أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (2)















المزيد.....


تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (2)


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 3664 - 2012 / 3 / 11 - 20:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


3/ هايدغر: تاريخية الفهم وفقاً للمنظور الأنطولوجي لهرمنيوطيقا الدازين

" اضطر هايدغر إلى رفض زعمين شائعين عن التاريخ، فهو يذهب أولاً إلى أن التاريخ لا يهتم بالوقائع بل بالممكنات، أعني أنه لا يهتم بالأحداث التي يعاد بناؤها، أو سلسلة الأحداث في الماضي، وإنما يهتم باستكشاف الممكنات التي انفتحت أمام الموجود البشريDasein خلال مجرى التاريخ. ثم هو يذهب ثانياً إلى أن التاريخ لا يهتم بالماضي، وإنما هو يُعني أساسا بالمستقبل، إنه يسترجع من الماضي الإمكانات الأصلية للوجود البشري التي يمكن تكرارها لكي يسقطها على المستقبل"

ووفق المنظور الأنطولوجي لهرمنيوطيقا الدزاين عند "هايدغر" فإن التاريخية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوجود البشري في العالم، ليصبح (الوجود-في-العالم) تاريخياً في صميمه. ويصبح فهم هذا الوجود هو فهم لتاريخيته بالدرجة الأولى بالأساس.
ويؤكد "هايدغر" في كتابه (الوجود والزمان) على هذا المعنى بقوله: " تخدم كل جهودنا في التحليل الوجودي هدف واحد يتمثل في إيجاد إمكانية للإجابة على التساؤل المتعلق بفهم الوجود في معناه العام. وللعمل انطلاقاً من هذا التساؤل، فإننا نحتاج إلى أن نحدد...ظاهرة (فهم الوجود). لكن هذه الظاهرة تنتمي إلى وضع الآنيةDasein في الوجود. ويكون باستطاعتنا أن نمتلك تصور ل(فهم الوجود) المتضمن في وضعه في الوجود، فقط بعد أن يتم تأويل هذا الكيان بطريقة كافية. فقط بإمكان هذا المبدأ/القاعدة أن يشكل سؤال الوجود الذي يتم فهمه من خلال هذا الفهم "

بالتالي فإن البحث في تاريخية هذا الوجود يقوض الفهم التقليدي للتاريخية، ويقوم بتوجيهه نحو مسار جديد ينفتح على التاريخ بوصفه إمكان وتوقع وتجلي للوجود بطريقة متناهية تبحث عن الشرط الأنطولوجي والتاريخي للوجود في العالم.
فالوجود الإنساني منغرس في هذا التاريخ، وليس بوسعه الخروج منه وإلا أصبح غريباً عن نفسه، مستلبا أمام حقيقته. فكل تطبيق لمنهجية تموضع هو نوع من استلاب للذات، أي تحويلها إلى غريبة عن محيطها وعالمها.
والتساؤل الذي ينبثق من خلال تسلسل هذا السياق يتمثل في الكيفية التي تمكن الذات من أن تبقى مخلصة لكل ما فيها، ولانتمائها إلى ثقافة معينة، أي انغماسها في تراث معين، وأن ترى بموضوعية؟

إن " مركزية الوجود الإنساني هي مركزية الكائن الذي يفهم الكينونة فحسب. ويتعين على نظامه ككائن أن يكون لديه فهم أنطولوجي مسبق للكينونة. منذ ذلك الوقت، لن يكون إظهار تشكل الوجود الإنساني هذا، إطلاقاً (بناء بالاشتقاق)، كما هو الشأن في منهجية العلوم الإنسانية، بل إبراز الأساس عن طريق الإظهار. هكذا خُلق تعارض بين الأساس الأنطولوجي، بالمعنى الذي ذكرناه على التو، والأساس الابستمولوجي"

وعلى ذلك، تفسح هرمنيوطيقا هايدغر " المجال أمام طريقة تفكير البشر بوصفهم موجوداتbeings تاريخية أساساً، بدلا من تعريفهم بماهية غير متغيرة. فكينونة الإنسان التي لا تكون ثابتة إلى الأبد في مثال أزلي، تعد وظيفة الطريقة التي يرى بها الإنسان نفسه في الزمان وفي موقف تاريخي معين.

لذا فإن الأولوية الأونطولوجية المعطاة للتاريخية الإنسانية في فلسفة هايدغر وغادامر الهرمنيوطيقية تحدد المقاربة في السؤال الدائر حول طبيعة المعرفة التاريخية.
فالجيل الحاضر لن يفهم نفسه على نحو مختلف عن الطريقة التي فهم بها الجيل الماضي نفسه فحسب، بل إنه سيفهم الجيل الماضي على نحو مختلف عن الطريقة التي فهم بها الجيل الماضي نفسه"

4/ تاريخية التأويل وهرمنيوطيقا التراث عند غادامر:

يشكك "غادامر" في إمكانية الحصول على (معنى موضوعي) قابع هنالك في الماضي ما على المؤول سوى وضع يده على هذا المعنى (كما هو)، في استقلالية تامة عن الأفق التاريخي الذي ينتمي إليه وبمعزل عن كل أحكامه وتصوراته المسبقة.

ففكرة الوعي التاريخي الذي يقوم على أساس منهجي فحواه التخلص من النوازع والأهواء الذاتية لتجربتنا الحاضرة، والتي تلون حكمنا على التاريخ. وبالتالي لا تجعلنا قادرين على رؤية الماضي رؤية موضوعية هي مجرد وهم ساذج كما أوضح "غادامر".

وعلى النقيض من ذلك تماماً، يرى "غادامر" أن عملية تأويل وفهم النص التاريخي دائماً ما تكون مشروطة بمفاهيم الحاضر وتصوراته ومقيدة ومحددة بالمعايير المسبقة للأفق التاريخي الراهن الذي تتأسس على أرضيته عملية فهمنا للماضي.

إذن كل ما سبق، يشكل الوضعية التاريخية الراهنة للحاضر التي تتشكل بناءاً عليها زاوية الرؤية للذات المؤولة. وبالتالي فإن ما يترتب على وجهة النظر الغادامرية هذه، إنما يتمثل في استحالة انفكاك المؤول عن ذاته وعن معايير أفقه التاريخي وأحكامه المسبقة التي تلعب دوراً هاماً ومؤثراً في عملية التأويل والفهم.

وبالتالي فإن "غادامر" ينتقد وجهة النظر التي تنادي بأن على المرء، في فهم التاريخ، أن يغفل مفاهيمه الخاصة وأن يفكر في مفاهيم الحقبة التي يحاول فهمها فقط. ويصف مثل هذا المطلب بأنه مجرد وهم ساذج، ومحاولة مستحيلة وعبثية.

ومكمن سذاجته حسب ما ذهب إليه "غادامر" تتمثل في أنه لا يتحقق، لأن المؤول لا يبلغ كفاية المثال في مطلب إغفال نفسه. إلا إنه مع ذلك مثالاً مشروعاً ينبغي علينا كمؤولين أن نجتهد في بلوغه قدر المستطاع.

وفي المقابل يطرح "غادامر" مفهومه لكيفية التفكير تاريخياً بقوله " لكي نفكر تاريخياً فذلك يعني، في الحقيقة، أن ننجز تحولاً تخضع له مفاهيم الماضي حينما نحاول أن نفكر فيها.

ودائماً ما يتضمن التفكير تاريخياً توسطاً بين هذه الأفكار وتفكير المرء الخاص. ومحاولة الهروب من مفاهيم المرء الذاتية في عملية التأويل ليست فقط مستحيلة بل هي بشكل ظاهر محاولة غير جدية. ولكي نؤول فإن ذلك يعني، بالضبط ، تفعيل المفاهيم المسبقة للمرء حتى يمكن أن نجعل معنى النص يتكلم إلينا"

ماذا يمكن أن يقول النص لنا في موقف تاريخي محدد؟ هذه الفكرة هي ما جاهد من أجله غادامر في إصرار شديد، حيث " لا يمكن لتجربة العالم الاجتماعي التاريخي أن تُرفع إلى منزلة علم عن طريق الإجراء الاستقرائي للعلوم الطبيعية. ومهما يكن معنى (علم) هنا، وحتى إذا تضمّنت المعرفة التاريخية كلها تطبيق الكليات التجريبية على موضوع جزئي للبحث، فإن البحث التاريخي لا يسعى إلى فهم الظاهرة المعينة على أنها مثال على قانون كلي"

وفي ذات السياق نجد "غادامر" قد حذا حذو "هايدغر" في تأكيده للبعد التاريخي في عملية فهم النصوص. وهو الأمر الذي يؤكده "غادامر" في مقدمة كتابه (الحقيقة والمنهج) بقوله: " أن الفهم ليس فقط فهماً للسلوك الممكن والمختلف للذات لكن هو نمط وجود الدازين نفسه. وأنه بهذا المعنى قد أستُعمل مصطلح " التأويلية" هنا. فالمصطلح يشير إلى الوجود الأساسي في حركة الدازين الذي يشكل محدوديته وتاريخيته، ومن ثم هو يعانق مجمل تجربته في العالم. ليس تقلب الشيء، ولا حتى دراسة جانب مفرد منه، ولكن طبيعة الشيء ذاته هي ما يجعل حركة الفهم شاملة وكلية"

وهذا ما يعني أن "غادامر" يرتكز في تأسيس مفهومه للوعي التاريخي، وفي نقده للفهم التاريخي الذي كان سائداً لدى التيارات التأويلية في قراءة التاريخ، يرتكز في ذلك بشكل أساسي على تحليلات "هايدغر" ل(تاريخية الدازين) وعلى مفهومه (البنية المسبقة للفهم): حيث ذهب "هايدغر"، إلى أنه ليس ثمة إمكانية نستطيع من خلالها التأكيد على أن الذات المؤولة تمتلك من القدرة ما يؤهلها إلى أن تتملص وتتخلص من كل فرضياتها المسبقة لتنطلق في عملية الفهم من موقف تأويلي يتسم بالحيادية والنزاهة والشفافية العالية في كل عمليات الفهم/التأويل/القراءة للنصوص التراثية المنحدرة إلينا من الماضي.

بل على العكس من ذلك، نراها تنطلق باتجاه موضوع التأويل من موقف تأويلي يصطبغ بألوان (الفهم المسبق). وحينما نسقط هذا المفهوم على فهمنا للتاريخ، فإننا في سبيل الوصول إلى فهم للواقع التاريخي فإننا شئنا أو أبينا، سواء كنا على وعي بذلك أو لم نكن نعي ذلك، مشروطين تاريخياً بالحاضر الذي ننطلق منه في عملية الفهم.
على أساس ذلك يطور غادامر مفهومه للوعي التاريخي ويتحدث عن الشروط اللازمة لإمكانية اكتساب معرفة تاريخية عن النصوص المنحدرة إلينا من الماضي.

من وجهة النظر الغادامرية فإن (فهم) تلك النصوص المنحدرة إلينا من عصور تاريخية مضت لا يتمثل ـ كما ذهبت المدرسة الرومانسية في التاريخ ـ في الرجوع إلى تلك الحقب التاريخية ومحاولة استخلاص المعنى كما هو، وكما أراده وقصد إليه المؤلف، أو كما فهمه المؤول المعاصر لتلك النصوص، دون أي تدخل لتصوراتنا الذاتية الراهنة، هذا النفي إنما " يجعل الفهم مرتبطاً بلحظة التأويل نفسها لا باللحظة التاريخية/الزمانية التي أنتج فيها النص أولاً، ولذا يصعب، بل يستحيل، من منظور هذه الرؤية، استعادة المعنى الأول"

فالتأويل عند غادامر " مشروط بحد ذاته. أي، يتحكم به موقفه التاريخي الخاص واهتمامات معينة. وأن هذه الاهتمامات، وهذا الموقف تحديداً، سوف يطرأ عليهما التغيير. ويطلق غادامر على هذا الوعي المزدوج تسمية الوعي الهرمنيوطيقي" الذي يصبح عنده هادياً ومرشداً لأفضلية الفهم والتأويل من بين مجموعة من التأويلات المتنافسة، ويأتي مفهوم (انصهار الآفاق) ليدعم ويكمل مفهوم (الوعي الهرمنيوطيقي) من خلال توضيح البعد التاريخي الذي تنتهجه عملية الفهم والتأويل.

وهناك أيضاً مفهوم (التاريخ الفعال) أو (الوعي المدرج في الصيرورة التاريخية) والذي مفاده " أن الذات الواعية موجودة دائما (داخل) التاريخ تعيشه وتعانيه، ولا يمكنها أبدا أن تتموقع (خارجه) وتضع نفسها على مسافة منه بحيث يتجلى لها في كامل موضوعيته، ولذلك لا ينبغي أن نتناول التاريخ من الخارج أو من الأعلى في إحالة موضوعية مصطنعة، فالتاريخ شيء نعانيه دائما من الداخل بما هو كذلك، من حيث أننا نقف فيه.

وتجربة التاريخ تنطوي دائماً على تجربة أن المرء لا يستطيع أن ينتزع نفسه من هذا التاريخ لأنه تاريخه الخاص. وما دامت الذات مرتبطة إلى هذا الحد بالتاريخ أو لنقل بوضعيتها التاريخية الراهنة، فلن يكون بإمكانها أن تدرك الماضي في غيريته المطلقة، لأنها تدركه دائماً على ضوء أفقها الخاص وانطلاقا منه... وإن من يظن أنه باستطاعته الوصول إلى الأفق الآخر، أفق الماضي، دون أن يعتد بأفقه الخاص، إنما ينقل حتماً، في إعادة بناء للماضي يزعم أنها موضوعية، معايير ذاتية في الاختيار، والمنظور، والتقدير"

تتم عملية تأويل وفهم الماضي عبر عملية حوار يتمثل طرفاه الأساسيان في النص التاريخي والمتأسس على أفق الماضي من جهة، ومن جهة ثانية الأفق التاريخي الراهن الذي أسهم في تشكل ذات المؤول وتنطلق منه في سعيها إلى فهم الماضي. وكنتيجة لهذا الحوار تحدث عملية انصهار أو اندماج للأفقين معاً ـ الماضي والحاضر ـ مما يؤدي بدوره في المحصلة النهائية إلى تأويل وفهم النص المنحدر إلينا من الماضي.

" وهكذا فإن الفهم أو التأويل لا يمكنه أن يستقل عن الأفق الراهن للمؤول، ولا عن الأفق الماضي للنص، بل ينجم عن انصهارهما أو اندماجهما. وفي هذا (الاندماج) بالضبط تجد مسألة تحديد البعد التاريخي لظاهرة الفهم، أياً كان موضوع هذا الفهم، حلها المناسب"

وطالما أن صيغة (التحام الآفاق) لدى "غادامر" تبين مبدأ ثنائية المشاركة في عملية فهم النص التاريخي، ما بين الأفق الماضي للنص والأفق الحاضر للمؤول، ففي مقدورنا تفنيد إدعاءات خصوم غادامر الذين رأوا أن غادامر ردّ عملية الفهم والتأويل لفعل الذات المؤولة، وبالتالي أخذوا على التأويل الغادامري قيامه على أسس ومعايير ذاتية، الأمر الذي يهدد بدوره ويقدح في إمكانية وشرعية قيام تأويل موضوعي للنص التاريخي.
ومن وجهة نظرنا فإننا نرى أن هذا التبسيط للهرمنيوطيقا الفلسفية الغادامرية مخل في واقع الأمر ويبعدنا عن الفهم الحقيقي لما أورده "غادامر" في هذا الشأن.
فمن جهة أولى، رداً على الإدعاء القائل بذاتية معايير وأسس التأويل عند غادامر، نقول الآتي: صحيح أن "غادامر" أكد على الدور الهام والفاعل والمؤثر الذي يلعبه المؤول في عملية الفهم والتأويل، لكن "غادامر" لم يقف عند هذا الحد، وإنما رأى أن المؤول لا ينفك بأي حال من الأحوال عن أفقه التاريخي الحاضر ـ بكل ما يحمله هذا الأفق من معايير واستراتيجيات، رؤى وأهداف، مفاهيم وأحكام مسبقة ـ فالمؤول موجود ليس في الفراغ وإنما في التاريخ.
ومن جهة ثانية لابد أن نتوقف عند مفهوم (الذاتية) كمصطلح عند غادامر، حيث أن " هذا التصور لا يعني إطلاقاً، لدى غادامر، استحالة الوصول إلى رؤية موضوعية بشأن النص، ولا يعني أيضاً اختزال أي تأويل ممكن إلى ذاتية المؤول الخالصة. بل يعني على العكس من ذلك أن كل تأويل يبقي دائماً مشروطا بالوضعية التاريخية التي ينتمي إليها، ويكون في المقابل متعلقاً بواقع النص ذاته"

يطرح "غادامر" مشكلة التراث ودوره في كل تأويلية، حيث أن هنالك ثمة فاعلية للتاريخ لا سبيل للمؤول للتخلص منها، طالما أن هناك صلة قوية تتمثل في الرابط المتين الذي يربط أثناء عملية الفهم والتأويل بين النص التراثي من جهة، وبين مجموع الأهداف والغايات القائمة على أرضية الحاضر، والتي ننطلق من أفقها التاريخي الراهن والمعايير والبنى المسبقة للفهم المنحدرة إلينا من التراث ذاته، التي تمارس فعلها في عملية توجيه فهمنا بطريقة تفي بمتطلباتها، والتي تعكس في الآن ذاته مشاركة الحاضر في عملية إضفاء المعنى والدلالة على النص المنحدر إلينا من الماضي.

و" تصر هرمنيوطيقا غادامر على أن أثر النص يشكل عنصراً مهماً لمعناه. ولأن هذا الأثر يختلف باختلاف العصور، لذا فهو يملك تاريخاً وتراثاً ـ أي ما أسماه غادامر ب(التاريخ الفعال). ويرى المؤول المعاصر أن هذا التاريخ ما يزال فاعلاً أيضاً، لأن فهم المؤول للنص ينبع منه ويكون مشروطاً به"

في هذا الإطار ليس في إمكاننا بأي حال من الأحوال أن نتكلم عن أن المؤول يستطيع الخروج من دائرة التاريخ، عبر الانفكاك من أفقه التاريخي الذي ينتمي إليه وبه يتشكل، ليرى الماضي ويفهمه بشكل موضوعي محايد ونزيه، وسبب هذه الاستحالة بسيط جداً يتمثل في أن هذا المؤول يعيش أصلاً داخل التاريخ، فالإنسان كائن تاريخي وليس بمقدور وعيه الذاتي وتصوراته ومفاهيمه التعالي على هذا التاريخ. بحيث تستطيع الذات المؤولة بكل ما تملك من وعي أن تضع نفسها على مسافة منه بحيث يتجلى لها في كامل موضوعيته.

على ذلك تصبح عملية الفهم والتأويل نوعاً من الحوار الجدلي الخلاق الذي يعكس عملية الفعل والانفعال الدائمة بين الأفق التاريخي للنص التراثي المنحدر إلينا من الماضي، والأفق التاريخي الحاضر المنطلقة منه الذات المؤولة في تعاطيها وتلقيها للماضي.

ومن جانبنا نؤكد على قدرة هذا المنظور ونجاحه في الكشف عن آليات الطمس والتغييب والأدلجة التي تُمارس تحت ستار وهم الموضوعية المزعومة في كل تفسير تاريخي، مهما ادعى من وثوقية وصوابية ودقة معرفته.
ومن ناحية أخرى، يلفت هذا المنظور التاريخي لهرمنيوطيقا "غادامر" انتباهنا بشدة إلى ما حاول البعض حجبه عنّا ممثلاً ذلك في الدور الهام والحاسم الذي يلعبه الموقف التأويلي ـ عبر أفقه التاريخي الذي يشكل حاضره ـ في كل عملية فهم وتأويل تُجرى وتمارس على نصوص الماضي، من حيث توجيه دائرة الضوء إلى البنى المسبقة للفهم، التي تتأسس بناءاً عليها الدائرة التأويلية في كل عملية تأويلية.

إلا أننا يجب أن لا نسيء فهم موقف " غادامر" السابق بالانجرار إلى تصنيفه وتبويبه تحت دائرة الذاتية، فالموقف الغادامري أبعد ما يكون عن ذلك. صحيح أنه أكد على ضرورة وأهمية فهم الماضي انطلاقاً من الأفق الحاضر للمؤول، وجعل البنى المسبقة للفهم شرطاً لا غنى عنه في كل عملية فهم وتأويل له، إلا أن هذا لا يعني وقوعه في شرك الذاتية النسبية.

والسبب في ادعائنا هذا إنما يرجع إلى أن "غادامر" كان حريصاً في مقابل تأكيده السابق على مشاركة الذات، وضرورة أن تصبح هذه الذات على وعي بمفاهيمها وغاياتها وأحكامها المسبقة السائدة في عصرها الخاص، والتي تفرض نفسها على كل عملية فهم أو تفسير.
بل هو لم يكتفي بالتوقف عند الحد السابق، وإنما نظر إلى الوجه الأخر المتمثل في دعوته إلى تعلم كيفية الإنصات إلى نداء النص، كما استقاه من أستاذه "هايدغر" وبيّن لنا ذلك من خلال ما دعاه بعملية الحوار الجدلي بين الآفاق التاريخية. إن عملية (انصهار الآفاق) هذه إنما تتم كما أوضحنا بين جدل الأفقين: المتمثلين في الأفق الحاضر للمؤول، في مقابل الأفق الماضي للنص التراثي، و"غادامر" في رؤيته لنتائج هذا الجدل لم يقم بتغليب أحد الطرفين على الآخر، وإنما رأى أن ثمرة محصلتهما إنما تكمن في ما أطلق عليه (انصهار الآفاق) fusion of horizons أو إن شئت قلت تلاحمهما وتلاقيهما كنتاج للعملية الجدلية الدائرة بينهما.

" إن أفق المعنى الذي يقف داخله النص أو الفعل التاريخي تتم مقاربته من داخل الأفق الشخصي للمرء. فالمرء عندما يقوم بالتفسير لا يترك أفقه الخاص وراءه، بل يوسعه بحيث يدمجه بالأفق الخاص بالنص أو الفعل. كما أن التفسير ليس مسألة الوقوف على مقاصد كاتب النص أو الفاعل التاريخي، إن الموروث نفسه يتحدث في النص، وجدل السؤال والجواب يُحدث انصهاراً للأفقين أو التحاماً بينهما. هذا هو التحام الآفاق"

فهنا يمكن للأفق التاريخي للماضي المعاصر للحظة ميلاد النص وتلقيه، أن يكون مساهماً في عملية كشف النص، وبالقدر ذاته فمن الصواب أن نقول كذلك إن الحاضر يسهم بشكل فاعل في هذه العملية عبر آلياته وأدواته الكشفية.

" إن فهم الماضي مشروط بالحاضر. ولذلك، رغم ما يعتقده أحدهم من أنه قد كسب فهماً جيداً للماضي كما تبدى له، إلا أن عليه أن يدرك أن هذا الفهم ما يزال مشروطاً بالحاضرـ أي ما يزال مشروطاً به تاريخياً"

ففي حقيقة الأمر، فإن المؤول لا يمتلك القدرة على الخروج من دائرة التاريخ الحاضر ولا يستطيع الإفلات من عبودية أفقه وفرضياته ومفاهيمه لكي يرجع إلى العصر الماضي بهدف استعادته في غيريته المطلقة كما (كان).

" إن التاريخ ـ فيما يرى غادامر ـ ليس وجوداً مستقلاً في الماضي عن وعينا الراهن وأفق تجربتنا الحاضرة. ومن جانب آخر فإن حاضرنا الراهن ليس معزولاً عن تأثير التقاليد التي انتقلت إلينا عبر التاريخ.
إن الوجود الإنساني تاريخي ومعاصر في نفس الوقت، ولا يستطيع الإنسان تجاوز أفقه الراهن في فهم الظاهرة التاريخية، لا يستطيع أن يتحول إلى الماضي ليكون مشاركاً فيه ويفهمه فهماً موضوعياً. إن التقاليد التي انتقلت إلينا عبر الزمن هي المحيط الذي نعيش فيه، وهي التي تشكل وعينا الراهن، ونحن ـ من ثم ـ حين نبدأ من أفقنا الراهن لفهم الماضي لا نكون في غيبة عن التقاليد والتاريخ"

إن فهمنا للماضي إنما يتوقف بالدرجة الأولى على نوعية الأسئلة التي يتم توجيهها إليه من منصة الراهن الحاضر. على أن ذلك لا يعني تعطيل فعالية الماضي في ممارسة التأثير بدوره في قراءة الحاضر، فهذا الأخير بدوره يستند على رؤى وفرضيات مستقاة من التراث الماضي، ويشرح غادامر هذا الأمر بشكل رائع، حيث يكتب: " إن التاريخ في الواقع لا ينتمي إلينا، بل نحن من ننتمي إليه. فقبل أن نفهم أنفسنا عبر عملية فحص الذات، نفهم أنفسنا بطريق أوضح من خلال الأسرة، والمجتمع، والدولة التي نعيش فيها. إن بؤرة الذاتية مرآة محرفة. والوعي الذاتي للفرد هو مجرد ومضة في الدوائر المغلقة للحياة التاريخية. وذلك هو السبب في أن الأحكام المسبقة للفرد تشكل الواقع التاريخي لوجوده، أكثر مما تشكلها أحكامه الذاتية"

وبالتالي فإن الذات المؤولة المنطلقة من الحاضر والتي تفصلها مسافة تاريخية عن الماضي ليس في مقدورها الوصول لحقيقة شفافة وأمينة ومطابقة عن التراث أو الماضي كما كان. بل الأفضل أن نقول أن المؤول يفهم الماضي انطلاقاً من أفقه الحاضر.

وغادامر بذلك ينفي إمكان معرفة الماضي (بحد ذاته)، ويرى في المقابل أن إمكان معرفة الماضي مشروط تاريخياً بالموقع الذي تنطلق منه الذات في الحاضر أو المنظور الحاضر الذي نرى من خلاله.

فمن منظور "غادامر" لا يوجد تأويل موضوعي ولا تشوبه شائبة للتاريخ ، بل إن فهم النصوص المنحدرة إلينا من التاريخ لا يحدث مطلقاً إلا من خلال سياق الحاضر الذي ننتمي إليه، أو الأفق التاريخي الراهن الذي ننطلق منه في عملية فهمنا للماضي ونصوصه.

" إن إعادة بناء الشروط التي أنحدر إلينا بها عمل من الماضي الذي كان متشكلاً أصلاً أمر مهم بلا شك لفهمه. لكننا قد نتساءل عما إذا كان ما تحصلنا عليه هو حقيقةَ معنى العمل الذي نبحث عنه، ونتساءل عما إذا كان من الصحيح أن ننظر للفهم على أنه خلقاً ثانياً، وعلى أنه إعادة إنتاج الإنتاج الأصل.(..). إن إعادة بناء الظروف الأصلية، مثل كل إعادة، هو تعهد عقيم من وجهة نظر تاريخية وجودنا. فما يُعاد بناؤه ـ حياة تُستعاد من الماضي المفقود ـ ليس موجوداً.(..). إن هرمنيوطيقا اعتبرت الفهم على أنه إعادةَ بناءٍ للأصلي ستكون ليست أكثر من حامل لمعنى ميت"

مما سبق يتضح لنا أن مفهوم (انصهار الآفاق) التاريخية كما طرحه "غادامر" يقودنا إلى الإقرار بالنتيجة المترتبة عليه والمتمثلة في أن الحقيقة التاريخية بالنسبة للنص التراثي المنحدر إلينا من الماضي، لا يجب البحث عنها في الماضي باعتباره الضامن الموضوعي لها، وأنه من السذاجة بمكان أن نتعاطى معها وكأنها قابعة سلفاً هنالك في انتظار من ينفض عنها غبار التاريخ بحيث يمكن استعادتها ومعانقتها في لحظة تجسدها الأولى.
وأن لا نتعامل معها من جهة ثانية، بوصفها كياناً محدداً وقائم بذاته في استقلالية تامة عن البنى المسبقة للذات التي تقوم بعملية إدراكها. بل هي العكس من ذلك دائماً ما تكون في حالة سيرورة مستمرة، وفي حالة تقوم فيها بتغيير جلدها باستمرار، طالما أن الذات المؤولة في كل عصر تاريخي تقوم بتجديد وبتحديث آليات وأدوات فهمها للماضي، مما يعني بدوره إفراز فهم يتسم بالجدة للماضي.

ويترتب أيضاً على مفهوم (انصهار الآفاق) أن عملية فهم النص التراثي إنما تأتي كتتويج لمحصلة التفاعل الجدلي بين الماضي والحاضر استشرافا للمستقبل، الذي سرعان ما يتحول إلى حاضر، وهذا بدوره يتحول بتقادم التاريخ إلى ماضي.

وبالتالي فنحن أمام فهم للتاريخ لا تنفصل لحظاته الزمنية الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، بل تتداخل وتتبادل مراكزها طالما أن عجلة التاريخ لا تتوقف أبداً.
وهذا بدوره يعني أن فهمنا للماضي والحاضر في حالة تعديل وإبدال وإزاحة مستمرة. مما يعني بدوره أن ادعاء المدرسة التاريخية أبان القرن التاسع عشر ( وكذلك إدعاء المدرسة الإسلامية) بإمكان رؤية الماضي في غيريته الأصلية بكل تجرد وموضوعية، ما هو إلا إدعاء باطل ومخالف للكيفية التي يحدث بها الفهم نفسه. وهو ما يفند، أيضا، نقد هيرش الذي رأى " أن الهرمنيوطيقا التاريخية لا تميز على نحو سليم بين الحاجة إلى إعادة تقييم العصر الماضي بالعصر الحاضر (في ضوء حاجات الحاضر واهتماماته الجديدة) والحاجة إلى العصر الماضي بذاته ولذاته"

وبالتالي فإن الذات المؤولة ( وينطبق ذلك على المفسر الديني) مهما غالت في الادعاء بأنها ستلتزم بكل صرامة بتقصي الموضوعية تجاه النص التاريخي بكل (نزاهة) و(حيادية) و(أمانة)، فإنها في خاتمة المطاف ليست لديها القدرة على أن تتملص من (بنية الفهم المسبق) لديها. والسبب يعود إلى أن " كل تفسير للتاريخ أو لأي وثيقة تاريخية يحدوه اهتمام معين وتوجهه مصلحة معينة، هذا الاهتمام بدوره يرتكز على فهم مبدئي معين للموضوع. من هذا الاهتمام وهذا الفهم يتشكل (السؤال) المطروح على النص. وبدون هذين الشرطين لن يمكن لسؤال أن يُطرح، ولن يكون هناك أي تفسير. ومن ثم فما من تأويل إلا وهو مسترشد ب(الفهم المسبق) للمؤول. فإذا طبقنا ذلك على التاريخ فهو يعني أن المؤرخ يتخير دائماً زاوية معينة للرؤية أو وجهة معينة من النظر، مما يعني بدوره أنه منفتح بالدرجة الأولى على ذلك الجانب من العملية التاريخية الذي ينكشف للأسئلة التي تطرح من هذه الوجهة من الرؤية"



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (1)
- كيف يجب للعقل الإسلامي المعاصر أن يتعاطى مع النص الديني الإس ...
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (3)
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (2)
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (1)
- كيف يجب أن نتعاطى مع النص الديني الإسلامي؟ (1)
- الطريق إلى الحقيقة: سؤال المنهج
- الوجود البشري والحقيقة (6)
- الحقيقة أم التأويل: التساؤل بشأن (حقيقية) الحقيقة(5)
- تفكيكية جاك دريدا: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال التأويل (4)
- الحقيقة لا تمثل الواقع الخارجي بل مفهومه، مراجعات فلسفية في ...
- مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (2)
- مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (1)
- العقل الإسلامي المعاصر: إلى أين؟
- في نظرية المعرفة: خلاصة ونتائج
- في نظرية المعرفة (6)
- في نظرية المعرفة (5)
- في نظرية المعرفة (4)
- في نظرية المعرفة (3)
- في نظرية المعرفة (2)


المزيد.....




- الإمارات تشهد هطول -أكبر كميات أمطار في تاريخها الحديث-.. وم ...
- مكتب أممي يدعو القوات الإسرائيلية إلى وقف هجمات المستوطنين ع ...
- الطاقة.. ملف ساخن على طاولة السوداني وبايدن
- -النيران اشتعلت فيها-.. حزب الله يعرض مشاهد من استهدافه منصة ...
- قطر تستنكر تهديد نائب أمريكي بإعادة تقييم علاقات واشنطن مع ا ...
- أوكرانيا تدرج النائب الأول السابق لأمين مجلس الأمن القومي وا ...
- فرنسا تستدعي سفيرتها لدى أذربيجان -للتشاور- في ظل توتر بين ا ...
- كندا تخطط لتقديم أسلحة لأوكرانيا بقيمة تزيد عن مليار دولار
- مسؤول أمريكي: أوكرانيا لن تحصل على أموال الأصول الروسية كامل ...
- الولايات المتحدة: ترامب يشكو منعه مواصلة حملته الانتخابية بخ ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (2)