جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 4147 - 2013 / 7 / 8 - 12:17
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لا بد ان نسجل (وبمعزل عن الجوانب الدينية ـ الايديولوجية، اللاهوتية والغيبية، وبالنظر فقط من زاوية الجوانب الاجتماعية ـ السياسية ـ التاريخية) ان الديانة المسيحية انما ظهرت على وجه التحديد في سياق الصراع ضد روما الاستعمارية. وفيما بعد جاء ايضا ظهور الاسلام في سياق الصراع ضد الاستعمار الروماني.
ومع الاحترام الكلي للتفسيرات الدينية لظهور المسيحية والاسلام (حول الوجود الالهي، والخليقة، وطبيعة المسيح، وطبيعة الرسالة المحمدية، وجميع المفاهيم الدينية الغيبية ـ الماورائية) فإن الاهمية العظمى، من زاوية النظر الاجتماعية ـ القومية ـ التاريخية، لظهور المسيحية والاسلام، هو ظهورهما كتجسيد لنضال شعوب الشرق ضد العبودية الاجنبية وخاصة الاستعمار الروماني، وضد الاستغلالية ـ الانحطاطية ـ العنصرية ـ الخيانية للطغمة اليهودية العليا. وهذا ما يفسر الانتشار الواسع والسريع للديانتين المسيحية والاسلامية في صفوف الشعوب التي كانت تناضل ضد الاستعمار الروماني وطغيانه ووحشيته وضد انتهازية واستغلال وغدر وخيانة الطغمة اليهودية العليا التي تعاونت عضويا مع الاستعمار الروماني حتى ضد قواعدها الجماهيرية اليهودية ذاتها. ويمكن ان نطرح مع جميع القراء السؤال المنطقي التالي:
ـ لقد ولد وعاش واستشهد السيد المسيح في فلسطين. وحسب الرواية الدينية المسيحية، هناك الالوف وعشرات الالاف الذين رأوه وسمعوه وعايشوه. ويمكن التصديق هنا ان عشرات الاف الفلسطينيين هؤلاء قد آمنوا بالسيد المسيح والمعتقدات المسيحية تحت تأثير مشاهداتهم واستماعهم للسيد المسيح ذاته ومن ثم تحت تأثير الدعوة الدينية المسيحية المباشرة.
ولكن ماذا علينا ان نقول عن الملايين وعشرات الملايين من الذين تبنوا المسيحية في مصر وشمال افريقيا وكافة المناطق اللبنانية والسورية واليمن ونجد والحجاز والخليج والعراق وآسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان، دون ان يشاهدوا السيد المسيح ويستمعوا اليه؟
هل يمكن تفسير هذا الانتشار الواسع للمسيحية بتأثير الدعوة الدينية الغيبية والماورائية؟
اي هل يمكن القول ان هذه الشعوب آمنت بالمسيحية من خلال الاقتناع بألوهية المسيح الخ.؟ وانها وقفت ضد روما واليهود كنتيجة للايمان بألوهية المسيح؟
ان تاريخ نشوء وانتشار المسيحية ينفي هذا الطرح. اذ يفيدنا هذا التاريخ بوجود الاختلافات والخلافات اللاهوتية في صفوف الكنيسة المسيحية ذاتها. ولكن هذه الاختلافات كانت وقفا على "النخبة الكنسية". اما جماهير المؤمنين فكانت بطبيعة الحال "كتلة سلبية" او "كتل سلبية" في كل ما يعني الخلافات اللاهوتية والتفسيرات الغيبية ـ الماورائية. وكانت تلك "الكتل السلبية" تـُحسب اوتوماتيكيا على هذا اللاهوتي والزعيم الديني او ذاك. ولكن كل الكتل الجماهيرية المسيحية، وايا كانت التفسيرات الغيبية ـ الماورائية للقادة الدينيين، كانت تقف في المعسكر المعادي للاستعمار الروماني وللخيانة والغدر اليهوديين.
ونستطيع ان نخلص الى الاستنتاج التالي:
ان هذه الشعوب الشرقية كانت ضحية للاستعمار الروماني والاستغلال والغدر والخيانة اليهودية. وكانت في حالة صراع ونضال ضد الاستعمار الروماني وضد الاستغلالية والانحطاطية والغدرية والخيانية اليهودية. ومن خلال هذا الصراع كانت هذه الجماهير الواسعة بحاجة الى اطار تنظيمي نضالي يقوم على اساس معاد لروما وللطغمة اليهودية. وجاءت المسيحية لتلبي هذه الحاجة التاريخية لشعوب المنطقة. اي ان النضال ضد روما واليهود جاء بشعوب المنطقة الى المسيحية، وليس العكس. فهذه الشعوب اتت الى المسيحية ليس بتأثير ظهور المسيح والايمان بألوهيته، بل ان قسما كبيرا من الجماهير اتت الى المسيحية قبل ظهور السيد المسيح. كما ان الاغلبية الساحقة من الجماهير التي أتت الى المسيحية بعد ظهور السيد المسيح، لم تأت الى الدين المسيحي لان السيد المسيح هو "الله" او "ابن الله" او "رسول الله" او اي صفة دينية لاهوتية اخرى، بل لان السيد المسيح برز كمناضل ضد روما واليهود وقدم حياته كانسان في هذا السبيل. وتبني المعتقدات الماورائية المسيحية يأتي بعد الدخول في التنظيم المسيحي.
اي ان التعليم الديني المسيحي اللاهوتي الغيبي ـ الماورائي يأتي لا قبل، وانما بعد الدخول في المسيحية، وليس الدخول في المسيحية يأتي بعد التعليم المسيحي الديني الغيبي.
فمن خلال موقفها المعادي للاستعمار الروماني ولليهود، فإن شعوب الشرق تبنت المسيحية كعقيدة وتنظيم نضالي جامع، ومن خلال الانخراط في المسيحية كتنظيم نضالي يقوم على رفض آليات الهيمنة الرومانية بدءا برفض ايديولوجيا تأليه القياصرة الرومان، ومن خلال هذا الانتماء كان يتم تبني الايمان بالغيبيات والماورائيات الدينية المسيحية، كبديل ونقيض للمعتقدات الرومانية ومن ثم اليهودية.
وكان ظهور المسيحية الشرقية اول رد فعل انساني مضاد للانتصار "العسكري ـ السياسي ـ الاخلاقي!!!"، "الروماني ـ اليهودي"، على شعوب المنطقة، بعد تدمير قرطاجة وغزو مصر وسوريا الطبيعية وغيرهما.
ولكن روما، وبالتعاون التام مع الطغمة العليا اليهودية، عملت على سحق المسيحية الشرقية، من جهة، ومن ثم على مصادرة المسيحية وتغليفها بغلاف ديني مشوه وتغريبها وتحويلها الى وسيلة سلطوية تطويعية بيد الامبراطورية الرومانية، من جهة ثانية. وهكذا تم نقل مركز المسيحية من الشرق وتحديدا من فلسطين، الى الغرب وتحديدا الى روما ذاتها.
xxx
ان الثقافة السائدة، والمنطلقة اصلا، بالبعد التاريخي، من الثقافة الاستعمارية الرومانية التي اخذت بها الدول والانظمة ما بعد انهيار الامبراطورية الرومانية، ـ هذه الثقافة طرحت اطروحة خاطئة، تنطلق اساسا من المصالح الاستعمارية للامبراطورية الرومانية كما ومن المصالح الامبريالية والصهيونية في عصرنا، وتقول هذه الثقافة بأن المسيحية هي ظاهرة دينية ـ سماوية وحسب، ظهرت بظهور السيد المسيح. ومع الاعتراف التام بالدور الكبير الذي يمثله ظهور السيد المسيح الذي يمثل "نقلة نوعية" او "طفرة نوعية" في تاريخ المسيحية، فإن الدراسة المعمقة لتاريخ الشرق خصوصا، وعلاقة الشرق والغرب عموما، تبين ان المسيحية (كحركة دعوة وتنظيم دينية ـ فكرية ـ سياسية ـ اجتماعية) بدأت بالظهور قبل ظهور السيد المسيح بعشرات وربما مئات السنين. وهذه الحركة هي التي استقبلت ميلاد السيد المسيح، وحمت العائلة المقدسة لدى فرارها من وجه الرومان واليهود. وذلك لا ينفي بل يؤكد طبعا ان ظهور السيد المسيح مثل نقطة تحول كبرى في تاريخ المسيحية.
وقد ظهرت الحركة المسيحية، قبل ظهور السيد المسيح، في معمعان صراع شعوب الشرق المتحضر ضد جميع اشكال الظلم والاستبداد والعبودية والاستغلال، وبالاخص ضد وحشية الاستعمار الروماني للشرق، الذي ترافق مع، وكان سببا رئيسيا في، تعميم النظام العبودي على انقاض النظام المشاعي البدائي. وذلك خصوصا بعد هزيمة وتدمير قرطاجة على يد الغزاة الرومان ثم غزوهم للبلقان ومصر وسائر المشرق. وقد اتخذت عملية الصراع ضد الاستعمار الروماني الوحشي اشكالا كفاحية وفكرية واخلاقية مختلفة، اهمها ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس التراقي في 71 ق.م.، وانتشار الفلسفة الرواقية التي وضع اسسها الفيلسوف الاغريقي من اصل فينيقي زينون (334ق.م. ـ 262ق.م.)، ويسمى "زينون الرواقي" و"زينون الفينيقي". وكانت الرواقية تدعو الى العدل وتحرير العبيد والمساواة بين الناس والشعوب وتطبيق الاخلاق في الحياة العامة. وتلازم انتشار الرواقية مع انتشار الدعوة المسيحية، التي كانت تدعو الى خلاص البشرية من العبودية والاستغلال والتمييز الطبقي والعنصري والقومي والى حتمية ظهور المخلص بشخص المسيح. وبظهور السيد المسيح انفجر الصراع بين الحركة المسيحية والسلطة الرومانية ووقفت الطغمة اليهودية العليا الفاسدة (التي كانت تدعو الى ظهور "مسيحها" الخاص كملك قوي يجعل اليهود اسياد العالم)، ـ وقفت الى جانب السلطة الرومانية، ضد الجماهير اليهودية البسيطة التي تبنت الدعوة المسيحية وتخلت عن التفسير اليهودي المنحرف لمجيء السيد المسيح. وقد عملت السلطة الرومانية، ومعها الطغمة العليا اليهودية، على طمس الحقيقة التاريخية لظهور المسيحية المناضلة ضد الامبراطورية الرومانية. ومن ثم عملت السلطة الرومانية، ووريثتها السلطة البيزنطية الموالية لروما والنهج الاستعماري الروماني، ـ عملت على اضطهاد المسيحية الشرقية المناضلة، ومن ثم "تبني" المسيحية بعد تفريغها من محتواها الكفاحي وتجريدها "سماويا"، وتحويلها الى دين للدولة الاستعمارية، واضفاء الطابع اليهودي والغربي عليها واخيرا مصادرتها وجعل المقر العالمي المركزي للمسيحية في روما ذاتها، التي سبق لها وصلبت السيد المسيح. وفي عملية هذا النقل ذاته يوجد تبرير، او على الاقل تخفيف، لجريمة صلب السيد المسيح. وللاسف ان السلطات الاستبدادية غير العربية والعربية العميلة التي حكمت الشرق العربي باسم الاسلام، من المماليك الى العثمانيين والى الحكام العرب الحاليين "الاسلاميين" المزيفين، قد تبنوا النظرة "الرومانية" الغربية الى المسيحية الشرقية، لتبرير اضطهادها لصالح الانظمة والاتجاهات الاستبدادية العميلة للاستعمار الغربي والصهيونية، في الجوهر، و"الاسلامية" المزيفة، في المظهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟