أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جورج حداد - نظرة عربية مسيحية شرقية في موضوعة صدام الحضارات لهنتنغتون















المزيد.....



نظرة عربية مسيحية شرقية في موضوعة صدام الحضارات لهنتنغتون


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 4309 - 2013 / 12 / 18 - 17:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



جورج حداد*

في القرن التاسع عشر اطلق الكاتب والشاعر البريطاني روديالد كيبلنغ مقولة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا". وهذه المقولة العنصرية ـ الماورائية توحي بوجود "تمايز طبيعي" مؤصل، بين الشرق والغرب، ناتج عن "الطبيعة الانسانية" ذاتها.
وفي نهاية القرن العشرين عمد عالم الاجتماع والسياسة الاميركي صموئيل هنتنغتون الى "تطوير" هذه المقولة واضفاء الطابع "الحضاري" (كما يسميه) عليها، حينما نشر مقالته الشهيرة "صراع الحضارات" في مجلة "فورين أفيرز" (العلاقات الخارجية) الاميركية سنة 1993. وفي هذه المقالة اطلق هينتنغتون تسمية "حضارات" على مختلف الكتل الدينية في العالم. وقال ان القرن الواحد والعشرين لن يكون قرن الصراع بين العقائد الايديولوجية الفكرية، بل بين الاديان. وركز بشكل خاص على الصراع بين المسيحية (الغربية) وبين الاسلام.
وقد ثارت حول المقالة ضجة كبرى في جميع انحاء العالم، ولا سيما في العالم العربي والاسلامي. ووجهت اليها الانتقادات الشديدة باعتبارها تقدم الاساس السياسي والفكري والفلسفي للتعصب الديني والصراعات الدينية، وتقدم التبريرات للتعصب الغربي ضد الاسلام.
واذا كنا نستذكر مقولة هنتنغتون، فليس لاننا نرغب في مناقشة رجل غيبه الموت منذ خمس سنوات (2008). ولكن من الخطأ الفادح الاعتقاد ان هذه النظرية لهنتنغتون هي مجرد وجهة نظر اكاديمية فردية تتم مواجهتها في اطار النقاش الفكري فقط.
ان جميع الابحاث العلمية حول الطبيعة الانسانية، والتجربة التاريخية باسرها، اثبتت تهافت النظرية العنصرية ـ الماورائية، بالرغم من تبنيها من قبل احدى الديانات "السماوية"، وهي اليهودية التي تعتبر ان "بني اسرائيل" هم "شعب الله المختار".
ان الدولة الاميركية لا تزال تعاني بعمق من النظرة العنصرية الى الزنوج والملونين؛ واوروبا الغربية تعاني من النظرة العنصرية الى اللاجئين الفقراء من البلدان الشرقية، بمن في ذلك "الاوروبيون الشرقيون". ومع ذلك فإن الدول الغربية، ونتيجة لمعاناتها هي ذاتها من العنصرية النازية الهتلرية في النصف الاول من القرن العشرين، تحاول قدر المستطاع تجنب وصمها هي نفسها بالعنصرية، وتميل الى وضع اسباب الصراع مع الشعوب الشرقية في الاطار "الحضاري!". وهنا تدخل نظرية هنتنغتون "في الخدمة!". والواقع ان الدول الامبريالية الغربية وعلى رأسها الدولة الاميركية، ومعها ومنها وفيها الصهيونية العالمية، كانت ولا تزال تسعى جاهدة ـ على الدوام، ومنذ القدم ـ لاخفاء نزعتها الاستعمارية عن طريق اضفاء الطابع العنصري ـ الماورائي، او الطابع التجريدي، الديني والمذهبي والعقائدي، السماوي واللاهوتي والفقهي والفلسفي، على الصراعات الاجتماعية ـ السياسية والقومية.
ومن ضمن هذه النظرة التجريدية "الفكروية" يوصف الصراع السابق بين المعسكرين الرأسمالي و"الاشتراكي"، بأنه كان صراعا ضد "الشيوعية" والفكر الشيوعي "الهدام" و"الالحادي" و"اللاديمقراطي" الخ الخ. كما ان الرئيس الاميركي السابق جورج بوش وصف الغزوة الاستعمارية الاميركية ضد افغانستان سنة 2001، التي اعقبتها غزوة العراق سنة 2003، بأنها كانت "حملة صليبية" ضد "الارهاب الاسلامي".
ولكن الوقائع تكذب تماما هذه النظرة التجريدية الفكروية. ونكتفي بتقديم المثالين التاليين:
ـ1ـ ان القيادة الشيوعية السوفياتية السابقة (زمرة غورباتشوف) وجهازها الحاكم، اسقطت الحكم "الشيوعي" في روسيا ودول المنظومة السوفياتية السابقة كلها. اي عمليا سقطت حجة "الشيوعية" في معاداة روسيا. ومن ثم سقط الاساس "الايديولوجي" للحرب الباردة. وخرج العالم من مرحلة القطبين الدوليين، الشرقي والغربي، الى مرحلة القطب الاميركي الاوحد. ومع ذلك نجد ان العداء لروسيا لا يزال على اشده في الاوساط الامبريالية الاميركية والناتوية والصهيونية. وهذا يعني ان الامبريالية الاميركية (والغربية عموما) كانت ولا تزال تكره روسيا كأمة وكشعب، قبل الشيوعية، ومع "الشيوعية" السوفياتية، وبعد الشيوعية. ويعني ان العداء لروسيا وشعوب المعسكر الاشتراكي في المرحلة السابقة، باسم العداء للشيوعية، لم يكن سوى ذريعة ايديولوجية، لاخفاء العداء القومي والانساني لتلك الشعوب. ويعني ان مصدر هذه الكراهية والسياسة والستراتيجية المعادية لروسيا وشعوب البلدان الاشتراكية السابقة، يكمن في "مكان ما" خارج العقائد والاديان والايديولوجيات، وبالتالي خارج "الحضارة الدينية" كما زعم هنتنغتون.
ـ2ـ بالرغم من كل التعبئة الفكرية والسياسية والاعلامية، والاجراءات القانونية والبوليسية، المعادية للاسلام والمسلمين، في اميركا والعديد من البلدان الاوروبية، بحجة محاربة "الارهاب الاسلامي"، ـ بالرغم من كل ذلك نرى ان الامبريالية الاميركية (والغربية) والصهيونية العالمية لا تتوانى عن "الكيل بمكيالين" واتباع سياسة "صيف وشتاء فوق سقف واحد"، في تعاملها مع "الارهاب الاسلامي". ان تنظيمات المقاومة الشعبية المشروعة ضد اسرائيل والاحتلال الاسرائيلي، كالمنظمات الفلسطينية وحزب الله اللبناني، توضع على "لائحة الارهاب"، وتتم محاربتها على هذا الاساس. وفي الوقت ذاته فإن الامبريالية الاميركية والغربية والصهيونية تدعم بشدة الحركات الارهابية "الاسلامية!!!" المعادية لروسيا، في الشيشان وفي اي مكان آخر من روسيا الاتحادية. وكانت اجهزة الاعلام الغربية تطبل وتزمر وتقيم الاعراس كلما جرت اية عملية ارهابية "اسلامية!!!" في روسيا، حتى لو كان الضحايا سكان بناية من المواطنين العاديين وعائلاتهم واطفالهم، او نزلاء مستشفى من العجزة والمرضى والاطباء والجهاز الطبي، او رواد مسرح، او حتى اطفال مدرسة صغارا دون العاشرة من العمر. وهذه كلها احداث جرت في روسيا، وذهب ضحيتها مئات وآلاف القتلى والجرحى والمعاقين، واستقبلتها الاوساط الامبريالية الاميركية والغربية والصهيونية، الى جانب الرجعية العربية والاسلامية، بالتهليل والتكبير. واليوم يرى العالم بأسره بالعين المجردة كيف ان الدول الامبريالية الغربية تدعم بكل قوتها المعارضة "الاسلامية!!!" في سوريا. حتى ان الولايات المتحدة الاميركية، وبدون اي قرارات دولية، كانت على استعداد لتوجيه ضربة عسكرية الى الجيش الوطني السوري لاضعافه وتسهيل انتصار المعارضة "الاسلامية!!!" عليه. وقد اضطرت القيادة الاميركية لصرف النظر عن هذا التهور الجنوني بسبب صمود الجيش السوري، من جهة، والتهديد الروسي المبطن لاميركا، من جهة اخرى.
وهذا ينفي تماما الطابع الديني (الذي يسميه هنتنغتون: الحضاري!) عن الصراعات الدولية القائمة. كما ينفي عنها الطابع العقائدي ـ الايديولوجي، الذي سقط بسقوط المنظومة السوفياتية والحرب الباردة بين المعسكرين السابقين.
من هنا نأتي الى القول إن النظرة الفكروية التجريدية (الايديولوجية ـ الدينية او الفلسفية) نحو الصراعات القومية والاجتماعية، السياسية والعسكرية، وإضفاء الطابع الديني والايديولوجي على هذه الصراعات، تتعارض تمام التعارض مع الواقع التاريخي، الاجتماعي والقومي. ذلك ان المسار التاريخي لنشوء الشعوب والقوميات والامم والدول ليس نسخة تطبيقية للافكار القبْـلية، مهما كانت عظيمة. بل هو اساسا نتيجة للتفاعل الجدلي للعلاقات الاجتماعية داخل كل مجموعة بشرية، وعلاقتها مع البيئة الطبيعية التي نشأت فيها، واخيرا لا آخر علاقة المجموعة البشرية المعينة، بغيرها من المجموعات البشرية الاخرى. وما الافكار سوى انعكاس ذاتي لهذا المسار التاريخي الموضوعي، وهي عوامل تعبير، وتأثير ايجابي او سلبي، فيه.
وقد ظهرت الفلسفات والاديان والايديولوجيات والعقائد كتعبير فكري عن العلاقات الجدلية، الايجابية او السلبية، التكاملية والتفاعلية، او الصراعية والتناحرية، داخل كل من المجموعات البشرية وفيما بين بعضها البعض.
وقد اكدت التجربة التاريخية على ان الافكار التجريدية (بما فيها الاديان) كانت على الدوام:
ـ اما "تعبيرا" عن العلاقات الاجتماعية والسياسية، اساسا السلطوية او المضادة للسلطة، داخل المجموعة البشرية الواحدة، بالاضافة الى العلاقات القومية، الانسجامية او العدائية، فيما بين المجموعات البشرية المختلفة.
ـ واما "ذريعة" فكروية تستخدمها القوى الفاعلة، المعارضة للسلطة او السلطوية، داخل كل مجموعة بشرية، لتأكيد ذاتها ونفوذها وسلطتها، و/او تبرير تسلطها على المجموعات البشرية الاخرى.
ونجد من الضروري ان نذكر هنا بعض الامثلة التاريخية:
ـ1ـ عندما كان الاسكندر الاكبر (المقدوني) يدخل المدن الفينيقية والمصرية، كان يقيم الاحتفال ويقدم القرابين لآلهة المدينة التي يدخلها في الهيكل الكبير لكل منها. ورغب الاسكندر ان يفعل الشيء ذاته في مدينة صور ويقدم الذبائح لاله صور الاكبر "ملقارت". فأبى الصوريون عليه ذلك، اذ كانوا يعتبرون ان هذا العمل هو حق من حقوق ملكهم. فغضب الاسكندر وهاجم صور ودمر قسم المدينة البري وردم بحجارته البحر ومد جسرا الى المدينة البحرية وحاصرها سبعة اشهر ودمرها وقتل وصلب الآلاف من رجالها وباع نساءها واطفالها عبيدا.
وهذا يعني بوضوح ان الصراع لم يكن صراعا على، مع او ضد، الدين بحد ذاته؛ بل كان صراعا على السلطة. وامتلاك حق تقديم القرابين للإله ملقارت كان تعبيرا عن استحواز السلطة. اي ان تقديم القرابين لملقارت كان لا اكثر من رمز "ديني ـ فكروي" للتمتع بالسلطة على المدينة. وبمعنى آخر فإن اهل صور، برفضهم قيام الاسكندر بتقديم القرابين لملقارت، كانوا عمليا يرفضون نزع سلطتهم الذاتية والاعتراف بسلطة الاسكندر على مدينتهم ومجتمعهم.
ـ2ـ في المرحلة الواقعة بين تدمير قرطاجة والغزو والاستعمار الروماني لشمالي افريقيا وسوريا الطبيعية، وبين ولادة السيد المسيح، بدأت تتشكل حركة شعبية واسعة لمعارضة الاستعمار الروماني. ومع ان السيد المسيح لم يكن قد ولد بعد، فإن هذه الحركة اتخذت صفة "مسيحية"، اذ انها كانت تقول بمجيء المسيح ـ المخلص، الذي سيخلص كل الشعوب من الاستعمار والعبودية والاستغلال والظلم والذل. ومع ولادة السيد المسيح وحياته وموته على الصليب، على ايدي المستعمرين الرومان واعوانهم اليهود، انتشرت المسيحية انتشارا واسعا، واشتد الصراع بينها وبين روما. وتعرض سكان البلاد الاصليون، المسيحيون الشرقيون، لاضطهاد لا يوصف من قبل المستعمرين الرومان. اعتقل وعذب ومزق إربا واحرق حيا والقي للوحوش الضارية وبيع للعبودية وشرد عشرات ومئات الالاف من المسيحيين الشرقيين في شمالي افريقيا ومصر وفلسطين وسوريا واليمن وغيرها. ولكن المسيحية، الشرقية في ولادتها وفي انتمائها الاصلي، والتي جسدت رفض الاستعمار الروماني لبلاد الشرق، ازدادت صلابة في مواجهة الطغيان الروماني. وكان من الطبيعي ان تنتشر المسيحية بين عبيد روما من مختلف القوميات ولا سيما الاثيوبيين والاغريق والسلافيين. كما انتشرت المسيحية في صفوف المثقفين والفئات المتنورة، الاغريق خاصة والرومان وغيرهم، على قاعدة الانتشار السابق للفلسفة الرواقية "الفينيقية ـ الهيلينية" التي وضعها الفيلسوف زينون الفينيقي، الذي كان يدرّس في اثينا. وكانت الفلسفة الرواقية تعلي شأن الاخلاق الانسانية وتعارض "الاخلاق" والسياسة "السيادية" لروما. ووجدت روما ان المسيحية، التي ظهرت في اعقاب الرواقية، وتشرّبت تعاليمها، قد نخرت جذوع وفروع الامبراطورية، التي اصبح من المحتمل انهيارها. حينئذ لجأت روما الى تبني المسيحية شكليا. وعملت على تفريغها من محتواها الانساني المعادي للظلم والاستعمار الروماني والفساد والاستغلال اليهودي، بهدف تحويلها الى طقوس مشهدية كدين رسمي للدولة. وبدلا من استخدام الديانة السابقة الوثنية كأداة فكروية ـ ايديولوجية ـ سياسية للسلطة، بدأ استخدام الديانة المسيحية ذاتها، في صيغتها الغربية ـ السلطوية، كأداة للسيطرة الاستعمارية الرومانية. ومنذ ذلك الحين (وقبل زمن طويل من انشقاق الكنيسة الى شرقية وغربية في منتصف القرن الحادي عشر) انقسمت المسيحية واقعيا، منذ القرن الرابع، الى "مسيحيتين":
أ ـ المسيحية الشرقية "الشعبية" الاصلية التي ظلت تناضل ضد طغيان الامبراطورية الرومانية (ومذنبها البيزنطي).
وتاريخيا فإن جميع الكنائس البطريركية المحلية، ايا كانت مذاهبها الخاصة، التي تنتسب الى انطاكيا، تدخل في عداد "الكنيسة الشرقية الاصلية"، بما فيها الكنائس التي دخلت في وقت ما الى منظومة "الكنائس المتحدة" مع الفاتيكان في روما.
ب ـ والمسيحية الغربية "السلطوية" التي تبنتها روما وصارت تستخدمها كأداة لاستمرار فرض سلطتها الاستعمارية على الشعوب الخاضعة لها.
وبهذا الانقسام فإن الشكل او المظهر الفكروي ـ الايديولوجي ـ السياسي للصراع تحول من صراع بين الوثنية الرومانية والمسيحية الاولية الشرقية، الى صراع بين المسيحية "الغربية"، الرسمية السلطوية الرومانية، والمسيحية "الشرقية"، الشعبية الاصلية. اي تحول من صراع مسيحي ـ وثني، او مسيحي شرقي ـ وثني غربي، الى صراع مسيحي ـ مسيحي، او مسيحي "شرقي ـ شعبي" ـ مسيحي "غربي ـ سلطوي". واذا كان القديسون والشهداء المسيحيون (بمن فيهم السيد المسيح ذاته ويوحنا المعمدان) قبل سنة 325م، اي سنة تبني قسطنطين الكبير للمسيحية، قد عُذبوا وقـُتلوا واضطهدوا على ايدي الرومان الوثنيين، فإن القديسين والشهداء المسيحيين بعد هذا التاريخ قد عذبوا وقتلوا واضطهدوا على ايدي "المسيحيين" الغربيين السلطويين الرومان واعوانهم اليهود.
وهذا يعني ان الديانة المسيحية الاصلية، اي "الشرقية"، قد ظهرت كإطار تنظيمي اجتماعي ـ قومي، من جهة، وكـ"تعبير" فكروي ـ ايديولوجي ـ ديني، من جهة ثانية، لمقاومة الجماهير الشرقية للاستعمار الروماني بشكليه: الوثني و"المسيحي".
ولكن، بعد تبني روما للديانة المسيحية عملت، كما اسلفنا، على تفريغها من محتواها الانساني ـ النضالي وإعطائها محتوى سلطويا، فتحولت ـ اي المسيحية في صيغتها الغربية ـ الى الضد من النشأة الاصلية للمسيحية الحقيقية. اي تحولت من اداة للنضال ضد الاستعمار الروماني واليهود، الى "ذريعة" لفرض هذا الاستعمار.
وشتان بين تينك المسيحيتين!
وهذه الرؤية هي ليست عبرة من الماضي فقط، بل هي من صميم واقعنا التاريخي المعاصر. ذلك ان الصراع بين هاتين المسيحيتين لا يزال قائما الى يومنا الراهن. ونجد مثالا معبرا على ذلك في السؤال عن طبيعة "الهوية المسيحية" التي تجمع بين العميل الاسرائيلي الجنرال انطوان لحد وبطلة "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" المناضلة سهى بشارة التي اطلقت عليه النار، والسؤال عن "الهوية المسيحية" التي تجمع بين العميل الاميركي ـ الاسرائيلي بشير الجميل والبطل القومي حبيب الشرتوني الذي نفذ عملية اغتياله.
وهذا يؤكد على حقيقة تاريخية وهي: مع الاحترام الكلي للجوانب اللاهوتية المجردة، ولكن بمعزل تماما عنها، فإن الديانة هي وعاء او اداة او وسيلة ايديولوجية، قبْـليّة، او سابقة على الفعل، ويمكن استخدامها في اتجاه معين، كما وفي اتجاه مضاد له تماما. ولا يجوز لأي كان ان يضع المسيحية الشرقية في سلة واحدة مع "الصليبية" او المسيحية الغربية المتصهينة.
ـ3ـ وفي ظروف الصراع الشديد بين المسيحية الشعبية الشرقية، من جهة، والمسيحية الرسمية الرومانية واليهود، من جهة ثانية، (وهو ما تشهد عليه مجزرة اصحاب الاخدود التي يتحدث عنها القرآن الكريم، وحملة عام الفيل التي اراد فيها ابرهة الاشرم تدمير الكعبة المشرفة في مكة حيث كان يعيش المسيحيون الشرقيون بحرية، وكانت أولى زوجات الرسول السيدة خديجة بنت خويلد احداهم)، ـ في هذه الظروف شديدة الصعوبة على المسيحيين الشرقيين، ظهرت الديانة الاسلامية كتعبير فكروي (ديني ـ ايديولوجي) وكإطار تنظيمي توحيدي، اجتماعي ـ قومي، لمواصلة النضال ضد الاستعمار الروماني (ومذنبه البيزنطي) واليهود. وقد استقبل المسيحيون الشرقيون العرب الديانة الجديدة كمحرر، وانضم اليها طوعا غالبية المسيحيين الشرقيين العرب الذين كانوا يؤمنون بالطبيعة الواحدة ـ الانسانية ـ للسيد المسيح.
ولكن التطورات الدراماتيكية، الناشئة عن النزاع على السلطة ومكاسبها، فتحت الطريق ايضا لظهور الاسلام السلطوي الاستبدادي. وهذا "الاسلام!" هو اسلام مزيف، وعلى تضاد تام مع الاسلام الاصيل ـ الشعبي، العادل والتحريري. وتمثلت قمة هذا الانحراف بظهور "الاسلام العثماني!!!" والامبراطورية العثمانية. حيث تحول "الاسلام!!!" على يد العثمانيين الى دين استعماري خارجي، بالمعنى الحرفي للكلمة. اي الى دين استعماري خارجي بالنسبة للمسلمين العرب انفسهم، تماما مثلما كانته المسيحية الغربية للامبراطورية الرومانية بالنسبة للمسيحيين العرب الشرقيين. ومثلما قام "الصليبيون"، باسم الصليب والمسيحية، بغزو الارض المقدسة التي ولد وعاش وصلب فيها السيد المسيح، قام العثمانيون بغزو بلاد المسلمين العرب و"دار الاسلام" باسم "الاسلام!!!" (حينما قام السلطان سليم الاول بفتح مصر كان يحمل في جيب قفطانه "فتوى" من شيخ الاناضول بأن مصر هي بلد يجوز فتحه اسلاميا(!)، لانه بلد نجس، واهله انجاس، لانهم يشربون من مياه النيل، ومياه النيل هي نجسة لانه يبول فيها اليهود والنصارى الانجاس! ـ لا تضحكوا، شر البلية ما يضحك!).
وعلينا ان نذكر هنا ان الفتح العثماني للقسطنطينية اولا، ثم للبلاد العربية، واقامة الامبراطورية العثمانية الكبرى، كان بمباركة ودعم الدول الاستعمارية الاوروبية واليهود الخزر والاندلسيين بهدف مزدوج هو:
أ ـ (بعد فشل الحروب الصليبية) احتلال البلاد العربية ذات الاهمية الخاصة، الستراتيجية والاقتصادية والحضارية والدينية والتجارية الاقليمية والدولية، ونهب خيراتها، واستغلال مميزاتها، ومنعها من التشكل في دولة مستقلة موحدة.
ب ـ خلق قوة "اسلامية!" كبرى تستطيع مجابهة روسيا. (وذلك طبعا قبل مئات السنين من ولادة هنتنغتون).
ومع قيام السلطنة العثمانية، تحولت الاستانة الى مركز تجمع لاغنياء ووجهاء اليهود الخزر (الاشكنازيم) واليهود الاندلسيين (السفارديم) وبالتالي الى "مركز دولي" لليهودية العالمية، مثلما هي نيويورك في وقتنا الحاضر. وقد وقع السلطان سليمان القانوني اول معاهدة امتيازات اجنبية مع ملك فرنسا فرانسوا الأول سنة 1536، بعد 20 سنة فقط من معركة مرج دابق (1516). وتحولت السلطنة العثمانية الى ما يشبه البقرة، التي تأكل الاخضر واليابس في البلاد العربية، وتدر حليبها في الاستانة، ومنها في اوروبا، عبر نظام القروض والفوائد والانظمة الضريبية والتجارية والتسلح وشراء الحريم والغلمان والخصيان. ومن وجهة النظر هذه يمكن وصف احتلال العثمانيين للبلاد العربية بأنه "حملة صليبية تاسعة" بأعلام اسلامية.
واذا كان التاريخ يعيد نفسه، ولو بصورة مهزلة، فها اننا نشهد الان كيف ان تركيا الاردوغانية "العثمانية الجديدة" تشن عدوانها الناتوي على سوريا، تحت الرايات "الاسلامية!!!" ايضا وايضا.
ان الامة العربية أعطت الكثير للحضارة البشرية. ومن وجهة النظر الحضارية ذاتها، فإن اعظم ما اعطته هو هذين الدينين العظيمين او المـَعلـَمين الحضاريين الكبيرين: المسيحية والاسلام. ومع ذلك فإن تاريخنا المأساوي ذاته يعلمنا بدون لبس او ابهام ان الدين المسيحي والدين الاسلامي قد تم تغريبهما عن الامة العربية ذاتها. وبعد الرومنة والامركة، والعثمنة والسعودة، تم ويتم استخدامهما كوسيلة ايديولوجية ـ دينية لضرب العرب انفسهم واستعمارهم، بحيث يصح في العرب القول المأثور: هذه بضاعتنا ردت إلينا ـ علينا.
ـ4ـ ظهرت اليهودية، منذ ما ظهرت، وهي تحمل في ذاتها وصمتين معاديتين للجنس البشري وللروابط والحقوق والقواعد الاخلاقية الانسانية. وبالتوقف عند هاتين الوصمتين، وتحليلهما، وتحليل تطورهما، نستطيع ان نلتقط المفاتيح الرئيسية لمسار التاريخ العالمي:
الوصمة الاولى لليهودية ـ انها دين عنصري ميّز جماعة بشرية عشائرية او قبـَلية معينة، سماها "شعبا"، عن بقية شعوب العالم، ووضعها فوق جميع الشعوب. وهذه الجماعة القبـَلية نشأت كقبيلة ـ عصابة، رحّـل، تمتهن قطع الطريق والغزو والسلب والنهب والقتل والسبي والمتاجرة بالمسروقات والسبايا في الارض العربية. وهي بالذات ما سمّي دينيا "بني اسرائيل". وككل قبيلة عربية اخرى اتخذت هذه القبيلة ـ العصابة دينا قبـَليا خاصا بها، سمي الديانة اليهودية. ولكن خلافا للقبائل الاخرى، امتازت الديانة القبَـلية اليهودية بإلهها التجريدي (المسمى "يهوه") الذي لا يُرى ولا يلمس ولا يؤكل. لقد كانت كل قبيلة وثنية تحدد "إلهاً خاصا" تنتسب اليه (الشمس، او القمر، او الانثى، او الفيل، او الحجر، او البقرة، او الافعى، الى ما هنالك). وكذلك هي القبيلة اليهودية. وقد سمّت القبيلة اليهودية الهها الخاص "يهوه". ولكنها جعلته الهاً تجريديا غير ملموس يقيم علاقته السرية معها عبر الكهان (حَفـَظـَة الاسرار) و"قيادة" القبيلة التي حصلت بهذه الطريقة على مرتبة "روحية" مقدسة. ومثل كل قبيلة اخرى والهها الخاص، فإن قبيلة "بني اسرائيل" خصت هذا "اليهوه" بها، وخصت نفسها به. فصار "يهوه" "اله بني اسرائيل"، وصارت "قبيلة يهوه" "قبيلة يهودية" او "قبيلة بني اسرائيل" او "شعب يهوه" او "شعب الله" او "شعب الله المختار".
وبمعزل عن الجانب اللاهوتي البحت الذي لا شأن لنا به، وهو من اختصاص رجال الدين واللاهوتييين والفقهاء، فإنه من الثابت تاريخيا ان الدين يستخدم كأداة تحفيز وتبرير للمسلك العام الاجتماعي والسياسي والعسكري الخ، لاصحاب الدين المعين. وفي اطار سوسيولوجي اوسع، فإن كل سلطة وكل جماعة فاعلة وكل حزب وكل تنظيم وحتى كل فرد يبرر لنفسه افعاله. حتى اللص وقاطع الطريق يبرر لنفسه افعاله، ويعطي نفسه "الحق" في استباحة الآخرين، وسلبهم ونهبهم وقتلهم وسبي نساءهم واطفالهم واغتصاب ارضهم. وبالطريقة نفسها، فإن القبيلة ـ العصابة "البني اسرائيلية" أنـْطـَقـَت الهها الخاص "يهوه" (الذي لا يعرف احد غيرها اصله وفصله وسره وجهره) وقوّلته كل ما تريده لنفسها. وهكذا ديـّنت العصابة البني اسرائيلية نفسها. فصارت اللصوصية والقتل والاغتصاب طقوسا دينية، خاصة بالديانة اليهودية، الخاصة بـ"شعب الله المختار"، "شعب بني اسرائيل". ومن وجهة نظر دينية والهية، يهودية، صار يحق لهذا "الشعب المختار" التعالي على جميع شعوب العالم واستباحة دمائها، ارضها، نسائها واطفالها. ومن هنا اتخذت العنصرية اليهودية مسحتها "الدينية" و"الالهية". وصارت اي معارضة لسياسة الارهاب والاغتصاب "الاسرائيلية" تعتبر كفرا والحادا، لانها صارت مرادفا لمعارضة "شعب الله المختار" اي معارضة لـ"مشيئة الله!"، الى ما هنالك من هذا الإفك اليهودي.
ويمكن في اطار ضيق فقط تشبيه العنصرية اليهودية بالعنصرية الهتلرية. ذلك ان العنصرية اليهودية تتميز عن العنصرية الهتلرية ذاتها وتتفوق عليها. اذ ان العنصرية الهتلرية قالت بالتفوق البشري للعنصر الجرماني ـ الآري. اي انها حصرت تفوق العنصر الجرماني ـ الآري في الجانب الجسماني ـ الفيزيائي. وحاولت العنصرية الهتلرية عبثا ان تثبت علميا نظريتها. وقد انتحر هتلر بذاته، قبل ان يتوصل العلماء النازيون لان يضعوا المقاييس والمواصفات الاصلية "الصحيحة" للجمجمة الجرمانية ـ الآرية النموذجية.
اما اليهودية فقد تفوقت على هتلر بانها استخدمت لا المقاييس والادوات "العلمية" الارضية ـ البشرية، بل استنزلت من السماء المفاهيم الدينية المقدسة ذاتها، ووظفت الذات الالهية نفسها في خدمة مطامعها. اذ قالت ان "بني اسرائيل" هم ليسوا الا "أبناء الله" او "شعبا اختاره الله" او "شعب الله المختار"، وان "اليهودي" هو من "طينة الهية" غير طينة سائر البشر. والذي يقرر هذه "الشؤون الالهية" هو "القيادة الروحية اليهودية" ذاتها، التي هي قيادة مكشوف عنها "الحجاب السماوي" وتأخذ الهامها من "الله!!!" مباشرة. اي ان "بني اسرائيل" ـ اليهود يعطون شهادتهم لانفسهم بأنفسهم. ولا شهيد عليهم الا "توراتهم" ونبوءاتها واجتهادات قيادتهم الروحية والزمنية المعصومة.
والوصمة الثانية لليهودية ـ انها دين استعماري، عدواني، اغتصابي، متوحش، يدعو علنا الى ابادة سكان فلسطين العربية الاصليين، الكنعانيين وغيرهم، والاستيلاء على مدنهم وقراهم ومزارعهم وارضهم. والحجة التي تستخدمها الديانة اليهودية لتبرير هذه الدعوة العنصرية النازية، هي ان اله اليهود الفرنكشتاني المزعوم (يهوه) اعطاهم "وعدا الهيا" بهذه الارض التي هي "ارض ميعادهم". وهم يقومون بكل ما يقومون به من مجازر واحتلال واستعمار، إنفاذا "لمشيئة الله" ليس الا. وبكلمات اخرى فإن كل جرائم العالم هي جرائم تخضع للمحاسبة السماوية والمحاكمة القانونية، الا جرائم اليهود، فهي ليست "جرائم" بل اعمال "بمشيئة الله" يقوم بها اليهود "لوجه الله"، وهم "مكلفون إلهيا" بالقيام بهذه الاعمال "باسم الله".
وهذا كله مدون في "توراتهم" حرفا بحرف. ويمكن لاي تلميذ مدرسة ابتدائية ان يشتري التوراة من اي مكتبة دينية او غير دينية تبيع الكتب الدينية اليهودية والمسيحية غير المزورة. واليهود لا ينكرون، بل على العكس تماما يتمسكون بشدة بهذه "التوراة". ولكن ما ينبغي استهجانه واستنكاره هو: في حين تـُمنع الدعاية للنازية الهتلرية في البلدان الاوروبية والمتحضرة، كيف يجوز السماح بنشر هذه "التوراة" العنصرية والنازية اليهودية، بل واعتبارها "كتابا مقدسا!!!" في البلدان الاوروبية والمتحضرة وفي غالبية البلدان العربية ذاتها؟
يمكن سوق أدلة لا تحصى على ان الدول العربية هي دول لا تحترم نفسها. واكبر دليل على ذلك هو السكوت عن نشر "التوراة" اليهودية التي تعتبر الجنس العربي لا اكثر من "كائنات دونية" محلل ذبحها والاستيلاء على ارضها، والتي تشرعن ابادة الفلسطينيين العرب "باسم الله!!!".
ولكن اليهودية، كفكر ديني وكممارسة عملية، هي براغماتية وحربائية بامتياز. ومع دخولها في التاريخ العام للعالم طرأت على وصمتيها المشار اليهما تطورات مهمة. وهذه التطورات تكشف بجلاء ان جوهر الدين اليهودي هو: كونه ليس سوى ذريعة ايديولوجية ـ دينية لتسويغ وتبرير والتشجيع على الغزو والاستعمار والنهب والسلب والقتل واستغلال وابادة "الاخرين" باسم "الله" اليهودي.
والتطورات التي طرأت على "الوصمتين: العنصرية والاستعمارية" لليهودية، هي نفسها التطورات التي طرأت على اليهودية بذاتها كظاهرة اجتماعية ـ "قومية" ـ دينية. وهذا يؤكد ان جوهر اليهودية هو كونها لا اكثر من "وصمة" للانسانية، بالمعنى الاجتماعي ـ القومي التاريخي.
ونبحث فيما يلي في اهم اثنين من هذه التطورات:
التطور الاول ـ دخول الخزر في اليهودية:
اذا راجعنا تاريخ الاستعمار في الشرق خصوصا والعالم عموما، نجد ان الكنيسة الغربية المرتبطة بالدول الاستعمارية (وهذا طبعا لا ينطبق على جميع رجال ونساء الكنيسة كأفراد) قد طبقت سياسة "التبشير المسيحي"، في افريقيا واسيا واوستراليا واميركا اللاتينية وبين الزنوج الاميركيين. وكان ذلك كتمهيد ومساندة للسياسة الاستعمارية (راجع كتاب: التبشير والاستعمار، تأليف : مصطفى خالدي وعمر فروخ، صادر في بيروت).
وبالمقابل نجد ان "السعودية واخواتها النفطيات" خصصت مئات ملايين بل مليارات الدولارات لما يمكن ان نسميه ايضا "التبشير الاسلامي" في جميع انحاء العالم المتقدم والمتخلف.
ان اليهودية العالمية تمتلك قدرات سياسية واعلامية وثقافية وفكرية واقتصادية ومالية اكبر بما لا يقاس من الامكانيات الهائلة "للسعودية واخواتها النفطيات"، وبما يضاهي، وفي بعض القطاعات (كالاعلام) يفوق امكانيات الفاتيكان والكنائس البروتستانتية مجتمعة. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: لماذا ـ ألف لماذا ـ لم تلجأ اليهودية العالمية حتى اليوم الى تطبيق سياسة "التبشير اليهودي"، ولا سيما في الاوساط والمناطق الفقيرة من العالم، بما في ذلك العالم العربي والاسلامي؟
طبعا ان اليهودية العالمية تعمل بشدة لكسب العملاء و"الحلفاء" و"الاصدقاء" و"المتعاونين"، مخابراتيا واقتصاديا وماليا وتجاريا وسياسيا وثقافيا واعلاميا واكاديميا وسينمائيا وفنيا ورياضيا و و و... ولكنها لا تلجأ (كما الكنيسة الغربية والمؤسسة الدينية السعودية) الى التبشير الديني بالدين اليهودي ذاته.
ـ لماذا؟
ـ لان الدين اليهودي ذاته، كدين عنصري خاص فقط بـ"بني اسرائيل"، لا يسمح بادخال اعضاء جدد في "العائلة اليهودية" على اساس آخر، غير الرابطة الدموية. اي ان "العائلة اليهودية" هي تماما كعائلة مافياوية، او عائلة ملكية. يمكن للعائلة المافياوية او الملكية ان تفتح الف شركة والف مصلحة مشتركة والف سفارة وقنصلية في الف مدينة، ولكنه من الصعب الى درجة الاستحالة ادخال عضو غريب الى صلب العائلة. (من اسباب قتل اللايدي دايانا انها عاشرت احد المسلمين وارادت الزواج منه. مما يهدد "النقاء السلالي" للعائلة المالكة البريطانية، الله يحميها من عيون الحاسدين غير الزرقاء!!!).
ولكن القاعدة العنصرية الاساسية لليهودية، اي قاعدة الانتماء الدموي ـ السلالي حصرا لـ"بني اسرائيل"، قد انكسرت مرة والى الابد بانتماء القبيلة الطورانية المتوحشة (الخزر) الى اليهودية في القرن الثامن. كانت القبيلة الطورانية الخزرية، كأبناء عمومتها: العثمانيين، قبيلة "اقطاع عسكري"، اي قبيلة فرسان محاربين اشداء وقساة تعيش على الغزو والسلب والنهب، في المنطقة الواقعة بين ما وراء القوقاز ونهر الفولغا وبحر قزوين والبحر الاسود. وفي القرن السابع أنشأ الخزر خاقانيتهم (اي مملكتهم) في تلك المنطقة. ولم تكن لهم اية هوية حضارية، او زراعية، او تجارية الخ، سوى هوية السيف. وعاشت تلك القبيلة، فالمملكة، الخزرية، على غزو وسلب ونهب وسبي جيرانها الاضعف منها، المزارعين والصيادين والرعاة والحرفيين. وكان أقرب ضحايا مملكة الخزر اليهودية جيرانها: مملكة البلغار القدماء المسلمين (بلغار الفولغا) وقبائل الروس القدماء الذين كانوا حتذاك لا يزالون قبائل وثنية متفرقة.
وفي ذلك الوقت كان "اليهود العرب" (العبرانيون ـ بنو اسرائيل) يمسكون بأيديهم غالبية التجارة في الدولة العربية الاسلامية (الخلافة). وبحكم المصالح المشتركة، نشأت بين التجار "اليهود العرب" والنهابين ـ السلابين الخزر علاقة تجارية وثيقة: الخزر ينهبون ويسبون جيرانهم، و"اليهود العرب" يشترون "المحصول"! وكانت اهم "المغانم" الخزرية، وبالتالي اهم "سلعة" للتجار "اليهود العرب" هي السبايا من النساء والغلمان (من البلغار القدماء والروس). وكان التجار "اليهود العرب" النخاسون يحققون ثروات هائلة من جراء بيع الصبايا والاطفال البلغار والروس القدماء لقصور الخلفاء والامراء والقادة العرب والمسلمين. وتحت تأثير هذه العلاقة المصلحية الجوهرية تحولت "العلاقة التجارية" بين قطاعي الطرق الخزر والتجار "اليهود العرب" الى "علاقة اخوية". وبالنتيجة تم تحول مملكة الخزر الوثنية الى مملكة يهودية في القرن الثامن. وبنتيجة الاموال التي تدفقت عليها من تجارة السلب والنهب والسبي اصبحت مملكة الخزر اليهودية، وبسرعة ملفتة، من اقوى ممالك ذلك العصر.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا وافق "اليهود العرب ـ بني اسرائيل بالدم" على دخول الخزر في الديانة العنصرية اليهودية، التي هي ـ بمشيئة "الله!" ذاته حكر على "بني اسرائيل"؟
الجواب منطقي وبسيط: لقد وافقوا على ذلك، اولا، لاجل ضمان مصالحهم الآنية التي تقوم اساسا، كما "يأمرهم!" دينهم، على السلب والنهب والسبي. ووافقوا على ذلك، ثانيا، لاجل تحقيق مخططاتهم الكبرى لاستعمار واستعباد شعوب العالم، كما "يأمرهم!" ايضا دينهم.
وفي رأيي المتواضع ان "اليهود العرب" كانوا يخططون منذ ذلك الحين لتحويل مملكة الخزر اليهودية الى مملكة كبرى تعمل، بالتعاون معهم، للقضاء على الخلافة العربية الاسلامية ذاتها، من داخلها ومن خارجها، والانقضاض على الاراضي المقدسة (من القدس الشريف الى مكة المكرمة والمدينة المنورة) والاستيلاء عليها. وانا ادعو جميع المؤرخين الواعين والصادقين للتنقيب والبحث في هذه النقطة والتحرر التام من طابو عدم المس بالديانة اليهودية واعتبارها "ديانة ابراهيمية" و"سماوية".
وبنتيجة تفاقم شرور مملكة الخزر، فإن قيصر بلغار الفولغا المسلمين المسمى "ألموش بن يلطوار" استنجد بالخليفة العباسي "المقتدر بالله" في مطلع القرن العاشر. وبدلا من ان يرسل الخليفة الجيوش لرد عدوان الخزر على البلغار المسلمين، ارسل لهم البعثة المعروفة تاريخيا باسم "بعثة ـ او سفارة ـ ابن فضلان". وكانت البعثة تتألف من 5000 رجل من معلمي اللغة العربية ورجال الدين والمعماريين والحرفيين، برئاسة العالم الرحالة احمد بن فضلان، الذي كتب عن الرحلة كتابه المشهور باسم "رسالة ابن فضلان" (نشرته وزارة الثقافة السورية والعديد من دور النشر العربية). ويصف ابن فضلان الرحلة الى بلاد الترك والخزر والصقالبة (البلغار) والروس. وفي وصفه لـ"إتل" عاصمة مملكة الخزر يقول انها كانت مقسومة الى حيين: حي يقيم فيه ملك الخزر واعوانه واتباعه، وحي يقيم فيه "المسلمون!!!". ويقوم على رأس هذا الحي رجل تركي مسلم اسمه خز، ولا يتدخل احد بشؤون حي "المسلمين!!!" سوى عبر هذا الـ خز. ويأتي التجار "المسلمون!!!" الى هذا الحي، ويرتبون تجارتهم، ويرحلون. ومع كل الاحترام لهذا العالم الجليل احمد بن فضلان، علينا ان نلاحظ أنه في "رسالته" قد وصف كل كبيرة وصغيرة وادق التفاصيل عن ملك الخزر وعن الصقالبة والروس ومراسم الدفن وغير ذلك، ولكنه ـ وهو مبعوث الخليفة بالذات ـ لم يكلف نفسه ان يزور حي "المسلمين!!!" ذاك في إتل عاصمة الخزر اليهود، ويعطينا ادنى فكرة عن حياتهم واعمالهم فيه. وفي رأينا المتواضع ان العلامة احمد بن فضلان كان يعلم تماما ان هؤلاء "المسلمين!!!" لم يكونوا فعلا مسلمين، بل كانوا "آتين من بلاد الاسلام" وهم كانوا بالتحديد "التجار اليهود العرب ـ العبرانيين" اياهم الذين يقيمون العلاقات ويتآمرون مع "اخوتهم" الجدد: الخزر (وليس بدون الحضور التركي ـ منذ ذلك الحين! ـ بشخص زعيم حي "المسلمين" ذلك الـ خز). وقد تجنب احمد بن فضلان الكشف عن وجوههم خوفا على حياته وحياة عائلته واهله في بغداد، حيث كانت الكلمة الاولى للحكم تصدر من مخادع الحريم التي كان يديرها النخاسون اليهود الذين كانوا يشترون "بضاعتهم اللطيفة" من اليهود الخزر بالذات.
ولكن ما احجم عن فعله العرب المسلمون في مطلع القرن العاشر، فعله فيما بعد الروس، جنبا الى جنب مع تبنيهم المسيحية الشرقية. فما ان تأسست الدولة الروسية في القرن العاشر، حتى قام القيصر الروسي سفياتوسلاف الاول في النصف الثاني من القرن بمهاجمة عاصمة الخزر إتل هجوما ماحقا استمرت فيه المعركة ثمانية ايام بلياليها انتقم فيها المحاربون الروس، خير انتقام لمعاناة شعبهم المعتدى عليه ولاطفالهم ونسائهم السبايا الذين بيعوا رقيقا. وتقول الروايات التاريخية ان سفياتوسلاف الاول كان شخصيا على رأس المحاربين الروس، الذين لم يستريحوا الا بعد ان محيت إتل من الوجود تماما، الى درجة ان علماء الاثار لا يزالون الى اليوم يبحثون عن المكان الذي كانت توجد فيه. وهكذا قضى الروس، الذين تبنوا في الوقت نفسه المسيحية الشرقية، على مملكة الخزر، اسرائيل ذلك الزمن. وبعد ذلك منع الروس اليهود الخزر من الاقامة في منطقة بحر قزوين، فانتشروا في اصقاع روسيا وبولونيا، ومنهما في اوروبا الشرقية والوسطى والغربية.
ومنذ دخول الخزر (الذين هم من يسمون اليوم: الاشكناز او الاشكنازيم) في اليهودية، ثم تهجيرهم من "مملكة خازاريا" القديمة وانتشارهم في روسيا واوروبا، نشأت في اليهودية، على المستوى اللاهوتي ـ الروحي والمؤسساتي الديني والمفهوم العنصري والحراك السياسي، مشكلة عنوانها: من هو اليهودي؟
ـ هل هو "شعب الله المختار"، اي تحديدا وحصرا "بني اسرائيل"، الذي تلقى "الوعد الالهي!!!" بما يسمى "ارض الميعاد" اي ارض فلسطين الكنعانية ـ العربية؟
او هو اي شخص او مجموعة او شعب يعتنق الدين اليهودي، وان لم يكن له اي علاقة دموية بـ"بني اسرائيل" و"العهد الالهي" و"ارض الميعاد"؟
ونظرا لان الاشكنازيم (الخزر) يشكلون اكثرية اليهود في العالم (هناك تقديرات انهم 90% من اليهود اليوم)، وقعت القيادات اليهودية في "مشكلة وجودية" اساسية وهي:
ـ ان الاعتراف بـ"يهودية" الاشكنازيم يعني سقوط "الحق الالهي" و"الحق التاريخي" لليهود بفلسطين، من وجهتي النظر الدينية، والعنصرية، اليهوديتين، بالذات!
ـ وان عدم الاعتراف بـ"يهودية" الاشكنازيم يهدد بنشوء ازمة كيانية في كل التركيبة اليهودية، دينيا و"قوميا" وعنصريا، مما يهدد بالانهيار التام لليهودية من داخلها بالذات.
امام هذه المشكلة فضلت القيادات الدينية والفكرية والسياسية اليهودية اتباع سياسة اغماض العين والتعمية حول هذه القضية.
ان دخول الاشكنازيم (الخزر) في اليهودية يعتبر تحولا نوعيا في تاريخها. ذلك انه اسقط منها العنصر "العرقي = السلالي = الدموي"، والعنصر "الالهي" الكاذب، واخيرا العنصر "التاريخي ـ الجغرافي" الذي بموجبه يُعتبر ان "العبرانيين ـ بني اسرائيل ـ الساميين" سبق ان "مروا من هنا" اي من فلسطين وغيرها من الارض العربية (بما في ذلك من قرطاجة التي اشترى اليهود اهلها عبيدا بعد ان دمرها الرومان... يا "لأفضال" بني اسرائيل علينا!). اما الاشكنازيم (الخزر) فهم طورانيون ـ آريون وليسوا ساميين، ولا علاقة لهم بالوعود الالهية الكاذبة لما يسمى "يهوه"، ولم يكونوا يعرفون شيئا عن فلسطين، وحتى صدور "وعد بلفور" في القرن العشرين ربما كان بعضهم فقط بالكاد يستطيع ان يلفظ كلمة "فلسطين" او يعرف مكانها على الخارطة.
والسبب الجوهري الذي بناء عليه دخل الاشكنازيم ـ الخزر اليهودية هو فقط كونهم كانوا قبيلة محاربة عدوانية تعيش على السلب والنهب والاغتصاب والسبي.
والاشكنازيم، الذين يقبعون في اصل هذه "المشكلة الوجودية" لليهودية، والذين هم من يحكم دولة اسرائيل منذ تأسيسها الى اليوم، يحاولون على الدوام "تصدير" هذه المشكلة الى الخارج عن طريق تشديد السياسة العدوانية لاسرائيل، ووضعها دائما في حالة انشغال بـ"ازمة وجود".
واذا كان العرب، بفضل خيانة بعض قياداتهم والغباء التاريخي لبعضها الاخر، لا يستطيعون الاستفادة من هذه المشكلة لتوظيفها في زعزعة الكيان الاسرائيلي، فهذا لا يعني ابدا عدم وجود هذه المشكلة التي ستظل تضغط على عنق اليهودية واسرائيل حتى الاختناق.
ونأتي الى النظر في التطور الثاني الذي واجهه الوجود التاريخي لليهودية، وهو: غزو اميركا باسم "بني اسرائيل" و"شعب الله المختار" وابادة الهنود الحمر باعتبارهم "كنعانيين":
ان الفكرة السائدة عن رحلة كريستوف كولومبوس واكتشاف اميركا، هي ان اوروبا الغربية بعد ان "حررت" اسبانيا من المسلمين العرب، اخذت ترسل البعثات الاستكشافية ـ الجغرافية ـ التجارية ـ "العلمية"، لاكتشاف الطريق الى الهند وكنوزها (التي كانت لا تزال تراود مخيلة الاوروبيين منذ ايام فتوحات الاسكندر المقدوني)، وان الذي موّل رحلة كولومبوس هو الملكة "التقية والورعة" ملكة اسبانيا المسماة "ايزابيل الكاثوليكية".
وهذه الفكرة ليست فكرة سطحية وسخيفة فقط، بل هي فكرة مشبوهة، استعمارية وصهيونية المصدر، الهدف منها تغطية الجرائم التاريخية الاستعمارية واليهودية والصهيونية التي ارتكبت ضد سكان اميركا الاصليين، والجرائم التي ترتكب اليوم وسترتكب ايضا ضد جميع شعوب العالم وخصوصا الشعوب العربية والاسلامية والمسيحية الشرقية.
وفي رأينا المتواضع ان عملية "اكتشاف" اميركا واستعمارها وابادة سكانها الاصليين قد تمت في السياق التالي:
ـ بعد ان نجحت اليهودية في تحويل مملكة الخزر الى مملكة يهودية قوية، تشكلت قيادة يهودية عالمية موحدة تضم "اليهود الاصليين ـ العبرانيين بني اسرائيل" و"اليهود الجدد ـ الخزر" معا. وبدأت القيادة اليهودية تتطلع نحو توسيع المملكة اليهودية، ومن ثم، وبواسطتها، استغلال تفكك الدولة العربية الاسلامية لاكتساح الاراضي العربية المقدسة واقامة مملكة يهودية كبرى يتم اضفاء "الطابع الالهي" المقدس عليها، ومن ثم تقوم هذه "المملكة اليهودية المقدسة" باكتساح واستعمار العالم القديم وتسييد "شعب الله المختار" على جميع الشعوب الاخرى.
ولكن حينما قضى الروس على مملكة خازاريا اليهودية انهارت تماما تلك التطلعات اليهودية.
وللتعويض عن خسارة هذه الفرصة التاريخية التي لا تتكرر، توجهت المجهودات اليهودية نحو دعم ومساندة والمشاركة في كل توجه استعماري معاد للروس والمسيحيين الشرقيين والعرب والمسلمين (غير العثمانيين والمعثمنين).
ـ وبعد ان تبنت روسيا ومعها غالبية السلافيين وشعوب القوقاز، المسيحية الشرقية، نشأ احتمال تاريخي موضوعي وواقعي، لا يزال قائما الى اليوم، وهو احتمال قيام تحالف مباشر او موضوعي بين الروس والعرب، وبشكل عام بين المسيحية الشرقية والاسلام الشرقي الصحيح (غير الاسلام العثماني المرتبط باليهودية والغرب). تجاه هذا الاحتمال، ارتعدت فرائص اوروبا الاستعمارية، وريثة الامبراطورية الرومانية الباغية التي صلبت السيد المسيح، كما ارتعدت معها فرائص اليهودية العالمية.
ـ وبعد الانشقاق الصريح للكنيسة الى كنيستين شرقية وغربية في 1054، اخذت اوروبا الغربية تحضّر للحروب الصليبية التي انقسمت الى قسمين: الاول ـ الحروب الصليبية "الشرقية" ضد العرب المسلمين والمسيحيين. والثاني ـ الحروب الصليبية "الشمالية" ضد الروس الارثوذكس في محيط بحر البلطيق. وكان الهدف الاكبر لمجموع الحروب الصليبية "الشرقية" و"الشمالية": قطع الطريق على امكانيات التلاقي الروسي ـ العربي؛ واحتلال الشرق العربي كله؛ واخيرا، احتلال شبه القارة الروسية ونهب خيراتها غير المحدودة.
ـ بدأت الحروب الصليبية "الشرقية" في 1096 وانتهت بالفشل في 1291. وفي حين كان الصليبيون يعلنون ان هدفهم هو تحرير الاراضي المسيحية المقدسة، كانوا يضطهدون المسيحيين الشرقيين العرب، ويهاجمون الكنائس والاديرة المسيحية الشرقية وينهبونها. ولدى مرورهم في القسطنطينية، المدينة الارثوذكسية العريقة، كانوا يستبيحون المدينة وينهبون ويخربون ما استطاعوا فيها. وقد وجهوا الحملة الصليبية الرابعة في 1204 ضد القسطنطينية ذاتها، فاحتلوها واقاموا فيها مملكة لاتينية استمرت حتى سنة 1264. وحينذاك فر قسم كبير من اليونانيين سكان القسطنطينية الى شمالي سوريا وحلب واحتموا بالعرب المسلمين. واستمر القتال بين اليونانيين والصليبيين مدة ستين عاما. وقاتل البلغار الارثوذكس الى جانب اليونانيين الى ان تمت هزيمة الصليبيين وسقوط مملكتهم اللاتينية في القسطنطينية.
ـ في القرن الخامس عشر حضّر الفاتيكان واوروبا الغربية الحرب لـ"استعادة" (reconquesta) اسبانيا من العرب، واعتبرت تلك الحرب حملة صليبية جديدة.
ـ وفي الوقت ذاته كانت الحروب الصليبية "الشمالية" ضد الروس الارثوذكس لا تزال تتواصل. وكان يشارك فيها الكاثوليك من السويديين والدانماركيين والليتوانيين والالمان والبولونيين وغيرهم. وفي الوقت ذاته كان التتار والعثمانيون يشنون حملاتهم على الروس في الجنوب. ولكن الروس صمدوا بوجه الحروب والحملات الصليبية والتتارية والعثمانية معا. وبدأ الروس يستعيدون اراضيهم ويوسعون دولتهم.
ـ ومن وجهة النظر الغربية، نشأ "خطر" ان يدخل الروس الى "اسلامبول" (القسطنطينية سابقا) ويسيطروا على مضائق الدردنيل ويطلوا على البحر الابيض المتوسط. وهو ما يخيف اوروبا الغربية حتى الموت. وكان هذا هو الحافز الرئيسي لارسال البعثات الاستكشافية الغربية لاكتشاف طريق الهند، من الخلف، واحتلالها، ومنها التقدم لاحتلال المنطقة العربية والاراضي المقدسة، من جهة، ولمواجهة احتمالات التقدم الروسي في الشرق العربي وتلاقي الروس والعرب ضد "الغرب الصليبي" و"الشرق العثماني"، من جهة اخرى. وكان هذا هو السبب الرئيسي لموافقة الملكة "ايزابيل الكاثوليكية" على طلب السماح بالرحلة لكريستوف كولومبوس، الذي سبق ورفضته ثلاث مرات. وكان ذلك يدخل ضمن مخططات القيادة اليهودية العالمية التي، بالرغم من طرد اليهود مع العرب المسلمين من اسبانيا، كانت تطمح الى التقارب مع الفاتيكان والتنسيق معه ضد العرب والروس.
ـ وما يؤكد ذلك، وخلافا للفكرة السطحية السائدة، ان الذي موّل رحلة كولومبوس هو بعض الاغنياء من اليهود الاندلسيين المارانو (المتسترين بالمسيحية). وقد رافق بعضهم كولومبوس في الرحلة. وبعد "اكتشاف" اميركا، فإن اول رسالة بعث بها كولومبوس لم تكن الى الملكة "ايزابيل الكاثوليكية" بل كانت الى "صديق" يهودي. (راجع كتاب هنري فورد، مؤسس شركة فورد للسيارات، وهو رأسمالي اميركي كلاسيكي، والكتاب صادر باللغة البلغارية بعنوان: Х-;-Е-;-Н-;-Р-;-И-;- Ф-;-О-;-Р-;-Д-;-, И-;-Н-;-Т-;-Е-;-Р-;-Н-;-А-;-Ц-;-И-;-О-;-Н-;-А-;-Л-;-Н-;-И-;-Т-;-Е-;- Е-;-В-;-Р-;-Е-;-И-;- ، وهو منشور ايضا باللغة العربية بعنوان "اليهودي العالمي"، ترجمة: خيري حماد، صادر عن دار طلاس).
ـ ولكن اهم واخطر ما ينبغي على الباحث الواعي، الموضوعي والصادق، ان يتوقف عنده، هو ان الاغنياء اليهود، المارانو وغير المارانو، الاشكنازيم والسفارديم، العبرانيين والخزر، هم الذين كانوا الاكثر فعالية في تنظيم رحلات المغامرين الاوائل (الذين سموا فيما بعد: الرواد) الذاهبين الى "العالم الجديد". وقد دخل اليهود في مزاحمة شديدة مع الكنيسة الكاثوليكية بهذا الشأن، وتعاونوا مع الكنيسة البروتستانتية.
ـ وبالتدريج انقسم سيل المهاجرين الى القارة الجديدة الى تيارين: تيار تتمتع فيه الكنيسة الكاثوليكية بالنفوذ الاكبر، اتجه نحو القسم الجنوبي للقارة. وكان الهم الاول للكنيسة، المتنفذة في هذا التيار، بالاضافة الى الاستيلاء على الاراضي، نشر المذهب الكاثوليكي. اما التيار الثاني فكان اليهود، بمشاركة البروتستانت، يتمتعون فيه بالنفوذ الاكبر، بشكل مكشوف او مستور، وقد اتجه هذا التيار نحو شمالي القارة.
ـ وقد رفع اليهود، المدعومين من قبل البروتستانت، "التوراة" (العهد القديم) باعتباره "الكتاب المقدس" الاساسي الذي يمكن من خلاله تضليل المسيحيين وتأويل وتبرير استعمار "العالم الجديد" من ضمن "الفكر" الاستعماري اليهودي. وبناء على النصوص التوراتية وتفسيراتهم لها، بث اليهود بين المغامرين فكرة ان المهاجرين هم "مختارون من الله" اي انهم ـ مثلهم مثل اليهود ـ جزء من "شعب الله المختار". واستنادا الى هذا الادعاء، زعم اليهود ايضا ان "الهنود" او "الهنود الحمر" “Indians” او “American Indians” هم "الكنعانيون"، الذين يوصي "الله" "شعبه المختار" بابادتهم والاستيلاء على اراضيهم التي هي "ارض الميعاد" التي وعد الله بها بني اسرائيل "شعب الله المختار"، اي للمهاجرين "المختارين" الذين هم جزء من "شعب الله المختار".
ـ وقد حفزت هذه الدعوة اليهودية "الالهية" المزعومة وبررت كل الجرائم التي ارتكبت بحق "الهنود الحمر" السكان الاصليين لما سمي "اميركا". وبنتيجة هذه الجرائم الكبرى ضد الانسانية، تمت ابادة 112 مليونا منهم وهي مجزرة اكبر بـ18 مرة من المجزرة التي ارتكبها هتلر ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، وهذا العدد من الضحايا يعادل بمرتين عدد الضحايا في الحربين العالميتين الاولى والثانية مجتمعتين. (راجع كتاب: منير العكش، اميركا والابادات الجماعية، صادر عن دار رياض نجيب الريس، بيروت).
XXX
مما تقدم نستنتج ما يلي:
1ـ ان ما يسمى "المسيحية الصهيونية" في اميركا، والاصح تسميتها "اليهودية المسيحية"، لم تولد مع ولادة دولة اسرائيل، بل هي تكمن في اساس ولادة الولايات المتحدة الاميركية، منذ بداية التحضير لرحلة كريستوف كولومبوس.
2ـ ان اليهودية الاصلية، العبرانية، تتميز بالانتماء العنصري ـ الاتني الى "بني اسرائيل". ولذلك فإن عنصريتها هي عنصرية "واقعية"، بصرف النظر عن صحة او عدم صحة ادعاءاتها حول "شعب الله المختار" و"الوعد الالهي" و"ارض الميعاد"، وما اشبه من الترهات الدينية التي تستخدم كوسيلة ايديولوجية لتبرير التعصب والغزو والاستعمار وابادة الشعوب الاخرى.
3ـ ان اليهودية الاشكنازية (الخزرية ـ الطورانية ـ الآرية)، تفتقد الاساس "المادي" "الواقعي" للعنصرية اليهودية (الاصلية = العبرانية)، اي الانتماء الدموي. ولكنها تمتلك الانتماء الى "الدين اليهودي"، بكل ترهاته وخزعبلاته "الالهية" المزعومة. وهي تختبئ خلف "الدين اليهودي" (المفصول واقعيا عن جذوره "العنصرية" = العبرانية = البني اسرائيلية)، لتبرير الادعاء بـ"حقوقها التاريخية" المزعومة في فلسطين، وتبرير قتل وتشريد الفلسطينيين والحلول محلهم. وقد حصل الخزر ـ الاشكنازيم على "تأشيرة الدخول" الى "الدين اليهودي" الاستعماري الاجرامي، لا لشيء الا لكونهم كانوا قبيلة طورانية متوحشة، تعيش على الغزو والسلب والنهب والقتل والسبي، ووضعوا في حينه قبيلتهم ومملكتهم تحت تصرف اليهود العبرانيين. وبفعل الغلبة العددية لليهود الخزر ـ الاشكنازيم على المجموعة اليهودية اليوم، داخل وخارج اسرائيل، فإن الرابط الاساسي الذي صار يجمعهم ويجعلهم "يهودا" ليس هو كونهم "ابناء اسرائيل" بل كونهم "ابناء عزرائيل"، اي: غزاة ومستعمرين، قتلة ومجرمين.
4ـ ان اليهودية المسيحية (اساسا: الاميركية؛ التي تسمى ايضا: المسيحية الصهيونية) تفتقد ليس فقط الاساس "المادي" "الواقعي" للعنصرية اليهودية الاصلية (اي الاصل العبراني ـ البني اسرائيلي)، بل وتفتقد ايضا الانتماء الشكلي المباشر الى الدين اليهودي. حيث ان اليهودية المسيحية تحتفظ بانتمائها الشكلي "للدين المسيحي". والشيء الوحيد الذي يجمع اليهودية المسيحية مع اليهودية هو الانتماء العاري والمفضوح الى نزعة الاستعمار والغزو والسلب والنهب وابادة الشعوب الاخرى. وهذه هي بالضبط النزعة الامبريالية الاميركية. فاذا كانت الصهيونية هي تعبير سياسي عن "اليهودية" كدين، فإن الامبريالية الاميركية هي تعبير سياسي عن "اليهودية المسيحية" كدين.
5ـ ان "الهنود الحمر" لا علاقة لهم من قريب او بعيد بالكنعانيين. واعتبارهم بأنهم كنعانيون، من قبل غزاة اميركا كان بهدف شرعنة ابادتهم والاستيلاء على ارضهم باسم "الله!". وهذا يعني ان الامبريالية الاميركية تتجلبب باليهودية المسيحية ليس فقط للدفاع عن اسرائيل، فهذا هو ابسط الشرور الاميركية. بل هي تتجلبب باليهودية المسيحية لاجل شرعنة استباحة وابادة اي شعب اخر، ومن ثم جميع شعوب العالم، واستعمارها والاستيلاء على اراضيها، عن طريق الباسها الثوب الكنعاني، واعتبار الكوكب الارضي كله، تماما كما اعتبرت الارض الاميركية، "ارض ميعاد" لليهودية المسيحية الاميركية، الاسم الديني للامبريالية الاميركية.
6ـ ان تكريس ظاهرة اليهودية المسيحية يفتح الطريق لخلق ظاهرة اليهودية الاسلامية ايضا. وهذا هو بالضبط الهدف الرئيسي لنظرية هنتنغتون حول صراع الحضارات. فهو في حديثه عن "الحدود الدموية" للاسلام، فإنه لا يدعو الى القضاء على "الاسلام"، بل الى "الصراع التفاعلي" مع "الاسلام" على قاعدة انتزاع الاعتراف بسيادة "الحضارة المسيحية ـ اليهودية"، اي سيادة المصالح الاساسية للامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية. والهدف الستراتيجي من هذا الطرح هو التمهيد لتشكيل “حلف اسلامي” جديد، يضم “تركيا الكبرى” و”كردستان الكبرى” و”البانيا الكبرى” وباكستان، برعاية اميركية صهيونية. ومنذ الان تضع الامبريالية الاميركية امام هذا الحلف العتيد مهمة القيام، نيابة عن اميركا، بشن حرب عالمية جديدة، اسلامية المظهر، ضد روسيا وحلفائها العرب وايران والمسيحية الشرقية. وفيما بعد تشن اميركا حربها على المنتصر، بعد ان يكون قد استنزف. وهذا المخطط الجهنمي هو الفحوى الرئيسية لكل نظرية هنتنغتون حول صدام الحضارات.
7ـ ان الامبريالية الاميركية، بنظرية هنتنغتون وبدونها، تعمل جاهدة لتشكيل جبهة عالمية امبريالية ـ صهيونية ـ "اسلاموية"، لمواجهة وكسر الجبهة المعادية لها: المسيحية الشرقية ـ الاسلامية الثورية، الروسية ـ الايرانية ـ العربية الشعبية، وهي الجبهة التي تكتسب تعاطف والتفاف جميع الشعوب المحبة للحرية والتقدم.
XXX
ولكن طالما ان روسيا، القلعة المسيحية الشرقية التي لا تعرف الهزيمة، تقف كالطود الشامخ بمواجهة الامبريالية الاميركية والصهيونية، فإن امل الانتصار سيظل معقودا للشعوب الأبية الطامحة الى التحرر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المأزق التاريخي ل-منطق- الهيمنة الامبريالية الاميركية
- لمحة تاريخية مكثفة عن العلاقات الثقافية البلغارية اللبنانية ...
- الجيش الاميركي حول افغانستان الى -مملكة سعودية- للخشخاش واله ...
- الغطاء الديني للصوصية الاستعمارية
- الحرب السورية: بداية النهاية!
- بعض بنود -لائحة الشرف- للدمقراطية الاميركية المزعومة!
- سقوط أسطورة القطب الاميركي الاوحد
- -الصليبية- الاميركية على قارعة السقوط التاريخي!
- ضجة كيماوية هستيرية مفتعلة لاجل فصل المناطق الكردية عن سوريا
- المهمة الوطنية والدمقراطية الاولى في سوريا: السحق التام للغز ...
- الجيش -الاسلامي!!!- العالمي يجند المضللين البلقانيين للقتال ...
- ما خربته السياسة الغربية تصلحه المسيحية الشرقية
- اليوم سوريا وغدا روسيا!
- الحتمية التاريخية لانتصار النظام العبودي لروما
- انتصار روما على قرطاجة: انتصار للنظام العبودي -الغربي- على ا ...
- ظهور المسيحية الشرقية كظاهرة نضالية ضد الاستعمار والاستغلال ...
- معركة سوريا تتجه نحو الحسم في اتجاه واحد: تحطيم المؤامرة وسح ...
- قبل ان يرتفع العلم التركي فوق قلعة حلب...
- الاسباب الذاتية لهزيمة قرطاجة
- طبيعة الانتصار الروماني على قرطاجة


المزيد.....




- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...
- ماما جابت بيبي أجمل أغاني قناة طيور الجنة اضبطها الآن على تر ...
- اسلامي: المراكز النووية في البلاد محصنة امنيا مائة بالمائة


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جورج حداد - نظرة عربية مسيحية شرقية في موضوعة صدام الحضارات لهنتنغتون