أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيري حمدان - ساقا المتوفّى طويلة – أتسمحين بنشرهما؟















المزيد.....

ساقا المتوفّى طويلة – أتسمحين بنشرهما؟


خيري حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 4277 - 2013 / 11 / 16 - 12:10
المحور: الادب والفن
    


ثمّة موتى يحفرون ذاكرة الأحياء ويرفضون مغادرتها لفترات طويلة من الزمن، وتبقى سيرتهم محفوظة في الدفاتر والمذكرات عبر التاريخ. يبدو الموت تجارة رابحة ويمكن استثمار حزن وفاجعة الآخرين بمهارة، الأمر الذي أتقنه الحاج موسى، وهو اللقب الذي ظهر به في مستشفى المواساة ودفع حفنات من المال للممرضين لترويج تجارته وتلميع سمعته الطيّبة كحافظ للقرآن وحلو الكلام، غاسل موتى محترف. ما أن شاهد العائلة المفجوعة بفقد الزوج الغالي، حتّى تقدّم نحوهم وكان الممرض عبدالله قد ألمح لهم بوجود من هو قادر على غسل المتوفّى دون عناء.
- لا حول ولا قوّة إلا بالله، يبدو أنّه قد تعذّب كثيرًا قبل موته، هذه كفّارة عن خطاياه ومن منّا بلا خطيئة، اللهم ارحمه برحمتك، اللهم تخطّى عن خطاياه يا أرحم الراحمين. عرف الحاج موسى بأنّ المتوفّى قد عانى الكثير من مضاعفات السكّري والارتفاع الفرط لضغط الدم قبل موته، وأصيب بالجلطة تلو الأخرى. أعجب الابن الأكبر بفصاحة أبي موسى وقال.
- جزاك الله عنّا ألف خير يا أبا موسى، هل لكَ أن تحمّمه قبل تكفينه؟
- بل أكفّنه أيضًا، هناك غرفة مخصّصة في المستشفى لهذه الغاية. وما أن أكمل حديثه، حتّى بدأ بدفع العربة المسطّحة التي يرقد فوقها المتوفّى، قرأ على البطاقة المرفقة إلى جانب العربة اسمه "محمد ياسين". إنّه يحمل اسمين للنبي الكريم عليه السلام، رحمة الله عليه – آمين. أبو موسى يعرف الطريق جيّدًا لغرفة غسيل الموتى وسرعان ما وصل إلى مدخلها، دلف إلى جوفها وشدّ الابن طالبًا منه الدخول مع بعض الأقرباء المقرّبين من الشباب. خلع عن المتوفّى الرداء الأبيض وبسمل وأخذ بغسل الجثّة الهامدة.

- يا الله، قدمه مقطوعة، حارب الله السكّر وهمومه. كان على وشك أن يطلب عشرة دنانير لكنّه ابن المتوفّى وضع ورقة نقد من فئة العشرين دينارًا في جيبه مردّدًا الأدعية. غسل يديه وبدأ بتكفين الجثّة. أخرج عطر الحَنّوط من جيب سترته ورشّ القليل منه على الميّت، وقدّم العلبة كاملة لابنه طالبًا منه رشّ محتوياتها في فجوة القبر قبل طمره. لم يمتلك الابن نفسه وأخرج عشرة دنانير أخرى ودسّها في الجيب نفسه الذي كانت تقبع فيه العشرون دينارًا الأخرى.

---

توقعت كارولين أنّ لحظة النهاية باتت قريبة، بل وحانت بعد أن أبلغها الطبيب بأنّ جون قد قضى ولم يتحمّل تبعات الإنفلونزا وذات الرئة، وقد تراجعت قدرة جسده المناعية في السنوات القليلة الماضية بعد أن تجاوز التسعين من العمر. يكبرها جون بعشر سنوات وما تزال تكنّ له بالغ الحبّ والعرفان لاهتمامه طوال الستّين عامًا الماضية بعالمها الأنثويّ، وكان طِوال الوقت قريبًا منها، يُؤنس وحدتها ويبقي على حبل الأمل والهنأة والحدّ الأدنى من السعادة الممكنة.

كانت قد ادّخرت مبلغًا جيّدًا ومعقولا من المال لترسله إلى العالم الآخر بما يليق به كرجل فخور وسيم. استعانت بشركة شهيرة لترتيب شأن تكفينه وتحضيره لحفل الوداع الأخير. طلبت منها الشركة المعنية سبعة آلاف وخمسمئة دولار مقابل كافّة الخدمات المتّفق عليها، وقدّمت البيانات المطلوبة بشأن طول ووزن الجثّة، شعرت بالإهانة لإجبارها على تقديم هذه المعلومات وكأنّ الحبيب جون قد أصبع سلعة معروضة للشحن، دون أن تكون له أيّة علاقة أو إرادة بما يحدث بعد أن فارق الحياة وأصبح في العالم الآخر.

نقلت الشركةُ الجثمانَ إلى مركز تجهيز الموتى وقامت بتعطيره وإلباسه بدلة جديدة أنيقة للغاية، لكن وفي اللحظة الأخيرة، اتصل رئيس الشركة بكارولين وقال دون تردّد أو حرج.
- سيدة كاروبين، المعلومات التي قدّمتِها ليست دقيقة، طول جثّة الفقيد تزيد بسبعة سنتمترات عن الرقم الذي ورد في البيانات.
- هل هذه مشكلة، قد يكون الجسد قد طال قليلا بعد استرخاء الموت مثلا.
- لا، لا توجد مشكلة على الإطلاق، لكن صندوق الموت لا يتّسع لجثة السيد جون، نحتاج لاجراء بعض التعديلات على الصندوق، وستكلّفك هذه العملية خمسمئة دولار أخرى، نرجو تفهّم ذلك.
- ولكن يا سيدي، لم يعد بحوزتي أيّة أموال، هذا كلّ ما أملك، وتقاعدي بالكاد يكفي ما يسدّ الرمق ودفع فواتير الكهرباء والماء واشتراك حزمة التلفزة والإنترنت وبعض الأدوية.
- نعم، أتفهّم كلّ هذا يا سيدتي الكريمة، هناك حلٌّ آخر قد يرضي الحميع، يمكننا نشر قدميه لتسطيحه في الصندوق دون عناء، وسنركّب قطع حشب مطلية تبدو حقيقية. نلجأ أحيانًا لاستخدام هذه الطريقة على نفقة الشركة، اعتبري ذلك إكرامية منّا ونرجو أن تساعدينا بترويج خدماتنا بالمقابل.

"تنشرون قدمي جون الجميل"، لن أسمح بهذا أبدًا، لن تمرّوا سوى فوق جثّتي، شعرت بالخبل والغباء حين ذكرت هذه العبارة، وأدركت بأنّ كلّ شيء قد تغيّر بشكلٍ أصوليّ عمّا مضى، وأصبح قاموسها محدودًا لا يتّسع للكثير من المفاهيم الجميلة المليئة بالحياة. إنّها لعنة الشيخوخة حين يصبح التعامل مع الموت تجارة رابحة، تخضع لمفاهيم الحساب والموازنات السنوية. مدير شركة "بارادايز" أخبرني بأنّه قد دفع للحكومة نهاية العام الماضي قرابة مئتي ألف دولار كضرائب أرباح غير مستردّة، وقامت مؤسسة الضرائب بحملة تفتيش واسعة، حتّى أنّ موظّفيها زاروا القبور التي أشرفت الشركة على بنائها، وحمد الله لعدم مطالبتهم بفتح القبور لمعاينة صناديق الموت. لم تنتظر كارولين طويلا وكانت تخشى أن تموت قبل أن تفي بوعدها لزوجها، ذهبت لمحلّ الذهب الذي تعاملت معه منذ عقود طويلة واشترت معظم مقتنياتها الثمينة من صاحبه، حزنت حين علمت بأنّ صاحب المحلّ قد توفيّ هو الآخر، لكن ابنه لم يتردّد بتقييم قطع الذهب ودفع ثمنها. حصلت على خمسة آلاف دولار مقابل معظم ثروتنا من الحلي والذهب، ذهبت على الفور لشركة "الجنّة" ودفعت خمسمئة دولار رافضة نشر قدميه، ثمّ زارت ابنتها الوحيدة وأعطتها أربعة آلاف دولار، دون أن تسمح لابنتها بالسؤال عن أسباب هذا الكرم المفاجئ. عادت إلى المنزل بانتظار نهار اليوم التالي موعد تشييع جثمان جون إلى مقرّه الأخير. أدارت قناة موسيقى الجاز التي يعشقها جون، وما زالت ترفض الحديث عنه بصفة الغائب، رقصت مع طيفه وحادثته حتى تعبت من شدّة الأمل، ونامت دون أن يعكّر وعيها كابوسًا تائهًا منفلتًا من عالم الأحلام.



#خيري_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوارٌ بنّاءٌ موثّقٌ بأعيرةٍ ناريّة
- ذاكرة معطوبة
- الخطاب ما قبل الأخير
- البصطار
- يوم قُتلت كارولينا
- الشاعرة البلغارية المعاصرة سيلفيا تشوليفا
- بوحٌ في أعلى السلّم
- الشاعر البلغاري داتشو غوسبودينوف
- غرغرينا
- خيري حمدان ونصيرة تختوخ ونصّ مشترك - هواجس خريفية
- ألا ترى بأنّ صلاحيتهنّ قد استنفذت - مانويل فيلاس
- تانغو في عمان
- على شفا رحيل
- إشادة وتعريف بالحوار المتمدن في أخبار الأدب البلغارية
- فلاديسلاف خريستوف شاعر يكتب بتؤدة وجموح
- قصائد مترجمة للشاعر البلغاري الكبير ستيفان تسانيف
- تآمرت النساء
- نحو ابتسامة - نصيرة تختوخ، سلالم الغيوم - خيري حمدان
- لماذا يا سامي؟
- قُبْلة عندَ سلّم الطائرة


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيري حمدان - ساقا المتوفّى طويلة – أتسمحين بنشرهما؟