أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - بينية السرد بين الواقع والأوهام في رواية - بلد المحبوب - للروائي -يوسف القعيد-















المزيد.....


بينية السرد بين الواقع والأوهام في رواية - بلد المحبوب - للروائي -يوسف القعيد-


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4225 - 2013 / 9 / 24 - 01:31
المحور: الادب والفن
    


بينية السرد بين الواقع والأوهام
فى رواية "بلد المحبوب"

كُتِبَت رواية "بلد المحبوب" عام 1985م، وصدرت أول طبعاتها عام 1987م، فى تلك الفترة التاريخية كانت لا تزال بقايا وظلال للأفكار المثالية والأحلام الرومانسية المحلقة عالقة بالذات المبدعة المصرية، كانت مصر فى أوج اضطرابات مزلزلة، نتجت عن تحولات عنيفة ما بين المرحلة الناصرية بما اتسمت به من اقتصاد إشتراكى، وصعود أفكار القومية العربية، ودعاوى الوحدة، والزعامات العنترية غير الواقعية، وهجرة أبنائها بعد النكسة إلى بلاد عربية وغربية متعددة، وبين المرحلة الساداتية التى تحول فيها الأقتصاد إلى الرأسمالية وسياسات الانفتاح الأستهلاكى، والتطبيع بعد معاهدة كامب ديفيد، وانفصال مصر عن العرب، ثم استفحال ظاهرة الجماعات الإسلامية التى أحتفت بالمظاهر المتشددة دون استيعاب جوهر الدين الإسلامى، الذى يحتفى بالعقل والجمال السمح داخلياً وخارجياً، تلك التحولات العنيفة التى عبثت بمنظومة القيم التى استقرت بالشخصية المصرية فى الفترة الليبرالية قبل حركة 1952م وبعدها – عند نظرنا إلى الجانب الإيجابى منها الذى أعلى من الشخصية والإرادة المصرية الحاكمة -، توالت هذه التغيرات المربكة فى مرحلة زمنية قصيرة نسبياً فى عمر الأوطان، لذا كانت مزلزلة للكيان المصرى العام، وأوجدت إفرازات عشوائية بدلت من طبيعة المجتمع فى جوانب متعددة من الحياة، شملت المظاهر الخارجية للمجتمع، كما عبثت بالتكوين النفسى والقيمى للإنسان المصرى.
وتنطلق رواية "بلد المحبوب" للأستاذ "يوسف القعيد" من عين سارد عاشق لمصر بنيلها وشوارعها وشرفاتها وهوائها وأشجارها، عاشق للمصريين ولأصدقائه ولمحبوبته، أنثاه التى تركها دونما إنذار وسافر، عين متيم بحياة المجتمع المصرى فى طبقته الوسطى المتوازنة التى كانت صمام أمان لهذا المجتمع بكل قيمها وأخلاقها، نحن بصدد سارد يقص بضمير أنا المتكلم ليعزف منظومة استبطان داخلى صادقة وحميمية مع نفسه ومع الآخرين، كما يتيح نوعاً من البوح والتحليل العميق للأشياء، كما هيأت طبيعة هذا السرد الذاتى أن تتوفر عين راصدة ومسجلة لكل المتغيرات التى مرت على الوطن بعد غربة امتدت لعشر سنوات دون مساحة فاصلة بين عين السارد والواقع المحكى عنه، عين ترى وتنفعل وتقارن وترصد التفاصيل ممتزجة ومضفورة بمقارنات بين ما كان وما هو كائن فى لحظة القص، مغلف كل هذا بمشاعر صادقة ومحبة للوطن بكل مفرداته ومعانيه، ذات يحدوها أمل فى أشد لحظات اليأس والقبح بأن تبزغ صحوة، ويعود الجمال معلماً رئيسياً من معالم الحياة المصرية، يقول: "أغمضت عينى، حاولت الرحيل إلى الزمن الذى مضى، أحسست أننى نجحت قليلاً فى استنشاق روائح الزمن القديم، كانت تبدو هذه الروائح وكأنها مازالت معلقة فى الهواء. تخيلت أننى أدوس على الأرض فأسمع تكسر الأوراق الجافة" ص13.
وللروائى قدرة فائقة على الوصف ونقل صور الأشياء والمتغيرات بكل حيثياتها الدقيقة ورصد تحولاتها مع تعاقب الزمن بما يحمله من مستجدات، وتطورات سلبية أو إيجابية، مما يضفى حيوية وحركية على السرد، ويقترب به من تقنيات المشاهد السينمائية المتتابعة، ولطبيعة مشاهد الرواية، وطبيعة تكوينها الدرامى النفسى الذى يقع فى منطقة بينية بين الواقع والحلم والوهم، وقصها الذى يعتمد على كون المشاهد واقعية وتحدث بالفعل – على الأقل من وجهة نظر السارد – يأتى السرد وطريقة الوصف وكأن هناك حكياً وله ظلال، أو تعقيبات قد توحى - فيما أرى - بخلق عالم بينى بين الحقيقة والوهم، فبعد فقرة توحى أسطرها جميعها بخلوها من معالم الحياة النابضة الحقيقية ص75 يقول الروائى "خرجت من مقارناتى فجأة، كانت محبوبتى تقف فى منتصف الحجرة، كان ظهرها لى ووجهها ناحية النافذة، عرفتها حتى دون أن أرى وجهها. من لا يتعرف على المحبوب بدون حواسه الخمس لا يكون عاشقاً" ص76.
هذه الطريقة الوصفية التى توحى بالواقع وتشكك فيه فى ذات اللحظة تتطلب تمكناً من اللغة، مع قدرة على تشكيل الجمل والعبارات بحيث تتيح لها أن توضع بذور الشك فى الجملة فى نفس لحظة إنشائها، ولا يستطيع إتمام ذلك والنجاح فيه سوى مبدع متمكن من أدواته الفنية ومسيطر على الصياغة، مع ملاحظة أن القارئ لن يستشعر سوى سلاسة الأسلوب، وانسيابه بطريقة سهلة ومقنعة وممتعة ومثيرة للفضول فى ذات الوقت.
فرضت طبيعة الموضوع الذى يقدمه النص تلك الآليات الفنية والأسلوبية التى تقيم البناء وتوفر معاول تصدعه فى معظم فقراته، يعود البطل من غربته وترحاله ليبحث عن محبوبته التى يشعر بالذنب تجاهها بعد أن تركها وغادرها تواجه مصيراً لا يعرف له معالم، يعرف من صديقه أنها تزوجت وأنجبت، وتعيش فى إحدى البلدات الواقعة فى قلب النيل، فيقوم برحلة البحث عنها ويجدها، ثم نفاجأ بأنها قد وقعت فى النيل وغرقت، فيقوم البطل بإبلاغ الشرطة لتتكشف الأحداث على أن تلك المحبوبة قد غرقت من عدة سنوات، وأن تلك المشاهد التى تمت فى ثلث الرواية الأخير حدثت فقط فى خيال وتصور السارد البطل، هنا فقط نستطيع أن نتكشف هذا الجو الضبابى والأسطورى الذى أحاط به الروائى شخصية المحبوبة، ومكان سكنها، وظروف حياتها؛ ولذا تخير الروائى هذه الأساليب التى لها خاصية هدم الكيان أو التشكيك فيه، فى طقس غامض وشفيف، ولقد حشد منها الكثير فى كل المشاهد التى جمعته مع محبوبته كأن يقول "ردت بطريق غير مباشر" أو قوله "قلت لنفسى، وقلت لها" ص82 أو قوله "اكتشفت أن الصمت أكثر رحابة من الكلمات التى أصبحت مثل الفخاخ المنصوبة للمحبين والعشاق. إننا متفاهمان حول كل الأمور هكذا، ودون أن ينطق أى منا بكلمة واحدة. نظرت إلى محبوبتى، خيل إلىّ فى بعض الأحيان، أن شفتيها تتحركان وأنها تتكلم، ولكن الصمت كان يحيط أذنى بطبقة ثقيلة" ص86. هذه التعبيرات وغيرها تضعنا فى مواجهة حالة نفسية خاصة يعانيها هذا البطل الذى يحيا بعقدة الذنب مما يجعله يخلق عالماً من الأوهام التى لا تصمد طويلاً حتى فى مخيلته، بل تتكرر نهاية محبوبته معه هو وليس مع زوجها، هو العالم المتخيل الذى يدخلنا لأجواء رمزية هذا النص.
قد توحى بداية الرواية أننا بصدد صدام أو مقارنة بين الحضارة الغربية والشرقية من خلال عين وعقل شخصية تعود لبلدها بعد اغتراب دام لأكثر من عشر سنوات مثل روايات "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم أو "قنديل أم هاشم" ليحيى حقى، أو "أديب" لطه حسين أو "موسم الهجرة للشمال" للطيب الصالح، لكننا نكتشف أننا أمام عاشق استبدل دماءه بمياه النيل، واستبدل أنفاسه ورئتيه بهواء معشوقته وأنفاسها وإحباطاتها التى يشعر فى أعماقه بالذنب نتيجة مغادرته لها، نكتشف أننا أمام سيمفونية عشق لتراب هذا البلد ونهره وأناسه الطيبين، دون أن تكون هناك غفلة أو تغاض عن كل السوءات التى استجدت وطرأت على هذا القطر المعتدل الآمن المستقر، لا يوجد فى النص صدام بين حضارات لكن توجد مقارنات طفيفة لم تتوغل فى المقارنات أو الاختلافات الجوهرية، حتى أننى بعد القراءة تساءلت: هل من الطبيعى أن يكون العائد من زخم حضارة غربية وبعد حياة دامت لعشر سنوات عملاً وترحالاً أن يظل على هذا الإخلاص وهذه الرومانسية فى تناوله للأمور، خاصة فيما يتعلق بالعودة إلى حبيبته دون حساب لكل متغيرات الزمن، ألم تطبعه الحضارة ببعض العقلانية ليظل يحيا فى الأحلام والتخيلات، وتبدو هذه الشخصية قد هاجرت بالجسد فقط لكن الوجدان والعقل لم يغادرا النيل وشوارع القاهرة وبائع الفول فى الصباح الباكر ومائدة والدته ودعاءها له، يقول "أعترف أننى عائد من بلاد يتصرف أهلها بهذه الطريقة، فى كل لحظة من حياتهم، يسكن كل واحد منهم داخل نفسه، ولا يطل من أى شرفة على الآخرين ولا يسمح للآخرين بالنظر إليه أو رؤيته من الداخل، ولكن هذه الطريقة فى التصرف تبدو طبيعية هناك، ولكن هنا، لا".
كما ينضوى النص أيضاً تحت عوالم علم النفس المعقدة التى تعتمد على الشخوص المركبة التى لها قدرة صنع عوالم موازية للواقع والعيش بها بعد خوضها لتجارب وإحباطات عنيفة، ويذكرنا هذا العمل الروائى ببعض أفلام السينما العالمية التى تعتمد على هذه التكوينات النفسية التى تخلق عوالمها الوهمية الخاصة.
وبالرغم من أن نص المبدع "يوسف القعيد" ينطلق على لسان الشخصية الرئيسية بالعمل، هذا المصرى المغترب عن وطنه، والذى مارس الترحال فى بلاد متعددة، إلا أنه ضمناً لا يقع فى مكان قريب من نفسه بل يستشعر القارئ أنه واقعاً فى هوى صديقه الذى لم يغادر الوطن، ولم يغادر قيم الإنسانية الحقيقية، وتكيف مع المعطيات التى لا تفقده طبيعته الإنسانية، هذا الرافض للعمل بدوامين أو وظيفتين، هذا الرافض للغربة وترك الوطن والبلاد، النائى بنفسه عن الأطماع والطموحات التى تحوله إلى كائن استهلاكى مترف، يغوص فى مادية الأشياء، وتضيع إنسانيته فى جحيم الجرى وراء رغبة الإمتلاك، يقول صديقه عن نفسه: "ظروف على الحافة. شرح كلمة الحافة. قال إنها تعنى عدم الأكل حتى الامتلاء والشبع، وعدم الجوع حتى التفكير فى الثورة، وذلك هو حال كل من يعملون حتى العرق فى مصر الآن. أكد لى أنه لم يقع فى الخطأ الذى وقع فيه الكثيرون. وهذا الخطأ إسمه الوظيفة الثانية". هذه الثنائية الضدية بين موقف السارد البطل، وموقف صديقه، ترسخ لمأساة البطل الذى غادر وترك المحبوبة أو ترك الوطن وتجعله ينغمس فى أوهامه ولا يقبل أن ينفضها عنه.
ولقد شغل الروائى بفكرة مجردة متعالية فيما أظن تنحصر فى عشقه لتراب ونيل هذا الوطن، فامتلأ بها، مجسداً لأساطير من شأنها أن ينظر إليها بحسبانها حكاية خارج إطار العقل والمنطق، مضحياً من أجلها بواقعية القص وحركية التجسيد الإنسانى الطبيعى، أراد الروائى سرد خيوط تقوم فى جوهرها على رمزية شفيفة غير مستعصية، ولذلك جاء أبطال عمله وشخوصه جميعهم من دون أسماء متعينة، البطل والمحبوبة والصديق والزوج والأب والأم جميعهم يدرجون تحت مطلق الفكرة المجردة للوطن، وتعلق الإنسان به، دون تجسيد حقيقى لبشرية الأحداث والمواقف فجميعهم يمثلون نماذج متوافرة، وأتصور أن الروائى قد تناسى أن المشاهد الإنسانية المجسدة الطبيعية قد تحمل تلك الأفكار المجردة عندما تشكَّل ضمن منظومة لا تلح على هذه الرمزية الصريحة، وأرى أن الدافع لذلك التشكيل السردى هو عشق الروائى الشديد لهذا الوطن، نفس هذا السبب هو ما جعل الفنان حريصاً أيما حرص على أن يبدو قلمه مثل كاميرا شديدة الحساسية تجاه رصد وتصوير كل المتغيرات التى طرأت على مدينة القاهرة بهوائها ونيلها وشوارعها وعلى حكى والإشارة إلى كل المتغيرات التى أصابت الشخصية المصرية مثل المشهد الذى جمعه مع سائق التاكسى فى أول نزوله إلى أرض الوطن، وما طرأ على الشخصية المصرية التى كانت أهم سماتها القناعة والكرامة، فتحول ذلك مع المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية إلى تكالب مادى يفقد الإنسان كرامته ونبله الأخلاقى.
وعلى قدر الأهمية التى يقوم بها الفن والجنس الروائى فى التنبيه إلى تلك المتغيرات التى تطرأ على المجتمع، والتى لا يستطيع تصويرها إلا عين فنان متمكن من أدواته الروائية؛ ليستطيع أن ينقل تلك التحولات فى حساسية بالغة، مع قدرة على ربط هذه الظواهر التى قد تبدو منفصلة فى الواقع، إلا أن الفنان صاحب الرؤية، المدرب على إلتقاط الشتات ووضعه ضمن منظومة رؤيوية مثل الأستاذ "يوسف القعيد"، قد تشغله فى بعض الأحيان الفكرة والرصد، والإحاطة بالظواهر، فتصنع ما يشبه التشويش على الحدث الأصلى، وقد يتراخى السرد مع الإلحاح على وصف المتغيرات فيكتنف الحدث الأساسى والخيط الضام للقص حبكته وتماسكه الملح، حتى وإن كانت تفاصيل المتغيرات هدفاً ملحاً من أهداف الروائى وعمله، للفت الانتباه إليها، وتتعدد تلك الإشارات الرصدية فى رواية بلد المحبوب مثل ص52، 65، 71، 99.
ويعد إسم الرواية "بلد المحبوب" جسراً أساسياً فى العبور إلى الرمز الذى يتضمنه النص، فشخصية السارد وهو بطل العمل يعود لبلده الذى يعشقه بعد غياب عشر سنوات ليجده قد تبدل أحواله بعد متغيرات قد تتابعت عليه فيشعر أنه قد مات، غرق فى النيل وفى ظنى أن القارئ للعمل لن يستعصى عليه أن يقرن بين محبوبته التى سقطت بالنيل ومصر التى تعانى سكرات غيبوبة لا تنتهى، وبالرغم من ذلك يحدو الروائى أملاً دائماً لا ينقطع، فيصور محبوبته وكأنها عروس النيل التى تسقط فيه عشقاً، لا لأن تموت وتنتهى، لكن لتبعث معه من جديد بعثاً أكثر خصوبة وتفاعلاً وحياة، بعثاً يحرك الراكد ويهيئ فيضاناً وصحوة تحرك ما قد استنام؛ لتصنع نهضة وتغيراً، يشمل كل شئ، حتى أننا فى نهاية العمل نجد السارد يقول "ورغم الحزن كان لدىّ يقين وحيد، لا بد من لقاء محبوبتى ولا مفر من فيضان النيل. قلت لنفسى: لا بد ، لا مفر".
ولقد نجح الروائى فى تهيئة الآليات الفنية السردية؛ لتصوير محبوبته ووضعها فى إهابها الرمزى والأسطورى، من خلال عدة عناصر فنية متناثرة منها: ملابسها الفضفاضة، جمالها الذى لا ينتابه تغيرات، المكان الذى تسكن به فى جزيرة وسط فرعى النيل، والفيللا مفتوحة الأبواب، وبرغم ارتباطها الافتراضى بمهندس الرى إلا أنه قد وجدها وحيدة وكأنها تنتظره، أيضاً تخيلها أولاً أنها قد أنجبت ولداً على إسمه وبنتاً على إسمها ثم يكتشف بعد انقشاع الحلم أنها عاقر لم تنجب حتى اللحظة التى امتزجت فيها بالنيل، مع ملاحظة أن النيل فى العمل هو الكيان الذى كثفت، ورشحت، واستقطرت فيه مصر بكل معانيها فى جوهر رمزية هذا العمل.
ولا تبتعد أجواء هذا العمل الروائى أيضاً عن هذا الطقس الفرعونى القديم الذى يتغلغل بالمصرى الأصيل الذى تبدو وكأن جيناته قد اقترنت قراناً لا انفصال فيه بين الإنسان الفرد وبين المكان ونيله وكل الأساطير التى تشكلت اعتماداً عليه مثل أسطورة إيزيس وأوزوريس، حتى أننى قد ميزت العمل بعد قراءته بأنه "رواية مكان" لكونها تجسد نموذجاً للهارمونى المتناهى بين الطبيعة والجغرافيا بكل محمولاتها التاريخية وبين الإنسان وعقله ووجدانه معاً، إنه بداية من النيل والهواء، وصعوداً حتى قدرة الفول، والأزهار فى الشرفات، مفردات ذات ثقل فى هذا النص، الذى يعزف على أوتار مصر الخاصة، مسلطاً أضواءه الفنية على الشعيرات الدموية متناهية الرهافة فى جسد هذا المجتمع وهذا الوطن الغالى.
ولا يتجاوز زمن الرواية ثمانى وأربعين ساعة على مستوى الأحداث الرئيسية التى يغطيها القص، لكنه على مستوى السردية الكبرى للنص يتجاوز عشر سنوات، بل يتعداها إلى مستوى ثالث، حين يشير إلى التحولات التى مرت على مصر فى مراحل تاريخية متعاقبة منذ بداية القرن العشرين، ويتسم إيقاع الرواية بالتوازن بالرغم من عنصر التشويق الذى يبدأ معها منذ الأسطر الأولى للنص والذى يتوافر من خلال: صورة جواز السفر البعيدة عن الواقع واحتجاز البطل، وعدم معرفة مصير المحبوبة، وأين تقيم؟ الشخوص المجردة حتى من أسمائها وملامحها الخاصة، انطماس معالم الشارع الذى كان يقيم به مع أسرته، رحلة المحبوب إلى محبوبته فى البلدة التى تعيش فيها، ورحلتهما معاً إلى النيل، سقوطها فى مياه النهر، عدم تحديد يقين حتى آخر العمل عن المصير الذى آل إليه حال المحبوبة، كل هذه العناصر أوجدت ما يشبه تقنيات العمل البوليسى الاستكشافى، ووفرت عنصر التشويق الذى ربما لم يخفف من وطأته سوى شغف الروائى الصحفى برصد كل التفاصيل التى استجدت على المجتمع.
ويتعامل الروائى مع اللغة ومجازاتها بحساسية مرهفة ومتمكنة تتناسب وطقس المشاهد، واختلاف الحالات النفسية لشخوص العمل، فتأتى لغته فى كل مشهد متوافقة وناقلة للحالة الوجدانية التى تسيطر على السارد، فعندما يذهب البطل إلى مكان محبوبته ويرى تلك البقعة التى تحيا بها فى وسط النيل يقول: "خيل إلىّ أن ما أشاهده جزء من حلم أراه وأننى نائم دون أن أدرى، ولكن الألوان أمامى كانت واضحة وأحلامنا لا تكون ملونة فى العادة. جلست بعض الوقت أنظر أتذوق المرئيات على مهل. سألت نفسى: أين كان هذا الجزء من بلادى؟ كيف لم أره من قبل؟ كيف تاه عنى وكيف تهت عنه؟ ومن الذى فعل هذا بنا جميعاً؟ ص61. تبدو هذه اللغة سلسلة وواضحة مضفورة بمجازات راقية، تعتمد على تراسل الحواس وتستند على أساليب الاستفهام الاستنكارى الحائر والقلق، وتتوسل باستنادها على الحواس البشرية جميعها، بما يقربها من المتلقى ويخلق صلة وثيقة بين أسلوب الكاتب وقارئه.
يجسد الكاتب ما كان يتوقعه عند عودته من السفر من طقوس العائلة فى الزمن الجميل قبل سفره، وطبيعة الحياة الهادئة فيقول معتمداً على أسلوب التشبيه "تبدو الحياة وكأنها امرأة مفكوكة الشعر، خارجة لتوها من النهر، استحمت واستحمت واستحمت، وها هى تجفف جسدها تحت خيوط شمس الصباح الطرية الخجول. وتظل مبلولة نظيفة مغسولة حتى قبل انتصاف النهار: ص39 يهب تضافر التشبيه مع التكرار مع الاستعارات المتوالية حالة من الحلم الجميل الذى يسيطر على شخص البطل، ويصور كل ما كان، هذا الصعود بالحلم عن طريق اللغة هو ما يصنع المفارقة عند مواجهته بالتغيرات واختلاف الأوضاع فى بلده وأسرته بعد عودته، واختلاف إيقاع الحديثة.
ويستخدم الروائى التصوير الاستعارى ليدلل على التحولات التى طرأت على الفرد المصرى البسيط يقول عندما يصف موقف السائق معه "خيل إلىّ أن الرجل استبدل قلبه بجنيه من الذهب الخالص، وأن هذا القلب الذهبى لا يدفع إلى الجسم بالدم ولكن بالقروش والجنيهات" ص11.
وتتكرر بعض المفردات فى العمل بصورة مطردة وملحوظة مثل مفردة "النيل" بكل تنويعاتها، حتى إننا دون إحصاء نلاحظ ترددها فى كل فقرات الرواية ومحورية انشغال السارد بها، وكما ذكرت فالنيل هو الذى يمثل مصر بكل مفرداتها. وتتردد مفردة مثل "الغويط" فى أكثر من ثلاثة مواضع فى الرواية، وفى ظنى أنها بقايا تأثيرات مفردات ريفية يفخر ويعتز بها الروائى وتتداخل مع موروثاته الثقافية والفلكلورية. بالرغم من كونها قد لا تتناسب مع شخصية العمل القاهرية، إبن المدينة ومفرداتها المغايرة إلى حد ما.
وفى نهاية هذه الدراسة المتواضعة لهذا العمل الروائى المتميز الذى يدعونا مرة أخرى للتساؤل أين نحن؟ وكيف أصبحنا؟ وإلى متى سنظل فى حالة من النضوب؟ ومتى سنفيض؟ أطرح على القارئ تساؤل يلح على الإنسان فى ظل حضارة العولمة هل الوطن هو "أنا" أينما وجد الفرد ويعيش ويشعر، أينما عمل وتفاعل وأحب الآخرين، هل الوطن بداخل الذات مهما تنوعت أو اختلفت الأماكن، أم أن الوطن هو كل ما يحيط بالذات، هو المجتمع الذى تحيا به وتشكل إحدى لبناته، أتصور أن الذات المصرية لا يمكن أن تنفصل عن المكان ولا عن النهر بكل محمولاته الحضارية والثقافية الممتدة فى التاريخ، وهو ما يميز للإنسان المصرى كثيراً من الخصوصية حتى وإن انطمست فى فترات من الخمول الذى لا بد بل لا مفر له من صحوة.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سرد التصوف ..ولغته في ديوان الملحقات للروائي -عبد الحكيم قاس ...
- الرمز الشفيف في رواية - روح محبات- للروائي -فؤاد قنديل-
- أيهما أشعل القمر..
- المادة الثانية... مادة حاكمة
- غلظة الصحراء
- ليال....تتحدي النقاب
- تسألني الأماكن ..عنك
- الثقافة المصرية بعقلية رجل أمن
- غرابة الأدب..غرابة العالم وغربة الروح دراسة في كتاب الأدب وا ...
- البورترية في النص الروائي عند خيري شلبي -موال البيات والنوم ...
- أسطاسية أسطورة عدل موازية للروائي الكبير خيري شلبي
- الأنترنيت وأليات السرد في نص -في كل أسبوع يوم جمعة-للروائي إ ...
- التماهي بين الموجودات في أدب خيري شلبي
- الإنسان والفن..والوحوش
- البناء الروائي في -عاشق تراب الأرض-للروائي :أحمد الشيخ
- الحدود في الأسلام والمعاصرة
- أشياء برع فيها الأخوان المسلمون
- روضة... هندسة القاهرة
- الصمت الصاخب بالموسيقي في -تانجو وموال- للروائية -مي خالد-
- بعيدا عن إطلاق الرصاص..


المزيد.....




- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...
- عبر -المنتدى-.. جمال سليمان مشتاق للدراما السورية ويكشف عمّا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - بينية السرد بين الواقع والأوهام في رواية - بلد المحبوب - للروائي -يوسف القعيد-