أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - تقاطعات قصيدة النثر في ديوان -الكتابة فوق الجدران- للشاعر -عبد العزيز موافي-















المزيد.....


تقاطعات قصيدة النثر في ديوان -الكتابة فوق الجدران- للشاعر -عبد العزيز موافي-


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4277 - 2013 / 11 / 16 - 10:27
المحور: الادب والفن
    


بسم الله الرحمن الرحيم
تقاطعات قصيدة النثر
في ديوان " الكتابة فوق الجدران"
يتحدث النقاد ومنظري علم الجمال عن قصيدة النثر المعاصرة واصفين إياها تارة بقصيدة حداثية أو قصيدة ما بعد حداثية ، مطمئنين إلى التحديدات والمواصفات التي اتسمت بها هذه التيارات في موجات مجتمعة أومتتابعة من إصدرات الشعراء.
لكن واقع قصيدة النثر المعاصرة – في بعض الدواوين والنصوص الشعرية – يند ويخرج عن هذه القولبة ، هناك تمردٌ على السمات الخاصة بكل تيار والتي تستدعي إحداها الأخرى بداخل التيار ذاته ، وأتصور أن قصيدة النثر المعاصرة في حاجة إلى نظر نقدي وجمالي أكثر توتراً لا يركن للإطمئنان أو الثبات ، نظر أكثر انفتاحاً على التيارين الحداثي وما بعد الحداثي ، فهناك تداخل انتقائي لسمات من كلا المذهبين في المنتج الشعري المعاصر ، هذه الانتقاءات التي ترتكز على ثقافة المبدع واقتناعاته عن مفهوم الشعر ودوره وتكنيك صياغته.
الواقع الشعري يقول إن هناك نصوصاً تجمع بين طياتها التقنيات الفنية للحداثة وما بعد الحداثة مجتمعة ، ذلك حين شذبت بعض المفاهيم ولم تجنح للتطرف .
تبدو السمات الحداثية – على سبيل المثال لا الحصر – حين خففت من غلواء تعويلها على دور الذات الشاعرة وميلها إلى دور النبوة أو المصلح الاجتماعي ، وحين خففت أيضاً من استغراقها في المجاز التصويري المتراكب والمتراكم الذي أثقل النص بطبقات من الغموض الكثيف والمشتت للقارئ.
هذبت سمات ما بعد الحداثة في النص المعاصر حين تم جذبه من حياديته ولا مبالاته بالهم الإنساني العام والهم المجتمعي ، وحين تبدي أن هناك موازنة في الاحتفاء باللغة التقريرية وجمالياتها الخاصة التي تعتمد على زاوية الالتقاط وطرافتها وبين جمال المجاز التصويري في حالة عدم الاستغراق والاستغلاق فيه؛ لما يهبه للنص واللغة من إمكانات خيالية غير محددة، باعثة على التجدد والابتكار.
أتصورحديثي السابق افتتاحية لازمة لدراسة نقدية أقدمها لأحدث دواوين الأستاذ عبد العزيز موافي فلقد رأيت في ديوان" الكتابة فوق الجدران" اجتماع وانصهار السمات الفنية والفكرية لتياري الحداثة وما بعدها.
شاعرنا كما نعلم من شعراء جيل السبعينيات ، لكنه المبدع الناقد الذي احتضن التغيرات والتطورات المتتابعة وكان لايزال راصداً لكل ما يستجد على الساحة الشعرية والنقدية ؛ولذا أتصوره مبدعاً امتلك هدفاً أعلى وهو الوصول بنصه إلى حالة من الشعرية الرائقة والعميقة دون وضع مواصفات حدية تحد من تجربته الإبداعية .
فالشاعر لم ينكفىء على ذاته شأن شعراء ما بعد الحداثة ، بل لقد تعامل مع الشكل المجسم المصمت " الجدار" واستنطقه وغير من إيحاءاته ، بتغير زاوية الرؤية، وزاوية سقوط الضوء في مراحل زمنية متعاقبة ، وفي لقطات إنسانية متغايرة ومتفاوتة ، فالشاعر من خلال الجدران والحوائط يرسم مشهداً مجازياً رمزياً يحاور فيه التاريخ والحاضر ، الحاضر المصري والعربي والفلسطيني ثم يصنع شبه بانوراما كاملة من خلال مشاهد متنوعة للواقع الاجتماعي والسياسي في مصر في قصيدته " الكتابة فوق اللافتات" (ص56:35) .
كما يحاور الشاعر التاريخ والموروث الشعري والثقافي العربي في رؤية يقول فيها "إنها نفس الرياح القديمة / تهب على صحراء لا يقيم بها سوى/ الكلمات" (ص60).
وتقترب الذات الشاعرة في الديوان من ملامح ذات " تيار الحداثة" فمازال يتلبسها ما يشبه روح النبوة فقط في الإشارة إلى مشاهد الخلل ، أو إذا جاز القول الذات التي تتكلم ولا تذعن للصمت ، وتحلم بالتغيير ، حتى وإن كان الوجود الذي تصبو إليه على نَحْوٍ منتقص يقول الشاعر في :" حائط شبه أخير" . كانوا يريدون لنا أن نصمت / لكننا/ مازلنا نتكلم ،/ هذا هو المهم الصمت يعني أن تموت بلا انقطاع ، ربما تسهو اللغات، لكنها لا تنطفىء/ إذن .. فلنتحدث لغة تتورط مع الحجارة / في ضجيج صامت ، لكنه مرئى)(ص55).
اختلفت إلى حد ما الذات الشاعرة عما كان يبدو في تيار الحداثة فخفت حدة الصوت الواثق من القدرة على الفعل ، لكن بقايا الوجود لم تنسحب منها، وظلت آثاره تراودها يقول :"...وحدَها الأعين / ما تزال قادرة على الصراخ..."(ص37).
ويقول الشاعر في مفتتح ثانٍ تحت عنوان الكتابة فوق الشواهد :" الملك فؤاد صار شارعاً/ لاظوغلي باشا أصبح / ميدانا/ أمل دنقل كان قصيدة نحن نطأ الشوارع والميادين ، لكننا/نعشق القصائد..." (ص84).
من هذا النص تتضح مكانة الشاعر والقصيدة عند شاعر السبعينيات التي لم تتحول رؤاه كلَّية ، لكنها تعدلت بما يتناسب مع روح العصر الذي نحياه، وبقايا إيمان بالوجود الإنساني والفني ، ذات شاعرة تختلف عن الذات ما بعد الحداثية المنسحبة من الحياة والقضايا التي تحوطها ، الذات التي يتملكها اليأس والحيادية فانكفأت على أشيائها ومفرداتها الصغيرة في حالةمن اللانفعال واللاعواطف.
وتعبر طريقة بناء الديوان ذاته عن هذه الذات التي لازالت تؤمن بامكاناتها العقلية وتعتز بثقافتها وانتمائها الفكرية ، ذات ترى في إمكاناتها الثقافية والفنية تقديم رؤية متسقة ومتماسكة لإحدى المفاهيم والكيانات الحاملة لتعدد المعاني وتنوعها مثل مفهوم " الجدار"، قدرة شعرية في استطاعتها أن تقيم بناء يتراكم ويتنوع مثلما حدث في ديوان " الكتابة فوق الجدران " فمن خلال فكرة محورية استطاع المبدع أن يشيد هذا التشكيل الفني والفكري للحوائط أو الجدران ولقد ذكرني التقسيم البنائي الذي اعتمد عليه الشاعر في الديوان " بلزوم مالايلزم" عند أبي العلاء المعري في تراثنا الشعري.
تتيح التقنيات الشعرية الحديثة للفنان كثيراً من الحرية التي تمكنه من عدم التقيد بهيكلة بنائية ملزمة تقلص من انطلاق العملية الإبداعية بأية صورة ، كما مكنته من التحرر والتخفف حتى من العنوانات ، حتى أننا نجد بعض الدواوين الشعرية قد استغنت عن العنوانات واستعاضت بالأرقام ، وتبدو كثيراً من دون هيكلة بنائية تضم القصائد على اختلافها .
ولقد ألزم الشاعر نفسه بتقسيم مركَّب يدور حول الجدران وما يتصل بها من لافتات، وجدران الكعبة والشواهد والأوراق، أو حين قسم الحوائط الجانبية إلى الرمال وأحجار الهرم ومرآة المصعد أو فوق علبة السجائر ، أو حتى الحائط الشخصي أو ظل الرجل .
وفي ظني أن الشاعر قد اشتغل ذهنياً وأدرج كل ما يصلح حائطاً حتى لوكان مجازياً فقد استهوته الفكرة المعجبة ألا وهي الكتابة على الجدران في معناها ومغزاها الفني العميق، أخرج عبد العزيز موافي الجدران من المفهوم الضيق الجامد إلى أفق زماني ومكاني أرحب وأكثر امتداداً ووهبها حياة تتجدد على الدوام.
ولطبيعة هذه الهيكلة البنائية كان للقصائد سمات خاصة:-
(1)- جاءت القصائد على شكل لوحات صغيرة ، ذات حساسية فائقة، أو فلاشات سريعة ذات كناية عميقة ، كما أراد أن يقيم كياناً فكان لابد أن يشير إلى تاريخه وجذوره العميقة، فجاءت قصيدة " ماضي الحوائط" في شبه تأصيل زمني استهل به الديوان" كان الفراعنة يربون الحجارة ، فإذا ماكبرت ينقشون فوقها كلمات تقتسم الموت والانتصارات" (ص8).
(2)- اتكأ على المجاز وفيوضاته التأويلية الفسيحة دون إغراق، فلقد تعامل مع قصائد "الحوائط الجانبية " بحنكة فنية عالية ، استطاع أن يلوي أعناق الجماد " مرآة المصعد، أحجار الهرم ، رمال الشاطئ، علبة السجائر" فكانت الصلابة في يديه وقريحته ليناً وطوعاً جميلاً ، لنستشعر أننا أمام عقلية نقدية ممنهجة لكنها في ذات الوقت تتمتع بحساسيات فنية رفيعة يقول مكثفاً حياة فنان تشكيلي سريالي " كان جورج حنين يشيد / امبراطورية الحوائط ، حين رآه جنرال من شبرا/ فشيد مثله امبراطورية/ كل رعاياها من المشعوذين والشعراء : كانوا يطلقون الماضي كالبالونات/ في الهواء. أما هو / فقد ظل يغمر كفيه في رائحة النساء / اللائي تبعثرت ملامحهن / فوق أصابعه.." (ص33).
(3)- هذه العقلية النقدية الممنهجة تدرك انتماءاتها الثقافية المتعددة فكانت الكتابة فوق جدران الكعبة بعد جدران الفراعنة ، وجدران ذاته الإنسانية شديدة الخصوصية وهو بالطبع لن يغفل قضية أمته وجيله، فكانت " الحوائط الفلسطينية" يقول :" كون الوطن حلماً / لا يعني أن نتشبث بالنوم، / بل ربما بالموت/ رغم أنه نوم بلا أحلام ." (ص79).
(4)- تظل سمات الذات الحداثية تؤرق الشاعر دون انغماس فاعل، فتطل مجموعة قصائد الكتابة فوق اللافتات لتصنع مسحاً شديدة الخصوبة والإحاطة بفئات ومجموعات تشكَّل الواقع المصري المعاصر، يقول :" تلك الحوائط من سلالة صامتة،/ ربما/ لأنّها تربت في الأسر ،/ . كي تبتكر للهاوية اسماً آخر،/ أو تراوغ نفس الوجوه/ التي اعتادتها،/ دون شعارات مسبقة/ أو لافتات تستند إلى ماضٍ / مرفوع مؤقتاً من/ الذاكرة.." النص كاملاً(ص54:35).
وفي قصيدته حوائط أخرى يستعرض الشاعر في صور فنية المنسحبين من الحياة في قوله: "حوائط عارية من ترف الكتابة" (ص41). غير القادرين على مناوشة الحياة/ ثم هناك الحائط الأول المتمثل في الحزب الحاكم وقادته بشعاراتهم وأكاذبيهم ، متواطئون مع الأصوليين الذين يسيرون باتجاه الماضي ، وفي حائط ثانٍ يتحدث عن الأحزاب الميتة، الحوائط المثقلة بالغبار " تمارس فن الموت الخطأ.." (ص49) وفي حائط ثالث يتكلم عن الحوائط المنتقبة يقول:" وفي ظلمة عصية على الفهم تنمو فوقها اللافتات / كالريش /تلك اللافتات تمضي بخفةٍ/ عكس اتجاه السير" (ص50).
في حائط رابع يستعرض الشاعر مظاهر مُتَرعة لطبقة رأسمالية صاعدة "رجال الأعمال" يقـــول:" وفي خيلاء كانت الحوائط المترفة تحشد/ كبرياءها الزائف / كي تتحرر من الكتابة .."(ص53). وفي حائط شبه أخير يتحدث عن الجموع من الشعب، عن المثقفين والمبدعين ثم هناك حائط أخير وترتفع فيه لافتة" بلا كلمات !!/ فتأملوا / جمال الخرس.."(ص56).
هذه هي الحوائط التي يشيد فوقها بنيان هذا الوطن وهذا المجتمع.
(5)- التزام الشاعر بهذا الشكل البنائي والرمزي للفظ " الحوائط" أخضعها للتكرار الذي يحمل في داخله ومن خلال رموزه اختلافات جوهرية وقد يترك بعض اللبس عند المتلقي في تأويل رموزه.
هذه الفكرة المعجبة المركبة التي راقت للشاعر أرهقت " النص/ الديوان) للوهلة الأولى أو القراءة السريعة بعنوانات رئيسية وفرعية تعبر عن شيء من التحايل الذي استدعى الذهاب إلى الرمز والمجاز والتأويل.
لكنني أتصور أن الشاعر قد صنع هذا ليعبر عن واقع حياتي وطني وعالمي دولي ، معقد ومتشابك.
لقد أصبحت المسميات أكثر مرونة ومراوغة إلى الحد الذي يجعلها تستوعب النقائض والمواقف المتضادة والملتبسة فتحت نفس الشعارات والمصطلحات تلوي أعناق المعاني والقيم؛ ليفرض على الجميع منطق وإرادة القوى.
دعونا نتساءل أين هي البساطة أو السلاسة في الحياة، وفي تاريخ الإنسان، وواقعه اليومي؟ حياتنا أكثر تعقيداً وغموضاً عند التوقف للتبصر بها، واقعنا أكثر ارتباكاً لخضوعه لمن يملكون مقاليد القوة والتحكم، حياة الإنسان وجوده وواقعه يظللهم الغموض والتعقيد لذا يأتي الشعر متساوياً مع الوجود الفعلي وفي الجزء الخاص بحوائط جانبية تحت عنوانات "حائط شخصي ، حائط ثان، حائط ثالث،وحائط أخير" يبدع الشاعر لقطات رومانسية واقعية شديدة الشفافية والعمق تحت مسمى حائط، ويبدو برغم ما بذله الشاعر من جهد ليذيب مادية هذا المسمى إلا أنني لازلت أشعر أن تلك المشاعر الحساسة والعميقة لا يمكن أن تذكر تحت مسمى حائط مثل قوله :" وحين حوصرت بين حائط جسدي / ظلت تنظف ذاكرتها من التفاصيل / العالقة بها، بينما كنت أعيد تشفير ماضيها.." (ص32).
كيف يمكن أن تصبح عملية التطهير وإعادة الهيكلة تلك من جسد يمكن أن يوصف ولو مجازياً بالحائط ، أتصوره أنا جسداً نورانياً.
** المشهد في ديوان الكتابة فوق الجدران
للشاعر عبد العزيز موافي طريقته الخاصة في تكوين مشاهده وفيها تنداح الحدود المميزة لتيار الحداثةأو مابعدها في تكوين القصيدة الشعرية.
هَمشت القصيدة مُابعد الحداثية الصور المجازية وأعلت من اعتمادها على المشهد البصري وقد كان لديوان الكتابة فوق الجدران خصوصية مغايرة، فلقد شكل الشاعر التكوين المجازي والخيالي مشهداً وأخضعه للشكل البصري الذي يتيح التجسيد، الذي تكمن به نوعاً من الشعرية التي تغذي حواس الإنسان، فخلَّق عناصر للمشهد بأن أوجد له المكان وأشياؤه الحركة والشخوص، الدراما والمفارقة،يقول في مشهد مبدع متحدثاً عن رحيل " أمل دنقل": "فوق الطاولة التي لم تعد/ تمتد بيننا: كأسي فارغة من الروم، ومن أحلامه المثقلة بالديوان/ لذا / ارتجل موته الكيماوي/ ومضى بأقدام منطفئة،/ إلى ظلام مشرق بلا انقطاع .."(ص88)
لقد جسد الشاعر من خلال المشهد المجازي معاناة شديدة التجريد واعطاها الابعاد البصرية والمعالم التي تبقيها ملموسة في ذهن متلقيه بحساسية وشفافية شديدة التأثير فكان هناك المكان " فوق الطاولة" والزمان وإن كان زماناً سلبياً التي لم تعد تمتد بينا" وكانت هناك الحركة التي تدفع بالمشهد إلى تجسيده لمناطق التوتر المؤثرة ، وتمثله للحياة في واقعيتها يقول:" ومضى بأقدام منطفئة، إلى ظلام مشرق بلا انقطاع.." .
لنا أن نلاحظ أيضاً عدم اتخاذ الشاعر موقفاً رافضاً من الأساليب البلاغية المعهودة في استخدام اللغة الشعرية، فالتضاد القائم بين ظلام ومشْرق أمر اعتاده الشعراء لكن بكارة الاستخدام وتوظيفه لمعنى شديد الخصوصية لكينونة أمل دنقل وما يمثله، هي ما أعطى هذا الثقل الفني لتضاد معهود الاستخدام كما أن إضافة هذا التضاد لقوله ومضى بأقدام منطفئة أشعلت هذا الانطفاء وجعلته في منطقة خاصة وملتبسة، منطقة بين الحياة والموت بين الوجود واللاوجود.
في مشهد استرجاعي يحشد له الفنان وسائل فنية متنوعة تهبه شعرية كثيفة، وتصل به إلى درجة نضج إبداعي تحمل بصماته الخاصة، معتمدة على أن التجربة الشعرية في جريانها الطبيعي أقوى كثيراً من المواصفات والتحديدات التي تتسم بها التيارات الأدبية.
يقول تحت عنوان " حائط شخصي" :" أتذكر أنها- بأصبع الروج- كتبت/ حروفنا الأولى / فوق مرآة المصعدوقتها/ تماسكت الشفاه والأيدي / إلى درجة النسيان وبعد سنوات قليلة / حين حاولنا تبادل نفس القبلات / اكتشفنا / أن لها طعم الغرف المغلقة..." (ص29). إذا حاولنا تحليل طريقة بنية هذا النص سنجد:
1- اعتماده على شعرية السرد في قوله أتذكر..،وقتها..، وبعد سنوات قليلة ، فالاسترجاع هنا على مرحلتين زمنتين.
2- استخدام تقنية المشهد فالمقطوعة الشعرية كلها عبارة عن مشهد واحد، ترتب عليه مشهد أخر في مرحلة زمنية أخرى.
3- استخدام المجاز البصري كما سماه الشاعر في مؤلفه" قصيدة النثر" المشهد ذاته يحمل مجازه.
4- شعرية الأشياء والتفاصيل " أصبع الروج، مرآة المصعد" واستخدم الفنان للألفاظ المتداولة واليومية / لكنها الموحية من خلال واقعيتها وطرافتها في آن واحد.
5- شعرية المفارقة في قوله واصفاً القبلات بعد مرور سنوات بان لها طعم الغرف المغلقة" المفارقة التي عبر عنها من خلال كناية مبدعة تنبىء عن تحول المشاعر وتبدلها إلى إحساس يدعو إلى الاختناق والقِدَم ولقد هيأ للقبلات هذا المعنى من خلال علاقة الإضافة.
6- شعرية الكناية فالمقطوعة كلها تنبىء عن آثار الزمن والأيام على الإنسان ومشاعره.
7- استخدام بلاغة الصور المجازية في قوله تماسكت الشفاه والأيدي إلى درجة النسيان أو قوله أن للقبلات طعم الغرف المغلقة.
أهدف من هذا التحليل لمكونات المقطوعة الشعرية إلى القول بأن الشاعر وظف من أجل نصه كل الأدوات أو الوسائل الفنية طالما أنها ستتيح لنصه الشعرية المكثفة ودون أن يضع لنصه إطاراً تابعاً للحداثة أو ما بعدها أظنه ارتأى أن للفن والشعر قامة أعلى من سمات التيارات وانتقى التحرر الذي يوظف أفضل ما يراه من كل مذهب ، أفضل ما يعبر عن تجربته الشعرية ويوائمها.
** الصورة في ديوان الكتابة فوق الجدران
حوصرت شعرية الحداثة واستغلقت من كثرة التعسف في الصورة الشعرية و التركيب في المجاز التصويري الذي تحول إلى عدوان أتى على أخضر الشعر وجماله،. في قصائد ديوان"الكتابة فوق الجدران" هناك عودة معتدلة إلى الصورة الشعرية الجميلة الطازجة غير المعقدة ، واتصور أن هناك مواءمة قد تمت بين الاستغراق في الشيء ، أو استعماله بالقدر الذي يجليه ويسهم في إضاءة القصيدة.
شعرية الديوان قائمة على المزج التوليفي بين لغة الحقيقة أو مايسمى بالتقريرية، ولغة المجاز، ولكل جماله ، وجمال دمجهما في كيان واحد، ولنا أن لا ننسى أن لغة الشعر دائماً ما تفلت من كل تحديد.
يقول الشاعر في حوائط أخرى :" لافتات تنقض وضوءها/ وأخرى تخوض عميقاً في الوحل،/ بينما الموتى- وحدَهم – يتثاءبون / في فراغ ممتلىء/ بذاته..." في مشهد مصنوع رمزي يتحدث الشاعر عن إنتماءات فكرية متابينة من خلال المجاز التصويري.
ولنا أن نلتقط هذا الفراغ الممتلىء بذاته وكم هي بديعة هذه الصور المبتكرة غير المتداولة لشعرية الحقيقة وللغة التقرير جمال، لكن الصورة الذهنية تحمل من الإبعاد التخيلية ما يجعلها تتروى في ذهن المتلقى وتستوقفه فتقدم له الشيء الذي لم تعتده عيناه فتدفع ذهنه ومخيلته إلى المشاركة في صنع هذا المعنى فيشعر بجماله وأبعاده الرأسية وليست الأفقية التي تقدمها العين فقط .
تقدم الصورة المجازية في الديوان وهي في حالة من الذوبان بين كونها صورة في مشهد مدرجه في تكوينه السردي الكلي، وكونها مجازاً معبراً عن رؤية أو فكرة مبدعة في التقاطها، يقول الشاعر :" وحين حوُصرت بين حائط جسدي ،/ ظلت تنظف ذاكرتها من التفاصيل/ العالقة بها، بينما كنت أعيد تشفير ماضيها.." (ص32).
يقدم هذا المشهد المجازي دليلاً بيناً على طريقة عبد العزيز موافي في وضع المشهد البصري والصور المجازية في ديالكتيك خلاق من أجل شعرية ذات خصوصية.
** اللغة في الديوان
في قصيدة " الكتابة فوق جدران الكعبة" لنا أن نلاحظ التحولات التي طرأت على اللغة، لقد استحضرت الذاكرة الشعرية الثقافة العربية التراثية وتاريخاً له نكهة وطابع مميز، فوجدنا ألفاظ ومفردات البدو فبدت القصيدة وكأن ريحاً صحراوية قد هبت فوقها وتوالت المفردات والتعبيرات من أمثال" جذور القصائد، الرماح النواهل،تضطرم الأماكن، الغرانيق،طللأ دارساً، مضجع أعزل، نعمة التشبيب...وهكذا يوظف الشاعر اللغة بمفرداتها وألفاظها وتراكيبها لتنقلنا لحضارة أخرى كانت الأولى " الحضارة الفرعونية" تسجل فوق الجدران الموت والانتصارات في جدلية الفناء والخلود، والثانية " الحضارة العربية" لا تقيم بها سوى الكلمات، أيام العرب، الكر والفر، شعراؤهم ومعلقاتهم ، أيامهم وحروبهم.
ويتجلى إبداع الشاعر في قدرته على إعطاء مادته صوتها الصحيح ، ونقل متلقيه إلى الانطباع العام الذي ينتقل إليه فهو إذ ينتقل إلى قصيدة "بانت سعاد" تتحول لغته إلى لغة رومانسية شديدة الرهافة والحساسية والكبرياء يقول :" كانت قد افتقدت مؤخراً ابتسامة / تليق بها"، / لذا، ظلت تستند إلى ماضٍ / يتنفس بعمق، كي لا يعكر كبرياءّها" (ص95).
يعتمد تكنيك بناء القصيدة النثرية عند عبد العزيز موافي في قصيدة ماضي الحوائط على المزج بين الشعرية النثرية " المكثفة والنثر السردي في مقطوعات متوالية ويلجأ الشاعر لهذه التقنية في مقدمة الديوان ليهىء لنا القص ويعود بنا إلى التاريخ عودة شعرية وسردية في آن واحد وهو إذْ يحكي التاريخ بالمجاز الجميل يوشي مقاطعه بالمجاز، ، الذي يمزج بين اللغة التقريرية واللغة الفنية، ينير قضايا اللغة والنقوش غير المسكونة في تعمده إضافة الأبعاد المتنوعة إلى لغة الأبعاد الفنية والفكرية التي تثري العمل الشعري يقول:" ما أقصر الطرق التي تؤدي إلى لغة الحجر، وما/ أطول المعاني التي تتشرد في فضائها!!/ إنها حالة من التطهر في لغة غير مسكونة / سوى بالنفوش/" (ص9).
ويوظف الشاعر العودة السردية إلى الماضي من أجل مقارنة بين الحاضر المتهاوي المتمثل في الكتابة فوق اللافتات في قوله :" إنها حوائط زائفة / تغافل الأزمنة وترتحل باتجاه ذاكرة مؤجلة / في نقوش لا وريث لها سوى الفراغ ، وذاكرة / تشرع في الرحيل.."(ص11).
فالشعر هنا ليس مجرد بوح ذاتي بل هو بناء يتعامل مع الإنسان والذات حين تعترك بالقضايا الفكرية العامة المجردة والتي تتسم بالنظرات الفلسفية والإنسانية العميقة التي تتناول الأشياء والموجودات والتاريخ الإنساني في قضاياه الأزلية. وكدأب شعراء السبعينيات لا يحرم شاعرنا نصه من أحد الأركان التي تهب نصه الشاعرية الخاصة المميزة فتراه يتماشى مع الموروث الشعبي ، أمثاله وخرافاته ما استقر في العقل الجمعي لمجتمعه يقول :" المرأة التي كانت تسير بحذاء الماضي ، وفي الاتجاه المعاكس/ كان يتنازعها ظلان:/ ظل رجل،/ وظل حائط أخيراً / أدركت أنها حالة من النسيان / لم تعد ممكنة " (ص23) اللافت للنظر في هذا النص هو خصوصية التعامل مع الموروث من الأمثال الشعبية ، يهبها الشاعر عالماً جديداً من خلال ادماجها في معنى فلسفي عميق يغير من ركودها الوراثي ليحيا بها في خلايا عقلية وشعورية جديدة.
يفتتح الشاعر مجموعة الكتابة فوق اللافتات باستعارة أقوال رينيه شار، يقول:" أقول مع رينيه ريشار:/ القبول يضيىء الوجه/ الرفض يزيده/ بهاء) (ص37) هذا الاستحضار لأقوال الأعلام والحوار مع أفكارهم والبناء عليها سلباً أو إيجاباً يضفر العمل بالثقافة العالمية ويكسبها أبعاداً فكرية وشعرية في آن واحد.
يناوش الشاعر الجنس في صورة ذكية، غير فجة ، يجعل منه بمشاركة الطبيعة معنىً آخر مفارقاً للمادي والخطيئة، يجعله وجوداً طبيعيا معبراً عن الطبيعة الإنسانية غير المتعالية والمفارقة للشهوانية يقول تحت عنوان حائط ثالث :" ..وفيما يشبه خطيئة مقترحة ، تخط امرأة فوق الرمال: "أريد ..الآن". وبينما الظلمة تتنادى فيما وراء / اللهاث،/ وكان البحر يبتكر للخطيئة /اسماً آخر..." (ص31).
يأخذ الجنس هذا التابوه الذي انتهكه الحداثيين وما بعد الحداثيون، وانطلقوا يتناولونه في جرأة واسعة شكلاً جديداً في ديوان" الكتابة فوق الجدران" يناوشه الشاعر في حس إنساني مرهف الشعور مصوراً غرائز الإنسان في لباس من الصدق دون كبت أو تعالٍ عليها ودون استفزاز واستغراق في الجسدانية تميز التعامل مع الجنس في الديوان ليس بحسبان الإنسان جسداً فقط أو بحسبانه ذاتاً تتعالى على أرضيتها وتأنف منها، ولذا كان أقرب إلى طبيعة وواقعية الحياة الإنسانية.
يكتب الشاعر عبد العزيز موافي الجسد ويتلمس ملامحه مبتعداً عن الشهوانية والفجاجة بل يغزله بالوجود والحياة بالأرض والوطن وماء النيل ، في قصيدته " بانت سعاد" يتحدث عن المرأة الحلم ، المرأة التي تجسد معنى الأنوثة في قلب الرجل وعقله ، لذا فهو يتحدث عنها كياناً له ملامح وله فاعليات، حياة وتحولات تاريخ ، كياناً يتناوبه الفرح والنجاح كما يتناوبه الأرق والحزن والانتهاء يقول :" هذه البنت – درة مملكة الله- / حين هوت إلى ظلمة / بلا قرار،/كانت تبعثر ملامحها،/ قبل أن تذهب في سنة/ من الموت العميق.."(ص96).
في محاولة نقدية حاولت تحسس جدران الشاعر عبد العزيز موافي فنفذت أناملي إلى ذاتي وذاته إلى كل ذات بشرية تتشوف إلى عمق الموجودات والأشياء والبشر.
استطاع الشاعر أن يحول الجدار هذا المجسم المادي الصلد عندما داعبته الكلمات وخرج من رحم الشاعرية ، إلى حالة توحد وحوار متصل يخترق حجب الماضي وينضغط فيه الزمن بامتداداته بين دفتي هذا الديوان الشعري، كثيرة هي الدراسات والمعالجات الأدبية التي تناوش مفهوم الجدران ولنا أن نتذكر " الإنسان والجدار" لبدر عبد الملك ، لكن ما يميز الديوان الذي نحن بصدده هذه الشعرية العميقة الرائقة التي تناولت الجدار بحسبانه مفهوماً مجرداً يتعلق بالتاريخ والحاضر الإنساني في تصور شفاف جعلت الجدار هو ذرة التراب التي أحاطتها اللؤلؤة، هذا العمل الشعري المتميز الذي تقهقر فيه المنظور المادي المجسم للجدران حتى غدت في الديوان كيانات تذوب صلابتها وتتداخل مع النسيج الإنساني.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعرية والألعاب السردية في ديوان -تفكيك السعادة- للشاعر -مؤ ...
- جدلية الانفصال والاتصال في المجموعة القصصية -سوق الجمعة - لل ...
- ومضات ثقافية ..2013 م
- كفى ..شهر زاد!؟
- أن تخط اسمه كاملا..- قصة قصيرة-
- - أدهم يحي - قصة قصيرة
- بعد وقت ..
- مصر وقانون التظاهر
- مكرونة فيوتشيني
- قطعة ..من الشيفون الكناري
- سرد المنفلت في مجموعة -عفاريت الراديو- لمحمد خير
- يوسف الشاروني ..الخصوصية المصرية
- محددات المشهد المصري قبل 30 يونيو 2013 م
- - مجهول- أحدث روايات -يوسف القعيد-
- هدنة مع ..الانتخابات البرلمانية
- مؤامرة علي الثقافة المصرية
- الفصحي ..وطبيعة التجربة في ديوان -ما زلت اسألها الوصال- للشا ...
- نقاد -موسم الهجرة للشمال - للروائي -الطيب صالح-
- حيادية السرد وعرية في رواية -عصافير النيل -للروائي -إبراهيم ...
- الحداثة تساؤل مستمر عند الناقد والمفكر -شكري عياد-


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - تقاطعات قصيدة النثر في ديوان -الكتابة فوق الجدران- للشاعر -عبد العزيز موافي-