أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - نقد هايدغر وغادامر لموضوعية التأويل















المزيد.....


نقد هايدغر وغادامر لموضوعية التأويل


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 3674 - 2012 / 3 / 21 - 13:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


انتقد "هايدغر" نموذج التأويل الذي يدعي (الموضوعية) والتي رأى أنها كمنهجية لا تلائم إلا المجال المحدود بحدود منهجيات العلوم الطبيعية، وهو يؤكد: " لا تنفك الطريقة الاستعلائية عن هذا السؤال: كيف يمكن للأشياء/الموضوعات أن تكون أشياءً/موضوعات؟ مُعيّناً ومُقدّراً كموضوعية تظهر الوجود بطريقة جديدة. لم يكن الموجود بالنسبة لمفكري اليونان موضوعاً، بل المقابل الحاضر أمامنا الذي يدوم. إننا نعتقد دون شك أن الموجود حين يحضر أمامنا كموضوع أي كموضوعية، يظهر لنا بصفائه الأمثل، بوصفه ما يكون حاضراً أمامنا بذاته. هذا الرأي هو رأي خاطئ، هذا إذا كان القائل به يعي مفهوم (الموضوع). لابد من التمييز بدقة بين الحضور في الموضوعية والحضور أمامنا في المقابل، وذلك في لحاظ تاريخ الوجود. يتحدد تماسك الموضوع بالشروط المسبقة للإمكانية، وهي الشروط المقبولة من قبل النشاط التصوري. وهكذا يوفر هذا النشاط المحدد على هذا النحو، العلة الكافية لحضور الشيء الحاضر المدرك كموضوع. إنه يوفر هذه العلة بإرجاعه حضور الموضوع إلى فاعل مدرك معين"

ولذلك فإن هايدغر" يرى أن الوجود الإنساني إن كانت لديه مركزية فستكون ممنوحة بامتياز لذلك الكائن الذي يفهم الكينونة فحسب. وهو لكي يفهم هذه الكينونة فإنه طالما تعين ككائن في (الوجود-في-العالم) لابد أن يرتكز على فهم أنطولوجي مسبق للكينونة. وبالتالي فإن مثل هذه المنهجية في التناول التي يطرحها "هايدغر" تعني أنه نقل محور الإشكالية ـ كما كان شأنها في منهجية العلوم الإنسانية ـ من أساسها الابستمولوجي الذي كانت ترتكز عليه ومنها تنطلق، إلى الأساس الأنطولوجي بالمعنى الذي ذكرناه. وفي هذا الصدد فإن " الموضوعية العلمية، فيما تم رصده، مهما تقنّعت بالرؤية المنهجية أو القدرة على تتبع الأشياء/الحقائق لسبر أغوارها وكشف الحقيقة المتوارية، فقد أثبتت عجزها وفشلها في علمنة العلوم الإنسانية وإخضاعها للتجربة والملاحظة، وكذا عزل الذات وتعليق أحكامها بدعوى تحقيق الموضوعية"

وعلى النقيض تماما من (التأويلية الموضوعية) يؤكد "هايدغر" على أن العملية التأويلية لنص ما تستلزم من المؤول أن يكون لديه (فهم مسبق). هذا (الفهم المسبق) يمثل نقطة البدء التي يشيد على أساسها المؤول فرضيات فهمه للنص. وبالتالي فإن هذا المبدأ يتنافي مع (حيادية) و(نزاهة) المؤول التي دعا إليها فلاسفة التأويلية الموضوعية، من أمثال بيتي وهيرش وريكور..الخ، الذين دافعوا وامنوا بإمكانية وجود تأويل (موضوعي) لا يتدخل فيه المؤول بآرائه الخاصة ولا يفرض فيه رؤيته وأحكامه المسبقة على النص.

وعلى النقيض تماما مما ذهب إليه دعاة التاويلية الموضوعية، يرى "هايدغر" أننا لا نستطيع أن نفهم نصا ما دون توفر فهما مسبق لهذا النص سلفا، وهو الأمر الذي يؤكد على حقيقة الدور الهام الذي تلعبه أحكامنا المسبقة في عملية تأويلنا للنص. وأننا لا يمكننا، بأي حال من الأحوال، أن (نعلق بين قوسين) كل معرفتنا السابقة بل على العكس من ذلك ف"معرفتنا المسبقة" تمثل الشرط المحدد لنا في عملية فهم/تأويل النصوص.

وبالتالي وحسب هايدغر، فليس هناك ثمة " معرفة بلا مسبقات، فأنواع الفهم كلها تفترض سلفا، إدراكا قبليا، أي فهما مسبقا للكل. ولان المفاهيم المسبقة تتحكم دائما بمعرفتنا، يغدو من المستحيل كبح جماح كل محدِّد للفهم."

نفهم مما سبق ذكره أن "هايدغر" يرى أن في كل عملية تأويلية ثمة بنى مسبقة للفهم تُمارس دورا توجيهيا في عملية الفهم والتأويل " ويثير في الحقيقة تساؤلات وشكوكا خطيرة حول صواب هذا النموذج الذي يصف التأويل وفقا لعلاقة الذات ـ الموضوع. كذلك يلقي ظلالا من الشك حول ما يمكن أن يعنيه "التأويل الموضوعي" أو التأويل "بدون فروض مسبقة".

يطرح "هايدغر" هذه المسألة بوضوح ويقول بصريح العبارة: " التأويل ليس على الإطلاق فهما بلا فروض مسبقة لشئ ما معطى مقدما" وبالتالي فإن هايدغر يركز بشكل أساسي على الكيفية التي يحدث بها الفهم وما يحدث فعليا أثناء عملية التأويل من لدن الذات المؤولة، وطالما أن الأمر يجري بهذه الكيفية فبالتالي يصبح الحديث عن محاولة التحرر من ربقة البنى المسبقة للفهم بغرض التوصل إلى فهم موضوعي محايد أمرا عبثيا ولا طائل من ورائه " لأنها تمضي في حقيقة الأمر ضد الطريقة التي يتم بها الفهم. إن ما يظهر من "الشئ" أو "الموضوع" هو ما يسمح له المرء أن يظهر، وهو أمر يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية"
وإذا أردنا أن نكون أوفياء للفهم الهايدغري فينبغي علينا أن نفهم (الفهم) ليس باعتباره " فعل كلامٍ، كتابة أو نص بعد. الفهم، بدوره يجب أن يوصف، ليس بمصطلحات الخطاب، بل بمصطلحات ال(القدرة على الكينونة). الوظيفة الأولى للفهم، هي توجيهنا في حالة ما. لا يتوجه الفهم إذن إلى القبض على موضوع ما، إنما إلى إدراك إمكانية الكينونة. علينا ألا نغفل هذه النقطة عندما نستنتج خلاصات هذا التحليل المنهجية: لا يعني فهم نص ما العثور على معنى جامد محتوى فيه، بل بسط إمكانية الكينونة التي يعينها النص"

على أننا يجب أن نفهم النقد الهايدغري للموضوعية في سياقه الصحيح، فهناك من أبدى تخوفه من أن يؤدي بنا نقد مثال الموضوعية عند هايدغر إلى لون من ألوان النسبية المطلقة، وفي هذا السياق يقول كوزنز: " أن نقد هايدغر لمثال الموضوعية، وبرهانه على أولوية الفهم التأويلي الحلقي، يوقظ المخاوف من الطرد النهائي للموضوعية. إذ هل يستطيع العلماء والدارسون الإدلاء بحديث ذي معنى عن حقيقة استنتاجاتهم أو صلاحيتهاvalidity؟ أو هل يمكن للباحثين عقد مناقشة عقلانية عن مدى ملائمة المناهج لهم؟ وهل يمكنهم الاحتكام إلى المعايير "العلمية" في مواجهة التأملات الهوجاء"

إلا أن المدافع عن "هايدغر" بإمكانه الرد بأن "هايدغر" لم يقدح في ملائمة نموذج الموضوعية داخل نطاق علوم الطبيعة، إنما ما أنكره بالمقابل تمثل في عدم ملاءمته كنموذج بالنسبة للدراسات والأبحاث التي تقع خارج محيط العلوم الطبيعية. و"هايدغر" لم يهدف إلى تأسيس التأويل على الذاتية بل على (وقائعية) العالم وعلى (تاريخية) الفهم، ونفهم من ذلك أن تأويلية "هايدغر" بوصفها نظرية (الفهم) هي في حقيقة الأمر نظرية في التكشف الأنطولوجي. بمعنى أن " وصف هايدغر للفهم والتأويل هو وصف يضع الفهم والتأويل في موضع سابق على قسمة الذات والموضوع. فهو يشرح كيف تُظهر الأشياء ذاتها وتتكشف من خلال المعنى والفهم والتأويل، وهو يشرح ما يمكن أن نسميه البناء الانطولوجي للفهم"

وهايدغر بذلك يكون متجاوزا للنموذج الموضوعي التقليدي للموقف التأويلي القائم على ثنائية الذات والموضوع، وهو التجاوز الذي يمثل البناء الإيجابي لمفهوم وحدة الذات/الموضوع، ويعتبر المكمل للجانب الهدمي السالب المتمثل في نقد "هايدغر" للميتافيزيقا الغربية ومفهومها للذاتية، حيث رأى أن النسق المفاهيمي للموضوعية الذي قامت الميتافيزيقا الغربية بتشييده طوال تاريخها إنما يقوم على اليقين الذاتي للذات العارفة، وما يترتب على ذلك هو أن الموضوعية كمفهوم إنما تقوم في واقع الأمر على أساس الذات بخلاف ما تدعيه. ويقترح بدلا من ذلك موضوعية بمعنى جديد تقوم خارج قسمة (الذات/الموضوع) وسابقة عليها، موضوعية ترتكز في نقطة انطلاقها على وقائعية facticity الوجود البشري وتفسح المجال لهذا الوجود في الإعلان والكشف عن حقيقته كما هو.

إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه، حسب التسلسل السابق، هو عن الكيفية التي بواسطتها يتمكن الوجود الإنساني في العالم من أن يكشف عن نفسه بنفسه، هنا " يقترح هايدغر منهجه الفينومينولوجي كطريقة لذلك، وهو يسمي هذا المنهجhermeneutics of facticity هرمنيوطيقا الوقائعية. يقوم هذا المنهج لا على الطريقة التي ينتسب بها العالم للذات الإنسانية، بل على الطريقة التي تنتسب بها الذات الإنسانية للعالم. يحدث هذا الانتساب من خلال عملية الفهم "

يسلك "غادامر"، من ناحية ثانية، نفس الدرب الذي أخطته أستاذه "هايدغر"، ويتتبع نفس خطواته في نقد النموذج الموضوعي الذي تبنته بعض الاتجاهات التأويلية في دعوتها إلى التخلي عن كل الافتراضات المسبقة في أية عملية تأويلية، وذلك من أجل ضمان (نزاهة) و(حيادية) التأويل. وفي التركيز، بدلا من ذلك، على الكيفية التي يحدث بها فعل الفهم نفسه أثناء عملية التأويل.

وفي نفس الاتجاه يؤكد "غادامر"، أن عملية التأويل دائما ما تنطلق دورتها من موقف تأويلي لا يمكن بأية حال من الأحوال وصفه بالحيادية بل على العكس من ذلك تماما فأنه دائما ما يكون محملا بفهم مسبق لموقفه الخاص. وبالتالي ـ وحسب غادامر ـ فإن المؤول/المفسر الذي يدعي (الموضوعية) في ناتج قراءته لنص ما لا يقوم في حقيقة الأمر إلا بخداع نفسه حينما يتوهم أن نقطة انطلاقه في عملية تأويله/تفسيره لأي نص ما متحررة من أي أفهام مسبقة أو خالية من أية إنحيازات أو أن السياق الخاص الذي ينتمي له لا يؤثر على تأويله/تفسيره للنص.

فالتأويل كنتيجة لفهم المؤول للنص يتشكل من عوامل متعددة منها مثلا: " التراث الذي يمثله المؤول والتراكم التاريخي للتأويلات الماضية (والتي تشترط ما يعتقد المؤول أنه جديد في قراءته) و"حالة العلم" المعاصرة (أي الأهداف والمناهج والثيمات...إلخ، المستعملة حاليا). ويزعم غادامر أن من غير الممكن إطلاقا إزالة هذه العوامل تماما من فهم النص بذاته، بل لا يمكن سوى توضيحها إلى حد ما، والناقد الذي يتجاهل هذه العوامل في فهمه يكون أقل موضوعية لا أكثر موضوعية"

وبالتالي يتأسس انتقاد "غادامر" للموقف الذي يتبنى الموضوعية في التأويل على أساس أن " المؤوٍّل لا يدري أنه يقدم ذاته وأفكاره الخاصة أثناء عملية التأويل. إن الصياغة اللفظية هي، إلى حد كبير، جزء من عقل المؤول من حيث أنه لا يصبح أبدا واعياً بها كموضوع. وبالتالي يكون مفهوماً أن هذا الجانب من العملية التأويلية قد تم تجاهله كلياً"

يشكك "غادامر" في إمكانية الحصول على (معنى موضوعي) موجودا سلفا داخل النص ما على المؤول سوى وضع يده على هذا المعنى "كما هو"، في استقلالية تامة عن الأفق التاريخي الذي ينتمي إليه وبمعزل عن كل أحكامه وتصوراته المسبقة. وحسب غادامر فإن " أزمة المنهج الذي يقوم على عملية تأطير النص هي أزمة منهج يكون مدفوعا بوهم الموضوعية الذي يُخفي شخصية النص بإدخاله في قوالب وأطر جاهزة يُقاس عليها.

ووهم الموضوعية هو وهم من أوهام النزعة التعالمية scientismفي العلوم الإنسانية التي تريد أن تحتذي نموذج العلم الطبيعي، في حين أن العلم الطبيعي نفسه قد تخلى عن نموذجه التقليدي الذي يتوخى الموضوعية المطلقة واليقين" وهو الأمر الذي أمسى من المسلمات بعد أن ثبت صحة مبدأ "هيزنبرج" القائل: بأن ثمة بعض التغيرات التي تلحق بطبيعة موضوع الملاحظة نفسه بفعل حالة كونه يلاحظ.

وفي ذات السياق، يرى غادامر أن عملية تأويل وفهم النص دائما ما تكون مشروطة بمفاهيم الحاضر وتصوراته ومقيدة ومحددة بالمعايير المسبقة للأفق التاريخي الراهن الذي تتأسس على أرضيته عملية فهمنا للنص. إذن كل ما سبق يشكل الوضعية التاريخية الراهنة للحاضر التي تتشكل بناءا عليها زاوية الرؤية للذات المؤولة. وبالتالي فإن ما يترتب على وجهة النظر الغادامرية هذه، إنما يتمثل في استحالة انفكاك المؤول عن ذاته وعن معايير أفقه التاريخي وأحكامه المسبقة التي تلعب دورا هاما ومؤثرا في عملية التأويل والفهم.

" هذا التصور لا يعني إطلاقا، لدى غادامر، استحالة الوصول إلى رؤية موضوعية بشأن النص، ولا يعني أيضا اختزال أي تأويل ممكن إلى ذاتية المؤول الخالصة. بل يعني على العكس من ذلك أن كل تأويل يبقي دائما مشروطا بالوضعية التاريخية التي ينتمي إليها، ويكون في المقابل متعلقا بواقع النص ذاته" وما نفهمه من ذلك أن غادامر أستهدف بسهام نقده (الموضوعية الساذجة) التي تبنت الادعاء القائل بضرورة وإمكانية التخلص والتحرر من كل البنى المسبقة للفهم وذلك بهدف التوصل إلى تأويل موضوعي مبرأ من كل شائبة ذاتية، ولا يُعير أدنى اهتمام للأفق الخاص للمؤول. وعلى العكس من ذلك تماما، تبنى غادامر أطروحة مفادها أن " سياق تأويل النص المحايث هو سياق المؤول. وهذا لا يعني أن التأويل اعتباطي أو ذاتي طالما أن سياق المؤول نفسه يتحكم به التراث الذي نبع منه، كما أن النص جزء من هذا التراث. ومن غير أن ينطوي الأمر على مفارقة، يمكن القول أن النص المحايث خالٍ من السياق وموثوق بالسياق معا. فهو خالٍ من السياق بمعنى أن النص بكون إحالته الخاصة، وهو موثوق بالسياق بمعنى أن النص يبدو لقرائه في أفق الاهتمام، أي في سياق يجلبه القارئ ضمنيا إلى النص"

بالتالي يفرض علينا السياق السابق أن نتساءل عن صحة إدعاء بعض منتقدي التأويلية الفلسفية عند "غادامر" والذين ذهبوا إلى القول بأن خطر النسبية التاريخية هو ما يّلوح لنا في خاتمة مطاف تأويلية "غادامر" الفلسفية بعد أن قطعت شوطا طويلا في نقد (موضوعية) التأويل والفهم.

وثمة اعتراض أخر لا بد من مناقشته المتمثل في أن هذا المبدأ التاريخي الذي أقره غادامر " لا يحد من الإمكان الفعلي للتأويل الصحيح حسب، بل يحد من ما هو أشد أهمية من ذلك، أي إمكانية وجود النقد المشروع" وفي ظل هذا السياق فإننا نقول من جانبنا أنه من الظلم البيّن بمكان إساءة فهم منطوق تأويلية "غادامر" بهذا الشأن، فإذا عبرنا عن النسبية بالمعادلة التي يُعادل فيها القول ( أن النص يعني كذا وكذا) بالقول: (أنه يعني ذلك لي)، فإن الرؤية الغادامرية ليست حُبلى بمؤشرات ودلائل قاطعة تشير إلى وقوعها فريسة في شباك النسبية المطلقة، ف"غادامر" لم يقل إطلاقا بأن المؤول لا يقرأ سوى معانيه في النص أو أنه لا يفهم سوى معنى النص بالنسبة له ( وليس النص بذاته). فليست ذاتية المؤول هي المرجعية النهائية المولدة للمعنى والفهم والحقيقة، وإنما المرجعية تكتسب شرعيتها من موقعنا التاريخي نفسه بالنسبة لنا في الزمن الحاضر، ومن خلال ما أسماه "غادامر" ب(التحام الآفاق) حيث يتم الانصهار بين أفق الماضي الذي ينتمي إليه النص والأفق الحاضر الذي ينتمي إليه الموقف التأويلي. ففي الوقت الذي أقرت فيه التأويلية الفلسفية عند "غادامر" إمكان ادعاء المؤول فهمه للنص، إلا أنها أكدت في الآن ذاته على الاختلافات القائمة بين آفاق اعتقاد النص وآفاق اعتقاد المؤول.

ومن جهة ثانية، نرى أن تسويغ الموقف التأويلي ـ كما طرحه غادامر ـ في دفاعه عن ملائمة فهمه، يرتبط عنده ب(السياقية)، ففي (السياقية) نجد أن التأويل يعتمد على: " الظروف التي يحدث فيها، أو أنه يكون متعلقا بها ـ أي أنه يستند إلى سياقه( الأطر الخاصة أو مجموعات المفاهيم التأويلية، التي من ضمنها المناهج). وترى السياقية أن الجدال والتأمل العقلانيين لا يقفان عند تفضيلات المؤول الشخصية، بل على العكس. فعلى الرغم من أن خيار السياق لتأويل ما لا يحدده الدليل، من الممكن، والضروري، تقديم الأسباب التي تسوغ ملائمة ذلك السياق بدلا من السياقات الأخرى. ونظرا إلى عدم وجود نص مطلق، تكون مختلف أساليب التأويل ممكنة. إلا أن هذه لا تمثل النسبية الجذرية لأن السياقات كلها لا تكون ملائمة أو موسعة على نحو متساوٍ. وتنكر السياقية وجود خطوة أولى محايدة على نحو موضوعي تقدم منهجية غير مفندة. ولا تطلق على هذا الموقف العام تسمية "النسبية" لأنه موقف يتمسك به كل من النسبيين وغير النسبيين"

وما نستخلصه من ذلك يتمثل في أن القول الغادامري في ذهابه إلى أن نسبية التأويل ترتبط بالأفق التاريخي الذي على أرضيته ينبثق الموقف التأويلي، ليس بالضرورة قولا نسبيا بالمعنى المطلق. وذلك إنما يرجع إلى سبب بسيط هو أن (السياقية) تستوجب تقديم الأسباب التي تسوغ ملائمة سياق ما من بين مجموعة من السياقات المتنافسة.وبالتالي انتقاد "غادامر" لمفهوم الموضوعية لا يعني أنه يقبل أو يتبنى أي لون من ألوان الذاتية المطلقة، والصحيح هو أن " التأويلية الغادمرية لا ترفض الموضوعية بإطلاق، وإنما ترفض الموضوعية المطلقة absolute objectivism، أي ترفض تلك النزعة الموضوعية في الميتافيزيقا التقليدية التي تتطلع إلى نوع من اللازمانية أو الحقيقة المطلقة، هذا يعني أنها تستبعد النسبية المطلقة والموضوعية المطلقة معا، أي تستبعد النسبية والموضوعية بمعناهما التقليدي في الميتافيزيقا الغربية،...ومع ذلك فإن الهرمنيوطيقا الغادمرية تسعى بالتأكيد إلى تحقيق نوع ما من الموضوعية، طالما أنها تسعى إلى تحقيق نوع من الفهم أو الاتفاق وتسلم بإمكانيته على الدوام، ولكن هذه الموضوعية ليست بالتأكيد من ذلك النوع من الموضوعية التي تريد أن تكون بمثابة إعادة إنتاج فوتوغرافي للواقع أو لمعنى نص ما. فمثل هذا النوع من الموضوعية الساذجة يغفل تماما الدور الفعال للمفسر في عملية الفهم من خلال التساؤلات والتوقعات التي يطرحها المفسر والتي تكون محكومة بتصورات مسبقة وأحكام مسبقة. ومهمة نظرية التأويل عند غادامر هي التمييز بين الأحكام المسبقة المشروعة وغير المشروعة، لأن الأحكام المسبقة المشروعة النابعة من داخل الوضع التاريخي للمفسر تمهد الطريق للنشاط التأويلي، ولا تحطم الموضوعية وإنما تجعلها ممكنة "

وبالتالي فإن تأويلية "غادامر" تأسس لإمكانية تأويلية تسمح لتعدد التأويلات واختلافها وتنافسها فيما بينها على أساس من الحوار الجدلي بين المؤول-النص. وينبغي التأكيد على أن تأويلية "غادامر" الفلسفية لا تعترف بوجود تفسير موضوعي أحادي صحيح بشكل مطلق، فهذا هو عين ما سعت إلى مناهضته ومحاربته. إلا أن احتضان تأويلية غادامر لتعددية التأويل وسماحها بذلك لا يعني أنها تتبنى النزعة النسبية، ولكن الحقيقة هي أن تأويليته تتجاوز كلا من النسبية المطلقة والموضوعية المطلقة. تتجاوز النسبية المطلقة absolute relativism بمعنى أن لا تساوي من حيث القيمة بين كل التأويلات المتنافسة حول تأويل نص ما، كما تذهب إلى ذلك النسبية المطلقة، وبالتالي فإن هرمنيوطيقا "غادامر" لا تتبنى البتة مثل هذا الموقف النسبي لأنها حددت آليات من خلالها يمكن المفاضلة بين التأويلات ومدى توافقها واتساقها مع سياق النص.

ومن الجهة الثانية فإن تأويلية "غادامر" تتجاوز أيضا الموضوعية بمعناها المطلق بمعنى إنها تنكر ما يفرزه هذا الموقف من نتائج على رأسها إغفالها للدور الذي يلعبه الموقف التأويلي المنطلق من انشغالات الحاضر وهمومه، ودعوتها إلى التخلص والتحرر من كل فرضياتنا وأفكارنا المسبقة من أجل الوصول إلى نتائج حيادية ونزيهة، في حين تنطلق تأويلية "غادامر" من مفهوم البنى المسبقة للفهم في تشييد موضوعية بمعنى جديد تكون أكثر التصاقا بتساؤلات وتوقعات الموجود البشري.



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان (2)
- ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان (1)
- مشروع نقد الفكر الديني عند نصر حامد أبو زيد
- صراع الأفيال: هابرماس وغادامر وريكور، التأويل والتاريخ (3)
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (2)
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (1)
- كيف يجب للعقل الإسلامي المعاصر أن يتعاطى مع النص الديني الإس ...
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (3)
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (2)
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (1)
- كيف يجب أن نتعاطى مع النص الديني الإسلامي؟ (1)
- الطريق إلى الحقيقة: سؤال المنهج
- الوجود البشري والحقيقة (6)
- الحقيقة أم التأويل: التساؤل بشأن (حقيقية) الحقيقة(5)
- تفكيكية جاك دريدا: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال التأويل (4)
- الحقيقة لا تمثل الواقع الخارجي بل مفهومه، مراجعات فلسفية في ...
- مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (2)
- مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (1)
- العقل الإسلامي المعاصر: إلى أين؟
- في نظرية المعرفة: خلاصة ونتائج


المزيد.....




- البحرية الأمريكية تعلن قيمة تكاليف إحباط هجمات الحوثيين على ...
- الفلبين تُغلق الباب أمام المزيد من القواعد العسكرية الأمريك ...
- لأنهم لم يساعدوه كما ساعدوا إسرائيل.. زيلينسكي غاضب من حلفائ ...
- بالصور: كيف أدت الفيضانات في عُمان إلى مقتل 18 شخصا والتسبب ...
- بلينكن: التصعيد مع إيران ليس في مصلحة الولايات المتحدة أو إس ...
- استطلاع للرأي: 74% من الإسرائيليين يعارضون الهجوم على إيران ...
- -بعهد الأخ محمد بن سلمان المحترم-..الصدر يشيد بسياسات السعود ...
- هل يفجر التهديد الإسرائيلي بالرد على الهجوم الإيراني حربا شا ...
- انطلاق القمة العالمية لطاقة المستقبل
- الشرق الأوسط بعد الهجوم الإيراني: قواعد اشتباك جديدة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - نقد هايدغر وغادامر لموضوعية التأويل