أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي ( 20 )















المزيد.....

منزلنا الريفي ( 20 )


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4290 - 2013 / 11 / 29 - 18:26
المحور: الادب والفن
    


ليس لمنزلنا الريفي مكان، فكل الأمكنة هي مكان منزلنا الريفي، ليس منزلنا الريفي هو تلك البنايات الإسمنتية، بل إن منزلنا الريفي هو التاريخ والوجود، فكل مكان أضفي عليه معنى، ويحقق لي سعادة، ويبث في داخلي طمأنينة، ويغلي في باطني ثورة، ويرعرع في جسدي حب ؛ ذلك هو منزلنا الريفي .
صحيح أنني ابن القرية، لكن ما كانت يوما مهادنة، بل إنها كانت كالقنبلة الموقوتة، ففي أية لحظة يمكن أن تنفجر، إن التاريخ المغربي ما فتئ يبرز أن القرية هي رمز للرفض والنضال من أجل تحقيق الحرية والكرامة الإنسانيتين، ومن ثمة فإنني أعتبر نفسي ثمرة للتراكمات التاريخية، ونتاج للاوعي الجمعي بتعبير كارل غوستاف يونغ، فها هو ينبثق إذن، وفي أحشائه ضروب المعاناة والإقصاء، وما منزلنا الريفي سوى صرخة الصرخات إيذانا بميلاد وعي قروي مهمته نقد الهدر والتمييز، والنبذ والمعاناة، والتأكيد أن القرية هي منبع الإنسان، ومصبه في نفس الوقت، فالإنسان ما هو بالإنسان إذا لم يحب، وإذا لم ينتفض، سيعيش أبد الدهر كأسطوانة فارغة صنعتها معامل المدينة، لقد حان الموعد لنقول : إن القرية وما تزخر به من علامات ورموز عادت إلى تاريخها، والعودة إلى التاريخ معناه العودة إلى الوجود .
لقد كان الوجود منسيا، أما الموجود فكان مستلبا، في قريتنا الآن يقتات القرويون من مخلفات ومنتجات المدينة، أما من قبل، فالإنسان القروي ما هو بالقروي إذا لم يأكل من أرضه ومواشيه ؛ تلك هي التي أسميها بالعزة القروية، لقد كان القروي رافضا للمدينة، ومعتكفا في مزرعته يسرد الحكايات مع رفاقه وأطفاله، كان رافضا حتى الذهاب إليها، فما بالك باستهلاك أوساخها .
منزلنا الريفي هو عودة للمكبوت، وانتفاضة للمهمش، ورجوع للمنسي، ورفض للاستلاب المديني، أين نحن من ذاكرة الجدات القوية ؟ كل شيء تلاشى، فها هي الأفلام المدبلجة تقتحم قريتنا، وتشد إليها الأطفال شدا، لقد تحولت القرية إلى أرخبيل من الجزر المعزولة، كل منزل منحشر في مكانه، ومعتقل من طرف الشاشة .
أما الحديث في مواضيع من قبيل التنمية من طرف شباب القرية، كل شيء هراء، مع العلم أنهم هم الهراء، وهذا ما تهدف إليه السياسة الامبريالية – المدينية، إنها تسعى إلى تطويق الهوامش بواسطة أساليب التعمية والتضليل وملء الفراغ بالأوهام، وما التلفزة إلا آلية لتحقيق ذلك، فالامبريالية – المدينية وأذنابها تعتبر أن الريف وما يحويه من خيرات ومنافع هو أساس استمرارها ووجودها، ومن ثمة ما من سبيل للحصول على ذلك سوى خلق جيل من المشوهين إنسانيا، ولقد أصاب خالي المكي كبد الحقيقة حينما قال لي يوما : " هادي ماشي تلفازة هادي راها تلافة " ؛ إنها تلهي، وتضلل، وتوهم، ندعي أننا نقبض على أشياء، نتماهى مع شخوصها، لكن ما ذلك سوى أكاذيب بعينها .
******************
العزيب ....
منزلنا الريفي ليس إسمنتيا، لم يدخل الإسمنت إلى دوارنا إلا في سبعينات القرن العشرين، فأول بيت بناه جدي بالإسمنت والحجر يعود إلى سنة 1975، أما ما قبل ذلك، فكانت " النوايل والكشاشن "، والخيام، و " العشش "، ومعنى ذلك التنقل الدائم، والحركية والنشاط، لقد كان القرويون ينتقلون ويرتحلون حسب الفصول، إنهم يتماهون إلى درجة الحب الصوفي مع الطبيعة، فكانت هي أمهم ولغتهم وتقويمهم، فكل فعل طبيعي يفسر طبيعيا، فبمجرد ما تهب الرياح، حتى يقولون : " هاد الغربي ؛ هادي النوة ؛ هاد الشركي "، ويحفظون عن ظهر قلب تقويمهم المحلي، فيعرفون متى تبدأ " الليالي "، ومتى تنتهي " الصمايم " .
.............
صيف 2003، يومها حصلت على الشهادة الابتدائية ؛ كنت مغتبطا، ولكن في داخلي حزن، سأغادر قريتي وأذهب إلى المدينة لأتمم دراستي، غير أنني نسيت ذلك، فالصيف كان حلوا، لقد ذبت في لا حدود منزلنا الريفي، وترافقت في الحقول مع شخص، بيد أنه ليس شخصا عاديا، بل كان شخصا لا ينضب، ذاكرته قوية، وحسه متقد ؛ لقد عاش تجربة " العزيب " قرابة سبعة عقود، ولازلت أحتفظ بالعديد من أقواله ؛ إن ذلك هو خالي المكي ...
******************
من هو خالي المكي ؟
شخصية كاريزماتية، ورجل حقاني، كان يرتدي في بعض الأحيان جلابية بنية، لكنه في غالب الأحيان سروال ثوب، أو " قطيفة "، ورداءا أزرقا تعلوه طاقية بنية، والجميل فيه أنه رجل صريح، فإذا كان العيب فيك يقوله لك صراحة .
عاش في بني كرزاز، وتنشأ فيها، يبلغ من العمر الآن أكثر من ثمانين سنة، كان يقود قطيعه بحكمة واتزان، كانت مواشيه تفهمه جيدا، ويفهمها هو جيدا، لما يستيقظ في الصباح يغلق باب عشته، ويطلق بهائمه و أغنامه صوب المرعى، يجلس بقربها، أو يراقبها من بعيد، وعند حلول الزوال يتوجه بها نحو الوادي، وعلى مشارف هذا الأخير تتواجد كروم، هناك يربط خالي المكي بهائمه حيث تستظل بظل الأشجار . وفي في المساء يعود، فيطلق إياها ويهيم بها نحو المرعى، وكان يلتقي بمجموعة من الشيوخ أبرزهم خالي مبارك، وخالي بوعسرية ...وكان يسهب في الحديث معهم، وكانت قهقهاتهم تتعالى في السماء .
كانت العصا لا تفارق خالي المكي، وكان يضعها على ظهره ويشبك عليها يديه، كان يحب الصمت، والصمت إيذان بالتأمل والتفكير، أو لنقل إنه استغوار عميق، وإذا تكلم لا يتكلم من أجل الكلام، بل إن كلامه هادف ؛ ذات مرة قال لي :
" التلفزة وجدت لإلهاء الناس " .
" إن العزيب هو مدخل لفهم نظام الطبيعة "
يظهر أن القولتين لا علاقة بينهما، لكن في حقيقة الأمر هناك علاقة، فالتلفزة إنتاج مديني يعمي ويضلل ويستلب، فالآخر ينتج، والذات تستهلك، إذن القروي ملغي، ومبتور، أما القولة الثانية فهي تفيد الفهم والتماهي والإنتاج والحرية، والذات القروية هي منبع هذه الأشياء، لكن بمشاهدة التلفزة والانجراف مع المنتجات المدينية من شأنه أن ينتج ذاتا قروية ممسوخة .
*******************
كان خالي المكي يترك في عهدتك مواشيه، لأنه كان يثق فيك، فمواشيه هي وجوده ودليل قرويته، فذات مرة قالت له زوجته بعد حصوله على التقاعد : " فلنبع الأرض والمواشي ونذهب إلى المدينة "، فرد عليها : " اذهبي أنت إلى هناك، إلى قفص المدينة، أما أنا فلن أغادر أرضي ومواشي حتى أدفن هنا، أنا ابن هذه الأرض، ووجودي هنا، والذي يبيع أرضه جبان " ؛ كانت كلماته تتغلغل في كيانك بمداد من الفخر والعزة .
كنت تراقب مواشيه كما تراقب أنت تلاميذك الآن، كنت تحترم إياها لا تميز بينها وبين بهائمك، ولما يحل وقت المورد، كنت تجتاز الطريق، ولا تجتاز حتى تفرغ من السيارات، وحين يعود خالي المكي يثني عليك، ويقول لك :
" اذهب حيث تريد، اذهب لتلعب مع هؤلاء الأطفال، فبهائمك في عهدتي " .
........................
أحببت هذا الرجل لصراحته وإنسانيته، وكان نافذة لتحب قريتك، ومرشدا لتحمل المسؤولية، ومعلما لك لقول الحق، وملقنا لك لفعل الثورة .
كان يأخذك إلى مجلس الشيوخ، فهؤلاء لا يقبلون الأطفال، لكن عن طريق خالي المكي قبلوك، لأن كنت صبيا – شيخا، فكنت تستفيد من ذاكرتهم التي لا تنضب .
كان يحدثك عن ماضي الوادي حينما كان يجرف الأرض والزرع، وعن المستعمرين الذين يقتلون كلاب الأهالي، وعن الوطنيين الذين ينسفون مقرات المستعمرين ...
لقد كان هو منزلك الريفي المتنقل، وكان هو يدافع عن براءتك ممن يخاصمك حتى لو لم يحضر في أفعالك وتصرفاتك، لأنه يعرفك، فأنت نسخة منه، وأنتما معا نسخة من الطبيعة، والطبيعة هي البراءة .
*****************
وادي نهر النفيفيخ ...مياه صافية تنساب نحو اللانهاية، ونبات الدفل يفيض عشقا، وأغنام وأبقار شبعت حتى النهاية، قرب المياه كانت تجلس عجوز، وإلى جانبها طفل صغير، وبينما هي تغسل يديها، حدق الطفل في المياه الساقطة المرتطمة بمياه الوادي، هناك تراءى له مشروع منزل ريفي ....
يتبع
عبد الله عنتار – الإنسان / 29 نونبر 2013 / بنسليمان – المغرب



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قناني الحياة
- شرارة وعي من داخل التيه من أجل التيه - قراءة تفكيكية في أعما ...
- منزلنا الريفي ( 19 )
- شحوب وغروب
- منزلنا الريفي ( 18 )
- منزلنا الريفي ( 17 )
- منزلنا الريفي ( 16 )
- دموع حبيبتي
- منزلنا الريفي ( 15 )
- الغروب
- منزلنا الريفي ( 14 )
- منزلنا الريفي ( 13 )
- المواطن - شعيبة - ( 3 )
- زوابع وخريف
- من واد زم إلى زحيليكة : رحلة في ثنايا الريف
- ذكريات...أمواج متلاطمة ...يونس...المهدي
- كابل
- المواطن - شعيبة - ( 2 )
- المواطن شعيبة
- منزلنا الريفي ( 12 ) / ( بني كرزاز...مواقع - أسماء - ملاحم - ...


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي ( 20 )