أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - قراءة لكتاب - النقد الأدبي بين القديم والحديث -















المزيد.....



قراءة لكتاب - النقد الأدبي بين القديم والحديث -


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4290 - 2013 / 11 / 29 - 16:52
المحور: الادب والفن
    


قراءة لكتاب" النقد الأدبي بين القديم والحديث"
للدكتور/ " مدحت الجيار"
صدرت مؤخراً الطبعة الثالثة من كتاب " النقد الأدبي بين القديم والحديث" للدكتور : مدحت الجيار، ويعد هذا الكتاب ثمرة نضج لرؤية اتسعت في نظرية الأدب، بعد قراءات وممارسات نقدية ، نظرية وتطبيقية متعددة ، كما أنه نتاج رحلة مع الفكر والدرس الأكاديمي المتخصص ، وخوض في الأنشطة النقدية والأدبية على نطاق متسع وعميق وذي فاعلية .
تمحور الهدف من البحث قد تمحور في تتبع العلاقة بين الشاعر والتراث في رحلة الحضارة البشرية ، وعرض المؤلف لذلك بالفعل في تصور بانورامي متسع ، لا يقف على التفاصيل الصغيرة ، لأنه غير معنى سوى بالنقاط العامة والسمات الفارقة في كل مذهب أو نظرية أدبية فيما يتعلق بعلاقة الشاعر بالتراث ومن هذه البانوراما العالمية التي شغلت بابين في المؤلف الأول والثاني عرج المؤلف على عرض مفهوم التراث في الحضارة العربية وحدد بداياته ، ثم تتبع علاقة الشاعر العربي الإسلامي بالتراث حتى العصر الحديث.
وتظل سمة هذا الكتاب الفارقة هذه العقلية الناقدة الموسوعية ، التي تتكامل فيها الظواهر وتتجادل وتنصهر لتستوي في النهاية رؤية بانورامية ، ترى الظواهر الأدبية والنقدية في تطورها وحركيتها وتألقها وخفوتها ، ثم ترصد لما يتبقى منها من موروثات تظل عالقة بالتراث الإنساني مشاركة في تشكله ، هذه العقلية التي تخطت كل العصبيات والنظرات الشوفونية إلى مفهوم وأفق إنساني عالمي أرحب وأوسع، عقلية لا تقف على موروث فني أو علمي أو فلسفي لتميزه هذا غربي أو عربي ، بل تراه في منظومته الكونية ، وفي سياقه التطوري التاريخي في تعالٍ على العصبيات . لكن بإدراك واعٍ للفروق بين الحضارات وإضافة كل منها إلى الأخرى.
واعتمد البحث على دراسات ومصادر سابقة ، استعان بها المؤلف على تنسيق مادته وتنظمها ، وهي دراسات لكبار المفكرين والنقاد العرب والغرب مثلت إضافات حقيقية وعميقة لتحديد السمات الجوهرية في نظرية الأدب أو تفسير وتحليل الظواهر الفنية التاريخية ، وبرغم ذلك استند العرض إلى شخصية المؤلف وفهمه الخاص لتطور الظاهرة الفنية تاريخياً والذي عرض لاستنتاجاته الخاصة في منظومة كلية تدلل على تكونَّ رؤية عميقة لديه استقرت ، وظلت تنفتح على ما يستجد من تطورات ، ولقد اتضح هذا في مثل تفسيره لنظرية المحاكاة وإن خالف فيها بعض ماتوافر من اجتهادات.
وهو إذ يعرض لكل ظاهرة أو نظرية أدبية يشير لكل تجلياتها وما يحيط بها، ويؤثر في تكونها في تتابع زمني ومنطقي في ذات الوقت مثل ماذكره عند حديثه عن تأثير الوضعية المنطقية وتسييدها لدور العقل (ص88) ، أو التجليات المختلفة للمدرسة الرومانسية ، وكما أشرت سابقاً للمؤلف قدرة تسليط الضوء على نقاط الإشعاع التي تبقى بالمدارس والتيارات الأدبية مثل ما عرضه من تأثير الرومانسية في الصحوة التي أيقظت ذات الشاعر والمبدع واستمرت حتى اللحظة الآنية.
تميز البحث بإشارة الكاتب وتأكيده المستمر على اجتماعية الظاهرة الفنية الشعرية وتجليها ضمن منظومة اجتماعية سياسية ثقافية اقتصادية مثل إشاراته إلى المناخ الذي ظهر فيه شعر التفعيلة أو إرهاصات الرومانسية في مصر مع الترجمات أو العرب المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا .
- في ثنايا عرض المؤلف لعلاقة الشاعر بالتراث على مر مراحله وتطوراته بتتابع المذاهب والتيارات الفنية ، لا يغفل علاقة النقد والنقاد بالنص الشعري وكيف يتناولونه بالتحليل ، وفي مستوى ثالث يعرض للتفاوت بين النظر النقدي الغربي للنص وسبقه للنضج الفكري، وبين النقد العربي ويشير دائماً للمغايرة والفارق الزمني والسياق الاجتماعي ، والموروث الثقافي والديني وهو ما يضع الظاهرة في سياق مكتمل.
كما يبين الباحث المراحل المتتابعة للنظر النقدي العميق الذي يتسم بالإحاطة مع اختلاف المذاهب ، ففي عرضه لنظرية الخلق يقول :" وبذلك فالبحث في جمال النص يعني التركيز على علاقاته اللغوية والتقنية والأسلوبية ، وهنا نحتاج – بعد التحليل الجمالي – إلى معرفة علاقة هذا النص بتراثه الشعري الخاص".
- تحرى الباحث في أبواب مؤلفه وفصولها أن يكون هناك ربط واتصال فيما بينها، لإحاطة القارئ بالتغيرات وتطوراتها ، دون قطع أو صدع بين تحول وآخر ، ليتوفر لقارئه سلاسة الربط التي تجعله مصاحباً للباحث في هذه الرؤية البانورامية الواسعة التي يقدمها.
- ويدلي د/ مدحت الجيار برأيه في بعض القضايا التي تثار من آن إلى آخر بخصوص تناولنا للتراث ، وقضية الأصالة والمعاصرة ، وفي إشارات ذكية ، غير مباشرة ، يعرَّج عليها ليدلي برأيه المنفتح والمعتدل ، وأتصور رجوع ذلك إلى انشغاله بهذا الهم المقيم لدى المصريين التنويرين منذ عصر النهضة والتحديث الذي نأمل جميعاً في التمتع بتحلياته ، تنضغط الاستفاضة في هذا الشأن بقيد المؤلف بطبيعة بحثه ذي التوجه الفني الأكاديمي المتسع ، يتمثل هذا في إشاراته لموقفنا من القديم وهل العودة إلى مرحلة بعينها هو ما قد يحقق النهوض المأمول لمصر والعرب ؟ ويناقش ذلك ويفنده سريعاً.
- في الأبواب الخاصة بموقف الشاعر العربي من التراث لم يقف الكاتب طويلاً أمام أثر الدين في الفن ، وثبات الشكل الفني للقصيدة العربية برغم تغير المضمون بعد الإسلام ، وتمنيت أن يتناول ذلك بالتحليل ، وأتصور أنه تلافى الخوض في هذه القضية لاعنبارات دينية اجتماعية.
- لم يشر المؤلف أيضاً إلى قضية مهمة وهي الأثر الإسلامي الواضح الذي أشار إليه الباخثون في كثير من القصائد الجاهلية ، تجنب د/ الجيار قضايا الانتحال في الشعر الجاهلي ذي الطابع الإسلامي الذي نلمس فيه التوحيد وطبائع الأخلاق الإسلامية (ص145- 148).
- وفي ظني تجنب د/ مدحت الجيار أيضاً إثارة سؤال يفرض نفسه لماذا لم يستمر تأثير تعاليم الإسلام على الشعر العربي ، وحافظت القصيدة منذ العصر الأموي – في شعر الفتوح وشعر الفرق والمذاهب الإسلامية – على انحيازها للنموذج العربي الجاهلي للقصيدة، كما لم تطور العلوم العقلية التي نشأت حول القرآن والسنة نظراً نقدياً مغايراً عن النقد الذي انطبع بالميل إلى الذوق الفردي والتوجه اللغوي .
تميز البحث باللغة العلمية النقدية ، المنضبطة المصطلح ، والتي لا وعورة بها ، بل هي لغة سهلة لا تستعصى حتى على القارئ العادي ، واتسم العرض بطبيعة خاصة تضعه مع المؤلفات التي لها ميزة البقاء والعطاء وإمكان فتح حوار لا ينتهي معه، فهو ليس كتاباً تعليمياً، قدر ما يقدم رؤية متسقة ومتكاملة.
- تحرى د/ الجيار في كل القضايا والمذاهب التي عرضها بمؤلفه أن يقدم المذهب أو التيار في النظرية الأدبية وتجلياته وتأثيراته المباشرة وغير المباشرة في المجتمع العربي والمصري، فكما تجلت في عينيه وعقله الرؤية العالمية البانورامية خَصَّ مجنمعه بنظرة فاحصة ترصد وتحلل وتفسر الظاهرة الأدبية في سياقها الاجتماعي الخاص ، هذا الضفر والتكامل والمقارنة بين الغرب والعرب أعطى هذا البحث طبيعته المميزة.
- تحرى الباحث في البابين الثالث والرابع إرفاق ظواهره وتياراته الأدبية ، وتحليلاته الفنية بالشاهد الشعري الذي يمثل ويعبر في وضوح عن الظاهرة التي يتناولها الكاتب ، كما تخير الباحث أن تكون نماذجه الاستشهادية لكبار الشعراء في كل عصر وتيار، لتمثيلهم الصادق لهذه التغيرات المتتابعة وسأحاول تقديم إطلالة سريعة توجز أهم التحولات التي تتابعت على علاقة الشاعر بالتراث والتي عرضها د/ الجيار في مؤلفه الجاد والمحكم.
يعالج الكاتب في الباب الأول والثاني علاقة الشاعر بالتراث في النظريات الشعرية الأربع وهي : المحاكاة ، التعبير ، الخلْق ، الواقعية ، وليحيط المؤلف بهذه النظريات عرض لكل نظرية على حدة في مفهومها وخصائصها الغربية ، وتتبع كيف انتقلت إلى النص النقدي والشعري العربي ، ورصد للاختلاف الحادث لها بعد الانتقال عن مصدرها الغربي إلى مستقرها العربي ، ثم تحولها في الباب الثالث والرابع إلى تراث عربي يحدد مفهوم الشعر والشاعر والتراث ، في سياق تاريخي محدد ، ثم التحولات التي تطرأ على المجتمع ومن ثم تحولات الأفكار والنظريات ذاتها ، وخصوصية نظرة وتعامل الشاعر العربي مع التراث العربي والعالمي بمفهومه الواسع حتى نهاية القرن العشرين.
يبدأ د/ الجيار عرضه ببعض المفاهيم الأساسية العامة فيذكر:
تبدأ علاقة الشاعر بالتراث منذ اللحظة الأولى التي يجرب فيها قدراته المشكلة للنص الشعري وتتطور هذه العلاقة عدة مرات حسب علاقة الشاعر بنصه ، ووعيه بذاته الشعرية ، ووعيه بأدوات وماهية ومهمة النص الشعري.
وحين يعرض الكاتب لهذه العلاقات يشير بإيجاز إلى الدوائر المتداخلة التي تتحكم في إخراج النص بشكله النهائي مثل الإجبار الاجتماعي ، تشابه المجتمعات تاريخياً باوإجر المادة التي تشكل بها هذه النصوص والوظائف التي تناط بها.
الحيوية المدهشة التي نجدها عند انتقال فن يمثل نموذج تجربة إجتماعية إلى مجتمع آخر يخرج المؤلف علاقة الشاعر بالتراث الذي يدين له بالولاء إلى أنواع أخرى ، وتراث آخر ، ولغة أخرى.
يتحدث الكاتب عن أهمية الشعر ووظيفته ودوره في الحياة البشرية وعلاقته وحساسيته مع اللغة الوسيط بينه وبين إبداعه ، ثم يشير إلى أن الشاعر عامل منتج لصناعته " الكلمة ، الإيقاع ، التصوير" كما أن الشاعر الحقيقي هو ما يملك تطور الوعي بالشعر وأدوات تشكيله ، والوعي هو القدرة على استخلاص جوهر الشعر ، ويشير د/ مدحت الجيار إلى الجانب النفسي الاجتماعي وأهميته برغم أن كثيراً من مدارس النقد الحديثة تعلن موت المؤلف .
ويقف المؤلف عند اللحظة الإبداعية محاولاً الإمساك بها ووصفها ويصفها بلحظة الحدس والنبوءة التي يرى فيها الشاعر والعالم والنص والأدوات والتراث الشامل لكل ذلك وتقف الدائرة الاجتماعية محيط عاماً تتجادل فيه بقية الدوائر الأخرى.
- ويبقى الإطار الاجتماعي مفسراً لعلاقة الشاعر بالتراث ومفسراً لوجود نظرية شعرية محددة.
يعرض د/ مدحت الجيار في الفصل الثاني من الباب الأول لعلاقة الشاعر بالتراث في نظرية المحاكاة فيذكر:
أسس " أفلاطون" أول قطيعة مع التراث داخل الأمة الواحدة ذلك حين عرف الشاعر أنه صانع يحاكي الأشياء والأحياء من زاوية رؤية خاصة حاولت اليونان الخروج من الخرافة والظن إلى العلم والحقيقة ولذا كان " للمكتسب" اليد الطولى على " الموروث" وكان للحضارة أن تتخلص من تجليات الشفاهية لتصل إلى انضباط وثبات الكتابية ذلك بتسجيل الموروث وجعله حقيقة واضحة ، لذا يزدري أفلاطون هو ميروس في حلمه ويخرجه من النفع المباشر للمدينة ، لأن الشاعر هنا تابع لمصلحة الدوائر المنفردة.
فرضت نظريتا المحاكاة والمثل التي اعتنقها أفلاطون ، علاقة ثنائية مع التراث، علاقة تهدم في التراث ، بقدر ما تبني فيه ، وتعدل من عناصره ، حتى يتلاءم مع الواقع والنص والإنسان الآتي بعد عملية التصحيح والبناء الجديدين.
يصحح د/ مدحت الجيار ويشير إلى ما شاع من فهم وتفسيرات مجافية للحقائق ، ويشير في إطلاع مثقف إلى تفسيره للنظريات التاريخية ويعيد إليها أنظارنا لنراها في حركيتها، فشاعر المحاكاة لا يحاكي قديمه وتراثه ، ولذا فهو يبتعد عن التراث.
ويظل العقل في هذه النظرية قاهراً ديكتاتوراً لكل ما يخالفه من سمات العقل المضاد .
- تبدو علاقة الشاعر بتراثه – عند أرسطو- علاقة قوية ذلك لأنها تعتمد على تصرف الشاعر في كل شيء ، يأتي من الماضي ، أو يرصده في الحاضر ، أو يصور احتمالاته في المستقبل ، مع ملاحظة أن الشاعر لا يحاكي نفسه بل يحاكي ما هو خارجه أي أنه يتمثل الخارج داخله في هيئة صور.
- في عصر النهضة زادت علاقة الشاعر بالتراث لأن الشاعر لم يعد يحاكي الطبيعة والإنسان في الواقع فقط ، بل أصبح يحاكي هذه النصوص الأدبية الرفيعة أيضاً يدخل -المؤلف في ربط غير قسري – الحضارة العربية لنظرية المحاكاة ويأتي عرضة متميزاً بالضفر والتوازي بين الحضارة الغربية والعربية فيعرض لعلاقة الشاعر العربي بتراثه و يشير إلى نجاة الشاعر العربي من إلغاء ذاته كلية ، ومن تأثير أرسطو حتى القرن الثاني الهجري حين ترجم لأرسطو " فن الشعر" ، وكتابه " الخطابة" وظهور فكرة مقتضى الحال التي أحاط بها فكر الشاعر العربي ، فكسرها وجاهر بما يعتور بداخله من أحلام وتمرد وطموحات، وفض – عكس الشاعر المحافظ – فكرة عمود الشعر العربي الموروث .
في الفصل الثالث يعالج المؤلف علاقة الشاعر بالتراث في نظرية التعبير الرومانسي وفيه يشير إلى أن الأدب في عصر النهضة الأوربية هو مايجمع تحقيق ودراسة النصوص الإغريقية واللاتينية وثمار التجربة الإفريقية الكلاسيكية عبر الأدب السكندري ، وثقافة القبائل الغازية التي تحولت إلى فرق مسيحية بموروثاتها التي كانت مزيجاً من الخرافة والأسطورة ، والأشكال الشعبية البدائية من الفنون والأشكال الأدبية ، كما كان هناك تراث إنساني شرقي مهم أتى إليها عن أسيا ، ومن أفريقيا عبر الترجمة.
وهنا يشير المؤلف إلى أن عصر النهضة العباسية فعل ما صنعته النهضة الأوربية عكس عصر الإحياء الذي قصر الأمر على الدائرة العباسية فقط ، إلى أن جاء التطور الحقيقي على يد المدرسة التالية كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والعقاد ومدرسة الديوان وغيرهم.
كما يناقش الكاتب قضية التبعية المزعومة في الحضارات ويدحضها بحديثه عن الدورات التاريخية ، كما أن التراث المنقول دون استئذان يخضع للتصفية والتوجيه ، ويوظف عادة لحل مشكلة أو إجابة على سؤال معضلة ، فكل حضارة تعطي لغيرها في لحظة قوتها ، وتنقل الحضارة الأقل تقدماً من الحضارة المتقدمة باستمرار، لكن لابد أن يأتي عليها الدور لتقدم شيئاً للحضارة البشرية ، فهو نتاج إنساني ملك للبشرية جميعها.
أعطت مفردات الحياة الكنسية وازدياد حركات التجارة والحياة العسكرية وإعداد الجيوش والرحلة والحكايات ، والروح الشعبي في القصص الخيالية العجيبة فرصة لتنشيط العقل والخيال البشريين للظهور والفعل ، كما برزت رؤية نهضوية ، كان الاختلاف فيها تحرر العقل من كتب الكنيسة .
ويشير الكاتب في ثنايا ضفره بين الحضارة الغربية وتحولاتها وتحولات الحضارة العربية إلى تحولات دور الشاعر في الحضارة العربية وتحوله من حكيم صاحب رسالة إلى شاعر مُسَلٍّ نديم في العصر المملوكي والعثماني ، وتأثير المنجز العربي على أعمال وشعراء ومفكري النهضة العربية ، ونضوج الأنواع الشعبية في العواصم العربية الكبرى ، كردة فعل عن تدني وهبوط مستوى الأدب الرسمي.
تظهر الرومانسية حين يحاول الإنسان بعد تجربته المادية فك حصار العقل والمادة ، والهروب منها إلى عوالم مريحة ، فأصبح الشاعر يعبر ويصور بدلاً من أن يحاكي ، أصبح الداخل ذو الخصوصية المدهشة الساحرة هو ما يتغياه الشاعر دون أن يتخلى عن تراثه بعامة والشعري بخاصة ، لكنه أسقط ما في الذات على العالم فأخذ منه حاجته، وأنسن ماهو غير إنساني ، ولجأ إلى لغة الحياة اليومية التي تدل على عصر جديد ولغة جديدة ، كما برز مفهوم الوحدة العضوية وانصهار الحواس وتراسلها وانصهار الفنون مع الشعر.
انصهر التراث الإنساني والقومي في ذات الشاعر المعبر ، المصور ، وظهرت خصوصية الأداء بدلاً من عموميته ، فالشاعر الرومانسي ليس عبدا ناقلاً للتراث ، بل سيداً يسخر التراث لخدمته.
ولقد نقل الشاعر العربي في القرن (20،19) عن هذه الرومانسية ترجمة وتقليداً وإبداعاً ثم انتقى مالاءم هذه التوجهات من التراث العباسي العربي مع بعض التغيرات .
يركز الكاتب على مفهوم نقدي تنويري منفتح على الحضارات الإنسانية ، وينبذ المؤلف هذه الرؤى المتطرفة العصبية أو شوفونية التوجه ، وتظل تكامل الرؤية والإحاطة بالظواهر ومسباباتها وأطرافها المختلفة التي تغذيها ومن ثم تشكلها هاجسة وشاغلة ليبرز رؤية عميقة للظواهر ، ومنها تطل قناعاته الخاصة وهو الذي يتضح في تقسيمه للتراث إلى محور أفقي ورأسي أفقي فيه التراكم المعرفي والتقني والأسلوبي واللغوي غذاء يمد الشعر ، كما يطل الرأسي مركزاً على مطالب العصر والذات الفردة في الأن المكتوب فيه النص الشعري.
ويرى المؤلف أن القطيعة من التراث مستحيلة وضرب من الانتحار الشعري ، كما أن جدل الحضور والغياب والتناص يلعب الدور الرئيسي في تشكيل النص الآن الشعري ، فمجرد رفض الشكل السابق ، والبحث عن شكل شعري جديد، يعني أنه أفاد وتناص مع السابق بالموارثة أو الإهمال.
فبعد أن كان الشعر إلهاماً وفيضاً وشيطاناً أصبح تعبيراً ورؤيا وخيراً وجمالاً.
وبعد أن كانت وظيفة الشاعر الترديد ، أصبح يخلق النص ويخترعه ويبتكره ، وتحول الشاعر الكاهن الحكيم إلى الشاعر المعبر عن رؤيا صادقة كرؤى الأنبياء ، وتبدل ثبات العقل إلى حركية العاطفة والوجدان وبالتالي ليس هناك نص سابق نموذج ، وبعد أن كان النص يشاكل الواقع ، أصبح يشاكل كل نفس الشاعر وصدقه الفني ، من أجل تغيير الواقع والنفس معاً.
ولذلك تفتح الرومانسية الباب على مصراعيه على التراث الإنساني بعامة.
ويعنون المؤلف الباب الثاني " بالنظر الموضوعي لعلاقة الشاعر بالتراث في نظرية الأدب" ويضع للفصل الأول عنوان" توازن العلاقة بين الشاعر والتراث في نظرية الخلق" وللمؤلف في عرضه القدرة على تبيان الفروق الدقيقة والمؤثرة بين المذاهب ، وقدرة التعبير عنها بسلاسة ولغة ميسرة دون تعقيدات مثل عرضه للفروق بين محاكاة الحقيقة المجردة وإخضاع التراث لفكر الشاعر النظري وهنا يبدو دور الشاعر موضوعياً وفكرياً.
وبين نظرية التعبير الرومانسية التي يتلون فيها التراث بمشاعر وعواطف الشاعر الخاصة كما يتلون التراث بدوائر ثلاث متصلة هي الجنس والبيئة والعصر . وبذلك يتحول النص إلى وثيقة للتاريخ النفسي والذاتي للمبدع ، ووثيقة تاريخية لأمته ووطنه ودولته .
يضع د/ مدحت الجيار علاقة الشاعر بالتراث فوق هذه الثنائيات ويرى أن علاقة الشاعر بالتراث بلا حدود ، ولا تقف عند مستوى من المستويات لأنها متشابكة ، ومعقدة وتاريخية في الوقت نفسه . إذ كل شاعر – برغم تميزه – صورة معدلة عن صورة الشاعر الأول ولذا ينتفي القول بالشاعر النموذج ، ومن هنا يرجع د/ مدحت قيام نظرية الخلق التي تصحح العلاقة بين الشاعر والتراث والتي تستند في الأساس على تقديم الدراسات اللغوية الحديثة بدءاً من سوسير مروراً بجماعة الشكليين الروس جماعة " أوباياز" وجماعة "براغ" حتى استواء النظرية على يد (ت.اس. إليوت) (1888م – 1965م) الذي قال بأن الكاتب عندما يكتب عمله يعدل التقاليد الموروثة نفسها ، ويصبح كل نص نتاجاً طبيعياً للتراث ، ثم يتحول هو بدوره إلى رصيد هذا التراث فيما بعد.
وتبرز هنا علاقة الشاعر بالتراث في خلق التراث الخاص للشاعر ، واستكماله التراث السابق أي أن العلاقة الناضجة بين الشاعر والتراث لدى إليوت في " أنه (الشاعر) يختزن الموروث الذي ظل من قبله معطلاً بل أنه يعيد جدل أكبر عدد ممكن من طاقات الموروث المفككة" .
وصلنا إلى مرحلة الصدق الشعري المحكوم على صدقه داخل علاقات النص ، وبذا تصبح علاقة الشاعر بالتراث علاقة موضوعية فنية في المقام الأول ، وتتجدد بدون أفق من العوائق .
- لأول مرة يصبح النص الشعري كتاباً مستقلاً نسبياً وتصبح الوظيفة الجمالية في المقام الأول لتتراجع الوظيفة الأخلاقية ، والنفسية والاجتماعية.
- مع الوضعية المنطقية كانت هناك حرية الاستدعاء والاستلهام ، والاختلاف والتناقض مع التراث مثلما أعطت حرية الاتفاق معه.
وفي الفصل الثاني يعالج المؤلف نظرية الانعكاس فيذكر أن التراث خصيصة جوهرية في مفهوم نظرية الانعكاس ، وتنطلق هذه النظرية من أساس مادي يرى " أن مادة الحياة هي التي تحدد صورة هذه الحياة ... أن الوجود يحدد الوعي – وأن حقائق الأساس المادي في المجتمع تفسر صور الثقافة في هذا المجتمع وتحددها . ومن الأصول الجمالية ...إن مضامين الفنون تحدد أشكالها.
اختلفت الواقعية ونظرية الانعكاس في النظر النقدي والإبداعي المصري العربي لأن الظرف الاجتماعي العربي لا يستطيع أن يتخلى عن الأخلاق والعقيدة والأشكال الفنية الموروثة .
ويتهدم التصنيف الإيديولجي ويتحول إلى تصنيف فني مع ميراث الشكليين الروس وغيرهم، ولم يعد الانحياز الطبقي هو ما يميز الشاعر قدر ما تميزه المهارات الفنية واللغوية والتشكيلية الجمالية.
يتحول المؤلف في عرضه لنظرية الانعكاس إلى الواقع الثقافي والفني المصري ويعرض لمختلف الفنون المصرية في فترة الخمسينيات والستينيات ويشير إلى ازدهار اللغة الفصحى واللهجة العامية كل في إبداعاته ، وأتصور أن انعطافة المؤلف ووقوفه على هذه الفترة يرجع لازدهار الفنون والحياة الثقافية والاجتماعية بمصر ، وما حدث بها من تحولات دفعته إلى الوقوف عندها ورصد السمات الفنية فيها. بعد هزيمة (1967م) ازدادت علاقة الشاعر العربي بالتراث توثيقاً لأنها ملاذ من واقع مهزوم ، وزادت تقنية الإسقاط السياسي على التراث في الشعر.
والتراث في هذه الرؤية كان رافداً مهماً في الأدب بعامة، ورافداً جوهرياً في الشعر العربي ، لأنه يمثل جذور النوع الأدبي وأصوله ، ومراحل تطوره وأشكاله ومعجمه وأساليبه ، وتمسك المبدع بالتراث لتحديد الهوية ، فأعيد انتاجه لمواجهة التغريب وإعطائه دلالة جديدة دون استلاب أو تشويه بل تعامل مع جوهر التراث.
- كسرت حدة سيطرة الانعكاس وتجلياتها ومستوياتها المتعددة في تجليات متعددة للبنيوية الشكلية والتكوينية والتوليدية ثم التفكيكية خاصة بعد صدور مجلة فصول النقدية في القاهرة (1981م) ، الأمر الذي جعل الشاعر العربي يعيد صياغة مفهومه للنص الشعري وعلاقته بالأشكال الشعرية الموروثة ، مثل ظهور شعر التفعيلة وتعامله مع جوهر الشعر العروضي .
- ويفسر المؤلف ظهور التصنيف الجديد وهو أدب الأجيال مع هيمنة نظرية الانعكاس فكل اتجاه فكري أو سياسي يقسم الأجيال حسب مصالحه وانحيازه الطبقي والسياسي والأدبي.
لقد أصبح دور التراث في تشكيل النص الشعري ضرورة لتعميقه وتواصله مع بنية الواقع المادية والثقافية والروحية ، برز التعامل مع التراث بوحدات فاعلة متشابكة وليس وحدات زخرفية ، تعدد الأصوات والمستويات داخل النص ، تشكيل أفق دراميي داخل النص الشعري بالاستفادة من تقنيات النثر.
وفي الفصل الأول من الباب الثالث يتبحر المؤلف في تغطية مصطلح التراث ويعالج ويشير إلى محاوره المختلفة (ص 134،131)، ثم يتحدث عن خصوصية التراث الشعري العربي وأنه فن خالص للعرب لم يأخذوه عن أحد ، ولذا لا يجوز الحديث عن قديم وجديد في الشعر الجاهلي فهو نموذج أصيل للعرب ، تراث شفاهي صياغي متوارث.
يشير المؤلف إلى الاضطراب العظيم الذي أصاب علاقة الشاعر العربي بتراثه الشعري بخاصة بعد ظهور القرآن الكريم ، حدث تغير في استخدام الأغراض الشعرية فالتصورات الجديدة للحياة والموت والآخرة وما اعتمدت عليه من توحيد الله وإعطائه كل الصفات المطلقة والأزلية اللانهائية خالفت التصورات في الحياة الجاهلية ، لكن بقيت التقاليد الفنية الخاصة بالوزن والقافية والسرد.
انتقى الشاعر المسلم ما يتوافق من التراث الشعري مع الإسلام وأحدث قطيعة مع التراث المناقض للإسلام ، واستغنى الشاعر عن تقاليد الجاهلية، كالمقدمة والخاتمة وتعدد الموضوعات ، مثل نماذج حسان بن ثابت (ص147) اختفت المقدمات الخمرية والغزلية والطللية وأدخل معجم جديد وتراكيب جديدة تأثرت بالقرآن وعوالمه وأخلاقه كما تأثرت بالسنة النبوية وماتواتر عن الرسول من أحاديث نبوية ، وأصبح النص الجديد مثل النظم الذي يحمل رسالة موجهة.
يوضح المؤلف أن السياقات التي أطلقها القرآن الكريم على الشعر والشاعر قد باعدت بين الشاعر المسلم والتراث الشعري الجاهلي.
ويشير المؤلف إلى نمو النص الشعري الشعبي مع مقتل الحسن والحسين وآلام الشيعة ، وكانت هذه الطوابع الشعبية والأسطورية الشعبية بداية دخول الشعر العربي الحلقة الملحمية التمثيلية لأول مرة في تاريخه ، لكن السياسة والمذهبية وعائق اللغة الفارسية ، أجلا الظهور ثم انقطع بعد سيطرة الدولة الأموية على الحكم ، ويظل التراث عربياً خالصاً حتى نهاية العصر الأموي وهو ما سمى بعصر الاحتجاج.
ويشير المؤلف إلى اتساع التراث بالنسبة للشاعر بعد أن وجدت علوم حول القرآن والسنة والحديث واللغة ، كما ظهرت التوجهات العقلانية لبعض المذاهب العربية و الإسلامية والوافد من ثقافة عبر اللغات غير العربية.
إن ثقافة العصر وإبداعه وتقاليده ، ينتجها أصحاب العصر ممن لديهم القدرة على ذلك وبهذا يتحدد دور الفرد في جماعته ، ويعرف مصير النص في تراثه وعصره في وقت واحد .
ثم يشير المؤلف إلى تسييد الدولة الأموية لعمود الشعر العربي وتجاهلها كل ما انتجته الحضارات الأخرى في لغاتها الأعجمية ، ظهر الضرر من خلال التثبيت وعدم التجديد ، ولذا كانت حركات المجددين منذ سيطرت الاتجاهات الشيعية والسنية التي اكتوت من تجميد أوضاع غير العرب المسلمين .
فيكتب ابن أبي ربيعة حوارات وينوع الأصوات بداخل النص ، ويكتب أبو نواس أبياتاً بلا قافية ويتغزل بالخمر ، ويطيح بشار بالمقدمة الطللية ثم تتوالى تجديدات أبي تمام والمتنبي والمعري ، ويشير المؤلف إلى أن التجديد لا يرتبط بالشكل الثابت أو المتحرك ، بل يرتبط بقدرة الشاعر على توظيف لغته و أساليبه وخياله وموروثاته وعصره الآتي.
لقد توالت على الحضارة العربية ثلاثة مدارس في نظرة الشاعر للتراث:
(1) مدرسة التفكير بالتراث دون إلغاء الذات المبدعة .
(2) مدرسة التفكير بالتراث البديل أي إقامة الذات محل التراث الماضي دون الخروج من عباءة التراث ومسئوليته.
(3) مدرسة الحوار والجدل مع التراث إما لرفضه وإما بقبوله بشروط خاصة.
في الفصل الثاني من الباب الثالث يتحدث المؤلف عن التجديد في العصر العباسي الذي يناقض قيم البداوة ، لقد أصبح المثل الأعلى هو الحياة نفسها ، والذات التي تعيشها ، وليس شعر البطولة وفحول الجاهلية ، كانت هناك حياة مدنية جديدة ، تفككت فيها العصبية ، وكثر الوافد غير العربي ، فتحولت الذات من ناقلة إلى فاعلة ، وتعرفت الحاضر وقارنته بالأمس، إنه إعادة نظر في كل الموروث.
ثم يعرض المؤلف للتحولات التي طرأت على القصيدة ، المشهد اليومي التصويري المجاز في شكل الاستعارة ، التسلية ، الجرس الصوتي في صورة البديع .
لم يصنع أبو تمام قطيعة مع التراث ، بقدر ما تواصل مع ما يتفق مزاجه ومذهبه من شعر وحياة.
ويشير المؤلف إلى الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية التي احتضنت هذه التغيرات ، وهو إذ يعرض لمقومات ثقافة أبي نواس ، ينتصر الناقد لهذه القيم العقلية المتحررة (ص190:183).
ثم يعرض المؤلف لسيادة النمط الشعري المحافظ على يد البحتري لسيادة نمط الانتاج الإقطاعي من منتصف القن الثالث حتى منتصف القرن الثالث حتى منتصف القرن الرابع ، ثم يعرض لخصائص مذهب البديع على يد أبي تمام .
وأصبحت علاقة الشاعر المحدث تكمن في الخروج على عمود الشعر بما لا يصدم العربية الفصحى – تحولت من مجاراة إلى مباراة- ، بينما الشاعر المحافظ يحاول التجديد بداخل عمود الشعر دون خروج .
هنا يدخل التراث اليوناني الفلسفي والنقدي والبلاغي لينضم إلى التراث العربي ، هذا التغير لم يحدث مرة واحدة بل تجادل مع نفسه ومع تراثه كثيراً.
ساوى المتنبي علاقته بالتراث مع علاقته بذاته ، ويعد هذا تطوراً في علاقة الشاعر العربي بالتراث الشعري والنقدي على السواء ، جعل المتنبي شعره ضمن شعر المحدثين المولدين لكنه بلفظ فصيح ، ويعد ذلك إضافة للمتنبي في ما يتعلق بالنظر إلى التراث ثم يأتي أبو العلاء ويعيد صياغة علاقة الشاعر بتراثه مرة أخرى حين يتزيد في التمسك بعمود الشعر ، بزيادة القيود في الالتزام بما لا يلزم ، قدم أبو العلاء صياغة جديدة لعلاقة الشاعر بالتراث ، وهي قصائد فلسفية جديدة قوامها الواقع ، والرصد واستعمال العقل وتغليبه.
وفي الفصل الثالث من الباب الثالث يعالج المؤلف العصر المملوكي والعثماني فيذكر فترت علاقة الشاعر بالتراث في العصر المملوكي ، وأصبحت في أضيق حدودها ، فالتراث لم يعد مادة للكتابة بل أصبح يقوم بوظيفة الزخرفة الشعرية عن طريق التضمين والاستشهاد والاقتباس ، وظفر النثر بدور جوهري في عصر سيطر فيه الخطيب والمقاتل أمام العدو وفي فترة الحكم العثماني ازداد الشعر هبوطاً وأصبحت الهوة شاسعة بين الشاعر والتراث ، واقتصر مفهوم التراث على التراث الديني والشعبي المتداول.
ثم ينتقل الباحث إلى الشاعر العربي الحديث وعلاقته بالتراث في الفصل الأول من الباب الرابع فيتابع:
كانت الحملة الفرنسية بمثابة الهزة التي ايقظت المصريين وأجبرتهم أن يبحثوا عن هويتهم لذا صار استدعاء التراث في لحظات انتصاره ومجده ضرورة وجود واستمرت جهود الإحياء للتراث والاتصال بالآخر لأكثر من مائة وثلاثين سنة من الإحياء للصالح من هذا التراث بجانب التكيف مع المتغيرات الجديدة ، وانقلبت الموازين وتغيرت علاقة الشاعر بتراثه مرة أخرى ، فقد استخدم التراث ووظف لخدمة النص .
ويشير د/ مدحت الجيار إلى دور قطب الإحياء رفاعة رافع الطهطاوي في ربط كل الموضوعات التي تكلم وكتب فيها بالتراث العربي في أوج ازدهاره ، ثم يشير إلى دور محمود سامي البارودي وتأكيده على إضافة دور المجاز والخيال إلى الشعر ، إستناداً إلى تعريف ابن خلدون في مقدمته إلى الشعر ، لقد أضاف البارودي أن سمح لذات الشاعر أن تتحرك مع خياله مع حوار جاد وعميق مع التراث السابق في عصور ازدهاره ، ثم يعرض للموجه الثالثة على يد شوقي وحافظ والإضافة التي تميزوا بها وهي الانفتاح على الغرب شاركهم في هذا رواد المذهب الرومانسي وكل منهم أخذ بقدر من الانفتاح على الغرب والمذاهب الفنية فيه ، أو أحياء التراث والتمسك بتقاليد عمود الشعر العربي ، وكتب شوقي المسرح الشعري ليقدم برهاناً على قدرة العربية والنص الشعري على مجاراة القديم والجديد معاً.
ومع المد الرومانسي استخدمت عناصر التراث القديمة بعد أن تدخلت الذات الشاعرة لتحصل على وجودها وخصائصها ، المتوحدة المميزة وبعد أن عمدت تبيان خصوصية مصرية من قضايا العصر والمكان ، ولذا وجدت نقلة شكلية مثلت انعكاساً لمضمون جديد وحساسية جديدة تجاه الواقع والتراث ، و الذات في الشعر العربي الحديث ، فقرة نقلت الشعر من محاكاة الأشكال إلى التعبير عن الذات الفردة ، ومن تراث لأناس ماتوا إلى تراث لأناس أحياء ، إذ حول الأطلال المادية إلى أطلال نفسية ، وحول الطلل الخالي إلى قصة حب قديمة ، ملأت نفسه حتى فاضت شعراً ، وحول كل عناصر الحياة المادية والروحية إلى رموز وعناصر شعرية ذات دلالات جديدة في نص شعري جديد ، وكان ذلك تجاوباً مع معطيات الواقع السياسي والاجتماعي.
وينكسر النموذج الرومانسي ليبرز الهامش المتمرد في شكل شعر التفعيلة مع حركات التحرر الوطنية وحصول الدول العربية فيما بعد على استقلالها في الفصل الثاني.
ويشير الكاتب إلى فضل الرومانسية في التخلص من التبعية العمياء للتراث وقتلت مقولات الصدق والنبوة والوحي والسحر ، وبعدت بالشعر عن الزيف والمباشرة والتصنع والافتعال والركاكة ، وأخرجت الشعر إلى تعمق النفس دون كذب كما نبهت الرومانسية الشاعر إلى ذاته وعصره وتراثه وتراث العالم كله.
تمثل ظاهرة شعر التفعيلة حلقة مهمة في سلسلة تطور علاقة الشاعر العربي الحديث والمعاصر بالتراث بصفته جزءاً من رؤية شعرية شاملة وأداه من أدوات التشكل الشعري من خلال رؤية جدلية يسيطر عليها الشاعر ويخضعها لما يريده من خلق نسق عقلي وفكري وفني وجمالي ، لذا فهو يستدعى العنصر الذي يحقق له هذا الجدل الخلاق فهي علاقة ناضجة استوعب فيها الشاعر كل العلاقات السابقة في المذاهب التقليدية والاحيائية والرومانسية.
لقد أصبح النص الشعري نصاً مفتوحاً متجادلاً مع الذات التي تبدعه ومع الثقافة العالمية التراث والواقع والنظريات ، مع الواقع ومع اللغة ومع الظرف التاريخي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
أي أن العلاقات الاجتماعية تحد الصلة الجمالية بتحديد أفاقها وأن الصلة الجمالية تنـزع نحو الإفلات من هذا الحد والتحديد.
خضعت القصيدة العربية إلى نوعين من التجديد أحدهما جوهري يدخل في تركيب القصيدة ويطورها وثانيها: تطور وتجديد شكلي عرض لمن يستمر في تشكيل القصيدة كما يرى د/ مدحت الجيارالذي يؤكد في نهاية مؤلفه على أن الحداثة نشاط عقلي فعال، لابد أن يغذيه اتجاه عقلي أو ديمقراطي لتتوجه العناصر المتعددة إلى سياق الوحدة من خلال التعدد وحتى يعطي هذا الاتجاه العقلاني الديمقراطي..فرصة لاتساع الأفق في النظر إلى التراث، وفي فهم المعاصرة والتحديث ، الأمر الذي يرتبط بين التجديد وحركة العقل والواقع معاً ويوظفهما في تشكيل استراتيجية للقول ، أو للخطاب العربي في كل تجلياته.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في أقل من دقيقة.. -قصة قصيرة -
- بنية الانفصالات في سردية -قسمة الغرماء -للروائي يوسف القعيد
- تداخل النصوص في القصيدة المعاصرة ..ديوان -الشاعر والشيخ - لل ...
- شعرية الأشياء في ديوان -الفجوة في شكلها الأخير- للشاعر عاطف ...
- ثورة مصر .. رؤية يسارية لثورة 25 يناير يقدمها - سمير أمين -
- -المنطقة العمياء- سرد نسوي متحرر -مجموعة قصصية- للقصاصة أسما ...
- التوازي والتداخل في سردية -ترابها زعفران- للروائي إدوار الخر ...
- أنا ..أنت ..وهو ..مناورة الضمائر في سردية -الأنثي في مناورة ...
- التقنيات السردية المتجاورة في رواية -حرمتان ومحرم- للروائي - ...
- تكسر الدلالات اليقينية في ديوان - هو تقريبا متأكد - للشاعر أ ...
- الرؤية والتشكيل في رواية -سلام - للروائي هاني النقشبندي
- هل النقد الأدبي علم ؟
- - بلاد أضيق من الحب - عرض مسرحي مأخوذ عن نص - سعد الله ونوس ...
- دعوة من اللا تاريخ ..- قصة قصيرة -
- تقاطعات قصيدة النثر في ديوان -الكتابة فوق الجدران- للشاعر -ع ...
- الشعرية والألعاب السردية في ديوان -تفكيك السعادة- للشاعر -مؤ ...
- جدلية الانفصال والاتصال في المجموعة القصصية -سوق الجمعة - لل ...
- ومضات ثقافية ..2013 م
- كفى ..شهر زاد!؟
- أن تخط اسمه كاملا..- قصة قصيرة-


المزيد.....




- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - قراءة لكتاب - النقد الأدبي بين القديم والحديث -