أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - البورترية في النص الروائي عند خيري شلبي -موال البيات والنوم نموذجا-















المزيد.....

البورترية في النص الروائي عند خيري شلبي -موال البيات والنوم نموذجا-


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4214 - 2013 / 9 / 13 - 16:42
المحور: الادب والفن
    


البورترية فى النص الروائى
عند خيرى شلبى
د/ أمانى فؤاد
حين تنهى قراءة أحد مؤلفات الروائى خيرى شلبى يتجسد حولك أناس لا يفارقونك، يتركون آثاراً غائرة فى الوجدان، تتشاركون فى المناقشات السياسية والأدبية، تتناولون الطعام معاً، تتندرون على الحياة، تسخرون منها فى أحد السهرات، أو على أحد المقاهى الثقافية، يجوبون الشوارع معك ويمنحون الأماكن حياة، شخوصه الذين يتجسدون بقلمه لا ينحسبون ويستقروا بين دفتى الكتاب حين تغلقه، بل يمر بجوارك خلسة "البرديس" من نص "موال البيات والنوم" وهو يتأبط بعض المجلات والكتب، أو تداعب مسامعك الألفاظ الرنانة "لشكرى الخضرى أمين" سكرتير الصحفى الكبير، أو تلمس حلاوة وعطف "عبد العليم العشرى" "الكاميرا مان" أو تشعر بصدق وكرم "هلال الشريف" و"فايق الرسام" و"أسعد حامد" أو يذهب خيالك ليقيم نحتاً تفصيلياً لجسد الممثلة "سهير شعبان" أو "نازك" أو تنفر من ادعاءات "سليم شحيبر" وتستقر كراهيته بداخلك. كما تستقر كراهيتك لعابد وعواد البراوى فى نص "إسطاسية" وتعجب من قدرة الروائى على تشكيل نماذج لا توجد سوى فى المجتمع الريفى، مثل "عثمان الوقيع" و"معاطى الزئبقى" و"بشلة" و"زيدان أبو زعير" و"أبو هوانة الغوريلا"(1).
وقد نتساءل لماذا تخرج شخصيات النص من الصفحات؟ ولمَّ يحطمون قيود الأسطر؟ ويتحول المداد الأسود الذى كتبهم وشكَّلهم إلى قوس قزح يلون سماواتنا النفسية والحياتية، لا بد وأن خالقهم أو مصورهم وفر لهم فنياً ما يحولهم إلى نماذج نابضة بالحياة "بورتريهات" لأناس حقيقية، نعم هى فى النص الروائى شخصيات ورقية، لكنها على يد الكاتب تكتسبت حياة حقيقية تجرى فى شرايينها دفق الطبيعية وتفاصيلها الدقيقة، موضوع لها خريطة فنية لشبكة من العلاقات، ترسم معالم الحياة من حولها، وتسكن فى منعطفات نفوسنا مقصودة لذاتها وفى مجموعها. فى الوقت نفسه أعالج فى هذه الدراسة البورتريه فى النص الروائى عند المؤلف، فللكاتب مؤلفات أفردها لفن البورتريه مثل "برج البلابل" و"عناقيد النور"(2).
لقد لاحظت أن البورترية أو رسم الشخصيات بالكلمات فى الأعمال الروائية للمبدع لا تعد نتوءات تقطع استرسال سردية النص وانسيابيته، بل هى موظفة لديه فى أغلب الأوقات لخلق الجو العام لمحيط وبيئة النص، ورسم وإضفاء رتوش أساسية لتهيئة العوالم التى ينقلها الكاتب، وجوهر ما يريده سواء كان بؤرة العمل فكرة أو شخصية، كما أنها تعد قطع فنية تسهم فى بناء النص وتكمل عناصر الدراما به، وهى بمفردها قادرة على أن تكوَّن لوحات معبرة، كما أنها فى مجموعها ووسط الكيان الكلى للعمل وفى اندماجها مع التقنيات السردية المتعددة تخلق نصاً ثرياً فى مجموعة(3).
(1)
ويشى اهتمام "خيرى شلبى" بفن البورترية بعشقه للبشر، للإنسان فى تماثلاته وتناقضاته، فى تحولاته، وفعله فى الحياة، وفعل الحياة به، فالمبدع حين يعشق جانباً من الوجود يضعه تحت مجهره ليرصد ما يلتقطه من مفرداته فى الصفحة المواجهة. ولن يتحقق للشخصيات المرسومة بالكلمات ذلك إلا إذا توافرت لتشكيلهم العديد من البناءات والطوابق الفنية المتكاملة. وتلك أحد مميزات الروائى المبدع الحقيقى التى تتمثل أولاً فى: قدرته على خلق التفاصيل الصغيرة المميزة لكل شخصية.
فهو كالتشكيلى المصرى الأصيل الذى يشكل شخوصه كأنها الفسيفساء الدقيقة الصنع والتكوين، يحرص على أدق التفاصيل الشكلية، والنفسية الداخلية ويبرزها فى شبكة من المفردات المعبرة، والتى تلتصق بها الدلالة الخاصة والمتفردة أو تتلبسها، كأن يقول عن "سليم شحيبر" فى موال البيات والنوم "هو شاب على مشارف الثلاثين من العمر أحمر اللون، نحيف الجسد، طويل الرقبة برأس مستطيل كالشمامة، ممسوح الملامح، ليس فى وجهه النحاس سوى عينين وأنف وفم واسع غليظ الشفتين معووج الفتحة فى وضع ابتسامة مشمئزة قرفانة فى لسانه لدغة بسيطة"(4).
ولن يترك الروائى العديد من السمات الأخرى التى تميز شخصيته بل يستطرد فى الكثير من الأوصاف التى كما تنبئ عن المظهر الخارجى تدلل أيضاً على التكوينات النفسية والوجدانية والعقلية، فيقول عن شحيبر "يحلو له التكلم بلكنة أجنبية، وبعبارات مصكوكة مليئة بالشعارات الرنانة، وفى لهجتنه استنكار دائم واستعلاء بارز، الكلمة تنعجن فى حلقه وتنبطش. فتخرج من فمة مبططة ممطوطة لها ذيل يرن رنيناً أجوف كصوت غطيان الحلل، صوته عريض منطلق يحتوى فى أعماقه نبرة نوبية حادة الرنين"(5).
ويكمل الروائى التشكيل الفنى لتجسيده لكل شخصية، وتستمر لمسات الفرشاة فى التحرك لترصد الخارج والداخل معاً، ولتبعث فى الظلال الخارجية بعض انعطافات ومكنونات الداخل فيهيئ المبدع لشخصيته ما يستكمل تكوينها عن طريق الرتوش والمفردات التى تنبئ عن داخلها، يقول عن ذات الشخصية بعد سرده لأحد المشاهد التى تحوى حيوية حركية متفجرة وكاشفة بين الشخصية ومجموعة من الصحفيين الفلسطينيين الذين استبان لهم زيف ادعاءاته "كأنه هو الآخر ومن قبلهم. قد اكتشف شخصية هذا المدعى النصاب الذى فيه"(6)، هذا بعد أن أورد الروائى عدداً من الفقرات المطولة التى ذكر فيها الملامح العامة والأساسية فى تاريخ الشخصية مثل كذبه بخصوص انتمائه العائلى، وقصص انتسابه المتعددة، عمله الصحافى المطبوع الماهر، ثقافته الفرنسية، خوائه من محتوى جاد، ملابسه،تنقلات سكنه المتعددة وهكذا.
وأتصور أن الروائى يفترض لرسم شخوصه ما يشبه الدائرة المقسمة إلى أربعة أجزاء:
1- المظهر الخارجى من ملامح عامة وتقاطيع، ويتضمن أيضاً اختيار الملابس.
2- التكوين النفسى أو ما فطر فى الشخصية من صفات، وما اكتسبته من خبرات.
3- البيئة المحيطة بالشخصية: النسب والمنشأ والعمل والثقافة.
4- التحولات التى قد تطرأ على بعض الشخوص وتطور حياتهم.
وحين يحدد المبدع تلك الأجزاء ويحرص على وضع خطوطه الرئيسية وظلالها بكل جزء تكتسب شخوصه هذه الحياة الدافقة التى أشرت إليها، تكتسب حيوية أن تتجسد أمام القارئ وتشاركه الحياة، حتى يستشعر فى بعض الأحيان أنه يستطيع تلمسها، كما أن رسم "خيرى شلبى" للشخوص بالكلمات يتجاوز دائماً اللوح التشكيلية المرسومة بالألوان، فهو يصنع بالمفردات الحركة والحيوية التى تعجز عن الوصول إليها اللوحة مهما وصلت درجة إبداعها" ولنا أن نلاحظ وصفه السابق لصوت سليم شحيبر.
ولقد اخترت نصى موال "البيات والنوم" و"إسطاسية" نموذجين للتطبيق فهما تمثلان بيئتان وعالمين متبايننن تماماً، فى الأول تمثل نماذج الشخوص عوالم المدينة بكل تمايزاتها وتعقيداتها وطبيعتها الانفتاحية والثقافية والاجتماعية المنطلقة، والثانى ممثلاً لعالم الريف المصرى. صاحب الطبيعة الخاصة فى التشابكات العائلية والعقائدية والتكوينات الاجتماعية.
وفى العالمين يمسك خيرى شلبى فى قبضة قلمه أدق تفاصيل وخصائص كل عالم على حدة، بل ويدرك من خلال خبرات حياتية واسعة، وانتمائه لجذور ريفية انغمس بها بالفعل، الخصائص التى تميز كل عالم يقول عندما يستنطق عتمان الوقيع "أهكذا يا إسطاسية"؟!. نسيت أننى أنقذت إبنك محفوظ من الغرق حينما وقع منك فى هويس ترعة المشروع وأنت قاعدة على الموردة فوق الدرجة الغاطسة فى الماء تغسلين حبوب الغلة نقلة بعد نقلة بالقفة..)(7) فتلك طبيعة مكانية لا يمكن أن يدرك مفرداتها إلا من عايشها، وتأمل تكوينها ورصد ما يميزها من خصوصية تهبها كينونيتها المنفردة.
أو قوله يصف "عابد البوادى" "طول بعرض برقبة طويلة ملغدة"(8) ويصف شخصيته بقول" ثلاثة أرباع شخصيته هواء مضغوط كعجلات السيارة، نفضه كدابة"(9).
تعير الفرشاة كلمات ومفردات خيرى شلبى حساسية ألوان كل بيئة، ومحيط تأثيرها فى الشخوص، وتطبع كل محيط بزخمه ونخاع تأثيره الطبيعى.
وتتنوع طرق الرسم بالكلمات للنماذج البشرية فى كتابات خيرى شلبى الروائية فهو حيناً ينهج طريقة البورترية "الكلاسيكى" أى الذى يحاكى فيه الشخوص بطريقة طبيعية تنحو تجاه الواقع الخارجى، وتسجل لانطباعاته أو انطباعات الشخصية التى تسرد العمل الروائى، ويتعامل معها واصفاً أبعادها الجسدية وملامحها التى تميزها دون الخوض فى الذات الداخلية ودون التعبير عن رؤية المؤلف الخاصة لتلك الشخصية ويحدث ذلك غالباً فى تعامله مع الشخصيات الثانوية، ثم يتسع ويتعمق فحوى البورتريه المرسوم لكل شخصية، فيتجاوز الانطباعات التى تحاكى الخارج إلى الداخل الإنسانى فى تعبيرية معنية، تنحت وتيراً فى النفس البشرية لتتبين مكنوناتها كأن يقول عن عاطف سنبل ".. فى عينيه بريق يشبه جدية النبلاء، ويقرب من توعد قطاع الطرق، رفيع الشفتين "طويل الأنف" بارز الخدين، تنكمش شفتاه من الجنب على بسمة فيها قليل من الخبث وكثير من الشقاوة"(10).
يحشد الروائى كثيراً من الأوصاف والرتوش من خلال الانطباعات المكثفة والغوص فى الأحوال الوجدانية للشخصيات، وله قدرة التقاط سريعاً فبداخله ما يشبه جهاز الرادار الفنى الذى يلتقط ما يميز الشخوص، ويبين دورهم فى منظومة فنية أكبر، يعالجها كل عمل من أعماله فى تنوع فكرى ووجدانى متسع.
وفى طبيعة سردية تلقائية فى بعض الفقرات من العمل تشعر أن هناك لوحات سريالية لبعض الشخوص، ذلك حين يستطرد الروائى فى الأوصاف بطريقة آلية تحاول تفادى السيطرة الواعية والاستقصاء، بل تحاول المزج بين عناصر متباعدة فى المشهد الواحد ويحدث هذا كثيراً، خاصة حينما تتصاعد الأدخنة الزرقاء فوق سطور النص، ويصبح المناخ شبه وهمى، أو يدخل السارد فى منطقة الحلم فنجده يقول "رحت أنفر من ذلك الوجه الذى يواجهنى فى المرأة، يكاد يطعننى بسكين مع كل رمشة عين، بملامح ملتوية مشحونة بالكآبة والقرف وكانت ذقنه نابتة كثيفة الشعر، تخترقها شرائط من البياض ولطع من الشقرة واللون الرمادى، شعرت بذقنى تأكلنى.."(11).
ولدى الكاتب فى بعض مواضع من السرد انقلاب على مفاهيم الواقع، والهروب من السائد والالتفاف حول الفكر أو الإدراك العقلانى فيتجاوز البصر والعلاقات المنطقية إلى دمج استبصارات اللاشعور والأحلام والقدرات الإنسانية المكبوتة تحت الوعى العقلى، فيرسلها عبر حالات مقصودة من التغييب الذهنى المتعمد. ولذا كثيرا ما تبدأ عباراته بعدد من المفردات التى توحى بالاحتمالية وعدم اليقين، كأن يقول "أننى ربما جئت إلى هنا، أو قوله أغلب اليقين أنه، وفى ظنى، وهكذا.
وللروائى حسه التراجيدى الساخر فينحو فى تعامله مع بعض الشخوص إلى تصويره من منحى كاريكاتيرى مثل أن يقول عن الشاعر عثمان الأسوانى ".. الشعر سليقته العظمى، مطيته فى قلبه غيطان القوافى، فى صدره إيقاعات الإبل مع هدير القطارات والبواخر وأزيز الطائرات، فى جوانحه براكين الغضب: أخضع، أركع، أولى بك أن تخضع، انظر قدامك خلفك فوقك من تحتك مدفع، لا ترفع رأسك لا ترفع، يقطع". بعد أن يصفه قائلاً "المتسربل بثوب فضفاض رث وعلى كتفيه بطانية قديمة هى فرشه وغطاؤه، فى أى مكان فى آية لحظة يدركه النوم يفرش وينام(12).
أو وصفه لفهمى عزيز ونازك خطيبته بقول "من يراهما لا بد أن يلفته منظر وجهيهما المتجاورين كأنهما الكرة الأرضية المستخدمة كوسيلة إيضاح فى المدارس، بجانبين أحدهما مظلم والآخر مشرق.. فى الجانب المظلم فتجد وجهاً مبططاً أصفراوى الملامح كوجه قطاع الطرق، متورم القسمات بفعل كبرياء مصطنع، وثقة بالنسفس سميكة صلبة، لم تفلح فى إخفاء ما فى أعماق نفسيته من انسحاق دفين وشعور بالوضاعة لعله وافد من جهة أمة"(13).
(3)
يجسد خيرى شلبى الأفكار المجردة المتعالية، تلك التى لا تشكل كيانات ملموسة، أو ذات أبعاد تجسيدية، له أن يخلق لها هيكلاً عظيماً ثم تباعاً ينسج لها خلاياها العضلية ويدفع بها الدماء من خلال التراجيديا التجسيدية فيتضح فيها الصراع، مثل أن يؤسطر فكرة العدل، ويخلق لها شخصية ورقية مثل شخصية "إسطاسية" ويهيئ لتشكيلها كل عناصر التجسيد ليجعلها حاملاً وطالباً للعدل الإلهى والبشرى على السواء(14)، كما يصنع لها جذوراً تاريخية فيضفرها ويجدلها مع الأساطير التى باتت تسكن وجداننا وتشكله فيمتد بشخوصه إلى أعماق أسطورة إيزيس وأوزوريس التاريخية ويغازل الامتدادات الزمنية فى حركية إبداعية لأكثر المعانى المجردة هلامية ويضعها فى صورة بشرية تجسيده وفى منطقة بين الواقع والأسطورة.
ويعالج نص "موال البيات والنوم" فكرة المأوى، افتقاد الشعور بالأمان والراحة والسكينة، الرغبة فى انقضاء البهمة أو السواد والليل، كشف المعتم والمجهول إرادة شخصية أن تكون وهى بلا مقومات سوى الموهبة، يصطلى خيرى شلبى بكل تلك المعانى ويجسدها من خلال جميع عناصر الوجود فى المدينة الواسعة، الرحيمة أحياناً والقاسية دائماً، المدينة هنا هى العالم، الحياة أو الوجود بما يحويه من مجهول بالنسبة للإنسان الفرد، لغز الموت أو نهاية المصير فى الحياة.
تتكاتف الشوارع والطرق والمقاهى وعتبات السلالم، مع الصقيع والبرد والرياح والمطر والسحب(15)، مع الحقائب وعربات القطارات، مع البشر جميلهم وقبيحهم؛ ليشكَّل كل هذا تكوينات نابضة ورتوش فعالة متصارعة ومتداخلة، لتخلق هذا الضياع والتيه وتعبر عنه فى كيانات ملموسة يجسدها المبدع ويمزج بينها فى سيمفونية متفاوتة الإيقاع، وتتبدى قدرته فى توزيع الأدوار بحنكة على كل عنصر لتحاكى كثير من المأساة الإنسانية الحقيقية فى قضية وجوده على هذا الكوكب، وفى أبسط الصور التلقائية النافذة إلى الوجدان، النوم فى المراحيض وبداخل الحقيبة والضياع فى الشوارع، أهى عبقرية البؤس أم عبقرية كما يذكر(16).
لكننى تساءلت مراراً وأنا أقرأ وصف الروائى لشخصية فؤاد فى "موال البيات والنوم" وا الداعى لعدد من المشاهد التى ينحو فيها الكاتب للمذهب الطبيعى الواقعى فيركز على مشاهد الإخراج البشرى والروائح العفنة من الجوارب والأحذية وغيرها(17) فيفرد لها فقرات كاملة، ربما تخدم تصويره لمعاناة البطل، لكننى أرى بها بعض التزايدات التى تكررت فى أكثر من موضع.


(4)
تنمحى الملامح الخارجية فى المنحى السريالى لدى خيرى شلبى فى رسمه لبعض شخوصه تماماً ليشكله وجدانياً من خلال صراعاته وعذاباته وهمومه وطموحاته وأحلامه التى تجابه بإخفاقاته ومصيبته فى عائلته، فهو حين يصور شخصيته الرئيسية فى رواية إسطاسية لا يذكر له ملامح خارجية إلا نادراً وهو إذ يصنع ذلك يركز على الجانب التراجيدى الذى يهيكل العمل، ويوحى فى ذات الوقت بشخصية غير محددة وغير مؤثرة يحركها المحيطين بها أبوه وأمه وخاله وزوجته، ولم يحدد المؤلف "لحامد البراوى" هذا الجانب الجسدى لاعتبارات فنية تربط بين التشكيل الفنى ومضمون العمل فى فهم عميق لجوهر الفن(18).
(5)
فى رواية "موال البيات والنوم" ينقل إليك الروائى شعور أنك بإزاء تشكيلياً يصنع شخصوصه فى لوحة جدارية كبيرة، ينظم نسب وجود كل شخصية فى موضعها الحيوى المتحرك متى تمر وتتحرك فى خلفية المشهد الكلى – نص موال البيات والنوم كله – متى تسهم بدور فى حياة البطل الرئيسى، فى أية لحظة تتداعى على ذاكرته وتذكره بماذا فى الحياة؟ وحين تخط الفرشاة كل لون أو ظل ومع الانتهاء من محددات كل شخصية تبقى بؤرة الجدارية شاغرة، تشعر أن هناك نقصاً، نقصاً يريد أن يكتمل وتبدأ وفى بطء تتنامى خطوطه فى القص، لنجد أننا فى نهاية العمل قد تبينا ملامح البطل السارد الرئيسى "فؤاد" أو الروائى، أو ما بينهما ليس بإمكاننا تحديد ذلك، وتشعر أننا بإزاء قطعة جرانيت قد نحتت فى معاناة سنوات طويلة وعبر شخوص متعددة، وفوق شوارع وخطى لا متناهية. فحين يكتب خيرى شلبى الآخرين يكتب ذاته، وحين يرسم بفرشاته ملامحهم وتفاصيلهم فهو ضمناً يصوغ ملامحه، وتتحرك فرشاته الهوينا من خلال حركية ظلال الشخوص، وما تتركه من زحمة ووجود كثيف غير ملموس، ولذا لا نشعر فى العمل أن رسم البورتريهات لكل هؤلاء الشخصيات قد أثقل العمل أو حمَّله نتوءات تند عن جوهر وفحوى النص.
ينشئ الروائى ملامح ذاته من خلال الآخرين وذواتهم، وأجمل ما فيهم، وملاحظاته لجوانب النقص أو القبح بهم، هو وهم إفرازاً وشهادة على المجتمع المصرى فى تلك الفترة الزمنية، كما أنهم جميعهم من صاغوا ملامح هذه الفترة من الثقافة المصرية، هو وهم قصة وجود وإرادة واختيارات متباينة فى الحياة.
(6)
تبقى ملاحظة تقنية أظنها ضرورية فى هذه الدراسة، فالكاتب فى "موال البيات والنوم" يقترب من منطقة قد تشبه السيرة الذاتية، ويبدو السرد فى منطقة ضبابية كأنه بين الحضور اليقظ أو الغياب الضبابى، بين سرد وقائع حقيقية تتداعى فى الذاكرة دون ترتيب زمنى أو مشاهد تعتمد على الأحلام أو تتأثر بكثافة دور مخذر الحشيش ووجوده فى حياة النص، ولا نسق سوى ما تستدعيه المواقف أو المشاهد والسارد، فيفتح الكاتب مشهداً ثم لا ينهيه بل يتركه غير مكتمل، ليحكى آخر قد يتعلق به مثل مشهد الحقيبة(19)، ثم يعود إليه ثانية بعد سرد يتعدى العشر صفحات أو أكثر، ثم يعود إليه مرة أخرى فيطرح جانباً من أبعاده ليتركه ثانية، ويحكى مواقف أخرى ثم يرجع إليه وهكذا، ومن خلال تقنيات السرد على هذا النحو تتعدد طوابق ومراحل بناء الشخصية الرئيسية كما ذكرت، وتظل منحوتة راسخة ككيانات الفراعنة الجراتينية التى تتحدى الأزمنة.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسطاسية أسطورة عدل موازية للروائي الكبير خيري شلبي
- الأنترنيت وأليات السرد في نص -في كل أسبوع يوم جمعة-للروائي إ ...
- التماهي بين الموجودات في أدب خيري شلبي
- الإنسان والفن..والوحوش
- البناء الروائي في -عاشق تراب الأرض-للروائي :أحمد الشيخ
- الحدود في الأسلام والمعاصرة
- أشياء برع فيها الأخوان المسلمون
- روضة... هندسة القاهرة
- الصمت الصاخب بالموسيقي في -تانجو وموال- للروائية -مي خالد-
- بعيدا عن إطلاق الرصاص..
- سُحقاَ للتبعية
- الفانتازيا الذهنية بين روايتين صانع المفاتيح وعالم المندل
- المرأة والقهر المضاعف
- الإله في كتاب النحات
- الإعاقة بين الواقعية والفانتازيا
- صانع المفاتيح...سارق نار الفانتازيا الذهنية
- فطر عنيد
- كن اختيارك
- قراءة نقدية لحفيدات شهرزاد
- كلنا صرعي هذا الضريح..


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...
- عبر -المنتدى-.. جمال سليمان مشتاق للدراما السورية ويكشف عمّا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - البورترية في النص الروائي عند خيري شلبي -موال البيات والنوم نموذجا-