أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جورج حداد - طبيعة الانتصار الروماني على قرطاجة















المزيد.....

طبيعة الانتصار الروماني على قرطاجة


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 4104 - 2013 / 5 / 26 - 15:04
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


هناك فكرة سائدة وهي ان النزاع بين روما وقرطاجة كان نزاعا بين دولتين متماثلتين من حيث النظام الاجتماعي والنزعة الاستعمارية، وان انتصار روما على قرطاجة كان بسبب ان روما كانت اقوى واغنى من قرطاجة.
وفي رأينا المتواضع ان هذه ليست فكرة خاطئة وحسب، بل هي كذبة كبرى من ضمن الثقافة العنصرية المعادية لشعوب الشرق والتي هي جزء اساسي من سياسة الديماغوجيا والكذب التي تنتهجها الدول الاستعمارية والصهيونية من اجل الايحاء بأن الاستعمار هو "أمر طبيعي" تفترضه وتمليه ظروف التفاوت في التطور ونسبة القوى بين مختلف الدول والشعوب. ومن ثم دفعنا الى الاستسلام لـ "قدرنا" و"مصيرنا" كدول وشعوب مستضعفة ومستعمرة وشبه مستعمرة.
وعلينا اولا ان ندحض هذه الكذبة، كشرط حتمي من شروط التحرر من نفوذ الامبريالية والصهيونية والتبعية للغرب.
اننا نستبعد منذ البدء ان تكون عناصر التطور الحضاري، والغنى، والقوة العسكرية، هي السبب المباشر لانتصارات روما على قرطاجة.
طبعا ان روما كانت تمتلك مستوى معينا من التطور الحضاري والغنى، وهو المستوى الذي انطلقت منه في الصراع مع قرطاجة.
ولكن المستوى الذي انطلقت منه روما في بداية الصراع كان ادنى بكثير من المستوى الذي انطلقت منه قرطاجة. ومع ذلك فإن الحرب البونيقية الاولى، ثم الثانية، انتهتا بهزيمة قرطاجة وانتصار روما. ثم انتهت الحرب الثالثة بالسحق التام لقرطاجة.
كما نستبعد ان عامل القوة العسكرية كان هو السبب الحاسم في انتصار روما.
فالقوة العسكرية التي انطلقت منها قرطاجة كانت اقوى واكبر واكثر انتشارا واكثر قدرة على المناورة برا وبحرا، من القوة العسكرية البحرية والبرية لروما.
ومع ذلك فقد انتصرت روما في نهاية المطاف في الحروب البونيقية الثلاث.
وقد انتصرت روما عسكريا، وانتصرت سياسيا (دبلوماسيا). حيث كانت قرطاجة تضعف عسكريا في مجرى الحرب، وكانت روما تقوى. وكانت روما تقوى سياسيا وتتقوى بالحلفاء اكثر فأكثر في مجرى الحرب، الى درجة انها استطاعت تحييد الاغريق، واستمالة القسم الاكبر من الامازيغ للقتال الى جانبها. بينما خسرت قرطاجة الاغريق والامازيغ وحلفاءها السابقين في اسبانيا وفرنسا وايطاليا ذاتها.
ورأينا هذا ليس اكتشافا استثنائيا. فإن اي باحث موضوعي وغير سطحي وصادق يستطيع ان يلاحظ، بدون كثير عناء او كثير ذكاء، ان روما كانت تزداد قوة في مجرى الحرب، وان قرطاجة كانت تتقهقر وتزداد ضعفا. ويمكن ان نعطي القارئ بعض الامثلة الصارخة:
الاول ـ ان البحرية الرومانية كانت اضعف بكثير من البحرية الحربية القرطاجية. وكانت السفن الحربية الرومانية اكثر تخلفا وابطأ واقل قدرة على المناورة. وقد عمد الرومان الى انتشال سفينة حربية قرطاجية غارقة، وتفكيكها ودراسة تصميمها ثم تقليدها وبناء مثلها. وبالسفن الرومانية المقلدة لسفن قرطاجة استطاعت البحرية الرومانية ان تنتصر على البحرية القرطاجية التي كانت قبلا سيدة البحار بدون منازع.
والمثال الثاني ـ ان الحرب البونيقية الاولى انتهت بثورة شديدة ضد قرطاجة قام بها المرتزقة من حلفاء قرطاجة الامازيغ. والسبب هو ان القيادة السياسية لقرطاجة التي كان يسيطر عليها حزب الاغنياء (التجار الكوسموبوليتيين والملاكون العقاريون ـ ملاكو العبيد الكبار) امتنعت بشكل مشبوه عن دفع رواتب الجنود المرتزقة. وقد اتسعت تلك الثورة لتشمل مدنا ومناطق امازيغية عديدة، ودقت اسفينا عميقا بين القرطاجيين (الكنعانيين) والامازيغ سكان البلاد الاصليين. واضطرت قرطاجة الى تحويل السلاح من قتال الرومان الى قتال المرتزقة، وخاصة الامازيغ، الذين كانوا سابقا يقاتلون معها. وقد ادت تطورات هذه الانتفاضة وقمعها الى زعزعة العلاقة بين قرطاجة والامازيغ والى انقلاب قسم كبير من الامازيغ الى جانب روما في الحرب البونيقية الثانية مما ادى الى النهاية المفجعة لتلك الحرب بسحق جيش هنيبعل في معركة زاما سنة 202ق.م بفضل انضمام الخيالة الامازيغ الى جانب الرومان، وهو ما لم يكن هنيبعل يحسب له حسابا.
والمثال الثالث ـ ان هنيبعل العظيم استطاع ان يسحق الجيش الروماني سحقا تاما في معركة كاناي في 216ق.م. واصبحت مدينة روما ذاتها مكشوفة تنتظر الغزو القرطاجي بين يوم وآخر. ولكن هنيبعل لم يكن يتحرك بدوافع الغزو. ومن 216ق.م حتى 202ق.م ظل هنيبعل يحوم حول روما منتظرا النجدات من قرطاجة، لمحاصرة روما وفرض الاستسلام عليها. ولكن النجدات لم تأت ابدا، بسبب امتناع القيادة السياسية لقرطاجة (التي كان يسيطر عليها "حزب الاغنياء") عن نجدة هنيبعل. وقد رد "حزب الاغنياء" على طلب المساعدة من قبل هنيبعل بعبارة معهّرة مشهورة تقول "اذا كان هنيبعل ينتصر، فهو لا يحتاج الى المساعدة، واذا كان لا ينتصر فهو لا يستحق المساعدة"). ورد الرومان على تهديد روما على ارضها بالذات بأن عمدوا الى تجميع قوة تتراوح بين 30 ـ 50 الف مقاتل فقط وارسالها الى الشاطئ الافريقي لمهاجمة القرطاجيين على ارضهم وفي عقر دارهم. وفي رأيي المتواضع، وادعو جميع المؤرخين الصادقين للبحث في ذلك، ان هذا القرار الروماني لم يكن بدون "صلة ما" و"تبادل افكار" مع "حزب الاغنياء" القرطاجي. ولم تجد القيادة السياسية لدولة قرطاجة، التي كانت تعد حوالى 700000 نسمة، لم تجد من الضرورة الاعتماد على القوة الذاتية للدولة لمواجهة هذا الجيش الروماني الصغير وابادته بالكامل. وبدلا من القيام بالتعبئة في قرطاجة ذاتها، انتهزت سلطات قرطاجة الفرصة لتطلب من هنيبعل ترك روما وشأنها والانسحاب بقوته من ايطاليا من اجل مواجهة الجيش الروماني على الارض الافريقية. وكان ذلك الانسحاب اكبر خطأ ستراتيجي ارتكبه هنيبعل تحت ضغط النهج الخياني للقيادة السياسية لقرطاجة (وهو ما يذكرنا اليوم بطلب نزع سلاح حزب الله او تسليمه للدولة اللبنانية). وحينما تواجه الجيشان الروماني والقرطاجي بزعامة هنيبعل في معركة زاما 202ق.م. سحق الرومان وحلفاؤهم الامازيغ جيش هنيبعل سحقا تاما وقتلوا من الجيش القرطاجي اكثر من 30 الف رجل في يوم واحد. وكان السبب الرئيسي المباشر للهزيمة فشل قرطاجة في القيام بتعبئة عامة او واسعة لجيش قوي، من جهة، وانحياز الامازيغ الى جانب المستعمرين الرومان من جهة ثانية. وبعد هذه الهزيمة سقطت قرطاجة من مرتبة قوة دولية، وتحولت الى قوة اقليمية محدودة تحت رحمة روما. واصبحت الطريق مفتوحة تماما الى قرطاجة، التي اضطرت لتوقيع اتفاق سلام مذل مع الرومان المنتصرين.
بعد تقديم هذه الامثلة التي تدحض فكرة ان روما انتصرت بسبب تفوقها الحضاري والعسكري، علينا ان نبحث عن السبب الجوهري لهزيمة قرطاجة. فما هو هذا السبب؟
نسمح لانفسنا اولا ان نطرح الجواب باختصار وهو:
ان السبب الرئيسي الذي ادى الى هزيمة قرطاجة والانتصار الساحق لروما في الحروب البونيقية هو: طبيعة النظام الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ السياسي في كل من الدولتين.
فالنظام الاجتماعي ـ الاقتصادي الذي كان سائدا في قرطاجة كان ينتمي الى الماضي ويعود بجذوره الى المشاعية البدائية الآيلة الى الزوال بعد ظهور الملكية الخاصة.
ونجد من المفيد ان نعرض هنا بعض ما جاء حول المشاعية البدائية في كتاب لروزا لوكسمبورغ بعنوان "المجتمع البدائي وانحلاله"، تقول: " كانت الأرض، لدى البدو والعرب رعاة الماشية، ملكية عائلية. وكانت هذه الملكية العائلية، كما قال الفرنسي داريست في العام 1852، تنتقل من جيل إلى جيل بحيث أن ما من عربي كان بامكانه أن يشير إلى شبر من الأرض ويقول: هذه أرضي أنا.
"ولدى القبائل التي عربت بكاملها، نلاحظ أن التجمعات العائلية كان قد سبق لها أن تفسخت إلى شطائر متميزة، غير أن قوة العائلة ظلت كبيرة للغاية، فالعائلات كانت مسؤولة بالنسبة إلى جبي الضرائب، وكانت هي التي تشتري، بشكل جماعي، الماشية التي ستوزع على أفخاذ وفروع العائلة للغذاء، أما بالنسبة إلى كافة المشاكل المترتبة عن ملكية الأرض، فكان مجلس العائلة هو الذي يتولى وظيفة «الحكم الأعلى»، وكان المرء، لكي يتمكن من العيش بين القبائل (البربر) بحاجة إلى إذن من العائلات، بل وان مجلس العائلات كان يمتلك أراض غير مزروعة. غير أن النظام العام كان نظام الملكية العائلية غير القابلة للقسمة، ومفهوم العائلة لم يكن يعني الأسرة (كما هو الحال في الاستعمال الأوربي للكلمة) بل كان يعني عائلة على النمط البطريركي، مثل تلك التي يصف العهد القديم وجودها لدى اليهود وتضم حلقة كبرى من الأقارب فيهم الأب والأم والأبناء وزوجاتهم والأطفال والأحفاد والاعمام والعمات وأبناء الأخ أم الأخت وأولاد العم. ولقد أشار فرنسي آخر يدعى ليتورن في العام 1870، إلى أن الملكية الموحدة في هذه الحلقة كانت تحت امرة أقدم فرد في العائلة، وهو ينتخب لملء وظائفه، من قبل العائلة بحيث يكون عليه أن يستشير مجلس العائلة بالنسبة إلى كل الطوارئ الهامة، وعلى الأخص بالنسبة إلى بيع الأرض أو شرائها. هكذا كان وضع السكان في الجزائر حين استعمرها الفرنسيون. ولقد كان الأمر بالنسبة إلى الفرنسيين في شمال إفريقيا، تماما مثلما سبق له أن كان بالنسبة إلى الإنكليز في الهند. ففي المنطقتين معا اصطدمت القوة الاستعمارية الأوربية بمقاومة عنيفة نتجت عن العلاقات الاجتماعية العريقة وعن المؤسسات الشيوعية (المشاعية) التي كانت تحمي الفرد إزاء عمليات الاستغلال الرأسمالي الأوربي كما إزاء السياسة المالية الأوربية".

"أما شرف اكتشاف أن هذه الشيوعية هي القاعدة الضرورية، في البنية الاجتماعية للمجتمع البدائي، لشكل التطور الاقتصادي هذا، فيعود إلى عالم اجتماع أمريكي سبق له أن درس الحقوق، هو الأمريكي مورغان".
"على سبيل الرد، والإتيان بتوضيح لكل هذه الأسئلة، كانت الإجابات التي قدمها مورغان للمرة الأولى عام 1877 في كتابه «المجتمع البدائي».
"إن الانتظام داخل عشائر (عائلات) هو الذي قاد التطور الاجتماعي إلى عتبة الحضارة التي يصفها مورغان بأنها تلك الحقبة القصيرة الحديثة جدا من تاريخ الحضارة، حيث بزغت، على أطلال الشيوعية والديموقراطية القديمة، أساليب الملكية الخاصة، وبالتالي الاستغلال ومن ثم المؤسسة العامة القامعة (أي الدولة)، وسيطرة الرجل على المرأة داخل الدولة، ضمن حق الملكية المعطى له، وداخل العائلة. إن مجرى هذه الحقبة التاريخية القصيرة نسبيا، هو الذي شهد إنتاج أهم وأسرع عملية تطور أصابت الإنتاج والعلم والفن، لكنه شهد كذلك كل الانقسامات العميقة التي شهدها المجتمع عن طريق التعارض الطبقي، وشهد أيضا كل البؤس الذي أصاب الشعوب وأدى إلى استعبادها".
"ومن هنا نجد أن الديموقراطية في الإدارة، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق، والتربية الكونية، كلها أمور ستعمل على تكريس المرحلة القادمة السامية من مراحل المجتمع، هي مرحلة تساهم التجربة والعقل والعلم في أخذنا إليها، ولسوف تساهم فيها بشكل دائم كذلك. وتلك المرحلة هي التي ستحيي الحرية والمساواة والإخاء، تلك المبادئ التي عرفتها الأقوام القديمة، لكنها ستحييها من جديد، وبشكل أكثر سموا...»
"والعنف ليس هنا سوى الخادم الذي يعمل لمصلحة التطور الاقتصادي".
بعد عرض هذه الافكار عن المشاعية البدائية كما تقدمها روزا لوكسمبورغ نقول ان قرطاجة كانت حاملا نموذجيا لنظام المشاعية البدائية في شكله الحضاري المتقدم. ومن خلال انشاء مستعمراتهم في مختلف الارجاء التي كانوا يصلون اليها، كان الفينيقيون ـ القرطاجيون يحملون معهم ليس فقط السلع التي ينتجونها، بل كانوا يحملون ايضا العلوم والافكار التي كانوا قد توصلوا اليها، مدركين انهم كي يستطيعوا ان يستمروا وان يتطوروا وان يردوا المخاطر التي تتهددهم من قبل الاباطرة الرومان وغيرهم ومن الفراعنة والملوك الاستبداديين في الشرق والغرب، فإن عليهم نشر ثقافتهم وتعميمها، ونشر التقاليد الاجتماعية والانتاجية لمجتمعهم، القائم على اسس المشاعية البدائية. ولذلك لم يقم القرطاجيون بتدمير المجتمعات التي دخلوا اليها، الا في الحالات التي فرضتها عليهم ظروف الحرب مع روما، وكانوا على العموم يقومون بانشاء علاقات ندية متكافئة مع تلك المجتمعات ويعملون على تطويرها انتاجيا وثقافيا واجتماعيا، ودفعها للوقوف بوجه خطر العبودية الرومانية. وقد استقطب القرطاجيون مختلف القبائل الاسبانية القديمة والغالية (الفرنسية) القديمة للقتال الى جانبهم ضد روما، وحينما وطأ هنيبعل العظيم بقدميه الارض الايطالية كان يقول: انني جئت لاحرر الايطاليين من ظلم روما. وكان يعتمد مبدأ التطوع عن قناعة في جيشه وليس فقط التطوع لاجل الارتزاق. وعشية كل معركة كبيرة كان يجمع الجنود ويخطب فيهم عارضا آرائه وافكاره، ويعطي الحرية للجنود المترددين في ترك الجيش والعودة الى بيوتهم وعائلاتهم. وقد طبق هذا المبدأ حتى حينما اتخذ قراره التاريخي بالانتقال من اسبانيا عبر فرنسا واجتياز جبال الالب في عز الشتاء لمباغتة الجيش الروماني ومهاجمته من حيث لا يتوقع. فقد جمع هنيبعل الجنود واطلق للمترددين حرية المغادرة بالرغم من حاجته الماسة للمزيد من الجنود لتنفيذ خطته الجريئة التي لم يسبقه اليها احد. وبالفعل غادر الجيش حوالى ربع الجنود. وغداة كل معركة كان ينتصر فيها هنيبعل كان يجمع الاسرى ويخطب فيهم انه لم يأت للحرب من اجل استعباد احد، بل للدفاع بوجه العبودية الرومانية، وكان يعمد الى اطلاق سراح جميع الاسرى من القبائل المتحالفة مع روما، بدون ان يطلب من قبائلهم اي فدية. كما كان يحسن معاملة الاسرى الرومانيين انفسهم ويطلب عنهم فدية لاطلاقهم، مع علمه ان غالبيتهم في حال اطلاقهم سيعودون للقتال ضد جيشه.
ان هذا الدور العالمي لقرطاجة هو ما أقض مضاجع روما التي كانت حاملا وممثلا نموذجيا لنظام اجتماعي مناقض تماما هو النظام العبودي. وهذا هو السبب الرئيسي لاندلاع الحروب البونيقية، ولانتصار روما، بسبب الأفضليات "الانتاجية" للنظام العبودي على النظام المشاعي البدائي، وهو ما سنتناوله لاحقا على حدة.
وهنا علينا ان نشير انه في مرحلة اندلاع الحروب البونيقية كانت قرطاجة قد اصبحت منقسمة على نفسها انقساما اجتماعيا وسياسيا شديدا، بين حزبين: حزب وطني مناصر ومدافع عن النظام المشاعي البدائي والملكية الجماعية والدمقراطية الشعبية للمنتجين الاحرار، وحزب الاغنياء المؤيد والعامل لفرض النظام العبودي.
وان ما يمكن تسميته "الحزب الوطني" (بقيادة عائلة البرقيين التي برز منها هملقار وهنيبعل برقة) كان يمثل الطور الاخير من مجتمع المنتجين الاحرار القائم على الملكية المشاعية البدائية.
في حين ان "حزب الاغنياء" (التجار الكوسموبوليتيين والملاكين العقاريين ـ ملاكي العبيد، الكبار) كان يصارع لاجل القضاء على اشكال الملكية المشاعية و"حزبها" و"جيشها"، مباشرة وبالتواطؤ الضمني مع روما. اي ان هذا الحزب كان يسعى نحو هزيمة الجيش الوطني لقرطاجة، وانتصار روما، وان كان ذلك يحمل في طياته خطر القضاء على قرطاجة كدولة وكمجتمع وكشعب حر. وربما ان قادة "حزب الاغنياء" الكوسموبوليتي القرطاجي كانوا يعتقدون انه بتواطئهم مع روما للقضاء على "الحزب الوطني" القرطاجي، فإن روما بعد انتصارها ستكافئ "حزب الاغنياء" بمساعدته على القضاء التام على "المشاعية البدائية" والملكيات الجماعية للمنتجين الاحرار في قرطاجة، وتوظيفه (اي توظيف "حزب الاغنياء) كوكيل لروما في حكم قرطاجة. ولكن روما محت قرطاجة من الخريطة واعطت التاريخ العالمي درسا مرا لا ينسى وهو ان الاستعمار لا يقبل له "شركاء".
نستنتج من ذلك ان الظروف التاريخية العامة، بما فيها "الظروف الوطنية" لقرطاجة خاصة، كانت تعمل باتجاه اسقاط بقايا "المشاعية البدائية" وما ينتج عنها من ملكيات جماعية للمنتجين الاحرار، لان الطبقة الجديدة الناشئة عن ظهور الملكية الخاصة، اي طبقة التجار الكوسموبوليتيين والملاكين العقاريين ـ ملاكي العبيد، كانت مصلحتهم تقضي بالتخلص من جميع اشكال "المشاعية البدائية" و"الملكية الجماعية" لوسائل الانتاج، وإحلال نظام العبودية، الاكثر انتاجية، لان مالك العبيد كان يستحلب كل "قوة العمل" للعبد حتى الرمق الاخير، ولا تكلفه معيشته سوى النزر اليسير الذي يقي العبد من الموت ويمكنه من متابعة العمل لصالح "السيد". واذا عجز العبد عن مواصلة العمل، لمرض او اية اعاقة، فإنه كان يتم قتله فورا لعدم انفاق اي مبلغ عليه "بلا طائل!". وقد انتهجت هذه الطبقة السياسة الكفيلة بانتصار روما على "الحزب الوطني" القرطاجي الممثل السياسي والعسكري للمشاعية البدائية. وبعد هزيمة هنيبعل في معركة زاما لم يتوان "حزب الاغنياء" الخائن عن التآمر لتسليم هنيبعل الى الرومان، فاضطر للفرار الى الشرق، حيث تناول السم مفضلا الانتحار على الوقوع بيد روما مستعبدة الشعوب، التي لم تتوان عن صلب السيد المسيح ذاته فيما بعد.



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تدمير قرطاجة والسقوط العظيم للمشاعية البدائية
- قرطاجة والطور الاخير للنظام المشاعي البدائي
- فلاديمير بوتين: قيصر شعبي عظيم لروسيا العظمى
- مسؤولية الغرب الاستعماري عن المجازر التركية ضد الارمن
- الكتل المالية العالمية المتصارعة في الغرب تصطدم برأسمالية ال ...
- الضرورة التاريخية لوجود حركة نقابية تعاونية جديدة في لبنان
- روسيا هي العدو التاريخي الاول لليهودية اليوضاسية
- بطريرك كل المسيحيين وكل العرب
- -المسيحية العربية- حجر الاساس للوجود الحضاري للامة العربية
- المسيحية قبل وبعد ميلاد السيد المسيح
- -الفوضى البناءة- ردة اميركية رجعية على هزيمة اسرائيل في حرب ...
- الحرب -الاسلامية!- الاميركية ضد سورية والنفط والغاز في شرقي ...
- معركة سوريا... مشروع افغانستان معكوسة، او الفخ الروسي للعصاب ...
- من التعددية الحضارية الى الآحادية القطبية الرومانية
- الاهمية التاريخية للحروب البونيقية
- بدايات الصراع القومي مع الامبريالية الغربية (تدمير قرطاجة، س ...
- الجذور التاريخية للصراع القومي في العالم القديم
- مأساة غزة وظاهرة الحرب الاستعمارية والابادة الجماعية
- الصراع الوجودي المستمر مع الصهيونية
- من رسالة الى الاتحاد البلغاري للمناضلين ضد الفاشية


المزيد.....




- عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر
- واشنطن: سعي إسرائيل لشرعنة مستوطنات في الضفة الغربية -خطير و ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهدافه دبابة إسرائيلية في موقع ال ...
- هل أفشلت صواريخ ومسيرات الحوثيين التحالف البحري الأمريكي؟
- اليمن.. انفجار عبوة ناسفة جرفتها السيول يوقع إصابات (فيديو) ...
- أعراض غير اعتيادية للحساسية
- دراجات نارية رباعية الدفع في خدمة المظليين الروس (فيديو)
- مصر.. التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام الـ-بلوغر- نادين طارق بنشر ...
- ابتكار -ذكاء اصطناعي سام- لوقف خطر روبوتات الدردشة
- الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة على جنوب لبنان


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جورج حداد - طبيعة الانتصار الروماني على قرطاجة