضحل عقل، بين الهيغيليين الشباب.
(7) دريدا ، اطياف ماركس.
Ernest Laclau and Chantal Mouffe، Hegemony and Socialist Strategy (8)
(Verso، London، 1985)، Ernesto Laclau، New Reflection of Our Time (Verso، London،1990)، Chantal Mouffe، The Return of the Political (Verso، London،1993).
(9) دريدا ، أطياف ماركس

انتهى
* سعدي عبد اللطيف: كاتب عراقي مقيم في المملكة المتحدة واستاذ سابق للادب الانكليزي في العراق والجزائر. ترجم ونشر عشرات النصوص الفلسفية والشعرية والوثائق السياسية الى جانب ما له من دراسات ومحاولات في النقد الادبي المعاصر والفن.



#سعدي_عبد_اللطيف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما علاقة ميشيل فوكو بالثورة الإيرانية؟
- قتيبة الجنابي، شاعر الصورة الفنية بطريقته
- مسرحية -حفلة عيد الميلاد- بعد خمسة وخمسين عاما
- -مأتم الأم الكبيرة- لغابريل غارسيا ماركيز
- البرابرة
- رياض رمزي : نعي مثقف حي تم تأجيل موته عدة مرات
- أنطون تشيخوف والحب والحياة في دراسة لروزاموند بارتلت * / الق ...
- أنطون تشيخوف والحب والحياة في دراسة لروزاموند بارتلت * / الق ...
- أنطون تشيخوف والحب والحياة في دراسة لروزاموند بارتلت * / الق ...
- مئوية صالح الكويتي
- افضل شعراء في اللغة الانجليزية في القرن العشرين
- معرض تشيكلي روسي في لندن ولوحات لبيكاسو و سيزان و غوغان
- هارولد بنتر، الغائب الكبير في الفن المسرحي البريطاني
- ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد ا ...
- ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد ا ...
- ميخائيل باختين ومفهوم الحوار عند دستوفسكي بترجمة لسعدي عبد ا ...
- سعدي عبد اللطيف يحاور شاكر لعيبي عن قصيدة النثر المقفاة
- حضارة بابل اضفت على لندن بهجة عميقة
- الكتابة واللغات في العراق القديم
- في ذكرى معرض بابل: الاسطورة والحقيقة في المتحف البريطاني


المزيد.....




- الصحة في غزة ترفع عدد القتلى بالقطاع منذ 7 أكتوبر.. إليكم كم ...
- آخر تحديث بالصور.. وضع دبي وإمارات مجاورة بعد الفيضانات
- قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار في غزة ...
- بوريل من اجتماع مجموعة السبع: نحن على حافة حرب إقليمية في ال ...
- الجيش السوداني يرد على أنباء عن احتجاز مصر سفينة متجهة إلى ا ...
- زاخاروفا تتهم الدول الغربية بممارسة الابتزاز النووي
- برلين ترفض مشاركة السفارة الروسية في إحياء ذكرى تحرير سجناء ...
- الخارجية الروسية تعلق على -السيادة الفرنسية- بعد نقل باريس ح ...
- فيديو لمصرفي مصري ينقذ عائلة إماراتية من الغرق والبنك يكرمه ...
- راجمات Uragan الروسية المعدّلة تظهر خلال العملية العسكرية ال ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعدي عبد اللطيف - الماركسية والتفكيكية