أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - جورج حداد - الضرورة التاريخية لوجود حركة نقابية تعاونية جديدة في لبنان















المزيد.....



الضرورة التاريخية لوجود حركة نقابية تعاونية جديدة في لبنان


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 4067 - 2013 / 4 / 19 - 14:34
المحور: الحركة العمالية والنقابية
    





(مسودة اولى، للمناقشة والمراجعة وإعادة الهيكلة)



في العقد الاخير من القرن المنصرم، وبالتزامن وبالارتباط مع سقوط المنظومة السوفياتية، شهد العالم ظاهرتين متناقضتين في الشكل، متكاملتين في المحتوى:
الاولى، استفراس الرأسمالية المتوحشة في ظل العولمة الامبريالية، المتمحورة حول القطب الاميركي الاوحد.
والثانية، تعرض المفاهيم الاجتماعية عامة، والاشتراكية خاصة، لهجمة برجوازية معادية لم يسبق لها مثيل.
منشأ الصراع الطبقي
وفي هذه الاجواء السلبية، المنافية لحقوق الطبقات الكادحة والشعوب المظلومة، في جميع بلدان العالم على الاطلاق، وبالاستناد الى الافلاس التاريخي للتحريفية السوفياتية (الستالينية والنيوستالينية) التي خانت المبادئ الماركسية ـ اللينينية التي سبق وانطلقت منها ثورة اوكتوبر الاشتراكية العظمى، فإن قارعي الطبول الايديولوجية للرأسمالية الاحتكارية اخذوا على عاتقهم مهمة الترويج، اكثر من اي وقت مضى، للمقولة الفارغة حول سقوط مفهوم الصراع الطبقي خاصة، والاجتماعي عامة، بما فيه مظهره الاكثر حدة وهو الصراع الوطني التحرري، واستبداله بالمفاهيم العنصرية الجديدة حول ما يسمى "صراع الحضارات".
ولا ينسى أصحاب هذه المقولة، ولكنهم يتظاهرون بالتناسي، ان الصراع الطبقي، الاجتماعي والوطني والقومي التحرري، لم يوجد كنتيجة لقيام الثورات الاشتراكية وثورات التحرر الوطني. وبالتالي فهو لم يوجد بوجود النظام السوفياتي، حتى يسقط بسقوطه. بل بالعكس: ان الثورات الاشتراكية، وثورات وحروب التحرر الوطني، والحروب القومية والاستعمارية، الاقليمية والعالمية، قامت كنتيجة لوجود أنظمة الرأسمالية والاستعمار والامبريالية، القائمة حتميا على الصراع الطبقي، الاجتماعي والوطني والقومي التحرري، السابق على تلك الثورات والحروب، التي هي ذاتها مظهر بنيوي يوجد بوجود الصراع الطبقي، الاجتماعي، القومي، والتحرري الوطني والقومي.
وانحراف النظام السوفياتي السابق عن جادة المصالح التاريخية الحقيقية للجماهير الكادحة والشعوب المظلومة، ومن ثم انهياره، على أيدي العناصر البرجوازية والبرجوازية الصغيرة البيروقراطية الموالية للرأسمالية والامبريالية والصهيونية (الستالينية والنيوستالينية) التي (خصوصا بشخص خائن الشيوعية الاكبر يوسف ستالين) استطاعت ان تندس باكرا في صفوف الطبقات العليا للحزب الشيوعي (البلشفي) السوفياتي والجهاز البيروقراطي للدولة السوفياتية، منذ نشأتها، واستطاعت ان تقتل زعيم الثورة الاشتراكية لينين ذاته وان تزيف اللينينية وتستولي على قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي والدولة السوفياتية وتخربهما من الداخل؛ ـ نقول ان هذا الانحراف والانهيار (السوفياتي!) مثـّـل نكسة كبرى للجماهير العمالية والشعبية السوفياتية وللحركة التقدمية والثورية ولحركة التحرر الوطني لجميع شعوب العالم.
ولكن هذه الصورة السلبية ذاتها لا تنفي، بل على العكس تؤكد من جديد حقيقة وجود الصراع الطبقي، بكافة وجوهه، بوصفه المحرك الفعال لتاريخ المجتمعات البشرية القائمة على الانظمة الاستغلالية والتمييز بكل اشكاله.
ولكننا، بعد انتصار "البريسترويكا" الرأسمالية على "الاشتراكية الواقعية" السوفياتية(!)، شاهدنا ونشاهد بالعين المجردة تفاقم الصراعات على الساحة الدولية، بمختلف اشكالها الطبقية، الاجتماعية والوطنية، بما في ذلك اشكالها الاكثر مواربة: الصراعات القومية والاتنية والدينية.
فهذه الصراعات ذاتها ليست، في الحساب الاخير، سوى تعبيرات انعكاسية للصراع الطبقي، بمدلوله الاجتماعي العام، الذي ينقسم فيه البشر ليس فقط الى مستغـِـلين ومستغـَـلين، محتكرين ومحرومين، أغنياء وفقراء، ظالمين ومظلومين، مستعمـِرين ومستعمـَرين، بل وينقسم فيه ايضا الاستغلاليون والاحتكاريون والاستعماريون انفسهم، بعضهم ضد بعض، عملا بالقاعدة الاقتصادية "الذهبية" للمزاحمة الرأسمالية: "الكل ضد الكل، وكل واحد ضد كل واحد"، وعملا بالقاعدة الاخلاقية "الرفيعة" للطبقات الاستغلالية الاقطاعية والبرجوازية: "إن لم تكن ذئبا، أكلتك الذئاب".

الاشتراكية والوطنية والعمل التعاوني
وعلينا ان نتوقف هنا عند الارتباط بين الفكر التعاوني وبين الحركات العمالية والاشتراكية والوطنية، بقصد ازالة بعض الالتباسات:
في النظام الاستغلالي الرأسمالي، فإن الطبقة الرأسمالية تمتلك كل شيء (الارض ووسائل الانتاج والرساميل المالية والسلع المنتجة وتهيمن على جهاز الدولة) فيما الجماهير العمالية والكادحة لا تمتلك سوى قوة العمل، ولذلك فإن الطبقة الرأسمالية هي الاكثر قدرة على التحكم بسوق العمل، وفرض شروط عمل قاسية على الجماهير العمالية والشعبية عامة، والتحكم بمعيشة الجماهير وزج قسم كبير منها في وهاد البطالة والحرمان.
ان الحل الجذري للاستغلال الطبقي، الناشئ عن الفصل بين العمل وملكية وسائل الانتاج هو، نظريا وعمليا، في قيام الثورة الاشتراكية واقامة النظام الاشتراكي. ولكن الى ان تنضج الظروف الموضوعية والذاتية لتحقيق هذه النقلة النوعية في تركيبة المجتمع الوطني، فإن الطبقة العاملة والجماهير الكادحة والشعبية هي ملزمة بأن تخوض نضالا مطلبيا ونقابيا لاجل تحسين شروط العمل في النظام الرأسمالي. ويبرز العمل التعاوني بوصفه احد اهم اشكال العمل لتحسين ظروف معيشة الجماهير العمالية والشعبية خلال سيادة النظام الرأسمالي.
وفي الظروف التي جرت فيها النضالات القاسية للطبقة العاملة الاوروبية، والتي كان ابرزها ثورات 1848، وكومونة باريس في 1871، ومن ثم الثورة الاشتراكية الروسية في 1917، واقامة النظام السوفياتي وما سمي دكتاتورية البروليتاريا؛ وفي ظروف ثورات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا، بمواجهة الكولونيالية والنيوـ كولونيالية، وهي الثورات التي ارتبطت بهذا الشكل وذاك بالفكر الاشتراكي، والفكر التحرري الوطني، وابرزها الثورات الصينية، والفيتنامية والكوبية، والهندية والاندونيسية والمصرية والجزائرية الخ؛ وفي ظروف الثنائية القطبية والحرب الباردة وسباق التسلح وتوازن الرعب النووي؛ ـ في هذه الظروف شديدة القساوة والتعقيد، جرى التشديد الى درجة كبرى على الجانب السياسي، في النضال العمالي والشعبي والوطني، وخصوصا على جانب قلب نظام الحكم، واقامة نظام حكم اشتراكي، ووطني مستقل، على انقاض النظام الرأسمالي والكولونيالي.
وهذا التشديد السياسي اوجد التباسا مزدوجا تبدى في:
1 ـ الربط الميكانيكي بين العمل التعاوني وبين الفكر الثوري، الاشتراكي والوطني.
2 ـ التقليل من اهمية العمل التعاوني، والتركيز على الجانب السياسي في النضال الجماهيري، ربطا بالتركيز على الثورة وإقامة السلطة الاشتراكية والوطنية.
واتخذ هذا الالتباس مداه في البلدان الاشتراكية، والبلدان المتحررة التي سمت نفسها بشتى الاسماء الاشتراكية والدمقراطية والوطنية. وفي مرحلة السلطة الاشتراكية والوطنية المستقلة سيطر شكل ملكية الدولة من القطاع العام على مختلف أشكال الملكية لا الخاصة فقط بل والاجتماعية ايضا. وجرى تحويل القطاع التعاوني، والتسيير الذاتي، وبالاخص في الزراعة، الى تعاوني وتسيير ذاتي بالشكل فقط. وفرضت الادارة المركزية البيروقراطية سيطرتها بشكل شبه كامل على مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك العمل النقابي والتعاوني. ذلك ان الملكية التعاونية والعمل النقابي المستقل، يمكن موضوعيا ان يؤسسا لمواقف سياسية جماهيرية مستقلة. وهذا ما كانت تخشاه السلطة السياسية الشمولية، الممثلة بالحزب الحاكم والقيادة والزعيم الخ، والادارة البيروقراطية، التي قامت على "الارادة الفوقية" لتلك السلطة. فكل من هاتين المؤسستين لا تقبل بطبيعتها ان تأتيها التوجيهات والقرارات "من تحت"، ولا تقبل ان يكون لها ـ بشخص القاعدة الشعبية ـ "شريك"، يمكن ان يراقبها وان يكشف موضوعيا انحرافاتها، او ان يحاسبها مباشرة.
ولا بد لنا ان نشير هنا الى استنتاج "اشتراكي علمي"، لم يفهم الا بشكل سطحي، كالكثير من المفاهيم الاشتراكية العالمية. وكان لهذا الاستنتاج دور كبير في مفاقمة الالتباس المشار اليه آنفا، في ظروف الانتشار الافقي المسطح لنفوذ الاحزاب الشيوعية والاشتراكية، والوطنية المتأثرة بها.
يقول هذا الاستنتاج بأن التعاونيات لا تغير شيئا في طبيعة النظام الرأسمالي، وأنها لا تتجاوز عملية تجميله شكليا، وتصب في النهاية في مصلحته. وهو يستند الى انه لا يمكن اقامة "جزر اشتراكية" في قلب النظام الرأسمالي الشامل.
ويستند هذا الاستنتاج الى الحجج التاريخية ـ الاجتماعية التالية:
اولا ـ إن الرأسمالية يمكنها ان تولد في رحم الاقطاعية، قبل الانقلاب عليها، لكونهما نظامين استغلاليين متشابهين، من حيث كونهما يقومان على شكلين من اشكال الملكية الخاصة الاستغلالية لوسائل الانتاج.
ثانيا ـ اما الاشتراكية، وبوصفها تمثل ملكية عامة غير استغلالية لوسائل الانتاج، فلا يمكنها ان تولد في رحم الرأسمالية، لانها تقوم على شكل نقيض للملكية الخاصة الرأسمالية الاستغلالية لوسائل الانتاج.
وكان لهذا المفهوم الاقتصادي الميكانيكي للتعاونيات دوره الخاص في التقليل من اهميتها في نظر الاشتراكيين والوطنيين، في ظروف النضال ضد الرأسمالية، مما ادى بشكل "طبيعي" الى التقليل من اهميتها الى أقصى درجة بعد انتصار الثورة الاشتراكية وثورة التحرر الوطني، وانتشار وشعبية الافكار الاشتراكية والتحررية الوطنية. وكانت النتيجة التسليم على نطاق واسع بالمعادلة غير الصحيحة: إما رأسمالية وإما اشتراكية، بصرف النظر عن طبيعة كل منهما على ارض الواقع.
وهذا التشديد السياسي، بالتباساته، وفي ظل انتصار النظام الاشتراكي، وأنظمة الحكم الوطني المستقل، ادى الى نفخ مصطنع لمقولة تفوق العامل السياسي على العامل الاجتماعي، وبالتالي الى التقليل من اهمية العمل التعاوني، ليس لدواع موضوعية، بل لاسباب ذاتية محض، تعود الى ان الاحزاب الشيوعية والاشتراكية، والحركات الوطنية المتأثرة بهذا الشكل او ذاك بالاشتراكية والنفوذ السوفياتي السابق، مالت الى التقليل من الشأن الاجتماعي، ولا سيما العمل التعاوني، والى المبالغة غير الواقعية في اهمية الجانب السياسي في الثورة وقلب نظام الحكم واقامة السلطة الثورية، الى درجة اعطيت فيها هذه السلطة درجة من التقديس، لم يحظ بها الفراعنة انفسهم.
وعلينا ان نميز هنا بين نمطين للثورة، حيث ان لكل منهما معطياتها وظروفها:
1 ـ ثورة التحرر الوطني، التي هي فعل صراع ضد قوى معادية خارجية، وتهدف الى التحرر من الاستعمار والاحتلال الخ. وهذه الثورة هي مبررة تاريخيا بشكل غير مشروط، ايا كانت ايديولوجيات القوى التي تقودها وتشارك فيها، وتصوراتها وبرامجها حول طبيعة النظام الاجتماعي ـ السياسي الذي يراد بناؤه بعد التحرير.
2 ـ الثورة بالمفهوم السياسي ـ الاجتماعي، التي هي فعل صراع داخلي، وتهدف إما الى اقامة نظام حكم معين بعد التحرر، وإما الى تغيير نظام الحكم القديم في بلد مستقل شكلا، واستبداله بنظام حكم جديد حُمـِّـل في الغالب صفة "السلطة الثورية" او "الحكم الثوري". وفي هذه الحالة قد تكون الثورة مبررة تاريخيا، وقد لا تكون. وفي حال كونها مبررة، فإن السلطة الثورية التي تقوم في اعقابها قد تكون، او قد تصبح، منحرفة، اذا لم تكن، او اذا لم تبق، مرتبطة بالقضية الجماهيرية، بنيويا وممارسة وغائيا، وليس فقط كجملة ثورية فارغة، تصبح غطاء لواقع مغاير او حتى مناقض تماما لما يطرحه "النظام الثوري" المزعوم..
والان، بعد سقوط المنظومة السوفياتية، وبالرغم من كل الانجازات التي حققتها، لا نستطيع الا ان نلاحظ ان احد اسباب، او بالاحرى اهم سبب لسقوطها هو على وجه التحديد هذا التشديد اللامنطقي واللاعقلاني على العامل السياسي، الذي هو تشديد "مثالي" طهري في الظاهر، براغماتي غير بريء في الواقع. وقد تجلى ذلك بشكل صارخ في عملية تقديس وتقوية الدولة، على حساب المجتمع، عوضا عن ان يكون العكس تماما، كما كانت تدعو المبادئ الاشتراكية العلمية. وقد اتخذ ذلك ابشع اشكاله في دكتاتورية الحزب الواحد وعبادة الفرد والدكتاتورية. ومن ثم فإن هذا السقوط، أي سقوط المنظومة السوفياتية ومذنباتها في اوروبا وآسيا وافريقيا، وآخرها السقوط الاخلاقي والوطني المخجل لنظام صدام حسين، يعني ايضا، اول ما يعني، سقوط مقولة تفوق العامل السياسي على العامل الاجتماعي، في النضال العمالي والشعبي والوطني. حيث ان الصحيح هو العكس تماما، اي ان العامل السياسي هو الذي يجب ان يخدم العامل الاجتماعي.
ولسنا بحاجة الى قدرة خاصة على التحليل والتمييز، لكي نرى حولنا، وبالعين المجردة، كيف ان جميع الاحزاب الشيوعية والاشتراكية والقومية، التي اصيبت بهذا الشكل وذاك، وهذه الدرجة او تلك، بمرض "نقص المناعة الاجتماعية" وتقديس السياسة والسلطة السياسية، تعاني اليوم من ازمة تغرّب عن شعوبها، تنعكس بشكل مأساوي على مصداقيتها وبنيتها وشعبيتها.
ولعلنا لا نخطئ في القول اننا نمر بمرحلة "اعادة اعتبار" نسبية للعامل الاجتماعي، الذي اخذ يكتسب اهمية متزايدة، تفوق العامل السياسي، بسبب الظروف الدولية والاقليمية السائدة، وذلك جنبا الى جنب مع العامل الوطني، بمعناه التحرري لا السلطوي.
دروس تاريخية
وهنا تبرز عدة ملاحظات اساسية هي:
1 ـ ان درس سقوط المنظومة السوفياتية يبين ان الاشتراكية ذاتها، بوصفها، نظريا، اعلى شكل من اشكال التعاون البشري في العصر الحديث، لا يمكن ان تكون قضية حزب او نخبة او سلطة بيروقراطية او دكتاتورية فردية الخ، على طريقة "فرسان الهيكل" الصليبية، التي نصبت نفسها وكيلا وبديلا لجمهور المسيحيين الذين ادعت حمايتهم والدفاع عنهم، والذين اصبحوا لا اكثر من متلق سلبي: كومبارس أو رعية او قطيع بشري يخضع لتلك "النخبة". بل انها، اي الاشتراكية، لا يمكن ان تكون الا قضية مشتركة للجماهير الشعبية المعنية ذاتها. وهذا يعني الافلاس التاريخي لجميع المفاهيم والمقولات النخبوية، الاشتراكية وشبه الاشتراكية، كالحزب الواحد، والحزب القائد، والزعيم الاوحد، وتقديس العامل السياسي على حساب العامل الاجتماعي، ومصادرة ارادة الجماهير باسم تمثيلها، الخ. ويعني ايقاف الهرم على قاعدته من جديد، بالعودة الى الجماهير الشعبية، والالتزام بقضاياها الاجتماعية مباشرة، ووضع آليات العمل السياسي ذاته في خدمة هذه القضايا.
2 ـ ان التحرر الوطني بحد ذاته ليس مرادفا لاقامة نظام رأسمالي او اشتراكي او اقطاعي الخ. ذلك ان نقطة الارتكاز الاساسية فيه هي، مبدئيا، خارجية، وتتعلق بمسألة الصراع مع العدو الخارجي من اجل تحقيق الاستقلال الوطني والقومي. اما ما بعد تحقيق الاستقلال، فتبرز مسألة اخرى ذات طابع داخلي، تتعلق بطبيعة النظام السياسي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي. والخلط بين المسألتين الخارجية والداخلية، لدى العديد من حركات التحرر الوطني، فتح الطريق امام كل اشكال الاستغلال والثغرات والانحرافات بعد الانتصار وتحقيق الاستقلال الوطني السياسي.
3 ـ ان الكولونيالية استطاعت التكيف مع الوضع الجديد، وتجاوز هزيمتها بالالتفاف على الاستقلال الوطني الحديث لمستعمراتها السابقة، لتحويله الى صورة شكلية، وتفريغه من محتواه وتكبيله بمختلف اشكال المعاهدات السياسية والعسكرية و"المساعدات" والقروض الخ. وهذا ما عرف باسم النيو ـ كولونيالية.
4 ـ ان العناصر والشرائح الاستغلالية، في غالبية البلدان المتحررة حديثا، اقامت "حلفا جهنميا" مع بعض القيادات والكوادر في قيادة الثورة وحركة التحرر الوطني، التي "سكرت" بنشوة وامتيازات السلطة الجديدة، وانحرفت عن جادة الصواب لمصالحها الشخصية المادية والمعنوية، على حساب جماهير الثورة خاصة، والشعب عامة. واستطاع هذا "الحلف"، بواجهاته وزعاماته "الثورية"، ان يحول البلاد الى "مزرعة خاصة"، والمواطنين الى مستعبدين في السلطة "الوطنية" الجديدة، بما يشبه "استعمار داخلي" يضاهي واحيانا يبز الاستعمار الخارجي.
5 ـ ان الرأسمالية الاحتكارية، في "ردائها الاجتماعي" والسياسي، كانت قد تلقت ضربة اولى قاسية جدا بتحطيم هيبتها العالمية وكسر احتكارها ودكتاتوريتها الدوليين، بفعل قيام الثورة الاشتراكية في روسيا والصين خاصة، كما بفعل هزيمة الهتلرية على يد الجيش الاحمر السوفياتي، الذي كان، بالرغم من كل مثالب الستالينية، يمثل جيشا حقيقيا للعمال والفلاحين الفقراء، من الروس والاوكرانيين وأبناء القوميات المهمشة في آسيا الوسطى والقوقاز وغيرهم. كما انها، في "ردائها" الآخر، "القومي"، اي الاستعمار والامبريالية، تلقت ضربة مميتة اخرى على يد ثورات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا.
6 ـ بالرغم من كل التبجحات، بعد انهيار المنظومة السوفياتية، حول "افضليات" الرأسمالية، فإن هذا الانهيار ذاته، بجانبه التوتاليتاري الدكتاتوري، قد أضعف النظام الرأسمالي الاحتكاري ذاته بشكل لا سابق له، إذ انه وجه له موضوعيا ضربة ارتدادية قاسية تتزايد تداعياتها باستمرار. فبعد سقوط التوتاليتارية السوفياتية، فإن نقيضها الرأسمالي والامبريالي ايضا قد فقد "مصدرا" اساسيا من مصادر قوته. فمن المعلوم ان ما كان يسمى "العداء للشيوعية"، الذي حل محله الان ما يسمى "مكافحة الارهاب" العربي والاسلامي، كان يعتمد على تسليط الاضواء بشكل مبالغ فيه على الاخطاء والانحرافات التي كانت ترتكبها الستالينية والنظام البيروقراطي السوفياتي. وكانت الامبريالية، وخلفها جميع الانظمة الدكتاتورية والاستغلالية والرجعية التابعة لها والدائرة في فلكها، تضلل وتعبئ قطاعات جماهيرية واسعة، وتبرر سياساتها المعادية للدمقراطية والنضال العمالي والشعبي والوطني المشروع، ليس عن طريق الدعاية لـ"حسنات" و"أفضليات" الرأسمالية والامبريالية والانظمة المعادية للانسانية، بل عن طريق الدعاية ضد سلبيات وتشوهات ما سمي نظام "الاشتراكية الواقعية" الذي سادت فيه الستالينية والنيوستالينية. وامثلة الماكارثية وأشباهها في اميركا وغيرها اكثر من ان تحصى. وبذلك فإن الامبريالية والستالينية كانتا يكملان بعضهما بعضا، كل من طرفها وبـ"منطقها" التسلطي المعادي للانسانية، في قمع الجماهير الشعبية وتضليلها. وبسقوط التوتاليتارية السوفياتية، فإن سلاح "العداء للشيوعية" فقد "مبرر وجوده"، واصبح سلاحا فاشلا لا معنى له. وبذلك فإن "القوة السياسية"، واستطرادا المركـّب التضليلي ـ القمعي، للرأسمالية الاحتكارية والامبريالية، اصبحت اضعف من السابق بكثير، بالرغم من كل تبجحاتها الكاريكاتورية. وهي تزداد انفضاحا وضعفا بوتيرة متسارعة جدا لم يسبق لها مثيل. وبالرغم من كل قوتها الهائلة، عسكريا واقتصاديا، فهي لم تعد قادرة على ان تملي شيئا بالقوة. وبالرغم من كل الضخامة الاسطورية لاجهزتها الاعلامية، فإن قدرتها التضليلية تتضاءل بمعادلة هندسية. وللتعويض عن هذا الخسران، فقد اصبحت تعتمد اكثر من اي وقت مضى على الرشوة والفساد والجريمة المنظمة، التي تداخلت بشكل لا مثيل له مع تركيبة الدولة الامبريالية والرأسمالية الاحتكارية المعاصرة، لدرجة اصبح فيه الفساد لوحده سرطانا يهدد هذه الدولة بالانهيار من داخلها بالذات. ولا شك ان احد اهم وجوه هذا الفساد هو "شراء" القيادات والكوادر الشعبية، السياسية والاجتماعية والنقابية الخ. ولكن حتى هذا السلاح الفتاك، فإنه يفعل فعله في موضعه، ولا يؤدي الى تعبئة "جماهيرية" لصالح الامبريالية والرأسمالية الاحتكارية، بل على العكس تماما، يؤدي الى المزيد من الحقد عليها وازدراء مرتزقتها وعملائها الجدد "اليساريين" و"الوطنيين" و"النقابيين" الخ.
7 ـ ان العمل الاجتماعي اخذ يتحرر باضطراد من ضاغطين سياسيين سلبيين:
الاول، التشديد على العامل السياسي الذي اشرنا اليه، من قبل الاحزاب الشيوعية والاشتراكية والحركات الوطنية المتأثرة مباشرة او ضمنا بها، ووضع العمل السياسي فوق العمل الاجتماعي وليس في خدمته.
والثاني، الارهاب الحقيقي الذي كانت تمارسه الانظمة الرأسمالية الاحتكارية على العمل الاجتماعي، عن طريق "تسييسه المعكوس" ووصمه بشتى تهم "النشاط الهدام" و"العمالة للسوفيات" وما اشبه.
وما يهمنا التأكيد عليه بشكل خاص هو أنه، بتحرر العمل الاجتماعي من هذين الضاغطين، فإن الانظمة الرأسمالية عامة اصبحت، سياسيا بالدرجة الاولى، ومن ثم قانونيا واجتماعيا واقتصاديا، أضعف من الماضي بكثير في مواجهة العمل الاجتماعي، الذي صار بامكانه ان ينطلق على اوسع نطاق ممكن. ففيما مضى، وحتى قبل انتصار الثورة الروسية وظهور النظام الاشتراكي بزمن طويل، كما حدث في اول ايار 1876 في اميركا، كان ابسط عمل نقابي او اجتماعي يعتبر "عملا هداما" يواجه بالسجون والرصاص والمشانق. اما الان فإن الرأسمالية الاحتكارية اصبحت حقا مدانة "في ذاتها"، واصبحت المبادرة التاريخية، على المستوى الاجتماعي خصوصا، في يد الجماهير العمالية والشعبية. ويكفي ان تصمم هذه الجماهير ذاتها على الامساك بالمبادرة التي لم يعد باستطاعة احد انتزاعها منها.
8 ـ اذا كان من غير الواقعي الحديث عن امكانية تغيير شامل لطبيعة النظام الرأسمالي عن طريق العمل الاجتماعي والتعاوني، فإنه اصبح من الواقعي تماما الحديث عن امكانية توسيع هذا العمل ضمن النظام الرأسمالي، وتفريغ النظام الرأسمالي تدريجيا من الداخل من المحتوى الاستغلالي، وخلق نمط علاقات جديدة غير استغلالية، تسير مرحليا جنبا الى جنب مع الانماط الاستغلالية وتكبحها وتخفف من سلبياتها. وبالتالي اصبح بالامكان الحديث عن امكانية ولادة جزر تعاونية، تتسع باضطراد، في رحم النظام الرأسمالي ذاته.
9 ـ ان الحروب، بكل اسبابها ونتائجها والظروف المحيطة بها والمرافقة لها، ولا سيما بالمعاناة التي تسببها للشعوب، تضطلع موضوعيا بدور "معلم" للجماهير الشعبية. وهذا ينطبق بشكل نموذجي على الحرب اللبنانية طويلة المدى. ونجد من الضروري ان نؤكد هنا على جانب في منتهى الاهمية، وهو ان الحرب اللبنانية التي ادت، فيما ادت اليه، الى تعطيل دور الدولة اللبنانية، والى اعادة تركيبها بتسوية او "وصفة" خارجية، دولية ـ اقليمية، عملت بشكل اساسي على نزع أي صفة قبْـلية، شبه سحرية او قدسية، على مؤسسة الدولة. حيث انه في الظروف العادية، فإن كل جيل "يرث" وجود دولة، هي بالنسبة له تاريخ مسبق، او قبْـلي، ذو هيبة خاصة، لم يشارك فيه حتى كمشاهد.
وفي الحالة اللبنانية الراهنة، فإن كل الاجيال التي نشأت في الحرب، تدرك ان الدولة القائمة هي تركيبة خارجة عن ارادة تلك الاجيال، ومفروضة عليها. وهي لذلك لا تمتلك أي نظرة "تقديس" مسبق تجاهها، ولا رصيد قوة الاستمرار "السكونية" التي تمتلكها أي دولة قبْـلية. وهذا يفسر الى حد كبير الموقف السلبي الذي تقفه غالبية الاجيال الجديدة من اجهزة الدولة اللبنانية الجديدة. ومما يزيد في هذه السلبية فشل أداء القوى التي شاركت في تركيبة الدولة، والمحسوبة على القوى الشعبية، والتي اسهمت، بالمشاركة او بالصمت، في استشراء الفساد القائم. ولكن هذه القوى ذاتها تشارك بالدولة كالقميص المستعار، ولا تملك هي ايضا استمرارية أي "هيبة دولوية" مسبقة. وهذا كله يخلق امكانيات موضوعية كبيرة لدى الاجيال الجديدة لاخذ زمام المبادرة، في جميع اشكال النشاط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ولا سيما في بناء وتطوير مؤسسات المجتمع المدني، التي يأتي العمل التعاوني في طليعتها. الا ان الاجيال الجديدة تحتاج الى مشروع شعبي ـ وطني يقود خطواتها، كي تستفيد من الامكانيات التاريخية المتاحة لها، وتخرج من السلبية، وتقطع الطريق على المتاجرة بها، وتمسك زمام امورها بأيديها.
النموذج اللبناني
والنموذج اللبناني هو مثال صارخ على تهافت المقولة البرجوازية والامبريالية حول سقوط مفهوم الصراع الطبقي، الاجتماعي والوطني.
ولعله من باب الصدفة، التي تستر علاقة ما ضرورية، ان انهيار المنظومة السوفياتية جرى في وقت واحد تقريبا مع توقف الحرب اللبنانية المركـّبة، وقيام "جمهورية الطائف" السايكس ـ بيكوية، التي كرست، في الدستور المكتوب، علة وجود لبنان الاساسية، اي الطائفية، اكثر مما كانت عليه في ما يسمى "الميثاق الوطني" غير المكتوب.
ففي عهد هذه الجمهورية حل "السلم الاهلي البارد" محل الحروب المفتعلة للعشائر الطائفية شبه الحزبية، ونشأ نوع مركـّب، سلبي وايجابي، من "الوحدة الوطنية". وأيا كانت المآخذ على اتفاق الطائف وجمهورية الطائف، لا بد من الاعتراف ان هذا "السلم الاهلي" وهذه "الوحدة الوطنية"، وبرغم ارادة مهندسي الطائف الرئيسيين ما وراء البحار، وما وراء الصحراء، قد خدما كركيزة موضوعية، لم يكن بالامكان بدونها اعادة تركيب كيان الدولة اللبنانية، من جهة، ولا تحقيق النصر الوطني الكبير المتمثل بهزيمة الجيش الاسرائيلي، وتحرير غالبية الاراضي اللبنانية من الاحتلال، وعودتها الى السيادة الوطنية اللبنانية، من جهة ثانية.
وفي هذا المناخ "السلمي" و"الوحدوي" جرى، باشكال ودرجات مختلفة، إشراك "أمراء الحرب" خاصة، وغالبية الفعاليات السياسية عامة، في اعادة انتاج النظام اللبناني، بمباركة وتغطية عربيتين ودوليتين. وهكذا تم، منذ المرحلة الاولى ما بعد اتفاق الطائف، تأطير واحتواء غالبية الاحزاب والقوى السياسية اللبنانية، من اليمين الى اليسار، ومن "الانعزاليين" الى القوميين والوطنيين والاسلاميين، الذين شاركوا في حكومات "الائتلاف الوطني"، او ايدوها، أو افسحوا لها مجال العمل، مكتفين بـ"المعارضة الايجابية"، كما هي الحال بالنسبة لحزب الله، في مرحلة اولية ما بعد التحرير سنة 2000، وما تبقى من الحزب الشيوعي. أما المعارضة "المسيحية"، ولا سيما بقايا "القوات اللبنانية" وجماعة تيار الجنرال عون (بالرغم من الاختلافات السياسية الجذرية بين الجماعتين)، فإن اعتراضاتها الرئيسية تمحورت في حينه حول تطاول الوجود السوري على السيادة اللبنانية، و"عسر هضم" تضاؤل حصة "الاسهم المسيحية" في "شركة" النظام الطائفي اللبناني. وأما تعارضات رؤوس السلطة و"المعارضة الوزارية" (وهذه بدعة خاصة بالدمقراطية اللبنانية)، فهي في اغلبيتها لم تتعدَّ الخلافات حول تحسين اداء النظام، والنقاش حول صيغ وحصص المشاركة الفوقية فيه. ولكن لم يكن هناك اعتراض من قبل اي طرف فاعل، لا على "السلم الاهلي"، ولا على "الوحدة الوطنية".
فماذا كان انعكاس هذا "السلم الاهلي" وهذه "الوحدة الوطنية" على الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الطبقي لجماهير الشعب اللبناني؟
لعلنا لا نجانب الواقع اذا قلنا انه هناك "وحدة وطنية" ايضا، شبه اجماعية، على انه لم يسبق للبنان ان مر بوضع اقتصادي ـ اجتماعي، وتمييز واستغلال طبقيين، اسوأ مما هو عليه الان:
فمن اكبر المراجع في الدولة، حتى ابسط مواطن، مرورا بجميع القوى السياسية والاحزاب والتنظيمات والشخصيات، وحتى النقابات(!) التي تحولت في الغالب الى هيكليات محنطة تابعة للنظام الطائفي، تتعالى الشكوى من هذا الوضع.
ماذا يكون هذا، اذا لم يكن صورة صارخة عن موضوعية الصراع الطبقي، الاجتماعي والوطني، الناشئ عن الاستغلال الرأسمالي والامبريالي، الداخلي والخارجي، بكل اشكاله، وهو الاستغلال الفظ والمكشوف، الذي لا تخفي أي عورة فيه جميع أقنعة "السلم الاهلي" و"الوحدة الوطنية"؟
التركيبة الرأسمالية اللبنانية
ان هذا الواقع المرير يطرح بإلحاح مسألة طبيعة النضال النقابي القائم في لبنان وتركيبته البنيوية ونهجه الرئيسي. وهذا ما يقتضينا إلقاء نظرة سريعة أولا على طبيعة النظام الرأسمالي اللبناني.
لقد نشأ هذا النظام في ظل الاستعمار الاجنبي، واستمر بعد الاستقلال السياسي كنظام شبه مستعمَر اقتصاديا في ظروف الهيمنة العالمية للامبريالية وما سمي الاستعمار الجديد، الذي يعتمد بالدرجة الاولى على آليات السيطرة الاقتصادية. ونظرا لصغر مساحة لبنان، وضعف امكانياته، وضيق سوقه، وتمزقه السياسي الداخلي، والتفكك وعدم التكامل الاقتصادي فيما بينه وبين البلدان العربية، وبالاخص سوريا، لم يكن بامكان النظام اللبناني الهش الا ان ينمو كنظام رأسمالي هامشي تابع، تشوبه الكثير من التشوهات، أولها عدم القدرة على بناء صناعة وزراعة متوسعتين، تستفيد من امكانات وطبيعة وموقع لبنان، بما في ذلك صناعة سياحية جماهيرية واسعة، تقوم على أسس اقتصادية وخصائصية وبيئية عقلانية مدروسة.
وكان هناك دائما اتجاهان اقتصاديان رئيسيان في لبنان:
ـ اتجاه كومبرادوري ـ مركنتيلي، يريد تحويل لبنان، بالدرجة الاولى الى مركز خدماتي، مالي وتجاري، مفتوح، تخضع له ولا تعوقه القطاعات الانتاجية المهمشة ومتطلباتها.
ـ واتجاه انتاجي، يعطي الاولوية لبناء قطاع حرفي وصناعي وزراعي، ويقوم الى جانبه قطاع خدماتي متطور، يتكيف معه ويساعده.
وقد تطور النظام الاقتصادي اللبناني، بعد الاستقلال، بشكل عشوائي وفوضوي، دون ان يجري الحسم، على مستوى التوجهات العامة ومراكز القرار في الدولة، بين هذين الاتجاهين. وكانت التجربة الشهابية في اواخر الخمسينات والستينات، المحاولة الوحيدة لايجاد خطة تنموية توازن بين هذين الاتجاهين. ولكن التركيبة اللبنانية لم تتح لهذه التجربة ان تستمر، وعادت الفوضى الاقتصادية اكثر مما كانت عليه في السابق.
وبسبب تفوق الرأسمال المالي الكومبرادوري على الرأسمال الانتاجي، بالمرونة والقدرة على المناورة، فإن الفوضى كانت بطبيعة الحال لصالح الاتجاه الكومبرادوري ـ المركنتيلي، الذي طبع الاقتصاد اللبناني بطابعه. وبنتيجة ذلك اصبحت الخدمات المالية والتجارية، بالدرجة الاولى، هي الطاغية على الاقتصاد اللبناني. وفقد الانتاج اللبناني، المحروم من ظروف طبيعية للتطور والنمو، الكثير من قدراته التنافسية، حيث اصبحت السلع اللبنانية، بشكل عام، عالية الكلفة وغالية الثمن، ليس فقط بالمقارنة مع السلع المستوردة من البلدان المحيطة والبلدان العالمثالثية، بل حتى وبالمقارنة مع السلع المشابهة المستوردة من البلدان الغربية المتقدمة ذات مستوى المعيشة الارفع. هذا ناهيك عن اعتماد الدول المتطورة على أسلوب الإغراق (الدامبنغ) ودعم بعض السلع المصدرة، بهدف زيادة القدرة التنافسية وفتح الاسواق الجديدة، مما هو غير متاح للانتاج اللبناني.
وحتى عشية الحرب الاهلية في 1975، كانت قد نشأت الصورة التالية، المليئة بالمتناقضات والمفارقات، للنظام الرأسمالي اللبناني:
ـ قطاع خدمات يعود له حوالى 70 بالمائة من الدخل الوطني، ولكن يعيش منه أقل من 30 بالمائة من المواطنين المؤطرين في الدورة الاقتصادية.
ـ وقطاع حرف وصناعة وزراعة يعود له حوالى 30 بالمائة من الدخل الوطني، ولكن يعيش منه اكثر من 70 بالمائة من أولئك المواطنين.
مثل هذه المفارقة كانت تحمل في طياتها خطر انفجار النظام من داخله، بنتيجة العوامل الرئيسية التالية:
أ ـ التفاوت المتواصل بين مستوى معيشة العاملين والموظفين في قطاع الخدمات، من جهة، وفي قطاع الانتاج الصناعي والزراعي والحرفي، من جهة ثانية، تبعا للتفاوت في دور وحصة كل من القطاعين في الاقتصاد الوطني. وبشكل ما يمكن القول إنه اصبح لدينا "لبنانان" لا لبنان واحد، على صعيد مستوى المعيشة في كل قطاع.
وبشكل من الاشكال فإن هذا الوضع الشاذ كان له ايضا انعكاساته الطائفية، حيث انه، ولاسباب تاريخية ودمغرافية ـ جغرافية، فإن قطاع الخدمات كان هو الغالب في الوسط المسيحي والسني؛ وقطاع الانتاج، ولا سيما قطاع القسم الاضعف: الزراعة، كان هو الغالب في الوسط الشيعي.
ب ـ مراكمة البطالة، الظاهرة والكامنة، باحجام غير مسبوقة تبلغ مئات الالاف من القادرين على العمل. واذا حسبنا هؤلاء مع عائلاتهم، ربما بلغ التعداد نصف السكان واكثر، من الذين وضعوا امام أفق عيش مسدود، في حين كانت البنوك والقصور والبنايات الفخمة وشركات السمسرة المزدهرة تنمو كالفطر امام أعين المحتاجين.
ج ـ وفي حين ان الاكثرية الساحقة من الشعب اللبناني، من الرأسماليين الصغار والمتوسطين والكبار والعمال والفلاحين والمستخدمين والحرفيين واصحاب المهن الحرة، المرتبطين بشكل رئيسي بالدورة الاقتصادية الانتاجية، وبالخدمات التابعة لها، اصبحوا مرتبطين مصلحيا وحياتيا بهذه الدورة، فإن الرزمة الاكبر من الكتلة المالية الرئيسية للبلاد، التي تتحرك هذه الدورة من خلالها، أصبحت تقع في ايدي الاحتكارات الاجنبية والشريحة الكومبرادورية المرتبطة بها، التي لا يربطها أي رابط حقيقي بالبلاد غير رابط الربحية المشروطة والمتذبذبة. وبذلك اصبحت الدورة الاقتصادية برمتها تحت رحمة هذه الفئات الكومبرادورية والاحتكارية اللبنانية والاجنبية، التي يمكنها في أي لحظة سحب رساميلها، كليا او جزئيا، وإلقاء البلاد في دوامة المجهول.
ومع ذلك فقد ظل النظام الاقتصادي اللبناني "الحر" ينمو بشكل كمي ـ أفقي، بالرغم من مخاطر التناقضات التي كانت تنمو معه، وانعكست بشكل مأساوي في الحرب اللبنانية، والتي تتخذ اليوم أبعادا جديدة كارثية، ربطا بالقرار الدولي بإعدام لبنان الوطني، كما أسلفنا.
فشل أسرلة لبنان
وقد تعرض لبنان قبل "اتفاق الطائف"، لحرب استنزاف عشائرية ـ طائفية طويلة، وللاحتلال والعدوان الاسرائيلي، بالتزامن مع التضييق الاقتصادي الخانق.
ولا شك ان الجماهير الشعبية، من عمال، وفلاحين، وطلاب، وشباب، ونساء، وعاطلين عن العمل، ومثقفين، واصحاب مهن حرة، وحرفيين، ومزارعين، ورأسماليين صغار ومتوسطين، ـ هذه الجماهير هي التي عانت الامرّين من الحرب الاهلية، ومن الاحتلال والعدوان، كما من الضائقة الاقتصادية والبطالة والغلاء والقصف الهمجي المروّع والمجازر والقتل على الهوية والتهجير الكثيف وتدمير المصانع والمؤسسات والبنى التحتية، وشتى انواع المآسي والعذابات والحرمانات والخسائر البشرية والمادية.
وبالرغم من كل هذه الاوضاع الكارثية، بالنسبة لبلد صغير كلبنان، وبالرغم من الاستقطابات السياسية المبتذلة والطائفية، والتعقيدات والتعرجات المدوخة للحرب، فإن هذه الجماهير لم ترضح، ولم تستسلم لمصير مجهول.
وقد استطاعت الجماهير الشعبية اللبنانية، رغم كل الويلات، وكل حالات الضياع والتضييع، ان تأخذ قضيتها بيدها، وان تدافع عن نفسها بمختلف الاشكال، وإن بصعوبات وآلام وتضحيات لا تكاد توصف، ضد مشروع التمزيق الوطني، الذي جسدته الحرب الاهلية، وضد مشروع تحويل لبنان الى مستعمرة او محمية اسرائيلية، الذي جسده الاحتلال والعدوان و"عهد آل الجميل" (بشير وأمين) و"مشروع 17 ايار". وكانت صفحة المقاومة الوطنية والاسلامية، الى جانب المقاومة الباسلة للشعب الفلسطيني، من اروع الصفحات، ان لم يكن اروعها، التي خطـّـتها الجماهير الشعبية بدماء شهدائها، في التاريخ الحديث للبنان والعرب.
المشروع السعودي لتخريب لبنان والاقتصاد اللبناني
وقد نزل المرحوم رفيق الحريري بالباراشوت في لبنان، وهو يحمل في جعبته "مشروعا سعوديا" (ماليا اجنبيا ـ كومبرادوريا) كاملا لتخريب الاقتصاد الانتاجي والمجتمع اللبنانيين وتحويل لبنان الى منطقة تجارية حرة ومنتزه وكاراج واسطبل وخمارة ومرقص وحوش حريم لمشيخات النفط الخليجية. وربما يمكن القول اليوم ان هذا المشروع لم يكن منفصلا عن اكتشاف (وهو ما لم يعلن عنه الا مؤخرا) النفط والغاز في شرقي المتوسط، ورغبة دول الخليج النفطية (وعلى رأسها السعودية) في وضع اليد على هذه المنطقة، بالتعاون مع اسيادها الاميركيين، وبالتفاهم ضمنا مع اسرائيل.
وهنا لا بد ان نتوقف عند نقطة مهمة تتعلق بالوجود السوري في لبنان الذي استمر حوالى ثلاثين سنة، بالترابط مع "المشروع الاقتصادي السعودي" الذي نزل المرحوم رفيق الحريري بالباراشوت لتطبيقه في لبنان:
انطلاقا من تاريخها القومي، وبفعل التلاصق الجغرافي، والارتباط الوثيق بين الشعبين الشقيقين السوري واللبناني، تضطلع سوريا موضوعيا بدور عمق استراتيجي للخط الوطني العروبي في لبنان. وهذا على النطاق القومي العام. أما على النطاق الاقتصادي والحياتي، فنظرا لاتساع رقعتها الجغرافية، وعدد سكانها، وامكانياتها الطبيعية والاقتصادية الكبيرة، كان من المفترض منطقيا بالنسبة لسوريا ان تضطلع ايضا بدور مدى حيوي اقتصادي للبنان. وكان من شأن ذلك ان يعطل الى درجة كبرى مفاعيل أي حرب اقتصادية ضد الشعب اللبناني.
على المستوى السياسي، لا يمكن القول ان النظام "البعثي" في سوريا، والقوى الوطنية اللبنانية استطاعت ان تستفيد بشكل جيد من الامكانية الموضوعية لارساء علاقات مميزة بين البلدين، بالرغم من كل الجعجعة السياسية حول هذا الموضوع. ومع ذلك، وبالرغم من كل الانتقادات والمآخذ على اداء النظام السوري في لبنان، خاصة لجهة نقل تجربته السلبية مع الدمقراطية، لا يمكن الانكار ان هذا النظام اسهم في استعادة "السلم الاهلي" و"الوحدة الوطنية" (الطائفية) المشروطة في لبنان، وفي دعم المقاومة الوطنية والاسلامية لتحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. ولكن علينا ان نلاحظ ونؤكد هنا ان النظام "البعثي" السوري لم يكن في اي يوم من الايام "حالة موحدة" كما يبدو سطحيا من الخارج، بسبب وجود الحكم الفردي، بل توجد فيه تكتلات واتجاهات متناقضة الى درجة كسر العظم. وهذا ما يفسر الانجازات المتناقضة للنظام السوري في لبنان: من دعم المقاومة الوطنية والاسلامية، الى التآمر والعمل لسحق الحركة الوطنية اللبنانية لصالح القوى العميلة المرتبطة ارتباطا مباشرا باسرائيل.
وهنا لا بد من تقديم ملاحظة اساسية وهي: ان القوى الوطنية اللبنانية لم تكن "تهتم" او لم تكن "تستطيع الاهتمام" بطبيعة النظام السوري. وكان من المحرم تماما تناول الاوضاع في سوريا، الا من باب كيل المديح للقيادة السورية وللنظام القائم. وكأن هذا النظام هو حالة "دينية" منزهة، جامدة، مفروضة، غير خاضعة لمعايير الحياة السياسية الطبيعية، وغير قابلة للتغيير والتطوير. وقد اثبتت التجربة ان هذا النمط "الانصياعي" السلبي، في العلاقة بين القوى الوطنية الدمقراطية في لبنان وسوريا (من خلال النظام "البعثي" الدكتاتوري فيها)، قد صب، في الحساب الاخير، في غير مصلحة الشعبين اللبناني والسوري، وفي غير مصلحة النظام "البعثي" السوري نفسه، الذي اظهر في اكثر من مناسبة الرغبة في التغيير، وفي تقبل النقد الصديق البناء، بدلا من انتظار النقد المعادي الهدام. فكيف يمكن ان تكون هناك علاقة مميزة مع سوريا، ويكون من المطلوب التعامل بأدق التفاصيل مع طبيعة الاوضاع اللبنانية، ولا يكون مطلوبا التعامل مع الاوضاع السورية؟ ان مثل هذا التعامل ذي البعد الواحد مع النظام "البعثي" السوري قد وضع القوى الوطنية اللبنانية، شئنا ام أبينا، امام "خيار" قسري في غير مصلحة الشعبين عامة والقوى الوطنية والاسلامية والتقدمية السورية واللبنانية خاصة: اما علاقة "مميزة" من طرف واحد، هو الطرف اللبناني، مع النظام "البعثي" المخابراتي، واما موقف عدائي من سوريا.
وهذا النمط "الانصياعي" في العلاقة اللبنانية ـ السورية ادى الى اجبار القوى الوطنية الدمقراطية الحقيقية في لبنان، بما فيها القوى المؤسسة لـ "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" و"المقاومة الاسلامية"، الى الصمت و"ابتلاع اللسان" عن مسؤولية التدخل السوري في حرب السنتين (1975 ـ 1976) في عملية انقاذ "القوات اللبنانية" العميلة من الهزيمة العسكرية والسياسية المحققة، وفي اسقاط قوات الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية عسكريا في مخيم "تل الزعتر" وبرج حمود والنبعة والمسلخ والكرنتينا وانطلياس والزلقا ومخيم "جسر الباشا" ومخيم "الضبية"، في شرقي وشمالي بيروت، وفي المتن الشمالي، وتسليم المواقع الوطنية الى "القوات اللبنانية" العميلة. وذلك كله تحت الشعار الامبريالي ـ الصهيوني الكاذب: شعار حماية المسيحيين (!)، الذي تبناه حينذاك النظام "البعثي" السوري بدون اي خجل، لتبرير دعمه لـ"القوات اللبنانية" العميلة.
ومن ضمن هذا النمط "الانصياعي" ذاته للعلاقات اللبنانية ـ السورية، فإن القوى الوطنية والدمقراطية الحقيقية في لبنان، بمن فيها قوى المقاومة ضد اسرائيل، "ابتلعت لسانها" ايضا حيال الجريميتن الكبريين بحق الجماهير الشعبية الوطنية والدمقراطية في لبنان: جريمة اغتيال كمال جنبلاط، وجريمة تغييب الامام موسى الصدر. وهما الجريمتان اللتان ما كان لهما ان تحدثا بدون الضلوع المباشر للنظام "البعثي" المخابراتي السوري.
ومن ضمن هذا النمط "الانصياعي" ايضا، تم ارتكاب الجريمة التاريخية بحق الجماهير الكادحة اللبنانية، ونعني بها جريمة تمزيق وسحق الحركة النقابية والعمالية والمطلبية الشعبية تحت اقدام المخابرات، وتحويل غالبية القيادات النقابية الى عكاكيز تابعة لمختلف رموز النظام السياسي اللبناني الكراكوزي الذي وضع عشرات السنين تحت وصاية المخابرات ورموز الفساد السورية (عبدالحليم خدام وغازي كنعان ورستم غزالة) بمباركة اميركية و"تطنيش" اسرائيلي.
وفي المحصلة "التاريخية" انتج لنا هذا النمط "الانصياعي" للعلاقات اللبنانية ـ السورية معطيات سياسية انحرافية خطيرة وأخطرها ما يلي:
أ ـ تكريس معسكر العمالة والخيانة المسيحي: حزب الكتائب و"القوات اللبنانية" واذنابهما وحلفائهما، بوصفهم هم "الممثلون الاصيلون" للمسيحيين؛
وبالمقابل: الطعن بـ"مسيحية" القوى الوطنية اللبنانية ذات الاصول المسيحية، واظهارها بأنها "توابع اسلامية!".
وضمن هذا الوضع الخارج عن كل منطق كادت "القوات اللبنانية" العميلة ان تفرض وصايتها على مرجعية بكركي ذاتها، لولا يقظة "الفاتيكان" من جهة، وانتفاضة الجماهير المسيحية المهمشة والمغلوب على امرها بقيادة الجنرال ميشال عون، من جهة ثانية. وليس من الصدفة ابدا، بل هي عبرة لمن يريد ان يعتبر، ان "الانتفاضة العونية" ضد "القوات اللبنانية" اتخذت في الوقت نفسه صفة انتفاضة ضد "الوصاية السورية" التي تتحمل المسؤولية التاريخية عن فرض "تمثيل" حزب الكتائب و"القوات اللبنانية" للمسيحيين.
لقد فعل النظام "البعثي" المخابراتي السوري ما فعل، على هذا الصعيد، بفعل انخداعه بـ"صداقة" القيادات المسيحية العميلة، كبيار الجميل وكميل شمعون وامثالهما الذين كانوا يستقبلون بالاحضان في دمشق. وقد دفع الشعب اللبناني ثمنا غاليا، واليوم يدفع الشعب السوري ثمنا اغلى بكثير، لهذه "الصداقة".
ب ـ إظهار القوى اليسارية والقومية والاسلامية، الوطنية، المعادية للامبريالية والصهيونية، بمظهر قوى معادية للدمقراطية، ومؤيدة لدكتاتورية النظام "البعثي" المخابراتي السوري وللوصاية السورية على لبنان.
ج ـ إظهار جبهة القوى الطائفية المسيحية العميلة والقوى الرأسمالية الكومبرادورية والقوى الطائفية الاسلامية(!) الرجعية بما فيها الارهابية التكفيرية، المرتبطة كلها ارتباطا وثيقا ومكشوفا بالامبريالية والصهيونية والرجعية النفطية العربية، بمظهر القوى المؤيدة للدمقراطية، لكونها معادية للدكتاتورية في سوريا. واستخدام هذا الغطاء السياسي المزيف لمحاولة تحويل لبنان الى قاعدة للتآمر على الدولة والشعب السوريين ولتمزيق سوريا لصالح الامبريالية والصهيونية.
د ـ ومن اخطر المعطيات المنحرفة التي فرضها النظام "البعثي" المخابراتي السوري على لبنان هو الصفقة السياسية التي تمت مع السعودية من اجل فرض وتكريس زعامة شركة الحريري على لبنان (اوجيه سعودي ـ اوجيه ليبان ـ السوليدار ـ تيار المستقبل ـ السيطرة على رئاسة الوزارة مدة عشرين سنة ـ اطلاق يد الحريري في الاقتصاد اللبناني وترتيبه دين بعشرات مليارات الدولارات على هذا البلد الصغير).
ولعله يمكن التأكيد الان ان اميركا واسرائيل والسعودية كانوا يعلمون بوجود مكامن النفط والغاز في شرقي المتوسط، وبالتالي في المياه الاقليمية الدولية اللبنانية. والسعي المحموم لاجل فرض "السلام الاسرائيلي" على البلدان العربية كان ينطلق ضمنا من هذا الاكتشاف الستراتيجي، بهدف تسوية الاوضاع من اجل تمرير مشاريع الاستخراج الامبريالي العالمي "المشترك" للنفط والغاز، ويأتي من ضمن ذلك انشاء "مشيخة نفطية" في لبنان على غرار مشيخات الخليج. فأعطي رفيق الحريري لقب "شيخ" سعودي، وأنزل بالباراشوت ـ بمساعدة تامة من النظام "البعثي" السوري ـ ليصبح اهم شخصية سياسية واقتصادية في لبنان. وكان مشروع الحريري الاقتصادي، تمهيدا لخلق "مشيخة نفطية"، يتمثل في ضرب القطاع الانتاجي تماما في لبنان وتصفيته، وتحويل لبنان تحويلا تاما الى قطاع الاقتصاد الخدماتي ـ البنكي ـ العقاري ـ الترانزيتي ـ الريعي. وهذا يعني عمليا تصفية الصناعة والزراعة والسياحة الجماهيرية والحرف، والقاء اكثرية اللبنانيين في براثن البطالة وتجويعهم واجبارهم على مغادرة لبنان، والابقاء على ما لا يزيد عن مليون ـ مليون ونصف مليون لبناني لتأمين الخدمات المطلوبة لشيوخ النفط وحواشيهم وخدمهم وحشمهم وحريمهم وكلابهم. ويعني تحويل لبنان من بلد وشعب، الى ارض مستباحة لمن يدفع اكثر، والى مدينة مقاهي وفنادق وملاهي واوكار قمار ومخدرات وفرفشة ودعارة، الى جانب شركات السمسرة وعصابات التهريب بكل اشكاله. ويعني تحويل لبنان الى "حوش خلفي" لمشيخات الخليج النفطية، حيث يصبح الخليجيون هم "سادة" لبنان، واللبنانيون سماسرة وخدم ومزيكاتية وراقصين وراقصات تافهين وقوادين وعاهرات في خدمتهم. وكان تنفيذ هذا المشروع يسير بنجاح بشكل حثيث، الى درجة انه أخاف اسرائيل من ان لبنان يمكن ان يأخذ الاولوية منها ويتحول ـ هو، لا اسرائيل ـ الى المركز المالي ـ التجاري الاول في المنطقة والعالم بعد فرض "السلم الاسرائيلي" على شعوب المنطقة. وهذا هو "السر" الذي اطاح برفيق الحريري شخصيا، لاجل تحذير السعودية ومن لف لفها بعدم الخروج عن مبدأ "الشراكة" التامة مع اسرائيل.
هـ ـ ومن ضمن هذا المشروع، وكجزء لا يتجزأ منه، جاء الدور السوري في تحويل لبنان الى "مغارة علي بابا والاربعين حرامي".
والدور السوري في المشروع السعودي
وخلال الوجود المخابراتي السوري تحول لبنان الى قطاع مستباح لفرض الخوات والابتزاز والسرقات واعمال التهريب، بما في ذلك وبالاخص التهريب الى سوريا، وتهريب وغسيل الاموال، والمضاربة على العملة اللبنانية (التي انهارت تماما) وعلى العملة السورية ذاتها. وتدفق مئات آلاف العمال والكسبة السوريين للعمل في لبنان، مما جعل مهنا بكاملها تنهار امام المزاحمة السورية وألقي مئات الاف اللبنانيين في براثن البطالة والجوع والهجرة.
ونكتفي بإعطاء ثلاثة امثلة عن الدور الاقتصادي التخريبي للوجود "السوري!" في لبنان:
الاول ـ معروف ان بلدة شكا في الشمال اللبناني هي مركز لمعامل انتاج الترابة (السيمنتو) ويوجد فيها مرفأ لتحميل البواخر بالترابة وشحنها الى كافة المناطق اللبنانية وكذلك للتصدير الخارجي. ومع الوجود "السوري!" في لبنان وفي ليلة ليلاء تحول المرفأ الى مرفأ "استيراد" وتفريغ للسيمنتو الاجنبي (في البدء كان السمنتو الروماني). وفي بداية هذه العملية القرصنية كان يجري اولا اطفاء الانوار ليلا، وتفريغ البواخر الاجنبية المحملة بالسيمنتو (وفيما بعد لم يعودوا يطفئون الانوار). وكانت تأتي "تريلات" لبنانية وتحمل السيمنتو الاجنبي وتنقله الى مختلف المناطق اللبنانية. ولكن القسم الاكبر من السيمنتو كان ينقل الى بلدة القليعات في اقصى شمال لبنان ويجري تفريغه هناك في مستودعات ومنازل مستأجرة لهذه الغاية. وكانت تأتي "تريلات" سورية (اولا كانت تأتي في الليل تحت جنح الظلام، ثم صارت تأتي "على عينك يا تاجر" في وضح النهار) وتحمل السيمنتو المهرب وتذهب به الى سوريا لتسويقه في سوريا على حساب السيمنتو السوري ذاته. وتعني هذه العملية ببساطة: تحقيق ارباح بمئات الاف وملايين الدولارات للمهربين على حساب الدولتين اللبنانية والسورية (عدم دفع اية رسوم لمرفأ شكا، وللبلديات، وعدم دفع اية ضرائب استيراد للدولتين اللبنانية والسورية) وضرب صناعة السيمنتو وتجارتها المشروعة في البلدين.
الثاني ـ بعد فشل الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 في اسرلة لبنان وتحويله الى محمية اسرائيلية، والهزيمة الساحقة لـ"القوات اللبنانية" العميلة بقيادة سمير جعجع في الجبل (مع ابداء اعتراضنا التام على قيام الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ولحسابات لا علاقة لها بالتوجهات الوطنية، بطرد مسيحيي الجبل الذين رفضوا ـ ونشدد على كلمة "رفضوا"حرفيا ـ القتال مع سمير جعجع و"قواته")، والعزلة التامة التي وقع بها عهد امين الجميل الذي نصبه الاسرائيليون رئيسا للجمهورية بعد مقتل شقيقه العميل بشير الجميل الذي جاء الى رئاسة الجمهورية حرفيا بالدبابات الاسرائيلية؛ ـ نقول بعد كل هذا الفشل لسياسة اخضاع وتطويع الشعب اللبناني عسكريا وامنيا وسياسيا، بدأت حرب اقتصادية شعواء ضد الشعب اللبناني تمثلت بالدرجة الاولى في المضاربة على الليرة اللبنانية التي انهارت في سنوات قليلة من سعر صرف 2،5 ليرة للدولار، الى اكثر من 3200 ليرة للدولار الواحد. فنهبت تماما مدخرات المواطنين اللبنانيين وكل ميزانيات الصناديق العامة (كالضمان الاجتماعي وغيره) التي كانت مودعة بالليرة اللبنانية. وانتشر الصرافون كالذباب في الازقة والزواريب والاسواق وارصفة الشوارع. وكانت البنوك تحافظ على "مستواها الراقي" (!!!) وتحرص على الشكليات ولا تتعاطى مباشرة بعمليات الصيرفة الا بعمليات التحويل الكبيرة. ولكن كل بنك صار له شبكة واسعة من عصابات الصرافين "الشعبيين" الذين كانوا يحملون الليرة البنانية الورقية بالاكياس الى الشوارع ليبيعونها مقابل الدولارات التي يعودون فيسلمونها للبنك الذي يشغلهم مقابل عمولة معينة. وكل هذه الجريمة الكبرى بحق الليرة اللبنانية والاقتصاد اللبناني ومعاشات العمال والموظفين ومداخيل الكادحين اللبنانيين ورغيف خبز المواطن اللبناني (كان ثمن ربطة الخبز نصف ليرة لبنانية فصار 1500 ليرة لبنانية، وطبعا ان الاجور لم ترتفع بهذه النسبة الجهنمية)؛ ـ نقول كل هذه الجريمة الكبرى تمت تحت اشراف وبحماية الامن والمخابرات والنظام "البعثي" السوري في لبنان، وطبعا ليس بدون ثمن!.
ولكن حينما اصبحت الليرة اللبنانية عظمة يابسة ليس فيها ذرة لحم، استدارت عصابة المضاربين (المرتبطين سرا او علنا بعصابة الحريري السعودية)، استدارت نحو الليرة السورية ذاتها. وبدأت المضاربة على الليرة السورية. واخذت المخابرات السورية تشن من حين الى حين حملة اعتقالات لبعض الصرافين الصغار، لوقف المضاربة على الليرة السورية. ولكنه كان يتم القاء القبض على الصرافين في الصباح، ليتم الافراج عنهم في المساء او في اليوم الثاني او الثالث، وذلك اما لان يد المستفيدين في النظام السوري من عصابات المضاربين كانت اقوى من يد الحريصين في النظام السوري على الليرة السورية، واما لان هؤلاء الصرافين لم يكونوا سوى منفذين صغار لارادة "مضاربين" كبار على الليرة السورية و"حماتهم" في قلب النظام السوري، فكان يتم الافراج عن الصغار لاجل تجنب الاصطدام بـ"الكبار".
وطبعا ان الليرة السورية لم تصب بالضرر ذاته الذي اصاب الليرة اللبنانية. ولكن سعر صرف الليرة السورية هبط حوالى عشر مرات، والاخطر من ذلك انه بدأت عملية تسريب وتهريب الرساميل المدخرة بالليرة السورية من سوريا الى لبنان، بعشرات المليارات، وصار تحويل تلك الرساميل الى دولارات اودعت في البنوك اللبنانية او أخرجت الى الخارج، ضد مصلحة الاقتصاد السوري واللبناني على السواء.
والثالث ـ النفايات السامة: ان القوانين الاوروبية تلزم المصانع الكيماوية وغيرها، التي يصدر عنها نفايات سامة ومضرة بالبيئة، ان تدفن تلك النفايات بطرق فنية تمنع تسميم التربة والمياه الجوفية. ولكن المصانع ترى ان تلك الطرق مكلفة وتقلص قدرتها التنافسية وارباحها، قتعمد الى استغلال الفساد القائم وتزور شهادات لدفن النفايات لتبرئة ذمتها امام المراجع المختصة، ثم يتم تسليم النفايات الى المافيا مقابل مبالغ معينة، وكانت المافيا تنقل النفايات الى افريقيا لدفنها كيفما كان في الاراضي الافريقية بالتعاون مع بعض المرتزقة الافارقة عديمي الضمير الوطني والانساني. ولكن الدول الافريقية بدأت تعي هذه الآفة وتصدر قوانين مشددة بعضها يقضي باعدام كل من له علاقة بدفن النفايات السامة في اراضيها. فتحولت المافيا الى تصدير النفايات السامة الى الشرق الاوسط. وحسبما افادت الصحافة الايطالية وغيرها في حينه كان السيد جمال (ابن نائب رئيس الجمهورية السوري عبدالحليم خدام) احد السماسرة الذي حصل على بواخر من النفايات السامة لدفنها في الاراضي السورية. وحينما افتضح امره في سوريا بدأ تحويل البواخر الى لبنان بالتعاون مع "القوات اللبنانية" التي اخذت ترمي مستوعبات النفايات السامة في الجبال والوديان في مناطق الجبل المسيحية التي كانت تحت السيطرة العسكرية لـ"القوات". وحينما بدأت الجريمة تنفضح تدريجيا من لسان الى لسان، لم يتورع المجرمون عن رمي براميل النفايات السامة في عرض البحر قبالة الشواطئ اللبنانية. وقد اكتشف الامر بسبب موت الاسماك التي كانت تتقاذفها الامواج كما كانت بعض تلك البراميل الفارغة او نصف الفارغة تصل الى الشاطئ. وقد ادى ذلك الى امتناع الناس لسنتين او اكثر عن اكل السمك، مما اضر بعمل الاف عائلات صيادي وبائعي السمك اللبنانيين. والذي فضح هذه الجريمة هو الفاتيكان وبعض الصحف الايطالية المرتبطة او المتأثرة به، بسبب الانزعاج من تحويل بعض الاراضي المسيحية اللبنانية الى مقبرة للنفايات السامة الاوروبية، وتعريض حياة المسيحيين واجيالهم القادمة للخطر، بفضل "مسيحية" "القوات اللبنانية" العميلة لاسرائيل و"عروبة" السيد جمال عبدالحليم خدام وامثاله.
والان ينزل السيد عبدالحليم خدام سعيدا في قصر الحريري في باريس، ويتولى هو والسيد سعد الحريري تمويل العصابات "التكفيرية" التي تهاجم سوريا، بالاموال السعودية. خدام، جعجع، الحريري والسعودية: اكتملت "الشلة"، واكتملت دائرة المؤامرة على لبنان وسوريا معا، من "النفايات السامة" الى "العصابات التكفيرية".
هذه بعض الامثلة عن "انجازات" الوجود السوري في لبنان، الذي كان "اعظم" انجازاته تغطية ودعم انزال الحريري بالباراشوت لفرض زعامته على لبنان بالاتفاق مع السعودية. وكان النظام "البعثي" المخابراتي السوري يأمل، مخدوعا طبعا كما كان مخدوعا في الكثير من الامور الجوهرية الاخرى، انه بذلك يرفع اسهمه لدى السعودية واميركا.
وقد ادى كل ذلك الى تخريب الاقتصاد اللبناني الى درجة لم يسبق لها مثيل، وايضا الى تخريب كبير جدا في الاقتصاد السوري. وهذا يدل ان المشروع التخريبي كان يستهدف لبنان اولا، ومن ثم سوريا ذاتها.
ونرى الان بأم العين كيف ان اصحاب المشروع السعودي في لبنان هم انفسهم الذين يعملون بشكل محموم لتحويل لبنان الى قاعدة عسكرية ولوجستية لضرب النظام السوري ذاته، حليفهم بالامس.
ولسوء حظ سوريا ولبنان على السواء، صنع الوجود السوري في لبنان اللوحة المعكوسة التالية:
بدلا من ان تكون سوريا هي المدى الحيوي الاقتصادي للبنان، فإن لبنان الصغير، الضعيف، كثيف السكان، المضيف لاكثر من ثلاثماية ألف مهجر فلسطيني، الذي احتـُـل طويلا من قبل اسرائيل، والمثخن بالجراح الطائفية، هو الذي أصبح مدى حيويا اقتصاديا لسوريا، وخصوصا لـ"الاقتصاد" غير المشروع او ما يسمى "اقتصاد الجريمة المنظمة".
وقد جرت ولا تزال تجري محاولات لإرساء علاقات اقتصادية متوازنة بين البلدين. وتحت تأثير مراكز القوى التي لا تزال وفية للمبادئ القومية لحزب البعث، قدم النظام السوري بعض المساعدات والتسهيلات على هذا الصعيد. ولكن يبدو ان هذه المحاولات، والرغبات الطيبة، لم تكن حتى الآن في مستوى تستطيع معه ان تغير الوقائع على الارض، وأن تمنع المسار المتدهور للعلاقات الاقتصادية بين البلدين الشقيقين.
وقد تبدى هذا التدهور بالاخص في ثلاثة مؤشرات رئيسية:
1 ـ التهريب بالاتجاهين، مما يسهم في تخريب اقتصاد البلدين.
2 ـ إغراق السوق اللبنانية الضعيفة بالسلع السورية، ولا سيما الحرفية والزراعية، مما ساعد بشكل عام على تضييق الخناق على الانتاج الوطني اللبناني، وادى بشكل خاص الى تقويض الميزانيات العائلية، المخلخلة أصلا، للحرفيين والمزارعين اللبنانيين المتوسطين والصغار.
3 ـ "تصدير" جزء كبير من العمال والكسبة والمتعيشين السوريين الوافدين الى لبنان، مما اصاب سوق العمالة اللبنانية بالاختناق. ومن الابتذال المثير للشفقة ما كان يدعيه البعض من ان اللبنانيين "يتعففون" عن القيام ببعض الاعمال، متدنية المستوى المهني، وأنه "لا مزاحمة" بالتالي على هذا الصعيد. كالعمل في التنظيفات او العتالة او البناء. فالاجيال المخضرمة كلها تعرف ان جميع هذه الاعمال كان يقوم بها لبنانيون. فهذه المسألة لا تخرج قيد أنملة عن قانون العرض والطلب الرأسمالي. والعامل والمتعيش اللبناني لم يولد وملعقة ذهب في فمه، وهو لا يتعفف ابدا عن أي عمل يكسب به رزقه بكد يمينه وعرق جبينه. ولكنه لا يستطيع، ولو اراد، ان يقبل الأجر المتدني الذي يقبل به العامل السوري المسحوق، من جهة، والذي تتوفر لديه بعض الضمانات الاجتماعية في سوريا، التي لا تتوفر للعامل اللبناني في لبنان، من جهة ثانية. وهذه بعض الاسباب الاقتصادية والمعيشية البحت. وبالتالي فإن العمالة السورية الوافدة، في ضغطها من أسفل الى أعلى على سوق العمالة اللبنانية، انما أثرت على هذه السوق برمتها، وخلخلتها، وساعدت بشكل ملحوظ على زيادة هجرة اليد العاملة اللبنانية من لبنان، وعلى اجبار العمال اللبنانيين على القبول بأجور ادنى وشروط عمل اقسى. وهو ما يمكن ادخاله تحت عنوان "المزاحمة غير المشروعة"، وليس له اي مدلول "شوفيني لبناني" بل بالعكس كانت توجد "شوفينية سورية" لفرض العامل او الحرفي السوري على العامل او الحرفي اللبناني بقوة السلاح. اذ انه لدى حصول اي احتكاك بين العاملين السوريين والمتضررين المباشرين اللبنانيين، كان يتم اشهار السلاح بوجه اللبنانيين واحيانا كثيرة استخدامه، وكانت المخابرات السورية تتدخل دائما ضد اللبنانيين حتى لو كانوا معتدى عليهم. وعلى المستوى الطبقي، فإن هذه العملية جعلت الوجود السوري مقبولا اكثر على المستوى الرأسمالي اللبناني، لان الرأسماليين يستفيدون من رخص اليد العاملة السورية، ومكروها على المستوى الشعبي، ولا سيما العمالي، اللبناني.
وبدا لبنان من هذه الزاوية أشبه شيء ببلد سائب او "مفتوح". وشئنا ام أبينا، هناك ارتباط، بعضه واقعي وبعضه الآخر توهمي، بين هذا الواقع المؤسف، وبين الوضع السياسي والعسكري المميز الذي كان يحتله النظام السوري على الساحة اللبنانية، الامر الذي شوه صورته القومية امام قطاعات واسعة من الرأي العام اللبناني، وانعكس بشكل سلبي على مصير العلاقات الاخوية السورية ـ اللبنانية، واسهم بالتالي في تعكير مسيرة المصير الوطني المشترك للبنان وسوريا معا.
وبطبيعة الحال ان هذا الدور السوري الاقتصادي السلبي في لبنان لم يكن ليكون لولا وجود أزمة اقتصادية، وتفشي الفساد، وانتشار البطالة في سوريا ذاتها. وهو تعبير عن مشكلات الوضع الداخلي للنظام السوري، الذي ينبغي عليه مواجهتها بجدية وحزم، اعتمادا على خلفيته الوطنية الاساسية، وعلى الطاقات الخلاقة للشعب السوري المناضل والمجرب، وذلك قبل فوات الاوان. وإنه لمن الخطأ الفادح أن تستسلم بعض الاوساط السورية لاغراء إبقاء لبنان الجريح "متنفسا" للازمة الاقتصادية السورية، لأن هذا يحمل اخطارا كبيرة على سوريا بالذات. وأهم هذه الاخطار:
أ ـ ان "المتنفس" اللبناني لا يحل الازمة الاقتصادية السورية، بل يزيدها تعقيدا. لأنه، بوجود وهم "المعالجة الخارجية" لهذه الازمة على حساب الشعب اللبناني، وبتأخير المعالجة الحقيقية الداخلية لها، تتراكم سلبياتها وتتضاعف وتخرج عن حدود السيطرة.
ب ـ ان قدرات لبنان على احتواء أي جزء من الازمة الاقتصادية السورية تضيق بسرعة. واذا لم يتم تدارك الامور بالوقت المناسب، فهي تسير نحو مضاعفات متزايدة السلبية. ويكفي فقط ان نشير ان التيارات الطائفية اللبنانية المشبوهة، التي راهنت فيما مضى على اسرائيل، وهزمت وانزوت، تستعيد اعتبارها من جديد على حساب استغلال الانحراف في العلاقات السورية ـ اللبنانية، لا سيما على الصعيد الاقتصادي.
ب ـ ان هذه الصورة المعكوسة، للعلاقات الاقتصادية السورية ـ اللبنانية، تستهلك الرصيد الوطني والقومي لحزب البعث وللنظام "البعثي" السوري ليس لدى اللبنانيين وحسب، بل أيضا لدى عشرات ومئات الالاف، من المواطنين السوريين، الذين يأتون للعمل، او لتصريف منتوجاتهم الحرفية والزراعية في لبنان، تحت ضغط الحاجة، في ظروف لا تليق في الغالب بكرامتهم الانسانية. وهؤلاء المواطنون السوريون الكادحون الشرفاء، الذين هم أيضا ضحية للفساد والكساد، سيكتشفون أنهم يفعلون ذلك بطريقة المزاحمة غير المشروعة، المنافية لاواصر الاخوة القومية التي يتمسكون بها. وهم قد اصبحوا تربة صالحة لشتى أشكال المعارضة السورية المشبوهة.
أما بالنسبة للبنان فإن هذا الوضع الشاذ أصبح يمثل معضلة وطنية كبرى، متفاقمة السلبية:
ـ من جهة اولى، فإن أي قوة وطنية وإسلامية شريفة وواعية، مهما كان لها من اعتراضات مشروعة وانتقادات صادقة حيال الأداء السوري في لبنان، لا يمكنها بأية حال من الاحوال أن "تفتح الطريق" و"تسهل مهمة" المواقف والمخططات المعادية لسوريا، وبخاصة "التعويم الوطني" لعملاء اسرائيل السابقين والحاليين، الذين عادوا للخروج من جحورهم، "مترسملين" سياسيا بأخطاء الاداء السوري في لبنان. مثل هذا الخط "اللبناني!" السطحي المبتذل، يحمل أفدح الاضرار للبنان أولا، لأنه يسهم في عزله عن عمقه الستراتيجي العربي الرئيسي، ويضعه اكثر فأكثر تحت رحمة القوى المعادية، الامبريالية والصهيونية، وشريكتها الكومبرادورية اللبنانية والعربية.
ـ ومن جهة ثانية، لم يعد بالامكان السماح بـ"ترف" وضع الرأس في الرمال، والتغاضي عن عملية الخنق الاقتصادي للبنان، التي تمثل اليوم ـ بديلا مرحليا للعدوان والاحتلال ـ الحلقة الرئيسية في المؤامرة الامبريالية ـ الصهيونية لتصفية لبنان كبلد ذي هوية وطنية عربية، وتحويله الى مربع شطرنج شرقأوسطي. وتتخذ هذه العملية بعدا مأساويا خاصا، لأن سوريا بالتحديد، قلب العروبة النابض، و"هانوي لبنان"، تفسح المجال لعناصر الفساد والازمة الاقتصادية السورية ان تدخل موضوعيا كطرف في هذه المؤامرة، بدون ارادة مركز القرار الوطني في النظام السوري، وطبعا بدون ارادة الشعب السوري الشقيق.
يقول الشاعر العربي: إن كنت تدري، فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدري، فالمصيبة أعظم.
فلا عذر ابدا لمن يدري او لا يدري بأن مخطط ضرب الاقتصاد اللبناني، وتهجير اللبنانيين واستبدالهم بالوافدين، يستفيد موضوعيا من عشوائية العلاقات الاقتصادية السورية ـ اللبنانية.
وهنا لا بد من لفت النظر الى بعض النقاط المهمة:
ـ يجري الحديث دائما عن مؤامرة توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ومن ضمن السياق نفسه يجري الحديث عن تسهيل الاقامة الفعلي، او ما يشبه التوطين، وتجنيس غير اللبنانيين، وبالاخص السوريين.
ـ ان بعض الاوساط الفلسطينية والسورية، سواء صرحت بذلك علنا ام لا، قد تجد لها مصلحة في "تسهيل" مثل هذا المسار، بحيث ينشأ في لبنان ما يشبه مستوطنة فلسطينية وسورية.
ـ فهل تتواطأ القوى المعادية الامبريالية والصهيونية، على تمرير مثل هذا السيناريو، لا سيما وأن توطين غير اللبنانيين هو النصف الآخر، المكمّـل لخلع اللبنانيين من أرضهم، كما أسلفنا؟
نعتقد ان القوى المعادية ستستفيد من أي شيء، لزرع أي نوع من الشقاق الداخلي والبيني، في صفوف اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين. ولكن هذه القوى لن تسمح ابدا باستبدال شر "المواطن" الوطني اللبناني، الذي تريد التخلص منه، بشر "الفلسطيني" و"السوري"، الذي يمكن ان "يستوطن" في لبنان. ذلك ان مؤامرة تحويل لبنان الى "قاعدة رساميل مالية عالمية" و"مزرعة دواجن بشرية"، لا يمكن ان تنجح ابدا بتوطين الفلسطينيين والسوريين في لبنان.
فالمخطط المعادي للبنان، هو جزء لا يتجزأ من المخطط المعادي للشعب الفلسطيني ولسوريا والشعب السوري سواء بسواء. وبعد خلع اللبنانيين، ومع تغير الوضع السياسي لصالح "الشرقأوسطية" السياسية ـ الاقتصادية، فإن الهدف التالي سيكون بالطبع التخلص ايضا من السوريين. وتشير الدلائل منذ الآن، أنه سيتم التعامل مع السوريين بشكل أسوأ من التعامل مع الفلسطينيين. ذلك انه اذا كان اللاجئون الفلسطينيون موجودين في لبنان بحكم القوة القهرية التي شكلها الغزو الصهيوني لفلسطين، المدعوم على المكشوف من الغرب، واذا كان الغرب الامبريالي يتحمل هو المسؤولية عن تهجير الفلسطينيين ولهذا فهو "مضطر" بهذا الشكل او ذاك لإيجاد أي "حل" تخديري لهم، فليس الامر كذلك بتاتا بالنسبة للسوريين، الذين يبدو ظاهريا ان النظام السوري يتحمل مسؤولية تهجيرهم. واننا نرى كيف يجري بالتدريج ادخال الباكستانيين والسرلانكيين والفلبينيين والاثيوبيين الخ، بأعداد تتزايد باستمرار. وقد أصبحت هذه النخاسة المخجلة، المرتبطة بالقوادة وتهريب المخدرات وما اشبه، مهنة "لبنانية!" جديدة. وبعد "الاستخدام الموضوعي" للمواطنين السوريين المحتاجين لازاحة اخوانهم اللبنانيين، سيأتي الدور حتما على كل أشكال الوجود السوري في لبنان، وعلى الوضع الوطني لسوريا عامة، من ضمن خطة الدومينو الامبريالية ـ الصهيونية للمنطقة ككل. وطبعا ان القوى المعادية قد استفادت من جميع الاخطاء التاريخية التي ارتكبها النظام السوري لتوجيه ضربتها الى سوريا، حينما تهيأت لها الظروف المناسبة، كما فعلت بالنسبة للعراق.
الحرب مستمرة بأشكال أخرى
ولكن هنا بالتحديد يبرز سؤال مصيري بالنسبة لحياة الجماهير الشعبية اللبنانية، ووجودها الوطني في أرضها وبلدها:
هل ان القوى الامبريالية ـ الصهيونية العالمية قد استسلمت من جهتها لهزيمتها المرحلية في لبنان، ولا سيما بعد اندحار الاحتلال الاسرائيلي من الجنوب والبقاع الغربي في سنة 2000، وبعد الخروج المخزي لقوات ومخابرات النظام السوري من لبنان في 2005، وبعد الهزيمة المدوية للجيش الاسرائيلي في العدوان الوحشي منقطع النظير في تموز 2006؟
ان مجرد تصديق ذلك للحظة واحدة يعني وضع الرأس طوعا تحت مقصلة الجلاد. فاذا نظرنا حولنا فقط، نجد ان كل المعطيات تشير الى ان القوى الامبريالية ـ الصهيونية تزداد شراسة وعدوانية ضد جميع الشعوب العربية والاسلامية. ومن الغباء السياسي المطلق الاعتقاد ان لبنان هو استثناء. بل العكس هو الصحيح. ذلك ان الفشل الذي تعرضت له اهداف الامبريالية ـ الصهيونية في لبنان يجعلها اكثر حقدا ورغبة بالانتقام من الشعب اللبناني. وتؤكد هذه المعطيات ان الحرب على هذا الشعب لا تزال مستمرة، بأشرس مما كانت عليه في أي وقت سابق. والقوى المعادية تغير الاشكال والاساليب فقط، تبعا للظروف الملموسة:
ـ قبل "سلام الطائف" كانت الخطة المعادية خطة عسكرية ـ سياسية بالدرجة الاولى، تتمحور حول "تدويخ" وإخضاع الشعب اللبناني، كي ينصاع لعهد "السلام الاسرائيلي"، الذي دشنته مفاوضات السلام الاسرائيلية ـ المصرية واتفاقية "كامب دايفيد". وهذا ما يفسر، قبل وبعد العدوان والاحتلال الاسرائيلي، "الروح الرياضية" التي كانت اسرائيل، خلال الحرب الاهلية، تبديها حيال تفريغ شحنات الاسلحة في المرافئ "الانعزالية" والوطنية على السواء. كما يفسر مشاركتها، أي اسرائيل، من امام الستار ومن ورائه، في تنظيم وتشجيع وتسعير حمامات الدم و"مباريات" الاقتتال، بين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، في بيروت والجبل والشمال والجنوب الخ.
ـ اما بعد "اتفاق الطائف"، ولا سيما بعد تحرير الجنوب، فإن الاهداف الرئيسية للامبريالية والصهيونية ضد الشعب اللبناني بقيت هي ذاتها، انما تغيرت اشكال المواجهة. والخطة المعادية الحالية هي امتداد و"تطوير" للخطة السابقة باشكال "سلمية". وهي تتمحور مرحليا حول "الحرب الاقتصادية" بالدرجة الاولى، التي تخضع لها جميع الاشكال الاخرى للحرب، السياسية والعسكرية.
فستراتيجية الحرب الاقتصادية اصبحت في العقود الاخيرة من ركائز الستراتيجية العالمية للامبريالية والصهيونية. فاذا ما توصلت الى تحقيق اهدافها عبر مختلف اشكال الحصار والضغوط الاقتصادية، وفرت على قواها تبعات الحروب والهجمات العسكرية، بما تحمله لها من ردود فعل دولية، وبالاخص مقاومات الشعوب المعتدى عليها. والا، فإن الحرب الاقتصادية تكون بمثابة تمهيد للحرب العسكرية.
مأساة الاغتراب
ولتلمس المخاطر الكبرى التي اصبحت تتهدد مصير الشعب اللبناني، نتوقف عند موضوع التوازن الديموغرافي، لما له من خصوصية لبنانية:
من المعروف ان الهجرة الخارجية، او ما نسميه الاغتراب، هي ظاهرة لبنانية قديمة. ولبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي يزيد عدد أبنائه المغتربين، على عدد مواطنيه المقيمين.
ومن الجانب الاقتصادي هناك نوعان من الهجرة:
ـ هجرة رجال اعمال ورساميل، وهي هجرة محدودة جدا بالمدلول السكاني، وان كانت مهمة جدا بالمدلول المالي والاقتصادي.
ـ وهجرة السعي وراء الرزق، التي تشمل الادمغة والمتعلمين والعمال والمزارعين وغيرهم من المواطنين العاديين، ولا سيما من الشباب. وهذا النوع الثاني هو المقصود عادة بكلمة اغتراب، وهو يشمل الاغلبية الساحقة من المغتربين. ونحن نتوقف عنده بشكل خاص.
ان ضيق رقعة لبنان، في تفاعله مع تخلف النظام الاقتصادي الاجتماعي فيه، هو السبب المركـّب الرئيسي لهذه الهجرة. والازمات الاقتصادية الخانقة، المتشابكة مع الازمات السياسية والحروب الخ، كما هو الحال منذ 1975 حتى الان، كانت تلعب دور المحفـّـز الرئيسي، الذي يعطي قوة دفع استثنائية للهجرة.
وفي الوقت نفسه فإن هذه الهجرة كانت تمثل متنفسا، او صمام أمان، اذا صح التعبير، للازمة الاقتصادية:
اولا، لجهة التنفيس النسبي للاحتقان الاجتماعي، بالتخلص من قسم كبير مما يسمى فائض السكان النسبي (اي الفائض عن سوق العمل بمعاييره الرأسمالية)، عبر ضخ هذا الفائض للخارج.
وثانيا، بالحصول على حقن تغذية للدورة المالية، تتمثل في التحويلات التي يرسلها المغتربون الى ذويهم المحتاجين.
وخلافا لأي تصور خاطئ، فإن تحويلات المغتربين، بحجمها الاكبر، لم تكن تخدم توسع الدورة الانتاجية. وإلا لكان لبنان تحول منذ زمن بعيد الى واحد من البلدان المتقدمة انتاجيا. ذلك ان المقيمين الذين يحصلون على تلك التحويلات من ابنائهم واقاربهم المغتربين، كانوا ولا يزالون ـ كقاعدة اساسية ـ ينفقونها، في الاغلب، لتلبية حاجاتهم الاستهلاكية الماسة. وبالتالي فإن التحويلات لم تكن تتحول الى توظيفات انتاجية جديدة، ولم تتعدّ الانعاش المؤقت للدورة التجارية والمالية الجارية، التي تعتمد اكثر ما تعتمد على الاستيراد، والتي تصب في النهاية في جيوب الاحتكارات والكتل المالية المرتبطة بالخارج والاجنبية، تماما كما تصب مياهنا المهدورة في البحر.
وبذلك فإن الطبقة الرأسمالية الاحتكارية والكومبرادورية لمـّـا تكن تكتفي بنهب خيرات لبنان واستغلال جماهيره الشعبية المقيمة فقط، بل هي تستغل ايضا امتدادهم في الخارج، اي المغتربين الشعبيين، وتبتزهم بأهاليهم المحتاجين، الذين يصبحون في مثل هذه الحالة اشبه برهائن تقبض الاحتكارات "فدية" مستمرة عنهم من المغتربين.
الهولوكوست البيضاء
والآن فإن هذه المأساة الاجتماعية، التي تمس حياة الاغلبية الساحقة من اللبنانيين، بلغت مداها الاقصى، وأخذت تتحول لمأساة وطنية تطال استمرار وجودهم على ارضهم الوطنية. ذلك أن درجة الاستغلال في لبنان وصلت الى مستوى خطير، لم تعد معه "حقن" تحويلات المغتربين تؤدي دورها "المسكـّن" السابق.
ويكفي ان نشير الى بعض المعطيات الاقتصادية:
أ ـ لم يكفِ الشعب اللبناني ما عاناه من مآسي الحرب الطائفية والاحتلال والدمار الخ، فجرى، في عهد السلم الطائفي (نسبة الى الطائفية والى الطائف معا) تكبيله بشتى انواع التضييقات الاقتصادية والقيود الضريبية وخاصة المباشرة. وخلال الحقبة الماضية بلغت التحصيلات من هذا الشعب المظلوم عشرات مليارات الدولارات. وهذا في وقت ان سيل الهجرة لا ينقطع، خصوصا في صفوف الشباب، وفي وقت ان نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر في لبنان هي من ارفع النسب في العالم، ومئات الاف اللبنانيين يتضورون جوعا بالمعنى الحرفي للكلمة، ومئات الآلاف يعانون الامرين من نقص او الحرمان التام من الخدمات الصحية حتى في اقصى حالات الحاجة اليها (جاء في جريدة البلد في 19/1/2013: بينت منظمة العمل الدولية ارتفاعاً مستمرّا في معدل البطالة بالبلاد التي لم تقرّ مخطّط عمالة واضحة على أثر نظامها الاقتصاديّ الليبرالي، على الرغم من انخفاضها بين عامي 1997 و2004، حيث سجّلت 7.9% بعدما كانت 8.5%، لترتفع مجدّداً عام 2007 الى 9%، مستقرّة بين اعوام 2008 و2009 و2010 عند 8.8%، لتعاود الارتفاع عند 9.3% عام 2011. وفي ما يخصّ لبنان، فان البنك الدولي في آخر إحصاء له عن معدّل البطالة بين الشباب في لبنان جاء فيه ان معدّل تلك البطالة يبلغ 34%، وذلك من دون وجود أي احصاءات رسمية لبنانية حول الموضوع أساسا، ولا برامج لخلق فرص عمل لهؤلاء).
وبالرغم من ان عصابة اللصوص الرأسماليين الذين يتحكمون بهذا البلد المظلوم رتبت على لبنان "دينا عاما" اصبح يقدر بأكثر او اقل من 60 مليار دولار، فإن البنك المركزي اللبناني يطمئن اللبنانيين ان النظام الرأسمالي الليبيرالي اللبناني هو بخير، ويتبجح بوجود ودائع واحتياطات نقدية في لبنان تقدر بعشرات مليارات الدولارات. (وبهذا الخصوص جاء في جريدة الديار ما يلي: وعن التدفقات المالية والتوقعات التي تشير إلى أنها قد تكون هذه السنة أقل من السابق، قال حاكم البنك المركزي رياض سلامة: «كان الوضع في العام 2009 استثنائياً، فقد بدا وفي عزّ الأزمة أن الوضع المصرفي والمالي في لبنان قوي وغير متأثر بالخسائر التي شهدتها الأسواق الخارجية. أما اليوم وفي العام 2010، فقد عادت الأمور إلى وتيرتها الطبيعية. لكن يجب ألا ننسى أننا لا نستطيع أن نأخذ النسب المئوية فحسب، بل يجب أن نأخذ أيضاً الأرقام المطلقة والحجم الحقيقي للسوق. وعلى سبيل المثال، باتت لدينا اليوم قاعدة ودائع بقيمة 100 مليار دولار مضاف إليها مبلغ 10 مليارات"). (وفي 2/9/2012 نشرت جريدة "صدى بيروت" ما يلي: ارتفع حجم احتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية في النصف الثاني من آب/أغسطس الماضي بنسبة 0,5 في المائة ليبلغ 35 مليارًا و267 مليون دولار أميركي بزيادة قدرها 184,4 مليون دولار مقارنة مع ما كان عليه في النصف الأول من الشهر ذاته) .
ب ـ خلال الفترة نفسها، دخل لبنان عشرات مليارات الدولارات الاخرى، من تحويلات المغتربين وبعض المساعدات العربية.
ج ـ وفوق ذلك كله، فإن مؤشر ما يسمى الدين العام تجاوز 50 مليار دولار. مما يعني ان النهب والاستغلال المريع لم يشمل بـ"نعمه" الاجيال الحالية فقط، من مقيمين ومغتربين، بل ومد مخالبه السوداء نحو اجيالنا القادمة ايضا، حيث ان كل طفل لبناني جديد، وقبل ان يبصر النور في بلد الاشعاع والنور، سيولد مكبلا بشكل مسبق بدين مقداره اكثر من 10000 دولار (هذا اذا اعتبرنا ان عدد المقيمين في لبنان هو 4 ملايين نسمة)، وعلى هذا الطفل ان يفي هذه "الضريبة المسبقة"، لمجرد ولادته في لبنان، للطبقة الكومبرادورية والبنوك الاجنبية، اذا قدرت له الحياة. وهذا يعود بنا الى ابشع أيام الاقطاعية، حينما كان الفلاح القن المسكين، الذي خدم السيد طوال حياته، يموت ولا يزال عليه دين موروث لهذا السيد، على ابنائه ان يعملوا ايضا طوال حياتهم لايفائه، اذا استطاعوا!.
وكان من الطبيعي ان يؤدي ذلك الى احداث انقلاب في "منطق" و"معادلة" الهجرة:
ـ ففي السابق كان المغتربون يرسلون التحويلات لذويهم كي يعززوا صمودهم وبقاءهم في لبنان.
اما الان، ولأول مرة في تاريخ الهجرة اللبنانية، فإن المغتربين اخذوا يخفضون نسبة التحويلات، ويستخدمونها للضغط على ذويهم، ولا سيما الشبان، لدعوتهم للهجرة والالتحاق بهم في أرض الله الواسعة.
ـ وفي السابق كان هناك توازن، يزيد او ينقص قليلا في الاتجاهين، بين نسبة الولادات الجديدة (الرصيد الايجابي للسكان) ونسبة الوفيات زائدا نسبة الهجرة (الرصيد السلبي للسكان المقيمين). وهذا ما يفسر زيادة عدد المغتربين على عدد المقيمين. وقد ازداد عدد المغتربين باستمرار، في حين بقي عدد المقيمين تقريبا هو نفسه منذ عشرات السنين، لأن الهجرة كانت تمتص الفارق الزائد بين الرصيد الايجابي والرصيد السلبي للسكان المقيمين.
اما الآن فقد بدأت هذه المعادلة تنكسر. وأي احصاء حقيقي على هذا الصعيد سيكشف لنا ان العدد المطلق للبنانيين المقيمين هو في تناقص متزايد، بسبب نقص معدل الولادات، وزيادة معدل الوفيات، وزيادة ـ بالاخص ـ معدل الهجرة. اي ان معدل الظلم الاجتماعي والاستغلال الاحتكاري ـ الكومبرادوري، "الوطني" والاجنبي، للمقيمين والمغتربين، بدأ بشكل مخيف يتجاوز خطا احمر اسمه: بداية تفريغ لبنان من اللبنانيين.
في القديم، وحسب رواية التوراة اليهودية، ابتاع يوسف التوراتي من المصريين الاحرار أبدانهم وحولهم الى عبيد للفرعون، مقابل حفنة من الحنطة التي سبق للمصريين انفسهم ان انتجوها. وبعد ذلك، ولاضعاف مقاومتهم، عمد "يوسف التوراتي" الى ترحيل المصريين من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب، وبالعكس، لاجل اضعاف مقاومتهم للعبودية عن طريق اضعاف حس الانتماء لديهم الى الارض التي ولدوا وعاشوا فيها. وفي "الزمن العربي الرديء" هذا تعمل اميركا لتطبيق الخطة ذاتها: يتم طرد الصوماليين من الصومال، والعراقيين من العراق، والسوريين من سوريا، الخ.، بواسطة التفجيرات والذبح على الهوية، التي تطبقها العصابات "التكفيرية" المرتبطة، بشكل مباشر او غير مباشر، بالمخابرات الاميركية والاسرائيلية والتركية وطبعا بالاموال السعودية والقطرية واخواتها. وفي لبنان، وبعد ان فشل الاحتلال الاسرائيلي والمذابح الطائفية في طرد اللبنانيين من لبنان، تعمل العصابة الرأسمالية الكومبرادورية المرتبطة بشيوخ نفط الخليج على اقتلاع اللبنانيين من ارض اجدادهم، وتفريغ لبنان من اللبنانيين، بواسطة الإفقار والاذلال والتجويع.
وهنا ينبغي دق ناقوس الخطر ليس فقط على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، المطلبي، المعيشي والحياتي، بل اولا على الصعيد الوطني، أي في صميم الوجود الانساني ـ الوطني للشعب اللبناني، تماما كما دق في حينه ويدق ناقوس الخطر لأجل صيانة وحدة لبنان، وهويته الوطنية، وعروبته، ولأجل تحرير اراضيه المحتلة.
ومثلما برزت ضرورة وطنية لقيام حركة المقاومة الشعبية، الوطنية والاسلامية، لمواجهة العدو الصهيوني والكفاح من اجل تحرير الارض المحتلة، بصرف النظر عن التنظيمات بالمعنى الحزبي والمذهبي وما أشبه، تبرز الآن ضرورة وطنية ايضا لقيام حركة شعبية واسعة للكفاح من اجل القضايا الحياتية والمعيشية للجماهير الشعبية اللبنانية، التي اصبح لا مستوى معيشتها وحسب، بل واصبح وجودها الوطني ذاته (اي وجود اللبنانيين في لبنان) مهددا في الصميم.
ولكن للاسف أن القوى الوطنية والاسلامية المناضلة لم تمسك بعد بيدها، وكما يجب، زمام هذه القضية. واذا استثنينا حزب الله، الذي لا يزال يستمد شعبيته الواسعة من استمرار المقاومة الاسلامية والرصيد الشعبي الكبير الذي تحوزه، فإن الحركات والاحزاب الوطنية الاخرى جميعا بدون استثناء تبدو في حالة مؤسفة من الانكفاء وفقدان القدرة على التعبئة الجماهيرية، أشبه شيء بحالة "كوما سياسية" بالتعبير الطبي. والسبب الرئيسي لذلك هو على وجه التحديد تقصيرها الفادح في طرح الحلول التاريخية للازمة الاقتصادية ـ الاجتماعية الراهنة، التي تضيق على خناق الشعب اللبناني الى درجة محاولة إلغائه وطنيا.
وحتى حينما قام وزير تقدمي متنور، شريف وشجاع، هو الاستاذ شربل نحاس، بارتكاب "جريمة" تبني قضية عمالية محقة كل الحق، تآمرت ضده حتى القيادات النقابية المباعة لـ"المال السياسي" الكومبرادوري، وتخلى عنه حتى التيار السياسي الذي كان يمثله في الوزارة، وتم طرده من الوزارة بشكل مشين لهذا النظام المركنتيلي الساقط الذي يدعي الدمقراطية. واضطر حزب الله ذاته للصمت عن هذه الفضيحة السياسية والانسانية والنقابية، بالمعيار الوطني، خوفا من فرط الوزارة والوقوع في الفوضى.
واذا لم يستطع حزب الله ذاته ايضا ان يكون في مستوى هذا التحدي المصيري، الذي تواجهه الجماهير العمالية والشعبية اللبنانية، والذي لا يقل خطورة عن الاحتلال والتهديد الوجودي الاسرائيلي، فإنه سيسير حتما نحو العزلة والانكفاء ايضا، مما يسهل على الاعداء المتربصين مهمة ضربه من الداخل. ومع كل اهمية المساعدات الاجتماعية التي تقدمها مؤسسات حزب الله لقواعده المناضلة وجمهوره المباشر، فإن هذا وحده لا يكفي، اولا، لان الشعب لا يستطيع كله ان يعيش على المساعدات، وثانيا، لان الحزب لا يستطيع تقديم المساعدات لكل الشعب.
التغريب والتغرب الذاتي
لقد كان التهجير ولا يزال ركنا اساسيا في سياسة الاستيطان التي طبقتها الصهيونية في فلسطين. والمذابح البشعة التي ارتكبها الصهاينة ضد المواطنين الفلسطينيين العزل، من دير ياسين الى صبرا وشاتيلا، كان هدفها الرئيسي التهجير والتهجير المكرر لاصحاب الارض، وابعادهم لابعد مسافة ممكنة عن ارضهم الوطنية، تطبيقا للمقولة الاستعمارية ـ الصهيونية "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" .
والهجمة الرأسمالية الاحتكارية الكومبرادورية المتوحشة على الشعب اللبناني، في وقتنا الراهن، هدفها الرئيسي تحقيق مهمة السيطرة على لبنان ارضا وشعبا. وهي تتجسد الان في هذه "الهولوكوست البيضاء"، التي تتخذ اشكالا متعددة، تصب كلها في اتجاه القضاء على هذا الشعب، وأخطرها:
اولا، التهجير المباشر لغالبية اللبنانيين من ارضهم الوطنية، كما اشرنا آنفا. وعلينا ان نلاحظ هنا ان "الاولوية" مرحليا تعطى لتهجير المسيحيين والشيعة. المسيحيون، لان استمرار وجودهم يعطي القضية الوطنية اللبنانية والعربية بعدا عالميا مباشرا، نظرا للارتباط الروحي للمسيحيين الشرقيين بالعالم المسيحي شرقا وغربا. وهذا ما يزعج الامبريالية والصهيونية في الصميم. والشيعة، نظرا لتواجدهم الديموغرافي الكثيف في الجنوب، على الحدود مع اسرائيل، ودورهم الخاص في المقاومة. وتؤكد الاحصاءات الرسمية ذاتها النسبة الاعلى من المغتربين من المسيحيين والشيعة. وقد تنبهت البطريركية المارونية لهذه المخاطر على الوجود المسيحي في لبنان، وهي تتدخل لدى المراجع الداخلية والخارجية المعنية لوقف نزيف هجرة المسيحيين.
ولسنا في حاجة الى التأكيد ان كل ما يساعد على قطع ارزاق اللبنانيين في الوقت الحاضر، وتضييق سبل معيشتهم، ودفعهم من ثم الى الهجرة من الارض التي حرروها من الاحتلال، قد تجاوز طابعه الاقتصادي الضيق، وأخذ يصب مباشرة في خدمة الستراتيجية الامبريالية والصهيونية، المعادية لوجود الشعب اللبناني في لبنان.
ثانيا، دفع الشباب اللبناني خاصة الى "غربة ذاتية" او "غربة انسلاخ عن الذات"، وذلك بالاستسلام للمخدرات، وشتى اشكال "ثقافة" التهتك والانحلال (التي لا يستحي خونة الفكر الاشتراكي امثال كريم مروة والياس عطالله من تسميتها "ثقافة الحياة")، كنتيجة لليأس وانسداد افق المستقبل الوطني امامهم. وهذه "الغربة الذاتية" تمثل قطع نصف المسافة نحو الهجرة، التي تصبح بمثابة "رحمة" و"خشبة خلاص" بالنسبة للشباب المدمنين اليائسين وأهاليهم.
ثالثا، اعادة انتاج ما يمكن ان نسميه "الغربة الطائفية"، التي تؤسس من جديد لتمزيق النسيج الوطني وللنزاعات الطائفية، وذلك كنتيجة لتلاقي اليأس، من جهة، والاغراءات المادية التي تمثلها بالنسبة للمحتاجين، الذين يتزايد عددهم يوما بعد يوم، "المساعدات" التي تقدمها بعض المؤسسات الطائفية غير النزيهة او الملتبسة الاغراض، من جهة ثانية. وبطبيعة الحال ينبغي هنا التمييز بدقة بين مثل هذه المؤسسات الملتبسة، وبين الحركات الجهادية والمؤسسات الدينية المرتبطة بالمقاومة والداعمة لها، التي تضطلع بدور وطني حقيقي، مناقض تماما لهذا الدور الملتبس. وهذه "الغربة الطائفية" تمثل ايضا قطع نصف المسافة نحو الهجرة، نتيجة اليأس من لبنان كوطن، والتجربة المريرة لجماهير الشعب اللبناني مع النزاعات الطائفية.
مزرعة دواجن بشرية
حتى هنا، هذا هو نصف المأساة. واما النصف الثاني فيتمثل في استقدام مئات الالاف من الوافدين من العمال والخدم ومختلف انواع الكسبة الصغار، الذين يزاحمون المواطنين اللبنانيين العاديين في عقر دارهم. واذا اجرينا اي احصاء حقيقي ايضا، نجد ان عملية استقدام الوافدين تسير بموازنة عكسية مع هجرة اللبنانيين. وبهذا تكتمل الصورة، ويبان الهدف الحقيقي، وهو تهجين لبنان سكانيا عبر العملية التالية:
ـ الابقاء على عدد محدود من اللبنانيين، قد لا يزيد عن نصف السكان او حتى ثلثهم، الذين يجري تأطيرهم ـ عبر الوساطات الزعامية والولاءات الطائفية ـ في الخدمات واجهزة الدولة والامن والقوات المسلحة وما اشبه، اي يصبحون مرتبطين بقطاعات غير انتاجية، وبالتالي مسيطرا عليهم معيشيا وسياسيا ووطنيا. وينطبق هذا بشكل خاص مرحليا على المواطنين الشيعة، لتنفيس اندفاعتهم الوطنية والتزامهم بالمقاومة، حيث هناك حملة محمومة لتأطير أكبر عدد منهم في الوظائف الحكومية وشبه الحكومية، ولا سيما غير المنتجة، مقابل ضرب القطاعات الانتاجية في مناطق تواجدهم التقليدية، وخصوصا في الجنوب.
ـ اما البقية من السكان، وبالاخص العمال والمزارعين والحرفيين، فيكونون من الفئات الوافدة المسيطر عليها مسبقا. وهي فئات لا وزن لها ولا كلمة في الشأن الوطني والسياسي والاجتماعي العام، وتخضع للامتهان، ويسلط عليها في كل لحظة سيف التسفير لدى أي نأمة. وهذا ما يعطي عن لبنان صورة سيئة عن معاملة العاملين الاجانب، مما سينعكس لاحقا بشكل سلبي على المغتربين الشعبيين اللبنانيين في الخارج.
وبذلك يتضح الهدف الرئيسي للحرب الاقتصادية الراهنة ضد الشعب اللبناني، وهو ببساطة تطبيق صيغة جديدة لنظرية "ارض بلا شعب"، أبشع من الصيغة التي طبقت في فلسطين. ففي فلسطين كانت هناك حجة ايجاد "وطن قومي يهودي". اما بالنسبة للبنان، فيراد الاستيلاء عليه، وتغيير تركيبته السكانية وهويته ودوره الوطني، بـ"إرادة" وبـ"أيدي" اللبنانيين أنفسهم، وبدون أي حجة كانت.
وفي هذا السيناريو، يجري إخراج الامور وكأن القوى المعادية هي "صديقة" للبنان، ولا تريد سوى فقط مد يد "المساعدة" لاجل "إنقاذه" من الديون والازمة الاقتصادية، التي تفتعلها هي وأعوانها الكومبرادوريين اللبنانيين ومذنباتهم المالية ـ الاجتماعية ـ السياسية. والاهداف المتوخاة من هذه "المساعدة" تتلخص في: القضاء على المقومات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاخلاقية لوجود المجتمع الوطني اللبناني، ومن ثم الخلاص من الشعب اللبناني ذاته، كشعب ذي هوية وطنية عربية نضالية، وتحويل لبنان بالتدريج الى "ارض بلا هوية وطنية"، والى "منطقة مفتوحة"، تضطلع بدور "قاعدة مالية"، تخضع للاحتكارات الامبريالية العالمية مباشرة، ويعمل في خدمتها فيها "دواجن بشرية"، هي خليط من السكان "الاصليين" المدجنين ومن العمال "الوافدين"، مهدوري الحقوق والكرامة الانسانية.
سيناريو حكم دولي بـ"إعدام" لبنان الحالي
ومن الخطأ الاعتقاد ان خطة تهجير اللبنانيين، وتغيير التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والسكانية للبنان، هي صدفة، أو رد فعل على ستاتيكو قائم مرحليا. بل هي تتم بناء لقرار امبريالي ـ صهيوني دولي. وهو ما ينبغي ان ننظر فيه عن قرب.
من حيث الموقع، وطبيعة التضاريس الجغرافية، والتاريخ السياسي، والعلاقات الدولية، يتوفر في لبنان شرطان:
الاول: انه مؤهل كي يكون منطقة نفوذ اجنبي، ومركزا ماليا وتجاريا للكتل المالية والاحتكارية الاوروبية ـ الكاثوليكية، والعربية ـ الاسلامية، بشكل خاص.
الثاني ـ انه امتداد ساحلي ملائم جدا، مكمل لاسرائيل، المؤهلة كي تكون بدورها مركزا ماليا وتجاريا للكتل المالية والاحتكارية اليهودية ـ الانغلو ـ ساكسونية، بشكل خاص.
أي ان "الثنائي"، اللدود حاليا، الاسرائيلي ـ اللبناني، المتلاصق جغرافيا، ذا الطبيعة المناخية والجغرافية الواحدة والملائمة، والواقع في مدخل شرقي المتوسط، هو مؤهل، من كل زوايا النظر، كي يكون:
أولا ـ نقطة تلاق فعال لثلاث كتل مالية عالمية هي:
1 ـ الكتلة المالية اليهودية ـ الانغلو ـ ساكسونية (التي من المزمع ان تتمركز في اسرائيل اساسا، وجزئيا في ما يراد من انشاء "محمية اسرائيلية" تسمى "دولة فلسطينية"، وفي الاردن والعراق).
2 ـ الكتلة المالية الكاثوليكية ـ الاوروبية (التي من المزمع ان تتمركز في لبنان اساسا، مع "مظلته" السورية).
3 ـ الكتلة المالية العربية ـ الاسلامية (التي من المزمع ان تتمركز في لبنان اولا، وسوريا تاليا، وفي "المحمية الاسرائيلية" الفلسطينية والاردن والعراق).
ثانيا ـ احد جانبي المفتاح المالي والتجاري المزدوج، "اليهودي ـ الانغلو ـ ساكسوني" و"الاوروبي ـ الكاثوليكي"، لمنطقة الشرق الاوسط برمتها (بما فيها افريقيا الشمالية والقرن الافريقي).
ويمكننا ان نتصور دور لبنان في هذا "الثنائي"، في ظروف "السلام الاسرائيلي"، الذي تريد الامبريالية ـ الصهيونية العالمية فرضه على العرب، وتحويل ما يسمى "الشرق الاوسط" الى منطقة تجارية تابعة لها، مؤهلة لان تتحول الى المنطقة المالية والتجارية الاهم في العالم، نظرا لموقعها الاستثنائي، وممراتها الدولية التي لا وجود للتجارة العالمية بدونها، واحتياطاتها من الطاقة (النفط والغاز)، التي لا وجود لاية اتصالات ومعلوماتية، واية صناعة، واية زراعة، وأية حياة اجتماعية بدونها.
وهنا بالضبط تندرج "المتوسطية"، كعنوان عريض، و"الشرقأوسطية"، كعنوان فرعي، ومشاريع ستراتيجية ـ اقتصادية ـ سياسية كبرى، مثل: إقامة زنار طريق دولي وخط سكة حديد حول البحر الابيض المتوسط ومد جسر او نفق في مضيق جبل طارق، لاستكمال الزنار؛ وتفريغ جنوب لبنان من غالبية سكانه "المشاكسين" لتحويله الى اكبر منطقة تجارية ومالية مفتوحة في الشرق الاوسط وربما في العالم؛ ومد انابيب النفط والغاز والماء في طول وعرض المنطقة الممتدة من تركيا حتى مصر، وبالعكس، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان وقبرص والاردن و"المحمية" الفلسطينية وطبعا اسرائيل، ومنها الى اوروبا واميركا وبقية دول العالم؛ الخ.
ومن وجهة نظر جيو ـ بوليتيكية (جغرافية ـ سياسية) كونية، نرى ببساطة، بدهشة او بدون دهشة، أن لا جديد تحت شمس الامبريالية العالمية، التي لا تفعل شيئا سوى ان تفتح دفاترها البالية، وتستمد منها "الحكمة السليمانية". فإن حجر الاساس الذي لا يمكن بدونه تحقيق هذه الستراتيجية الامبريالية ـ الصهيونية انما يتمثل في "تجديد" اتفاقية سايكس ـ بيكو، مع التعديل الضروري في "اربابها" تبعا لتغير موازين القوى العالمية داخل صفوف المعسكر الامبريالي. وبموجب "التجديد" المطروح للتنفيذ يصبح لدينا:
1ـ اسرائيل + "المحمية" الفلسطينية + الاردن + العراق = منطقة نفوذ أولي اميركي ـ انجلو ـ ساكسوني ـ صهيوني.
2ـ لبنان + سوريا = منطقة نفوذ أولي اوروبي ـ كاثوليكي ـ عربي ـ اسلامي.
حتى "التفصيل" الروسي يأخذ دوره في هذا المضمار. إذ أنه معروف تاريخيا ان الثورة البلشفية في روسيا هي التي سبق لها ان فضحت اتفاقية سايكس ـ بيكو الاصلية، ودشنت بذلك مرحلة "قلب الطاولة" بوجه الاستعمار الغربي للشرق العربي. وحتى اليوم، يبدو أن الشركة الامبريالية ـ الصهيونية العالمية هي "مطمئنة" انه بالامكان اخراج الاساطيل الروسية من سوريا، او ـ اذا تعذر ذلك ـ محاولة "اغراء" روسيا ببعض المكتسبات و"تطويع" دورها، وتوفير امكانية بعث وتجديد اتفاقية سايكس ـ بيكو بهذه الصورة المعولمة الخطيرة على مصير لبنان والبلاد العربية وشعوب العالم اجمع.
تلك هي "الحيثية" الرئيسية للحكم الامبريالي ـ الصهيوني الدولي بإعدام لبنان كـ"وطن"، وتحويله الى "مركز مالي وتجاري" و"مزرعة دواجن بشرية". وكل ما عدا ذلك هو تفاصيل.
هل هناك قوى لبنانية وعربية واسلامية، "وطنية" وغير وطنية، موافقة على هذه الحيثية، وتتسخر لأجلها، مقابل "ثلاثين من الفضة"؟
تلك هي مسألة مصيرية للبنان، ينبغي وعيها، واتخاذ الموقف الوطني الحقيقي منها، قبل صياح الديك، وقبل تعليق لبنان على صليب بني صهيون، بمساعدة الاسخرطيين اللبنانيين والعرب.
وما اشبه اليوم بالبارحة!
فربما من المفيد ان نذكـّر هنا، ولعل الذكرى تنفع، انه في اثناء الحرب العالمية الاولى، حينما يئس العثمانيون من امكانية اخضاع الشعب اللبناني، وجد جمال باشا السفاح من اللبنانيين من "ينصحه" بالقول "اذا اردتم اخضاع اللبنانيين، جوّعوهم"، أي عمليا: افنوا غالبيتهم بسياط الجوع، كما افنيتم غالبية الارمن بالسيف. وكانت المجاعة الرهيبة، التي قضت على ثلث اللبنانيين في فترة وجيزة، والتي لا تزال ذكراها السوداء تـُـتـناقل خلفا عن سلف. ولو لم تهزم المانيا، وبالتالي تركيا، حينذاك، لتحول لبنان الى مقبرة جماعية، ولما بقي من اللبنانيين غير بعض الافندية والخواجات المتعثمنين.
واذا كانت الامبريالية ـ الصهيونية عاجزة اليوم عن ان تطبق ضد اللبنانيين مذبحة او هولوكست، على الطريقة العثمانية والهتلرية، فإنها تفعل المستحيل لتحقيق "الهولوكوست البيضاء"، بالاساليب "الحضارية"، التي تنسجم تماما، في الشكل والمحتوى، مع نظرية "صراع الحضارات" التي يبشر بها أسافل الانحطاط البشري، القابعون في علياء ناطحات السحاب الاميركية. وهي تجد حتما من اللبنانيين والعرب، من يتهافت للسير في ركاب هذا "الخيار الحضاري" للبنان!
معطيات سلبية عامة
ولا شك ان هناك عددا من المعطيات العامة، الموضوعية والذاتية، الدولية والاقليمية والمحلية، التي تسهم في تضييق الخناق الاقتصادي على الشعب اللبناني. ومنها:
ـ الأزمة الاقتصادية العامة المستمرة للرأسمالية، التي تزداد توحشا بمقدار ما تزداد تأزما، وبالعكس.
ـ حالة التفكك العربي، والأزمة السياسية والاقتصادية والامنية العربية عامة، والسورية خاصة.
ـ استشراء الفساد بشكل لا سابق له في لبنان، مع توفير الغطاء الضروري له، عبر "محاصصته" طائفيا. وفي هذا ما يثبت قدرة الآلية الطائفية على التكيف، واحتواء كل أشكال الانحطاط الاجتماعي، المفضي مباشرة الى الخيانة الوطنية.
ولعله من الضروري التأكيد أنه من ابشع اشكال الفساد المستشري اليوم في لبنان، الذي يدفع الناس العاديون ثمنه باهظا، هو الرشوة واسعة النطاق لقسم كبير من القيادات الحزبية والنقابية والمثقفين، كي يضطلعوا بـ"نجاح" بدور شهود الزور على الجريمة التي ترتكب بحق هذا الشعب المظلوم. ومن ابشع واسخف مهازل التاريخ ما نشهده من انحياز قسم كبير من اليسار التقليدي اللبناني الى معسكر الليبيرالية والامبريالية والنفطوعروبية والصهيونية، باسم "الدمقراطية" و"العلمانية" و"الحريات العامة" التي فقدت معناها الجوهري على ايدي هؤلاء الخونة "المودرن"، الذين لا زال البعض منهم يحمل لقب "ماركسي" و"شيوعي" مثل كريم مروة والياس عطالله.
وطبعا ان "التأطير" و"التطويع" شمل غالبية النقابات ذاتها، ولا سيما على مستوى القيادات، التي لم يسبق لها ان صارت "مستوعبة" من قبل النظام كما هي الان، والتي اصبحت "رقما خلفيا" في جميع التسويات والمحاصصات السلطوية، حتى بالحسابات الطائفية، مما هو جديد تماما على الحركة النقابية.
وهذه المعطيات تساعد في انجاح الخطة المعادية الخاصة ضد لبنان، وتنفيذ "حكم الاعدام" الصادر بحقه.
دور الحركة النقابية
ما هو الدور الذي اضطلعت به الحركة النقابية، من موقعها الذاتي، في الدورة الاقتصادية خاصة، وفي الحياة الاجتماعية والوطنية عامة، للبنان؟
قبل الاجابة على هذا السؤال لا بد من تقديم ملاحظتين:
الاولى ـ ان الحركة النقابية اللبنانية كان لها دورها التاريخي في الحياة الاجتماعية والسياسية للبنان. وكان لها تضحياتها الجمة، ومناضلوها البارزون، وشهداؤها الابرار. وقد استطاعت ان تحقق للجماهير العاملة مكاسب مادية واقتصادية واجتماعية مهمة. ولكن أهم ما حققته هذه الحركة هو انتزاع الاعتراف بالحقوق الانسانية الاساسية للمواطن العامل، واستعادة كرامته كإنسان. فقد أقحمت الحركة النقابية الجماهير العاملة، بوجهها النقابي الخاص، في معمعان الحراك الاجتماعي، بمدلوله السياسي العام. وبفضل نضالها وتضحياتها، كسرت احتكار السلطات، من جهة، والقيادات والزعامات الدينية والتقليدية، من جهة ثانية، للحياة الاجتماعية والسياسية. وقدمت بذلك نموذجا وأفقا جديدين للتحرك المستقل للمجتمع المدني. وهذا بحد ذاته يعد مأثرة كبرى لهذه الحركة، في بلد شرقي كلبنان الذي، بفعل التقاليد الموروثة عن العبودية العثمانية التي استمرت مئات السنين، والاقطاعية، والاستعمار الاوروبي، كان، ولا يزال الى حد كبير، مطبوعا بتسلط الطبقات السائدة، المقرون باحتقار المواطن العادي. وهذا ما اكسب الحركة النقابية اللبنانية رصيدا عربيا ودوليا مرموقا.
الثانية ـ في هذا الزمن العاصف، الموسوم بالانهيارات والتحولات الكبرى، وفي مواجهة الاشكال الجديدة لتسلط الطبقات السائدة، وعلى رأسها الاحتكارات الامبريالية والكومبرادورية، وتآكل وتغيير الاشكال القديمة لسلطة الدولة، يكتسب المجتمع المدني أهمية متعاظمة، على كل المستويات.
على هذه الخلفية، فإن الحركة النقابية اللبنانية توجد اليوم في أزمة عميقة، لم يسبق ان مرت بها من قبل. وسواء وعت بعض كوادرها ذلك ام لا، فهي تقف امام ضرورة اعادة نظر ذاتية عامة، من ضمن الظروف والاوضاع المستجدة، لاستشراف دورها اللاحق في المجتمع اللبناني.
ولمقاربة الجواب على السؤال الذي طرحناه ينبغي الملاحظة اولا: ان أي تحليل مخلص لتاريخ الحركة النقابية ووضعها الراهن، بما في ذلك نقد النواقص السابقة والحالية، وطرح الاقتراحات الجديدة، الخ.، ينبغي ان يصب في هذا الاتجاه. واذا كنا نلقي هنا نظرة سريعة على ماضي الحركة النقابية اللبنانية، او نطرح بعض الاستنتاجات، فإننا نضع نصب أعيننا الالتزام بالموضوعية، تحدونا روحية التقدير لدورها الوطني العام المباشر، الذي لم يعد بالامكان فصله عن دورها النقابي الخاص.
"تريدينيونية اوروبية"
كانت بداية نشوء الحركة النقابية في لبنان، عشية انهيار السلطنة العثمانية، تحت تأثير الافكار التنويرية والاشتراكية، الاوروبية. وقد تنامت، وثبتت اقدامها، في مرحلة الانتداب الفرنسي. وتحولت الى مؤسسة مجتمعية رئيسية منظمة، شاملة للقطاعات العمالية والمهنية، في مرحلة الاستقلال.
واذا تجردنا عن التفاوت في مستوى التقدم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والنضج الطبقي، فإن الحركة النقابية اللبنانية كانت تمثل نسخة عن الاصل الذي نشأت تحت تأثيره المباشر، وسارت على خطاه، ونعني به الحركة النقابية في البلدان الاوروبية الغربية.
ومن وجهة نظر سوسيولوجية (علمإجتماعية)، فإن الحركة النقابية اللبنانية، بكل أقسامها، ومنذ نشأتها الى الآن، اتسمت بالنهج "التريدينيوني"، أي النقابي الصرف، من حيث إطار المفاهيم والاطروحات، وخط واساليب النضال.
وباعتبار ان مفهوم "التريدينيونية" يمكن ان يعطى مدلولا مختلفا في كل منطقة ذات ظروف مختلفة، يتوجب علينا تدقيق هذا التعبير، والتحديد بأن الحركة النقابية اللبنانية اتسمت بنهج "تريدينيوني أوروبي"، أكثر منه "تريدينيوني لبناني" .
وليس في ذلك أي انتقاص من دور الحركة النقابية اللبنانية، بل تأكيد على ضرورة الارتفاع بمستوى هذا الدور، بما يستجيب للمتطلبات التاريخية الخاصة للوضع اللبناني.
ولتسليط الضوء على هذه النقطة الهامة، نجري فيما يلي مقارنة، أوروبية ـ لبنانية، من وجهة نظر النهج التريدينيوني ذاته.
أولا ـ التريديونية في اوروبا
نشأت النقابات في البلدان الاوروبية المتقدمة، بعد الثورة الصناعية، وبعد ان كانت تلك البلدان انجزت ثوراتها البرجوازية، بما في ذلك الثورة في الريف، أي الاصلاح الزراعي الجذري او التدريجي. ولم يكن في هذه البلدان استعمار اجنبي او امبريالية خارجية يفرضان عليها، او يعيقان، شروط تطورها الوطني. وعامل الضغط الخارجي، مثله مثل عامل الضغط الداخلي، لم يكن يتعدى المزاحمة الرأسمالية الندية. في هذه الظروف "الاوروبية" نجد:
1 ـ انه لم يكن من وجود لـ"مشكلة وطنية" مع الخارج، تمارس تأثيرها متفاوت الشدة على طبيعة التركيبة الاجتماعية ـ الطبقية للبلاد، وبالتالي على طبيعة النضالات النقابية.
2 ـ ان التقسيم الطبقي، بين رأسماليين وعمال او عاملين بالاجور (صناعيين، زراعيين، حرفيين) هو تقسيم "وطني" شبه كامل، ديموغرافيا (سكانيا) وجغرافيا. أي أنه يشمل الغالبية الساحقة من السكان، على كامل التراب الوطني. والفئة الهامشية بين هاتين الطبقتين، أي البرجوازية الصغيرة، هي ضئيلة للغاية عدديا، بحيث انه لا وزن "وطني" لها، وهي تتذبذب وتتشظـّى بين الطبقتين الرئيسيتين. أما ما يسمى "الطبقة الوسطى"، فهو ليس سوى تعبير ضبابي عن جماعة غير متجانسة تتكون في غالبيتها من أفراد من الطبقتين الرئيسيتين: رأسماليين، صغار ومتوسطين، وعمال، موظفين واختصاصيين ذوي اجور ومكافآت مرتفعة؛ هذا بالاضافة الى الجزء العلوي من البرجوازية الصغيرة.
3 ـ ان المحور الرئيسي للاقتصاد هو الانتاج، الصناعي ـ الزراعي. والقسم الاكبر من قطاع الخدمات ذاته (التجارة، النقل، المواصلات، الاتصالات، السياحة، الخ)، ومهما بلغ حجمه، هو مؤطر انتاجيا، أي هو جزء لا يتجزأ من الاقتصاد الانتاجي، وينطبق عليه ما ينطبق على الصناعة والزراعة، ويدخل تحت مفهوم "صناعة الخدمات". وهو يخضع لمضاربات وتلاعبات الكتل المالية والبنوك والبورصات، على قدم المساواة مع جميع القطاعات الانتاجية الرأسمالية الاخرى. وبالتالي هناك قطاع اقتصادي انتاجي موحد، صناعي ـ زراعي ـ خدماتي (القسم الأعظم من الخدمات، باستثناء القطاع المالي الأعلى)؛ ولا وجود لقطاع خدمات "موازِ"، "طارد" او "بديل" لقطاع الصناعة والزراعة.
4 ـ ان الطبقة العاملة تغطي كامل الدورة الانتاجية، وبالتالي كامل الاقتصاد الوطني. وهذا يشمل بشكل مباشر او غير مباشر العاطلين عن العمل أنفسهم، والعمال الوافدين، الذين ـ هؤلاء وأولئك ـ يعدون اقلية، مهما بلغت نسبتهم، ويعتبرون جزءا لا يتجزأ من الطبقة العاملة الوطنية (أي في الاطار الوطني)، وجزءا من سوق العمل في وقت واحد. ومن ثم فإن النضال النقابي، والضمانات الاجتماعية، تشمل الغالبية الساحقة من العاطلين عن العمل، ومن اللاجئين او الوافدين الاجانب. أي ان النضالات النقابية في تلك البلدان كانت تشمل، بصورة عامة، وضع العاملين في حال كونهم في العمل او عاطلين عنه، مواطنين او وافدين. وباعتبار ان النظام الاقتصادي يقوم بشكل اساسي على الانتاج، وتبعا لقانون العرض والطلب ذاته، فإن الطبقة الرأسمالية هي مضطرة لتحقيق مطالب الطبقة العاملة، أي المنتجين. ويشمل ذلك الاوضاع المعيشية للعمال في ظروف البطالة الناشئة عن الكساد النسبي والازمات الدورية للنظام الرأسمالي، كما يشمل اليد العاملة الوافدة، بالرغم من كل خصوصيات وحساسيات هذا الجانب الاخير.
5 ـ وباستثناء البرجوازية الصغيرة، متضائلة العدد باستمرار، والمشردين غير المستقرين، لا وجود لفئة سكانية هامشية لا تدخل في قوام الطبقة العاملة والمهنيين، ولا يغطيها النضال النقابي "التريدينيوني".
6 ـ ان المؤشر العام للتأطير السكاني ـ الطبقي في النظام الرأسمالي المتطور هو إشراك المزيد من السكان في الدورة الاقتصادية الانتاجية بشكل عام، وتحويلهم الى بروليتاريين او عاملين بالاجرة بشكل خاص. والتهميش الاقتصادي الاجتماعي للسكان، او الفائض النسبي للسكان، يتمثل بشكل خاص في العاطلين عن العمل وأعداد المشردين، الذين هم في غالبيتهم الساحقة مؤطرين في الطبقة العاملة. أي ان هذا المؤشر لا يخلق شريحة سكانية طفيلية، خارج الدورة الاقتصادية الانتاجية الرأسمالية الكبيرة، بل بالعكس تماما. والمهمشون هنا هم في الاغلبية الساحقة جزء من الطبقة العاملة، ومشمولون بالتغطية النقابية والاجتماعية المرتبطة بها.
في مثل هذه الظروف الاوروبية الخاصة، فإن التقسيم الطبقي ـ الاجتماعي، بمداه الدمغرافي والجغرافي الوطني العام، كان تقسيما بسيطا يتألف من:
أ ـ أقلية رأسمالية.
ب ـ هامش صغير نسبيا من البرجوازية الصغيرة، وبعض الفئات المهمشة كالمشردين غير المستقرين واللاجئين غير الشرعيين.
ج ـ أغلبية ساحقة من العمال الصناعيين والزراعيين والموظفين وشتى اشكال العاملين بالاجور، بمن فيهم الاغلبية الساحقة من العاطلين عن العمل والمشردين واللاجئين.
بهذه اللوحة الاقتصادية ـ الاجتماعية، محددة المعالم الطبقية، جاء النهج التريدينيوني ليستجيب لهذه الاوضاع الخاصة بالمجتمع الرأسمالي المتطور في اوروبا. وكان هذا النهج يحقق في الوقت نفسه ضرورتين مترابطتين او منسجمتين:
1 ـ تحسين ظروف حياة ومستوى معيشة العاملين بالاجور، وضماناتهم الاجتماعية والصحية الخ.
2 ـ تحسين أداء النظام الرأسمالي ذاته، أي: تحسين شروط سوق العمل ورفع مستواها؛ عقلنة عملية الانتاج وتحفيز الانتاجية؛ وتحسين الوجه الاجتماعي للنظام الرأسمالي ذاته، بصرف النظر عن زيادة نسبة استثمار الطبقة العاملة، بحساب انتاجية العمل، ومعادلة نسبة الاجور الى الرأسمال وغير ذلك من المعايير الاقتصادية العامة.
وبكلمات أخرى فإن تحسين أوضاع العمال وجميع العاملين بالاجور، كان شرطا لتحسين أداء النظام الرأسمالي، وبالعكس. وبالتالي فإن الحركة النقابية الاوروبية، بمفاهيم النهج التريدينيوني الخاص بها، كانت حركة منسجمة مع نفسها، وذات شمول وطني ـ طبقي. إذ أنها لم تكن تواجه مشكلات وطنية خارجية، ولا معضلات اقتصادية اجتماعية سكانية، ذات مدى وطني عام، كما هي الحال في لبنان، وبالتالي لم يكن مطروحا امامها موضوع التغيير في طبيعة النظام الرأسمالي القائم، بل فقط تحسينه.
ثانيا ـ التردينيونية في لبنان:
هل كان ذلك كافيا، بالنسبة للحركة النقابية اللبنانية؟
إن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الراهنة عموما، وأزمة الحركة النقابية خصوصا، تثبت أن "التريدينيونية الاوروبية"، اذا كانت تلائم ظروف بلدان اوروبا الغربية وغيرها من البلدان الرأسمالية الكلاسيكية، فهي لم تكن كافية في ظروف بلد كلبنان.
طبعا انه لا يمكن نفي الاسهام التاريخي للحركة النقابية اللبنانية، كما لا يمكن إرجاع عجلة التاريخ الى الوراء. ولكنه من الضروري استحضار وتشريح المرحلة الماضية لسببين جوهريين:
الاول: كشف تقصير، او عجز "التريدينيونية الاوروبية"، ذات البعد الوطني ـ الطبقي الواحد البسيط، عن استيعاب وطرح حلول للمشكلات الاجتماعية الاساسية في مجتمع رأسمالي هامشي تابع، كالمجتمع اللبناني، التي هي مشكلات ذات بعد وطني ـ طبقي مركـّب ومعقـّد.
الثاني: فهم أفضل للضرورات الموضوعية، الوطنية ـ الطبقية ـ الاجتماعية، المتلازمة مع الازمة التي توجد فيها الحركة النقابية اللبنانية، في المرحلة الراهنة، وعلى رأسها ضرورة إجراء تحول، وطني ـ اجتماعي، في هيكلية، نهج وأداء هذه الحركة.
فبالسمة الاساسية لها، أي النهج "التريدينيوني الاوروبي"، لم تكن الحركة النقابية اللبنانية تتجاوز حدود طرح، والدفاع عن، القضايا المهنية، والقضايا المعيشية والحياتية المرتبطة بها، الخاصة بقطاعات العمال والموظفين والمهنيين، التي تمثلها. وبكلمات اخرى، فهي لم تكن تتدخل في طبيعة النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ السياسي السائد، بل كانت، في تكرار سطحي لتجربة اصلها او مثالها الاوروبي، تناضل لتحسين اوضاع وحياة وظروف عمل العاملين، الذين تمثلهم، من ضمن "مجرى سير" النظام ذاته، الذي يصبح كالقضاء والقدر. وهذا ما كان يفقدها، مسبقا، بعدها الوطني، لا من حيث الانتشار الجغرافي، بل من حيث طبيعة الاطروحات الطبقية ـ الاجتماعية، ما ـ دون ـ الوطنية، والممارسات النضالية الفئوية، مبتسرة العمق الوطني. وحتى حينما كانت النقابات تشارك في بعض النشاطات السياسية الوطنية ذات الطابع العام، فإنها كانت تفعل ذلك عمليا بصفة المواطنة الفردية، دون ان تتناول القضايا الاجتماعية والطبقية ذاتها في بعدها وعمقها الوطنيين، اي دون ان تغير في طبيعة نهجها النقابي الصرف "التريدينيوني الاوروبي".
ومعلوم ان نشوء الحركة النقابية اللبنانية ونموها، اقترن تاريخيا بنشوء اليسار، ولا سيما الشيوعي. الا انه شاركت فيها فيما بعد، بشكل متزايد، وبمختلف الدرجات والاشكال، غالبية ألوان الطيف السياسي في لبنان، بما في ذلك التيارات والاحزاب التي تمثل امتدادا للسلطة الفعلية، الرأسمالية الهامشية والبرجوازية العميلة. وبصرف النظر عن الانتماءات السياسية، اليسارية او اليمينية، الاشتراكية او الليبيرالية او المحافظة، المعارضة او الموالية، فإن الحركة النقابية اللبنانية نمت كجزء عضوي من النظام الاقتصادي اللبناني، مثلها في ذلك مثل جميع النقابات في البلدان الرأسمالية الكلاسيكية، وقلدتها في انتهاج الخط التريدينيوني، كما اسلفنا.
وبالرغم من التعددية الحزبية والسياسية في داخل الحركة النقابية، او في التعامل معها، فإنها لم تتحول الى، او لم تنتج، حزبا او حركة اجتماعيين سياسيين، يعطيان القضية الاجتماعية عمقها الوطني، كما هو ضروري وملح، بالنسبة للبنان. ولا يغير في هذه الحقيقة شيئا أية تسمية ذات ظل سياسي، مثل تسمية "الاتحاد الوطني للنقابات"، الذي يقوده المناضلون النقابيون الشيوعيون، او "جبهة التحرر العمالي"، التي يقودها المناضلون النقابيون الاشتراكيون. فالمناضلون النقابيون الحزبيون، ايا كانت انتماءاتهم، لم يخرجوا عن تقليد العمل والتعامل السياسي المسطح مع الحركة النقابية، وكانوا ولا يزالون يتحركون ضمن خطين متوازيين، يسيران جنبا الى جنب، دون ان يتحدان:
أ ـ وضع حزبيتهم، أي رصيدهم النضالي ومفاهيمهم الحزبية، في خدمة النهج النقابي الصرف "التريدينيوني الاوروبي"، الذي يناضلون ضمن اطاره وتبعا لتقاليده.
ب ـ الافادة من نضالهم التقليدي النقابي، لرفع الرصيد السياسي للاحزاب او الحركات السياسية التي ينتمون اليها.
أي أنه لم يكن هناك أي دمج عضوي بين العاملين الاجتماعي والسياسي، في المدى والعمق الوطني. ولم يكن هناك أي خروج عن، بل على العكس كان يوجد تكريس وتدعيم لتقاليد وقوالب العمل النقابي "التريدينيوني الاوروبي"، القاصرة عن استيعاب المعضلات الاجتماعية الوطنية الاساسية للبنان.
ومع تفاقم الازمة الاقتصادية ـ الاجتماعية الحالية الخانقة، فإن هذه التقاليد والقوالب اصبحت هي العائق الاكبر امام الحركة النقابية للتصدي لهذه الازمة. وبالتالي، فإن السمة الرئيسية للازمة الحالية للحركة النقابية اللبنانية هي على وجه التحديد: أزمة عجزها الذاتي، بسبب التقاليد والقوالب "التريدينيونية الاوروبية"، عن مواجهة الازمة الاقتصادية ـ الاجتماعية القائمة، التي اخذت تهدد الوجود الوطني ذاته للشعب اللبناني.
ومع التقدير الكبير للنضالات والتضحيات التي قدمها المناضلون النقابيون والجماهير العاملة، فإن الحركة النقابية اللبنانية، بالصورة التي هي عليها حتى الآن، كانت ولا تزال أشبه شيء بـ محام عن القطاعات السكانية (لعمالية والحرفية) التي تمثلها وحسب، وفي شؤونها النقابية والمعيشية الضيقة الخاصة المباشرة وحسب. ولم يخرج نضالها عن كونه نضالا دفاعيا فئويا ضمن النظام "الوطني" القائم. أي أنه نضال ذو طابع إصلاحي، جزئي، أي غير أساسي وما دون الوطني، يطال فئة واحدة فقط من السكان، هم العاملون بالاجور المؤطرون في الانتاج والخدمات والحرف والمهن الحرة، دون أي تدخل وطني تغييري في التوجهات البنيوية للنظام، ذات الابعاد "الوطنية"، بالمعنى الديمغرافي ـ الجغرافي، أي التي تشمل البلد ككل والشعب ككل.
ومثل هذا النهج يصح، او يكفي، من زاوية معينة، لمرحلة تاريخية معينة، في البلدان الرأسمالية الكلاسيكية المتطورة، المنجزة لثوراتها البرجوازية، كأوروبا الغربية، حيث الوضع والطرح الطبقي، لكل من الطبقتين الرأسمالية والعمالية، يداني او يكاد يطابق الوضع والطرح "الوطني" (بمعنى الشمول الديموغرافي ـ الجغرافي ـ السياسي) لكل منهما. ذلك ان النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي في هذه البلدان يتمحور حول: التوسيع المضطرد لقطاع الانتاج؛ جعل قطاع الخدمات جزءا لا يتجزأ من قطاع الانتاج؛ استيعاب كافة السكان، بما في ذلك الوافدين، في العملية الاقتصادية ـ الاجتماعية "الوطنية" للنظام الرأسمالي القائم.
أما النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي اللبناني فهو نظام رأسمالي هامشي تابع، يختلف نوعيا عنه في البلدان الاوروبية. وبحكم طبيعته تلك، وعلى العكس تماما من الرأسمالية الكلاسيكية، فقد أفرز توجها اقتصاديا ـ اجتماعيا ـ "وطنيا" رئيسيا، يدور على ثلاثة محاور متداخلة:
الاول ـ الفصل المصطنع لقطاع الخدمات عن القطاع العام للانتاج، وإضفاء الطابع الطفيلي عليه، والنفخ المصطنع المفرط له، ورفع مستواه بشكل ملحوظ فوق مستوى القطاعات الصناعية والزراعية والحرفية مجتمعة.
الثاني ـ التهميش المتزايد عن طريق التقليص المطلق او النسبي او كليهما معا، للقطاعات الانتاجية، الصناعية والزراعية والحرفية.
الثالث ـ التضييق المتواصل لاستيعاب السكان في العملية الاقتصادية، الانتاجية والخدماتية معا، وتهميش قطاع متزايد من السكان، وإلقائهم في براثن البطالة الظاهرة والكامنة.
وبنتيجة ذلك انتج هذا النظام الرأسمالي المشوه توزيعا سكانيا للشعب اللبناني، هو بالغ التشويه، بكل المعايير الوطنية. ونحن نسقط طبعا من مفهوم "الشعب" طبقة الـ2 ـ 3% من الكومبرادور، الذين يعود ولاؤهم الاول والاخير للكتل المالية والاحتكارات الاجنبية التي يرتبطون بها وينفذون سياستها، أيا كانت العباءات اللبنانية والعربية التي يرتدونها. وضمن هذا التوزيع لـ"الشعب" اللبناني نستطيع ان نميز ثلاث فئات "شعبية" من العاملين بالاجور والعاطلين عن العمل. وهذه الفئات هي:
الاكثر محظوظية ـ وهو قطاع أول، يتألف من العاملين في الخدمات. وطبعا هناك تفاوت كبير بين مختلف فئات هذا القطاع. الا أنه بشكل عام يتمتع بمستوى معيشة أفضل، هو فوق مستوى المعيشة المتوسط لمجموع القطاعات العمالية والفلاحية والحرفية. واللافت ان هذا القطاع هو مؤطر نقابيا أيضا بشكل افضل من جميع القطاعات الانتاجية والمهنية الاخرى. وبناء على هذه المعطيات، يمكن اعتباره قطاع السكان العاملين بالاجور الاكثر محظوظية.
المحظوظون ـ وهو القطاع الثاني، ويبلغ تعداده، بحسابٍ تقديريٍ، اكثر من ضعف تعداد القطاع الاول، وهو يضم جماهير العاملين في القطاعات الانتاجية الصناعية والزراعية والحرفية. ومتوسط مستوى المعيشة في هذا القطاع يمثل المتوسط الوطني لمستوى المعيشة للعاملين بالاجور في لبنان. وهو مؤطر نسبيا بشكل مقبول في الحركة النقابية، ولكن ليس بمستوى القطاع الاول. ويعود ذلك الى الطبيعة الطفيلية، "الخدماتية"، للنظام اللبناني. ويمكن اعتبار هذا القطاع الانتاجي قطاع المحظوظين العاديين من العاملين بالاجور، الذين لا يزال الحظ يسعفهم بالاحتفاظ بفرص عملهم في لبنان.
غير المحظوظين ـ هو القطاع الثالث، وهو القطاع الجماهيري الاوسع، ويشمل، بحسابٍ تقديريٍ ايضا، حوالى او اكثر من نصف السكان، أي انه ينتصب كمعادل مساوِ أو زائد للقطاعين الاولين مجتمعين. وهو يتألف من العاطلين عن العمل، كبطالة ظاهرة وكامنة، المتروكين للمصير المجهول. وهذا القطاع يمثل "محطة الانتظار" الرئيسية لمجزرة الهجرة الجماعية اللبنانية. ويمكن تسميته قطاع غير المحظوظين في جنة "وطن الخدمات" اللبنانية.
إن المأزق التاريخي للحركة النقابية اللبنانية يكاد يُـرى بالعين المجردة، لدى تشخيص هذا القطاع السكاني بشكل خاص. فاذا وضعنا بعض التصريحات والبيانات الضبابية العاطفية جانبا، فإننا نرى، بدون أي دهشة، ان الحركة النقابية، من حيث تريد او لا تريد، لم يكن، وليس لها حتى الآن، علاقة عملية مباشرة بهذا القطاع من السكان، أي عمليا بأكثر من نصف السكان، غير المحظوظين، القادرين على العمل، والمحرومين منه. والسبب بسيط، وهو ان الحركة النقابية الراهنة، ذات الطراز الاوروبي، "لا تستطيع" ان تشمل بأطرها الهيكلية وبنضالها فئتين من الناس: غير المصنفين مهنيا؛ والذين كانوا يوما ما مصنفين، يعملون في مهنة ما، واصبحوا لاحقا من المهمشين غير المصنفين.
وتقف الحركة النقابية اليوم مكتوفة الايدي، وهي تتفرج كشاهد أخرس على هجرة اكثر من مليون لبناني، على أقل تقدير، الذين غادروا لبنان منذ 1990 حتى الآن، وأغلبيتهم الساحقة من قطاع المواطنين المهمشين غير المحظوظين، الذين فقدوا كل امل لهم في العيش الكريم في بلد اجدادهم، الذين رووا ترابه بعرقهم ودمائهم، والذين لم يجدوا من يدافع عنهم كبشر لهم ادنى حقوق المواطنية، لا من دولة الطائف، ولا من الاحزاب المتهافتة على المغانم، ولا من الحركة النقابية، مبتسرة التركيب والرؤية، التي تتلهى بالجزء وتترك الكل. وبطبيعة الحال ان مغادرة هذا المليون من اللبنانيين اليائسين لم ينه مأساة قطاع غير المحظوظين، بل بالعكس تماما، فإن عدم وضع حد للاسباب التي توجد هذا القطاع يهدد بتحويل غالبية الشعب اللبناني الى غير محظوظين، ومن ثم مغتربين، اليوم فغدا.
وفي هذا اللوحة القاتمة يبدو تماما ان التريدينيونية الاوروبية لا تصلح في لبنان. إذ ان الحركة النقابية اللبنانية، في تخليها الموضوعي عن هذه الفئة من المواطنين، تقف دون مستوى الحركة النقابية الاوروبية التي تقلدها في ظروف غير ظروفها، والتي لا يوجد بشكل عام أي فئة عمالية وشعبية خارج اطار اهتمامها المباشر، مهما كان نوع هذا الاهتمام.
ان عدم ادراك الفارق الجوهري بين النظام الرأسمالي اللبناني الطفيلي، والنظام الرأسمالي الاوروبي، من قبل الحركة النقابية اللبنانية، واتباع نهج التريدينيونية الاوروبية، انتج المفارقة التالية وهي: إن النضال النقابي اللبناني، في الوقت الذي كان يعمل فيه على تحسين مستوى معيشة العمال والموظفين والمزارعين، المؤطرين في الدورة الانتاجية والخدماتية، دون بقية السكان، كان يعمل في الوقت نفسه موضوعيا على ترسيخ التوجهات الاقتصادية الضارة وطنيا، للنظام الرأسمالي اللبناني، الآيلة الى تغليب الاتجاه الخدماتي الطفيلي، من جهة، والى التهميش المتزايد لقطاعات واسعة من الجماهير الشعبية اللبنانية، من جهة ثانية. وكان من الطبيعي ان يؤدي ذلك الى فقدان الحركة النقابية طابعها الوطني الشامل.
ونقدم المثالين التاليين:
الاول ـ إن النمو الطفيلي، الخدماتي، للنظام الرأسمالي اللبناني، كان يغلق الباب مسبقا امام قطاعات واسعة من القادرين عن العمل، ولا سيما الشباب، الذين يلقى بهم في احضان البطالة الظاهرة، ولا سيما الكامنة، وخصوصا في الريف، وذلك دون ان يكون هذا النظام مسؤولا عنهم مباشرة، لانه في الاساس، من وجهة النظر الاقتصادية الضيقة، "لا علاقة له" بهم. فماذا كانت تطرح الحركة النقابية، غير بعض المواعظ الاخلاقية، وماذا كانت تفعل عمليا، من اجل العاطلين عن العمل، الذين لم تتح لاغلبيتهم فرصة الدخول في دورة الانتاج، والذين اصبحوا يشكلون حوالى نصف السكان، عشية الحرب الاهلية في 1975، وغادر منهم اكثر من مليون، ولا يزالون يشكلون الان نصف السكان وأكثر؟
ان هذه المسألة تبين أنه، بالرغم من كل المكاسب التي حققتها النقابات، وبالرغم من كل الصعوبات التي تكتنف حياة العمال، فإن الحركة النقابية اللبنانية فقدت على هذا الصعيد طابعها الوطني الشامل، بالمعنى الاقتصادي ـ الاجتماعي العام، أي فقدت طابعها كحركة نقابية لكل المواطنين المؤهلين للعمل، وتحولت الى حركة نقابية للعاملين فقط، الذين سميناهم المحظوظين، اذا صح هذا التعبير، في بلد كانت فيه البطالة تزداد يوما عن يوم، وأصبح فيه ايجاد عمل مسألة "حظ من السماء" بكل ما في ذلك من قدرية، ومن تزلف وتزلم زعاماتي وحزبي وطائفي.
الثاني ـ في الانجرار العفوي خلف توجهات النظام الرأسمالي القائم، عملت الحركة النقابية موضوعيا على تشجيع الاتجاه المركنتيلي ـ الخدماتي، الذي انعكس على مستوى "الحقوق" والمكتسبات النقابية ذاتها. بحيث اصبح معدل هذه المكتسبات في قطاع الخدمات، كالبنوك والفنادق الكبرى وشركات الطيران وما شابه، اكبر بكثير منها في القطاعات الانتاجية. وهنا ايضا فقدت الحركة النقابية اللبنانية طابعها الوطني الشامل، من حيث المساواة في المكتسبات العمالية، وخدمت من حيث تدري او لا تدري الاتجاهات المركنتيلية، التي تعطي الاولوية لمستوى المعيشة في القطاع الخدماتي، والتي تصب في النهاية في مصلحة الاتجاهات والاوساط اللاوطنية.
وعلى هذه الصورة فإن الحركة النقابية باتباعها النهج التريدينيوني الاوروبي، الذي تلتزم فيه موضوعيا بآليات عمل النظام السائد ذاته، والعمل على "اصلاحه" و"تحسينه" من ضمن "مجرى سيره" ذاته، عملت موضوعيا، ذاتها بذاتها، على تهميش دورها، وعلى تقويض قدرتها الذاتية، بهيكليتها الراهنة، على الارتفاع الى المستوى الوطني المطلوب، الذي يمكنها:
اولا، من استشراف المخاطر، التي يحملها هذا النظام، على المستقبل الوطني للشعب بأسره، وبالاخص المصير الوطني والانساني لجماهير العمال والفلاحين والحرفيين وعائلاتهم.
وثانيا: من طرح الحلول المرحلية والتاريخية لمعضلات المجتمع اللبناني، وإيجاد الآليات والاشكال النضالية والبنيوية لمعالجة هذه المعضلات.
مأزق التريدينيونية
هل تستطيع الحركة النقابية اللبنانية ان تتجاوز المأزق التاريخي الذي توجد فيه، والذي يزداد فيه تضييق الخناق عليها الى درجة تحويلها الى جثة حية شبه عديمة الارادة، ملحقة بقطار النظام السائد، الذي يسير موضوعيا بالبلاد نحو الهاوية؟
جوابنا باختصار ان هذه الحركة، بتقاليدها وقوالبها وهيكليتها التريدينيونية، هي عاجزة عن ان تقوى على ذلك لوحدها.
فلكي تضطلع بدورها الوطني المطلوب، في حل المعضلات الاجتماعية الملحة للشعب اللبناني، ينبغي ان يتوفر لها شرطان رئيسيان:
الاول ـ ان تقوم هي نفسها، وتحديدا بواسطة القواعد والكوادر المناضلة التي لم تترهل ولم يطالها الفساد بعد، بالعمل لتجاوز ذاتها، وللخروج من الشرنقة الخانقة للنقابية التريدينيونية الاوروبية، التي كانت تمثل قالبا يمنع تطورها الكمي والنوعي، فأصبحت تمثل تابوتا لجثتها الحية.
الثاني ـ ايجاد الاطار، او الاطر النضالية، الشعبية ـ النقابية، التي تكون الهيكلية النقابية المباشرة جزءا عضويا لا يتجزأ منها، والتي تضم كافة القطاعات الجماهيرية والشعبية اللبنانية، المؤطرة منها في العملية الاقتصادية الانتاجية ـ الخدماتية، والمهمشة عنها. علما ان القطاعات المهمشة اصبحت تمثل اكثر من نصف الشعب اللبناني، كما اسلفنا، حتى بعد هجرة المليون واكثر من اللبنانيين، منذ بداية سلام الطائف.
ولمقاربة فهم هذا المأزق ينبغي القول إن عجز الحركة النقابية عن الخروج من ازمتها ليس مسألة رغبات ونوايا ذاتية، بل هو يرتبط بطبيعة شكل النضال النقابي الصرف التريدينيوني الذي ألزمت نفسها تاريخيا به، ومن ثم اصبحت ملزمة ـ من خارجها اكثر منه من داخلها ـ بالالتزام به. فهذا الشكل النضالي هو بحد ذاته يقود الحركة النقابية موضوعيا الى هذا المأزق.
ولننظر الى ذلك من ضمن الواقع الموضوعي ذاته، ونأخذ مثالا حيا حول اسلوب وهدف النضال النقابي، ولنقل الاضراب وزيادة الاجور:
ان الاضراب عن العمل هو الشكل السلبي لتأكيد الحق ـ الضرورة الانسانيين لممارسة العمل. وزيادة الاجور هي تعبير عن تعديل النسبة بين الاجور والارباح. والاضراب هو اكثر الاسلحة النضالية السلبية فعالية، حيث تتعطل العملية ذات المصلحة المشتركة، التي يعيش منها العمال، ويربح منها الرأسماليون، أي عملية الانتاج. هنا، في هذه المعركة الطبقية المؤقتة والجزئية لتحديد النسبة بين الاجور والارباح، يغامر العمال بأجورهم، ويغامر الرأسماليون بارباحهم.
في الظروف العادية للانتاج والتسويق، وفي ظروف الصعود الاقتصادي خاصة، فإنه يكون من الصعب على الرأسماليين تحمل خسارة السوق. ولذلك يكونون أضعف في مواجهة صمود العمال. ومع ذلك فهم يحاولون بشتى الوسائل، "المشروعة" وغير المشروعة، كسر الاضراب وعدم تلبية مطالب العمال وحتى تسريحهم.
أما في ظروف الازمات، وبوجود الكساد ونسبة عالية من البطالة، فإن الرأسماليين يصبحون أقل مصلحة في تلبية مطالب العمال المشروعة، واكثر ميلا نحو "تحمل" تعطيل المؤسسة. حيث ان قدرة الضغط الاقتصادي لجماهير العمال والموظفين والكادحين، المؤطرين في دائرة الانتاج والخدمات، على الطبقة الرأسمالية والاحتكارية، تصبح اضعف.
ويبدو هذا امرا "طبيعيا" بناء لقانون العرض والطلب. ولكنه في مثل هذه الظروف الصعبة للازمات، وبناء لقانون العرض والطلب ذاته، ولكن بمعنى اجتماعي اوسع يشمل كل الطبقتين الرأسمالية والعمالية، يصبح أمرا "طبيعيا" ايضا ان النضال المطلبي والاقتصادي للعمال يتخذ اكثر فأكثر طابعا معمما، سياسيا، وطنيا، لان حل المعضلات القطاعية والجزئية يصبح اكثر فأكثر مرتبطا بمواجهة الطبيعة العامة، الوطنية، للازمة.
وهكذا يصبح القيام بالاضراب، من اجل تحسين الاجور مثلا، صعب النجاح، اذا لم يكن مرتبطا بمساندة نقابية عامة وفعالة، لمساعدة العمال في معيشتهم اذا طال الاضراب، ولمواجهة خطر التسريح الجماعي وجلب عمال آخرين او اغلاق المؤسسة وتسريح العمال المضربين. وهذا ما يحتم ربط اي اضراب، واستطرادا اي معركة نقابية ومطلبية جزئية ومعزولة، بالبعد الطبقي ـ الوطني العام.
في البلدان الاوروبية المتطورة، حيث اغلبية السكان هي من العاملين ـ العائشين بالاجور، وحيث ان الحركة النقابية هي بالتالي ذات امتداد وطني، شامل لهذه الاغلبية السكانية، فإن الحركة النقابية هي قادرة ان تدعم أي اضراب عمالي، في أي مؤسسة، بشكل وطني، فتمنع تسريح العمال جماعيا، وتقف بوجه القمع البوليسي ضدهم، وتجمع لهم التبرعات لمساعدتهم على معيشتهم للصمود في فترة الاضراب، وغير ذلك من الاستعدادات الموضوعية، التي تؤهل النقابات العمالية لمواجهة الرأسماليين وطنيا حتى في أسوأ فترات الازمات الاقتصادية. ومع ذلك فإن النقابات، والعمال المعنيين في المؤسسة المضربة، يكونون مضطرين للاخذ بالاعتبار الوضع الاقتصادي العام، فيكون تشددهم ومطالبهم اكثر مرونة خلال مرحلة الازمات.
وامام هذا الوضع الذي وجدت فيه الطبقة الرأسمالية الاوروبية نفسها، منذ وقت طويل، وجها لوجه امام طبقة عاملة كبيرة وحركة نقابية شاملة وطنيا، فإنها اخذت، منذ عدة عقود، تتآمر على طبقتها العاملة الوطنية في استقدام اليد العاملة الوافدة من المستعمرات السابقة والبلدان الفقيرة نسبيا، على نطاق واسع، واستخدامها بطريقة مشروعة وغير مشروعة (وهو ما يسمى "العمل الاسود") للضغط على سوق العمل الوطنية، ضد مصلحة العمال جميعا، الوطنيين والوافدين معا. وبالرغم من الحساسيات الجزئية ذات الطابع العنصري، التي تقف الطبقات الرأسمالية وراءها، فإن الطبقة العاملة الوطنية في البلدان الاوروبية، ممثلة بالاخص بالنقابات بشكل عام، وسياسيا بالاحزاب الشيوعية والاشتراكية و"الخضر" و"الانسانيين"، استطاعت ان تستوعب الى حد كبير العمال الوافدين، على قاعدة الاخاء الانساني والعمالي والتأطير الحقوقي والحضاري في البوتقة الوطنية. وبدلا من ان يتحول الوافدون الى ما يسمى "كاسري الاضرابات" وعمالا ـ عبيدا مهدوري الحقوق والكرامة الانسانية، بدائل وأعداء للعمال الوطنيين، واحتياطا للطبقة الرأسمالية، تحولوا فعلا بشكل عام الى احتياط للطبقة العاملة الوطنية في كل بلد وجدوا فيه. حيث ان الطبقة العاملة الوطنية اجبرت الطبقة الرأسمالية على عدم فتح الابواب على مصاريعها للوافدين، من جهة، وعلى منحهم الحقوق الانسانية والعمالية، وتأهيلهم بالتدريج وطنيا وحقوقيا وطبقيا، في مرحلة زمنية معقولة، من جهة ثانية. وهذا ما جعل الطبقة الرأسمالية تقف امام مأزقين:
الاول ـ ان استقدام واستخدام الوافدين اصبح مكلفا لها مثله مثل استخدام العمال الوطنيين الاصليين.
وثانيا ـ ان "السحر قد انقلب على الساحر"، بحيث ان العمال الوافدين اصبحوا فصيلا طبقيا معاديا لها، في مقدمة الطبقة العاملة الوطنية، لا في مؤخرتها.
وها اننا نرى بأم اعيننا كيف ان تضامن العمال الاوروبيين مع الجاليات الوافدة يقودهم حتى الى تبني القضايا الوطنية العادلة لشعوب هذه الجاليات، حيث يسيرون مع ابناء تلك الجاليات جنبا الى جنب دفاعا عن القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العادلة للشعوب المظلومة. وهذا الموقف الانساني والاممي من قبل العمال الاوروبيين هو في الوقت نفسه ارفع اشكال الموقف الوطني، وتعزيز للموقف الطبقي للعمال سكان البلاد الاصليين، لانه يقطع الطريق على استخدام وتأليب العمال الوافدين ضدهم، ويجعل العمال الاصليين والعمال الوافدين، ومن ورائهم شعوبهم المظلومة، يقفون معا كجبهة واحدة ضد العدو الرأسمالي والامبريالي المشترك.
هذا بالنسبة لتطبيق الاضراب كشكل نضالي رئيسي. أما بالنسبة لمطلب زيادة الاجور، فلا حاجة للتوقف عنده كثيرا فيما يخص البلدان الاوروبية. ذلك ان مثل هذه الزيادة تكون مرتبطة تمام الارتباط بالاسعار والضرائب والفوائد الخ. إذ أنه في تلك البلدان، وبفضل الوعي الاجتماعي، ولا سيما بفعل النضال الطبقي ـ الوطني للعمال، توجد آليات وضوابط اقتصادية وطنية شاملة، تشارك فيها النقابات بشكل فعال، تجعل من زيادة الاجور ذات جدوى مرحلية ملحوظة لحين تغيير الظروف الاقتصادية بشكل "طبيعي". حيث لا يجري ابتلاعها فورا بالغلاء او التضخم او رفع الفائدة او الزيادة الكيفية في الضرائب الخ الخ. وللمثال وحسب ان الفائدة على العملة الوطنية يحسب لها ألف حساب حتى حينما تزاد او تـُنقص بنسبة ربع الواحد بالمائة.
كيف هو الامر بالنسبة للحركة النقابية اللبنانية؟
ان الطابع النقابي المبتسر، أي غير الشامل وطنيا، لهذه الحركة، كان يعيقها اكثر فأكثر عن التطبيق الجدي لشكل النضال الاضرابي، بطابعه السلمي ـ الاقتصادي، حتى في ظروف التمدد الاقتصادي الافقي في لبنان، بكل تشوهاته المركنتيلية، في الستينات واوائل السبعينات. ونتيجة لهذه الصعوبة المتزايدة لتحقيق المطالب المشروعة عبر الاضراب، وصل الامر الى حد تحول احد الاضرابات الى صدام مسلح، كما جرى في اضراب معمل الغندور في 1972. وقبل اندلاع الحرب اللبنانية في 13 نيسان 1975، جرى ايضا اضراب صيادي السمك في صيدا ضد شركة "بروتيين". وانتهى الاضراب ايضا بشكل دموي بقتل المناضل معروف سعد وهو يسير في مظاهرة الصيادين. ثم قام "مجهولون" بوضع عبوة في مكاتب شركة "بروتيين". فهل كان يمكن تحويل كل اضراب الى "ثورة صغيرة" مسلحة؟ وهل كان يمكن القيام بإضراب عام يتحول الى انتفاضة مسلحة شاملة؟ طبعا ان هذا كان يفتقد أي شرط لتحقيقه، قبل 1975، وكان اللجوء الى هذا الاسلوب اشبه شيء بانتحار طبقي ووطني. أما بعد نشوب الحرب في 1975 فاصبح مستحيلا تماما، حتى لو اراد ذلك بعض "المتحمسين زيادة عن اللزوم"، لان الطبقة الكومبرادورية، والرأسمالية عامة في لبنان، هي التي تسلحت بمختلف الاشكال. واصبح العمال المسلحون، بشكل عام، تابعين لمختلف الميليشيات، التي لا تعود لهم الكلمة فيها كعمال. كما اصبح النضال النقابي برمته مهمشا جدا، وأقرب الى الاستجداء، واصبحت فكرة الاضراب غير عملية الى اقصى الحدود.
وبعد احلال سلام الطائف، وفي ظروف الفوضى والفساد المريع والازمة الاقتصادية الخانقة، ونسبة البطالة الرهيبة الموجودة حاليا في لبنان، يصبح من الصعب، بشكل لا مثيل له في أي وقت مضى، النضال المطلبي، وخصوصا القيام بالاضراب في مؤسسات القطاع الخاص، لتوفير العمل وتحسين الظروف المعيشية والحياتية للعمال والمزارعين والحرفيين وكافة الجماهير الشعبية. اما في القطاع العام، كمؤسسة الكهرباء والتعليم الرسمي وما اشبه، فإن الدولة تتلطى خلف الجماهير المتضررة من احتمالات الاضراب، للضغط على العمال والموظفين والمعلمين ومنعهم من ممارسة الحق المشروع بالاضراب.
ولعله من الضروري ان نذكر هنا كيف جرى التقليل من شأن تحقيق زيادة اجور، عبر الغلاء والتضخم الذي كان يعقب و"يأكل" كل زيادة. وكان قد جرى نهب كل مدخرات الجماهير الشعبية اللبنانية، في عملية التلاعب المالي والمضاربة على العملة الوطنية في النصف الثاني من الثمانينات. واصبحت الفوائد مرتفعة جدا وتصعد وتهبط بنسب عالية، مما يجعل معيشة الشعب دائما على كف عفريت. وحينما جرى ربط الليرة اللبنانية بالدولار، وتحقيق بعض الاستقرار في السوق المالية، بدأ، تماما بموازاة سياسة "الاجواء المفتوحة" خارجيا، تطبيق سياسة اقتصادية داخلية تقوم على تشديد الضرائب المباشرة، مما يجعل الشعب اللبناني بأسره في قبضة الاحتكارات المالية الاجنبية والكومبرادور.
في هذا المسار لتطور النظام الرأسمالي اللبناني، كانت دائرة فعل النضال النقابي تضيق، طردا مع ازدياد الطابع المركنتيلي ـ الخدماتي للنظام.
وهذا الواقع الصعب على المستوى الانساني، والحرج على المستوى الوطني والقومي، يقتضي التخلص من العادات القديمة البالية، بالفصل بين العمل النقابي والاجتماعي، من جهة، والعمل السياسي الوطني، من جهة ثانية، واعتبار النضال النقابي والمطلبي نضالا في الدرجة الثانية من الاهمية بالمقارنة مع النضال الوطني العام، السياسي والعسكري. ويقتضي بالتالي العمل بأسرع ما يمكن لأعطاء الطابع الوطني المباشر للنضال النقابي والمطلبي، على قدم المساواة مع النضال الوطني السياسي والعسكري. ذلك اننا اصبحنا نعيش مرحلة طوارئ استثنائية، كما هي الحال في الحروب او ما اشبه، حيث يصبح الاحتكار واخفاء السلع والغلاء الفاحش الخ، جرائم بحق الوطن يعاقب عليها بتهمة الخيانة العظمى.
والان هل هناك جريمة بحق الشعب اللبناني، وبحق الامة العربية قاطبة، اكثر من مؤامرة تفريغ لبنان من مواطنيه الاصليين الوطنيين، وتحويله الى دولة "سكان مهجنين وطنيا"، يتحكم بها الرأسمال الاحتكاري العالمي المرتبط عضويا بالصهيونية العالمية والرجعية النفطوعربية؟
إعادة هيكلة وطنية للعمل النقابي
امام هذا الواقع الشعبي والوطني المرير للبنان، تبرز مسألتان مترابطتان لا يمكن فصل احداهما عن الاخرى، وهما:
الاولى ـ ضرورة اعادة نظر اساسية في البنية النقابية، التي اصبحت في غالبيتها ذات اطر مترهلة ومجيـّرة، والتي تحولت بشكل عام ـ تحت تأثير شتى الإغراءات وآليات عمل نظام الطائف والطائفية ـ من خط دفاع للجماهير العمالية، وناظم للنضالات النقابية والشعبية، الى ضابط لها، لمصلحة أرباب النظام. حيث اننا نرى ان غالبية الهيئات والقيادات النقابية أصبحت لا ممثلة للجماهير العمالية والفلاحية والشعبية عامة، امام الطبقات الرأسمالية والمؤسسات السياسية للنظام، بمعناه الواسع، بل أصبحت القيادات النقابية على الاغلب، بالمقلوب، تمثل النظام والطبقة الكومبرادورية المستغلة وتمثل بالاخص الطبقة السياسية الفاسدة امام العمال والجماهير الشعبية وفي قلب الحركة النقابية والشعبية.
الثانية ـ ضرورة تحريك جميع اشكال النضالات النقابية والشعبية والمطلبية، ليس فقط على قاعدة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بل بالاخص على قاعدة وطنية اساسية وشاملة، تماما كالقاعدة التي قامت عليها المقاومة الوطنية والاسلامية. ذلك أن المظالم والمخاطر التي تتعرض لها اليوم الجماهير الشعبية في لبنان قد تعدت تماما مسألة درجة الاستغلال والظلم بالمعنى الضيق، الاقتصادي والاجتماعي، لتطال، وتهدد من الاساس، التركيبة السكانية ذاتها، والمصير الوطني ذاته، للبنان.
ومثل هذا التوجه يقتضي اعادة النظر في كل اشكال النضال السابقة، وطرح اشكال تنظيم ونضال جديدة تتلاءم مع التحديات القائمة. ويمكن التفكير واستنباط اشكال وبنى عديدة جديدة ومجددة على هذا الصعيد. من هذه الاشكال، التي تعبر عن الضرورات القائمة حاليا، والتي هي طبعا خاضعة للنقاش:
1 ـ ان العمال الذين يعيشون من عملهم اليومي لتحصيل معيشتهم، يصعب عليهم، بشكل عام، الحصول على التحصيل الثقافي الكافي والالمام بكافة معطيات وتعقيدات ومتطلبات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي يرتبط بها النضال النقابي والمطلبي بشكل عضوي. كما يصعب عليهم المتابعة اليومية لضرورات العمل النقابي والشعبي، من الجانب التنظيمي والمالي والاعلامي الخ، ناهيك عن متابعة المضاعفات والتداعيات السياسية، التي لا يمكن فصلها عن النضال المطلبي والنقابي. وهذا ما يجعل العمال الشرفاء عاجزين عن متابعة الامور بكل ابعادها، ويضعهم تحت رحمة قدرات ومصداقية عدد محدود من الكوادر النقابية، من ذوي الوضع المعيشي الحسن والمقبول. وهو ما يفسح المجال لظهور الانتهازية والعناصر العاجزة او المرتشية، ولتسلط "البكوات النقابيين"، المدعومين ماليا، على قيادات الحركة النقابية.
2 ـ ان عدم الشمولية الوطنية للحركة النقابية اللبنانية ذات السمة التريدينيونية الاوروبية كما اسلفنا، تقتضي موضوعيا وجود حركة شعبية وطنية اجتماعية، تهتم بالقضايا النقابية والحياتية والاجتماعية ـ السياسية، الوطنية والقومية معا، وفي الوقت نفسه لا تحل محل أي نقابة او حزب او حركة سياسية، الا انها تكون أوسع من النقابة كانتماء مهني وفئوي، وأوسع من الحزب، كانتماء ايديولوجي او ديني، واوسع من الحركة السياسية، من حيث اهتمامها المباشر والرئيسي بالقضايا النقابية والحياتية والمعيشية.
3 ـ ان مثل هذه الحركة يمكنها ان تضم المثقفين ابناء الفئات الشعبية، الملتزمين بقضاياها، الذين يمكنهم المساعدة في الدراسات والطرح الفكري والنظري والعلمي والمنهجي للقضايا. هذا مع احتفاظ الهيكليات النقابية باستقلاليتها ووضعيتها في قلب تلك الحركة. وربما كانت هذه الفكرة الاساسية تكمن خلف قيام "جبهة التحرر العمالي"، بمبادرة من المعلم الشهيد كمال جنبلاط. ولكن هذه الفكرة، وبعد غياب كمال جنبلاط، لم يجر تطويرها، وبقيت تتراوح بين الحزبية التقليدية والنقابية التريدينيونية التقليدية، ثم تقلصت وذابت تحت تأثير الخط الطائفي الضيق الذي سار فيه وليد جنبلاط خلافا لكمال جنبلاط.
4 ـ تشكيل مؤتمر وطني دائم للقوى الشعبية، يتم انتخابه بالاقتراع السري المباشر لممثلي الفئات الشعبية ذاتها، يكون بمثابة برلمان شعبي حقيقي، يضطلع بدور "برلمان ظل"، ويناقش كل قضايا البلاد، وتكون مناقشاته وقراراته مرآة وبوصلة للتوجهات الشعبية، وعامل ضاغط على برلمان النظام.
5 ـ تشكيل ما يسمى "حكومة ظل"، خصوصا بالنسبة لـ"الوزارات" المختصة بالقضايا الحياتية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية.
6 ـ تبني كل تحرك ونضال نقابي ومطلبي على النطاق الوطني، بحيث لا يعود بالامكان التفرد باي قطاع عمالي وشعبي.
7 ـ درس وممارسة اشكال العصيان المدني، ومنها قطع الطرقات الحساسة، اغلاق المرافق الحساسة، مقاطعة بعض المسؤولين، محاصرة بعض المؤسسات الرسمية، مقاطعة بعض اجهزة الاعلام، محاصرة بعض السفارات الاجنبية الخ.
8 ـ النضال لاجل فرض ضريبة على "مستوردي" ومشغـِّلي العمالة الوافدة، تعود عائداتها الى صندوق نقابي لمساعدة العاطلين عن العمل والقيام بأي مبادرات اخرى على هذا الصعيد.
9 ـ مقاطعة بضائع الدول المعادية، ومقاطعة وتقليص ترويج البضائع الاجنبية الضارة بالانتاج الوطني.
10 ـ اخذ تبرعات طوعية صغيرة من مؤسسات انتاجية وطنية، تعود الى صندوق وطني خاص، وتكون بمثابة حافز لتغطية حملة تشجيع تسويق الانتاج الوطني، وتحسب على اساس التسويق المحقق.
11 ـ دراسة وضع كل سلعة مستوردة، لا تتعارض مع المقاطعة الوطنية، ووضع "ضريبة" شعبية مناسبة عليها، غير الضريبة الرسمية. وتؤخذ "الضريبة" الشعبية مباشرة وتعود لصندوق وطني خاص، لدعم الانتاج الوطني.
12 ـ وأهم ما يجب على الحركة النقابية والشعبية ان تأخذ به وتطوره هو شق الطريق للعمل التعاوني بكافة اشكاله وعلى النطاق الوطني بأسره. وهذا ما سنتوقف عنده على حدة.
خط العمل التعاوني
يوجد في ظروف الرأسمالية خطان سلميان رئيسيان لنضال الطبقات والجماعات الكادحة والشعبية، للدفاع عن حقوقها وتحسين ظروف نمط حياتها وتغييره نحو الافضل:
1 ـ الخط الاول هو ما يمكن تسميته خط الدفاع السلبي، ويتضمن كل اشكال الاحتجاج البسيطة والواسعة، كالمطالبات الفردية والجماعية، والعرائض، والاجتماعات العامة، والمظاهرات، وقطع الطرقات، والاضرابات الجزئية والكلية الخ، وصولا الى العصيانات المدنية والانتفاضات الشعبية العامة، للضغط باتجاه الحصول على تنازلات من قبل اصحاب الاعمال وكافة مستويات السلطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتحسين الاجور وشروط العمل وكافة اشكال الحقوق الاجتماعية والمدنية والثقافية والصحية للعمال والمزارعين والحرفيين والطلاب وكافة فئات المواطنين.
وقد سمينا هذا الشكل النضالي خط الدفاع السلبي للاسباب التالية:
اولا، لانه لا يخرج عن نطاق المطالبة بواسطة الضغط المشروع.
ثانيا، لأن تحقيق المطالب يبقى رهنا بإرادة وموافقة اصحاب الاعمال واصحاب السلطة الاقتصادية والسياسية الخ.
ثالثا، وهو الاهم، لأن هذا الشكل النضالي "لا يتدخل" في نمط واشكال العلاقات الانتاجية والاجتماعية القائمة، بل هو يعمل موضوعيا على "تحسينها"، من خلال التحسين المطلق او النسبي لظروف العمل والاوضاع المعيشية والحياتية للجماهير الشعبية. وهذا هو الهدف الاقصى للنضال المطلبي.
وبمقدار ما ان هذا النضال هو ضروري، لعدم تحويل العمال والجماهير الشعبية الكادحة الى عبيد مستكينين صاغرين، وللحفاظ على كرامتهم الانسانية والحد الادنى الضروري لمعيشتهم، تبعا للظروف التاريخية ومستوى تطور انتاجية العمل، فاننا نلاحظ:
أ ـ ان النظام الرأسمالي الاستغلالي قادر على الالتفاف حول المكتسبات العمالية والشعبية بمختلف الآليات الاقتصادية لعمل هذا النظام: كالاستحواز على ثمرات زيادة انتاجية العمل، والتضخم، والبطالة، والضرائب، والحدود المفتوحة، والدين العام الذي تلقى تبعاته على عامة الشعب وعلى الميزانية العامة للدولة الخ.
ب ـ من اهم هذه الآليات استخدام التحسين النسبي لمستوى المعيشة الى رشوة مستترة ومكشوفة، تتحول بالتدريج الى "ثغرة" تدخل منها الانتهازية والبيروقراطية النقابية واشباهها، لتحويل بعض الاطر النقابية الى اداة بيد السلطة الطبقية والسياسية، بدلا من ان تكون ممثلة للجماهير العمالية والشعبية.
2 ـ الخط الثاني هو ما يمكن تسميته خط الدفاع الايجابي، ويتضمن المبادرة الذاتية من قبل النقابات والقطاعات الشعبية المعنية، لممارسة أشكال من التنظيم الذاتي والتسيير الذاتي، الاجتماعي ـ الاقتصادي الخ، الهادفة الى التحرر الذاتي النسبي، الموضعي والجزئي، من السيطرة الكاملة للعلاقات الاستغلالية السائدة، وإقامة اشكال من العلاقات الانسانية، المستقلة ذاتيا، والمختلفة نوعيا عنها. وتدخل في هذا الخط كل اشكال التعاون الاجتماعي والانساني. وندرجها تحت اسم جامع هو العمل التعاوني.
المقاومة هي "تعاونية" دفاع وطني
وتنشأ ضرورة العمل التعاوني من استحالة تلبية النظام الرأسمالي الاستغلالي لضرورة التحول الى نظام انتاجي "وطني شامل" اي نظام يحقق كافة المطالب التاريخية المشروعة للجماهير الشعبية الكادحة. ويبدو ذلك بشكل خاص فيما يتعلق ايضا بمسألة الدفاع عن استقلال البلاد ومقاومة الاحتلال.
ويتوجب علينا ان نتوقف قليلا عند تجربة المقاومة الوطنية والاسلامية ضد الاحتلال والعدوان وخطر العدوان الاسرائيلي:
منذ نشأة الدولة اللبنانية، دأب النظام المركنتيلي القائم على بناء اجهزة ومؤسسات دولة لبنانية معادية لشعبها وجماهيرها وخانعة تماما امام اسرائيل. ومع ان الدولة اللبنانية انتسبت الى جامعة الدول العربية واعتبرت نفسها دولة عربية وانضمت شكليا الى معاهدة الدفاع المشترك العربية، الا انها ـ اي الدولة اللبنانية ـ عملت على بناء مؤسسات دولة، بما فيها الجيش، لا تلتزم الا شكليا وبالحدود المظهرية الدنيا بمقتضيات الصراع العربي مع اسرائيل. وكان هناك سياسة رسمية تطبق بخبث وباشكال سرية وشبه سرية لابعاد لبنان نهائيا عن المواجهة مع اسرائيل. ومع ان لبنان هو احدى دول المواجهة المحاذية لاسرائيل، ففيما عدا حرب 1948 ـ 1949 فإن لبنان الرسمي لم يشارك في اي من الحروب العربية ـ الاسرائيلية. وكان جميع انصار النظام المركنتيلي اللبناني، في السلطة وخارجها، يتخذون من الهزائم التي كانت تحل بالجيوش العربية دليلا على "حكمة" الدولة اللبنانية في "عدم الانزلاق" الى الحرب مع اسرائيل، وان هذا الموقف هو الذي يحمي لبنان من ان يحل به ما حل ويحل بالدول العربية التي "تنزلق" الى الحرب مع اسرائيل. وكان ارباب النظام اللبناني يرفعون شعارات مثل "لبنان قوته في ضعفه" وحتى "حياد لبنان" في الصراع العربي ـ الاسرائيلي. وعند وقوع اي حرب عربية ـ اسرائيلية او نشوب اي ازمة عسكرية تنذر بوقوع حرب على الحدود العربية الاسرائيلية، كانت الاجهزة الامنية اللبنانية تشن حملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كتدبير احترازي لمنع اي تحرك شعبي فلسطيني يمكن ان يجد له صدى لدى الجماهير الشعبية الوطنية اللبنانية. وكان ذلك يجري بصمت وبدون اي ردة فعل وطنية لبنانية.
وللاسف انه طوال 30 سنة بعد نشوء اسرائيل فإن القوى الوطنية اللبنانية ذاتها كانت تكتفي بتوجيه الانتقادات للنظام اللبناني والقوى السياسية اليمينية اللبنانية التي تسير في ركاب الغرب الامبريالي، ولكنها هي ذاتها ـ اي القوى الوطنية اللبنانية ـ لم تهيئ نفسها بشيء لمواجهة العدوان الاسرائيلي عسكريا، اي ككفاح شعبي مسلح. وفي احسن الحالات كانت القوى الوطنية اللبنانية تقوم ببعض المظاهرات الشعبية تأييدا للقضية الفلسطينية.
وقد ادى كل ذلك الى ظهور عدد من المظاهر السياسية والعسكرية المتناقضة في لبنان:
ـ1ـ من جهة اولى اندفعت الجماهير الشعبية الوطنية اللبنانية، ولا سيما في المناطق ذات الغلبة الاسلامية، الى تأييد عارم للمقاومة الفلسطينية التي بدأت نشاطها العسكري في مطلع سنة 1965، وكان هذا الاندفاع ردا عفويا تلقائيا طبيعيا على تقاعس النظام في دعم القضية الفلسطينية وابتعاد لبنان الرسمي عن المشاركة مع البلدان العربية الاخرى، ولا سيما سوريا ومصر، في المواجهات مع اسرائيل. وبعد مجزرة ايلول 1970 في الاردن وابعاد قوات منظمة التحرير الفلسطينية الى لبنان، تحولت قوات منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات الفلسطينية عامة وخصوصا فتح الى قوة كبرى على الساحة اللبنانية، وانضوت القوى الوطنية اللبنانية موضوعيا وبحكم الضرورة تحت قيادة فتح ومنظمة التحرير، واصبحت كلمة القوى الوطنية اللبنانية في الدرجة الثانية من الاهمية خلف قيادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، خلافا للمنطق السياسي الطبيعي حتى في الحسابات القطرية.
ـ2ـ بنتيجة ضعف النظام اللبناني بسبب فقر "رصيده العربي" في مواجهة اسرائيل، وبسبب التبعية والذيلية تجاه القيادة الفلسطينية التي فرضت فرضا على القوى الوطنية اللبنانية تحول لبنان الى معسكر كبير للمقاومة الفلسطينية وقيادتها العرفاتية. وهذا كله جعل لبنان مكشوفا وهزيلا تجاه اي عدوان اسرائيلي للاسباب التالية:
أ ـ ان الجيش اللبناني كان يحضر كقوة بوليسية لحماية النظام اللبناني من الجماهير الشعبية اللبنانية. ولم يكن يحضر، لا كعقيدة قتالية ولا كنوعية وكمية التسلح، لمواجهة اسرائيل والدفاع عن الاراضي اللبنانية ضد العدوانات الاسرائيلية المتكررة وخطر العدوان الاسرائيلي الدائم.
ب ـ ان تحويل لبنان الى "معسكر فلسطيني" كبير كان يمثل عنصر استثارة واستفزاز كبير لاسرائيل. ولكنه في الوقت نفسه لم يكن يشكل اي خطر حقيقي على اسرائيل. ذلك ان الخط العريض للمقاومة الفلسطينية، اي باستثاء تنظيم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" بقيادة د. جورج حبش و"حركة التحرير الشعبية العربية" بقيادة ناجي علوش، لم يكن يشكل خطرا عسكريا فعليا وقوة مواجهة عسكرية فعلية بوجه اسرائيل، لان الطابع الغالب على قوات منظمة التحرير الفلسطينية وقوات فتح كان هو الطابع الاستعراضي والضجيجي المؤهل للقيام ببعض العمليات الازعاجية لاسرائيل ليس اكثر. وعندما كان الجيش الاسرائيلي يشن هجماته كان سرعان ما يكتسح امامه قوات المقاومة غير المعدة إعدادا كافيا، لاسباب لسنا في صدد مناقشتها هنا. وهكذا استطاع الجيش الاسرائيلي في عدوان اذار 1978 احتلال الشريط الحدودي اللبناني جنوب الليطاني بعمق 10 ـ 20 كيلومترا. وتم الاحتلال بسهولة كبيرة من وجهة النظر العسكرية. ومع ذلك اعتبرت قيادة منظمة التحرير، وبدون ادنى خجل، انها حققت "انتصارا كبيرا" بتوقيع اتفاق وقف اطلاق النار بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية الامم المتحدة باعتبار ان ذلك يمثل "اعترافا دوليا" بمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان احتلال الشريط الحدودي بمثابة كارثة على سكان الجنوب اللبناني خاصة وعلى لبنان عامة. وفشلت منظمة التحرير الفلسطينية في تنظيم مقاومة شعبية حقيقية للاحتلال. وفي عدوان حزيران 1982 وصلت القوات الاسرائيلية في غضون ثلاثة ايام فقط الى مشارف بيروت. وكانت السعودية والدول العربية الاخرى المتواطئة تعتقد ان القوات الاسرائيلية ستصل فقط الى عمق 40 كيلومترا، اي مسافة رماية الصواريخ التي كانت تمتلكها المقاومة. ولكن اسرائيل بقيادة مجرم الحرب أرييل شارون صممت على احتلال بيروت وتصفية قوات منظمة التحرير لفرض شروط "سلم" مذلة على الشعب الفلسطيني. وامام هذا الواقع اضطر ياسر عرفات (ومرجعيته السعودية) للموافقة على تسليم قيادة الدفاع عن بيروت لـ"المعارضة" الفلسطينية. فصمدت بيروت اكثر من ثمانين يوما لم يستطع خلالها الجيش الاسرائيلي التقدم شبرا واحدا على اي محور، بالرغم من القصف الوحشي من البر والبحر والجو، والحصار المعيشي وقطع الماء والكهرباء، والحرب النفسية. واخيرا تم الاتفاق على انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، واعلان مدينة بيروت مدينة مفتوحة. وحينما ازيلت الحواجز وحقول الالغام من حوالى بيروت ومداخلها اقتحم الجيش الاسرائيلي وحلفاؤه الخونة من قوات سعد حداد والقوات اللبنانية وحزب الكتائب، ـ اقتحموا بيروت غدرا وخلافا للاتفاق الدولي.
وبخروج قوات منظمة التحرير من بيروت تحررت القوى الوطنية اللبنانية من الوصاية العرفاتية. وبوجود الاحتلال الاسرائيلي لبيروت والجبل والبقاع الغربي والجنوب، وضعت القوى الوطنية اللبنانية امام مسؤولياتها الوطنية التاريخية للدفاع عن الارض والشعب ضد الاحتلال الاسرائيلي الغاشم.
وبطبيعة الحال فإن النظام اللبناني، بكل مؤسساته بما فيها الجيش، لم يكن في وارد مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، بل كان يسعى الى خنق روح المقاومة لدى جماهير الشعب اللبناني، والى السعي للتفاهم والصلح مع اسرائيل، وهو ما تبدى في ما سمي "اتفاق 17 ايار" الذي لم يجد طريقه الى التنفيذ بفضل مقاومة القوى الوطنية اللبنانية. واقصى ما كان يطمح اليه النظام اللبناني هو ان تنفذ اسرائيل الانسحاب من الاراضي اللبنانية بموجب قرارات تصدر عن الامم المتحدة، كالقرار 425 الذي صدر في 1978. ولكن اسرائيل لم تكتف بعدم تنفيذ هذا القرار بل عمدت الى اجتياح لبنان واحتلال العاصمة بيروت سنة 1982. وفي هذه الظروف القاسية ظهرت "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" بمبادرة من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي، كما ظهرت "المقاومة الاسلامية" بقيادة حزب الله الشيعي. ونورد هنا ملاحظتين هما:
الاولى ـ ان "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" قد توقفت في اواخر الثمانينات عن النشاط العسكري ثم اختفت عن المسرح؛ في حين استمر حزب الله في العمل المقاوم حتى الان.
والثانية ـ الطابع الديني المذهبي (الشيعي) لحزب الله، عماد "المقاومة الاسلامية".
ولكننا لسنا هنا في صدد البحث في هذه الشؤون. وما يهمنا الاضاءة عليه هو ان ظهور المقاومة الشعبية المسلحة ضد الاحتلال الاسرائيلي، بمعزل عن، وضد، النظام الكياني اللبناني، يمكن اعتباره اهم تطور سياسي في تاريخ لبنان الحديث، خصوصا بعد ان نجحت المقاومة في طرد الاحتلال من بيروت اولا، ثم من الجبل وصيدا، ثم من الجنوب والبقاع الغربي (باستثناء مزارع شبعا) في ايار سنة 2000. ثم استطاعت المقاومة كسر شوكة الجيش الاسرائيلي ومنعه من تحقيق اهدافه باحتلال الشريط الحدودي حتى الليطاني من جديد وتحطيم قوات حزب الله في المنطقة التي كان يزمع احتلالها، سنة 2006.
وما نريد التأكيد عليه هو ان المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية انما ظهرت بمبادرة واستعدادات ذاتية من قبل القوى الشعبية التي قامت بها. ومن هذه الزاوية نظر يمكن اعتبار المقاومة حركة تحرر ذاتي شعبية على قاعدة مبدأ "التسيير الذاتي" الجماهيري، وهو المبدأ ذاته الذي ندعو الى تطبيقه في العمل النقابي والشعبي.
وربما يقول قائل ان المقاومة تلقت مساعدات من قبل "الاتحاد السوفياتي" سابقا (فيما يخص "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية") ومن النظام السوري ومن منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ايران (فيما يخص "حزب الله").
ولكن هذا لا يغير في جوهر الموضوع شيئا. اذ ان العامل الاساسي في هذا الصدد هو تنظيم المقاومة الشعبية المسلحة بالاعتماد على التحرك الذاتي والقوى الذاتية لتنظيم المقاومة، مما يختلف جوهريا عن الجيوش النظامية. ونقدم هنا الملاحظتين التاليتين:
اولا ـ ان الانظمة "الوطنية" العربية (وخاصة النظامين المصري والسوري) قد تلقت مساعدات عسكرية ولوجستية واقتصادية هائلة من "الاتحاد السوفياتي" سابقا، ومن ايران الاسلامية (فيما يخص النظام السوري) اكثر بما لا يقاس مما تلقته المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان. وبدون التقليل من اهمية هذه المساعدات فإنها لم تجعل تلك الانظمة الوطنية قادرة على مجابهة اسرائيل وكسر شوكتها بمثلما فعلت المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان.
ثانيا ـ ان هذه الانظمة فشلت في تحرير الاراضي المحتلة بالرغم من ضخامة جيوشها، وبالرغم من ضخامة المساعدات التي تلقتها.
في حين ان المقاومة الشعبية المسلحة في لبنان (الوطنية العلمانية والاسلامية)، وباعداد محدودة من المقاتلين الشجعان (لا تقارن بالجيوش العرمرمية لمصر وسوريا) وبقدرات تسليحية ولوجستية محدودة جدا (لا تقاس ايضا بالتسلح الهائل لجيشي مصر وسوريا) تمكنت ـ اي المقاومة الشعبية المسلحة في لبنان ـ من تحقيق النصر على اسرائيل.
ولم تنتظر القوى الوطنية العلمانية والاسلامية اللبنانية، النظام اللبناني، كي يقاوم اسرائيل. ولو فعلت ذلك، كما هو الحال بالنسبة للقوى الوطنية الشعبية المصرية والسورية لكان مصير لبنان ان يتحول الى محمية اسرائيلية كما حولت مصر، او لبقي الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان حتى اليوم كما بقي احتلال الجولان السوري حتى اليوم.
وهذا برهان تاريخي ساطع على ان "التحرك الذاتي" الجماهيري له ديناميكية وميزات خاصة تمكنه من تجاوز كل الصعاب والانتصار على كل الاعداء الطبقيين والوطنيين، بمعزل عن، بل وضد، النظام السياسي والطبقي القائم.
الضرورة التاريخية لوجود الحركة التعاونية
واذا كان بالامكان اعتبار المقاومة الشعبية المسلحة شكلا من اشكال "التعاون الشعبي" في الكفاح المسلح ضد الاحتلال وضد القوى الرجعية والعميلة في الداخل اذا اقتضت الحاجة، فإن خط "العمل التعاوني" النقابي والشعبي هو ايضا اشبه شيء بـ"المقاومة الشعبية" في الاطار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي.
وفي حال شق "العمل التعاوني" طريقه، فإنه سيلقى الدعم والمساندة والمساعدة من مختلف الفئات والاطراف والمؤسسات الدولية والدول الصديقة او ذات المصلحة. وهو قادر على تحرير الجماهير العمالية والشعبية من الكثير من المظالم التي تنيخ على كاهلها في الوقت الراهن.
وبمعزل عن اي تعصب وانغلاق فئوي وحزبي ومذهبي وطائفي، فإنه من المهم جدا ان تقوم علاقة عضوية، فكريا وسياسيا واجتماعيا وعملانيا وتنظيميا، بين المقاومة الشعبية المسلحة وبين العمل الشعبي التعاوني، باعتبار ان المقاومة الشعبية المسلحة هي المظهر الرئيسي او التجسيد الرئيسي لمبدأ التحرير الذاتي او الحركة الذاتية او التسيير الذاتي للجماهير، مبدئيا، وباعتبارها المصدر الاول والرئيسي لقوة حركة التسيير الذاتي الجماهيري، عمليا. والتلاحم العضوي بين المقاومة الشعبية المسلحة وبين الحركة الشعبية التعاونية سيعطي الحركة النقابية ـ التعاونية ـ الشعبية قوة وزخما كبيرين، لا تستطيع اي قوة رجعية، داخلية او خارجية، ان تقف بوجهها، كما يمنحها رصيدا شعبيا داخليا وخارجيا لا يتمتع به اي تنظيم حزبي او نقابي ايا كان.
كما ان الارتباط بالمقاومة هو ضروري ايضا دفاعيا، لان الطبقة الكومبرادورية ومعها القوى العميلة والمخابرات المعادية لا يمكن ان تترك بسلام الحركة التعاونية ان تعمل بحرية، بل هي لن تكتفي بمحاربتها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، بل وستتآمر عليها امنيا وتعمل على تخريبها بالاغتيالات والتفجيرات والاعمال التخريبية الاجرامية الملموسة. وفي مثل هذه الحالات من الضروري الرد على السلاح بالسلاح.
وبالارتباط العضوي بين المقاومة وبين الحركة التعاونية الشعبية يتولد لدينا تنظيم شعبي متكامل يعتمد مبدأ التسيير الذاتي الجماهيري وينقسم الى جناحين يكمل كل منهما الآخر، دون الخلط الميكانيكي بينهما وهما:
اولا ـ الجناح العسكري، المتمثل بالمقاومة، الذي يحمي استقلال البلاد، ويقف بوجه العدوان الاسرائيلي والامبريالي، كما بوجه المؤامرات الرجعية والعميلة الداخلية ضد القوى الوطنية الشعبية، وخاصة الحركة التعاونية.
وثانيا ـ الحركة التعاونية الشعبية التي يمكن ان تتطور لتصبح اشبه شيء بنظام اجتماعي بديل للنظام المركنتيلي السائد، حيث يتوفر لهذا النظام الشعبي نوع من الاكتفاء الذاتي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، كما انه يمكنه السيطرة تدريجيا على مؤسسات الدولة المركنتيلية عن طريق العملية الانتخابية الدمقراطية الشكلية ذاتها.
ظاهرة تاريخية
ويشمل العمل التعاوني أشكالا شديدة التنوع، ضاربة في عمق التاريخ، منها على سبيل المثال لا الحصر: الاوقاف والاخويات والرهبانيات والجمعيات الخيرية والانسانية، وكافة اعمال الخير التي يقوم بها الناس بشكل فردي او جماعي، العونات في القرى والارياف، المشاعات، الاعمال التنموية والاجتماعية التي تنفذها البلديات، الضمانات الاجتماعية الخ. وكل هذه الاشكال تقوم على حد ادنى او اعلى من التعاون.
واخيرا لا آخر هناك العمل التعاوني، بمعناه البنيوي العام، المؤسسي والتنظيمي، الذي يشمل كل اشكال النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، التي توجد في المجتمع الرأسمالي المعاصر.
نرى مما تقدم، وخلافا لبعض الانطباعات السطحية، ان العمل التعاوني المعاصر، لا يأتي "من فوق"، من البنية الفوقية للمجتمع، بشكل اجتهاد او اكتشاف او طرح، حزبي او عقائدي او ديني معين. بل هو ظاهرة اجتماعية عامة ضرورية، تمد جذورها في الثقافة الشعبية بمداها التاريخي، وتستمد قواها من الجماهير المعنية، "الواهبة" و"المساهمة" و"المنتفعة"، التي تحركها نوازع غير استغلالية. وهو بالتالي الشكل الارقى الذي يكمل ويتوج جميع اشكال التعاون الانساني الاخرى، وقد جاء نتيجة تجربة انسانية تاريخية طويلة. وتبنـّي خط العمل التعاوني، من قبل مختلف الافراد والفئات والمنظمات النقابية والاجتماعية والسياسية، انما هو تعبير عن هذه الظاهرة.
وفي الاساس تعود هذه الظاهرة بجذورها الى عصر المشاعية البدائية، التي كانت فيها كل وحدة انسانية تعيش كعائلة واحدة، والتي تمخضت عن الانظمة الطبقية، كشكل تطوري ملتبس ومتناقض، ذي جوانب سلبية وايجابية، وأساسه الايجابي هو الخروج على البدائية وليس على المشاعية. إذ أن المشاعية تبقى هي الخلفية الأصلية الوجودية، في كل علاقة بين الناس، ايجابية أو سلبية. وهذه الحقيقة الوجودية تتأكد بذاتها، أي بالاخاء والعلاقات غير الاستغلالية للانسان، كما بنقيضها، أي بالعداء والعلاقات الاستغلالية للانسان. وكل فحوى تاريخ المجتمع البشري هو أنه تاريخ نضال لـ"العودة" الى هذا الاصل، او هذه الـ"جنة عدن" المفقودة، بشكل لا غرائزي ـ بدائي، بل عقلي ـ مناقبي.
ولكن بالطبع، وعملا بسنـّة التطور، فإن العمل التعاوني قد تبلور واتخذ فكريته الاكثر تقدما، بالارتباط مع النضال النقابي والاجتماعي والفكر الاشتراكي، ومع الحركة العمالية التي طرحته. ولا بد ان نلاحظ هنا ان المفردات ـ المدلولات: اجتماعي، تعاوني، اشتراكي، تنبثق في ذاتها من المفهوم الاجتماعي ـ التعاوني المشترك.
العمل التعاوني بمواجهة الانحرافات
ان العمل التعاوني، باعتماده على المبادرة الذاتية للجماهير، يمثل طريقة ايجابية رئيسية لمواجهة الانحرافات والثغرات، الدكتاتورية والفساد والمحسوبية الخ، التي ظهرت في الانظمة الاشتراكية وانظمة الحكم الوطنية بعد تحقيق الاستقلال. اذ انه يمتاز بالخصائص التالية:
أ ـ انه لا يشترط مسبقا اي ايديولوجية فلسفية او دينية او انتماء سياسي او اتني الخ، كما هي الحال بالنسبة للحزب والسلطة الخ. وهو يفسح المجال لقيام اشكال تعاونية مختلفة يقوم بها على قدم المساواة، وبدون تمييز، اشخاص من لون او انتماء واحد، او من انتماءات متعددة. وهذا ما ينسجم تماما مع التعددية الكبيرة، الاتنية والعقائدية والدينية والسياسية، الموجودة في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة سابقا، كلبنان .
ب ـ انه يتجاوز موضوعيا مسألة نظام الحكم، والنظام الاجتماعي: ديني، علماني، اشتراكي، قومي، الخ. كما يتجاوز مسألة السلطة والمعارضة. حيث ان المحور الاساسي الذي يقوم عليه، ليس محورا سياسيا يهدف الى قلب نظام الحكم واستلام السلطة واقامة سلطة جديدة الخ، بل هو محور اجتماعي ـ اقتصادي انساني، يهدف الى تحسين مستوى المعيشة وطبيعة العلاقات الاجتماعية، بصرف النظر عن هوية السلطة. وامكانية اختلافه او عدم اختلافه مع السلطة لا تخرج عن هذا المحور.
ج ـ انه يحقق شرط تحصين الاستقلال الوطني "على الارض"، من خلال تأطير الجماهير الشعبية في مؤسسات ومنظمات تعاونية، تصبح بمثابة تجسيد حي، دمقراطي ومباشر، لهذا الاستقلال.
د ـ انه يحقق الهدف الجوهري، وليس الشكلي فقط، لحركة التحرر الوطني، وهو التآخي الوطني بين المواطنين المتحررين من نير الاستعمار الاجنبي، اي تحقيق المساواة والتعاون فيما بينهم، وليس استبدال النير الاجنبي بنير "وطني"، يصب في الحساب الاخير في مصلحة القوى الخارجية المعادية. والاستغلال الاقتصادي ـ الاجتماعي، والتسلط السياسي ليس سوى شكل من اشكال هذا النير "الوطني"، ايا كانت الادعاءات الايديولوجية والدينية والوطنية للسلطة المستبدة القائمة.
"رأسمالية شكلية" غير استغلالية
ولتبيان طبيعة العمل التعاوني واهميته، نجد من الضروري اجراء مقارنة بين المشروع التعاوني والمؤسسة الرأسمالية.
ان هاتين الفعاليتين تتشابهان من حيث آلية النشاط القائم، سواء كانت في قطاع الانتاج او الخدمات او التسويق الخ. والاختلاف بين الاثنتين هو في نمط الملكية، وطبيعة العلاقة الداخلية غير الطبقية وغير التمييزية، والهدف الانتفاعي المشترك غير الاستغلالي.
ونقدم مثالا بسيطا على ذلك، من ضمن التجربة اللبنانية ذاتها، في ما سمي "التعاونية الاستهلاكية". ونجري مقارنة بينها وبين اي شركة مساهمة للتسويق:
ـ حتى لو افترضنا نظريا ان رأسمال الشركة المساهمة يتألف كله من اسهم رخيصة، عشرة دولارات مثلا للسهم، عائدة لمساهمين صغار لا تتجاوز ملكية كل واحد منهم السهم الواحد؛ وحتى لو طبقت هذه الشركة سياسة دائمة للبيع المخفض على جميع الاصناف، للمساهمين وغير المساهمين، فإن الهدف الرئيسي للشركة، كشركة رأسمالية، يبقى هو الربحية، او الحصول على الربح العام للشركة، الذي يتأتى منه الربح الفردي للمساهمين. أي ان هذا الهدف يصب في الاتجاه ذاته للعلاقات الاستغلالية الرأسمالية السائدة، بل وتثبيت هذا الاتجاه بجعله اكثر "شعبية".
ـ أما التعاونية الاستهلاكية، وحتى لو كان لبعض مساهميها اكثر من سهم، ولو تفاوتت نسبة ملكية الاسهم بين المساهمين، فإن هدفها الرئيسي يكون ليس تحقيق الربح العام او الفردي للشركة وللمساهمين. بل العكس تماما. اي ان هدف التعاونية هو كسر هذا القانون، اي قانون الربحية، بالسير في الاتجاه المعاكس لنمط العلاقات الاستغلالية السائدة، والتحرر الذاتي النسبي والجزئي من السيطرة الكلية والعمياء لتلك العلاقات. ويتم ذلك ليس عبر ملكية الاسهم، بل عبر تطبيق مبدأ التعاون فيما بين المساهمين من جهة، وفيما بينهم وبين المجتمع الذي توجد فيه التعاونية، وبالاخص المتعاملين المباشرين معها، من جهة ثانية.
وهذا لا يعني ابدا ان لا تعمل التعاونية بريعية، وأن لا تتطور وتضاعف رأسمالها وعدد المساهمين فيها، وان لا يكون هناك حوافز خاصة مختلفة للمساهمين، بالاضافة الى البيع المخفض الذي يستفيدون منه كغيرهم.
ولكن يبقى هناك اختلاف جوهري تماما بين ان يكون الهدف الرئيسي للتعاونية هو تحقيق الربح الفردي، كأي شركة استثمارية، تقوم اساسا على استغلال الرأسمال للانسان، أو ان يكون هدفها هو تحقيق التعاون، الذي ينفي مبدأ الاستثمار، ويقوم اساسا على استغلال الانسان للرأسمال.
وبالمناسبة، ان الخلط بين مفهوم التعاونية ومفهوم الشركة المساهمة، هو الذي يقف وراء التشوه الذي حصل في تجربة التعاونيات الاستهلاكية في لبنان، والفضائح التي جرت فيها. وهنا تتحمل المراجع الرسمية والنقابات المسؤولية المباشرة عما جرى. ولكن المسؤولية غير المباشرة، والاساسية في رأينا، فتقع على عاتق المساهمين انفسهم، بسبب الجهل، من جهة، والثقة الساذجة، من جهة اخرى، بالقيادات النقابية، والعقلية "التمثيلية" (شبه البرلمانية) التي لا يمسك فيها الناس المعنيون زمام امورهم بأيديهم، بل يسلمون هذه الامور لـ"ممثلين" عنهم، الذين يصبحون هم الماسكين بزمام الامور بمعزل عن اصحاب القضية المعنيين، وينطبق على بعض هؤلاء "الممثلين" احيانا مثل "حاميها حراميها".
أشكال التعاونيات
ان الشكل شبه الوحيد للعمل التعاوني في لبنان كان التعاونيات الاستهلاكية. وبصرف النظر عن الفشل الكبير الذي طال هذه التجربة للاسباب التي ألمحنا اليها سابقا، والتي حرفت هذه التعاونيات عن مسارها السليم وشجعت السرقات والاختلاساست و"السمسرات" فيها، فحتى لو ان هذه التعاونيات سارت كما يجب، فإنها تقتصر فقط على قطاع اقتصادي واحد هو قطاع البيع بالمفرق. اي انها تدخل في قطاع التوزيع، وفي جزء واحد منه فقط، ولا تدخل في القطاعات الاقتصادية الاخرى كالانتاج الحرفي والصناعي والزراعي والمواصلات والتسليف الخ.
هذا في حين ان العمل التعاوني هو من حيث المبدأ نمط حياة متكامل، مؤهل لان يشمل جميع القطاعات الاقتصادية على اختلافها، وجميع اشكال الحياة الاجتماعية والثقافية والانسانية بكل غناها وتشعباتها، وذلك بصرف النظر عن اي ايديولوجيا او عقيدة دينية او غير دينية او افكار سياسية مسبقة الخ.
ونتوقف عند أشكال رئيسية للتعاونيات:
التعاونيات الانتاجية
ان أهم ما يمكن ان يشمله العمل التعاوني هو قطاع الانتاج. وتنبع اهمية هذا القطاع ليس فقط من الجدوى الاقتصادية المباشرة، على المساهمين التعاونيين وعلى المتعاملين مع التعاونية الانتاجية وحسب، بل كذلك من الجدوى الاقتصادية والاجتماعية غير المباشرة، على المجتمع بأسره، من حيث ارساء مداميك اولى لنمط علاقات انتاج مختلفة، اي علاقات انتاج غير استغلالية.
فالاساس في كل نظام اجتماعي، ايا كان، هو عملية الانتاج. وكل سلسلة العلاقات الاقتصادية ـ الاجتماعية، بدءا من التمويل وانتهاء بالتوزيع، انما تنطلق وتصب في الحلقة المركزية التي يمثلها الانتاج. وهذا ما يعطي العمل التعاوني في حقل الانتاج اهميته الخاصة، لانه يعطي التعاونيين، ضمن نطاق التعاونية ومحيطها الاجتماعي الحيوي، القدرة على التعاطي مع سلسلة كاملة من العلاقات. ولادراك الاهمية الاستثنائية للتعاونيات الانتاجية، يكفي ان نقارن بينها وبين التعاونيات الاستهلاكية. فالثانية ترتبط بقطاع تحقيق القيم المنتـَجة سابقا، التي لا يد لها فيها، ولذلك فهي تبقى تحت تحكم آليات العمل السوقية. اما الاولى، اي التعاونيات الانتاجية، فترتبط بقطاع الانتاج اي خلق قيم جديدة، بطريقة انتاجية غير الطريقة السائدة، وهي تضيف القيم المنتـَجة، اي السلع، الى السوق. ويمكن ان تكون التعاونيات الانتاجية: صناعية، حرفية، زراعية، مواصلاتية، سياحية، صحية، تعليمية، تسليفية وبنكية الخ.
ونلخص فيما يلي النتائج الايجابية المباشرة للتعاونيات الانتاجية:
1 ـ تأمين فرص عمل جديدة، لا تستطيع تأمينها علاقات الانتاج الرأسمالية السائدة، التي تقوم على مبدأ الربحية وتعمل حكما بموجبه. ومن ثم المكافحة الجزئية الايجابية للبطالة، الظاهرة و الكامنة.
2 ـ تأمين مداخيل للعاملين في التعاونية تتناسب مع المستوى المعيشي السائد. ومن ثم توسيع دائرة الاستهلاك، والدورة المالية، بمقدار هذه المداخيل.
3 ـ تخفيض سعر السلع المنتـَجة، ذات المواصفات والجودة ذاتها، او حتى بمواصفات افضل.
4 ـ خلق علاقات انتاج جديدة داخل المؤسسة، حيث يوجد ادارة عمل، ولكن لا يوجد رب عمل وعمال، بل الجميع هم رب عمل وعمال في نفس الوقت، تماما كأي عائلة تعمل سوية في مشغل او مزرعة الخ. حيث تصبح مسألة ادارة العمل مسألة ادارية ـ تقنية ـ محاسباتية وحسب.
5 ـ اكتساب تقنية ادارة الاعمال بروح وهدف تعاونيين، من تأسيس التعاونية الى تسوّق الخامات، وصولا الى تسويق السلع المنتـَجة.
تعاونيات المقاولات
وتشمل جميع اشكال تأمين العمال والموظفين فرديا وجماعيا، وتنفيذ الاعمال المؤقتة والمستمرة.
ويمكن اخذ فكرة عن هذه التعاونيات من موضة مكاتب الاستخدام التي انتشرت في لبنان مع انتشار آفة اليد العاملة الوافدة.
حيث يمكن لأي نقابة، او اي مجموعة اخرى منظمة ان تؤسس تعاونية في اي حقل عمل كان: البناء، النقل والشحن، الحدادة، المطاعم والفنادق والمسابح، الصناعات الغذائية، الصناعات الكيميائية، النسيج الخ الخ. فيتم تسجيل العمال والمهندسين والاختصاصيين لدى اللجنة التعاونية المختصة، التي تدخل في اتصال مع سوق العمل، وتقوم بالتعاقد مع ارباب العمل لتأمين العمال والاختصاصيين المطلوبين، ضمن الشروط الاقتصادية والقانونية السائدة.
وطبعا ينبغي وضع لوائح وتنظيمات واسس واتفاقات مناسبة لمثل هذه التعاونيات، التي من شأنها تنظيم سوق العمل، وتقديم الانتاج الافضل لارباب العمل، وتحصين سوق العمل تجاه المزاحمة غير المشروعة المتمثلة بالعمالة الوافدة غير المشروعة.
تعاونيات الخدمات
وتشمل قطاعات المطاعم والفنادق والمسابح وما اشبه، وكذلك الخدمات المهنية الحرة والحرفية كالمحاماة، والمواصلات، وصالونات الحلاقة الخ الخ. حيث يمكن انشاء مؤسسات تعاونية جديدة، او تحويل مؤسسات قائمة الى تعاونيات، بصيغ مختلفة يتفق عليها اصحاب العلاقة، باشراف النقابات المعنية. وفي بلد كلبنان، يمكن لمثل هذه التعاونيات ان تلعب دورا مهما جدا في تقديم خدمات جيدة باسعار مخفضة، لا سيما للطبقات الوسطى والفقيرة من اللبنانيين، وكذلك للمصطافين والسياح العرب والاجانب العاديين، الذين يمثلون الجمهور الاكبر من السياح.
التعاونيات المالية والعقارية والاسكانية
وتشمل كل اشكال الادخار، وتلقي الهبات والمعونات، وصناديق التعاضد، والتسليف بفوائد مخفضة او بدون فوائد، والتوظيف، وشراء العقارات واستثمارها الخ، وحتى الشركات القابضة، وهو كله يتطلب وضع اسس العمل الملائمة، المستندة الى الخبرة والحاجة، بشرط الارتباط العضوي بالناس المعنيين تحديدا.
ونتوقف هنا عند شكل متطور من التعاونيات وهو صندوق او صناديق التوظيف التعاوني. وهذا يعني ان تعمد النقابة المعينة او مجموعة نقابات معينة الى تمويل صندوق لتوظيف الاموال. ويقوم هذا الصندوق باستثمار الاموال التي بحوزته في انشاء مؤسسات انتاجية او استهلاكية او عقارية جديدة او بالمساهمة في مؤسسات قائمة والحصول على الارباح منها لصالح الصندوق. فإذا أنشأ الصندوق مؤسسات جديدة تكون مؤسسات تعاونية. واذا ساهم في مؤسسات رأسمالية خاصة قائمة فإنه بمساهمته سيشارك بهذه الدرجة او تلك في ادارتها، فيستخدم صلاحيته كمساهم في توجيه سياستها الانتاجية والتسويقية الخ. لصالح التوجهات التعاونية. ولكن تبقى المهمة الاساسية لهذا الصندوق هو انشاء التعاونية الجديدة التي تقوم كلية على الاسس التعاونية غير الهادفة الى الربح.
تعاونيات المواصلات
وتشمل كل انواع المواصلات البرية والبحرية والجوية. وتقوم اساسا على العاملين السابقين والحاليين في هذه القطاعات، بالاضافة الى اي عاملين تعاونيين جدد. ويجري وضع انظمة مختلفة لهذه التعاونيات. فبعضها قد يكون تعاونيا كلية من حيث ملكية وسائل النقل، ومن حيث العمل التعاوني. وبعضها الاخر يقوم على اشكال مختلفة من التوفيق بين الملكية الخاصة وبين العمل التعاوني الخ. وتلعب هذه التعاونيات دورها في تحديد اسعار المحروقات للاستهلاك العام، وكذلك في تحديد اسعار ونوعية الخدمات. واحد اهم نشاطات هذه التعاونيات هو النقل الانتاجي، ولا سيما من المزارعين التعاونيين، والمزارعين بشكل عام، الذين يعتبر النقل عبءً ثقيلا بالنسبة لهم.
التعاونيات التسويقية
وهي تختص بتجارة الجملة ونصف الجملة ومن ضمنه الاستيراد والتصدير. فتشتري بالدرجة الاولى من التعاونيات الانتاجية، ومن ثم من جميع المنتجين الاخرين حسب حاجة السوق والمواطنين. كما تعمل على تصدير المنتوجات الوطنية، التعاونية وغير التعاونية، الى الاسواق الخارجية. وتحدد اسعارا تعاونية مدروسة غير استغلالية في السوق الداخلي.
التعاونيات الاجتماعية والصحية
وهي متنوعة جدا، كالمستوصفات والعيادات والصيدليات والمستشفيات التعاونية، والمؤسسات التعاونية التي تتولى او تكمل معاملات الضمان الاجتماعي والصحي وضمان الامومة وضمان الشيخوخة الخ، مثلما تفعل بعض شركات التأمين الحالية، ولكن على اساس المبدأ التعاوني، الذي لا يهدف الى الربح بحد ذاته. واحد اشكال هذه التعاونيات هو تأمين بدائل عن الخادمات والحاضنات الخ. بطريقة انسانية اجتماعية. وتأمين اعطاء الدروس الخصوصية، وزيارة المرضى ولا سيما الفقراء، وزيارة المساجين، وايجاد اشغال منزلية لبعض ربات البيوت الخ الخ.
التعاونيات التعليمية
وهي يمكن ان تشمل جميع المراحل التعليمية، بدءا من دور الحضانة حتى الجامعة الشعبية بكل فروعها الممكنة. ومن شأنها قطع الطريق على المؤسسات التعليمية "التجارية"، التي تهدف الى جعل التعليم وسيلة للربح، من جهة، وتؤدي الى تدني المستوى التعليمي، من جهة ثانية.
وبالاضافة الى انشاء المؤسسات التعليمية التعاونية، هناك اشكال مختلفة للتعاون على هذا الصعيد، منها: المدارس الليلية، مدارس تعليم المهن، صفوف لمساعدة التلامذة المقصرين الخ.
ومن اهم اشكال التعاون على هذا الصعيد، انشاء لجان اهالي بالتعاون مع النقابات، والهيئات الاهلية، والجسم التعليمي المهني، ووزارة التربية، والبلديات، للاشراف بمختلف الاشكال على المدارس والمؤسسات التعليمية الرسمية، ومراقبتها، وتوجيهها ومكافحة الفساد والمحسوبيات والفوضى، التي تنعكس سلبا على المستوى التعليمي فيها. علما ان المؤسسات التعليمية الرسمية هي ملكية اجتماعية بكل معنى الكلمة، ويحق للمجتمع المدني ولا سيما الاهالي المعنيين، الاشراف عليها ومراقبتها وتوجيهها بشكل كلي، جنبا الى جنب وزارة التربية والمراجع الرسمية المعنية.
التعاونيات الثقافية
وتشمل اقامة مختلف النوادي والجمعيات الثقافية والرياضية، والمكتبات الشعبية، ودور عرض الافلام، ونوادي او مقاهي الكومبيوتر، ودور الترجمة والنشر والتوزيع، والمعارض، واقامة الندوات، وتنظيم الرحلات السياحية ـ الثقافية الخ. وهذا الشكل من الهيئات الثقافية موجود بهذا الشكل او ذاك في لبنان، وهو يحتاج الى تأطير نقابي، والى الانضمام في اتحادات وتبادل الخبرات والتعاون فيما بين مختلف هيئاته، وزيادة عددها ورفع مستواها.
تعاونيات المعاقين
ومن اهم التعاونيات، على المستوى الانساني والوطني والنفسي والانتاجي معا، هي تعاونيات المعاقين، لا سيما في بلد كلبنان عانى ما عاناه ولا يزال يعاني بنتيجة الحرب الاهلية والعدوان والاحتلال الاسرائيلي. وهي يمكن ان تكون: انتاجية، تعليمية، ثقافية، رياضية، وتسويقية الخ.
التعاونيات في القطاع الخاص
ليس هناك خيمة فوق رأس اي كان في لبنان. والنظام المركنتيلي اللبناني يعمل بشكل حثيث على سحق الجميع في دائرة الانتاج والتسويق والاستهلاك والتسليف والاستملاك والضرائب الخ الخ. وجميع المنتجين والمزارعين والحرفيين وارباب العمل والتجار، المتوسطين والصغار بشكل خاص، هم مهددون بالتقلص والخسارة والافلاس في كل لحظة. والسياسة المالية العامة للدولة، والسياسة البنكية العامة في لبنان، تعمل على اضعاف وتطويق وتشديد الخناق وسحق المتوسطين والصغار ودعم الكبار وخصوصا الاحتكاريين والمافياويين.
فلمواجهة المخاطر، ولتحسين ظروف وشروط العمل، ولتكبير المؤسسات القائمة، وزيادة الانتاج، وزيادة المبيعات، وتحسين شروط الاقتراض من البنوك لاجل تحسين وتطوير الانتاج، ولشراء الاسمدة ولتسهيل وترخيص حراثة الارض وجمع المحصول وتوضيبه بالطرق الحديثة ونقله الى السوق وتسويقه، الخ الخ الخ.، فإن الخط التعاوني هو طريق الخلاص والنمو للقطاعات الانتاجية، الصناعية والحرفية والزراعية والتجارية، المتوسطة والصغيرة.
واكتفي بإعطاء بعض الامثلة:
المثال الاول ـ التجار الصغار والمتوسطون:
في كل شارع وحي في مدينة بيروت (وغيرها من المدن) عشرات بل ومئات المخازن التجارية الصغيرة والمتوسطة او ما نسميه "الدكاكين". وفي كل قرية عادية يوجد بضعة دكاكين. ويوجد طبعا "تخصصات" في الدكاكين، ولكن الطابع الغالب في العلاقة فيما بينها هو المزاحمة، بما في ذلك المزاحمة بين الدكاكين "المتخصصة" (مثلا للخضار والفواكه، او السمانة، او اللحوم الخ.). وتتزاحم الدكاكين فيما بينها على عدد محدد من "الزبائن" ـ سكان الحي، وجزئيا على المارة العابرين. و"الدكنجي" هو جزء من السوق، الا انه جزء سلبي خاضع للسوق. صحيح ان الدكنجي يستطيع ان يزيد او ينقص السعر. ولكن قدرته على ذلك هي محدودة جدا وهامشية جدا. وفي عملية تحديد السعر فإن الدكنجي محكوم (من الاساس) بسعر الجملة او نصف او ربع الجملة الذي يحصل عليه، ومحكوم (من فوق) بالمزاحمة الموجودة في السوق. فإذا كان كيلو خضار او فاكهة معينة يباع في الشارع المعين بسعر كذا، فإن الدكنجي هو "حر" في ان ينقص او يخفض سعره، وليس "حرا" في ان يرفع السعر. كما ان الدكنجي محكوم في الكثير من الحالات بالتقيد بسعر المفرق الذي تحدده الشركة التي تبيعه السلعة الموضبة، وهو يحصل على نسبة حسم معينة لا غير. كما ان هناك جانب انساني واجتماعي هام في حياة الدكنجية (وكذلك الصنايعية والحرفيين الصغار والمتوسطين) وهو ان الواحد منهم يعمل في دكانه من ساعة فتح الدكان الى ساعة الإغلاق مدة 12 ـ 14 ـ 16 ساعة مما هو عمل مرهق وشاق، كما انه يبعده عن الوجود الكافي في بيته والمشاركة الفعالة المباشرة في تربية اولاده والقيام بسائر واجباته العائلية. وهذا امر يشكو منه جميع الدكنجية ومن هم في مثل اوضاعهم من المواطنين الكادحين. كما ان كثير من المواطنين الدكنجية واشباههم يحرمون احد اولادهم (او اكثر) من متابعة دراستهم الثانوية او الجامعية، كي يساعدونهم في العمل في الدكان. ومع كل هذه الجهود المضنية للدكنجي، والتي تستمر عشرات السنين، ويكون فيها في الغالب بدون اي ضمان اجتماعي او صحي او ضمان شيخوخة، فإنه يبقى كريشة في مهب الريح، وليس له اي ضمان ان يستمر في مستوى حياته ذاته، بل هو مهدد في كل لحظة بالتقلص والانكماش والافلاس والاقتلاع.
ان الخط التعاوني هو السبيل الوحيد امام جميع الدكنجية للتخلص من خطر الانكماش وتدهور مستوى المعيشة، او الافلاس والاقتلاع. وهو السبيل الوحيد لرفع مستواهم المهني والمعيشي والاجتماعي و"الرأسمالي" ذاته. ونضع فيما يلي، وحسب معرفتنا المتواضعة، تصورا اوليا لتعاونية تجارية او تسويقية يقوم بها عدة دكنجية. وليس هذا تصورا نموذجيا او مثاليا، بل هو تصور اولي مفتوح للمناقشة والتحديد والتطوير:
يمكن لـ 10 ـ 15 ـ 20 دكنجيا او اكثر او اقل، في شارع في مدينة، او متفرقين في اكثر من شارع، او في قرية واحدة او في عدة قرى متجاورة، ـ يمكنهم ان يجتمعوا ويقرروا ويبادروا الى انشاء تعاونية تسويقية فيما بينهم (او ما يسمى تعاونية استهلاكية). ولهذه الغاية يستدعون خبيرا اقتصاديا، ويتم تخمين قيمة المحلات التي يملكونها (قيمة العقار وخلوه لمن يملك محله عقاريا، وقيمة الخلو لمن هو مستأجر، وقيمة التجهيزات الموجودة في كل محل، والقيمة الصافية للبضاعة الموجودة بعد حسم جميع الديون عليها، وقيمة الآليات اذا وجدت: سيارة او شاحنة صغيرة او دراجة نارية تستخدم للعمل) وتعتبر كل هذه القيم "رأسمالا مدفوعا بالكامل" لتأسيس التعاونية، ويضاف اليها اجر شهري متوسط لاصحاب الدكاكين يضاف الى الرأسمال التأسيسي، ويتم الاعلان عن تأسيس شركة تعاونية برأسمال كذا مدفوع بكامله، وكل ذلك يتم بالتعاون مع الخبير الاقتصادي. ويتم الاستعانة بمحام مطلع، وبالتعاون معه يتم وضع النظام الداخلي للتعاونية، ويتم انتخاب هيئة ادارية وتوزيع مسؤوليات للتعاونية من الدكنجية انفسهم، حسب الخبرة والمستوى العلمي والمهني لكل منهم. ويتم تحديد اجور على الساعة واليوم ومعاشات شهرية وعلاوات ومكافآت الخ. ويصبح لكل دكنجي صفة مزدوجة: الصفة الاولى هي صفة شريك مساهم في الشركة ـ التعاونية برأسمال محله (وهو بذلك يحق له الحصول على ارباح اسهمه)، والصفة الثانية هي صفة موظف او عامل في التعاونية، اذا قرر العمل فيها بشخصه او عمل فيها احد ابنائه او الاثنان معا، فلكل له اجوره حسب عمله وكفاءته، كما تقتضيه الاعراف المهنية.
ان مثل هذه المؤسسة سيكون لها صفة مزدوجة:
اولا ـ هي شركة رأسمالية كأي شركة مساهمة رأسمالية اخرى.
وثانيا ـ هي مؤسسة تعاونية ذات صفة اخوية ـ اجتماعية ـ انسانية.
وهذا بحد ذاته يمثل عنصر جذب بالمعنى الرأسمالي ذاته. لان المواطن اللبناني المظلوم هو مهيأ نفسيا للتعاون مع المظلومين امثاله. ولذلك اذا وجد في الشارع نفسه محل رأسمالي ـ تعاوني ومحل رأسمالي غير تعاوني، فإن المواطن يفضل الذهاب والشراء من المحل التعاوني حينما تتساوى الاسعار بين المحلين، علما ان المحل التعاوني ينبغي ان يقدم سلعة افضل وخدمة افضل ومعاملة افضل بسعر افضل.
وبصفتها كمؤسسة رأسمالية ـ تعاونية يمكن للتعاونية ان تحقق ما يلي:
ـ1ـ ان تعلن عن رأسمالها (والقسم الاكبر منه هو مدفوع بالكامل) وان تطرح اسهما للاكتتاب بها، ويكون المكتتبون بالاسهم هم المساهمون الجدد في التعاونية.
ـ2ـ ان تحصل على قروض وتسهيلات بنكية، تبعا لرأسمالها المعلن والمدفوع بالكامل، وتبعا لنشاطها وسمعتها.
ـ3ـ ان تحصل على اسعار افضل وتسهيلات دفع اكبر من الشركات المنتجة للسلع التي تتاجر بها التعاونية.
ـ4ـ ان تختزل الكثير من المجهودات المضنية المتكررة. فكل دكنجي غير تعاوني هو مضطر الان ان يذهب للتبضع لدكانته. ولكن بوجود التعاونية فإنه يجري التبضع للتعاونية بمجملها، ويتم توزيع السلع على مختلف محلات التعاونية بشكل عقلاني حسبما تقتضيه مصلحة التعاونية ومصلحة المستهلكين.
ـ5ـ ان يتم اختزال عدة حلقات متوسطة بين المنتج (وخصوصا المزارعين) وبين التعاونية. ففي الممارسة الحالية يأتي تاجر الجملة ويشتري من المزارع انتاجه بالسعر الذي ـ في الغالب ـ يفرضه التاجر على المزارع الذي هو مضطر لبيع انتاجه خوفا من الكساد والتلف. ثم يشتري تاجر نصف الجملة من تاجر الجملة. ثم يشتري تاجر ربع الجملة من تاجر نصف الجملة. وبعد "طلوع الروح" تصل المنتوجات الزراعية الى الدكان غير طازجة، وبسعر مضاعف عن السعر الذي حصل عليه المزارع المظلوم. لان تاجر الجملة عنده تكاليفه وضرائبه وارباحه. وكذلك تاجر نصف الجملة. وكذلك تاجر ربع الجملة. وفي لبنان لا يوجد قانون يمنع تعدد تحصيل الضرائب. فكل تاجر هو مؤسسة قائمة بذاتها، وهو مضطر لان يدفع ضريبة ارباح وغيرها بشكل مستقل. وبذلك فإن السلعة الواحدة تحمل عدة ضرائب بحسب عدد التجار الذين تم تداولها فيما بينهم. اما بوجود تعاونية قادرة على شراء كميون او اكثر، ولديها كادر بشري من الدكنجية المؤسسين انفسهم، فيمكنها الذهاب مباشرة الى المزارع وشراء المنتوج منه من الحقل الى الدكان مباشرة، فيتم توفير الوقت والمال، ويمكن للتعاونية ان تدفع للمزارع سعرا افضل مما كان يدفعه تاجر الجملة ومع ذلك ان تبيع بسعر ارخص مما كانت تبيع به السلعة ذاتها قبلا، وان تكون المنتوجات بحالة طازجة اكثر.
ـ6ـ ان التعاونية تستطيع ان تشتري من المنتجين المباشرين او المستوردين المباشرين كميات اكبر مما يشتريه الدكنجي الواحد من التجار المتوسطين، وباسعار اقل وتسهيلات دفع افضل، وهذا ما يساعد التعاونية على تخفيض الاسعار للمستهلكين حتى بدون ان تقل نسبة الريعية عن نسبة الارباح التي كان يحصل عليها الدكنجي المفرد.
ـ7ـ تستطيع التعاونية، وبقرارات من مجلس ادارتها، وبواسطة المدخرات والقروض البنكية واثمان بيع الاسهم الجديدة، ان تشتري او تستأجر مستودعات كبيرة لتخزين البضائع بشكل علمي وتتوفر فيه الشروط الصحية والعملانية المناسبة. كما تستطيع ان تشتري او تستأجر عقارا مناسبا لتأسيس "سوبرماركيت" او "تعاونية استهلاكية" كبيرة، مما يوفر اكثر الشروط الصحية والنظافة والترتيب والمظهر الحضاري وتخفيض التكاليف وتخفيض عدد الموظفين العاملين نسبة الى مجموع دورة المبيعات (اذا اخذنا مجموع المبيعات الشهرية او السنوية لـ 10 دكاكين حالية، واعتبرنا ان كل دكان تحتاج الى عاملين فيها، اي صاحب الدكان وابنه او اجير اخر عنده، فإن التعاونية الاستهلاكية الكبيرة تستطيع ان تحقق مجموع مبلغ المبيعات الشهرية او السنوية ذاته بـ 10 موظفين او اقل. كما ان التعاونية تستطيع ان توفر (وتستخدم بشكل عقلاني اكثر) المساحة المترية المستخدمة، وبالتالي الثمن العقاري والكلفة التأجيرية. اي انه اذا كان متوسط مساحة المحلات العشرة التي افترضناها هو 25 مترا مربعا للدكان، اي المجموع 250 مترا مربعا، فإن تعاونية مساحتها 250 مترا مربعا تستطيع تحقيق دورة مبيعات مرتين اكبر من مبيعات الـ 10 دكاكين منفردة. اي ان نسبة المبيعات على المتر المربع الواحد تكون مضاعفة.
ـ8ـ ان التعاونية الكبيرة قادرة على استخدام الوسائل التكنولوجية والآلية الحديثة، مما لا يستطيعه جميع الدكنجية المنفردين. وهذا ما يوفر الكلفة ويؤمن خدمة حضارية افضل بالسعر ذاته او بسعر اقل.
ـ9ـ ان وجود خبير اقتصادي او اكثر مع التعاونية، وكذلك التجربة العملية للتعاونيين، تجعل من الممكن تحسين اداء عمل التعاونية باستمرار، واستنباط اساليب جديدة للشراء والتخزين والقروض الخ الخ مما يزيد انتاجية التعاونية و"ربحيتها" الاسمية التي يتم تجييرها لصالح التعاونيين والمستهلكين معا.
ـ10ـ ينبغي ان تعمل التعاونية على قاعدة الشفافية، لمنع السرقات والغش والتلاعب والمحسوبية الخ، ولهذه الغاية ينبغي ان يوجد صندوق لتلقي الملاحظات والاقتراحات والشكاوى المكتوبة من قبل التعاونيين ومن المساهمين ومن اي مواطن اخر، وكذلك ان يوجد سايت (موقع الكتروني) للتعاونية تسجل فيه الملاحظات والاقتراحات والشكاوى. وان يتم الرد على كل هذه المبادرات والملاحظات والانتقادات.
ـ11ـ لقطع دابر الفساد المحتمل، ينبغي ان تعقد جلسات عمومية للتعاونية، يعلن عنها بشكل مسبق، ويحضرها التعاونيون والمساهمون واي مواطن يشاء، وتبحث فيها كل اشكال اداء التعاونية ونشاطها، ويتم تقبل الملاحظات والشكاوى والانتقادات علنا والبحث فيها ومناقشتها علنا واتخاذ المقررات المناسبة التي يتوجب على ادارة التعاونية البحث فيها واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها.
ـ12ـ ان السوق اللبناني تتحكم به، وبشكل عام، المافيات التجارية والموظفين الفاسدين والمرتشين الذين "يقبضون ويصمتون" او "يقبضون ويمررون". و المافيات التجارية هي، كقاعدة، مرتبطة بمراكز القوى السياسية في النظام المركنتيلي اللبناني، بصرف النظر عن الحكومات المتعاقبة والرؤساء المتعاقبين الذين يمكن ان يكونوا او لا يكونوا مرتبطين مباشرة او غير مباشرة بالمافيات والخط السياسي للنظام المركنتيلي اللبناني. وهذا ما يفسر لنا "الظاهرة البسيطة جدا" وهي انه لم يتم ولا يتم البت في اي قضية فساد جرى الكشف عنها بطريقة ما، بل دائما كان يجري لفلفة قضايا الفساد ولفها بالصمت المطبق و كأن شيئا لم يكن. وفي "احسن الحالات" كان يجري التضحية ببعض "السمك الصغير" او "كبش محرقة" كي تعود بعد ذلك "المياه الى مجاريها". والدكنجي المنفرد لا يستطيع في اغلب الحالات ان يواجه المافيات التجارية. واقصى ما يستطيعه احيانا هو ان يمتنع عن شراء وترويج سلعة منتهية الصلاحية او فاسدة. ولكن غيره يأخذها ويروجها اما عن جهل واما عن تجاهل، لانه يريد "ان يعيش". اما التعاونية، ومع ارتباطاتها النقابية، والارتباط بالخط الوطني الدمقراطي الشعبي المقاوم، فهي قادرة على مواجهة وفضح المافيات التجارية "على الدعسة"، اي مع كل تصرف وسلعة مثيرين للشكوك والريبة. وفي حال جرت مواجهة، فإن التعاونية قادرة على تحويل القضية المتنازع عليها الى قضية رأي عام وقضية وطنية عامة وعلى فضح الرؤوس الكبيرة التي تقف خلف اي صفقة مشبوهة وجرهم الى القضاء المختص.
المثال الثاني ـ الصناعيون والحرفيون الصغار والمتوسطون:
ان قطاع الانتاج، وبالاخص الصناعة الوطنية اللبنانية، تتعرض لسياسة المحاصرة والضغط والتضييق من قبل النظام المركنتيلي اللبناني واربابه، وذلك بإغراق السوق الوطنية بالسلع الاجنبية وغير ذلك من السياسات الضرائبية والبنكية الهادفة الى تحويل لبنان الى سوق وحسب للسلع الاجنبية كخطوة على طريق زج اللبنانيين في وهاد البطالة واقتلاعهم من ارضهم وتشتيتهم في اربع زوايا الارض. والمعامل والمشاغل الصناعية والحرفية المتوسطة والصغيرة هي الاكثر تضررا ومعاناة من السياسة الاقتصادية للنظام المركنتيلي اللبناني. وفي الكثير من الحالات، وربما في اغلبها، فإن اصحاب المعامل والمشاغل الصناعية والحرفية المتوسطة والصغيرة يعملون شخصيا اكثر بكثير من ثماني ساعات عمل في اليوم، وفي ايام العطل ذاتها، مما يكون على حساب راحتهم وصحتهم الشخصية وعلى حساب واجباتهم وحقوقهم العائلية، كما ان كثير منهم يلزمون بعض اولادهم او كلهم بقطع دراستهم الثانوية والجامعية للعمل مع الوالد ومساعدته والتخفيف عنه بعض الشيء. وفي هذا انتقاص كبير من حق هؤلاء الشباب في تحصيل العلم، وهو ما يشكل خسارة معنوية واجتماعية كبيرة على المستوى العائلي، وخسارة علمية كبيرة على المستوى الوطني.
وللخروج من هذه الحالة المأساوية: ان بإمكان اصحاب اي معمل متوسط، او بضعة مشاغل صنائعية او حرفية صغيرة، ان يحولو معملهم او مشاغلهم الى تعاونية انتاجية. يتم استقدام خبير اقتصادي، يمكن ان تؤمنه لهم الحركة النقابية ـ التعاونية الوطنية مجانا او ببدل اتعاب عادل، فيقيـّم القيمة العقارية او التأجيرية (الخلو) للمعمل او المشاغل، والالات والتجهيزات الموجودة فيها، والبضاعة الجاهزة للتسويق، والخامات الموجودة في المستودع، والرأسمال النقدي الموجود، ورصيد الديون الايجابية (اذا وجدت)، ووسائل النقل الخاصة بالمعمل (اذا وجدت)، ويتم تحضير دراسة "الجدوى الاقتصادية"، بناء على اوضاع السوق، ونوعية السلعة او السلع، والقدرة التسويقية والتنافسية اذا تم تحسين وتنويع الانتاج والتوضيب والنقل وشروط وتسهيلات الدفع الخ الخ.، وبناء عليه يتم تحديد رأسمال اساسي جديد معقول (يكون من ضمنه واساسه الرأسمال المدفوع بالكامل الذي اشرنا اليه اعلاه)، وبناء على هذا الرأسمال الاساسي يتم طرح اسهم جديدة للتعاونية الانتاجية الجديدة لمشاركة المساهمين التعاونيين، ويعتبر الرأسمال الاولي المدفوع بالكامل هو حصة اصحاب المعمل الاولين او اصحاب المشاغل الصغيرة الاولين كل حسب حصته المحددة، بالقرش. وهكذا يمكن ان تنشأ شركة رأسمالية ـ تعاونية مختلطة (من حيث الرأسمال) ولكنها من حيث الاداء الانتاجي والتسويقي هي تعاونية بكل معنى الكلمة، وتحصل على كل الامتيازات والمميزات الخاصة بالتعاونيات. ويمكن ادخال اسم "تعاونية" في الاسم التجاري للمؤسسة، كما يمكن ان توضع عبارة "انتاج تعاوني" او ما اشبه على منتوجات المؤسسة. ويمكن لعدة مؤسسات انتاجية تعاونية، من فرع انتاجي واحد، في عدة مدن ومناطق، ان تشكل اتحادا تعاونيا فيما بينها، يعمل على تنظيم السوق فيما بينها وضبط وترشيد المزاحمة، والتنظيم المشترك لاستيراد الخامات، ولتصدير المتوجات حيثما وحينما يمكن.
المثال الثالث ـ المزارعون:
ان القطاع الزراعي هو الاكثر تخلفا في لبنان، وجماهير المزارعين هي الجماهير الاكثر مظلومية. وريعية الرأسمال الموظف في الزراعة، وريعية ساعات العمل المنفق في الزراعة هي الاقل بالقياس الى القطاعات الاخرى. وهذا ما يدفع المزارعين الى اهمال الارض، والتحول الى عاطلين عن العمل، وعاملين مؤقتين في مهن عابرة، والهجرة الى المدن. وفي دراسة للدكتور خليل حسين (استاذ في الجامعة اللبنانية) بعنوان (السياسات العامة الزراعية ومشاكلها في لبنان) يقول " انخفضت حصة الزراعة من الناتج المحلي من 20 بالمئة عام 1950 بالرغم من استيعابها حوالي 50% من اليد العاملة الى 9% في اواخر الثمانينيات رغم استيعابها حوالي 20% من اليد العاملة ، في الوقت الذي سجل قطاع الخدمات نموا مضطردا وصل الى ثلثي الناتج المحلي في منتصف السبعينيات .
وقد قدرت منظمة الاغذية والزراعة ( الفاو) دخل المزارع في لبنان حوالي ثلث دخل الفرد في لبنان "
وهذا يؤدي الى اختفاء سريع لاسطورة "لبنان الاخضر"، حيث يتم اهمال الارض، واختفاء البساتين المثمرة، والجلول والاشجار والاعشاب التي تحفظ التربة والمياه الجوفية ونسبة الرطوبة في الارض، ويتقدم التصحر بخطوات سريعة.
ان القطاع الزراعي هو ضحية في آن واحد للظروف الطبيعية الصعبة التي تواجهها الزراعة، وللسياسة المركنتيلية للقطاع المالي والبنكي الذي ينظر الى الارض اللبنانية فقط كمساحة عقارية، ولسياسة الاهمال الذي تعانيه القرية اللبنانية عامة والزراعة خاصة من قبل الدولة التي تتحكم بها الطبقة الرأسمالية الكومبرادورية التي ترتبط مصالحها بالمصالح الامبريالية الغربية وبالرأسمال النفطي العربي.
ويعتبر الجنوب اللبناني نموذجا صارخا للوضع المأساوي للقطاع الزراعي اللبناني. وجاء الاحتلال الاسرائيلي ليضفي طابعا كارثيا على المأساة. وحتى بعد الانسحاب الاسرائيلي لا تزال الاراضي الزراعية في الجنوب مزروعة بملايين القنابل العنقودية والالغام التي زرعتها اسرائيل وترفض الى اليوم تسليم خرائطها الى الامم المتحدة لتسهيل ازالتها. وقد سقط الى اليوم عشرات القتلى ومئات الجرحى والمعاقين بسبب تلك الالغام والقنابل في صفوف المزارعين المسالمين الذين لا ذنب لهم الا العمل في اراضيهم لتحصيل لقمتهم ولقمة عيالهم. واذا كنا نقول ان لقمة المزارع اللبناني هي مغموسة بالعرق والدماء، فهذا يعبر عن الواقع القائم بالمعنى الحرفي للكلمة.
ان واقع الزراعة اللبنانية يلائم تماما المخطط الامبريالي ـ الصهيوني ـ النفطوعربي ـ المركنتيلي اللبناني، الهادف الى تصحير "لبنان الاخضر" وتبوير الارض الزراعية اللبنانية، ودفع اللبنانيين في براثن البطالة والحاجة، واقتلاعهم من ارضهم وتهجيرهم وتشتيتهم.
وتبني الخط التعاوني، والعمل الحثيث لانشاء مختلف اشكال التعاونيات في الارياف والقرى اللبنانية، هو خشبة الخلاص الوحيدة والامل الوحيد لانقاذ القطاع الزراعي اللبناني من الانهيار التام وتحويل مئات الاف المزارعين اللبنانيين وعائلاتهم الى مشردين في ارضهم وبلادهم يعيشون مؤقتا على حسنات شيوخ نفط الخليج.
وانشاء التعاونيات الزراعية يمكن المزارعين من:
ـ1ـ تذليل وتجاوز الخلافات والنزاعات الطائفية والحزبية والعائلية التي خلفتها الحرب اللبنانية واعادة التآخي واللحمة الى القرية اللبنانية.
ـ2ـ التعاون مع البلديات في النضال المشترك لترميم واصلاح البنى التحتية في القرى والارياف، ولانشاء بنى تحتية حديثة.
ـ3ـ العمل لرفع المستوى الثقافي والاجتماعي في القرية.
ـ4ـ تأمين المحروقات بشكل مشترك بأسعار اقل وبشروط افضل.
ـ5ـ الاستعانة بمهندس زراعي او اكثر لدراسة طبيعة الارض وخصائصها الزراعية واختيار المواسم، وطرق الزراعة، ودراسة الاسمدة والطرق الرشيدة لاستعمالها، والحصول على الاسمدة بشكل مشترك، باسعار ارخص وبشروط افضل.
ـ6ـ الشراء او الاستئجار التعاوني المشترك للآلات الزراعية (التراكتورات وغيرها) وسيارات النقل، لاستخدامها طبقا للاساليب الحديثة للزراعة، واستعمالها المشترك ضمن نظام تضعه التعاونية يحفظ حقوق كل فرد من افرادها، ويتوخى تقليل الكلفة وزيادة الانتاج وتحسينه وتخفيض ثمنه للمستهلك، تحت شعار "سعر اصغر، وبيع اكثر وربح اكبر".
ـ7ـ تجميع المنتوجات وفرزها وتوضيبها بطرق حديثة لائقة وبيعها بشروط افضل وباسعار افضل من الاسعار الاحتكارية التي يفرضها تجار الجملة الاحتكاريون الذين يستبدون بالسوق. وايصال المنتوجات الى الاسواق باسعار اقل من الاسعار التجارية الاحتكارية الحالية، الامر الذي يعني زيادة المبيعات وزيادة الارباح وزيادة امكانية تحسين الانتاج في الدورة التالية.
ـ8ـ لا شيء يمكن ان يرمى مما تعطيه الام ـ الارض. فأوراق الاشجار المتساقطة، والثمار غير الصالحة، وجذوع وجذور النباتات، وحتى الحشائش الطفيلية، يمكن تجميعها و"تدويرها" والاستفادة منها بمختلف الاشكال: الثمار غير الصالحة للبيع بصفتها الطازجة يمكن تحويلها الى عصائر و"كومبوت" ومربيات وبيعها. وما لا يصلح لذلك وكل ما عداها يمكن تجفيفه وبرشه وتحويله الى: علف للمواشي والاسماك، او اسمدة طبيعية، او في آخر المطاف يمكن خلطها بجفت الزيتون الناتج عن معاصر الزيت، او بتوالف الزيت النباتي الرخيص غير الصالح للاستهلاك، وتعبئتها في اكياس ورقية مخصصة، او ضغطها في قوالب مخصصة، وبيعها كوقود (كالحطب) للمواقد المنزلية او المخابز والافران الصغيرة والمتوسطة التي تصنع المناقيش واللحم بعجين والكرواسانات وما اشبه، وهي افضل وارخص وافضل صحيا من الغاز والمازوت.
ـ9ـ يمكن للتعاونية الزراعية ان تحصل على قروض بنكية بشروط مناسبة. ويمكن ان تحصل على مساعدات من وزارة الزراعة، ومن المؤسسات والمنظمات ذات الصلة، الاقليمية والدولية.
ـ10ـ يمكن للتعاونية الزراعية ان تفتح "تعاونية استهلاكية" في قريتها وفي القرى المجاورة وحتى في المدينة.
ـ11ـ يمكن للتعاونية ان تستخدم اسما "تعاونيا ـ تجاريا" لمنتوجاتها، وان تتطلع نحو التصدير الخارجي.
ـ12ـ يمكن للتعاونية ان تستأجر وتستثمر الاراضي والعقارات الوقفية ضمن منطقتها.
ـ13ـ يمكن للتعاونية، بالتعاون مع البلدية ومع وزارة الزراعة ان تعمل على تشجير وتحريج الاراضي الجرداء المحيطة، وعلى تحديث استخدام الينابيع، وعلى حفر ابار ارتوازية ومد المياه للشرب وللسقاية.
ـ14ـ في الظروف الحالية للكهرباء في لبنان، يمكن للتعاونية الزراعية ان تشتري مولدا كهربائيا كبيرا يخدمها لاغراضها الانتاجية، وفي الوقت ذاته يؤمن الطاقة الكهربائية لسكان القرية او اكثر التي تعمل في نطاقها باشتراكات شهرية مربحة وغير استغلالية.
القطاع المشترك: الخاص ـ التعاوني
ان الفكرة الاساسية في التعاونية هي المزج العضوي بين الملكية والعمل، بحيث يصبح المنتج، وبالاصح مجموع المنتجين، هم المالكين. ومن خلال الملكية الجماعية للتعاونية، تحقق التعاونية افضليتين او ميزتين اقتصاديتين:
الاولى ـ المصلحة الفردية لكل مشارك في التعاونية، في العمل الاجمالي والانتاج الاجمالي للتعاونية. ومع عدم انتفاء الرقابة المتبادلة للتعاونيين على عمل بعضهم بعضا، فإن توفر عامل المصلحة الفردية يجعل من كل تعاوني رقيبا على ذاته في اداء العمل.
والثانية ـ انشاء مؤسسة انتاجية كبيرة، بكل افضلياتها على المؤسسة الانتاجية الفردية الصغيرة.
ان النظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج يفسح المجال لانشاء المؤسسات الانتاجية الصغيرة (الحرفية) والمؤسسة الانتاجية الكبيرة وما بينهما.
والمؤسسة الانتاجية (الحرفية) الصغيرة، يوجد فيها ارتباط مباشر بين المصلحة الفردية للمالك والعملية الانتاجية، حيث ان مالك المؤسسة هو المنتج الرئيسي فيها. ولكن المؤسسة الصغيرة هي محكومة بكل سلبيات المؤسسة الصغيرة، ولا تمتلك الميزات الرأسمالية (المالية والاستلافية الخ) والانتاجية والتسويقية (الشرائية والبيعية والاقراضية الخ) والتزاحمية للمؤسسة الكبيرة.
وصيغة المؤسسة المختلطة (الخاصة ـ التعاونية) تؤمن الدمج بين الميزتين معا: ميزة المؤسسة الانتاجية الكبيرة، وميزة المصلحة الفردية المباشرة للمنتجين الذين يصبحون مالكين ـ محاصصين.
والمؤسسة المختلطة (الخاصة ـ التعاونية) هي اكثر قدرة على التطور الذاتي ومجاراة السوق، واكثر قدرة على الصمود في الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها لبنان.
ولا تتعارض المؤسسة المختلطة مع الملكية الخاصة الرأسمالية للمؤسسة الخاصة التي تقدم على التحول الى مؤسسة مختلطة، بل على العكس ان الانتقال الى المؤسسة المختلطة هو خطوة بنيوية حاسمة نحو حماية ودعم وتوسيع وتطوير المؤسسة الاساسية، من وجهة النظر الرأسمالية ذاتها.
ان النظام المركنتيلي اللبناني يعمل على تضييق الخناق على القطاع الانتاجي اللبناني برمته، ولا سيما الصناعي والزراعي، من الرأسمالي الكبير الى الحرفي الصغير. والتوجه نحو انشاء قطاع انتاجي مختلط (خاص ـ تعاوني) هو خشبة الخلاص الرئيسية للقطاع الانتاجي الرأسمالي اللبناني.
وبالحساب الرأسمالي فإن الملكية الخاصة الرأسمالية لا تتعارض مع الملكية التعاونية القابلة للحساب على الاساس الرأسمالي والملكية الفردية لكل صاحب سهم (او اسهم) تعاونية.
ومن الناحية العملية، وبعد ان يقرر صاحب (او اصحاب، او ادارة) مؤسسة خاصة معينة التحول الى مؤسسة مختلطة (خاصة ـ تعاونية)، يمكن تشكيل "لجنة فنية" او "لجنة استشارية" او ما اشبه تتألف من: ممثل عن صاحب او ادارة المؤسسة الاساسية، ممثل عن نقابة الصناعيين اذا اراد اصحاب المؤسسة ذلك، محام مختص، خبير اقتصادي او اكثر، ممثل او اكثر عن عمال وموظفي المؤسسة المعنية ونقابة عمال المهنة المعنية.
ويعود لهذه اللجنة البحث ووضع الاقتراحات الملموسة حول شكل وآليات التحول الى مؤسسة مختلطة ونظامها الداخلي الخ. ويعود لاصحاب العلاقة المباشرين: اصحاب المؤسسة الاصليين، من جهة، والعاملين فيها، من جهة ثانية، البت الاخير في الاقتراحات التي تقدمها "اللجنة الفنية" وصياغة القرارات الاخيرة.
ويمكن ان تكون هناك اشكال متعددة للمؤسسة المختلطة (الخاصة ـ التعاونية)، ولكن تبقى الاشكال الاساسية هي:
ـ1ـ ان يحتفظ اصحاب المؤسسة الاصلية بنسبة 51% او اكثر من الاسهم؛ وان تكون بقية الاسهم للعاملين في المؤسسة.
ـ2ـ ان تحتسب حصة اسهم اصحاب المؤسسة الاصلية، وحصة اسهم العاملين فيها، وان تفتح المؤسسة الجديدة لاكتتاب باسهم جديدة يتم تحديد سعرها وكميتها، لاجتذاب محاصصة اكبر واسهم اكثر لمساهمين جدد (يجب ان يحدد من هم، وان يوضع سقف لعدد الاسهم لكل فرد، لمنع سيطرة تكتل مالي معين على المؤسسة الجديدة بهدف تخريبها من الداخل).
الاوقاف والجمعيات الخيرية والتعاونيات
اذا استثنينا الحالة الشيعية، التي اندمج او ترادف فيها العمل السياسي والاجتماعي والنقابي والوطني والمقاومة المسلحة ضد اسرائيل، تأسيسا على التجربة التي اطلقها في الستينات الزعيم الشيعي المتنور والمرموق السيد موسى الصدر، فإن الحركة النقابية والاحزاب الوطنية والقومية في لبنان، ذات الطابع العلماني في الاغلب، درجت على عدم اعطاء الاهتمام الكافي او عدم الاهتمام بالمرة بالنشاطات الاجتماعية والخيرية المهمة التي تقوم بها المراجع الدينية، بهذا الشكل او ذاك، وذلك تحت تأثير الفكرة المسبقة بأن كل اهتمام بأي نشاط ذي صبغة دينية او مذهبية او طائفية يمكن ان يصم القائمين به بالصفة الطائفية، وتحديدا الطائفية السياسية.
ولكن تجاهل النشاط الاجتماعي والخيري للمؤسسات الدينية لم ينف وجوده. وكيفما ادرنا وجهنا في لبنان، فسنجد ان المؤسسات الوقفية والخيرية والاجتماعية والصحية والتربوية، الدينية، والتابعة لمختلف الاديان والطوائف والمذاهب، تملأ لبنان بالطول والعرض. وهناك مؤسسات تربوية وصحية دينية، اسلامية ومسيحية، هي من ارقى المؤسسات في هذه القطاعات. وتؤدي تلك المؤسسات خدماتها اما مجانا او نصف مجانا او هي مدفوعة بالكامل. ولكن ايا كانت الصيغة التي تعمل بها فهي قد اصبحت حالة متأصلة في المجتمع اللبناني، ومن الصعوبة تماما الاستغناء عنها.
وعلينا ان نعترف ان وجود الاوقاف والمؤسسات الخيرية والاجتماعية والصحية والتربوية الدينية، والخدمات التي تقدمها، يضطلع بدور هام في استمرار "الثقافة الطائفية" واستمرار "الاصطفاف الطائفي" في لبنان. ولكن اذا كان من الصحيح الاعتراض على "الثقافة الطائفية" و"الاصطفاف الطائفي" من وجهة نظر وطنية وقومية، فإنه من الخطأ ومن غير الممكن الاعتراض على وجود المؤسسات الوقفية والاجتماعية والصحية والتربوية الدينية، لانها تدخل تحت عنوان "العمل الخيري" والعمل الصحي والتربوي الخ.، المفيد اجتماعيا، ولفائدة ابناء الطائفة المعينة خاصة وابناء جميع الطوائف عامة. واي اعتراض من هذا النوع سيلقى الفشل والرفض من قبل غالبية ابناء الشعب اللبناني. واذا كان "تأميم" هذه المؤسسات ونزع الصفة الطائفية عنها لتعميم فوائدها بدون سلبياتها الطائفية، اذا كان ذلك يعتبر ضرورة تاريخية، فإنه لاجل الوصول الى "تأميم" المؤسسات الخيرية الاجتماعية والصحية والتربوية الدينية ينبغي حصول ثورة حقيقية في المفاهيم الاجتماعية والوطنية والقومية وفي التركيبة السياسية ـ الاجتماعية ـ الاقتصادية للمجتمع اللبناني والعربي ككل، مما هو غير متوفر في الظروف التاريخية الراهنة، موضوعيا وذاتيا.
ولكن علينا ايضا ان نعترف ان تجربة الحالة الشيعية، وخصوصا تجربة حزب الله، اكدت بالملموس انه بالامكان واقعيا استخدام المؤسسات الخيرية والاجتماعية والثقافية الدينية وتوجيهها في الاتجاه الوطني والكفاحي التحرري ذاته، حتى اعلى اشكاله وهو الكفاح المسلح. وفي رأيي المتواضع انه ينبغي على جميع المناضلين النقابيين الشرفاء وجميع المناضلين التقدميين والوطنيين والقوميين الصادقين ان يدرسوا بعمق تجربة حزب الله على هذا الصعيد. واستنادا الى هذه التجربة ارى من الضروري انهاء حالة "ادارة الظهر" للاوقاف والمؤسسات الخيرية والاجتماعية والصحية والثقافية الدينية، وان يتم الانفتاح عليها من قبل جميع التعاونيات والنقابات والاحزاب التقدمية والوطنية والقومية، والتعاون معها ومساعدتها في نشاطاتها الخيرية، ومن خلال هذه العلاقة الايجابية العمل لترشيد اعمال تلك المؤسسات الدينية في الاتجاه الوطني الموحد والانساني الجامع، ولكبح تأثير الاحزاب الطائفية غير الوطنية والمشبوهة والعميلة على النشاطات والمؤسسات الخيرية وذات النفع العام للطائفة. ومن شأن انفتاح وتعاون التعاونيات والقوى الوطنية والقومية والتقدمية، مع المؤسسات الخيرية الدينية، ان يكشف ويفضح الاطراف الطائفية السياسية المشبوهة التي تسعى لاستخدام المؤسسات الخيرية الدينية لمصالحها الضيقة ومصالح القوى الدولية التي تقف خلفها وفوقها، كما من شأنه ان يكسر الى حد كبير حدة "الاصطفاف الطائفي" وان يعزز "الثقافة الوطنية" ـ التي لا تتعارض مع الثقافة الدينية الحقيقية المتسامحة ـ على حساب "الثقافة الطائفية" و"التقوقع الطائفي" و"التعصب الطائفي" في اطار المؤسسات الدينية ذاتها.
ومن ضمن هذا التوجه الانفتاحي من الصائب تماما، ومن الضروري، ان يشارك التقدميون والوطنيون والقوميون، كل في طائفته ومذهبه، في ما يسمى المجالس الملية وفي الجمعيات الدينية ذات النشاطات الوعظية والتبشيرية والنسائية والشبابية وغيرها، باتجاه تعزيز الصوت الوطني والقومي داخل تلك المجالس والجمعيات وإضفاء الطابع التوحيدي، الوطني والقومي، على الخطاب والممارسة الدينيين، وعزل الاصوات والعناصر المتعصبة والتكفيرية والتفريقية داخل المنظمات والمؤسسات الدينية الجامعة.
ولا بد من التأكيد هنا انه يوجد في اطار جميع الطوائف على الاطلاق قاعدة وطنية واسعة في صفوف المواطنين العاديين، والعاملين في اطار الجمعيات الدينية، وفي صفوف رجال الدين انفسهم، ولا سيما رجال الدين الصغار والمثقفين الحقيقيين والمتنورين، ـ يوجد تيار وطني واسع، يمكن ان يدعم كل توجه وطني وتحرري في اطار الطائفة، لا سيما اذا كان يعمل لحفظ الحقوق المشروعة لابناء الطائفة، وخصوصا العمال والفلاحين والفقراء والعاطلين عن العمل الخ.
التعاونيات والاحزاب
خلافا لاكثرية او جميع البلدان العربية الاخرى، فإن ما يسمى "الدمقراطية التوافقية" الطائفية ـ البرجوازية في لبنان، حفزت الحياة السياسية بشكل كبير، وهو ما استفادت منه جميع الاحزاب والتيارات والتكتلات التقدمية والوطنية والقومية في تطوير نشاطها السياسي والاعلامي والتعبوي في لبنان. حتى اصغر الاحزاب والتيارات الفكرية، واكثرها راديكالية و"تطرفا"، وجدت لها متنفسا في لبنان.
ولكن هذه الظاهرة "الايجابية" بحد ذاتها، دفعت الاحزاب والتنظيمات التقدمية والوطنية والقومية، العلمانية و"الدينية" كحزب الله ذاته، للمبالغة في الاهتمام بالعملية السياسية، على حساب الاهتمام بالقضايا الاجتماعية للجماهير الشعبية اللبنانية.
وفيما عدا بعض التجارب الضيقة والمعزولة و"المسيسة" ايضا، (كتجربة الحزب الشيوعي والنقابات المتأثرة به في انشاء بعض التعاونيات الاستهلاكية ومؤسسة "النجدة الشعبية"، وتجربة التعاونية التي بادرت الى انشائها "رابطة الشغيلة" بقيادة النائب السابق زاهر الخطيب، وتجربة المطران الكبير غريغوار حداد التي ظلت محاصرة ومعزولة ومحاربة بشدة، وتجربة حزب الله التي ظلت محصورة في اطار تقديم الخدمات والمساعدات لمحازبيه)، ـ فيما عدا ذلك فإن الاحزاب التقدمية والوطنية والقومية المناضلة ظلت تركز بشكل شديد على العملية السياسية، حتى وهي تتعاطى في الشأن النقابي والاجتماعي والتعاوني ذاته.
وحينما كانت تلك الاحزاب والمنظمات تشارك في الحياة النقابية والتعاونية، كان همها الاكبر يتمحور حول ابراز هويتها وشخصيتها الحزبية السياسية، اكثر من الاهتمام بالشأن النقابي والتعاوني ذاته. وهذا ما يفسر ضعف وحتى فشل بعض التجارب المتقدمة حتى في الاطار التعاوني، وفي بعض الحالات تفشي الفساد والسرقات في تلك المؤسسات.
ولكن بالرغم من الضرورة القصوى للنقد البناء للتجربة السابقة، واستخلاص العبر اللازمة منها، فينبغي الاعتراف والاقتناع بعمق وصدق ان الغالبية الساحقة من انصار واعضاء وكوادر الاحزاب التقدمية والوطنية والقومية، العلمانية والدينية، وبالرغم من كل الاختلافات الفكرية والايديولوجية والسياسية، هم مناضلون مخلصون وشرفاء، وهم يمثلون جيشا احتياطيا كبيرا، يمكن ان يتحول الى جيش فاعل حقيقي، لبناء حركة نقابية ـ شعبية ـ تعاونية واسعة، تشمل لبنان بأسره من اقصاه الى اقصاه، وفي كل مدنه وقراه واريافه.
ومن هنا ضرورة العمل لبناء "لجان مبادرة" لتشكيل وتأسيس التعاونيات، تتألف (تلك اللجان) من مختلف المناضلين المقتنعين بضرورة تجسيد الفكر التعاوني، باعتباره، في نطاق المعركة الداخلية، هو الطريق "الايجابي" الوحيد لمواجهة الحرب الاقتصادية ـ الاجتماعية ضد جماهير الشعب اللبناني، لاقتلاعها من ارضها وتشتيتها وتشريدها. وذلك جنبا الى جنب "فكر المقاومة" باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق التحرير من الاحتلال الاسرائيلي، والوقوف بوجه الخطر الدائم للعدوان والاحتلال الاسرائيلي.
الادارة المشتركة للمؤسسات
ومن اهم اشكال العمل التعاوني هو مبدأ الادارة المشتركة للمؤسسات. وهو ما نتوقف عنده فيما يلي:
ان النظام الكومبرادوري ـ المركنتيلي اللبناني قد اوصل الشعب اللبناني الى شفير الهاوية. وبوجود الاحتلال الاسرائيلي كان لبنان مهددا تماما بالتحول الى محمية اسرائيلية (على غرار منطقة "السلطة الفلسطينية" حاليا) او محوه من الخارطة السايكس ـ بيكوية ذاتها وتحويله الى مجموعة كانتونات طائفية متناحرة. ولكن انتصار المقاومة الوطنية والاسلامية على الاحتلال، والاداء الوطني السامي لحزب الله والسياسة الوطنية الحكيمة لقيادته انقذت لبنان من هذا المصير. والان فإن النظام الكومبرادوري ـ المركنتيلي اللبناني يتابع المخطط الاحتلالي الاسرائيلي لتدمير وتفكيك لبنان، ولكن بأشكال اخرى، يأتي على رأسها الحرب الاقتصادية ـ الاجتماعية، التي بدأتها عصابة الحريري السعودية في اواخر الثمانينات، والهادفة الى تجويع اللبنانيين واقتلاعهم من ارضهم، وتحويل لبنان الى رقعة عقارية يملكها شيوخ نفط الخليج، الذين كانوا يعرفون من اسيادهم الاميركيين، ومنذ ذلك الحين، ان شرقي البحر الابيض المتوسط (ومنه لبنان) هو منطقة مكامن نفط وغاز، وكانوا يتهيأون بكل الاشكال للسيطرة على هذه المنطقة ونهبها، كما يسيطرون على نفط الخليج وينهبونه لصالح اسيادهم الاميركيين وقلة من الامراء والشيوخ واتباعهم وحواشيهم.
ان النضال النقابي والمطلبي الشعبي التقليدي لم يعد كافيا لمواجهة الخطر الداهم على لبنان والشعب اللبناني. وبالروح ذاتها التي تم فيها نشوء المقاومة الوطنية والاسلامية ضد الاحتلال الاسرائيلي، ينبغي العمل للتحول من شكل العمل النقابي التريدينيوني التقليدي والنضال الشعبي المطلبي العادي الى انشاء حركة تعاونية شعبية تشمل مجمل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في لبنان. واحد اهم اشكال هذا التوجه هو طرح وممارسة شعار المشاركة النقابية والشعبية في ادارة جميع المؤسسات الانتاجية والاجتماعية والتعليمية، الاهلية والرسمية، في لبنان.
في المعامل: ينبغي ايجاد الصيغ المناسبة لاشتراك عمال وموظفي المعمل والنقابة ذات الصلة، بإدارة المعمل.
في الشركات: ينبغي ايضا ايجاد الصيغ المناسبة لمشاركة العاملين في كل شركة في ادارتها.
في المصالح المستقلة كالكهرباء والمياه والبريد والهاتف الخ: ينبغي حكما اشتراك العاملين في كل مؤسسة في ادارتها.
في الفنادق والمطاعم الكبيرة والمرافق السياحية: ينبغي تطبيق مبدأ المشاركة في الادارة من قبل العاملين في تلك المرافق.
في المستشفيات والمرافق الصحية: ينبغي ايجاد الصيغة المناسبة لاشتراك الاطباء، وجهاز الممرضين، وجهاز الخدمات، في ادارة كل مؤسسة.
في المدارس الابتدائية، الرسمية والخيرية والخاصة، ينبغي اشتراك المعلمين، من جهة، والاهالي، من جهة ثانية، في ادارة كل مؤسسة.
في المعاهد الثانوية والكليات الجامعية والجامعات، الرسمية والخاصة، ينبغي اشتراك الهيئة التعليمية، وجهاز الموظفين، والطلاب، والاهالي، في ادارة كل مؤسسة.
في المرافق الحيوية، كالعيادات الطبية، والصيدليات، والافران، ومحطات الوقود، والنقل العام الخ، ينبغي ايجاد صيغ مناسبة للادارة المشتركة، يشارك فيها اصحاب المرافق المعنية والعاملون فيها والنقابات المعنية والمستفيدون المباشرون، وذلك بهدف تحسين الاداء، ومنع التسيب والمخالفات والاستغلال غير المشروع والمزاحمة غير المشروعة.
ان اشتراك العاملين والمستفيدين في ادارة المؤسسات المعنية، الى جانب "اصحابها" الطبيعيين والمعنويين، هو تطبيق لمبدأ الدمقراطية الاجتماعية، ويساعد في تحسين اداء واوضاع تلك المؤسسات، ورفع مستواها وزيادة مداخيلها، وفي تخفيف حدة التوترات الاجتماعية وتلافي الكثير من الممارسات والمظاهر السلبية وقطع الطريق على الكثير من اشكال الفساد والغش والحد من المزاحمة غير المشروعة، وتعميق روح التعاون والمواطنية الصالحة، وتعميق حس الانتماء المجتمعي ـ الوطني.
القضية الوطنية للمهمشين والعاطلين عن العمل في لبنان
تتعمد الدوائر الرسمية اللبنانية بما فيها وزارة العمل ذاتها، ولسنوات طويلة، ان لا تعد الاحصاءات المطلوبة حول نسبة البطالة الظاهرة والكامنة في لبنان. والغاية واضحة وضوح الشمس وهي: التستير على جريمة النظام المركنتيلي اللبناني في تخريب الاقتصاد اللبناني وتهديم العائلة اللبنانية والمجتمع اللبناني، ودفع المواطنين الى الهجرة من لبنان.
وفي هذا الإطار، كشف وزير العمل سليم جريصاتي في حديث لتلفزيون المستقبل في اواخر السنة الماضية 2012 ان النسب المتداولة للبطالة هي بحدود 26 بالمئة بشكل عام. واما بين الشباب فتبلغ النسبة 66%.
وجاء في "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين" نقلا عن الاحصاء المركزي ان معدل البطالة في لبنان ارتفع من 6,4% في 2009 الى 19,8% في 2011 (النهار24-11-2011-).
كما اورد الموقع الالكتروني لوزارة الاعلام اللبنانية: ان هناك تقريرا للبنك الدولي يقدر نسبة البطالة في لبنان بـ34% ولا احصاءات رسمية حولها.
ان هذه الاحصاءات المتفاوتة بحد ذاتها هي دليل واضح على مدى الاستهتار بحياة الجماهير الشعبية اللبنانية ومصيرها. وهذه الصورة تشمل بشكل عام المدن. اما في الارياف والقرى فإن المأساة هي مضاعفة. فاذا استثنينا بعض مناطق جبل لبنان حيث مراكز الاصطياف والسياحة، التي تستفيد من مواسمها بعض الفئات من الريفيين المحظوظين، فإن غالبية الارياف والقرى اللبنانية، ولا سيما في الجنوب والبقاع والشمال تعيش في حالة بطالة شبه كلية. فباستثناء ما يوجد من جنود وعناصر قوى امن وموظفين من ابناء العائلات الريفية، فإن بقية افراد العائلة، اذا كان لديهم قطعة ارض تحتاج لعمل شخص او شخصين، يتناوب افراد العائلة على العمل في تلك القطعة بينما يمكث بقية افراد العائلة بلا عمل، وفي اشهر الشتاء الطويلة يجلس كل افراد العائلة حول "الدفاية" يجترون ايامهم واحلامهم وآلامهم، ويندبون حظهم لكونهم ولدوا في دولة تدفن ابناء "شعبها!" وهم احياء.
والطبقة الكومبرادورية اللبنانية توغل بوقاحة لا مثيل لها في تطبيق خطة تدمير القطاعات الانتاجية في لبنان. وقد ركبت على البلد دينا عاما اصبح يتجاوز الـ 50 مليار دولار، الى درجة ان الخزينة بالكاد تستطيع دفع فوائد هذا الدين. ولكن البرجوازية الكومبرادورية اللبنانية لا يهمها هذا الامر بل هي تستفيد منه، لان جزءا كبيرا من مداخيلها يأتي بالتحديد من فوائد هذا الدين (تحت شكل فوائد سندات الخزينة ـ اي ان الدولة، حينما تكون عاجزة او تتظاهر بالعجز عن دفع فوائد الدين الخارجي بالعملة الاجنبية، تصدر سندات دولة او سندات خزينة بفائدة اعلى من فائدة الدين الخارجي، فتجمع المبلغ المطلوب من الاكتتاب بالسندات وتدفعه للخارج، ثم تعود وتدفع الفوائد المرتفعة لسندات الدولة او سندات الخزينة ذاتها للبنوك "الوطنية" التي سبق واشترتها ـ وبذلك فإن المواطن اللبناني المسكين، المقيم والمغترب، يدفع فوائد الدين الخارجي مضاعفة: للصوص الخارج الامبرياليين، وللصوص الداخل الكومبرادوريين. تماما كما كان الفلاح اللبناني في الماضي يدفع الضرائب للسلطان التركي وللباشا او البيك او "الشيخ" "الوطني"). وقد استخدم الدين الخارجي اما للسرقات في المشاريع التجميلية الوهمية وشبه الوهمية (مثل شبكة مياه الصرف الصحي في شوارع بيروت، حيث تبين في احد الفيضانات ان الكثير من منافذ الصرف في الشوارع هي "رسوم صورية") كما ان كل مشاريع تزفيت الطرقات والانفاق والجسور في بيروت والضواحي عملت بتكاليف مضاعفة وغير صالحة لمدد كافية (جسر الضاحية الشمالية لبيروت، انطلياس وما بعدها، لم يمض عليه عشرات السنوات، ويراد الان تقويضه وبناء جسر جديد مكانه. اي ان ملايين الدولارات التي دفعها المواطن على الجسر الحالي ذهبت الى جيوب المحاسيب، وسيدفع فوقها لتقويض الجسر، وسيدفع اكثر واكثر لبناء جسر جديد. هذا هو "لبنان الجديد" الذي تريده اميركا والسعودية وآل الحريري وآل الجميل وطبعا "دولتلو" السنيورة و"دكتور المجازر" جعجع). وقد دمرت في الحرب (وبشكل مقصود) الاسواق المركزية الشعبية في بيروت، التي كانت تضم اسواق الحرفيين (النجارين، والحدادين، والخياطين، والكندرجية، والصاغة، واللحامين، وباعة الدجاج والبيض الخ) وجميع اسواق المنتجات الصناعية والحرفية والزراعية اللبنانية، وكان يعيش من الاسواق عشرات الاف العائلات، وتتسوق منها كل عائلات بيروت الفقيرة ومتوسطة الحال. وبوجود تلك الاسواق كانت بيروت تسمى "ام الفقير". وبعد نهاية الحرب، وبدلا من ان يتم المحافظة على الحقوق العقارية والتجارية للحرفيين والتجار الصغار وغير الصغار في اسواق بيروت، ويتم المحافظة على مصلحة الانتاج اللبناني ومصلحة الشعب اللبناني، ويجري اعادة بناء الاسواق الشعبية البيروتية التي كان عمرها مئات السنين، بطرق هندسية حديثة وتخطيط تجاري وحرفي حديث، ـ بدلا من ذلك تم تهديم وجرف كلي للاسواق التجارية في بيروت، والاستيلاء على الاراضي والعقارات بطريقة اكراهية غير مشروعة (وفي رأيي انه يحق لجميع اصحاب الحقوق القديمة في اسواق بيروت ـ ولكل واحد منهم على حدة ـ رفع دعوى امام محكمة العدل الدولية ضد الدولة اللبنانية وضد المرحوم رفيق الحريري وورثته وكل شركة سوليدار بوصفهم مغتصبين وقطاعي طرق ولصوصا موصوفين)، ـ واخيرا تم بناء سوق تجاري برجوازي مائة بالمائة يؤجر فيه المتر المربع بآلاف الدولارات واصبحت ما يسمى (داون تاون) اشبه شيء بمنطقة "خارجية" مخصصة للاغنياء ولا علاقة لها ببيروت واهل بيروت.
ان البطالة في اوروبا والعالم الغربي هي على العموم جزء من كتلة العاملين، اي انها تضم العمال والموظفين الذين فقدوا اعمالهم لفترة قد تطول او تقصر، والعاطلون عن العمل هم في الغالب اعضاء في النقابات، ولذلك فإن مواجهة البطالة في اوروبا هي جزء من العمل النقابي التريدينيوني، لان العاطلين عن العمل هم جزء من النقابات المعنية وصوتهم مسموع فيها.
اما الصفة المميزة للعاطلين عن العمل والمهمشين في لبنان فهي انهم في الغالب غير اعضاء في النقابات ولم يسبق لهم العمل في مهن معينة، لان غالبيتهم هي اما قرويون نزحوا الى المدينة وعاشوا على الهامش لدى اهاليهم واقاربهم او بشكل عائلات مستقلة يبحث القادرون فيها على العمل عن عمل، واما انهم من الشباب الذين تخرجوا او تسربوا من المدارس والمعاهد وحتى الجامعات وبلغوا سن العمل ولا يستطيعون ان يجدوا عملا. وبالتالي فهؤلاء هم غير مسجلين في النقابات ولا صفة لهم ولا صوت لهم في النقابات. وفي المحصلة فهم "غير موجودين" في السجلات النقابية وفي الاغلب لا تنطبق عليهم صفة "عاطلين عن العمل" رسميا لانهم غير مسجلين في اي مكان الا في دائرة النفوس التي لا تكتشف "وجود" بعضهم الا في حالة الوفاة او في حالة ارتكاب اي مخالفة او الاعتقال او ما شابه.
ولذلك فإن النقابات التريدينيونية في لبنان، وبسبب من طابعها التريدينيوني المطلبي، اولا، وبسبب من انتهازية غالبية قادتها وتبعياتهم الطائفية والسياسية لارباب النظام المركنتيلي السائد، ثانيا، فهي غير مؤهلة و"غير معنية نقابيا!" بالاهتمام بمسألة المهمشين والعاطلين عن العمل، الذين يمثلون الجزء الاعظم من القادرين على العمل في لبنان.
وان طرح قضية المهمشين والعاطلين عن العمل في لبنان لا يمكن ان يتم الا على اساس وطني شامل، باعتبارها اهم قضية وطنية ـ اجتماعية في لبنان. ومعالجة قضية المهمشين والعاطلين عن العمل هي الخطوة الاولى والاساسية والحاسمة نحو معالجة قضية اقتلاع اللبنانيين من ارضهم وتهجيرهم في الشتات. ذلك ان المهمشين والعاطلين عن العمل هم الخزان الاساسي للهجرة.
ولا تحمل قضية المهمشين والعاطلين عن العمل اي طابع ديني او طائفي، بل هي قضية عابرة للاديان والطوائف والمذاهب، لان النظام المركنتيلي اللبناني لا يستهدف اقتلاع طائفة لبنانية دون اخرى، بل يستهدف اقتلاع جماهير الشعب اللبناني بكليته من لبنان، واستبدال اللبنانيين بالعمالة الطارئة، من جهة، وجعل لبنان "واحة" للرساميل الاجنبية المافيوية والنفطوية، من جهة ثانية.
ولهذه الاسباب يتوجب طرح مسألة المهمشين والعاطلين عن العمل في لبنان بوصفها قضية وطنية شاملة تأتي في مرتبة معادلة لمسألة مواجهة الاحتلال الاسرائيلي والتهديد الدائم بالعدوان الاسرائيلي على لبنان. والقوى الوطنية اللبنانية جميعا، ولا سيما في الاطار النقابي والتنظيمات الجماهيرية الطلابية والنسائية والمهنية وغيرها، مدعوة للتبني المباشر والعملي لقضية المهمشين والعاطلين عن العمل، الذين يمثلون قسما كبيرا إن لم يكن القسم الاكبر من جماهير الشعب اللبناني. وكل من لا يتجاوب مع هذه الدعوة ينبغي اتهامه بأنه يمالئ سياسة العدوان الاسرائيلي، وانه متعامل وعميل لاسرائيل، وعدو للشعب اللبناني ويدعم سياسة تهجير اللبنانييين من ارضهم.
ضرورة تأسيس "الهيئة الوطنية العليا
للمحرومين والعاطلين عن العمل ولمكافحة الهجرة"

ويتوجب بادئ ذي بدء ان يتم لقاء النقابيين الوطنيين من مختلف النقابات والاحزاب والتيارات السياسية والطوائف والمذاهب والمناطق، وبحث قضية المهمشين والعاطلين عن العمل في هذا الاطار الوطني، وايجاد هيكلية تنسيقية لهذا الاطار، ومن ثم التحضير للدعوة لمؤتمر وطني عام، تدعى اليه جميع النقابات العمالية والمهنية وجمعيات التجار والصناعيين والهيئات الطلابية والشبابية والنسائية والكشفية والجمعيات الخيرية والنوادي الثقافية والروابط العائلية ونقابات اصحاب العمل والبنوك، والوزارات المعنية (وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، والاشغال، والمالية، والصحة، والثقافة، والتربية والتعليم) والمصالح المستقلة، وجميع البلديات، والشركات الكبرى بصفة خاصة، ووسائل الاعلام جميعا، والاحزاب بأسرها، وجميع المراجع الدينية والمنظمات الدينية، وكل من يلزم. وتطرح في هذا المؤتمر قضية المهمشين والعاطلين عن العمل والهجرة، بوصفها القضية الاجتماعية الوطنية الاولى الى جانب قضية الاحتلال والخطر العدواني الاسرائيلي الدائم، ويدعى هذا المؤتمر الوطني الى انتخاب "هيئة وطنية لبنانية عليا لرعاية المحرومين والعاطلين عن العمل ومكافحة الهجرة"، وتتولى هذه الهيئة متابعة هذه القضية الوطنية الكبرى، ويكون مرجعها المؤتمر الوطني العام الذي يعقد مرة كل سنة.
وتتولى "الهيئة الوطنية اللبنانية العليا لرعاية المهمشين والعاطلين عن العمل ومكافحة الهجرة" العتيدة وضع برنامج وطني شامل للاضطلاع بمهمتها الوطنية الكبرى. ويمكن ان يشمل هذا البرنامج:
ـ1ـ انشاء "صندوق وطني عام لدعم المهمشين والعاطلين عن العمل ومكافحة الهجرة"، وجمع الاموال له باستمرار من الدولة ومن الفعاليات الاقتصادية القادرة، ومن المغتربين المقتدرين، ومن المؤسسات الانسانية العربية والدولية، ومن المنح التي يمكن ان تقدمها للبنان الفعاليات الاقتصادية والدول العربية والاسلامية والاجنبية الصديقة التي تدعم القضية الوطنية للبنان والشعب اللبناني.
ـ2ـ مد يد المساعدة المادية والمعنوية للاولاد والفتيان والشباب، المتسربين من المدارس والمعاهد والجامعات، بسبب الفقر والبطالة، و مساعدتهم للعودة الى الدراسة لمن يرغب، او الى المعاهد الصنائعية والحرفية لمن يرغب.
ـ3ـ مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة والعجزة والمرضى، بالتعاون مع الجمعيات والمؤسسات ذات الصلة، اللبنانية والعربية والاسلامية والدولية.
ـ4ـ القيام بحملات وطنية كبيرة (يتبرع بالمشاركة فيها كل من يرغب، وفي الوقت نفسه تكون مدفوعة الاجر بشكل معقول للعاطلين عن العمل) لتنظيف الشواطئ اللبنانية وتأهيلها تماما للمستفيدين، وجعل الشواطئ اللبنانية منتزهات ومنتجعات نموذجية للسياحة الداخلية والخارجية.
ـ5ـ وعلى النسق ذاته القيام بحملات وطنية كبرى لتشجير الاراضي والجبال الجرداء كي تعود تسمية "لبنان الاخضر" الى مضمونها الحقيقي القديم. وهو ما يساعد على تحسين المناخ في لبنان، ومنع انجراف التربة في الاراضي الزراعية والصالحة للزراعة. ويتم تجنيد العاطلين عن العمل في هذه الحملات مقابل اجور معقولة.
ـ6ـ وضع مشاريع محلية، بالتعاون مع البلديات والدوائر العقارية، ووزارة الزراعة، ووزارة الاشغال، لتنظيف اراضي القرى ومحيطاتها، وتدعيم الجلول الموجودة، وشق وبناء جلول جديدة، وشق الطرقات الى الاراضي المزروعة والصالحة للزراعة، وذلك عن طريق تشكيل "جيوش عمل" او "فرق عمل" مدفوعة الاجر بالاضافة الى المتطوعين. وهذا ما سيؤدي الى زيادة الاراضي المزروعة وتحسين المنتوجات الزراعية، مما يساعد على تخفيض الاسعار داخليا وخارجيا وتشجيع التصدير وزيادته.
ـ7ـ منع التسول والتشرد، وايجاد مآو خاصة لهؤلاء المحتاجين وخاصة الاطفال.
ـ8ـ وضع مشروع وطني يتولى الصندوق تنفيذه ، لاجل ايجاد مكتبة عامة، وناد ثقافي ـ اجتماعي ـ رياضي، وملاعب رياضية، في كل حي في كل مدينة وبلدة كبيرة، وفي كل قرية لبنانية.
ـ9ـ إنشاء مدارس ـ مشاغل صناعية وحرفية نموذجية تشمل اكبر عدد ممكن من المهن. وتقوم هذه المدارس ـ المشاغل بإنتاج السلعة المعينة، وفي الوقت ذاته بتعليم المنتسبين الجدد على انتاج هذه السلعة. وتباع المنتوجات في التعاونيات الموجودة او في تعاونيات جديدة او في مستودعات المؤسسة ذاتها. وتجري امتحانات رسمية مقررة للمتعلمين في هذه المدارس ـ المشاغل، ويتم منحهم "شهادة صناعية رسمية". ومن حيث التنظيم والبرنامج الدراسي والانتاج، تتبع هذه المدارس ـ المشاغل الى النقابة المهنية المعنية، من جهة، والى وزارة التربية والتعليم من جهة ثانية.
ـ10ـ وعلى النسق ذاته يتم انشاء مستشفيات ـ معاهد، يشرف عليها ويعمل فيها اطباء مهرة وبروفسورات، ويتم فيها معالجة المرضى المحتاجين، من ضمن برنامج الضمان الصحي العام، وفي الوقت ذاته يتم تعليم وتدريب اكبر عدد ممكن من طلاب الطب الذين يتابعون دراستهم النظامية، واكبر عدد ممكن من الممرضين والممرضات والقابلات القانونيات، وتعليم اكبر عدد ممكن من المواطنين الراغبين في تعلم اسس الاسعافات الاولية وعلى المحافظة على قواعد الصحة العامة.
ـ11ـ بناء مساكن شعبية للمشردين والنازحين من القرى والمهجرين، بالتعاون مع الوزارات والمصالح المستقلة المختصة. وتنظيم لجان شعبية في كل مجمع سكني للاشراف على الامن ومنع التعديات ضمن المجمع وخارجه.
ضرورة تأسيس "الهيئة الوطنية العليا
للعمل النقابي ـ التعاوني"
ان التحول العضوي للحركة النقابية الى حركة نقابية ـ تعاونية شعبية عامة، وانتشار العمل التعاوني في جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، الانتاجية والخدماتية، الصناعية والحرفية والزراعية والسياحية والخدماتية والتربوية والصحية والثقافية، والارتباط العضوي بين الحركة النقابية ـ التعاونية الشعبية وبين حركة المقاومة الوطنية والاسلامية ضد العدو الاسرائيلي وخطر العدوان والمؤامرات الامبريالية ـ الرجعية، ـ ان كل ذلك يقتضي توحيد الحركة النقابية ـ التعاونية ـ الشعبية في كل واحد، لمنع تفككها، والاستفراد بأي جزء منها، ولاجل الدعم المتبادل فيما بين جميع مكوناتها. ومن هنا تنشأ ضرورة الزامية لانشاء ما يمكن تسميته "الهيئة الوطنية العليا للعمل التعاوني الشعبي" التي تنشأ على اساس انتخابي يتفق على آلياته، وتتمثل فيها جميع مكونات الحركة النقابية ـ التعاونية الشعبية. وتعمل هذه الهيئة بالتنسيق التام مع قيادة المقاومة الوطنية والاسلامية.
والمهمة الاساسية لهذه الهيئة هو القيادة العامة للعمل النقابي ـ التعاوني والتنسيق بين جميع فروعه واقسامه، وتمئيل الجسم النقابي ـ التعاوني لدى مختلف الاطراف الداخلية والخارجية.
×××
استنتاجات عامة
1 ـ ان الرأسمالية العالمية وصلت الى درجة من التفسخ التاريخي انها بدأت بالانتقال السريع من مرحلة الاقتصاد الانتاجي، الى مرحلة الاقتصاد الطفيلي (القائم على الالعاب المالية البورصوية، والقمار والدعارة والمخدرات والسرقات والتزوير والتهريب والجريمة المنظمة وغسيل الاموال وما اشبه) ومن ثم اصبحت تحكم على شعوب بأسرها بالاندثار، ومنها الشعب اللبناني.
2 ـ اثبتت تجربة سقوط المنظومة السوفياتية، والافلاس الاخلاقي والاجتماعي والانساني لبعض ما كان يسمى انظمة حكم قومية ووطنية، تقدمية واشتراكية الخ، كالنظام المصري الذي سبق وانبثق عن الناصرية، وكالنظام العراقي السابق، انه ليس المهم ما هي الصفة السياسية والايديولوجية التي يطلقها اي نظام على نفسه، بل مدى خدمته للجماهير الشعبية، العمال والفلاحين والمثقفين وجميع العاملين بيدهم وفكرهم، والعاطلين عن العمل والمهمشين.
3 ـ واثبتت التجربة التاريخية ان التسييس المطلق للقضية الاجتماعية، ادى الى تزييف السياسة، وتشويه وضرب القضية الاجتماعية. وقد ادى هذا التسييس في البلدان ذات الانظمة "الاشتراكية" و"الثورية" و"التقدمية" و"الوطنية" الى تحويل الدولة الى وحش يأكل المجتمع، في حين ان الدولة كان يجب ان تضمحل تدريجيا، بمعنى ان تعطي وظائفها بالتدريج لبنى المجتمع المدني، بعد التحرر من نير العدو الوطني والطبقي للجماهير الشعبية. ومثلما ادى هذا التسييس الى فصل النخبة السوفياتية عن الجماهير، ومن ثم انحرافها وخيانتها الموضوعية للاشتراكية وللشعب والوطن، فإن مثل هذا التسييس المطلق، الذي لا تعود معه القيادات تفكر الا برصيدها المعنوي والمادي، متناسية حياة ومصالح الجماهير الشعبية، يؤدي الى تزييف وحرف وخيانة الكثير من القيادات الوطنية واليسارية والنقابية الخ، بعد استلام السلطة وكذلك قبله.
4 ـ ان الرأسمالية اصبحت اعجز من ان تقف بوجه تأسيس اشكال علاقات اجتماعية وانتاجية، تعاونية، داخل النظام الرأسمالي. واذا زاد هذا القطاع التعاوني الى نسبة كمية معينة، فإنه كفيل بتحقيق تحول نوعي داخل النظام الرأسمالي ذاته.
5 ـ لقد اثبتت تجربة الثورات الشعبية وحروب التحرير الشعبية، التي تقوم على المبادرة الذاتية للجماهير المناضلة ومبدأ "التسيير الذاتي الجماهيري"، ـ أثبتت هذه التجربة قدرة الجماهير على تحرير ذاتها بذاتها والانتصار على اقوى الجيوش الرأسمالية والامبرالية والاستعمارية العاتية. وبناء على هذه التجربة فإن الجماهير المناضلة اذا ما اخذت بيدها قضية حل المسألة الاجتماعية بالطريق النقابي ـ التعاوني، استنادا على مبدأ "التسيير الذاتي الجماهيري"، فإنها قادرة ايضا على مجابهة الرأسمالية والامبريالية والاستعمار والانتصار عليها داخل اطار النظام الرأسمالي ذاته والدولة البرجوازية ذاتها.
6 ـ ان الرأسمالية المعولمة اصبحت اكثر قدرة على احتواء وتجميد خط الدفاع السلبي للجماهير العمالية والشعبية، الخاص بالدرجة الاولى بالجماهير المؤطرة في عملية الانتاج، لأن الحيز الاجتماعي الذي تشغله هذه الجماهير يصبح أكثر فأكثر ضيقا، بسبب الزيادة الموضوعية لانتاجية العمل وتفاقم طفيلية الطبقات الرأسمالية الاحتكارية والكومبرادورية. ولكنها تصبح أكثر فأكثر عجزا عن احتواء خط الدفاع الايجابي للجماهير العمالية والشعبية، الذي يشمل الحيز الاجتماعي لهذه الجماهير بكاملها، أي المؤطرة في عملية الانتاج والمهمشة والمبعدة عن الانتاج المباشر.
7 ـ واخيرا لا آخرا ان خط العمل النقابي ـ التعاوني ووجهه الآخر مبدأ التسيير الذاتي، القائم على خط الدفاع الايجابي، هو وحده القادر ليس فقط على الخروج من ازمة العمل النقابي والنضال الشعبي، بل كذلك وبالاخص على انقاذ الجماهير الشعبية من السحق الانساني والتحول الى قطعان من المخلوقات شبه البشرية تتكدس في زرائب تأباها الحيوانات ذاتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- روسيا هي العدو التاريخي الاول لليهودية اليوضاسية
- بطريرك كل المسيحيين وكل العرب
- -المسيحية العربية- حجر الاساس للوجود الحضاري للامة العربية
- المسيحية قبل وبعد ميلاد السيد المسيح
- -الفوضى البناءة- ردة اميركية رجعية على هزيمة اسرائيل في حرب ...
- الحرب -الاسلامية!- الاميركية ضد سورية والنفط والغاز في شرقي ...
- معركة سوريا... مشروع افغانستان معكوسة، او الفخ الروسي للعصاب ...
- من التعددية الحضارية الى الآحادية القطبية الرومانية
- الاهمية التاريخية للحروب البونيقية
- بدايات الصراع القومي مع الامبريالية الغربية (تدمير قرطاجة، س ...
- الجذور التاريخية للصراع القومي في العالم القديم
- مأساة غزة وظاهرة الحرب الاستعمارية والابادة الجماعية
- الصراع الوجودي المستمر مع الصهيونية
- من رسالة الى الاتحاد البلغاري للمناضلين ضد الفاشية
- مجزرة اطفال بيت لحم
- جلادو المسيح والمسيحية الشرقية
- التبعية لاميركا تأخذ اوروبا الى القاع
- اميركا تبيع الاوهام القاتلة لحلفائها وروسيا تستنفر قدراتها ا ...
- الدور -العثماني الجديد- للطورانية الاسلامية الكاذبة!!!
- ازمة المديونية تهدد العالم الرأسمالي الغربي


المزيد.....




- “زيادة 100000 دينار عراقي”.. موعد صرف راتب المتقاعدين في الع ...
- باقي كام يوم؟.. موعد إجازة عيد الأضحى 1445-2024 للبنوك والعا ...
- وقفة احتجاجية أمام مقر رئاسة الوزراء في لندن
- سموتريتش يعمل لسن قانون لاستخدام الضرائب الفلسطينية في تخفيف ...
- سلطة النقد تعلن عن بدائل للتعامل بالسيولة النقدية في غزة
- المرصد العمالي: 89 احتجاجا عمّاليا العام الماضي
- المرصد العمالي: 89 احتجاجا عمّاليا العام الماضي
- فيديو.. مغنٍ سويدي يكسر قوانين -يوروفيجن- احتجاجا على مشاركة ...
- الضمان تُخفف الأعباء المالية على القطاع الخاص بسبب ظروف المن ...
- وداعاً لصفوف الانتظار.. رابط حجز موعد بعيادات التأمين الصحي ...


المزيد.....

- الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح ... / ماري سيغارا
- التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت ( ... / روسانا توفارو
- تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات / جيلاني الهمامي
- دليل العمل النقابي / مارية شرف
- الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا ... / خميس بن محمد عرفاوي
- مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها / جهاد عقل
- نظرية الطبقة في عصرنا / دلير زنكنة
- ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟ / محمد الحنفي
- نضالات مناجم جبل عوام في أواخر القرن العشرين / عذري مازغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - جورج حداد - الضرورة التاريخية لوجود حركة نقابية تعاونية جديدة في لبنان