فارس محمود
الحوار المتمدن-العدد: 1230 - 2005 / 6 / 16 - 13:04
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
بين فترة واخرى، يصعد مسعود البرزاني، بوصفه احد قادة الحركة القومية الكردية، ومن خلفه جوقه من القوميين الكرد، من لهجتهم فيما يتعلق بالرفض القاطع لقبول رفع العلم العراقي في كردستان. ويبررون ذلك الرفض بان "جماهير كردستان غير مستعدة اطلاقا لرؤية هذا العلم يرفع مرة اخرى في كردستان وذلك لانه تحت راية هذا العلم ارتكبت المجازر تلو المجازر في كردستان، وقامت قوات نظام صدام بعمليات الانفال وحملات الابادة الجماعية وسياسات التطهير العرقي"!!
بدءا اني، كاحد اناس هذا المجتمع، اشعر بالاشمئزاز لرؤية هذا العلم واشعر بالغثيان لسماع النشيد الوطني! اني احد المدافعين الاقحاح عن ازالة هذا العلم الذي هو رمز سافر لاحد اكثر فترات تاريخ العراق المعاصر بشاعة ودموية. يجب الخلاص منه ومن كل الابعاد القومية والدينية التي يتضمنها فورا. اني ادعوا جماهير كردستان والعراق ان لا تألوا ادنى جهد في اركانه جانبا. ولكن ثمة فرق جدي بين ما ادعوا اليه وما يهدف اليه البرزاني. ان السؤال المطروح هنا: هل ان هذا الامر (رفض العلم بحجة الجرائم) هو ما يقض مضجع البرزاني فعلاً؟!
انه كذب محض! ان عقدة البرزاني لا تكمن هنا! وليس هم البرزاني هو السهر على مشاعر واحاسيس جماهير كردستان والحرص على عدم خدشها. ان البرزاني وحزبه القومي هما ذا سجل طويل بالوقوف بوجه مطاليب وحقوق شباب ونساء وعمال كردستان. بيد ان اقحام الجماهير في وسط الموضوع هو الرياء بعينه. انه التعكز على السخط الواقعي لجماهير كردستان من البعث وعقود من الظلم الشوفيني العروبي القومي وتوظيفه لاهداف اخرى لا تمت بادنى صلة بمصالح الجماهير. انه يتعقب اهدافه الخاصة لا اكثر، اهداف حركته القومية المعادية للجماهير.
لقد فات مسعود البارزاني حقيقة انه ينطق باحاديثه هذه لاناس لم، ولن، يمحى سجل البرزاني وحزبه بهذا الحد من السهولة الذي يتصوره من ذاكرتهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ان 31 اب المشؤوم (وهو اليوم الذي جلب فيه البرزاني قوات الحرس الجمهوري لنظام صدام الشوفيني بدباباتها ومدفعيتها الى اربيل بهدف طرد "اشقاءه" في الاتحاد الوطني من اربيل في صراعهم الدموي من اجل السيادة والهيمنة في كردستان، وهو الامر الذي ادى الى اعتقال جيش النظام للمئات من افراد المعارضة العراقية في كردستان وقتلهم!) هو وصمة عار على جبين الحركة القومية الكردية عموما والبارزاني وحزبه على وجه الخصوص. انه يوم اسود مهره النظام البعثي الفاشي وقوات البارزاني على السواء بانهار من الدماء. لا اعتقد ان هذا التاريخ المخزي قد نساه البرزاني (ومن المؤكد انه لم ولن تنساه ذاكرة جماهير كردستان ابداً)! أ لم يهرول البارزاني و"الرئيس الجديد" الطالباني بعبور برك دماء جماهير العراق وكردستان ومصافحة صدام ومعانقته اثر الهبة الجماهيرية في اذار 1991 ليصبوا ماء سخط الراي العام العالمي والضجة العالمية التي رافقتها في طاحونة مصالحهم التفاوضية والتفاوض من موقع تفاوضي انسب! أ لم يتحدثا عن صدام بوصفه "مهندس الحكم الذاتي" و"صدام الحَكَم وليس الحُكُم"!!! و ألم يدوسوا على مشاعر تلك الملايين التي فقدت اعز اناسها في البرد القارص لجبال كردستان في اقسى هجرة جماعية للحدود التركية والايرانية عرفها التاريخ البشري الحديث!! أ لم ترى الجماهير كيف كان يبيع القادة القوميون معاناتهم بابخس الاثمان ولمن؟! لنظام صدام الدموي المجرم!! ان مسعود بارزاني نفسه الذي كان يتحدث عن صدام، وحتى الاشهر الاخيرة التي سبقت سقوطه بصفة "السيد الرئيس" كجزء من مغازلته التي لم تنتهي لنظام صدام الا بسقوطه. ولم يوعز لقناته التلفزيونية الفضائية وسائر ابواق اعلامه بالحديث عن حلبجة والكيمياوي واجرامية النظام الا بعد سقوط النظام لانه قد وضع "خط رجعة" له مع هذا النظام لحد اللحظات الاخيرة من عمره المشؤوم. ان تاريخهم هو تاريخ الغزل والتملق لنظام صدام، ولكن المشكلة كانت تكمن في رفض صدام لهم، ورفضه منحهم اي دور او مكانة في السلطة السياسية. انهم لم يرفضوا النظام، بل ان النظام من لفضهم. وان كل هذا ليس بجديد على الحركة القومية الكردية واحزابها السياسية. ان تاريخها هو تاريخ العمالة لدول المنطقة والتلاعب بوتر تناقضاتها (وفي اغلب الاحيان كانوا هم اول ضحايا هذه التناقضات، وما "ثورة ملا مصطفى" الا غيض من فيض هذه التجارب المهزومة!). وما ان تخف هذه التناقضات حتى تجدهم في احضان الحكومة المركزية يتشبثون باذيالها من اجل ان لاتحرمهم من فتات السلطة. لم تكن لهم مشكلة مع صدام ونظامه، بل مع ما يعطيه صدام لهم من فتات السلطة!
أ يغيب عن بال احد المشاريع المالية والتجارية الضخمة والعملاقة التي كانت جارية على قدم وساق بين عدي صدام حسين ونيجرفان البرزاني؟! لم ينسى احد بعد الفضيحة التي تم في كردستان والتي مفادها العثور على وثائق تم الحصول عليها اثر سقوط النظام تكشف ان اغلب مسؤولي الحزبين القوميين الكردستانيين (حزبي الطالباني والبرزاني) كانوا يستلمون رواتبا شهرية من النظام لحد لحظة سقوطه!! وهي العلاقة التي لم ينكروها فحسب، بل تعاملوا معها بصلافة! ان جماهير كردستان تدرك طبيعة علاقة البرزاني مع النظام البعثي الى الحد الذي تتحدث عنهم باقاويل كثيرة. بوسع كل احد ان يتكلم عن "جرائم صدام"، ولكن لا اعتقد ان بوسع مسعود المزايدة في هذه القضية. ان نتيجة هذه المزايدة هي ابعد من ان تسعفه.
ما هو اصل القضية؟!
كي ندرك هذه التصريحات، علينا النظر اليها في سياقها الراهن، عراق ما بعد الانتخابات. ان عراق ما بعد صدام، هو عراق الصراعات السياسية العميقة بين التيارات السياسية والاجتماعية المختلفة حول حسم مسالة السلطة والدستور المقبل للبلد. كل حزب سياسي او جماعة اوتيار يسعى لانتزاع اكثر ما يمكن من المكتسبات من هذه المرحلة. التيار الاسلامي الشيعي يسعى من اجل استلام السلطة والدفع باسلمة المجتمع، القوانين والدستور وارساء بديلهم. القوميون الكرد يسعون، من ناحيتهم، الى نيل الفيدرالية وانهاء الاحتكار القومي العروبي للسلطة والحصول على اكبر ما يمكن من كعكة السلطة وتثبيت ما يسموه كذبا بـ"حقوق شعب كردستان" في الدستور . التيار الاسلامي السني "الجريح" والمسلوب المكتسبات يسعى نحو اهدافه السياسية المتمثلة بان لايحرم "اكثر من اللازم" في عراق ما بعد صدام ولهذا يلوح بـ"عصا المقاومة" التي يرى فيها سبيله لاجبار الاخرين على الرضوخ والاقرار بدور مناسب لهم، وكذلك الحال مع بقية التيارات والنخب السياسية الاخرى التي وجدت في الاوضاع الراهنة فرصة للحصول على مكاسب، ولهذا شرعت بعملية خلق الهويات والنفخ بها !! التركمان ينشدون تمثيلا لائقا بهم والاعتراف بهم كقومية ثالثة! المسيحيون، الكلدان، الصابئة وشيوخ العشائر كل منهم يبكي على ليلاه! وظهرت الفيدراليات الجنوبية والوسطى والغربية و الخ في هذا السياق التنافسي! انه تكالب حفنة قراصنة على سفينة تلتهمها النيران.
ولهذا، وبعد ان انتزع القوميون الكرد مكاسب سطروها في قانون ادارة الدولة المؤقت مثل (العراق يتالف من قوميتين رئيستين الكرد والعرب)، القرار 58 وما يتعلق بمدينة كركوك، والحصول على احد المقعدين الرئاسيين: رئاسة الوزراء او رئاسة الجمهورية وغيرها من مكاسب. وفي الوقت ذاته، يسعون بجد من اجل نيل مكاسب اخرى (تحديد خارطة كردستان، الفيدرالية، ميزانية كردستان، طبيعة علاقة كردستان بالحكومة المركزية والعالم الخارجي وغيرها). ان هذه كلها ملفات ساخنة. في خضم هذا السياق والعملية، يبغون تغيير العلم العراقي السابق باخر يحتوي على رمز ما لكردستان. اي انهم يسعون لتثبيت وجودهم على صعيد احد "اهم رموز الدولة"، العلم. انهم يبغون تثبيت اكثر ما يمكن من الامور على "الدولة الجديدة" وعلى منافسيهم. ان هذا ما ينشده البرزاني والقوميون الكرد. المسالة لاتتعلق بالادعاء الكاذب حول احترام مشاعر واحاسيس الجماهير في كردستان! ان وراء هذا مصالح سياسية محددة مهمة بالنسبة للحركة القومية الكردية. انه السعي لاستغلال توازنات القوى لصالح فرض اكثر ما يمكن من "المكاسب" على الدولة التي ترسم ملامحها اليوم في العراق وتثبيت هذه المكاسب بوصفها امرا بديهيا، وليرفعوا عقيرتهم "عاد الحق الى اصحابه!!" الذي من المؤكد ان اصحاب هذا الحق هم ليسوا جماهير كردستان.
ان ما يجري الان هو جراء توازن ما، و لايعلم المرء اذا ما انقلبت التوازنات، اي مصير ستدفع هذه الاطراف المجتمع اليه! ولكنه من المؤكد انه لن يكون اهون من يوغسلافيا السابقة وراوندا. فلنعمل من اجل الحيلولة دون وقوع هذه السيناريوهات السوداء.
ان الرد على الهوية القومية العروبية الفاشية ليس بالهوية القومية الكردية، بل بهوية المواطنة والمساواة. كما ان الرد على العلم القومي الاسلامي العروبي ليس بالعلم القومي الاسلامي العروبي- الكردي. يجب السعي لاستبدال العلم السابق بعلم لايحمل أي نَفَس قومي او اسلامي، علم ذا هوية علمانية وانسانية. من المؤكد ان البرزاني لا يقبل بعلم مثل هذا!!! وهنا اصل القضية.
#فارس_محمود (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟