أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - صراع الأفيال: هابرماس وغادامر وريكور، التأويل والتاريخ (3)















المزيد.....



صراع الأفيال: هابرماس وغادامر وريكور، التأويل والتاريخ (3)


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 3666 - 2012 / 3 / 13 - 09:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


5/ هابرماس ضد غادامر: نقد الأيديولوجيا أمام هرمنيوطيقا التراث

المناقشة الحالية تضع موضع تساؤل: (اعتراف) هرمنيوطيقا التراث عند "غادامر" بالشرط التاريخي الذي يخضع له كل فهم بشري، في مقابل (تحدي) نقد الأيديولوجيات عند "هابرماس" لهذا (الاعتراف) ومواجهته بطرح نقدي ضد الوعي الخاطئ وضد معيقات التواصل البشري التي تتضمن السيطرة والعنف. هنا بديل (الوعي النقدي) لنقد الأيديولوجيات عند "هابرماس"، في مقابل بديل (الوعي الهرمنيوطيقي) لهرمنيوطيقا التقاليد عند "غادامر". هنا صراع الأفيال: الهرمنيوطيقا المطالِبة بالكونية من جهة أولى، في مواجهة النقد من الجهة الثانية بوصفه فرعاً معرفياً غير هرمنيوطيقي.

صراع الأفيال هذا هو شكل جديد للنزاع القديم الذي كان دائراً بين الرومانسية وفكر الأنوار، حيث كان الحنين للماضي للرومانسية في مقابل دعوة فكر الأنوار إلى تطهير العقل من كافة الأحكام المسبقة. وبالتالي فإننا يجب أن نتساءل عن مدى إحراز الصراع الجديد ـ صراع الأفيال ـ لتقدم ملموس على مستوى الإشكالية القديمة التي مثلها نزاع الرومانسية وفكر الأنوار.

5-1 المسار الغادامري في زحزحة الإشكالية:

يبدأ المسار الغادامري في تعاطيه مع هذه الإشكالية من عصر الأنوار كنقطة انطلاق أولى، ومن ثم يُعرج على المرحلة الابستمولوجية لعلوم الروح عند "دلتاي"، وصولا للنقلة الأنطولوجية عند "هايدغر".

تُعد سيادة النزعة الإنسانية في عصر التنوير رد فعل طبيعي لما ساد العصور الوسطى من مفاهيم لاهوتية للتاريخ، حيث يفسر المفهوم اللاهوتي حركة التاريخ على أنها مجرد تجلي لإرادة الذات الإلهية في العالم، و" المفهوم اللاهوتي للتاريخ هو أكثر المفاهيم بدائية، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بالجهود الأولى التي بذلها الفكر الإنساني لاستشفاف العالم الخارجي. فإن أبسط مفهوم يستطيع الإنسان أن يكونه عن الطبيعة، هو أن يرى فيها حوادث ناتجة عن فعل إرادة أو عدة إرادات شبيهة بإرادته، وليس ظواهر مترابطة تخضع لقوانين ثابتة"

فقد نظر المفهوم اللاهوتي للتاريخ على أنه تجل لإرادة الإله في تسير حركة التاريخ، فالقديس أوغسطين، مثلا، نظر إلى الحوادث التاريخية على أنها تخضع للعناية الإلهية، بقوله: " انظروا إلى هذا الإله الحقيقي الجبار، مبدع جميع الأرواح والأجساد وبارئها. الذي جعل الإنسان حيوانا عاقلا مركبا من جسد وروح، هذا الإله الذي هو مبدأ كل قاعدة وكل جمال وكل نظام، والذي يهب كل شيء العدد والوزن والقياس، والذي يشتق منه كل إنتاج طبيعي، مهما كان نوعه وثمنه، إني أسألكم: هل يعقل أن هذا الإله قد تحمل أن تبقى إمبراطوريات الأرض وسيطرتها وعبوديتها غريبة عن شرائع عنايته"
ويقول أيضا: " وكما أنه يتوقف على الله أن ينزّل بالبشر العذاب أو يكشف عنهم الضر، وفقا لأحكام عدالته ورحمته، كذلك فهو الذي يضبط مواقيت الحروب والذي يختصرها أو يمدها حسب مشيئته"

على ذلك أسقط عصر التنوير التصور الغيبي للتاريخ الذي كان سائدا في العصور الوسطى والمستند على قوى غيبية تقع خارج نطاق التاريخ نفسه، وأحل بدلا من ذلك العقل الإنساني وأكد على قدرته المطلقة في تفسير التاريخ، ويأتي ذلك كرد فعل " لما ساد أوربا في العصور الوسطى من سيطرة الكنيسة وقتلها روح الاجتهاد بنظرتها للإنسان كمخلوق ضعيف وتسليمها بعجز العقل البشري وضعف الإرادة الإنسانية مما جعل الإنسان بحاجة إلى عقل أسمى من عقله وإرادة أقوى من إرادته ألا وهما العقل الإلهي والإرادة الإلهية التي تسير التاريخ نفسه"

وهكذا أقام فكر الأنوار نوعا من التعارض ما بين (العقل) من جهة و(الحكم المسبق، السلطة، التراث) من جهة ثانيةـ وهو ما سيصبح محل تساؤل واعتراض نقدي عند "غادامر"ـ حيث هدف فكر التنوير إلى فهم التاريخ من منظور (عقلاني) بحت دون الارتكاز في منهجية الفهم هذه على أية (أحكام مسبقة).

وبالتالي فإن تعاطي فكر التنوير مع التراث كان يتوخى (عقلنة) هذا التراث وفهمه بصورة تضمن لنا (الحيادية) و(النزاهة)، وهو الأمر الذي من المحال التوصل له إلا إذا سبقته عملية (تطهير) كاملة وشاملة لكل أحكامنا المسبقة.

ولهذا السبب نفهم الدلالة السالبة التي أُصبغت على مفهوم (الحكم المسبق) من قِبَل فكر التنوير، والنظرة المسبقة إليه باعتباره يمثل (حكما خاطئا). حيث دعا " عصر التنوير إلى عدم تقبل أية سلطة ما وعدم التقرير بشأن أي شيء قبل عرضه أمام منصة الحكم العقلي. ولذلك فإن التراث المكتوب للكتاب المقدس، مثله مثل أية وثيقة تاريخية أخرى، ليس في مقدوره أن يدّعي صلاحية مطلقة، فالحقيقة الممكنة للتراث تعتمد على المصداقية التي يمنحها إياها العقل. ليس التراث بل العقل هو الذي يشكل المصدر النهائي لكل سلطة. فما هو مكتوب ليس بالضرورة صحيحاً... هذه هي الحكمة التي على أساسها يقارب عصر التنوير الحديث التراث والتي تقوده في النهاية إلى الأخذ بالبحث التاريخي"

وواضح هنا القطيعة الكاملة مع التراث من قبل فكر التنوير، فالتراث في تناقض تام مع العقل. ومن جهة ثانية، رأى فكر التنوير أن الماضي يجب أن يُفهم فهما تاريخيا بمعنى أننا لكي نفهم النصوص المنحدرة إلينا من الماضي فلابد من أن نفهمها (بذات الطريقة) التي كان ينظر بها الماضي إلى الأشياء! وبالتالي فإن عصر التنوير كان يؤمن ب(استعادة) الماضي كما هو!

ينتقد "غادامر" وجهة نظر التنوير هذه ويرى استحالة (تطبيق) ذلك بقوله:" بالنسبة لنا، فإن وجود العقل مُحدد ضمن شروط عينية وتاريخية، وبالتالي فإنه ليس سيد نفسه، بل هو دائما ما يبقى معتمدا على معطيات الظروف التي يشتغل فيها" وللتراث (سلطته) التي يمارسها علينا شئنا أم أبينا. وحسبما يذهب إليه "غادامر" فإن رؤية عصر التنوير هذه تقوم على أساس فهم (السلطة) باعتبارها نقيضا للعقل، وتأسس في الوقت عينه شرعيتها على أساس وجود تعارض ما بين (السلطة) من جهة و(العقل) من جهة ثانية. وهو الأمر الذي يرفضه "غادامر" ويقطع معه، ويحاول مجاوزته عبر التصور الأنطولوجي للفهم عند "هايدغر".

استند "غادامر" على المبدأ الهايدغرى ل(البنى المسبقة للفهم) ـ في مجاوزته لقطيعة عصر الأنوار مع (التراث، السلطة، الحكم المسبق) ـ المتمثل في: أننا لا نستطيع (الفهم) دون الاستناد إلى (فهم مسبق) لما نود فهمه!

انطلاقا من هذا المبدأ، شكّل "غادامر" صيغة جدلية تربط العقل بالأحكام والتصورات المسبقة المنحدرة من التراث. حيث أصبحت نقطة انطلاق العقل في مقاربته التأويلية لنص ما، تبدأ مما هو (متاح) له وما (يمتلكه سلفا) من (تصورات مسبقة) عن ما يود فهمه وتأويله.

وبالتالي يكون فهمنا للنص على أساس (توقعات) المعنى المستمدة من (علاقتنا السابقة) بالموضوع. وبالتالي فثمة علاقة حوار جدلي هنا بين (العقل) و(التراث) ممثلا في التصورات المسبقة، أو بالأحرى لم يعد (التراث وأحكامه المسبقة) عنصرا غريبا على (العقل) أن يتطهر منه، بل أصبح آلية من آليات العقل نفسه. ف(الحكم المسبق) لا يعني أنه حكم خاطئ بالضرورة، بل يكون مشروعا أو غير مشروعا، ذا قيمة إيجابية أو سلبية، وهو أولا وأخيرا يمدنا بفرضيات ذات طبيعة توقعية تساعد وتُعين على عملية الفهم والتأويل.

وبالتالي رأى "غادامر" إنه في سبيل تأسيس تاريخية الفهم لابد من إعادة الاعتبار لمفهوم (الحكم المسبق) والإقرار بوجود أحكام مسبقة مشروعة. وعليه يرى "غادامر" أن على الهرمنيوطيقا أن تتعامل مع هذا الواقع لو أردنا أن نؤسس للتأويل تاريخيته، وعلى الهرمنيوطيقا لكي تفي بهذا المطلب أن تشتغل بالتساؤل عن أساس شرعية الأحكام المسبقة والكيفية التي نميز بها الأحكام المشروعة من تلك التي يجب التغلب عليها. وهو ما يؤكده غادامر بقوله: " بوسعنا أن نصوغ التساؤل المعرفي الأساسي لهرمنيوطيقا تاريخية حقيقية على النحو التالي: ما الأساس الذي تقوم على أرضيته شرعية الأحكام المسبقة؟ ماذا يميز الأحكام المسبقة المشروعة من تلك الأحكام المسبقة الأخرى الغير مشروعة التي من مهمة العقل النقدي التغلب عليها؟"

ولذلك فإن السؤال الذي يفرضه تسلسل هذا السياق هو: ما هي النتائج بالنسبة للفهم التي تترتب من حقيقة أن الانتماء إلى تراث ما شرط للتأويل؟
ويؤكد "غادامر" في إجابته على السؤال السابق على أن " الأحكام المسبقة والمعاني المسبقة التي تحتل وعي المؤول ليست تحت تصرفه الحر. فهو لا يستطيع أن يفصل سلفاً الأحكام المسبقة المنتجة التي تمكّن على الفهم، من تلك التي تعوقه وتقوده إلى سوء الفهم."

وبالتالي فإن " غادامر" لا يرى (التراث) موضوعاً يتخذ وضعية التموضع أمام المؤول، فالتراث يربط نفسه بنا وينتمي إلينا، ويتوجب علينا النظر إليه في علاقة الانتماء هذه بوصفه شريكا أصيلا في الحوار.

ويدافع "غادامر" عن موقفه هذا ـ في إشارة واضحة لهابرماس ـ بقوله: " الشخص الذي يعتقد أنه متحررا من الأحكام المسبقة، ومعتمدا على موضوعية إجراءاته، وينكر أنه هو نفسه مشروط بالظروف التاريخية، فإنما هو يجرب قوة الأحكام المسبقة التي تسيطر عليه من دون أن يعي ذلك.... والشخص الذي لا يعترف بسيطرة الأحكام المسبقة عليه سوف يخفق في رؤية ما يُظهر نفسه في ضوء هذه الأحكام. فالعلاقة هنا مثل علاقة الأنا- الأنت. والشخص الذي يتأمل نفسه خارج تبادلية علاقة كهذه يغير من هذه العلاقة ويدمر رباطها الأخلاقي. والشخص الذي يتأمل نفسه خارج إطار العلاقة الحية بالتراث يدمر المعنى الحقيقي لهذا التراث بنفس الطريقة بالضبط. إذا أردنا فهم التراث يجب على الوعي التاريخي ألا يعتمد على المنهج النقدي الذي يقارب به مصادره، كما لو أن هذا سيحفظه من الاختلاط بأحكامه وأحكامه المسبقة. فيجب عليه، في الواقع، أن يفكر ضمن تاريخيته الخاصة. فالتموقع في تراث ما لا يحد من حرية المعرفة، بل يجعلها ممكنة"

وما يترتب على القول الغادامري، باستحالة وجود فهم بلا فروض مسبقة، هو أن نتخلى عن تفسير عصر التنوير للحكم المسبق، وأن يسترد التراث والسلطة منزلتهما التي حرما منها منذ ما قبل التنوير. ولا يعنى القبول بالأحكام المسبقة هكذا على علاتها دون تمحيص، خاصة بعد أن أوضح لنا "غادامر" بأنه يتعين علينا أن ندرك كيف نميز بين الأحكام المسبقة الناجحة والتي تتلاءم وتتسق مع ما يرد في سياق النص وتلك التي لا تتوافق مع النص وإنما تشكل عائقا لنا من التواصل والحوار الحقيقي معه.

وكما أوضحنا سابقا، فإن هرمنيوطيقا "غادامر" ارتكزت على تصور معين للوعي التاريخي، عملت من خلاله على إعادة الاعتبار لمفاهيم: الحكم المسبق، التراث، والسلطةـ إن عملية (رد الاعتبار) هذه هي ما رفضه وانتقده "هابرماس"ـ حيث رأى غادامر أن العلوم الإنسانية ومنهجياتها قامت على نوع من (المباعدة الاستلابية)، وإنها بهذه المباعدة تكون قد حطمت علاقة الانتماء بالتراث. ويرى في المقابل أن من الواجب على هذه العلوم أن تعطي عنصر (التراث) قيمته الكاملة كعنصر أساسي يدخل في تأويلية هذه العلوم ويشكل الطبيعة الحقيقية لها، " وإن البحث في العلوم الإنسانية لا يمكن أن يعتبر نفسه كنقيض مطلق للطريقة التي نرتبط بها نحن ـ بوصفنا كائنات تاريخية ـ بالماضي. على أية حال، فإن علاقتنا العادية مع الماضي لا تتميز بوضع مسافة عن التراث والتحرر منه. بل بالأحرى، أننا دائما ما نكون متموقعون داخل التراث، وهذه ليست عملية تموقع إزاء موضوع، فنحن لا ندرك ما يقوله التراث بوصفه شيئا آخر، أو شيئا غريبا عنا. فهو دائما جزءا منا، كنموذج أو مثال أو كنوع من الإحالة المميزة التي تشير إلى أنه من الصعوبة بمكان أن نعتبر حكمنا التاريخي المتأخر نوعا من المعرفة، بل هو ذو صلة صريحة بالتراث"

وعلى ذلك، فطالما أن عنصر (التراث) يشكل الطبيعة الحقيقية لتأويلية العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية، فسيكون من العبث بمكان أن نتحدث عن وضع مسافة بيننا وبين التراث.
وعلى مستوى الوعي التاريخي، فإن إدراكنا بأننا دائما ما نكون متموقعون في التراث ومحملين بتقاليده، هو ما يسمح ويتيح لنا ممارسة لمنهجية تاريخية على صعيد العلوم الإنسانية.

5-2 هابرماس: نقد التراث والتحرر من الشرط التاريخي

بالرغم من أن هنالك قدر من الاتفاق بين "هابرماس" و"غادامر" اتجاه إبراز عيوب الموضوعية التاريخية، إلا أن ثمة اختلافات فارقة ومفصلية بهذا الشأن.
فنقطة الخلاف المركزية بينهما إنما تتمثل في أن هابرماس يرى أن هرمنيوطيقا غادامر تفتقر إلى (موقف نقدي) كافي إزاء التعاطي مع (التراث)، في حين أن الأول يسعى بقدر الإمكان في مشروعه إلى ضمان مشروعية النقد حيث يصر على أهمية الكشف ومن ثم (التحرر) عن الاهتمامات التي تشترط عملية الفهم والتأويل، ويرى ذلك ضروريا من أجل ضمان نوع تدوالي من الموضوعية.

وعلى ذلك فإن تركيز هابرماس انصب حول " استكشاف بُنى عالم الحياة وبصورة خاصة اللغة والفعل التواصلي والوعي الأخلاقي. إن عالم الحياة مؤسس على اهتمام بالتحرير-الانعتاق، وإن الاستخدام المشوّه والمحرّف للعقل واللغة هو وحده الذي يجعل من الصعب تقدير ذلك. وفي الواقع فإن التحرير هو الأساس الحقيقي للحياة الاجتماعية، وبالتالي للحياة الإنسانية. فالمهمة هي إذاً تقديم نظرية من شأنها أن تجعل الوضوح الكلي في الفكر والأسلوب أمرا ممكنا في هذا الصدد"

هنا يقدم "هابرماس" نقد الأيديولوجيا كبديل لهرمنيوطيقا التراث عند "غادامر"، ويقدم مفهومه (المصلحة) في مقابل مفهومي (الحكم المسبق) عند "غادامر" و(البنى المسبقة للفهم) عند "هايدغر". حيث " يعارض مفهوم (المصلحة) كل تطلع نظري من جانب الذات، نحو التموقع خارج منطقة الرغبة، وهو تطلع يجد هابرماس جذورا له عند كل من أفلاطون، كانط، هيغل، وهوسرل. ومهمة فلسفة نقدية هي، بالذات، نزع القناع عن المصالح المنحدرة من مشروع المعرفة"

وعلى ذلك ذهب هابرماس في اتجاه التمييز بين ثلاث أنواع للمصلحة: تقنية، عملية، وتحررية.
فالأولى هي المصلحة التقنية التي ترتبط بحقل (العلوم التجريبية-التحليلية) القابلة للاستغلال التقني.
والثانية هي المصلحة العملية التي ترتبط بحقل (العلوم التاريخية- التأويلية) وهو الحقل الذي يغطي عملية التواصل بين البشر.
الثالثة هي المصلحة من أجل التحرر التي ترتبط بحقل (العلوم الاجتماعية النقدية).

وبالتالي فإن "هابرماس" يفرق بين: فعل أداتي، وآخر تواصلي، وثالث تحرري. هذا الأخير تكمن وظيفته في الكشف عن التشوهات التي تحدث داخل وأثناء عملية الفعل التواصلي كنتاج للسيطرة والعنف المستتر الذي يكشف عن تبعية الذات لجملة من الارغامات المؤسسة، مما يقود بدوره إلى تحرير الفعل التواصلي من كل العوائق والارغامات التي تتخلله وذلك من خلال منهج (التأمل الذاتي) الذي بدوره يحرر الذات من هذه العوائق والارغامات، وصولا إلى فعل تواصلي يستند إلى " عملية تعاونية للتأويل يتصل فيها المشاركون في وقت واحد بشيء ما في العالم الموضوعي والعالم الاجتماعي والعالم الذاتي، حتى عندما يشددون على واحد فقط من هذه المكونات الثلاثة في أقوالهم"

ما أخذه "هابرماس" على هرمنيوطيقا "غادامر" هو ذهاب الأخير إلى أن ما يجعل التفاهم المتبادل بين الذوات ممكنا إنما يرجع إلى (البنى المسبقة) بوصفها المحدد الرئيسي لكل اتفاق يتم عبر عملية التواصل. وفي هذا الصدد، فإذا كان "غادامر" يرى اللغة باعتبارها تبتلع الوجود كله، فإن "هابرماس" له وجهة نظر مختلفة، فمن منظور نقد الأيديولوجيات عنده، فإن (تشوهات) اللغة لا تأتي كنتاج لسوء استخدام اللغة نفسها وإنما من علاقتها بالعمل والسلطة، بمعنى آخر فإن تشوهات عملية التواصل المرتبطة بالظاهرة الاجتماعية للسيطرة والعنف تجد التعبير الصادق لها في اللغة، وهو الأمر الذي حذر منه "هابرماس" ولفت الانتباه إليه، فليست كل عملية تواصل بالضرورة متحررة من التأثير الاجتماعي المرتبط بالسيطرة والعنف.

وبالتالي فإننا نفهم الهدف الذي ينشد النقد الهابرماسي في سعيه إلى فعل تواصلي بلا حدود وخالٍ من كل إرغام وتشويه. وهو الأمر الذي نجد جذوره عند كل من ماركس وفرويد ـ وهو ما يجعلنا نفهم لماذا عدا هابرماس الماركسية والتحليل النفسي ضمن العلوم النقدية ـ حيث فسرت الماركسية والفرويدية " الحقائق ذات المظهر الموضوعي على إنها ليست سوى وسائل أيديولوجية أو انعكاسات لمتطلبات نفسية جنسية، فبدلا أن يسألا عما إذا كان القول صحيحا، يميلان إلى السؤال عن خلفيته ونتائجه. بل إن المذاهب الحديثة تدفعنا، في نفس السياق، إلى الاعتقاد بأن الأيديولوجيا، كنمط للوعي الاجتماعي، إن هي إلا بنية ظاهرة تخفي (حقيقتها) ودوافعها خارجها أو تحتها أو في لا شعورها. فهي عند (الأنوار) بمثابة تقليد يحملها الفرد، وأنشأها الاستبداد، أساسها زوغان العقل. أما عند ماركس فهي بمثابة وعي مقلوب يعبر عن أفكار طبقة سائدة من مصلحتها زيغان الوعي، وهي تجسد مصالحها التي تريد ألا تكون مرئية، أما عند نيتشه فهي أوهام المستضعفين، حقيقتها الحقد والغل وتأتي لتساعد الضعيف على تحمل الحياة واستمرارها. وعند فرويد، فهي كما ذكرنا، بمثابة تبريرات أو تصعيدات، وحقيقتها الرغبة المكبوتة أو الضائعة"

6/ بول ريكور: تفكير نقدي في الهرمنيوطيقا وتفكير هرمنيوطيقي في النقد

حاول " ريكور" تجاوز كلٍ من "غادامر" و"هابرماس" وإيجاد صيغة ثالثة تُفيد من الأخيرين ـ تكون أقل خضوعا لإشكالية التراث في هرمنيوطيقا "غادامر" وأكثر انفتاحا وتقبلا لنقد الأيديولوجيات عند "هابرماس"ـ وذلك من خلال تطعيم هرمنيوطيقا التقاليد عند "غادامر" بنقد الأيديولوجيات عند "هابرماس".

فبدلا من البديل الذي طرحه "غادامر" متمثلا في (الوعي الهرمنيوطيقي)، والبديل المقابل له الذي طرحه "هابرماس" متمثلا في (الوعي النقدي)، بدلا من ذلك، تندرج صيغة "ريكور" في محاولته الرامية إلى إيجاد إمكانية لقيام هرمنيوطيقا نقدية تُظهر ضرورة النقد من داخل مقتضياتها الخاصة، وتنطلق صيغة ريكور من السؤالين الآتيين: "
1/ وفق أي شرط تستطيع فلسفة تأويلية أن تنجز في داخلها المطلب المشروع المتصل بنقد الأيديولوجيات؟ هل يتحقق ذلك مقابل مطلبها في الكونية وصهر برنامجها ومشروعها صهرا عميقا؟
2/ ضمن أي شرط يكون نقد الأيديولوجيات ممكنا؟ وهل يمكن أن يكون، في آخر مرحلة، متجردا من افتراضات تأويلية؟"

نفهم من ذلك، محاولة "ريكور" التفكير لحسابه الخاص الذي يهدف إلى توظيف الحوار الجدلي الذي دار بين "غادامر" و"هابرماس" بهذا الشأن، أراد "ريكور" (صهر) هرمنيوطيقا التراث الغادامرية بنقد الأيديولوجيات الهابرماسي في نسق واحد يشملهما رغم حدية اختلافهما عن بعضهما البعض، وسيرا نحو تحقيق هذا الهدف قدم ريكور مجموعة من المقترحات العملية:

المقترح الأول: " إن كل معرفة متوخية للموضوعية حول موقعها داخل المجتمع وداخل طبقة اجتماعية وتقاليد ثقافية وتاريخ، هي معرفة مسبوقة بعلاقة انتماء لن نستطيع أبدا أن نفكر فيها برمتها. فقبل كل مسافة نقدية، نحن ننتمي إلى تاريخ وإلى طبقة وأمة وثقافة، وإلى تقليد أو عدة تقاليد. وبتحملنا لمسؤولية هذا الانتماء الذي يسبقنا ويحملنا، نضطلع بأول دور للأيديولوجيا وهو ذلك الذي وصفناه على أنه وظيفة وسيط للصورة وتمثيل الذات"

المقترح الثاني: " يمكن لنقد الأيدلوجيات، بل ويجب، أن يتم الاضطلاع به داخل عملٍ على الذات نفسها للفهم، وهو عمل يستتبع، عضويا، نقدا لأوهام الذات الفاعلة. تلك، إذن، هو مقترحي الثاني: المباعدة المعارضة جدليا للانتماء، هي شرط إمكانية نقد الأيدلوجيات، لا خارج الهرمنيوطيقا، أو ضدها، وإنما داخلها"

المقترح الثالث: " أشاطر أطروحة هابرماس القائلة بأن كل معرفة تبقى محمولة بمصلحة، وبأن مصلحة نقد الايديولوجيات نفسها محمولة بمصلحة التحرر، أي مصلحة التواصل بدون حدود وبدون عائق. لكن يجب الانتباه جيدا إلى أن هذه المصلحة(المنفعة) تشتغل بوصفها أيديولوجيا أو إتوبيا، ونحن لا نعرف أيهما تشتغل من خلاله المصلحة، مادام التاريخ اللاحق وحده سيحسم بين التنافرات والخلافات العقيمة وبين التنافرات المبدعة. وليس يجب علينا فقط أن نستحضر الطابع الغائم الأيديولوجي أو الطوباوي للمصلحة التي تحمل نقد الأيديولوجيات، بل يجب أيضا وأكثر من قبل، استحضار أن هذه المصلحة هي مرتبطة عضويا بالمصالح الأخرى التي تصفها النظرية في موضع آخر: مصلحة في السيطرة المادية وفي الاستخدام المغرض للأشياء والناس، ومصلحة في التواصل التاريخي يحملها تفهّم الميراث الثقافي، والمصلحة في التحرر، إذن لا تؤدي أبدا إلى قطيعة كلية داخل نسق المصالح تكون قادرة على أن تُدخل على مستوى المعرفة قطيعة ابستمولوجية صريحة. ذلك هو، إذن، مقترحي الثالث: نقد الأيديولوجيات المحمول بمصلحة نوعية لا يقطع أبدا روابطه مع جوهر الانتماء الذي يسنده.. ونسيان هذه الرابطة الأولية معناه الدخول في وهم نظرية نقدية رُفعت إلى مستوى معرفة مطلقة"

وواضح جدا من خلال صيغة هذه المقترحات الثلاث ل"ريكور"، أنه مشغول بالكيفية التي يمكن أن يندرج فيها (النقد التحرري) ضمن أطار التأويلية نفسها ـ وليس من خارجها على ما ذهب إلى ذلك "هابرماس"ـ ونحن من جانبنا نفهم أن محاولة "ريكور" هذه تندرج في مشروع يرمي إلى تطوير هرمنيوطيقا التراث عند "غادامر" من خلال ما عجزت هذه الأخيرة عنه ممثلا ذلك في إعادة صياغة الإشكالية المتعلقة بالجدل الدائر بين تجربة الانتماء للتراث وللتاريخ وبين المباعدة الاستلابية، وفي هذا المسار يقدم "ريكور" أربع ترسيمات يرى فيها نوعا من (التكملة النقدية) التي تستجيب لمتطلبات جدل (الانتماء والمباعدة)، من الداخل الهرمنيوطيقي نفسه، لنرجع الآن إلى هذه الترسيمات الأربع، لنرى مدى نجاحها في زحزحة الإشكالية من مكانها القديم:

أولا: في الوقت الذي رأت فيه هرمنيوطيقا "غادامر" (المباعدة) ـ بين المؤول والفرضيات المسبقة المشكّلة للأفق التاريخي الذي ينطلق منه ـ نوعا من الاستلاب الأنطولوجي، نظر إليها ريكور بوصفها " مكون ايجابي لكينونة النص. من حيث إنها تنتمي إلى التأويل، لا بوصفها ضدا له، بل بوصفها شرطه. وهذه اللحظة للمباعدة مندرجة داخل التثبيت بالكتابة، وداخل جميع الظاهرات المشابهة في نظام نقل الخطاب، بالفعل، لا تُختزل لكتابة مطلقا في التثبيت المادي للخطاب، ذلك أن التثبيت هو شرط لظاهرة أكثر جوهرية وهي ظاهرة استقلال النص، استقلالا ثلاثيا: تجاه نية المؤلف، وتجاه الوضع الثقافي وجميع المكيفات السوسيولوجية لإنتاج النص، ثم تجاه المرسل إليه البسيط"

ثانيا: إن كنا لا نخرج من الصيرورة التاريخية ولا نستطيع أن نضع أنفسنا خارج التراث إلا بقبول نوع من الاستلاب، على ما يؤكد "غادامر"، وإن كان "هابرماس" قد ردّ على ذلك برفض كل التراث، والتشديد على أفق المستقبل، فإن "ريكور" قد استعان بمفهوم (التماسف)، وهو يعني باختصار أننا نستطيع في الوقت عينه أن نظل أمينين لانتمائنا إلى حضارة معينة، وانغراسنا في تاريخ معين، وأن نضع في الوقت عينه مسافة بيننا وبين هذا الانتماء، من دون أن نصل إلى الاستلاب وإلى تشويه الحقيقة.

وباختصار فإن ما يرفضه "ريكور" إنما يتمثل في رفض التعارض بين الحقيقة والمنهج، فإن كان "غادامر" يقول إما الحقيقة وإما المنهج، فإن "ريكور" يقول بإمكانية الجمع بينهما عن طريق وضع هذه المسافة التي لا تجعلنا غرباء بالنسبة إلى أنفسنا وماضينا.

وينظر ريكور إلى مفهوم (التماسف) باعتباره يشكل " شرط فهم لأي تجربة إنسانية، ويشكل اللحظة النقدية، والذي كان قد وضع مسافة بينه وبين الانتماء، ورفض مقولة المعرفة المباشرة وشفافية الوعي الذاتي،...، يكتشف في الوقت عينه محدوديته، وكذلك تناهي كل معرفة إنسانية، إذ أن هذا التماسف نفسه يظل ينتمي في نهاية المطاف إلى الانتماء، ويشكل جزءا منه"

ثالثا: طرح "ريكور" المشكلة المتمثلة في كيفية فهم التاريخ. ورأى أن " أية معرفة كاملة مطلقة للتاريخ هي مجرد وهم، وأن البحث عن وحدة التاريخ كما فعل هيغل حيث جمع الماضي والحاضر والمستقبل في مفهوم واحد منطقي (مفهوم الشمولية أو الكليانية)، تبرهن علومنا الإنسانية على مدى ابتعاده عن الواقع، إذ إنه يخضع كل غنى التاريخ البشري إلى ديالكتيك مسبق أقامه منطق مجرد"

رابعا: تحدث "بول ريكور" عن (زمن التأويل) و(زمن التقاليد) وفي مقابلهما وكتكملة لابد منها لهما، أقترح زمنا ثالثا يجعل إمكانية تقاطع هذان الزمنان ممكنة، وهو ما أسماه (زمن المعنى). فهو يرى تلاقيهما وتقاطعهما من حيث أن المعنى مرتبط ومترسب في مستودع التقاليد، ومن جهة ثانية فإن التأويل إيضاح لهذا المعنى وتجديده. وتأكيدا لهذا المعنى، يقول ريكور: " إن للتأويل تاريخ، وأن هذا التاريخ هو جزء من التقاليد نفسها. فالمرء لا يؤول من عدم، ولكنه يفعل ذلك لكي يوضح، ولكي يجعل التقاليد التي نحيا فيها مستمرة، ويحافظ عليها.

وهكذا فإن زمن التأويل ينتمي، على نحو من الأنحاء، إلى زمن التقاليد. ولكن في المقابل، فإن التقاليد، وإن كان مصطلحا عليها بوصفها مستودعا، تبقى تقاليد ميتة إذا لم تكن التأويل الدائم لهذا المستودع: إن "الميراث" ليس حزمة مغلقة يمررها المرء من يد إلى يد من غير فتحها، ولكننا...نجدده في عملية الأخذ نفسها. ولذا، فإن كل التقاليد تحيا بفضل التأويل. وإنها لتستمر بهذا الثمن، أي إنها تبقى حية"

خلاصة ونتائج:

كما ذكرنا سابقا في مقدمة هذا المقال (التأويل والتاريخ): فإن مقصدنا الأساسي إنما تمثل في مناقشة مستفيضة للتساؤل الهرمنيوطيقي المتعلق بالإشكالية المتمثلة في الكيفية التي يتوجب بها (فهم التاريخ) من جهة أولى، والتأكيد على مبدأ (تاريخية التأويل) من الجهة الثانية.

وعلى ذلك ثمة علاقة مزدوجة متينة تربط التاريخ بالتأويل، وتربط التأويل بالتاريخ. وثمة فرق في اعتقادنا بين العلاقتين. فالعلاقة الأولى التي تربط التاريخ بالتأويل هي تخص التاريخ بالدرجة الأولى، في حين أن العلاقة الثانية التي تربط التأويل بالتاريخ تهم التأويل بالأساس.

ففي العلاقة الأولى (التاريخ بالتأويل): يظهر بشكل واضح احتياج التاريخ للتأويل وتحديدا من خلال التساؤل الذي طرحناه في متن هذا المقال: كيف نفهم الوثائق أو النصوص التاريخية المنحدرة إلينا من الماضي؟ وضمن هذه العلاقة نفسها، بإمكاننا الذهاب أبعد من ذلك، بالتقرير بأن التأويل يسهم إسهاما كبيرا في تشكيل طبيعة المعرفة التاريخية نفسها، وعلى ذلك يمكن أن نقول أن المعرفة التاريخية في طبيعتها معرفة تأويلية بالأساس.

فالتاريخ في المحصلة النهائية ليس سوى (نتاج) تعاطي ذات مؤرخة مع أحداث ووقائع وقعت في فترة تاريخية ما. وعملية (الأرخنة) ذاتها إنما تتم ب(اختيار) مجموعة من الوقائع الجزئية ومن ثم (تأويلها) والربط بينها في كل متسق له بنية معنى ودلالة.

على ذلك فإن عملية (الأرخنة) في الوقت الذي تقوم فيه باختيار وقائع محددة وربطها بوساطة التأويل مع بعضها البعض في كل واحد يشملها جميعا وينتج لنا وحدة المعنى والدلالة، تتجاهل وقائع أخرى في عملية الربط هذه. وعلى ذلك فإن عملية (الأرخنة) هذه لا تعادل ولا تطابق بأي حال من الأحوال كل وقائع الماضي، طالما أن عملية الأرخنة ذات بعد تأويلي قائم على (اختيار) وقائع بعد (استبعاد) أخرى. وعلى ذلك فإن أحداث الماضي كلها ليست متساوية المرتبة، بل ليس للواقعة الواحدة نفس الوزن في سياقين مختلفين ولا (تتكلم) الوقائع بنفسها ولا عن نفسها، بل هناك اختيار وترتيب لوقائع أو لأحداث معينة وفقا لحبكة معينة. والمؤرخ هو الذي (يعطي) الكلمة لهذه الواقعة أو تلك في هذا السياق أو تلك الحبكة...بل إن القول بأحداث أو وقائع تاريخية مستقلة عن سياق (تأويلي) أو حبكة مفترضة هو مغالطة شديدة الإدعاء.

أما بخصوص العلاقة الثانية (التأويل بالتاريخ): هنا نجد أن التاريخ يشرط التأويل ويحدده، ويُعبر عن الإشكالية المتعلقة بهاـ في أحد أبعادهاـ السؤال: هل يستطيع المؤول تجاوز أفقه الراهن في فهم الظاهرة التاريخية؟ وقد تتبعنا المسار الأكثر ثراءً في طريقة تعاطيه مع هذه الإشكالية: ابتداءً من الهرمنيوطيقا الرومانسية وعصر الأنوار مرورا بهايدغر وغادامر وانتهاء بهابرماس وريكور.
فقد تبنت المدرسة التاريخية في القرن التاسع عشر النموذج القائل بإمكانية قيام التاريخ كعلم على (أسس موضوعية) بحتة. وادعت أن بوسعها الوصول بواسطة المنهج العلمي التاريخي إلى معرفة الماضي في إطلاقه كما هو.
وبالتالي فإن الغاية المثالية للمدرسة الرومانسية في التاريخ إنما تتمثل في رؤية الماضي في حدود ذاته. حيث ترى أن الحكم على الماضي يجب أن يكون بمعايير الماضي ذاته وليس على أساس معاييرنا وأفقنا الحاضر. الجدير بالملاحظة أن مطلب الموضوعية الذي تنادي به هذه المدرسة ليس بالإمكان تحقيقه إلا بانقطاعنا عن واقعنا وتجردنا من أحكامنا المسبقة والعودة إلى مفاهيم العالم التاريخي الذي نود الوصول إلى معناه. مع الوضع في الاعتبار أن (المعنى) ليس المقصود به ما يعنيه بالنسبة لنا وإنما ما كان يعنيه في ذاك العصر الماضي وتشّيد بناءا على أحكامه ومفاهيمه. مما يترتب عليه أن المهمة الملقاة على عاتق الهرمنيوطيقا وينبغي عليها القيام بها إنما تتمثل في بذل الجهد التأويلي من أجل استعادة المعنى الأصلي الأول عبر إعادة بناء موضوعية للحظة التاريخية التي شهدت إنتاج النص.

الأمر الذي اعترضت عليه بشدة تأويلية كلٍ من هايدغر وغادامر التي وحسب منظورها ترى أن الفهم والتأويل لابد من أن يكون منطلقا من الحاضر التاريخي الراهن الذي يمثل ويشكل أفق الموقف التأويلي للمؤول نفسه.
حيث يرى "غادامر" أن عملية تأويل وفهم النص التاريخي دائما ما تكون مشروطة بمفاهيم الحاضر وتصوراته ومقيدة ومحددة بالمعايير المسبقة للأفق التاريخي الراهن الذي تتأسس على أرضيته عملية فهمنا للماضي. فالوضعية التاريخية الراهنة للحاضر هي التي تتشكل بناءا عليها زاوية الرؤية للذات المؤولة.
وبالتالي فإن ما يترتب على وجهة النظر الغادامرية هذه، إنما يتمثل في استحالة انفكاك المؤول عن ذاته وعن معايير أفقه التاريخي وأحكامه المسبقة التي تلعب دورا هاما ومؤثرا في عملية التأويل والفهم.

ليأتي بعد ذلك "هابرماس" الذي رأى أن تأويلية غادامر تفتقر إلى (موقف نقدي) كافي إزاء التعاطي مع (التراث)، ولم يكتفي هابرماس بالنقد السالب فقط بل سعى في مشروعه إلى ضمان مشروعية النقد حيث يصر على أهمية الكشف ومن ثم (التحرر) عن الاهتمامات التي تشترط عملية الفهم والتأويل، ويرى ذلك ضروريا من أجل ضمان نوع تداولي من الموضوعية.

وأخيرا حاول ريكور تجاوز كلٍ من "غادامر" و"هابرماس" وإيجاد صيغة ثالثة تُفيد من الأخيرين ـ تكون أقل خضوعا لإشكالية التراث في تأويلية "غادامر" وأكثر انفتاحا وتقبلا لنقد الأيديولوجيات عند "هابرماس"ـ وذلك من خلال تطعيم هرمنيوطيقا التقاليد عند "غادامر" بنقد الأيديولوجيات عند "هابرماس". فبدلا من البديل الذي طرحه "غادامر" متمثلا في (الوعي الهرمنيوطيقي)، والبديل المقابل له الذي طرحه "هابرماس" متمثلا في (الوعي النقدي)، بدلا من ذلك، تندرج صيغة "ريكور" في محاولته الرامية إلى إيجاد إمكانية لقيام تأويلية نقدية تُظهر ضرورة النقد من داخل مقتضياتها الخاصة.



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (2)
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (1)
- كيف يجب للعقل الإسلامي المعاصر أن يتعاطى مع النص الديني الإس ...
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (3)
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (2)
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (1)
- كيف يجب أن نتعاطى مع النص الديني الإسلامي؟ (1)
- الطريق إلى الحقيقة: سؤال المنهج
- الوجود البشري والحقيقة (6)
- الحقيقة أم التأويل: التساؤل بشأن (حقيقية) الحقيقة(5)
- تفكيكية جاك دريدا: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال التأويل (4)
- الحقيقة لا تمثل الواقع الخارجي بل مفهومه، مراجعات فلسفية في ...
- مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (2)
- مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (1)
- العقل الإسلامي المعاصر: إلى أين؟
- في نظرية المعرفة: خلاصة ونتائج
- في نظرية المعرفة (6)
- في نظرية المعرفة (5)
- في نظرية المعرفة (4)
- في نظرية المعرفة (3)


المزيد.....




- -صدق-.. تداول فيديو تنبؤات ميشال حايك عن إيران وإسرائيل
- تحذيرات في الأردن من موجة غبار قادمة من مصر
- الدنمارك تكرم كاتبتها الشهيرة بنصب برونزي في يوم ميلادها
- عام على الحرب في السودان.. -20 ألف سوداني ينزحون من بيوتهم ك ...
- خشية حدوث تسونامي.. السلطات الإندونيسية تجلي آلاف السكان وتغ ...
- متحدث باسم الخارجية الأمريكية يتهرب من الرد على سؤال حول -أك ...
- تركيا توجه تحذيرا إلى رعاياها في لبنان
- الشرق الأوسط وبرميل البارود (3).. القواعد الأمريكية
- إيلون ماسك يعلق على الهجوم على مؤسس -تليغرام- في سان فرانسيس ...
- بوتين يوبخ مسؤولا وصف الرافضين للإجلاء من مناطق الفيضانات بـ ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - صراع الأفيال: هابرماس وغادامر وريكور، التأويل والتاريخ (3)