أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (2)















المزيد.....

هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (2)


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 4286 - 2013 / 11 / 25 - 16:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ثانياً:إعادة قراءة ديكارت

1/ الشك منهجا للوصول إلى الحقيقة:
كان السؤال الأساسي الذي شغل فلاسفة العصر الحديث وعلى رأسهم ديكارت: ما السبيل إلى بناء معارفنا على مبادئ يقينية ثابتة؟ والملاحظ أنه منذ "ديكارت"Descartes مروراً بعصر التنوير، حتى (التعليق) الهوسيرلي، يمتد تراث ضخم وطويل يتخذ من الشك مدخلاً منهجياً للوصول إلى الحقيقة. وفي ذات السياق، يرى "ديكارت" أنه في سبيل تحقيق هذا الهدف المنشود، فليس أمامنا سوى "الشك" في كل معارفنا السابقة.

ولذلك فقد اتخذ "ديكارت" من الشك منهجاً لكي " يصل من خلاله إلى تفريغ عقله من كل الأفكار السابقة أياً كان مصدرها وأياً كان نوعها، فعلى الفيلسوف أن يبدأ بطرح الأفكار الصادرة عن السلطات أياً كانت، سواء كانت سلطات اجتماعية أو سلطات فلسفية أو سياسية أو غيرها" وبالتالي يمكننا اعتبار الشك عند "ديكارت" أولى الخطوات المنهجية في سبيل الوصول إلى الحقيقة اليقينية. والتي يسميها "ديكارت" بقاعدة اليقين، وتنص هذه القاعدة على: " ألا أقبل مطلقاً أي شيء على أنه حقيقي ما لم أعرف بوضوح أنه كذلك، أو لنقل: أن أتجنب بحذر التهور والحكم المسبق، وأن لا أدخل شيئاً ما إلى حكمي إلا إذا ظهر لعقلي جلياً ومتميزاً بحيث لا يكون هناك أي مجال للشك فيه"

والشك المنهجي هو شك مؤقت، وهو وسيلة وليس غاية بحد ذاته، بمعنى أنه ليس شكاً من أجل الشك نفسه. وإنما هو وسيلة معرفية تستلزم الشك بصورة مؤقتة حتى نصل إلى الحقيقة اليقينية، وبالتالي فإن الشك المنهجي هو مدخل معرفي لا غنى عنه في أية محاولة رامية للوصول للحقيقة. وهو بذلك يختلف عن الشك المذهبي الذي هو غاية في حد ذاته، والذي ينكر إمكانية الذات الإنسانية في التوصل إلى الحقيقة اليقينية التي لا خلاف حولها ولا شك فيها. في حين أن الوظيفة الأساسية للشك المنهجي من المنظور الديكارتي إنما تتمثل في مساعدة الذات العارفة لكي تتوصل إلى الحقيقة الموضوعية القاطعة، وبالتالي التأسيس اليقيني لكل معارفنا.

وبناءاً على ذلك بدأ "ديكارت"، متوسلاً الشك كمنهج وكأداة، بفحص كل الآراء التي لديه، بهدف البحث عما إذا كان يوجد بين هذه الآراء معارف حقيقية لا يمكن أن يشك فيها بأي حال من الأحوال. يقول ديكارت: " على الرغم من أن فائدة الشك بشكل عام قد لا تكون ظاهرة من أول وهلة إلا أنها فائدة عظيمة، ما دامت تمنعنا من إطلاق الأحكام المسبقة، وتمهد للعقل طريقاً سهلاً للتحرر من الأحاسيس، وأخيراً تجعل من المستحيل علينا الشك بعد ذلك حيثما نكتشف حقيقة"

وهو بذلك يحرص على إزالة كافة العقبات التي تحول بينه وبين الرؤية الفلسفية المعتمدة على نور العقل الفطري، وبالتالي فإن المشروع الفلسفي الديكارتي في تأسيسه المعرفة الإنسانية على أساس يقيني راسخ، له عدة متطلبات من بينها التحرر من التقليد والتبعية الفكرية والتخلص من الأوهام والأحكام السابقة.
وواضح أن كل ما سبق ذكره لا يمكن إنجازه إلا إذا استثمرنا الشك ووظفناه كأداة معرفية تسهم في تطهير العقل من كل ما هو زائف ولا يقيني. فهل فعل ديكارت ما يمليه عليه المنهج؟

إذن "ديكارت" يرى أنه لكي يكون بمقدور الذات العارفة التوصل إلى يقين بشأن معارفها، فإن مهمتها الأولية والأساسية تتمثل في أن تشك في كل فرضياتها ومعارفها السابقة حول موضوع معرفتها، وينبغي عليها أن تطرح جانباً كل معتقداتها المتعلقة بموضوع المعرفة، وأن تخلّف وراءها كل ما ورثته من آراء شائعة ومستوحاة من أصحاب السلطة، أياً كانت هذه السلطة سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية..الخ. وهي، أي الذات، بهذا المبدأ تستطيع التخلص من جميع أفكارها الخاطئة والغامضة والمشوهة. وبالتالي فإن الشك كمنهج، بهذا المعنى، يُسهم في إيصالنا إلى الحقيقة اليقينية. وتنص واحدة من أهم قواعد المنهج الديكارتي، وهي قاعدة اليقين، تنص على: " ألا أقبل مطلقا أي شيء على أنه حقيقي ما لم أعرف بوضوح أنه كذلك". وكان هذا المبدأ هو أحد سمات الفكر الفلسفي الحديث.

شك "ديكارت" طال كل شيء، فهو من جهة يرى أن أقوال السابقين ليست معصومة من الخطأ، كما أن حواسنا كذلك ليست معصومة، وكم خدعتنا حواسنا كثيراً، بحيث لم تعد صالحة للتعويل عليها حتى تفضي بنا إلى اليقين..الخ. إلا أنه وجد شيئاً واحداً يظل قائماً، رغم الشك، ألا وهو الشك ذاته: ( فأنا أشك في كل شيء، إلا أنني على يقين من أن هذا الشك ينتابني، وإذن فقد وصلت عن طريق الشك إلى قضية إيجابية يقينية هي: أني أشك، ولما كان الشك وليد التفكير والشك نفسه نوعٌ من الفكر، فأنا أفكر، ولما كان الفكر دليل الوجود فأنا موجود).

وفي المبدأ رقم (7) من كتابه (مبادئ الفلسفة): " في أننا لا نستطيع أن نشك دون أن نكون موجودين وأن هذه أول معرفة يقينية يُستطاع الحصول عليها: ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه... يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض، وأنه ليس لنا أبدان. لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعاً، لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن ما يفكر لا يكون موجوداً حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططاً فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر، وإذن فأنا موجود صحيحة. وبالتالي أنها أهم وأوثق معرفة تعرض لمن يدير أفكاره بترتيب"

وبذلك يزعم "ديكارت" بأنه استطاع الوصول إلى يقين واضحٍ بذاته ـ مستخدماً الشك، الذي لخصه في عبارته المشهورة (أنا أفكر، إذن، فأنا موجود). " إنه يفهم ذاتية وعي الذات بمثابة أساس مطلق اليقين للتصور، وعلى هذا يصبح الموجود برمته العالم الذاتي للأشياء كما تمثل أمام الشعور بينما تصبح الحقيقة يقيناً ذاتياً"

ومن هذا اليقين أقام "ديكارت" مذهبه الفلسفي كله. وبالتالي أوضح لنا "ديكارت" أن الشك هو السبيل الوحيد الذي يوصلنا إلى اليقين. وهو بذلك يرى أن الفكر مبدأ الوجود، محدثاً بذلك انقلاباً في عالم الفلسفة، خاصة في مجال المنهج. ومعطياً لمفاهيم "الوضوح" و"المعقولية" معنى جديد، ومحرراً العقل من سلطان الوجود الخارجي، معلناً مبدأه في أن الفكر يكفي نفسه بنفسه. ومقيماً بذلك النزعة الفكرية على أساس فلسفي، ومؤكداً المعنى الصحيح لذاتية الفكر الفلسفي، ومرسياً بذلك دعائم الفكر الفلسفي الحديث، وهذا ما جعل منه زعيماً روحياً للمدرسة العقلية الحديثة، مستحقاً بجدارة لقب أبو العقلانية الحديثة!
لكن هل يستحق ديكارت حقاً لقب أبو العقلانية الحديثة؟! لنعرف ذلك ينبغي علينا الرجوع إلى أقوال ديكارت نفسه. وهو ما سنقوم به في السطور القادمة.

2/ تفنيد مبادئ الفلسفة عند ديكارت أو سيرة ديكارت كما ترويها نصوصه:
يقول ديكارت في كتابه (مبادئ الفلسفة) في المبدأ (76): " في أننا ينبغي أن نفضل الأحكام الإلهية على استدلالاتنا. ولكن فيما عدا الأشياء المنزلة ينبغي أن لا نعتقد شيئاً لم ندركه إدراكاً واضحاً جداً. ينبغي قبل كل شيء أن نستمسك بقاعدة تعصمنا من الزلل، وهي أن ما أنزله الله هو اليقين الذي لا يعدله يقين أي شيء آخر. فإذا بدأ أن ومضة من ومضات العقل تشير إلينا بشيء يخالف ذلك وجب أن نخضع حكمنا لما يجئ من عند الله. أما الحقائق التي لم يرد عنها شيء في التنزيل فليس مما يتفق مع طبع الفيلسوف أن يسلم بصحة شيء لم يتحقق منه"

هذا المبدأ الديكارتي يؤسس للنظر الفلسفي ولحدوده، والتي يربطها ديكارت بالحقائق التي لم يرد عنها شيء في التنزيل. هنا (الإيمان) سابق على (العقل). وليس لهذا الأخير أية سلطة في ميدان الدين، بل أن ديكارت يذهب أبعد من ذلك، حين يقرر أنه في حالة تعارض حكم العقل مع حكم التنزيل في أي أمر من الأمور، فيجب أن نخضع لما يجئ من عند الله !
ويؤكد ديكارت على ما سبق في المبدأ رقم (25) الذي يقرر: " في أنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما أنزله الله، وإن يكن فوق متناول مداركنا: فإذا أنعم الله علينا بما كشفه لنا أو لغيرنا من أشياء تجاوز طاقة عقولنا في مستواها العادي، كأسرار التجسد والتثليث، لم يستعص علينا الإيمان بها مع أننا قد لا نفهمها فهماً واضحاً: ذلك لأنه لا ينبغي أن يقع لدينا موقع الغرابة أن يكون في طبيعة الله وفي أعماله أشياء كثيرة تجاوز متناول أذهاننا"

وفي ذات السياق، يعترف ديكارت في (مقال عن المنهج) قائلاً: " كنت أجلّ علومنا الدينية، وأطمع كغيري في الجنة، ولكن لما علمت علماً مؤكداً أن الطريق إليها ليس ممهداً لاجهل الجهلاء أقل مما هو ممهداً لأعلم العلماء، وأن الحقائق الموحى بها، والتي تهدي إلى الجنة، هي فوق فهمنا، لم يكن لي أن أجرؤ على أن أسلمها لضعف استدلالاتي، ورأيت أن محاولة امتحانها امتحاناً موفقاً تحتاج لأن يمد الإنسان من السماء بمدد غير عادي وأن يكون فوق مرتبة البشر"

وموقف ديكارت هنا شبيه بموقف الغزالي، الذي رأى أن التأويل لا يرفع النص، " قال بعض الأصوليين كل تأويل يرفع النص أو شيئاً منه فهو باطل. ومثاله تأويل أبى حنيفة في مسألة الإبدال حيث قال عليه الصلاة والسلام: (في أربعين شاة شاة)، فقال أبو حنيفة الشاة غير واجبة وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان، فهذا باطل لأن اللفظ نص في وجوب الشاة وهذا رفع وجوب الشاة فيكون رفعا للنص" فالغزالي هنا يحدد الموضع الذي لا يجب أن نلجأ فيه للتأويل وذلك إذا جاء النص ظاهرا بيناً واضحاً بذاته ففي هذه الحالة يغني النص عن التأويل.

والملاحظ أن موقف ابن رشد متقدماً وثورياً بالقياس على موقفي الغزالي وديكارت، ففي سياق كلام ابن رشد عن علاقة الحكمة بالشريعة يؤرد مسألة التأويل: طالما أن الشريعة دعت إلى التعقل من أجل الوصول إلى الحقيقة، فإن التوصل إلى معرفة هذه الحقيقة عن طريق النظر البرهاني لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع ما ورد به الشرع. لنستمع إلى ابن رشد: " إن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون: قد سكت عنه الشرع أو عرَّف به. فإن كان قد سكت عنه، فلا تعارض هنالك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه، أو مخالفاً، فإن كان موافقاً فلا قول هنالك، وإن كان مخالفاً طُلب هُنالك تأويله"
نحن هنا نفهم أن التأويل يكون لازماً فقط في حالة واحدة هي إذا اختلف ظاهر الشرع مع النظر العقلي البرهاني، هنا بحسب ابن رشد يجب تأويل ظاهر النص حتى يتلاءم ويتسق مع حقيقة ومقتضى النظر العقلي البرهاني. نلاحظ من جهة أخرى أن التأويل كان مرتبطاً عنده بمحاولة التقريب أو إن شئت قلت التوفيق بين الفلسفة والدين الإسلامي، بمعنى آخر بين النظر العقلي القائم على البرهان والشرع المخالف في ظاهره له. يقول ابن رشد: " نحن نقطع قطعاً أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"

وفي المبدأ رقم (5) الذي يتساءل فيه ديكارت: لَمِ يمكن الشك أيضا في براهين الرياضة، ويقدم إجابته بقوله: " بوسعنا أن نشك ... في براهين الرياضة وفي مبادئها وإن تكن في ذاتها جلية جلاء كافياً... لأننا علمنا أن الله الذي خلقنا يستطيع أن يفعل ما يشاء، وما ندري بعد فربما كانت مشيئته أن يجعلنا بحيث نكون دائماً على ضلال، حتى في الأشياء التي نظن أننا على بينة منها، فإنه ما دام قد سمح بأن نضل في بعض الأحيان، كما علمنا من ملاحظة الواقع، فلم لا يستطيع أن يسمح بأن نضل على الدوام؟

وفي المبدأ رقم (6): " في أن لنا حرية اختيار تجعلنا نستطيع أن نمسك عن التصديق بالأشياء المشكوك فيها: ومن ثم نصون أنفسنا من الوقوع في الضلال: لكن على فرض أن الذي خلقنا ... يرضيه إضلالنا. فنحن لا نخلو من أن نجد في أنفسنا حرية نستطيع بها إذا شئنا أن نمتنع عن التصديق بالأشياء التي لا نعرفها حق المعرفة. وبهذا نمنع أنفسنا من الضلال"
وفي المبدأ رقم (13): " على أي معنى يمكن القول بأن من جهل الله فلن يستطيع أن يعرف شيئاً آخر معرفة يقينية"

تأسيساً على ما سبق، يفترض فيلسوف العقلانية الحديثة وجود شيطان ماكر خبيث يعمل على تضليله وإيقاعه في الشك! وهو الأمر الذي يجعلنا نتفق مع محمد عثمان الخشت، في توصيفه للعقلانية الديكارتية على أنها " مظهرية أكثر مما هي جوهرية، حيث يستحضر ديكارت أطروحات العقيدة المسيحية الكاثوليكية، فضلاً عن آلياتها التقليدية، سواء في منهجه أو مذهبه، خاصة آلية مواجهة الشيطان الماكر بمساندة الإله الصادق. وما دام فرض الإله الصادق حاضر في المنهج، فإن النتيجة معلومة مسبقاً، حيث إن الإله الصادق سيقدم للإنسان آلية النجاة، أو على الأقل سيدعم آلية الإنسان الخاصة في النجاة، على أن هذه الآلية الخاصة، أعني الفكر، غير كافية بذاتها، بل بحاجة دوماً لضمان إلهي. وهذا الضمان الإلهي مسلم به منذ البدء في إحدى لحظات الشك المنهجي، وليس فقط في لحظات بناء المذهب"

ويجعلنا أيضاً نتفق مع مهدي فضل الله الذي يرى أن ديكارت، " كان يهدف من وراء فلسفته، إلى إقامة مذهب فلسفي مسيحي، يحل محل فلسفة توما الأكويني، التي كانت سائدة، والقائمة في جانب منها، على منهج أرسطو في البحث وطبيعياته... مع الملاحظة، بأن المبادئ التي اعتمد ديكارت عليها، للبرهنة على هذين السؤالين، لم تكن سوى مبادئ مسيحية، أعتبر التسليم بها من البديهيات أو الضروريات. وعلى هذا، فإنه يمكننا الاستنتاج، بأن فلسفة ديكارت - فضلاً عن منهجه الذي قامت عليه - لم تكن جديدة، بكل معنى الكلمة، وإنما كانت في جوهرها امتداداً لفلسفة المدرسيين الدينية، وإن كان على نحو مخالف لها في الظاهر، نتيجة اعتمادها على منهج مغاير لمناهج بحث الفلاسفة المدرسيين"

إن وجود الله عند الفيلسوف الفرنسي "ديكارت" Descartesهو الضمانة الصادقة التي تثبت صدق معارفنا المتعلقة بوجود العالم الخارجي، وإذا سألنا ديكارت: " هل الصور والأفكار( الموجودة في الذهن) مطابقة للموجودات حقيقة؟ لأجابنا: أن هذا شيئاً لا نعلمه مباشرة وإنما نعلمه بالواسطة أي بفضل "الصدق الإلهي". فطالما أننا آمنا بالله وبوجوده، فمن غير الممكن أن تخدعنا الأفكار التي أودعها الله فينا، ومنها ميلنا إلى الاعتقاد بوجود هذا العالم الخارجي"

ويعلق "جون لويس" على هذا القول الديكارتي قائلاً: " إن الحل الذي يقدمه ديكارت حل سخيف، لا يستحق أن نضعه محل اعتبار. أنه يقول أنه ما دمنا نؤمن بوجود الله...، فإن الله لن يسمح أن نضلل، ومن هنا استطعنا أن نفترض أن هناك عالماً حقيقياً يوازي تلك الأفكار الواضحة التي تعبر عنه. والواقع أن هذا الكلام ليس حلاً للمسألة" فماذا عن الذي لا يؤمن بوجود الله؟! وحقيقة هذه أسخف حجة قدمها "ديكارت" للخروج من مأزق الثنائية المنفصلة عن بعضها حيث نجده قد " جعل الفكر والمادة جوهرين مختلفين" وفي سبيل تجاوز هذا المأزق " لجأ إلى الربط بينهما، إلى الإرادة الإلهية: فقوانين الطبيعة مساوقة بل مطابقة لقوانين العقل، لأن الله جعلها كذلك. وهكذا يعود "ديكارت" إلى تقرير المطابقة التامة بين قوانين العقل وقوانين الطبيعة ...، ... بإقحام الإرادة الإلهية إقحاماً يراد به حل المشاكل المنطقية التي تطرحها ثنائية الفكر والامتداد.

يعترف ديكارت في مقاله عن المنهج قائلاً: " ثم أنه لما كان لا يكفي قبل البدء في تجديد المسكن الذي نقيم فيه أن نهدمه، وأن نُحصل مواد العمارة والمعماريين، أو أن نعمل بأنفسنا في العمارة، وأن نكون عدا ذلك قد وضعنا له الرسم بعناية، بل يجب أيضاً أن يكون لنا مسكن آخر نستطيع أن نأوي إليه في راحة أثناء العمل في ذلك المسكن، فإنني وضعت لنفسي قواعد للأخلاق مؤقتة... مع ثبات في محافظتي على الديانة التي أنعم الله علي بأن نشأت فيها منذ طفولتي"

و يكتب ديكارت: " أما النفس، فكثيرون هم الذين يدعون أن معرفة طبيعتها أمر صعب. بل أن بعضهم يجرؤ على القول أنها تموت بموت الجسد، وأن الإيمان وحده يرشدنا إلى خلاف هذا القول. غير أن مجمع (لتران) الذي انعقد برئاسة البابا ليون العاشر، في الدورة 8، قد أدانهم ودعا الفلاسفة المسيحيين دعوة صريحة إلى دحض مزاعمهم، وإلى استعمال أقصى ما تملك عقولهم من البراهين، كي تظهر الحقيقة. وأنا بدوري قد تصرفت بموجب هذه الدعوة"

وهو ما يؤكد أن ديكارت يرى نفسه فيلسوفاً مسيحياً مخلصاً، ومثلما قال محمود الخضيري: " ديكارت كاثوليكي لم يحد مرة في حياته عن مبادئ الكنيسة" وهو الأمر الذي يفسر لنا دور الفهم المسبق (الإيمان) في قول ديكارت بانفصال النفس عن الجسم، فلو كانا شيء واحد، لماتت النفس بموت الجسم. ويورد ديكارت وصف الكفار أكثر من خمس مرات في استهلال كتابه السابق الذكر، ويستشهد بنصوص من (سفر الحكمة)، ورسالة بولس إلى أهل رومية، وأقوال البابا ليون العاشر.

ومن ناحية أخرى، يُهدي ديكارت كتابه: (تأملات ميتافيزيقية) إلى عمداء وعلماء الكلية اللاهوتية المقدسة في باريس. ويكتب في مستهله ما يلي: " دائماً ما اعتقدت أن معضلتي الله والنفس، هما من أخطر المعاضل، التي ينبغي أن تُبرهن بأدلة الفلسفة، خيراً مما تبرهن بأدلة اللاهوت. إذ، وإن كان يكفينا التسليم، نحن معشر المؤمنين، بأن ثمة إلهاً وبأن النفس البشرية لا تموت بموت الجسم، فمن غير الممكن أن نجعل الكافرين يسلمون بحقيقة دين، ولا حتى بفضيلة أخلاقية، إذا كنا لا نثبت لهم أولاً هاتين المعضلتين بالعقل الطبيعي"
يتبع..



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (1)
- استعراض كتابي: من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا
- اللغة والفكر والمجتمع
- في فلسفة اللغة (3): قراءة في محاورة كراتيليوس
- في فلسفة اللغة (2): مشكلة أصل اللغة
- في فلسفة اللغة (1)
- عن العلمانية (4)
- عن العلمانية (3)
- عن العلمانية (2)
- عن العلمانية
- الحداثة وما بعد الحداثة (1)
- فلسفة التحليل اللغوي
- نقد هايدغر وغادامر لموضوعية التأويل
- ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان (2)
- ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان (1)
- مشروع نقد الفكر الديني عند نصر حامد أبو زيد
- صراع الأفيال: هابرماس وغادامر وريكور، التأويل والتاريخ (3)
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (2)
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (1)
- كيف يجب للعقل الإسلامي المعاصر أن يتعاطى مع النص الديني الإس ...


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (2)