|
الحروب بين الخلل الجينيّ والخبل الدينيّ
ليندا كبرييل
الحوار المتمدن-العدد: 4248 - 2013 / 10 / 17 - 14:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ما من قارئ لا يستهجن العنف المفزِع في حروب التاريخ وهي تُعمِل أطماعها وحقدها دماراً وحرقاً وتشريداً . منْ انصهرتْ روحه بالمقدس شغفاً ، سيذهل إذ يرى إلهه يخلع قناع الرحمة والرأفة ، وينحدر إلى هاوية القتل لمنْ لم ينتخبهم أحباباً له ، تجتاحه الرغبات العدمية لارتكاب الأهوال في حق أبنائه وعبيده وخلصائه .. خليقته وصنع يديه ! سيرتعد المؤمن حتماً لمشهد إلهه هذا ، وسيصدر عنه موقفان ، ثالثهما هو الأصدق . فإما أن يلهبه انصهاره بإلهه ، فيمضي دافعاً الاتهام عن مخلّصه وشفيعه بصدق شديد وإخلاص نقي ، أو سيتظاهر بحرارة الشغف تجاه إلهه وهو يلحق شكوكه بأسراره الدفينة في أعماقه . أما الموقف الثالث ، فلن يصدر إلا عن شخصية نذرتْ نفسها أن تقف بشجاعة وثبات في وجه الحقيقة . في لحظة حاسمة يعلو فيها المرء فوق الاستلاب والمراوغة ، تدفعه موجة الشك والقلق إلى السطح ، فتمرق إضاءة وعيٍ في عقله المغمور بالمخاوف . إنها لحظة انتصار التمرّد على الشلل الذهني ، ستجعله يجلس وإلهه على طاولة مستديرة لا غالب فيها ولا مغلوب ، يجريان كشفاً للصادر والوارد . إنه يوم الحساب الأرضي لا السماوي . إحدى صفحات كشف الحساب هذا ، كانت وقفة حق من أستاذ فاضل نشر مقالاً أبان فيه رأيه حول التاريخ الأسود للأديان السماوية الثلاثة ، الحافل بصراعات وحروب وإبادة شعوب تحت يافطة الربّ أو المسيح أو الله . إلى حضراتكم رابط مقال الأستاذ حسن محسن رمضان المحترم . http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=379187 استوقفتني مراراً الاتهامات الموجّهة للأستاذ من قِبل المخالفين فكرياً . إلا أن موقفه في هذا المقال يؤكد رفضه للمفاضلة بين دين ودين ، أو اعتبار هذا الإله أكثر شفقة ورحمة من الآخر . ولم يعدْ يفاجئنا أن يخرج كاتبٌ ينقض نظرية دينية فتُشحذ الأقلام هجوماً وطعناً . ذلك أن التوظيف الإيديولوجي أوهمَ الأتباع أنهم مستهدفون من أعداء الدين ومن ضعاف النفوس أو شارحي النصوص على غير حقيقتها . هذه السياسة عالية النبرة ، تجرّم وتخوّن منْ يعترض عليها ، مُطلِقةً من بنيانها القهري الديني اتهامات التكفير أو التشويه لمنْ يقترب مما أصبح في اعتبار بديهيات لا يجوز المساس بها . الاختلاف الفكري بكل الأحوال رافق الإنسان منذ أن وعى الحياة . وأعتقد أن منشأ الحضارات كان من هذا الصراع بين عقلٍ مرِن يستشرف المستقبل ، وعقلٍ محكوم بالمسبقات الأيديولوجية ، مقاومٍ لاستحضار رؤية جديدة خلّاقة . إن منْ يجد مبرراً مهما كان واهياً للمذابح التي حصلتْ - ولا تزال مستمرة بشكل أقوى في سوريا والعراق خاصة - ، وإنّ منْ يدافع عن اعتداء على النفس تحت أية ذريعة كانت ، هو أهطل مراوغ متدنّ أخلاقياً لا يَعي أن حياة الإنسان مقدسة تعلو كل شريعة دينية ولو تمسّحتْ باسم الله ! وأراه تقاعساً من أي قلم أو صوت قادر لا يساهم في كشف القناع عن الوجه الحقيقي للدين – أي دين - ، وعن كل نصّ عنيف المنزع يشكّل عامل اضطهاد للإنسان أو وصاية على الآخر . وما دام مثل هذا التأسيس الديني يؤدي إلى انتهاكات بحق المختلف ، فإنه لا بدّ من رفع الحصانة عن كل المزاعم المقدسة ، وعرْضها على مائدة النقد والتحليل ، لمعرفة الأسباب التي أدّت إلى هذه الفواجع الإنسانية . تتوالى ليالينا العربية حزينة باكية .. نار ودم ودمار . تتداخل فيها غلبة الفكر القبلي مع ظلال الماضي الديني وتختلط بولادات سياسية حديثة : في بغداد المجروحة ، الخرطوم المخنوقة ، الشام المحروقة ، القاهرة المقهورة ، تونس المحصورة ، طرابلس المعصورة ، والبثور المتورّمة على وجه الخليج من قيح التطرف ، ودرّة الشرق لبنان الذبيح من الوريد إلى الوريد . ادّعى الكاذبون أنهم رئة لبنان ، وما لبنان إلا رئة نفسه ، بل رئة العالم العربي كله ، تعارك عليه ( أولاد ابن آوى ) في ليل بهيم ، ولما اختلفوا على جسد الضحية ضربوا المسيحي بالمسلم وتفجّرت الصراعات المذهبية وتشظّت في البلاد العربية ، وهي في حقيقتها صراع التعدديات العشائرية السياسية بين أوغاد يتطاحنون على قسمة المصالح بالمنطق القبلي . في العصور القديمة قبل تقنين كلمة الله ، كان العنف يقع بصفته الحقيقية ، حيث جذوره كامنة في المجتمعات القبلية القائمة على قانون الدم . أما بعد ميلاد الأديان ، سيّر الإبراهيميّون الصراعات بالمنطق البدوي ، مستندين إلى المقدس رخصةً لهذه المظالم الإنسانية . بقاء الأديان وانتشارها مرهون بالعداء للآخر ، وأي دين لن يُكتَب له الانتشار إذا اعترف بالشرائع الأخرى . وقد عرفنا كيف بطشتْ يد الظلم تحت دعوى نشر الدين ( الحق ) في العصور المسيحية والإسلامية على السواء بالقلب وباللسان وبيد من حديد ، وما موضوع التسامح ( هذا ! ) إلا طُرفة استُخدِمت من قِبل الأديان .. كلها . وهناك أديان بحثتْ عن موضع قدم لها في نادي الأديان ، فارْتأتْ أن تلجأ إلى تكتيك جديد مخالف لما عُرف ، بأن تعترف بصلاحية ما على الأرض من شرائع ومناهج ، سماوية كانت أم أرضية . الدعوة بريئة ، توحي بالسلام والتآخي وتآلف البشر ، وهي هكذا حقاً ( حتى إشعار آخر ) . كلِّفْ نفسك بعض الجهد ، وغُصْ قليلاً في شعاراتها ، ستجد أنها تريد أن تهضم في بوتقة واحدة عابدَ الله بعابد البشر بعابد الشجر والحجر والحيوان ، بكل تعقيداتهم النفسية والتاريخية واشتباكاتهم الإيمانية وتضارباتهم العقائدية وتصادماتهم المرعبة !! إننا في هذه الحالة لسنا في مضمار سباق الأديان الأشبه بمضمار سباق السيارات حيث تفوز سيارة واحدة فقط ، وإنما نحن هنا في مضمار ألعاب السيارات الكهربائية ، حيث تصطدم السيارات بعضها ببعض ، لا فائز فيها ولا مهزوم . الكل مضروب مضروب كيفما اتجه ، وسيخرج من المضمار مهتز التوازن ، محوول العينين ! ولا نستطيع بالاستقراء الافتراضي لتاريخها القصير أن نتوقع ماذا يمكن أن يكون لو طالت الأظافر ؟ حتى لو ادّعى مثل هذا الدين التسامح الشديد مع المختلف وأوسع صدره لكل التناقضات المريعة . فقد بدأت المسيحية مسالمة ، ثم انتهت على أيدي الملوك والبابوات مسلّحة . كذلك الإسلام ، بدأ مكّياً مسالماً كالمسيحية ثم انقلب على نفسه وأصبح توأم اليهودية في الدعوة إلى قتال المعارضين . وكما ألغى الخليفة عثمان نسخ القرآن المخالفة لما بين يديه فعل الأمر نفسه من قبله الامبراطور قسطنطين في بداية القرن الرابع عندما أمر بإتلاف الكتب المعارضة للعقيدة التي تبناها . وكما حطّم النبي محمد وصحابته المعابد وأصنام الآلهة التي كانت تتعبد بها الأقوامُ قبلهم ، كذلك فعلت المسيحية عندما حطّمت المعابد الرومانية أو حوّلتها إلى كنائس ، فاندثر بعض من تاريخ فن الأمم السابقة . وتحت دعوى الاختلاف قُتِلتْ وحُرقت هيباتيا عالمة الرياضيات الوثنية بتحريض من بطرك الاسكندرية وأُبيد بنو قريظة وعُذّب الفقهاء المسلمون وجرت أنهار الدم بين الأمويين والعباسيين ، وما زالت تجري وتشقّ مجرى واسعاً في أرضنا العربية . على طول التاريخ ودون أي استثناء ، كان القمع والتهميش ينبع من رغبة همجية ، تتملّك النفوس المريضة التواقة للتسلّط على مصائر الناس ، وجدتْ في الادعاءات الدينية سنداً وتبريراً لتمارس اضطهادها واستلابها للأضعف لتحقيق أحلامها التوسعية . ولو أن أكاديمياً أراد أن يبحث في مظالم التاريخ العالمي لدخل المكتبة صاغ العينين سليماً وخرج منها زائغ البصر سقيماً ! ورغم أن الفصل بين الدين والسياسة حاسم في الغرب ، إلا أننا نلحظ حتى اليوم دوراً لبعض رجال الدين لا يستهان به في تأجيج عوامل الصدام . إذ ليس خافياً دور البابا يوحنا في إسقاط الشيوعية وإن كان دوراً غير منظور . وليس مجهولاً دور بعض الفرق المتشددة في الدين البوذي المستمرة في العمل السرّي على تهديد الأمن وإن ضعفت شوكتها كمنظمة ( أوم شينري كيو ) اليابانية الإرهابية . ولا يفوتنا أن نسمع صيحات بعض القساوسة المطالبين بحرق القرآن ، أو الممانعين بشدة للإجهاض دفاعاً عن شرع الله كما يقولون .. تماماً كما يفعل ( العلماء ) المسلمون عندما يُقنعون الشعب بمخاطر تنظيم الأسرة . وانظرْ أيها العاقل ، الأخطار التي يتعرض لها الأمن القومي في استيراد غذائنا عندما تضعف موارد الدولة عن الإحاطة بمشاكل الزيادة البشرية ، وتصبح ذقننا بيد الدولة الأجنبية مانحة الغذاء وفارضة الشروط المجحفة ، وتأمّلْ ما يستتبعه ذلك من مشكلات خطيرة كانخفاض مستوى التربية والتعليم عندما تعجز مدارسنا عن استيعاب أعداد الطلاب الهائلة ، واضربْ كفّاً بكف حسرة على انهيار أخلاق الناس ، ولا تنسَ أخيراً أن تضرب كفاً بجبهتك وأنت ترى تدهور الكفاءة الإنتاجية في معاملنا . نحن ندين بالكثير للثورة الفرنسية التي أنهتْ تماماً عهوداً من البطش والاستبداد الكنسيّ وأسّستْ للعلمانية . ولن نختلف بل لا يجرؤ أحد على الاعتراض أنه خلال أربعة قرون قدّم ( عقل ) العالم المتمدن من الإنجازات الإنسانية المبهرة ما لا يقارَن مع ما قدّمه ( إله ) قرون الطغيان الديني السابقة مجتمعةً . انطلق الغرب يؤسس شريعة إنسانية لا يدّعي الكمال فيها ، لكنها بالتأكيد أسمى ما وصل إليه العقل البشري وهي شريعة حقوق الإنسان . لا تنقاد إلى أية مرجعية دينية ، وفي رحابها تلتقي كل القيم الأخلاقية التي حوتْها أديان الأرض ، وما زال يعمل جاهداً للوصول إلى تحقيق الأمل في كونٍ يسوده السلام والوئام . إنها قوانين غير ثابتة مرتبطة بحركة المجتمعات ، لا تجافي منطق العصر ، قابلة للتطور مع كل مستجدات الحياة . كل البشر في ظلّها على قدم المساواة ، تنبذ العنصرية والاضطهاد ، وتكفل حرية التفكير والعقيدة للجميع . لكَ أن تتمرّغ عشقاً بإلهك ، وتبجيلاً لعلماء دينك وإعجاباً بإبداعهم أو بخرافاتهم ، ولك أن ترفعهم إلى مصاف الأنبياء والقديسين .. هذا حقك الشخصي ، ولكن للآخر أيضاً أن ينكر إلهك ويزدري شعوذة قدّيسيكَ فهذا حقه وتكفله القوانين كما تكفل حريتك بالمقابل .
كانت السياسة في العصور الماضية تتلبّس الدين لتحقيق مصالحها . أما وقد تغيّر منطق العصر مع الثورة الصناعية فقد استبدلوا بالأخلاق الدينية القيم الإنسانية التي تُنتَهك اليوم على أيدي الطامعين في استلاب الأضعف ، فيستطيلون على الخارجين عن طاعتهم ترهيباً يحتضن شكلاً استعمارياً جديداً تحت اسم القيم . تغيّرَ مفهوم الصدام في العالم الواقعي القائم على صراعات سياسية اقتصادية اجتماعية . فكر براجماتي لا يعرف المثالية الدينية ، يداري مصالحه أينما كان ولو على حساب خراب القيم والأمم . لكن .. لا جدال أن مبادئ حقوق الإنسان تظل صائبة وقِبلة التوّاق إلى العدالة والسلام ، بل إن مناهضة هذا الاستعمار الحديث بكل الوسائل الممكنة ( أمر لا يكون إلا في ظل العلمانية ) التي تقصقص أجنحة وأظافر كل طامح لامتلاك الحقيقة لحسابه . فأخلاق شريعة حقوق الإنسان هي التي دفعتْ بذوي الضمير الحي للتنديد بأعمال أميركا منفردة ، في مظاهراتهم ، برلماناتهم ، كتاباتهم ، وألجمتْ رغبتها في الانقياد لغيّها وتعنّتها غير المشروع . إن ارتهان قيم العدل والمساواة لبلاد الغرب والقيام تحت اسمها بتدخلات سافرة ، يمثّل إخراجاً لهذه القيم العظيمة من حريتها وجعلها تحت وصاية استعمار جديد يسبب المآسي والويلات . الصراع الفجّ للمصالح العالمية في بلادنا باسم نشر الديموقراطية مفضوح . فبحكم الطموح الغربي الرأسمالي ( الطموح السياسي بالماضي ) لتحقيق الأهداف الاقتصادية العظمى في المناطق الاستراتيجية ( في بلاد الحضارات القديمة بالماضي ) ، ارتهنت القوى الكبرى القيم الإنسانية لنُظُمها ( القيم الدينية بالماضي ) ، وأعطتْ نفسها حق الدفاع والتبشير بها ، رغم علمها أن بلادنا غير مؤهّلة أصلاً لنشر هذه القيم نظراً لتركيبتها القبلية ( نظراً للفارق الحضاري الهائل في الماضي ) ، فشردتْ بعيداً وهي تُشهر الحروب وتخلق ظروف انتشار الفوضى والبلبلة في مجتمع العصبيات العشائرية والدينية ، بعملها على إعادة هيكلة الشرق الأوسط بالقوة ليتناسب مع مصالحها ( في الماضي لم تُخلق الفوضى ، ولم يضطروا لإعادة الهيكلة ، استلموا البلاد جاهزة مجهّزة ، فالكلمة كانت لقوة السيف والجند والرمح ، أو دفع الجزية الإجبارية حسب المذهب الشافعي والحنبلي كبديل عن القتل ) . والعجيب أن البلاد الغربية وهي تسعى لمصالحها تدوس على القيم الإنسانية ( الدينية بالماضي ) التي قدّمتْ الكثير من الضحايا في سبيلها حتى ظهرت للوجود ثم لترسّخها في الوجدان الغربي . الغرب في سعيه المرفوض هذا ، يتعاون من جهة مع حراّس بوابة مصالحه من حكامنا ، ويوظّف من جهة أخرى التيارات الدينية الأشدّ رجعية كالوهابية لتهديد عدو آخر . وبهذه الطريقة موّلتْ أميركا من خير الخليج حمْلتها لإسقاط الحكم الشيوعي في أفغانستان ، وبعد انسحاب السوفييت ، استدار المجاهدون إخوة الأمس يُعمِلون يد القتل ببعضهم البعض . هكذا هي الرأسمالية ، لا بدّ أن تتخلّص من أعدائها بكل الطرق المتاحة لها ، وعندما تصيبها الأزمات بين فترة وأخرى ، تجد المخرج بالحروب لتظلّ عجلة اقتصادها دائرة : ( الاقتصاد الجهنميّ ) – إنتاج السلاح - و ( الاقتصاد السلميّ ) – حاجات المعيشة الأساسية ، ولتدور معها حياة البشر على إيقاعها ، ففي يدهم مفاتيح الحياة . والأطراف الثلاثة - المستغِلّ والحاكم ورجل الدين - ، حتى تأمن ثورات الشعوب ، كان لا بدّ لعملية التجهيل وغسل العقول أن تظل جارية على قدم وساق . ومن السذاجة التامة أن نتصوّر الغرب حامل القيم ، غافلاً عن شراسة التيار الديني المتطرف أو انعدام حقوق الإنسان في بلادنا . ترافقتْ دوماً السياسة والقهر مع الدين والشعوذة على تغييب الشعب عن واقعه الجهنمي ، وإيهامه بحلم الفردوس المفقود حيث الخلود في حياة أخرى حافلة بالمسرات . الحاكم يستند إلى التفويض الإلهي لتبرير قمعه وفرض سلطانه ، مطلقاً بالمقابل يد رجل الدين في تشجيع الاتجاهات النسكية المتعالية على مباهج الدنيا . وتحت وطأة الاستغلال والاضطهاد وغياب مشروع وطني تلتمّ كل القوى حوله ، ينصرف الشعب إلى حظيرة الدين حيث يجد هناك لعذابه الدنيوي حلولاً جاهزة تحقّق له الاستقرار النفسي . وهكذا يخلو الجو لكل الأطراف ليتبادلوا عشق التسلط والتحكّم برقاب البشر . ولولا عصر النهضة لظلّ الناس حتى اليوم يشترون صكوك الغفران ! رجل السياسة يحتاج إلى الكتاب المقدس لرفعه على السيف ، ورجل الدين يحتاج إلى السيف لوضعه بيد الإله ، وينطلق الاثنان في غزوات وحروب مباركة من الربّ ومن الغرب ! وما أسهل تهييج النعرات الدينية بين المذاهب وصداماتها ، للتخلص من الشرائح غير المرغوبة بها على أيدي بعضها البعض ، وستأخذ في طريقها المغيّبين ، الجهال ، العالة على البشر ، الذين لا يعرفون إلا التناسل !! تأهيل البشر يحتاج إلى نفوس كبيرة ، وعمل عظيم ، وجهاد مخلص ، وضمير حي أمين . منْ المتفرّغ لهذه الترهات ؟ تشجيع العابيثين وضربهم ببعضهم أرخص طريقة للتخلص منهم ومن مسؤوليتهم ، ليتفرّغ اللئام لمائدة الحياة التي وضعتْ عقولهم في كروشهم ، ونفخت أوداجهم الحمراء صحة وعافية . للأديان أجنحة ملائكية تطير بها بعيداً عندما يتحكّم بالواقع المنطق العملي .
مع ثورة التنوير ، انصرف الغرب المسيحي عن تاريخ مليء بالبشاعات . ورغم ذلك فإن النزعة العدوانية والكره التاريخي الذي نضمره له ، ما زال متمكناً من نفوسنا نحن العرب ، وهو ناتج عن ترسّبات الصدامات الماضية . تُرى .. أما آن الأوان لنلتفت إلى أنفسنا ونسأل عن موضع الخلل في عقليتنا أيضاً وليس في الخلل الغربي فحسب ؟ أما حان الوقت لنعترف أن الصدامات المريرة هي جزء ( من أخطاء متبادلة ) حصلتْ في التاريخ القديم ؟ لماذا نرى القذى في عين أخينا ولا نفطن للخشبة التي في عيننا ؟ ألم يبدأ القائمون على الخلافة الإسلامية صراعاً ضد اليهود والمسيحيين ، وفرضوا قيمهم وشروطهم المجحفة منذ وقت مبكّر من نشوء الدولة الإسلامية في المدينة ؟ وبحيادية وأمانة ، ألم تقع الخلافة الإسلامية في أخطاء كانت من أسباب الحروب الصليبية ؟ ومع التردّي الذي أصاب الخلافة في الأندلس نشط الإسبان أصحاب الأرض للدفاع عنها وطردوا المسلمين الذين غزوا بلاداً دون وجه حق . وماذا عن حروب السلطنة العثمانية الغاشمة مع الامبراطوريات المحيطة فردّتْ عليها أوروبا باحتلال بلادنا عندما أفل عهد العثمانيين ؟ لماذا نذهب إلى إلقاء مسؤولية تخلفنا على الاستعمار ولا نقرّ بحقيقة أن العالم الإسلامي كان يعيش واقعاً مزرياً خلق الظروف لاستعداء الغريب ؟ لا بدّ من الاعتراف أن المشكلة الأساسية اليوم ومنذ القدم كامنة ( في عدم احترام الاختلافات بين الأديان ) ، وهذا يسيء إلى المسلمين عندما يقدّمون صورة غير صادقة عن إلهٍ يرسل كل بضع مئات من السنين نبياً مع رسالة تعديل لما قبلها . ألا يولّد تشكك المسلمين بالشرائع السابقة النفور والحساسيات ؟ المشكلة الأخلاقية أننا نوجّه الاتهام إلى الله مباشرة ، أنه جعل أقواماً يؤمنون بشريعة خادعة مئات السنين ثم يرمي بهم في النار إذا لم يلتزموا بما أنزله فيما بعد ، فما ذنب السابقين الذين لم يمنحهم عمرُهم الفرصةَ للحاق بالشريعة الأحْدث ؟ مواقف المسيحيين اليوم هي ( ردّ فعل ) على فعل واعٍ من قبل المسلمين الذين عن سابق إصرار وترصّد ينزعون إلى الشقاق وإقصاء الآخر ، والعمل بهمة على نفي المسيحيين من الوطن .
الدين الإسلامي إسلامان : إسلام السيد محمد ، وإسلام السيد قطب . ونحن نرزح اليوم تحت استعمار الفكر القطبي المودودي ، وتأويلات شيوخ التطرف التي تختزل الجهاد في العنف ضد الشيطان الغربي والكفار الخارجين على حاكمية الله . لماذا تستوجب المجتمعات الغربية المحاسبة بالعنف ؟ لقد شدّ المسلمون الرحال إليها هرباً من القمع والطغيان العربي ، مع أن عاصمة الدين والسراط المستقيم على بُعد رمية حجر من بلادهم حيث بإمكانهم تحقيق أحلامهم المهدورة في الغرب ، فأي وجه أخلاقي في دفع الإسلام السياسي للمهاجرين لتجاوز قوانين دولة شيّدتْ بنيانها على النظام العلماني لفرض شريعة دينية تتناقض مع القوانين المدنية لبلد الهجرة ؟ مما تسبّب في تهييج اليمينيين ضد المهاجرين وخلق الكراهية والتعصب . المجتمع العالمي يعاني من قيم العنف والتطرف ، والمسلمون تقلقهم قيم السلام والاعتدال ( إلا برؤيتهم ) ، لا شريعة حقوق الإنسان تقنعهم ، ولا شريعة الله تكفّهم ، ولا عين الضمير تردعهم . العلمانية هي قلعة الحماية لنا كلنا . هي منهج في الحياة وسلوك وثقافة ، قوّمتْ شخصية الإنسان وزرعتْ بداخله ( الأخلاق الكونية ) . نعم الأخلاق الكونية !! غير النابعة من نص مقدس أو شريعة مختارة . وما هجوم الإسلام المسيّس على العلمانية إلا لخشيتهم أن تسحب بساط القداسة التي يدّعونها حين يزعمون أنهم مالكو الحقيقة التي وكّلهم بها الله على البشر . شيء مخيف هذا العقل المستلِب اللانزيه الذي يمتصّ القدرات الذهنية فيحيل الإنسان إلى ريشة في مهبّ الريح . والعقل المستلَب . . مسترخٍ كسول ، يقبل كل ما يُملى عليه .. تعمّق اغترابه عن منطق العصر فأصبح عاجزاً خائفاً من مواجهة حقائق الوجود للأسف . العرب كالعرجون في شجرة الحياة لا يصلحون إلا وقوداً للحروب . ولكن .. لا مكان لليأس والإحباط .. فالتاريخ في ارتقاء مستمر . ولم يعد السيف مصدر القوة ، وكذلك الأعداد الهائلة من البشر ، ذهب ذلك الزمن . الكلمة اليوم للعقل ، وسننساق للسير في طريق السلام ، وسننحني إجلالاً لمهرجان العلم والمعرفة الذي تقوده الإنسانية المتنوّرة . أليس مَثَلنا العربي جديراً بالذكر في هذا الظرف : " لا يفلّ الحديد إلا الحديد " ؟ دعِ السيف يضرب ، فإن الثَلْم لن يصيبه إلا إذا ضرب في الأقوى منه ، ليصبح قطعة تباع في سوق الخردة . فما فائدة سيفٍ غير قاطع ؟؟ العالم يتهاوى اليوم تحت الضربات المتخلّفة ، لكنّ العقل حاميه . كانت رؤوس سيوفهم تصل إلى أعماق أوروبا والصين وجبالها .. إلا أنّ العقل المهنّد تصل رؤوس أفكاره اليوم إلى أعماق الفضاء وجباله .
حروب اليوم : من برا هلّا هلّا ومن جوا يعلم الله !!
#ليندا_كبرييل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عند أقدام الحقائق يراق الدم
-
الرقص خمرة المرأة ونشوتها !!
-
الرقص خمرة المرأة ونشوتها !! ( 2 )
-
حوار مع سيدة بهائيّة . قيم مطلقة أم قيم إنسانية؟
-
النقد فعل مقاوَمة ، ويجب أن تكون ردة الفعل مقاوِمة أيضاً
-
أهو تعالٍ من حضرتك يا أستاذ أفنان القاسم أم أننا دون مقام ال
...
-
تعليق على مقال : التكامل بين لاهوت التحرير والشيوعية
-
في رحم الرزايا تتخلّق المزايا
-
معراج طريق الصعب يلزمه حذاء الشعب
-
رادونا ولّا ما رادونا فقد أصبحنا مارادونا
-
أنا ومنْ يعلموني السحر : جويْنَر ونادال وميسي .
-
وإن ذُكِرت الرياضة قلْ : ربّي يخلليها ويزيدنا فرفشة
-
كل هالدبكة والدعكة .. على هالكعكة !
-
كنتُ بطلة أوليمبية ذات يوم !!
-
صلواتهم ليست لوجه الله ، إنهم يلعبون
-
المسيحية ليست ( باراشوت ) نهبط بها فوق كنيسة
-
رسالة من الجحيم : إنْ لمْ تهُبّوا فهِبُوا
-
هل أتضرّع لطبيعة غبيّة لتنصرني على إلهٍ جبار ؟؟
-
رسالة إلى الجحيم : كل فمتو ثانية والبشرية بخير
-
رسالة إلى الدكتور جابر عصفور المحترم
المزيد.....
-
حماس: إحراق المستوطنين للقرآن امتداد للحرب الدينية التي يقود
...
-
عم بفرش اسناني.. ثبت تردد قناة طيور الجنة 2025 على الأقمار ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة: ثبت التردد على التلفاز واستمتع بأحلى ا
...
-
مصادر إيرانية: المرشد الأعلى علي خامنئي يسمي 3 شخصيات لخلافت
...
-
طريقة تثبيت قناة طيور الجنة بيبي على القمر نايل سات وعرب سات
...
-
وردة المسيح الصغيرة: من هي القديسة تريز الطفل يسوع وما سر -ا
...
-
سلي طفلك تحت التكييف..خطوات تثبيت تردد قناة طيور الجنة 2025
...
-
فوق السلطة: شيخ عقل يخطئ في القرآن بينما تؤذن مسيحية لبنانية
...
-
شيخ الأزهر يدين العدوان على إيران ويحذر من مؤامرة نشر الفوضى
...
-
مسيرة مليونية في السبعين باليمن للتضامن مع غزة والجمهورية ال
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|