أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (1)















المزيد.....


تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (1)


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 3662 - 2012 / 3 / 9 - 17:30
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة:
يتمثل موضوع هذا المقال، تحديداً، في مناقشة مستفيضة للأجوبة المقدمة، من قبل التيارات التأويلية على اختلاف منطلقاتها، للتساؤل التأويلي الذي أعاد طرح الإشكالية المتمثلة في كيفية (فهم التاريخ) من جهة أولى، وطرح مشكلة (تاريخية التأويل) من جهة ثانية. وبالتالي فإن مثل هذا الطرح الإشكالي يولد بدوره الكثير من التساؤلات المهمة من قبيل: كيف نفهم الوثائق أو النصوص التاريخية المنحدرة إلينا من التراث؟ ما هي طبيعة المعرفة التاريخية نفسها؟ هل يمكن إدراك الماضي في غيريته المطلقة؟ هل يستطيع المؤول تجاوز أفقه الراهن في فهم الظاهرة التاريخية؟ هل هو صحيح القول بالقدرة على رؤية الماضي رؤية موضوعية؟ وما المقصود بتاريخية التأويل؟..الخ.
1/ عن التاريخ: الحدث والوثيقة
إذا كان من اليسر بمكان أن نقدم تعريفا لماهية الفيزياء أو الكيمياء أو أي حقل من الحقول المندرجة تحت يافطة (العلوم الطبيعية)، فسيكون من العسر بمكان أن نقول بشكل محدد وصريح أن ماهية وطبيعة المعرفة التاريخية هي كذا. ويربط قاسم عبده بين التاريخ وبين معرفة الماضي ـ على أنه لا يعني الماضي في إطلاقه ـ ويوضح وجهة نظره بالقول: " التاريخ لا يهتم بالماضي على إطلاقه. فالواقع أن التاريخ يبدأ مع بداية حياة الإنسان على الأرض. وقد أخبرنا الجيولوجيون أن عمر كوكب الأرض يتراوح بين ثلاثة ملايين وأربعة ملايين سنة. أما الإنسان في شكله البدائي فيقدر عُمره على الأرض بحوالي مليون وسبعمائة وخمسين ألف سنة. ويعني هذا أن التاريخ لا يهتم بالماضي سوى حين يتعلق هذا الماضي بالبشر، وهو ما يعني أنه يهتم بفترة تعادل 200/1 تقريباً من عمر كوكب الأرض ككل، ويترك ما عدا ذلك للجيولوجيين. وعلى هذا ينبغي أن نركز اهتمامنا بالتاريخ من حيث كونه (سجلاً) للماضي الإنساني"
والإنسان نفسه يمكن تعريفه بوصفه كائناً تاريخياً، طالما كانت ذاته الإنسانية في حالة دائمة من الصيرورة والتغيير. بهذا المعنى هو تاريخي، ومن ناحية أخرى، لأنه يعيش في عمق التاريخ بلحظاته الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل، فالوجود البشري هو إمكان يتحقق عبر المستقبل انطلاقاً من الحاضر الذي تكّون من خلال التراث المنحدر إليه من الماضي. ومن جهة أخرى، فإن " العالم التاريخي والاجتماعي ليس بالأبكم كالطبيعة، بل هو يحاورنا ويجيبنا، ونحن ندركه من الداخل، في ملاحظتنا أنفسنا، وليس فقط في الإدراك. وهكذا فنحن نتابع الأحداث بحرارة، ولسنا ولا نستطيع أن نكون شهوداً خارجيين. ذلك أن الماضي الذي نكتب تاريخه ينشأ عنا نحن. إنه حياتنا نفسها"
والتاريخ كما يحملنا نحمله، وبقدر ما يحددنا نحدده، والتاريخ ما هو في حقيقة الأمر إلا وقائع مؤولة تم اختيارها وفي الآن ذاته تم طمس وتجاهل وقائع أخرى، وعلى ذلك فإن " وقائع التاريخ ليست كل وقائع الماضي بل هي وقائع (اختيرت) بعد (استبعاد) أخرى وليست كل أحداث الماضي متساوية المرتبة، بل ليس للواقعة الواحدة نفس الوزن في سياقين مختلفين ولا (تتكلم) الوقائع بنفسها ولا عن نفسها، بل هناك اختيار وترتيب لوقائع أو لأحداث معينة وفقاً لحبكة معينة. والمؤرخ هو الذي (يعطي) الكلمة لهذه الواقعة أو تلك قي هذا السياق أو تلك الحبكة...بل إن القول بأحداث أو وقائع تاريخية مستقلة عن سياق (تفسيري) أو حبكة مفترضة هو مغالطة شديدة الإدعاء"
التاريخ رواية أحداث، ولا يمكن لنا أن نعرف التاريخ إلا عبر (وساطة) الوثائق. هذا المفهوم للتاريخ يقوم على مفهومين أساسيين: الحدث والوثيقة. وعلى ذلك يجب الانتباه إلى أن الوثيقة ـ مهما كانت درجة الموضوعية التي تدعيها في رواية الحدث ـ لا يمكن لها بأية حال من الأحوال أن تدعي أو تزعم مطابقتها الكاملة والتامة للحدث التاريخي، فهي " ليست تسجيلاً مصوراً أميناً لتتابع لقطات الحدث، وهي لا تجعلك ترى الماضي نفسه مباشرة (كما لو كنت هناك) فالوثيقة ليست (محاكاة) للحدث بل هي (حكاية) عنه" وعلى ذلك فليس في إمكاننا معرفة الحدث ما لم يخلف وراءه (أثراً).
ومن ناحية أخرى، ينبغي علينا عدم الخلط بين الحدث والوثيقة، " إن ما يسمى مصدراً أو وثيقة سواء أكان كسرة من إناء أو سيرة حياة خياط هو أيضاً حدث بل هو حدث في المقابل الأول، حدث كبير أو صغير: ويمكن تعريف الوثيقة باعتبارها كل حدث قد خلّف وراءه حتى أيامنا أثراً مادياً. فالتوراة (الكتاب المقدس) حدث من أحداث تاريخ بني إسرائيل وهي في الوقت ذاته مصدر هذا التاريخ، هي وثيقة للتاريخ السياسي وحدث من أحداث التاريخ الديني، كما أن كسرة من إناء عليها نقوش قد عثر عليها في أحد المحاجر القديمة بسيناء وتكشف اسم أحد الفراعنة هي وثيقة بالنسبة إلى تاريخ الأسر الحاكمة، وهي أيضاً أحد الأحداث الصغيرة المتعددة التي تؤلف تاريخ الاستعمال الاحتفالي للكتابة، وعادة إقامة النصب التذكارية ذات الكتابة المنقوشة أو غير ذلك للأجيال القادمة. وهذا القول يصدق على هذه الكسرة كما يصدق على كل الأحداث الأخرى"
من جهة ثالثة، وفي إطار تبيان ضرورة المعرفة التاريخية وأهميتها بالنسبة لنا، يرى أناتولي راكيتوف أن وظيفة المعرفة التاريخية تتمثل في قيامها ب" تطوير الوعي الذاتي الاجتماعي لشتى المجتمعات. يقال أن المعرفة التاريخية تلعب في المجتمع دوراً يشبه الدور الذي تلعبه الذاكرة في الفرد. فالشخص الذي يفقد ذاكرته (يحدث ذلك في بعض الأمراض) يفقد وعيه بذاته، فتتفتت شخصيته ولا يعود منسجماً مع هويته. فالذاكرة تختزن كمية ضخمة من المعلومات المجدية عن الأحداث التي وقعت ( بما في ذلك تلك التي قد تكون لها نتائج في المستقبل)... والوعي التاريخي، على غير ما هي عليه الذاكرة الفردية، لا يوجد كوظيفة للعقل الفردي، أو كنتاج للتجربة الحياتية الفردية، بل يوجد كمعرفة علمية يقبلها ويفهمها كل أعضاء المجتمع، إنها تؤمن الترابط والاستمرار بين الأجيال، وتخلق الشروط للتواشج والفهم المتبادل، والأشكال الخاصة للتعاون بين الناس في مختلف ميادين النشاط الاجتماعي"
بناءاً على ما سبق، فإن انشغال التاريخ إنما بما كان، لا بما كان يجب أن يكون، وعلى ذلك يتألف التاريخ من ذكر ما وقع فعلاً في الماضي. ولا يتوجب على المؤرخ أن يصدر أحكام قيمة على ما مضى ناعتاً إياه ـ مثلاـ بأنه خير أو شر. هذه الأحكام لا تضيف شيئاً جديداً لأنها تقع خارج الموضوع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يستطيع المؤرخ فعلاً الاستغناء عن أحكام القيمة؟ ومنذ العصر اليوناني، نُطر للتاريخ على أنه معرفة منزهة عن الأغراض، إلا أن المشكلة في اعتقادنا إنما تتمثل في أنّ (الذات) التي تبغي معرفة التاريخ هي أصلاً غائصة في وحل التاريخ، وبالتالي فليس في وسعها أن تتموقع في نقطة خارج مدار التاريخ لتقوم بفعل معرفته وإدراكه بشكل موضوعي محايد.
التأريخ (أو الأرخنة) نشاط معرفي عقلاني ـ لواقع ليس عقلانياً ولكن ينبغي معرفته ـ لا يكتفي ب(رواية) الحدث التاريخي كما حدث فحسب بل إنه يقوم بالتفسير، ولو شئنا الدقة قلنا (التأويل). ف" أصغر واقعة تاريخية تمتلك (معنى)، فهذا ملك وهذه إمبراطورية وهذه حرب، فإذا قمنا بالتنقيب عن إمبراطورية الميتانى•، وفككنا رموز الأرشيفات الملكية فسيكفي أن نجوس خلالها لكي نشرع داخل أذهاننا في ترتيب أحداث من نمط مألوف: لقد أشعل الملك الحرب ولحقت به الهزيمة. ومثل تلك الأشياء تحدث في الحقيقة. ولندفع (التفسير) إلى مدى أبعد من ذلك، إن حب المجد وهو أمر طبيعي هو الذي جعل الملك يخوض الحرب، ثم لحقت به الهزيمة بسبب النقص في عدد الجنود لأنه فيما عدا حالات استثنائية يكون من الطبيعي أن تتراجع الفرق الصغيرة أمام الكبيرة. فالتاريخ لا يتجاوز أبداً هذا المستوى شديد البساطة من التفسير. وسيظل من حيث الأساس (قصة تُروى)، وما نسميه تفسيراً ليس إلا الطريقة التي تنظم بها القصة نفسها داخل حبكة قابلة للفهم"
2/ التأويل والتاريخ من منظور الهرمنيوطيقا التقليدية: فهم الماضي بمعايير الماضي ذاته
إن الناظر للهرمنيوطيقيين الأوائل وتحديدا أبان العصر الفاصل بين "شليرماخر" و"دلتاي" يجد مؤرخي القرن التاسع عشر من الألمان العظماء من أمثال "رانكة" و"درويزن"..إلخ. ومنذ ذلك العصر " كان النص المطلوب تأويله هو الواقع ذاته وارتباطاته مع أجزائه. كما أن السؤال عن الكيفية التي يمكن بها فهم نص من الماضي سبقه سؤال آخر هو: كيف يمكن تصور الارتباط التاريخي؟ إذ قبل انسجامcoherence النص يأتي انسجام التاريخ الذي يعد الوثيقة العظمى للبشرية والتعبير الأساس عن الحياة، وقد كان دلتاي مؤولاً لهذا الحلفpact بين الهرمنيوطيقا والتاريخ"
مثلت المدرسة التاريخية في القرن التاسع عشر امتداداً طبيعياً للهرمنيوطيقا التقليدية، وتبنت النموذج القائل بإمكانية قيام التاريخ كعلم على (أسس موضوعية) بحتة. وادعت أن بوسعها الوصول بواسطة المنهج العلمي التاريخي إلى معرفة الماضي في إطلاقه كما هو. ويحدد "بول ريكور" دلالات هذه (النزعة التاريخية) Historicism بقوله إنها تعني " التسليم المعرفي بأن الأعمال الأدبية، والوثائق على العموم، تكتسب معقوليتها من ارتباطها بالظروف الاجتماعية للجماعة التي أنتجتها أو التي وجهت إليها. وهكذا فتفسير نص أدبي يعني في الأساس النظر إليه باعتباره تعبيراً عن بعض الاحتياجات الاجتماعية ـ الثقافية، واستجابة لبعض المعضلات المموضعة في الزمان والمكان" ويصف غادامر عملية إعادة المراجعة التي قامت بها الهرمنيوطيقا التقليدية في مضمار البحث التاريخي بأنها كانت " السبب في شروق شمس العلم التاريخي في القرن التاسع عشر. فلم يعد يُقاس الماضي بمعايير الحاضر، كما لو كانت معايير مطلقة، لكنها نسبت للعصور الماضية قيمتها الخاصة بها، بل أنها اعترفت حتى بتفوقها في جانب أو آخر. الإنجازات العظيمة للرومانسية ـ مثل إحياء الماضي، واكتشاف أصوات المجتمعات في أغانيها، وجمع قصص الحواري والأساطير، والعناية بالعادات القديمة، واكتشاف وجهات نظر الشعوب المتضمنة في اللغات، ودراسة دين وحكمة الهند ـ جميعها أسهمت في نشوء البحث التاريخي، الذي تحول تدريجياً خطوة فخطوة من إحياء قائم على الحدس إلى معرفة تاريخية مستقلة (...) فعلم التاريخ في القرن التاسع عشر هو الثمرة الناضجة للرومانسية، ويرى نفسه بالضبط كإنجاز لعصر التنوير، وكخطوة أخيرة في تحرير العقل من قيود الدوغمائية، وخطوة نحو المعرفة الموضوعية للعالم التاريخي، التي تقف على قدم المساواة مع معرفة الطبيعة المنجزة بواسطة العلوم الحديثة"
الجدير بالملاحظة أن مطلب الموضوعية الذي تنادي به هذه المدرسة ليس بالإمكان تحقيقه إلا بانقطاعنا عن واقعنا وتجردنا من أحكامنا المسبقة والعودة إلى مفاهيم العالم التاريخي الذي نود الوصول إلى معناه. مع الوضع في الاعتبار أن (المعنى) ليس المقصود به ما يعنيه بالنسبة لنا وإنما ما كان يعنيه في ذاك العصر الماضي وتشّيد بناءاً على أحكامه ومفاهيمه. مما يترتب عليه أن المهمة الملقاة على عاتق الهرمنيوطيقا وينبغي عليها القيام بها إنما تتمثل في بذل الجهد التأويلي من أجل استعادة المعنى الأصلي الأول عبر إعادة بناء موضوعية للحظة التاريخية التي شهدت إنتاج النص، الأمر الذي اعترضت عليه بشدة الاتجاهات الهرمنيوطيقية التي وحسب منظورها ترى أن الفهم والتأويل لابد من أن يكون منطلقاً من الحاضر التاريخي الراهن الذي يمثل ويشكل أفق الموقف التأويلي للمؤول نفسه، وسخرت من المبدأ القائل بإمكانية استعادة الماضي كما هو، ورأت أن ذلك مستحيل تماماً. ويتنافى مع التاريخية نفسها، فالماضي قد ولى ومضى وليس من المنطق والواقع القول بعودته في الزمن الحاضر. وبالتالي فإن الغاية المثالية للمدرسة الرومانسية في التاريخ إنما تتمثل في رؤية الماضي في حدود ذاته. حيث ترى أن الحكم على الماضي يجب أن يكون بمعايير الماضي ذاته وليس على أساس معاييرنا وأفقنا الحاضر، ف" المؤرخ مثلاً، كما يقول إميلو بتي، لا تهمه الصلة العملية بالحاضر بقدر ما يهمه أن يغمر نفسه، متأملاً، في النص الذي يدرسه" وهو الأمر الذي يكرس على تأسيس الفهم على مقولة المعنى (اللا زمني) أو (اللا تاريخي) في تعاطيه مع النصوص التاريخية المنحدرة إلينا من الماضي. وبأن التأويل الموضوعي للتاريخ لا يتم إلا إذا قام المؤرخ/المؤول بإقصاء تصوراته الشخصية وتجرد من رواءه ونوازعه الذاتية وانغمس بكلياته في عالم النص التاريخي معايشاً ومستلهماً بذلك أفكاره وقيمه الخاصة. مما يتيح له التحول إلى الماضي والمشاركة فيه، وبالتالي إمكانية فهمه فهماً موضوعياً. وتجد رؤية "إيميلو بتي" هذه جذورها ومنبعها فيما ذهب إليه سلفه "شليرماخر" الذي أعتقد أن بإمكان المؤرخ/المؤول الوصول إلى فهم صحيح مطابق للأحداث التاريخية في الماضي التي تتجلى لنا في كامل موضوعيتها، و" وفقاً لشليرماخر، فإن المعرفة التاريخية تفتح إمكانية إرجاع ما تم فقده وتعيد بناء التراث، وذلك بقدر ما تستعيدّ المناسبة الأصلية والظروف" الأمر الذي يعكس الاهتمام الأساسي الذي منحه كل من "شليرماخر" و"إيميلو بتي" من أجل العمل على هرمنيوطيقا تأخذ على عاتقها مهمة إعادة بناء الخلفية التاريخية للنصوص التراثية واسترجاع (المعنى) بالطريقة التي انبثق بها في سياق عصره التاريخي الذي أبدعه، وفي نظرهما فإن عملية إعادة البناء هذه ضرورية ولابد منها طالما أردنا الحصول على تأويل أو فهم للماضي ذو (صواب موضوعي). ويكونا بذلك قد قاما بإضفاء طابعاً سيكولوجياً على التأويل.
من جهة ثانية، فإننا نجد أن "دلتاي" ـ شأنه شأن شليرماخر وإيميلو بتي ـ لم يشذ عن كل ما سبق، فهو كان يرى أن (موضوعية) الفهم والتأويل تحتم على المؤول أن لا يحكم على النص التراثي المنتمي لحقبة تاريخية ماضية بأحكام يستلهمها من عصره التاريخي الراهن، لأن ذلك حسب وجهة نظره يُعد نوع من الإجحاف بحق الماضي الذي ينبغي فهمه حسب معطياته وحسب سياقه التاريخي، لا حسب سياق المؤول. والجدير بالملاحظة أن هذا المبدأ في فهم التاريخ كان يمثل السمة الأساسية التي انفردت بها المدرسة التاريخية أبان القرن التاسع عشر في تشييد تصورها وكيفية تناولها لمشكلة التاريخ الكلي، حيث " ميزّت المدرسة التاريخية نفسها عن هيغل. فشهادة ميلادها، إذا جاز التعبير، تتمثل في رفضها للتركيب القبلي لتاريخ العالم. وإدعاؤها الجديد: ليست الفلسفة التأملية بل البحث التاريخي فقط هو ما يمكن أن يقود إلى وجهة نظر كلية للتاريخ" وبالتالي فقد توسلت المدرسة التاريخية آليات البحث التاريخي لكي تتوصل إلى نظرة كلية للتاريخ، تكون منافية في أطروحاتها مع ما كان سائداً قبلها من فلسفة للتاريخ بنت تصورها لفهم التاريخ بموجب معيار يقع خارجه. " فالنزعة الكلاسيكية عند فيلهلم فون همبولدت تنظر للتاريخ على أنه انهياراً وسقوطاً للحياة الإغريقية المكتملة. ورؤية اللاهوت الغنوصي للتاريخ في زمن غوته،...، تتصور المستقبل على أنه إعادة تأسيس لاكتمال مفقود لزمان أوليّ معين.(...). هذه جميعاً طرق لتصور التاريخ تتوسل معياراً يقع خارج التاريخ. وعلى أية حال، فإن نكران هذا النوع من المعيار الغير تاريخي، والقبلي، الذي ساد بداية البحثَ التاريخي في القرن التاسع عشر لا يخلو من الافتراضات الميتافيزيقية حينما يعتقد في نفسه و يعتبر نفسه بحثاً علميا.(...). هذا يظهر بكل وضوح في التحليل الفلسفي لدلتاي لرؤية تاريخية للعالم"
صحيح أن فلسفة التاريخ مع هيغل استقلت عن العقيدة المسيحية ولم تعد مستوحاة منها، لكن في المقابل فإن فلسفة التاريخ مع هيغل قد كشفت عن وضعها المتناقض، كما بيّن لنا ذلك دلتاي، فقد ادعت " القدرة على تحديد معنى التطور العام وسببه، بالاعتماد على فكرة وحيدة. ولكن هذه الفكرة، مثل أي فكرة إنسانية أخرى، تظل جزئية. وهي تفسر الواقع قسراً، لكي يدخل في الأطر المجردة، وفوق ذلك، فإنها عندما تهب المجموع وحدة معنى، فإنها تُضحي بالفرد للكل. ولماذا تقتضي الحياة الإخلاص كله للجماعة؟ ولماذا تكون الجماعة غاية في ذاتها؟ إن هذا التصور، كان يؤذي، لدى دلتاي، حساً مرهفاً بكرامة الشخصية الإنسانية. وهي القيمة الوحيدة التي تتمتع فيما يرى، بقيمة مطلقة ومباشرة. كان دلتاي يريد فلسفة للتاريخ، تتجنب التضحية بالفرد. ولقد ظلت ترجمة الحياة دوماً واحدة من الصور العليا للتاريخ"
وعلى خلاف تصور فلسفة التاريخ عند "هيغل" الذي ذهب إلى أن الفكرة (الروح) تحقق تجسيدها الكامل والمطلق في التاريخ، فإن نقطة انطلاق تحليل "دلتاي" الفلسفي لرؤية العالم التاريخية " تتحدد كلياً بنقضه ل(فلسفة التاريخ) فالافتراض الأساسي الذي يشترك فيه جميع ممثلي رؤية العالم التاريخية ـ رانكه، ودرويزن، ودلتاي ـ هو أن الفكرة، والماهية، والحرية لا تجد تعبيرها التام، أو حتى الكافي، في الواقع التاريخي. ويجب ألاّ يعدّ هذا مجرد نقص، أو عيب. فهم بالأحرى يجدون المبدأ البنائي للتاريخي في الحقيقة القائلة إن الفكرة ممثلة على نحو ناقص في التاريخ. ولهذا السبب يجب استبدال الفلسفة بالبحث التاريخي الذي يُعرِّف الإنسان بنفسِه وبمكانِه في العالم. وإن مفهوم التاريخ الذي يكون تمثيلاً خالصاً للفكرة سيعني إنكاراً للتاريخ في أن يكون طريقاً مستقلة للحقيقة" وبالتالي فإن دلتاي " وضع على عاتقه مهمة بناء أساس معرفي جديد وأكثر فعالية بين التجربة التاريخية والإرث المثالي للمدرسة التاريخية. وهذا هو معنى قصده تكملة كتاب كانط (نقد العقل الخالص) بنقد العقل التاريخي" " وهكذا مثلما أجاب كانط عن مسألة: كيف يكون العلم النظري ممكناً، كان على دلتاي أن يجيب عن مسألة: كيف يمكن للتجربة التاريخية أن تصبح علماً. لذلك سعى دلتاي، بتناظر واضح مع السؤال الكانطي، إلى أن يكشف مقولات العالم التاريخي التي يمكن أن تدعم العلوم الإنسانية"
بناءً على ما سبق، ولكي يكمل "دلتاي" نقد العقل عند "كانط" بالنقد التاريخي، كان لابد له من تأسيس منهج بواسطته نتمكن من فهم التاريخ، بحيث يوفر هذا الفهم مدخلاً منهجياً تكون خصائصه مختلفة عن تلك المميزة لمنهج العلوم الطبيعية. ولذلك ومنذ البداية، كانت جهود دلتاي متجهة نحو " تمييز العلاقات في العالم التاريخي من العلاقات السببية للنظام الطبيعي، ولذا كان مفهومي (الفهم) و(التعبير) مركزيين دائماً له" مما ترتب عليه إجراء الربط بين إمكانية المعرفة التاريخية من جهة أولى، مع مشروعية قيام العلوم الإنسانية على منهجيات تناول تختلف عن تلك الممارسة على مستوى علوم الطبيعة، حيث يرى دلتاي أن " علوم الروح تستمد أصالتها... بموقف الذات المختلف. وعلوم الطبيعة تنظم إدراك الأشياء بغية الشرح والممارسة. أما علوم الروح فإنها تعبير عن الحياة التي تعي ذاتها" وهو الأمر الذي حدا إلى أن يوجه "دلتاي" اهتمامه البحثي نحو الإجابة على السؤال الأساسي التالي: " كيف تكون المعرفة التاريخية ممكنة؟ بعموم أكبر، كيف تكون العلوم الإنسانية ممكنة؟ ويضعنا هذا السؤال عند عتبة التقابل الأكبر الذي نجده في عمل دلتاي بين تفسير الطبيعة وفهم التاريخ. ويتميز هذا التقابل بأنه مثقل بعواقب الهرمنيوطيقا التي تنفصل عن تعبير عالم الطبيعة، وتصبح في فلك الحدس السيكولوجي"
من ناحية أخرى، نجد الربط الذي يجريه دلتاي بين علوم الروح والتاريخ والفهم، فعلوم الروح تهدف إلى فهم التجربة الحياتية، وتجربة الحياة هذه ما هي إلا خبرة زمانية تاريخية. على ذلك فإن " التجربة المعيشة والفهم يردان، كل منهما إلى الآخر. فنحن نفهم فقط ما كنا عشناه بأنفسنا، وما كان يمكن أن نعيشه. ومن جهة أخرى فإن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بالفهم: بصورة غير مباشرة (بتأويل أعماله) لا بالاستبطان، وبالرجوع إلى الوراء أو استعادة الماضي، لا بالتطابق مع الحياة، وأخيراً فإن الإنسان يكتشف نفسه أيضاً، باكتشافه ماضي الآخرين. وذلك لأننا كائنات تاريخية، ونحن نحمل التاريخ في داخلنا. فالفكر الموضوعي، والآخرون، والحياة المشتركة بين الناس، هي المحطات التي تقوم بين الفرد وبين التاريخ العالمي"
ينتقد "غادامر" مفهوم الوعي التاريخي الذي تبنته الهرمنيوطيقا التقليدية ـ والقائم على إرث المدرسة التاريخية أبان القرن التاسع عشرـ الذي يتأسس على المبدأ الداعي إلى " التخلص من النوازع والأهواء الذاتية لتجربتنا الحاضرة، والتي تلون حكمنا على التاريخ. وبالتالي لا تجعلنا قادرين على رؤية الماضي رؤية موضوعية. يرى غادامر ـ على العكس ـ أن الأهواء والنوازع ـ بالمعنى الحرفي ـ هي التي تأسس موقفنا الوجودي الراهن الذي ننطلق منه لفهم الماضي والحاضر معاً. إن المنهج العلمي الصارم حين يطالب المؤرخ بالتخلص من أهوائه ونوازعه وكل ما يشكل أفق تجربته الراهن، لا يفعل أكثر من أن يترك مثل هذه النوازع تمارس فعلها في الخفاء بدلاً من مواجهتها باعتبارها عوامل أصيلة في تأسيس عملية الفهم. إن هذا المنهج ـ مثله مثل الوعي الاستطيقي ـ يجعلنا في حالة غربة عن الظاهرة التاريخية التي ندرسها " وعلى ذلك فإن النقد الغادامري وجه سهام نقده لكل التيارات التأويلية التي تبني قراءتها للتاريخ على أساس موضوعي وخاصة مفهوم تاريخية التأويل عند دلتاي التي، حسب غادامر، " كانت تضلٌلها نقطة بدايتها التأويلية في قراءة التاريخ بوصفه كتاباً: كتاباً واحداً، علاوة على ذلك، هو كتاب واضح إلى أخر حرف فيه. وعلى الرغم من احتجاجه ضد فلسفة التاريخ التي تكون فيها ضرورة الفكرة نواة لكل الحوادث، لم تستطيع الهرمنيوطيقا التاريخية عند دلتاي من أن تتجنب ترك التاريخ من أن يبلغ قمته في تاريخ المفاهيم. وذلك كان هو نقدي" بالتالي فإن انتقاد "غادامر" موجه بالأساس إلى التاريخية الساذجة التي ترى أنه يمكن الوصول إلى معنى التراث إذا عدنا إلى عصره ومفاهيمه وانقطعنا عن واقعنا وتجردنا من أحكامنا السابقة في محاولة يائسة لحصول على حكم (موضوعي) عن التاريخ. هنا نقد أساسي ل"شليرماخر" و"دلتاي". ولكن "غادامر" يتساءل في نفس الوقت: هل الوعي التاريخي قادر على ملء المكان الذي أخلته المعرفة المطلقة (الدوغمائية)؟ هو يعني بالدوغمائية هنا المناهج العلمية والمناهج التاريخية الساذجة. لذلك يخلص غادامر إلى أن " الهرمنيوطيقا الرومانسية والمنهج الفلسفي الذي تستند إليه غير مناسبين كأساس للدراسة التاريخية"



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف يجب للعقل الإسلامي المعاصر أن يتعاطى مع النص الديني الإس ...
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (3)
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (2)
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (1)
- كيف يجب أن نتعاطى مع النص الديني الإسلامي؟ (1)
- الطريق إلى الحقيقة: سؤال المنهج
- الوجود البشري والحقيقة (6)
- الحقيقة أم التأويل: التساؤل بشأن (حقيقية) الحقيقة(5)
- تفكيكية جاك دريدا: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال التأويل (4)
- الحقيقة لا تمثل الواقع الخارجي بل مفهومه، مراجعات فلسفية في ...
- مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (2)
- مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (1)
- العقل الإسلامي المعاصر: إلى أين؟
- في نظرية المعرفة: خلاصة ونتائج
- في نظرية المعرفة (6)
- في نظرية المعرفة (5)
- في نظرية المعرفة (4)
- في نظرية المعرفة (3)
- في نظرية المعرفة (2)
- في نظرية المعرفة (1)


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (1)