أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (1)















المزيد.....


هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (1)


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 4284 - 2013 / 11 / 23 - 13:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يعكس هذا المقال البحثي، سيرة ديكارت الفكرية، من خلال تأملاته. خاصة وأن ديكارت يُكثر في تأملاته من استخدام ضمير المتكلم. ووصف السيرة ب(الفكرية) ينبهنا إلى أن التركيز سيكون على فكره الفلسفي، وأنه لا مجال للحديث عن حياته الخاصة إلا ما كان موصولاً بفلسفته وعاملاً على إيضاحها.

رأى ديكارت أنه في سبيلنا " للبحث عن جميع الحقائق التي في مقدورنا معرفتها وجب علينا أن نتخلص أولاً من أحكامنا السابقة، وأن نحرص على اطراح جميع الآراء التي سلمنا بها من قبل، وذلك ريثما تنكشف لنا صحتها بعد إعادة النظر فيها، وينبغي أيضاً أن نراجع ما بأذهاننا من تصورات، وأن لا نصدق منها إلا التصورات التي ندركها في وضوح وتميز"
وفي المقابل، يطرح المقال السؤال التالي: هل استطاع "ديكارت" حقا التحرر من كل أحكامه المسبقة بالطريقة التي أشار عليها أم أن ثمة (بنى فهم مسبقة) لعبت دورها في إرساء فلسفة "ديكارت" على النحو الذي خرج به إلينا؟ وهل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟

وعلى ذلك، فإن الأطروحة الرئيسية التي يدور حولها وبها هذا البحث، يمكن إجمالها كالتالي: نعم، فعلاً ثمة (بنى فهم مسبقة) كان لها القدح المعلى في إنتاج فلسفة ديكارت، وحسبنا أن نستنطق سيرة نصوصه وتأملاته لنتأكد من فرضية ما ذهبنا إليه، وهو ما سيقوم به الباحث من خلال استنطاق السيرة الذاتية لديكارت كما وردت في نصوصه وتأملاته. ومن خلال تأملاتنا في (تأملات ديكارت) سنحاول تقديم الإجابة على سؤال غاية في الأهمية: هل كان ديكارت عقلانياً حقاً؟ وهل يستحق ديكارت لقب (أبو الفلسفة الحديثة) و(أبو العقلانية الحديثة)؟

نتوجّه هنا في ممارستنا لفعل التأويل للنص الديكارتي، إلى فضاء (اللا-مفكر فيه) داخل أروقة النص الديكارتي، مصغين له عبر مساءلته، لا عما قاله فحسب، بل وعما لم يقله، فالنص بمعنى ما، هو " جواب عن سؤال ـ لا السؤال الذي نطرحه نحن على النص بل السؤال الذي يطرحه (موضوع النص) على النص. وحين يفهم المرء النص في ضوء السؤال الذي يجيب عنه، يتعين عليه أن يمضي متسائلاً فيما وراء النص من أجل أن يفسره. يتعين على المرء أيضاً أن يسأل ما الذي لم يقله النص؟"

وهكذا سنقدم قراءة تأويلية نحاول من خلالها أن نُحسن الإنصات إلى ديكارت من داخل اللغة التي يتكلمها في نصوصه أو تتكلمها نصوصه. قراءة نمارس عبرها الطرق والنبش والاستنطاق وهو الأمر الذي يترتب عليه: أن فعل التأويل لديكارت لا يجب أن يفكر في ما فُكر فيه فحسب، بل عليه أيضا أن ينبش في متن النص الديكارتي وفيما وراء السطور ليفضح ما سكت عنه النص ولم يقله، مستنطقاً بذلك لدلالات هذا الصمت. بهذا المعنى سنخرج عن دائرة المألوف لدينا عن ديكارت، حيث يتم تصويره داخل هذه الدائرة بوصفه فيلسوف العقلانية الحديثة، بل والأب المؤسس لها.

أولاً: المدخل النظري: تأويل ديكارت من منظور هايدغري غادامري
يؤكد "هايدغر" على أن العملية التأويلية لنص ما تستلزم من المؤول أن يكون لديه (فهم مسبق). هذا (الفهم المسبق) يمثل نقطة البدء التي يشيد على أساسها المؤول فرضيات فهمه للنص. وبالتالي فإن هذا المبدأ يتنافي مع (حيادية) و(نزاهة) المؤول التي دعا إليها ديكارت، الذي دافع وآمن بإمكانية وجود تأويل (موضوعي) لا يتدخل فيه المؤول بآرائه الخاصة ولا يفرض فيه رؤيته وأحكامه المسبقة على الموضوع. وعلى النقيض تماماً مما ذهب إليه ديكارت، يرى "هايدغر" أننا لا نستطيع أن نفهم نصاً ما، دون توفر فهم مسبق لهذا النص سلفاً، وهو الأمر الذي يؤكد على حقيقة الدور الهام الذي تلعبه الأحكام المسبقة في عملية الفهم والتأويل. وأننا لا يمكننا، بأي حال من الأحوال، أن (نعلق بين قوسين) كل معرفتنا السابقة، بل على العكس من ذلك ف(معرفتنا المسبقة) تمثل الشرط المحدِد لنا في عملية فهم/تأويل النصوص. وبالتالي وحسب هايدغر، فليس هناك ثمة " معرفة بلا مسبقات، فأنواع الفهم كلها تفترض سلفاً، إدراكاً قبلياً، أي فهماً مسبقاً للكل. ولأن المفاهيم المسبقة تتحكم دائماً بمعرفتنا، يغدو من المستحيل كبح جماح كل محدِّد للفهم."

نفهم مما سبق ذكره أن "هايدغر" يرى أن في كل عملية تأويلية ثمة بنى مسبقة للفهم تُمارس دوراً توجيهياً في عملية الفهم والتأويل " ويثير في الحقيقة تساؤلات وشكوكا خطيرة حول صواب هذا النموذج الذي يصف التأويل وفقاً لعلاقة الذات ـ الموضوع. كذلك يلقي ظلالاً من الشك حول ما يمكن أن يعنيه (التأويل الموضوعي) أو التأويل (بدون فروض مسبقة). يطرح "هايدغر" هذه المسألة بوضوح ويقول بصريح العبارة: " التأويل ليس على الإطلاق فهماً بلا فروض مسبقة لشئ ما معطى مقدماً"

وبالتالي فإن هايدغر يركز بشكل أساسي على الكيفية التي يحدث بها الفهم، وما يحدث فعليا أثناء عملية التأويل من لدن الذات المؤولة، وطالما أن الأمر يجري بهذه الكيفية فبالتالي يصبح الحديث عن محاولة التحرر من ربقة البنى المسبقة للفهم بغرض التوصل إلى فهم موضوعي محايد، أمراً عبثياً ولا طائل من ورائه " لأنها تمضي في حقيقة الأمر ضد الطريقة التي يتم بها الفهم. إن ما يظهر من (الشئ) أو (الموضوع) هو ما يسمح له المرء أن يظهر، وهو أمر يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية"

ومن ناحية ثانية، يشكك "غادامر" في إمكانية الحصول على (معنى موضوعي) موجوداً سلفاً داخل النص، ما على المؤول سوى وضع يده على هذا المعنى (كما هو)، في استقلالية تامة عن الأفق التاريخي الذي ينتمي إليه وبمعزل عن كل أحكامه وتصوراته المسبقة. وحسب غادامر فإن " أزمة المنهج الذي يقوم على عملية تأطير النص، هي أزمة منهج يكون مدفوعاً بوهم الموضوعية الذي يُخفي شخصية النص بإدخاله في قوالب وأطر جاهزة يُقاس عليها. ووهم الموضوعية هو وهم من أوهام النزعة التعالمية scientismفي العلوم الإنسانية التي تريد أن تحتذي نموذج العلم الطبيعي، في حين أن العلم الطبيعي نفسه قد تخلى عن نموذجه التقليدي الذي يتوخى الموضوعية المطلقة واليقين" وهو الأمر الذي أمسى من المسلمات بعد أن ثبت صحة مبدأ "هيزنبرج" القائل: بأن ثمة بعض التغيرات التي تلحق بطبيعة موضوع الملاحظة نفسه بفعل حالة كونه يلاحظ.

وفي ذات السياق، يرى غادامر أن عملية الفهم دائماً ما تكون مشروطة بمفاهيم الحاضر وتصوراته، ومقيدة ومحددة بالمعايير المسبقة للأفق التاريخي الراهن، الذي تتأسس على أرضيته عملية فهمنا للموضوع. إذن كل ما سبق يشكل الوضعية التاريخية الراهنة للحاضر التي تتشكل بناءاً عليها زاوية الرؤية للذات المؤولة. وبالتالي فإن ما يترتب على وجهة النظر الغادامرية هذه (مخالفاً لديكارت)، إنما يتمثل في استحالة انفكاك المؤول عن ذاته، وعن معايير أفقه التاريخي، وأحكامه المسبقة، التي تلعب دوراً هاماً ومؤثراً في عملية الفهم والتأويل. " هذا التصور لا يعني إطلاقاً، لدى غادامر، استحالة الوصول إلى رؤية موضوعية بشأن النص، ولا يعني أيضا اختزال أي تأويل ممكن إلى ذاتية المؤول الخالصة. بل يعني على العكس من ذلك أن كل تأويل يبقي دائما مشروطا بالوضعية التاريخية التي ينتمي إليها، ويكون في المقابل متعلقا بواقع النص ذاته"

وما نفهمه من ذلك أن غادامر استهدف بسهام نقده (الموضوعية الساذجة) التي تبنت الادعاء القائل بضرورة وإمكانية التخلص والتحرر من كل البنى المسبقة للفهم، وذلك بهدف التوصل إلى تأويل موضوعي مبرأ من كل شائبة ذاتية، ولا يُعير أدنى اهتمام للأفق الخاص للذات. وعلى العكس من ذلك تماماً، تبنى غادامر أطروحة مفادها أن " سياق تأويل النص المحايث هو سياق المؤول. وهذا لا يعني أن التأويل اعتباطي أو ذاتي طالما أن سياق المؤول نفسه يتحكم به التراث الذي نبع منه، كما أن النص جزء من هذا التراث. ومن غير أن ينطوي الأمر على مفارقة، يمكن القول أن النص المحايث خالٍ من السياق وموثوق بالسياق معاً. فهو خالٍ من السياق بمعنى أن النص يكون إحالته الخاصة، وهو موثوق بالسياق بمعنى أن النص يبدو لقرائه في أفق الاهتمام، أي في سياق يجلبه القارئ ضمنياً إلى النص"

1/ نظرية عصر التنوير النقدية عن الأحكام المسبقة
عصر التنوير كان يهدف إلى أن يفهم التراث (اليوناني والمسيحي القروسطي) من منظور عقلاني دون الاستناد على أية (أحكام مسبقة). وبالتالي فإن مقاربة عصر التنوير المعرفية للتراث كانت تتوخى (عقلنة) هذا التراث وفهمه (فهماً موضوعياً محايداً) وذلك لا يتحقق إلا عبر (استبعاد) كافة تصوراتنا ومفاهيمنا المسبقة التي هي من وجهة نظر التنوير تمثل (عائقا) أمام طريق النظر العقلاني المتسم ب(الموضوعية) و(الحيادية). ولذلك فإن مفهوم (الأحكام المسبقة) مع عصر التنوير اتخذ (دلالة سلبية) ونظر إليها باعتبارها (خاطئة) وتبعاُ لذلك يتوجب على العقل، قبل مباشرة النظر في موضوعه، أن (يتطهر) من كل أحكامه المسبقة. حيث دعا " عصر التنوير إلى عدم تقبل أية سلطة ما، ولا يقرر بشأن أي شيء قبل عرضه أمام منصة الحكم العقلي. ولذلك فإن التراث المكتوب للكتاب المقدس، مثله مثل أية وثيقة تاريخية أخرى، ليس في مقدوره أن يدّعي صلاحية مطلقة، فالحقيقة الممكنة للتراث تعتمد على المصداقية التي يمنحها إياها العقل. ليس التراث، بل العقل هو الذي يشكل المصدر النهائي لكل سلطة. فما هو مكتوب ليس بالضرورة صحيحاً... هذه هي الحكمة التي على أساسها يقارب عصر التنوير الحديث التراث"

عصر التنوير كان يؤمن بقدرة العقل على التحرر الكامل من هيمنة الأحكام المسبقة، وهو يرى أن للأحكام المسبقة مصدرين، يتمثل احدهما في السلطة والأخر ناشئ عن التسرع. ولذلك فإنه كان يرى أننا في سبيل الفهم يجب أن لا ننطلق في عملية الفهم هذه من معاييرنا الخاصة، ولذلك نادى عصر التنوير بقراءة (عقلانية موضوعية) تستبعد أية أفهام أو أحكام سابقة.

والافتراض الأساسي لعصر التنوير يرى أن العقل إذا أتبع مجموعة من الخطوات المنهجية، فإن ذلك كفيل بإيصاله إلى الحقيقة اليقينية والتي يمكن أن يركن إليها ويثق فيها. ولذلك فإن التسرع هو أحد الأسباب التي تؤدي بالعقل إلى الوقوع في الخطأ (بيكون، ديكارت، هوسرل)، ومن جهة أخرى فإن السلطة تمثل عائقاً، وتقف حجر عثرة أمام الفرد، وتحول دون استخدامه لعقله ولفهمه الخاص (كانط).

ينتقد "غادامر" وجهة نظر التنوير هذه، ويرى استحالة (تطبيق) ذلك بقوله:" بالنسبة لنا، فإن وجود العقل مُحدد ضمن شروط عينية وتاريخية، وبالتالي فإنه ليس سيد نفسه، بل هو دائما ما يبقى معتمداً على معطيات الظروف التي يشتغل فيها" وللتراث (سلطته) التي يمارسها علينا شئنا أم أبينا.

وحسبما يذهب إليه "غادامر" فإن رؤية عصر التنوير هذه تقوم على أساس فهم (السلطة) باعتبارها نقيضاً للعقل، وتأسس في الوقت عينه شرعيتها على أساس وجود تعارض ما بين (السلطة) من جهة و(العقل) من جهة ثانية. وهو الأمر الذي ترتب عليه رفض عصر التنوير الخضوع وقبول أية سلطة مهما كانت درجة قداستها، ورأى أنه على العكس تماماً يجب (إخضاع) كل سلطة للعقل بعد أن كان عصر ما قبل التنوير يخضع فيه العقل للسلطة، وبالأخص السلطة الدينية (سلطة البابا) والسلطة الفلسفية العلمية (سلطة أرسطو). وفي مقابل ذلك دعا عصر التنوير وخاصة مع حركة الإصلاح الديني إلى تأسيس هرمنيوطيقا تقوم على أساس عقلاني في عملية فهمها للنص الديني دون الالتفات إلى أية سلطة أخرى، سواء كانت سلطة البابا أو التراث، إلى أن تبلغ هذه الجهود قمتها مع المنهج الديكارتي والمنهج الفنومنولوجي عند "هوسرل" الذي يدعو إلى أن تستبعد الذات جميع الأحكام المسبقة في عملية الفهم، ويطالبها بالتخلي الكلي عنها من أجل فهم الظاهرة كما هي في حقيقتها الكاملة.

2/ المقصد الهايدغري-الغادامري لمفهوم fore-structures of understanding
ابتداءً، لابد من التأكيد على أن "هايدغر" كان معنياً فقط بتقديم وصف فينومينولوجي للطريقة التي يحدث بها الفهم، فما أهتم المشروع الهايدغري بتبيانه وإظهاره إلى حيز الوجود ليس وضع قواعد للمنهج، كما ذهب ديكارت، وإنما، عوضاً عن ذلك، ركز بؤرة اهتمامه على الطريقة التي يجري بها الفهم فعلاً. الأمر الذي شكل علامة فارقة ومفصلية في تاريخ الهرمنيوطيقا، إذ كانت الهرمنيوطيقا التقليدية قبله محصورة ومعنية في الأساس ب (تقعيد) الفهم، بمعنى أنها اهتمت بمحاولة وضع مجموعة من القواعد التي على هداها وبتطبيقها يكون بإمكاننا الوصول إلى الفهم الصحيح. ولذلك فإن الهرمنيوطيقا مع "هايدغر" كانت معنية في المقام الأول بما يحدث فعليا أثناء عملية فهمنا، وهو الطريق الذي افتتحه "هايدغر" وسار فيه من بعده تلميذه "غادامر".

بناءا على ما سبق ذكره، تكون الهرمنيوطيقا مع "هايدغر" ومن بعده "غادامر" قد تنكرت لبداياتها الأولى محدثة بذلك تحولا خطيرا، له أبعاده ونتائجه المترتبة عليه في مسار الهرمنيوطيقا كنظرية في الفهم. حيث لم تعد وظيفة الهرمنيوطيقا ومهمتها مرتبطة ب(تقعيد) الفهم، وإنما بالأحرى: تقديم وصف فينومينولوجي لما يحدث فعلا في عملية الفهم، بمعنى اخر لم تعد إشكالية الهرمنيوطيقا معهما منشغلة ومحددة بالتساؤل عن المبادئ والقواعد التي على أساسها يمكن للذات المؤولة أن تضع يدها على الفهم الصحيح. بل أصبحت الإشكالية الهرمنيوطيقية مهتمة بالتساؤل عن الكيفية التي يحدث بها الفهم أصلاً. وبالتالي فما يجب أن نفهمه بوضوح هنا هو أن غاية الهرمنيوطيقا لم يعد يتمثل وينحصر في أن تقدم لنا الهرمنيوطيقا قواعد للفهم إذا أتبعناها وطبقناه بتقنية عالية فإنها كفيلة بإيصالنا للفهم (الصائب موضوعيا). مع الأفق الهايدغري ـ الغادامري لم تعد الهرمنيوطيقا معنية ومهتمة بتقديم معايير للتأويل نستطيع من خلالها التمييز ما بين الصحيح والخاطئ، بل على العكس تماما أصبحت الهرمنيوطيقا منشغلة في الأساس بقضية فهم الفهم نفسه! بمعنى اخر فهم الطريقة التي يشتغل بها الفهم نفسه.

في هذا السياق نقول أن النتيجة التي توصل إليها "هايدغر" ودافع عنها من بعده "غادامر" هي أن: المؤول مهما ادعى (الموضوعية) في سبر أغوار موضوع تأويله فما هو بقادر على أن (يتملص) وأن (يتحرر) من فهمه الخاص. يعني هذا المفهوم فيما يعني، امتلاك المؤول لتصور مسبق لموضوع فهمه، وبتعبير اخر فإن المؤول حينما يريد الوصول إلى فهم موضوع ما، فإنه يبدأ بمقاربة تأويلية لهذا الموضوع معتمداً في ذلك على ما يمتلكه سلفاً، وما هو متاح له من تصورات تساعده على فهم الموضوع.

ويصف غادامر هذه العملية بقوله: " يبدأ التأويل بتصورات مسبقة تُستبدل بأخرى أكثر ملاءمة. وتشكل هذه العملية الدائمة من المقاربات الجديدة حركة الفهم والتأويل. فالمرء الذي يحاول أن يفهم قابل لأن يصرف انتباهه عن المعاني المسبقة تلك التي لا تؤكدها الأشياء ذاتها. وتتمثل المهمة الثابتة للفهم في إظهار التصورات الملائمةـ وهي من حيث طبيعتها توقعيةـ لكي يتم تأكيدها (بواسطة الأشياء) ذاتها. هنا تتمثل (الموضوعية) فقط في التأكيد على معنى مسبق يبرز متجليا في وجوده.(...). وهكذا فمن الملائم للمؤول تماماً ألاّ يقارب النصّ مباشرة، معتمداً فقط على المعاني المسبقة المتوفرة بالنسبة له، بل بالأحرى عليه أن يفحص بشكل واضح شرعيةـ الأصل والصلاحيةـ المعاني المسبقة المضمرة فيه."

النص الغادامري السابق، على قصره، يوضح لنا مجموعة أمور:
أ/ أن الذات في عملية فهمها، إنما تنطلق، في واقع الأمر، في مقاربتها التأويلية للموضوع مما هو (متاح) لها وما (تمتلكه سلفا) من (تصورات مسبقة) عن ما تود فهمه وتأويله. وبالتالي يكون فهمها على أساس (توقعات) المعنى المستمدة من (علاقتها السابقة) بالموضوع " وهكذا وبلا شك، ليس هناك فهم خال من كل الأحكام المسبقة، مهما كان حجم إرادة معرفتنا الموجهةً نحو الهروب من عبوديتها"

ب/ ما سبق، لا يعني بأية حال من الأحوال أن الذات المؤولة (تفرض) تصورها وفهمها وحكمها المسبق على الموضوع. وإنما يعني أن هذه التصورات المسبقة لها (وظيفة) معينة تؤديها تتمثل في (إعانة) الذات و(مساعدتها) على الوصول إلى فهم ملائم ومناسب (يتوافق) مع (سياقات) النص. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يتسنى للذات المؤولة أن تميز ما هو مشروع من بين عدة تصورات مسبقة حول موضوع واحد؟ وللإجابة على هذه السؤال: نقول أنه لا يتأتى للذات المؤولة أن (تفحص) شرعية تصوراتها المسبقة إلا في أثناء عملية الفهم نفسها، ولذلك تبدأ عملية الفهم والتأويل لنص ما وتحاول الذات المؤولة (مقاربة) هذا النص من خلال ما (تمتلكه مسبقا) من تصورات حول موضوع هذا النص، في هذه المرحلة الأولية المبكرة في عملية فهم النص، بينما يبدأ النص بشكل مواز في (امتحان) مصداقية هذه الأحكام المسبقة الواحدة تلو الأخرى، وما الحكم المسبق إلا (فرضية توقعية) لمعنى النص قد (تنجح) وقد (تفشل). وكلما تفشل تنتقل الذات إلى (الأخرى) وهكذا دواليك تستمر هذه العملية الدائمة من (الاستبدالات) و(الاحلالات)، والذات المؤولة معرضة (للانصراف) عن المعاني المسبقة التي لا يؤيدها سياق النص. وبالتالي يمكننا النظر لبنى الفهم المسبقة على اعتبارها مجرد فرضيات توقعية لمعنى النص، أو عملية استكشافية (أولية) لوجهة النص من ناحية المعنى والدلالة، والنص وحده هو من (يملك) تأكيدها أو (إجبارنا) عن النكوص والانصراف عنها، وذلك حين تفشل في مساعدتنا على فهم معنى النص، وحينها نكتشف أن معنى النص لا ينسجم مع ما توقعناه من تصورات مسبقة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بشكل منطقي (والذي يخصنا) هو في الكيفية التي تضطلع بها التصورات المسبقة بمهامها ووظيفتها في فلسفة ديكارت.

ج/ ثمة (حوار) و(جدل) بين الذات المؤولة والنص، بين (الفهم المسبق) للذات حول موضوع تأويلها وبين (شكل الاستجابة) السلبية أو الايجابية، بين الأفق الحاضر للمؤول وبين الأفق الماضي للنص. عملية الحوار هذه تسهم في دفع النص إلى أن يكشف عن اخريته في مقابل التصورات المسبقة للأنا المؤولة، وتجعل النص ينفتح على التجربة التأويلية للمؤول وذلك من خلال الانفتاح على الأحكام والفرضيات المسبقة التي تساعد وتعين على امتلاك فهم ملائم ومناسب للنص. ولذلك فإن المطلوب من المؤول أن يكون مدركاً وواعياً لأحكامه وتصوراته ورؤاه المسبقة، لأن ذلك من شأنه أن يعين النص على أن يقدم لنا (اخريته) بوصفها حقيقته الخاصة في مقابل الفهم المسبق للأنا المؤول. ويشرح لنا غادامر هذا المفهوم بقوله: " نحن نتعلم أننا يجب أن نفسر جملة ما قبل أن نحاول فهم المعنى اللغوي للأجزاء المفردة للجملة. لكن عملية التفسير نفسها دائما ما تكون محكومة بتوقع معنى ينبثق من سياق ما سبق من قبل. وبالطبع هو أمر ضروري لهذا التوقع أن يصير معدلاً ليتوافق مع النص متى ما كان ذلك مطلوباً. وهذا يعني، إذن، أن التوقع يتغير ويبدأ النص في توحّيد معناه حول توقع اخر. وهكذا فإن حركة الفهم هي حركة ثابتة من الكل إلى الجزء وترجع مرة أخرى من الجزء إلى الكل. ومهمتنا هي توسيع وحدة المعنى المفهوم. إن انسجام جميع تفاصيل النص مع الكل هو معيار الفهم الصحيح. ويعني الفشل لانجاز هذا الانسجام أن الفهم قد فشل."

د/ يربط "هايدغر" تحليله للبنى المسبقة للفهم بتحقيق مفهوم جديد ل(الموضوعية) حينما بيّن أن (الموضوعية) في المحصلة النهائية للتحليل ليست هي سواء تأكيد لفهم مسبق دخل حيز التنفيذ من بين مجموعة أفهام مسبقة أخرى. وذلك يكون أوضح ما يكون في النموذج العلمي للموضوعية داخل حقل العلوم الطبيعية، " فالعالم حينما يتعرض لتفسير ظاهرة ما من الظواهر فإنه يفترض أو يقترح عدة فروض لتفسيرها ويبدأ بعد ذلك في اختبار صحة هذه الفروض بوسائله التجريبية المختلفة، فما يفشل من هذه الفروض يستبعده فورا، أما الفرض الذي ينجح في تفسير هذه الظاهرة والذي يمكن تعميمه ليصبح القانون المفسر لكل الظواهر المشابهة لهذه الظاهرة موضوع الدراسة" ، وهو الشيء عينه الذي يفعله المؤول ـ سواء وعى بهذا الأمر أو لم يعي به ـ عندما يحاول تأويل نص ما فإنه يفترض مسبقا عدة فرضيات ويبدأ منها عملية تأويل النص، ويبدأ النص من جانبه باختبار صحة هذه الفرضيات المسبقة، وما يفشل في مساعدتنا على الوصول إلى معنى النص يتم استبعاده فورا، وهكذا تستمر هذه العملية إلى أن ينجح فرض مسبق في مساعدتنا على الوصول إلى معنى النص.

هـ/ (الحكم المسبق) لا يعني أنه حكم خاطئ بالضرورة، كما يتبادر إلى الأذهان عادة، ولكن ربما يكون إما مشروعاً أو غير مشروعاً، ذا قيمة إيجابية أو قيمة سلبية، وهو الأمر الذي يحدده سياق النص أثناء عملية تأويلنا له، فإذا أدى بنا (حكم مسبق) للاصطدام بالنص وفشلنا في تحقيق فهم للنص واكتشفنا أننا أساءنا فهم النص، فعندئذ يوصف هذا الحكم المسبق بأنه ذو دلالة سلبية. وفي ظل هذا السياق يسندنا استشهاد "غادامر" بالمصطلح القانوني الألماني في تعريفه للحكم المسبق على اعتباره " رأي قانوني مؤقت قبل أن يتمّ التوصل إلى القرار النهائي" وهذا يعني أن أمام القاضي أحد خيارين إما الأخذ به أو لا. وهذا ما يثبت أن الحكم المسبق ليس بالضرورة حكماً خاطئاً كما نألف من الاستخدام العادي له، حيث كثيراً ما يرتبط هذا المفهوم في استعمالنا الدارج للغة بقيمة سلبية وبمعنى أنه دوماً لا يمكن النظر إليه إلا باعتباره حكماً خاطئاً. وهو الأمر الذي أنكره غادامر بقوله: " تاريخ الأفكار يوضح أن مفهوم الأحكام المسبقة أكتسب مضمونه السلبي المألوف لنا اليوم قبل عصر التنوير. ففي الحقيقة فإن (حكم مسبق) يعني اتخاذ حكماً قبل الفحص الأخير في كل العناصر التي تحدد وضعية ما. ويشير المصطلح القانوني الألماني (حكم مسبق) إلى رأي قانوني مؤقت قبل أن يتمّ التوصل إلى القرار النهائي.(...). ولذلك فإن (حكم مسبق) بالتأكيد لا يعني بالضرورة أنه حكم خطأ، ولكن جزءاً من الفكرة أنه يمكن أن يأخذ أما قيمة إيجابية أو قيمة سلبية" وبالتالي فإن مفهوم "الحكم المسبق"prejudice يكون محملا بتصورات ذات طبيعة توقعية تساعد وتُعين على اتخاذ حكماً ما بشأن أمر ما، وذلك قبل النظر النهائي فيه وإصدار حكم أخير بشأنه.

و/ أي مؤول لابد من أن يكون منتمياًـ سواء أكان يعي هذا الأمر أو لا يعيه ـ لقومية، لمعتقد، لأيدلوجية، " لمجموعة من القيم الاجتماعية. تلك القيم لا يمكن أن تكون محايدة أو موضوعية ( وإلا فقدت وظيفتها الاجتماعية) وهي دوما تمارس نفوذها في وجدان الباحث عن وعي أو عن غير وعي منه، وكثيراً ما يكون لا حول له ولا قوة أمام سلطانها، وهي التي تلون تصوراته وما يقوم به من نشاط يتوهم أنه علمي ومحايد. وأكثر من ذلك أنها تلعب دوراً كبيراً ( عند الدخول في حوار مع الآخر) في اختياره للأدلة، بمعنى أن الباحث هنا كثيرا ما يقع فريسة أن يختار الدليل الأقرب صلة لتلك القيم المسبقة، أي أنه لا يختار الدليل انطلاقاً من فراغ، بل أن القيم التي ينتمي إليها كثيراً ما تدفعه إلى تفضيل دليل على دليل اخر"



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استعراض كتابي: من نظرية المعرفة إلى الهرمنيوطيقا
- اللغة والفكر والمجتمع
- في فلسفة اللغة (3): قراءة في محاورة كراتيليوس
- في فلسفة اللغة (2): مشكلة أصل اللغة
- في فلسفة اللغة (1)
- عن العلمانية (4)
- عن العلمانية (3)
- عن العلمانية (2)
- عن العلمانية
- الحداثة وما بعد الحداثة (1)
- فلسفة التحليل اللغوي
- نقد هايدغر وغادامر لموضوعية التأويل
- ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان (2)
- ليس ثمة تأويل موضوعي في مضمار الأديان (1)
- مشروع نقد الفكر الديني عند نصر حامد أبو زيد
- صراع الأفيال: هابرماس وغادامر وريكور، التأويل والتاريخ (3)
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (2)
- تأويل التاريخ وتاريخية التأويل (1)
- كيف يجب للعقل الإسلامي المعاصر أن يتعاطى مع النص الديني الإس ...
- التأويل داخل حقل الإسلاميات (3)


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مجدي عزالدين حسن - هل كان ديكارت عقلانياً حقاً في تأملاته؟! (1)