أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - التماهي بين الموجودات في أدب خيري شلبي















المزيد.....



التماهي بين الموجودات في أدب خيري شلبي


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4210 - 2013 / 9 / 9 - 01:05
المحور: الادب والفن
    


تتجلى بإبداع "خيرى شلبى" ونصوصه السردية المتعددة ظاهرة ملفتة ومتواترة، قادرة على أن تشير إلى أبعاد وتأويلات متعددة، فالراصد لنصوصه يلحظ أن هناك تماهى بين الإنسان وظواهر الطبيعة، بين الإنسان والإنسان، بينه وبين الحيوانات، والأشياء، والقيم، والكون، والإله.
تترسب وحدة ما تجمع موجودات الحياة فى دلالات ذات مغزى صوفى فلسفى عميق، مغزى ينصهر فى السرد بتلقائية، لا يقف الكاتب عليه طويلاً قدر ما يومض سريعاً، ويهمس مهرولاً فى النصوص الروائية، لكنه يمر بالفقرات الحكائية وله وجود فعلى. هناك علاقات تواصلية تسرى بين الموجودات، وتوحى بطاقة فعالة تصنع كياناً كلياً، وجوداً ميتافيزيقياً يخلخل الكيانات المادية، ويتأبى على الحدود والقيود الذى يفرضها منطق الوضوح العقلى الساذج.
يلوَّح الكاتب بهذه الفكرة فى جل إبداعاته على محاور متعددة، ويستدرج قارئه بمكر وحيل فنية إلى عوالم الأساطير والسحر، والرؤى الصوفية المحكية بربابة قديمة وشجية، خطوة بعد أخرى، وفقرة تلو أخرى يخلَّق عوالم عجائبية طازجة تند عن آفة التكرار، كما يعبث بقوانين البشر ومحدودية الفصل بين الكائنات، ويشير إلى العلاقات غير المرئية فى الوجود.
على أصعدة متعددة تنفتح النصوص على علاقات عرفانية غير معقدة، لا تبدو ناتئة، أو دخيلة على جسد النص الإبداعى، كما تأخذ أشكالاً متنوعة مثل:
1- علاقة الإنسان بالظواهر الطبيعية، والكائنات.
2- علاقة الإنسان بالأشياء والقيم والمعانى.
3- علاقة الإنسان بالإنسان.
4- علاقة الإنسان بالإله.
أود أن أشير إلى أن هذه التقسيمات التى يصنعها البحث لا وجود لها فى النص الروائى على هذا النحو الفج، كما أن الرؤى الصوفية أو الفلسفية الكامنة بالنصوص، وتخاتل الروائى غير مقصودة لذاتها، ولا يشير إليها الكاتب بطريقة مباشرة، بل تتبدى فى بُنَى فنية إبداعية أخرى، تبدو فى النصوص وكأنها نهر خفى يترقرق تحت طبقات النص، وكأنه الزاد الجوفى الذى إن فتحنا له عيناً لتفجر بعوالم وجنان من الخضرة والنور عوالم تلهو بالمخيلة بين الممكن والمستحيل.
تحاول هذه الدراسة أن ترصد أشكال هذه العلاقات فى عدد من إبداعات الروائى "خيرى شلبى"، كما تبحث عن الباعث لهذه الرؤية فى جل نصوصه من مؤثرات ثقافية وخبرات حياتية وإنسانية مرت برحلة المبدع، وكيف وظف الروائى أدواته الفنية ليعبر عنها؟.
يقول "سيد أبو ستيت" أحد أطراف الصراع فى رواية "إسطاسية": "بنت المركوب نصبت خيمة عزاء دائم فرضته على البلاد كلها! ولا توجد قوة قادرة على إسكاتها وإخماد نارها!.. ماذا إذن لو كان ابنها هو سيدنا المسيح عيسى ابن مريم؟!.. ما يدهشنى أن بنت المركوب هذه خيبت ظنى وظن جميع الناس الذين استهزءوا بضآلة شأنها وظنوها خياطة هدوم على باب الله يعنى امرأة غلبانة لا تهش ولا تنش!.. الآن يتضح أنها جبروت! أنها القوة! أقوى من المصيبة! من الشرطة! من المحاكم!"(1).
يصف الروائى صوت إسطاسية يقول: "فإذا بصوت إسطاسية يصافح وجهى كزخة مطر مفاجئ سمج ولامع ومربك" صوت هذه الولية مثل الذرة ينشطر ويتفجر فتتصدع منه النقوش وتمتلئ بالشرخ فتصير آيلة للسقوط"(2).
يتوحد صوت إسطاسية مع الطاقة الكامنة فى الوجود، يسيطر إصرارها وإرادتها على قوى الوجود وتستنزل العقاب على قتلة ابنها.
فى "موال البيات والنوم" يصف الروائى ضياعه فى المدينة يقول: "كان الضجيج قد تلاشى تماماً من الوجود؛ لعلى أنا نفسى قد تلاشيت، تحولت إلى خاطرة محلقة تحت مظلة كبيرة من السحب الداكنة الغامضة.. كخيط من الدخان ينسلخ من الكتل الثقيلة ويصل موصولاً بها إلى ما لا نهاية. ها هى ذى تلتقطنى من الجانب الآخر، فيحتوينى حضن سحابة هابطة من عل"(3).
تتابع على الراوى علاقات متفاوتة مع ظواهر الطبيعة فى النص السابق، تتوافق مع شعوره الداخلى، وتتذبذب درجات خفوتها أو قوتها مع شعوره بالأمان مع العالم حوله.
فى مستهل روايته "الوتد" يقول خيرى شلبى: "كثيراً ما تمنى أبناء الدار موت "الحاجة تعلبة" مع ذلك ما تكاد تلم بها وعكة صغيرة حتى تنقلب الدار كلها كأنما القيامة على وشك أن تقوم. يجئ حلاق الصحة وينصرف عدداً من المرات، ويحضر القريب والبعيد من الأقارب والأصهار والمعارف، حتى لتصير الحارة كلها – وهى كلها بيوتنا – زريبة كبيرة تضيق بركائبهم التى يبدو عليها الحزن هى الأخرى، إذ تقف مدلية الآذان عازفة عن الطعام والنهيق. وتتحول الدار إلى مولد صغير.."(4).
تتأثر الأماكن بقاطنيها من البشر والحيوانات بمرض "الحاجة تعلبة"، وتسيطر حالة من الحزن على الوجود المحيط.
فى الامتداد التاريخى البعيد ومنذ الحضارة الفرعونية، لا يعرف الفلاح المصرى حدوداً فاصلة بينه وبين حيواناته، فهى مرسومة بجواره على جدارياته التسجيلية فى أبهى صورها.
يؤرخ "خيرى شلبى" لقصة حياة عباءة فى نصه "موت عباءة" ومن خلال هذا الرداء يصنع تأريخاً للتحولات القيمية، وضياع مفهوم العائلة وكبير القوم فى المجتمع المصرى الحديث فى القرن العشرين. يقول "الحاج عبد المطلب" كبير عائلة "حشلة" بعد أن استرد العباءة التى ورثها عن أبيه من أخيه "عبد الرشيد" الآن قد استرحت! ليس لأن العباءة عادت إلى مكانها لا! فالعباءة فى حد ذاتها لا قيمة لها بين الأشقاء! وهى الآن لم يصبح لها أى قيمة لأن أحداً لم يعد يحترمها! لم يعد يلبسها كبار القوم لأن الأقوام لم يعد لهم كبراء! لم يعد هناك أقوام أصلاً!!"(5).
تصبح العباءة فى النص حاملاً لكل التحولات التى حدثت لعائلة "حشلة" وأفرادها، وهى ليست جماداً أو شيئاً فى النص بل تبدو وكأنها عروس يوم زفافها، يصفها الروائى بقوله: ".. ومن بينها ذكريات تفصيله لهذه العباءة وكيف كانت قماشتها فرجة يلف صيتها البلد، وكيف كان عليَّة القوم يجيئون للدكان لفحص القماشة والتشوف على مثلها، وكيف دفع جدى ثمناً لحياكتها أربع كيلات من القمح ودفع البقشيش لإبنه هذا عنزة وذكرين من البط، وكيف لبسها جدى ولف بها البلد من أقصاها إلى أقصاها.. فبفضلها صار جدى كبيراً للعائلة بحق وحقيق حيث اكتمل المركز بالمظهر اللائق.."(6).
نحن لسنا بصدد شخصنة الأشياء وإضفاء صفات الإنسان عليها، قدر ما يريد الكاتب أن يبرز العلاقات الحميمة بين الأشياء والإنسان، ما تضفيه الأشياء على الأشخاص.
منذ زمن بعيد لاحظ الباحثون الغربيون والمستشرقون العلاقة الحميمة بين الفلاح المصرى والأرض، وسجلوا أنه يخرج من تلك الأرض التى يطؤها، فهو معجون بداخلها، وبالكاد يظهر على سطحها، فهو يجمع بين عنصرى الأرض وماء النيل، ورأوا أنه ليس هناك أى مكان يكون فيه الاتفاق بين الإنسان والأرض أوضح من ذلك(7).
تتطور تلك العلاقة الأزلية بين المصرى الفلاح والأرض لتشمل الموجودات الكونية جميعها فى وحدة كليه تتماهى فيها كل المخلوقات لتشير إلى منظومة وجودية واحدة، تتبادل فيها الموجودات الأدوار والوظائف دون تمييز أو عناء.
دعونا نسترجع معاً طابع التكوين والتنظيم المعمارى والبشرى للقرية المصرية، تلتف البيوت المتلاصقة التى تأتنس بعضها بالآخر فى رقعة أرضية واحدة، نادراً ما ينفصل المصرى ببيته وحيداً فى مزرعته، شأن الريف الأمريكى أو الأوروبى، مرفق بكل بيت حظيرة الحيوانات والطيور دون فاصل يذكر سوى جدار إن وجد، على أطراف الكتلة العمرانية والبشرية تقع مدافن القرية غير نائية، يسرى النهر بين المزارع والبيوت والبشر فى منظومة عشق ورضا بالأقدار، فى هذا النسيج الكلى المترابط يتفتح وعى "خيرى شلبى" بالعالم من حوله والوجود، ثم تنضم تدريجيا ألوان من الثقافات العربية الموروثة والغربية لتشكل تطوراً فكريا ثرياً يتكئ فيه على بعض المذاهب الفلسفية ورؤى بعض الفرق الصوفية.
ويتبدى هذا التطور فى حس صوفى أدبى فى منتج الروائى السردى، فى بوتقته الحكائية ترتبط التفاصيل الصغيرة بالكليات الكونية فى هارمونية شديدة التلاقى والانصهار.
يقدم المبدع فى رواياته فكراً عميقاً يرى الجوهر الواحد المتعدد فى الموجودات، فى أشكالها وبدائلها اللامتناهية، كما يبرز انصهار الحضارات المتعاقبة على المصرى البسيط فى سيمفونية أنتجتها خصوصيته الفرعونية، القبطية، الإسلامية، وخصوصية المكان بنهره الخالد وموقعه فى قلب العالم.
وكما تنادى الحياة على موجوداتها وكائناتها فى نصوص الكاتب ينادى الموت الموت أو الحياة الأخرى فى عقيدة المصرى، ففى مشهد النهاية فى نص "الوتد" بعد أن يطمئن الحاج "درويش" على كافة التجهيزات التى أعدت بعد مرض الموت لأمه "الحاجة تعلبة"، لم يعد يستطيع أن يستمر فى الحياة بدونها، كأن موتها ناداه وكأن العلاقات الروحية الخاصة التى كانت بينهما أبت الانفصال، وفى موقع البرزخ بين الحياة والموت يتلاقيان ثانية، ربما ليبدءا حياة أخرى، ويقول السارد: "فلما بدء فى تنفيذ كل ذلك أمامه عاد فدخل الدار فتحرك الموكب وراءه داخلاً. خلع "عمى درويش" حذاءه وتربع فوق المصطبة مستنداً على المساند الكبيرة العالية، واضعاً عصاه بجواره. ثم عاد فجلس متقرفصاً وشرد ببصره لبرهة طويلة، ثم أراح رأسه على كفه واندمج فى تفكير عميق، وطال استغراقه حتى سكت من حوله لإعطائه فرصة للنوم ساعة أو ساعتين يستعين بهما على ما قد ينتظره فى المساء من مساق لكن النوم طال، فاضطر الضيوف إلى الانصراف، واضطر "عمى عبد العزيز" لإيقاظه حتى يسلم عليهم، هزه برفق قائلاً: "يا حاج". ولم يكمل كلمته إذ سقط رأس "عمى درويش" على صدره. فمال عليه "عمى عبد العزيز" وتفحصه فوجد أن السر الإلهى قد صعد.."(8).
ولد خيرى شلبى فى 31 يناير عام 1938م، نبت من طين الأرض فى قرية "شباس عمير" مركز قلين محافظة كفر الشيخ، من أرض طيبة قديمة خصبتها لآلاف السنوات علاقة حميمية مع الإنسان وتنوع ثقافاته، أثقلتها الأساطير والمعتقدات والموروثات بزخم خاص وعبق تراثى شديد التميز، يصف خيرى شلبى فى مقدمته لرواية "بغلة العرش" ظروف كتابته لهذا النص فيقول: ".. يخيل لى أنها كتبت نفسها بنفسها، فإذا كنت قد وفقت فالفضل يرجع لقوة الأسطورة وتجذرها فى الواقع المصرى"(9)، ويشير الروائى هنا لتجذر الأسطورة فى تكوينه النفسى والثقافى.
بحث خيرى شلبى عن الحكمة المخزونة فى صدور البشر المهمشين أو العائشين فى الظل كما كان يطلق عليهم "يحيى حقى"، وكان بالفعل فى مقام العارف والمنغرز مع هؤلاء المهمشين كما يذكر د. جابر عصفور(10). يكتوى بحياة قاع المجتمع فى الريف والمدينة، ويعانى معاناته، حتى أصبح صوته ومنصفه وراصداً للمناطق الإنسانية الخصبة فيه.
توالت الأعمال التى تعاقبت على مراحل حياته من عامل تراحيل، إلى شيال، إلى بائع سريح، إلى نجار، وصبى ترزى، عامل فى صالة سينما أو فى استوديو، معد فى برامج الإذاعة، باحث، ناقد مسرحى، رئيس تحرير مجلة شعر، وغيرها من الوظائف.
عاش الكاتب وانغمس ببسطاء الناس المكتوين بالفقر، عرفهم وسمع أناتهم وخبر مواجعهم، لمس ثقافتهم وموروثهم وطبيعة عقلهم الجمعى سواء فى القرية المصرية وطبقاتها المتعددة بداية من المعدمة حتى علية القوم وأصحاب الأرض والتجارة، وفى المدينة عرف مناطقها الشعبية والعشوائية وجوانبها الخفية المجهولة، عايش عالم الحشاشين والصعاليك وأصحاب المهن المختلفة التى تندرج من الجزارين والسماكين والعمال ووصولا إلى طبقات المثقفين وعليَّة القوم.
كما قدم عوالم فاحشة الثراء ليس فقط عن المهمشين، بل كل أنواع البشر وطبقاتهم، فبمقدور خيرى شلبى أن يلتقط المهمش فى الذات الإنسانية بكل انتماءاتها الطبقية، وأنواع شخصياتها، يقول "حاتم حافظ" "إن تسكين العم خيرى شلبى فى خانة أدب المهمشين، قد ظلمه إلى حد كبير. لا لأنه لا يكتب عن المهمشين ولكن لأنه فى كتاباته عن المهمش قد تجاوز المفهوم المباشر لما هو مهمش وأطلقه فى مساحات أكثر رحابة، فهو لا يكتب عن المهمش فحسب، وإنما عن المهمش فى الذات البشرية، ما يبدو أنه مهمش تحت ثقل القشرة الخارجية السميكة فى بعض الأحيان والتى يحلو لنا مواجهة العالم بها، يستكشف العم خيرى هذا المهمش فإذا به هو الركن الركين فى الشخصية وما تهميشه إلا من قبيل عدم الوعى به أو رفضه فى جملة ما نرفضه من ملامح شخصياتنا، أو خوفاً من أن نكون صفحة مقروءة أو لقمة سائغة لدى بشر يعيشون كأنهم ليسوا بشراً"(11).
عبَّر خيرى شلبى عن "مخزون خبرات لا حدود لثرائها، متميزة بوفرة تجاربها الحسية، وترابطاتها الحيوية، ومرادفاتها الواقعية، وعلاقاتها العجائبية، وذاكرتها التى تجمع بين الخاص والعام، المأثور الفردى والميراث الجمعى، حيث المفرد الذى يعرف أسرار الجماعة، والجماعة التى لا تبخل بمعارفها المكنوزة على الفرد"(12).
كان تعدد العوالم التى خبرها الكاتب بين الهامش والمتن، والمشكَّلة من كافة الطبقات هى ما وضعت الحياة أمامه بكل وجوهها وأقنعتها، جعلته يدرك سريعاً غثها من سمينها.
ولقد كان التمازج بين المعيش والمبتدع هو سمة إبداع خيرى شلبى وتدفقه الروائى، "ذلك أن الرواية عنده، مثل الحياة، نهر صاخب، متدفق، يجب الإمساك بكل منابعه وتجلياته وعناصر طميه المخصبة، وتقديمها إلى القارئ بما هى عليه من زخم وفوضى، ليغطس فى خضمها ويغوص فى مجرى نهر الحياة، منقباً متأملاً، ساعياً إلى إيجاد موقع له وسط عالم الرواية المتشابك"(13). استمر خيرى شلبى طيلة حياته يشيد ثقافته ويبحث عن القيم الحقيقية التى تضفى معنى عميق لهذه الحياة البشرية.
"أظنه لم يكف عن التساؤل أبداً عن كينونة هذا المعنى، والتساؤل الأبدى هذا، هو الذى كان يدفعه دوماً للكتابة، فالكتابة كانت الاقتراحات المستمرة والمتطورة والموغلة فى الإجابات، وهذه الإجابات كانت تجر تساؤلات جديدة، إنه الباحث الأبدى عبر كل إبداعاته المتنوعة عن المعانى الجوهرية لحقيقة الإنسان"(14).
جذور رؤية التماهى لدى خيرى شلبى:
- 1 -
ساهمت العوالم والطبقات التى صورها الكاتب بنصوصه فى اتكائه على هذه الرؤية الفلسفية الصوفية وذهابه إليها، لقد كان معظم أبطال نصوصه من الطبقات الفقيرة والمعدمة من الريف المصرى، أو عوالم المهمشين والصعاليك فى المدينة، ولذا فمعظم شخوص رواياته تقع تحت طائلة الفقر والقهر والتهميش، وثقافة ذات طبيعة خاصة. لذا فهى فى حالة عوز دائم إلى قوى أخرى تستمد منها الصبر والعون والسند، تستمد منها الحلم فى أمل وحياة أخرى قد تنال فيها ما افتقدته فى واقعها، ومن أجل ذلك تخلَّق ثقافة هذه الفئات عوالما يتاح لها الامتداد فيها، تصبح قادرة على العيش فيها دون فقر ودون قهر أو تهميش، قد تجد هذه الفئات فى امتدادهم فى حيوات الموجودات الأخرى تعزية عما يلاقونه، يتصورون الحلم أو الأمل وقد تحقق فى هذه المعانى المجردة الميتافيزيقية، فى الأشياء، قد يتبدى فى الجماد أحياناً، أو حتى فى مجرد الحلم أو الفكرة الافتراضية، فى هذا العالم الذى تنمحى فيه هذه القيود الخانقة.
فى حياة الطبقات العليا والشخصيات التى بيدها السلطات والنفوذ والقوى المادية قد لا تتضح هذه الرؤى الصوفية والفلسفية التى تبحث فى الامتدادات والتلاقى بين موجودات العالم إلا نادراً، لأنهم قد يكتفون بذواتهم ويتشرنقون حولها.
فى نصه "لحس العتب" تصبح الترابيزة العجيبة هى الأثر الباقى من عهد العز والنغنغة أيام أن كانت للعائلة تجارة وأرضاً وصيتاً لا يبارى، تنتهى كل هذه المكانة ويتبقى فقط الترابيزة تلك التى توازى فى النص للعائلة الأهرامات وأبى الهول فى التاريخ المصرى القديم، يظل "عبد الودود زعلوك" محتفظاً بها، تذكره بالمجد العائلى القديم ،لا يستطيع أن يفرط فيها حتى لو من أجل دفع مصاريف علاج ولديه.
تظل المنضدة وكأنها شاهد عيان نابض يتحدث عما مضى، حتى وهى ترقب وترصد تغير وتحول الأيام، يقول السارد بعد تحطمها "وقفت أمام ذلك المنظر تأكلنى الحسرة. وجاءت أمى فوقفت بجانبى تبكى وتصف لى كيف انهار الجدار بسقفه فجأة، وكيف أن أبى قد هزمه الحادث وقطع قلبه أكثر من حزنه على موت أخى، ليس لوقوع الجدار بالطبع بل حزناً على الترابيزة التى لم يرض ببيعها لعلاجكما، والتى كان يعزها معزته لماضيه وماضى عائلته، والتى لم تكن لتذوب على مر الزمن لولا أنه – كما يقول – الحسد وقر الناس عليها"(15).
يقول السارد عنها: ".. إن تأملتها قليلاً تبينت أنها على شكل سباع كثيفة الشعر غليظة الأظافر، ظللنا لسنوات طويلة نتوهم إنها من الذهب، أما خشبها فنوع غريب جداً لم نعرف له اسماً، ولكن رائيها يتصور لأول وهلة أن عملية نقلها من مكانها يلزمها عشرة رجال على الأقل لكى يتمكنوا فقط من زحزحتها، وكم كان مبهجاً وطريفاً أن يحاول أحدهم اختبار ثقلها فإذا هو يفاجأ بأنها خفيفة كالنكتة البريئة"(16).
نلمح أيضاً فى المنظومة الوصفية لهذه المنضدة نفساً أسطورياً يشمل تشبيهاً بالحيوانات الكاسرة، ومعدن صنعها الذهبي، وثقلها حتى أن عشرة رجال لن يتمكنوا من زحزحتها، ثم يذيل الكاتب هذه التوصيفات بتشبيه مبدع حين يقرن بين خفتها والنكتة البريئة.
إن منطق التشبيه هنا يذهب بنا مباشرة إلى تلك العلاقات المتراسلة بين الأشياء فى ذهنية خيرى شلبى الصوفية التوجه، خفة مادة صنع المنضدة وتأثير النكتة البريئة.
هذا بالرغم من أن الترابيزة مع الوقت تحولت لما يشبه مخزناً مهملاً لكنه موجود، شاهداً، يتحدى الواقع الحالى ليقول كانت لنا أيام.
نحن هنا بإزاء إبراز العلاقات بين الأشياء الجمادات والمعانى الميتافيزيقية، تجسيد قيم وأفكار تحتل البشر، وتقيم لهم حوائط صد تمنع انهياراتهم المؤكدة نتيجة معطيات واقع لا يكفل الحياة الكريمة.
فيتماهى "عبد الودود زعلوك" فى افتراض تهكمى يعرضه عليه أصدقائه :"آه! إذن فقد جعلناك رئيساً للوزراء يا عبد الودود أفندى! فماذا أنت فاعل"، يقول السارد:
- "كان أبى قد تأهب بالفعل لاعتلاء كرسى الوزارة، واعتراه حماس مفاجئ اعتدل فى جلسته عدة مرات، وجعل ينصت لعبد الفتاح الزيات فى استعجال كأنه يستمع إلى بقية المرسوم.
- تعرفوا حاعمل إيه بعد ما بقيت رئيس وزارة؟!
- كنت ألم الشعب كله فى ميدان عابدين واهتف: تحيا الوزارة الزعلوكية! قولوا ورايا: تحيا الوزارة الزعلوكية!"(17).
حالة من انبعاث أمل افتراضى فى محيط من اليأس والفقر الشنيع الذى يأكل حياته وحياة أبنائه، هو فقط تماهى مع حلم مفترض، ولذا لم يعنه سوى نسبة الوزارة إلى الزعلوكية والهتافات لها، فهو باحث عن مجد زائل.
تتوحد الدنيا مع أحد أبطال نصوصه الذى يشكل نموذجاً للرجولة الحقيقية، لرب العائلة، يصف الراوى "الحاج درويش" فى رائعة "الوتد" يقول:
- "سحب عمى درويش جلبابه الكشمير الكحلى الغامق ذا الخطوط الرفيعة المبيضة قليلاً، فلبسه فوق الصديرى الشاهى، ثم لبس المركوب البنى بدون جورب، وسحب العباءة الجوخ المغسولة بماء زمزم، طرحها على كتفيه، ووضع طاقيته الصوف المستطيلة فوق رأسه، ثم تعمم فوقها بشال سمنى اللون، شديد النظافة قادم من الحجاز، وشبك كتينة الساعة فى عروة الصديرى، ووضع الساعة فى جيبها الصغير تحت الإبط، وسحب عصاه الشهيرة التى لا تفارقه، وتقدم خارجاً من قاعته، فكأن موكب الدنيا قد أذن بالتحرك، وما أن يقبل طيفه أو خياله نحو مصطبة الدار، حتى ينهض الجالسون واقفين، فيشير إليهم فيتفضلون بالسير خلفه إلى الخلاء حيث ينتظم خطواتهم إيقاع من المهابة، وهو موكب تعود أهل البلدة أن رأه أحدهم فى أى شارع استعد لرد التحية ودعا لهم بأن يوفقهم الله فى مشوارهم. حتى ولو لم يكن يعرف ما طبيعة المشوار"(18).
من الموروث الثقافى فى عقيدة المصرى والذى يبدو أنه يصعب عليه التخلص منه حتى لو تحرر تحرراً تاماً، تقديسه لمفهوم الأب أو كبير العائلة، ويتبدى ذلك فى صورة متضخمة فى المجتمع الريفى، كأن جموع الناس يتماهون فى هذا الكيان الكبير، الأب، الفرعون، الحاكم.
ويتبدى اهتمام الروائى بالتفاصيل ليس لعشقها لذاتها فقط، بل لعشقه للمنظومة التى تصنعها التفاصيل مع كافة العناصر الأخرى لموجودات كل مشهد أو حادثة ومفرداته ،كأنه باستمرار يصنع جدارية يركز فيها على كل مفردة وتفصيلة صغيرة، ثم يركز أيضاً على المفردة الأساسية وسط منظومة، ومن هنا يتبدى لديه هذه الاتصالات الخفية والظاهرة بين أشياء العالم وموجوداته وتفاصيله، كأنه يصور الطاقة الكامنة بين الأشياء وما يجمعها ويؤلفها فى نسيج واحد، أو ما نطلق عليه أحياناً الكيمياء التى تضم الكائنات فى اتساق متآلف، التفاصيل مع الكليات، كما تبدو التفاصيل فى الفقرة السابقة وكأنها تتوج هذا "الدرويش" وتهبه هذه المكانة، أيهما يبدأ وبأيهما ننتهى، الكيان الرئيسى بالمشهد أو تفاصيل المشهد، المؤكد أن الحدود تذوب والعلاقات بينهما تتواصل، ويتحد الأثر والوجود.
لقد كان الكاتب ذو الأصول الريفية أكثر انغماساً فى طين الأرض وثقافاتها الموروثة، أكثر حميمية مع شرائح الفلاحين فى القرى المصرية عن كتاب من ذوى الأصل الريفى صوروا عوالم القرية وطبقاتها مثل: "يوسف إدريس" و"عبد الرحمن الشرقاوى" و"عبد الحكيم قاسم" و"يوسف القعيد"، فهو قد عايش تفاصيل حياة القرية ومارسها دون وجود مسافة بينه وبين هذه الأعمال التى وصفها الروائيون دون أن يكونوا أداة التجربة ذاتها.
فالكاتب الذى يحكى عن هذه الفئات عادة ما يبتعد بمسافة، نعم يراها ويرصدها لكنه لا يتوغل فيها لدرجة المعايشة الحقيقية، دائماً ما يبتعد خطوة. لم يمتلك خيرى شلبى هذه الرفاهية، لقد كانت خطواته تغوص فى الطين، وحين شرع فى الكتابة أعاد فقط شحن ذاكرته شديدة الخصوبة؛ لتتدفق الحياة التى عاش إخفاقاتها وطموحاتها البسيطة.
انغماس الروائى بهذه الفئات من الفلاحين والبسطاء والمهمشين جعله أقرب إلى مصادر ثقافتهم الشعبية العميقة الروحانية، التى تتمثل أغلبها فى الحكى الشعبى بألوانه مثل السامر الريفى والحكواتى الذى يسرد السير الشعبية، وشاعر الربابة الذى يرتجل المواويل، ومنشدى الموالد، وبعض الكتب التراثية التى يقرأها المتعلمون منهم. تتسم هذه الثقافات عادة باستنادها على العاطفة أكثر من الموضوعية، بالروحانيات أكثر من العقلانية، فى نصه "وكالة عطية" يقارن البطل بين عالم القرية وعالم المدينة التى انتقل إليها، فيقول عن الريف "مجال البساطة وشباب العالم، لا زالت الآلهة فى الريف تنزل نحو الرجال، هناك نفكر أننا بشر نعيش أمراً ما، أما فى المدينة هناك أحداث هى أكثر ألف مرة مما فى الريف"(19).
كما انجذب "خيرى شلبى" إلى الطرق الصوفية المتعددة، وكان يرتحل معهم، يشاركهم احتفالاتهم وابتهالاتهم وأناشيدهم وموسيقاهم. التى أتذكر أننى قرأت له إحدى المقالات التى كان يكتبها بالأهرام يوضح فيها خصوصية هذه الموسيقى الصوفية الروحانية العرفانية، وتأثيرها فى كثير من التيارات الموسيقية المعاصرة، ويعدد كخبير موسيقى فذ مذاهبها وأنواعها.
إلمام الروائى بهذه المصادر الثقافية الشعبية المتوارثة أثر فى كتاباته بصور متعددة:
1- شكل رؤيته للحياة وطبيعة العلاقات بين موجوداتها وجعلها تصبح أكثر حقيقية وتوحداً وتلاقياً بين الكائنات لشيوع هذه الأفكار العرفانية فى تلك الثقافات، واقترابه أكثر من الأسطورة والمعارف الخرافية، التوحد مع قوى الطبيعة، اكتساب ثقافة دينية خاصة غير متشددة.
2- هذه الألوان الفنية الشعبية جعلت حكى خيرى شلبى أكثر سلاسة وأكثر قرباً من الذوق المصرى الأصيل، كما جعلت لغته تتراوح بين اللهجة العامية والفصحى بطريقة سلسلة لا تكلف بها، بل تتسم بالتلقائية الشديدة، وأصبح له لغته الخاصة التى تنتسب إليه.
3- جعلت هذه الثقافة العرفانية المبدع يكتب الرواية بروح الرؤية الشاعرية يذكر د. جابر عصفور: "أنه أول من تنبه إلى الشاعرية فى أسلوبه، ونبهته إلى فقرات كاملة فى روايته البديعة "الأوباش" موزونة كأجمل ما يكون الشعر، واعترف لى أنه لم يقصد، بل خرج الشعر من شدة الانفعال، واعترف أنه بدا حياته شاعراً وكتب الشعر بالفصحى والعامية وكان مفتوناً بشكل خاص بأشعار "بيرم التونسى" و"فؤاد حداد" و"صلاح جاهين"، ويحفظ منها ما شاء الله ويمتلك ذاكرة فولاذية مخيفة جعلت منه مرجعاً حياً فى الشعر والغناء والموسيقى"(20).
- 2 -
تأثر خيرى شلبى بالتراث العربى القديم، وقرأ كل ما وقع تحت يديه منه، وتأثر بالشخصيات والأفكار المضيئة به، والتى تميزت بخصوصية التناول ومغايرتها للسائد، ولقد أفرد كتاباً بعنوان "أبو حيان التوحيدى ربيع الثقافة العربية"(21) وفيه يتناول خصوصية فكر "أبو حيان التوحيدى" وكونه فيلسوفاً للأدباء وأديباً لفلاسفة، وسبقه لتأسيس علم الجمال العربى، وكشفه وبحثه فى خفايا النفس البشرية وتعقيداتها ودهاليزها اللامنتهية، كما تكلم عن كونه فيلسوف التوحيد بمعنى فلسفى عميق للتوحيد يقترب من التنزيه عن كل الصفات التى يعيها الإنسان، كما تحدث عنه بوصفه مثقفاً ومفكراً كبيراً فرض عليه المجتمع فى العصر الرابع الهجرى أن يعيش على الكفاف، يتسول ما يقيم أوده؛ فيضطر أن يكون مسامراً أو مؤنساً "لابن سعدان" أحد وزراء القرن الرابع الهجرى، وهو أيضاً ما يتشابه فى أحد صوره مع حياة خيرى شلبى والمعاناة التى عاشها، وتقلبه بين الأعمال التى لا تتناسب مع ثقافته والتى كانت بالكاد تكفيه ذل السؤال.
إن اختيار الكاتب لهذه الشخصية الإشكالية فى التراث العربى تشير إلى اعتقادات وميول خيرى شلبى ذاتها واقتناعاته الفكرية، وتلاقيه مع كثير من أفكار هذا المفكر الكبير، تلاقيه مع رؤية التوحيدى للوجود، أبو حيان الذى نسج نسجاً خاصه به من الفلسفة والأدب والتصوف وعلوم العربية.
ينقل خيرى شلبى عن د. زكريا إبراهيم قوله "إننا قد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن أبا حيان التوحيدى هو أعظم مفكر إسلامى استطاع فى القرن الرابع الهجرى أن يحيل التراث الفلسفى إلى ثقافة نامية متطورة، وأن يقدم – فى مجال الفكر والمعرفة – ندوات ثقافية قد لا تقل روعة عن أقاصيص ألف ليلة وليلة"(22)، كأننا بإزاء ثقافة عميقة وخاصة استهوت الكاتب الروائى وتحمل رؤى تغاير ثقافة العامة تلتقى بها، وفى الوقت ذاته ترتقى بها، كما أنها تتخلق فى صورة أدبية مشوقة وميسرة على المتلقى.
لقد كان "هاجس خيرى" شلبى الملح هو السرد الفنى للحياة حالة كونها نامية ومتطورة، وفى حالة من الحيوية المستمرة، هذا الهاجس جعله يبحث دائماً عما يعضد رؤيته ويفتح لها آفاقاً متجددة، آفاق فلسفية أو صوفية أو موروثات شعبية فلكلورية قد تستند على الأساطير والملاحم التى ما برح الإنسان يشكل كياناتها بصور متشابهة فى كل الثقافات البشرية، وتتداخل كل هذه الجداول الثقافية لتغذى نهراً من التكلم والحكى والقص المسترسل العذب التلقائى.
وكما تتبدى رؤية وحدة المخلوقات وعناصر الخلق هذا فى مؤلفاته السردية، تبدى أيضاً فى وصفه للشخصيات التى أفرد لها كتباً ينير فيها جوانب من عطاءاتها الفكرية، وفى اختياره لفقرات وزوايا من أقوالها المأثورة وإضافاتها الفكرية الخاصة.
يشير الكاتب إلى رأى أبى حيان: "إنه من العبث أن نحاول وصف الذات الإلهية أو التعرف على حقيقة الجوهر الإلهى، وحسبنا أن نقول عن الله أن الكل باد عنه، وقائم به، وموجود له، وسائر إليه، وكيف لنا أن نعرف الخالق وأن نصفه سبحانه ونحن نعجز عن معرفة بعض المخلوقات أو وصف بعض الموجودات"(23).
كما ينقل فقرات من مؤلف التوحيدى العمدة فى التصوف الفلسفى "الإشارات الإلهية"، يقول فيه التوحيدى "طُلبت فلم توجد، ووُجدت فلم تعرف، وعُرفت فلم توصف، ووُصفت فلم تلحق، وشوُهدت فلم تدرك، وكيف لا تكون كذا وفوق كذا، ونحن لا نحيط ببعض خلقك على خوافى ما نظن فيه عن حكمتك، وبوادى ما ظهر علينا من قدرتك"(24).
ويشير الباحث إلى عمق التوحيد عند التوحيدى، وينقل عنه مفهوم توحيد الخاصة وليس العامة يقول ".. ولكن لأنه أحد وحدة، بل هو وحده واحد، لا على سبيل تنسيق العبارة على عادة أصحاب اللفظ، ولا على تعقيب يقتضيه ألف أكثر الخلق، بل على لحظ ذات لا شوب فيها، وتجريد آنية لا نعت لها، وإشارة إلى هوية لا عبارة عنها(25).
ويشير الكاتب إلى دعوة التوحيدى للإنسان لأن يعرف نفسه يقول: "يعتبر "التوحيدى أن من جهل نفسه فقد جهل كل شئ لأن الإنسان يرى الحياة والناس والأشياء من خلال نفسه. وكل شئ فى الحياة والكون متمثل فى نفسه. فإذا ما فهم الإنسان نفسه فقد فهم تركيبة الكون وأسرار الحياة"(26).
تستدعى هذه الفقرة التى تخيرها "الروائى" للتوحيدى فكرة بناء نص "اسطاسية" آخر إبداعاته الروائية، فهى تتمحور حول سيدة قبطية قتل ولدها غدراً، فتستمر تقييم شعائرها لتستنزل العقاب من السماء، وليتوحد الكون فى ألسنة النار التى تشعلها كل ليلة ويستجيب للطاقة الكامنة بها، فتنتصر إرادتها وتتجاوب معها الطبيعة والأقدار حتى ينزل العقاب على كل من تسببوا فى قتل ولدها.
يتلاقى خيرى شلبى مع التوحيدى فى كثير من رؤاهما لجوانب من الحياة البشرية، وأتصور أن لآراء أبى حيان أصداء ساهمت فى تشكيل رؤى "خيرى شلبى" الباحث عن سر الخلق فى مؤلفاته الروائية ونظراته للوجود، وأستطيع أن أجمل هذه التأثيرات فى:-
(1) لقد كان التوحيدى مبدعاً فى اختيار أصوله الفلسفية التى تناسب دوره فناناً، فلقد أجمل هذه القضايا دون تفصيل وأخذ نتائج الفلاسفة ظلالاً ومراجعاً لفكره ونصوصه، لا يفسرها، بل يوحى بها، ويستنير بنتائجها(27). وهو ما فعله "خيرى شلبى" مع اختلاف العصر ومواقع الإبداع، فخيرى شلبى روائى وقصاص وباحث فى النقد والمسرح، وهو ما لا ينطبق مع التوحيدى ومعطيات عصره، كما أن التوحيدى لم يكن بإمكانه الخروج عن الأنواع الأدبية النثرية التى كانت موجودة فى ذلك الوقت، ولم يكن بينها الرواية أو القصة، لكنه على سبيل المثال أبدع فن المسامرات فى الإمتاع والمؤانسة" وهو ما يقترب فى أحد الوجوه من القص والحكى.
(2) تميزت إبداعات التوحيدى حين تمثل المنهج والذوق الصوفى فى تناوله للعمل المبدع على أساس أنه الأقرب للرؤية الفنية، فانتقى من نظراتهم ما وافق شخصيته وأضفى على إبداعاته الانطلاقات الروحية، فجعلت كتاباته مسبحاً ذهنياً تصالحت فيه الأقطاب التى قد تبدو عند غيره من أدباء ومفكرين متنافرة، الفلسفة والتصوف والنقد والفن.
وهو ما يبرز فى كثير من أعمال خيرى شلبى ونصوصه الروائية، هناك دوماً رؤى تصوفيه فلسفية لا ترتبط بتصوف وفلسفة الآخرين ومذاهبهم التى تتحدد بسمات معينة ونسق متكامل، وقد تبدو متباينة فى مذاهب أخرى، لخيرى شلبى رؤى صوفية فلسفية خاصة به ، تتعلق بطبيعة العلائق بين موجودات الحياة، الله، الإنسان، الطبيعة بكافة ظواهرها من حيوان ونبات وبحار ورياح وجبال وغيرها من مفردات.. هناك تماهى بين الأشياء، وهى فلسفة تصوفية تتسق أكثر مع فن الرواية والقص، وخاضعة له لا تقصد لذاتها، لكنها تطل بوجهها بين ثنايا القص وفى فقرات تضفى على السرد أبعاداً إنسانية عميقة.
(3) لقد كان التوحيدى من الحداثة فى عصره والفطنة بحيث خبر النفس البشرية ودرسها بعناية ملاحظاً ومفسراً، واستطاع أن يوازن ويوفق بين متغيراتها، وطوابقها المتعددة، وتأتى له ذلك بلغة مرنة وصيغ جميلة لا تتسم بصرامة لغة البحث والدرس، كما أننا نستطيع أن نستدعى هذه الصورة الكاريكاتيرية التى رسمها بقلمه "لابن عماد" و"ابن العميد" فى كتابه الهوامل والشوامل(28) على سبيل المثال، وهو ما يقترب من فن البورتريه .
وهو الموروث الثقافى الذى أضاف إليه "خيرى شلبى" وبنى عليه مستفيداً من مستحدثات الأبحاث والعلوم النفسية والبشرية، كما أضاف إلى ذلك إلمامه بكل ما ترجم من الأعمال الفنية والنقدية والفكرية الأوروبية، كما أثرت كل هذه الحصيلة المعرفية، مع خبرة حياتية ثرية تتابعت عليه وتعايشت فيها كل أنواع النفوس البشرية بكافة طبقاتها واختلاف ثقافاتها، فوجدنا فناناً من الطراز الرفيع فى رسم شخصيات نصوصه الإبداعية الورقية، وكتبه التى خصصها لفن البورتريه ووصف النماذج البشرية الواقعية.
(4) استطاع التوحيدى أن يحول الشفاهى إلى كتابى(29) وهو ما صنعه بطلب من أحد أصدقاءه، فتحولت الجلسات التى كانت تعقد فى دار ابن سعدان إلى كتاب "الإمتاع والمؤانسة". والذى اعتمد فيه التوحيدى على ذاكرته، والتى تداخلت معها دون شك رؤاه واقتناعاته الخاصة، من خلال طرق السرد والصياغة والسياقات التى وضعت فيها القضايا.
استطاع "خيرى شلبى" أيضاً أن يحول بلاغة الحكى الشفاهى إلى كتابى وسردى ،وهى التى حولت كل الموروث والمعاش فى العقل الجمعى من موروث شعبى فى وعيه وذاكرته إلى أدب كتابى رفيع المستوى، ينضاف إلى خيرى شلبي أيضاً أن :"العكس صحيح بالقدر نفسه، فتدنى بالطرفين إلى حال من الاتحاد. حال يمكن معه أن يتحول الحكى الشفاهى إلى فن عصرى تماماً، والقص الكتابى إلى سرد عضوى، يستثمر الإمكانات الشفاهية للحكى على مستوى العلاقة بالقارئ والموروث الذى يجمعه بالكاتب"(30).
عرضت فقط لتلاقى بعض الرؤى فى فكر كل من المبدعين "التوحيدى" و"خيرى شلبى" وهو مجرد مثال لشخصيات وكتب متعددة فى التراث العربى القديم، شكلت وعى وثقافة وفكر الروائى وتحدث عنها الكاتب فى بعض مؤلفاته.
- 3 -
رؤية التماهي والفانتازيا فى أدب "خيرى شلبى":
يتحول الكلب إلى سارد فى رواية "الشطار"، وهو كلب مثقف له وجهات نظر ثاقبة فيمن يحيطون به من شخصيات، يقوم بسرد الأحداث والمشاهد والمواقف، ويحكى عن منظومة اختلال القيم والفساد الذى أصبح يسم المجتمع، تشمل رؤية المبدع للوجود وتراسل العلائق به، رؤيته للتقنية الفنية السردية فيستخدم "الحيوان رَّاوٍ رئيسى لنصه "الشطار"، ويذكر على لسان ساردة "أن جنس الكلاب تنحصر كل قدراته العقلية فى المعارف الوجدانية. إن ذاكرة الكلاب ليست فى رءوسهم بل فى قلوبهم، إنها ذاكرة وجدانية خالصة. ولذلك فإن الكلب منا لا يقطع صلته الإنسانية بأحد من البشر أبداً إلا إذا بادر البشر بإفقادنا هذه الذاكرة، لكننا مع ذلك نظل أرفع مستوى منه، وأعمق إنسانية، وأعرق حضارة، إذ أننا حتى إذا فعل بنا صاحبنا ذلك لا نزيد عليه غدراً أو تمزيقاً بل أننا قد نكتفى بأن ندير له ظهرنا وننطلق عنه إلى غير رجعة"(31).
أتصور أن استعانة "خيرى شلبى" ببعض الأفكار الفنية الفنتازية، أو ما يطلق عليه "الواقعية السحرية" بأبعادها العجائبية والأسطورية والسريالية(32)، لم يبتعد كثيراً عن إيمانه بوحدة الوجود والتماهى بين الموجودات، وأن الروح التى تسرى فى العالم روح واحدة، تتعدد أشكالها لكنها تنتمى إلى جوهر واحد، وتتراسل العلاقات فيما بينها، وتشعر كل منها بحياة الأخرى. فمفهوم الواقع عند "خيرى شلبى" كان أرحب وأكثر اتساعاً من الواقع العينى، ما يحدث أو ما يمكن أن يحدث، ما بحثت عنه عيناه خلف الوجود الظاهرى، "وإذا كانت الواقعية السحرية تقوم على التوازن الدقيق بين عنصرين هما الواقعى والخيالى من خلال تقنيات وأساليب حداثية متقدمة مثل تحويل العمل الروائى إلى رؤية قريبة من الرؤية الشعرية والتغلغل فى عمق الذات، والسيطرة على لغة تعكس هذا الامتزاج بين الواقعى والخيالى، وإثارة الدهشة وتنشيط القدرات الإبداعية عند القارئ، والتلاعب بعنصرى الزمان والمكان، فإن خيرى شلبى لديه وعى ناضج بهذه العناصر الفنية"(33).
ويعد "خيرى شلبى" من أوائل من كتبوا ما يسمى الآن "بالواقعية السحرية" ففى أدبه الروائى تتشخص المادة وتتحول إلى كائنات حية، تعيش وتخضع للتغيرات، وتؤثر وتتأثر، وتتحدث الأطيار والأشجار والحيوانات والحشرات، وكل ما يدب على الأرض، حيث يصل الواقع إلى مستوى الأسطورة، وتنزل الأسطورة إلى مستوى الواقع، ولكن القارئ يصدق ما يقرأ ويتفاعل معه"(34).
يعالج نص "موال البيات والنوم" فكرة المأوى، مكان للنوم ينبغى أن يجد فيه الإنسان الاستقرار والأمان، فى المدينة الكبيرة يفتقد الغريب القادم من الريف الشعور بالراحة والسكينة، تتملكه الرغبة فى انقضاء البهمة أو السواد والليل، كل ما هو مجهول وغامض، خاصة مع ضآلة بل انعدام السند المادى، غريب بلا مقومات سوى الموهبة، يبحث عن وجود وكيان، يصطلى "الروائى" بكل تلك المعانى ويجسدها من خلال جميع عناصر الوجود فى المدينة الواسعة، الرحيمة أحياناً والقاسية دائماً، المدينة هنا صورة من العالم، صورة من الحياة أو الوجود بما يحويه من مجهول بالنسبة للإنسان الفرد، لغز الوجود والشك فى جدواه الذى طالما شغل الإنسان منذ بداية الخليقة.
تتكاتف الشوارع والطرق والمقاهى وعتبات السلالم، مع الصقيع والبرد والرياح والمطر والقمر والسحب، مع الحقائب وعربات القطارات، مع البشر جميلهم وقبيحهم، طيبهم وخبيثهم ليشكل كل هذا تكوينات سريالية نابضة ومتداخلة، رتوشاً بفرشاة القلم تصنع عالماً تتصارع فيه الموجودات مع كيان إنسانى ضئيل فى اللحظة التى يحياها غريباً مشرداً لا يجد فيها سكناً، لكنه يحمل إرادة ورغبة فى وجود ينال فيه مكانته وتقدير البشر، كل ما يرجوه فى أكثر الأوقات مجرد مكان يحظى بالنوم الآمن فيه، يقول الراوى: "رأيتنى أتسلق سلماً حلزونياً رفيعاً ضيق الدرج، لست أذكر متى بدأت صعود هذا السلم، لست أعرف لامتداده نهاية؛ إذ كلما نظرت إلى أعلى جوبهت بشبكة جديدة من الأضلاع والخطوط والدوائر والكتل السوداء، تحاول أن تخطب ودّ قمر خائف، يترقب مذعوراً بين كتل من السحاب المظلم كغياب من الجهل والعنجهية، كأقدام ديكتاتور خرافى غشوم، قمر نذل جبان، وسلم ثعبانى رعديد، وقلب بائس مضطرب، تتصاعد دقاته من أسفل البئر إلى تخوم القمر، أغلب الظن أنه قلبى"(35).
تتبدى سريالية الوصف لعناصر المشهد وتتطبع عليه نفسية الراوى الذى يشعر أن عناصر الوجود المحيطة به من ظواهر طبيعية أو جمادات مادية كلها تتكاثف ضده لتصبح عناصر فاضحة له، وللمأوى الذى اضطر إلى النوم فيه. فكتل حديد السلم تحاول أن تخطب ود قمر خائف، يترقب مذعوراً بين كتل السحاب المظلم كقباب من الجهل العنجهية كأقدام ديكتاتور خرافى غشوم، إن توالى هذه التشبيهات لعناصر الطبيعة تفضح قلقاً وخوفاً هائلاً فى نفس الراوى ورفضاً لكل الأوضاع الحائرة التى تجعل مجتمعاً ينبذ أفراده إلى هذا الحد، ينسحب هذا الخوف من داخله ليبعث به إلى عناصر الطبيعية، فتصبح على هذا النحو، تشاركه معاناته، فهو محاط بالجهل والعنجهية وأقدام ديكتاتور خرافى غشوم، محاط بالرفض وعدم الاستيعاب والاحتضان، وتلك لغة وعلاقات شعرية سريالية تقيم نسب تكوينات حلمية خاصة بها للواقع مستعينة بالخيال.
اتسع مفهوم الواقع عند خيرى شلبى وكان أرحب وأكثر اتساعاً من الواقع العينى، بل تعدى الخيال الفنى المحدود إلى تصديق العلاقات بين مفردات الواقع، وبحثت قريحته ومخيلته ورؤاه عن منظومة الواقع وما ورائه، عن الحوار الكائن بين عناصر الوجود، بحثت عن المعنى خلف الأشياء، والأواصر التى تجمع بينها وتجعلها فى منظومة هارمونية تشمل الوجود جميعه.
يطل البعد الأسطورى فى المعالجات الفنتازية فى نصوص المبدع الروائية(36)، ففى رواية "إسطاسية" يجسد "خيرى شلبى" الأفكار المجردة المتعالية، تلك التى لا تشكل كيانات ملموسة، أو ذات أبعاد واقعية محسوسة، يستطيع أن يخلق لها هيكلاً عظمياً، ثم تباعاً مع تقدم السرد والحكايات الفرعية، ينسج لها خلاياها العضلية، ويدفع بها الدماء من خلال التراجيديا التجسيدية فيتضح فيها الصراع، مثل أن يؤسطر فكرة العدل، ويخلق لها شخصية واقعية ورقية مثل شخصية "إسطاسية"، ويهيئ لتشكيلها كل عناصر التجسيد ليجعلها حاملاً وطالباً للعدل الإلهى، وعدل القانون البشرى، بعد أن استدعت الأول للمثول بإرادتها وإصرارها على استحضاره.
كما يصنع لها جذوراً تاريخية فيضفرها ويجدلها مع الأساطير المصرية القديمة التى باتت تسكن وجداننا وتشكله، فيمتد بشخوصه إلى أعماق أسطورة "إيزيس وأوزوريس" ويغازل الامتدادات الزمنية السحيقة الأسطورية مع الواقع فى حركيَّة إبداعية لأكثر القيم المجردة تعاليا "العدل" ويضعها فى صورة بشرية تجسيدية، وفى منطقة بين الواقع والأسطورة يقول الروائى واصفاً "إسطاسية" وطقسها الجنائزى اليومى: "... أما الديكة فإنها أشد تعاطفاً مع إسطاسية، ما تكاد تسمع صوتها يستنزل اللعنات على من فجعها فى ابنها الوحيد حتى تجاوبها من أعمق أعماقها بصيحات ممطوطة كالزفير المثقل بهطيل الدمع.
يرتفع أوار النار، يعلو زئيرها وصريخها بشكل ينذر بخطر يحرق البلدان كلها. تتفرع ألسنة اللهب من وهج الاستغاثة وجلجلة التكبيرات المؤكدة بأن الصلاة خيرٌ من النوم. عندئذ تكون إسطاسية قد دخلت فى صلب النار، صارت لها عشرات الألسنة الحادة الملتهبة، وصارت هى قريبة من السماء، تتطاير منها العبارات الملتهبة المكلومة إلى الفضاء كذرات من المشاعر المنصهرة فى صدرها، صوراً من الوجع الشعورى الأليم، بمرارة الفقر والحرمان تقول: فيك يا من قتلت ولدى.
فى حالة من الروع والترقب تنكمش البلدان على نفسها طوال الساعات الأولى من كل يوم. يترقب الناس حركة الناس، يصيغون السمع لعواء الكلاب الذى يقال عنه إنه ارتياع من رؤية الكلب لعزرائيل قابض الأرواح. لقد بات الناس على يقين جازم بأن الله سبحانه وتعالى سوف يستجيب لدعوات إسطاسية ويهلك من فجعها فى وحيدها؛ سيما وأنها بعد إذ يئست من وجود العدل بين البشر تقدمت بمظلتها إلى باب السماء مكتوبة على ألسنة اللهب"(37). لا يعيد المبدع نسخ الأسطورة القديمة، بل يصنع أسطورته الخاصة ويستلهم المخزون العاطفى والنفسى للأسطورة الفرعونية.
ويبدو العالم الغرائبى والسريالى فى نصوص الروائى مرتبط بالواقع ومناطقه التى من المفترض أن تكون منعزلة وغير مأهولة بعالم الأحياء، فى نصه "نسف الأدمغة" تضيع الحدود وتتلاشى بين عالم البشر الأحياء والمناطق التى ينبغى أن يسكنونها، وبين عالم المقابر والأحواش المخصصة للموتى، بين عالم الإنسان وعوالم الجن والعفاريت والظواهر الغامضة.
يحكى أحد شخوص العمل عن قطعة من الرخام قائلاً "هذه الرخامة يا سعادة الأستاذ كان جدى الكبير أبو القاسم الأباصيرى يمسحها بطرف جلبابه كلما وقعت عينيه عليها فى الروحة والجيئة، الله يرحمه كان يعزها مثل عينيه، فما بالك بالراقد تحتها"(38) لنا أن نتمثل هذه العلاقات والأواصر بين أشياء الواقع فى كل عالم من العوالم التى يحكى عنها بين الأحياء والموتى، بين الإنسان والجماد "الرخامة"، بين الحفيد والجد وهكذا.
ويجعل "خيرى شلبى" أحد أبطال "نسف الأدمغة" يقيمون مكاناً يشبه بستاناً خصباً مزهراً ومثمراً فى عالم المقابر، حوش للموتى وبستاناً فى المنطقة المحيطة به، ويلعب فى تحولات الأماكن، ويدمج بين الموت والحياة، بل يذيب الحدود والفواصل بينهما، ويدخل العوالم الغرائبية المتخيلة والتى لا تبتعد عن واقع الشخوص بل تدخل فى تكوينهم الثقافى الجمعى لنسيج سرديته، يقول: "فالخفير "وهدان" عندما انزوى فى جدار متهدم ليفك حصرة البول أطلق صرخة رعب زلزلت المؤلف "أدهم فتحى" فسأله: مالك يا رجل؟ شفت عفريتاً؟! فرد عليه بأن العظم يدافع عن نفسه، يقصد أن الجماجم تتحدث ويسمع صوتها احتجاجاً على ما يجرى فى المقابر لشق الأوتوستراد"(39).
ويتصور "أدهم فتحى" شخصية المؤلف والصحفى فى الرواية أن "الكوبرا الفرعونية" السامة قد لدغته بالفعل، وأنه بعد ثوان معدودة سوف يخرج من الحياة وقد يدفن فى مطرحه، ولكن اتضح أن جمجمة هى التى التفت على قدميه، راح الخفير وهدان يفك عن الجمجمة جدائل الشعر، فقد كانت الجمجمة لسيدة لا تزال تحتفظ بجدائل شعرها الذى لا بد أنه كان واصلاً إلى أسفل ظهرها"(40).
يلاشى المصرى الفرعونى "خيرى شلبى" الحدود الفاصلة بين عالم الأموات والأحياء، بين عالم البشر والجن والعفاريت، بين الواقع والمتخيل، وتتماهى كل الحيوات لتتلاقى فى بعضها البعض، هكذا هى الحياة فى رؤية شديدة التراكم الثقافى وتنوعه، والتى هى حتماً قد أنتجت تميز نوعى وفنى، كما أتصور أن تشييد بستان فى منطقة المقابر ليحوطها، له دلالة التعايش المثير والغنى الذى يتعمد الكاتب أن يشير إليه، فهو بجوار الموت يستنبت حياة.
فى مواجهة فعلية مع ثنائية الحياة والموت اضطر خيرى شلبى لمقتضيات ظروفه الاقتصادية، ودخله المحدود، والانفجار السكانى الذى حدث بالقاهرة فى فترة السبعينيات أن يعيش بأحد الأحواش فى منطقة المقابر، يخالط هذه الفئات من البشر المهمشين ويمارس حياة من نوع خاص، تبتعد بقدر عن حياة المثقفين والأدباء المصريين، وتفرغ للقراءة والكتابة لأكثر من عشرين عاماً. كما شارك وأقام عالماً اقترب من المتع الشعبية التى يجعلها العامة بديلاً للواقع، وراقب كيف يزحف الكيف لكى يضرب بالعقول، وانشغل بالشخصيات التى تستمتع بالمخدرات والتى تبيعها، وبهذا العالم المملوء بالمتعة والخطر والفساد"(41) وهو ما برز فى عدد من أعماله، وأتصور أن مراقبته لهذه العوالم، أثرت تجربته الكتابية والذهنية.
ولعل هذه الطقوس التى تلعب مع العقل ودرجات وعيه وسلطنته من المناطق التى مارستها بعض الفرق الصوفية؛ للوصول إلى درجة من الوجد والتسامى والاتصال العرفانى.
فرض عليه هذا العالم البرزخى نوعاً من الرؤى الصوفية والفلسفية، وجعله أكثر تأملاً للحياة لا من موقع المفارق المتعالى بل من منطق المنغمس فى عوالم قاسية، حيوات متوترة وعارية بالفقر والعوز، بالجهل والخرافة، بالأساطير والحياة السفلية، بمناقشة كل ذلك داخل ذاته وبمرجعيات ثقافية متعددة، مرجعيات انفتحت على الثقافات القديمة الفرعونية والقبطية والتراثية العربى، كما مارست انفتاحاً نهماً على كل المنتج الغربى الأوروبى والأمريكى الذى ترجم من الأدب والنقد والأعمال الفكرية منذ بدايات القرن العشرين، ولقد كانت لخيرى شلبى ثقافة عريضة لم يحصلها من الكتب فقط بل تجاوز معرفة الورق إلى معرفة الأشخاص والأحداث فكان بذلك موسوعة متكاملة. كما أضاف له المكان أيضاً زخماً ووعياً تاريخياً فلقد سكن منطقة تضم مصر القديمة الإسلامية الفاطمية والمملوكية وتطل على القاهرة الحديثة بكل مستجداتها بعد التطوير.
فرض عليه هذا الوسط عيش بسيط لكنه ثرى وسط عشرات الغلابة الذين يعيشون على هامش الحياة والزمن، وكأنه حنين دفين لأيام "تدفئة القنافد" كما سماها بين عمال التراحيل.
يعارض الباحث "محمد الشافعى" مقولة النفرى "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، ويقر اتساع الرؤية والعبارة بعد عزلة كل من "جمال حمدان" و"خيرى شلبى"، يقول: "كلما نظرت إلى عالم جمال حمدان ألمح خيرى شلبى متجسداً فى هذا العالم "وجوداً مبدعاً وليس نمطاً مقلداً"(42).
أتذكر أنه بعد قراءاتى المتعددة لنصوص "خيرى شلبى" وإلمامى بجوانب من حياته وثقافته وجدته يقترن فى ذهنى ومخيلتى لا "بجمال حمدان" فقط كسيرة إبداعية اّثرت العزلة،بل بعنوان مؤلفه "شخصية مصر" ، وجدتنى أعود لمؤلف حمدان مرة أخرى ربما لأقول له: أن هناك نموذجاً واقعياً يتجسد فيه ولديه كل ما ذكرته عن المعطيات والسمات الخاصة بالنموذج البشرى الذى هو نتاج كل هذا التاريخ بتعاقب حضاراته وتلك الجغرافيا شديدة الخصوصية، يقول حمدان: "سواء من حيث الموضع أو الموقع، تحتل مصر مكاناً وسطياً: وسطياً بين خطوط الطول والعرض، وبين المناطق الطبيعية وأقاليم الإنتاج، وبين القارات والمحيطات، حتى بين الأجناس والسلالات والحضارات والثقافات وليس معنى هذا أننا أمة نصف، ولكننا أمة وسط: أمة متعددة الجوانب. متعددة الأبعاد والآفاق، مما يثرى الشخصية الإقليمية والتاريخية ويبرز عبقرية المكان فيها"(43).
ويقول أيضاً: "والحقيقة أن الاستمرارية المصرية لا تعنى التكرار Repetitive بقدر ما تعنى التراكمية Cumulative ولعل قوله "نيوبرى" أدنى إلى أن تعبر عن هذه الحقيقة: "مصر وثيقة من جلد الرق، الإنجيل فيها مكتوب فوق "هيرودوت"، وفوق ذلك القرآن، وخلف الجميع لا تزال الكتابة القديمة مقروءة جلية" إننا يمكن أن نضعها قاعدة عامة إنه إذا كانت جغرافية مصر تراكبية أساساً، فإن تاريخها تراكمى فى الدرجة الأولى، إذا كان ثمة استمرارية. واستمرارية لا شك هى فإنها معتدلة ونسبية"(44)، تبدو ثقافة "خيرى شلبى" المتنوعة والعميقة والمتعايش فيها هذا الكم التراكمى والنوعى على النحو الذى يصفه حمدان فى كل مؤلفه؛ ولذا تتجاور فيها النقائض والثنائيات ويجد بينها الكاتب العلاقات بفهم عميق للوجود.
يختار الروائى العيش فى المقابر، والسهر فى بعض هذه الأحواش فهو لم يتهيب من الموت، وأدرك أن لثنائية الحياة والموت أبعاداً صوفية وفلسفية لا تحمل فزعاً كما يراها كثير من البشر، كانت وحدة الوجود وتحولات صوره وراء عدم تهيبه من الشخصيات والأماكن التى تحتضن الموت والموتى، ولذا لم يجد غضاضة فى العيش فيها، بل ومارس جلسات السمر وسلطنة الأدمغة، واللهو والعمل والتأمل، والكثير من الأنشطة الأخرى التى تتركه فى حالة من الصفاء الروحى والنفسى مع ذاته والعالم من حوله، أو حالة من التغييب المؤقت الذي كان ينشده بوعي لتستمر فيما بعده الحياة .
وبرغم هذا المكون الثقافى الصوفى والأسطورى الذى يتسرب فى تضاعيف نصوص الروائى ويمثل وتداً أساسياً فى تكوينه المعرفى والإنسانى، إلا أنه برز مكون آخر أكثر حداثة فى اعتقاداته الفكرية، مكون لا يقل أهمية عن المكون السابق، بل وينتصر له الكاتب فى أعماله الروائية وأعماله الفكرية وما حققه منها.
ينتصر المبدع فى نهاية نص "إسطاسية" للقانون البشرى الذى ينبغى أن يحقق العدل بين البشر فى أى وطن حديث، فبرغم أن إرادة إسطاسية قد تغلبت واستطاعت أن توحد قوى الطبيعة معها لتنزل العدل الإلهى من السماء لتعاقب به قتلة ولدها، إلا أنها تلجأ "لحمزة" المحامى ليأخذ لها حقها العادل مستخدماً القانون الوضعى الذى ينظم حياة البشر(45).
وعلى مستوى أعماله الفكرية يعيد الكاتب والمحقق اكتشاف نص قرار الاتهام ضد طه حسين عام 1927م حول كتاب "فى الشعر الجاهلى"، ينشر هذا القرار ويصدره بمقدمة وافية يقول فيها بعد أن يؤكد على حرية الفكر: "ويهمنا أن نؤكد بأن أهم ما أسفرت عنه معركة الشعر الجاهلى هو انتصار الأسلوب العلمى وسيادته فى الدراسات الأدبية عموماً، وساد عدم التسليم بالحقائق الثابتة على علاتها، فكل شئ يجب أن يخضع لإعادة التقييم انطلاقاً من نقطة الشك فى صدق الأحكام السابقة أو حتى فى وجود الشئ ذاته، ساد مبدأ الانفتاح على الحياة، والحرية فى التفكير، وعدم خضوع الباحث لغير الروح التحليلية"(46).
- 4 -
خيرى شلبى عاشق الشخصية المصرية:
فى كتابه "عناقيد النور" تحت عنوان: الأسطورة يرسم خيرى شلبى بورتريه للزعيم الراحل سعد زغلول يقول فيه: "... فصاحب هذا الوجه النهر نيلى كان ولا يزال يشخص جدلاً حميمياً بين الواقع والأسطورة بصورة تؤدى إلى اللبس أحياناً؛ إذ متى تنتهى الأسطورة ليبدأ الواقع فى شخصية الزعيم خالد الذكر سعد زغلول؟!
إنه كواقع سياسى اجتماعى..
الأسطورة الحافلة بالخوارق والمعجزات الخرافية. ولكن الأسطورة كانت واقعاً مائلاً شاخصاً ممسوكاً باليد.
النظرة الأولى لوجه الزعيم سعد زغلول تستدعى إلى الذهن صورة لا شك أنها طافت بأخيلتنا جميعاً لابن آدم عقب نزوله إلى أديم أمه الأرض التى سوّته من طينها ونفخ الله فيها من روحه وكرمه على سائر المخلوقات. لا الطربوش ولا البذلة ولا المظهر الأريب بصرف النظر عن عراقة الوجه وقدمه وبداوته المفرطة"(47).
يتلخص فى هذا الرسم القلمى مجموعة من المحددات للدارس :"صاحب الوجه، نهر النيل القديم قدم الزمن، الواقع والأسطورة، الاندياح فيما بينهما، سعد زغلول، الخوارق والمعجزات الخرافية، الواقع المثالى السياسى والاجتماعى ممسوكاً باليد، النبى آدم "عليه السلام" أديم الأرض، نفخ من روح الله، قدم وبداوة الأرض المفرطة".
أين يبدأ محدد من هذه العناصر وأين ينتهى؟ جميعهم دون شك فى مخيلة وعقيدة صانع البورترية فى بوتقة تنصهر فيها تلك الموجودات وتتراسل العلائق، وتغيم الحدود وإن بقيت فهى حدود وهمية ربما فقد تبقى ردءاً لحالة من السيولة التامة.
يقول حاتم حافظ فى مقدمة عناقيد النور "البورتريه الأدبى عند خيرى شلبى صورة أدبية تستكشف جمالية الشخصية وهى فى طريقها لاستكشافها تعى أن للشخصية تاريخاً وأن الشخصية فى أثناء تدوير تاريخها إنما تخط جمالية خاصة بها، تنفرد بها وتتمايز"(48) أستطيع أيضاً أن أتوقع أن بداخل البورتريه تتألق عقيدة "خيرى شلبى" وتصنع نوعاً من التداخل بين شخصية البورتريه ومكونات الوجود من حولها فالأمر لا يقتصر على التاريخ والحضارات التى تعاقبت، وعلى ما يكوَّن الحضارات من معطيات ثقافية، لا يقتصر على الجغرافيا التى تسهم فى بناءات الشخوص وهيكلة مكون أساس من وجودها، قدر ما يسهم تفاعل كل هذا مع إرادة الإنسان الفرد لأن يصبح على نحو ما.
يقول "خيرى شلبى" عن الشخصية المصرية "ليست عرقاً.. إنما هى مكونات غذائية ونفسية ومناخية يصنعها نهر النيل الأفريقى صانع هذا المكان العبقرى المسمى بمصر"(49). ويحتفى الكاتب فى مؤلفه "أنس الحبايب" بشخصية مصرية عادية "الشيخ محمد زيدان عسر" ويصفه بأنه ذابت فى شخصيته العروق بين الأزهرى والأفندى المدنى والفلاح القرارى والحكواتى الفلكلورى، ويقول عنه رغم أنه كان كفيفاً: "إنها خصوبة المخيلة المتحررة من المشاغل البصرية، إنها كذلك قدرته الفائقة على الاستقبال والتفاعل، وقدرته الفائقة أيضاً علي الربط، على استكشاف الوشائج الخفية بين كل شاردة وواردة، حيث كل شاردة تصير واردة بتعديل بسيط فى السياقات المتناثرة(50).دائما ما يبحث الكاتب عن التفاعلات ،عن التمازج والانصهارات.
تحت عنوان: "النجم" ينحت "خيرى شلبى" بورتريه "ليوسف إدريس" يقول فيه: ".... عينان قويتان نفاذاتان، ضاحكتان، يتدفق منهما نهر من المرح، تحملك أمواجه المتجددة إلى العصور البدائية الأولى حيث تنضح نظرات العينين بكل ما يعتمل فى النفس من مشاعر؛ حيث نظرات العينين هى اللغة الحقيقية للتعامل مع الكون والبشر وكافة المخلوقات قبل اختراع اللغات الصوتية ،عينان كميدان التحرير وميدان طلعت حرب، فيهما زحام شديد بقدر ما فيهما من وضوح تام. تطل منهما حقول خضراء، مترامية الأطراف، يانعة الخضرة باسقة الأشجار، ترى فيهما داركم فى البلد"(51).
تظهر فى الفقرة السابقة بجانب المحددات التاريخية والثقافية التى تحدد طبيعة الشخصية وهى ما تراعى ذات الانضغام والتوحد بين الفرد الإنسانى وما حوله من أماكن، ترى المكونات الخاصة بالشخصية ذاتها، جمالياتها الشكلية فى حالة من التوحد والتأقلم مع الطبيعة، عين يوسف إدريس الخضراء، العميقة، النزقة، المرحة، مع طبيعة الريف المصرى الهادئ الأخضر القديم الذى يقبع فيه مستقراً دارنا فى البلد، مع تحاور زحام الحداثة وروح المكان المتشوف إلى الحاضر والمستقبل.
بقدر ما يركز شلبى على المشترك فى البورتريه قدر ما يبرز الخاص بكل شخصية، التميز الخاص والبصمة التى لا تماثل الآخرين، نحن بإزاء كاتب يحتفى بالخاص، ويضعه فى السياق العام من خلال إبراز العلاقات غير المرئية، غير المكرورة، علاقات تدعو إلى الدهشة والبكارة، هيئ لى أحياناً وأنا أقرأ "عناقيد النور" لخيرى شلبى أنه كان يحتفظ على مكتبه بجوار القلم بأزميل للنحت، وبريمة للحفر فى الزمن والصخر والتاريخ، ومبضع جراح مرهف اليدين والروح، وأدوات أخرى ناعمة كفرشاة ألوان، أو ناى حزين من أعواد الخيزران المصرى النابت على حافة النهر، ليصنع صوراً قلمية لشخصياته التى يقول عنهم أنهم :"روح مصر، نفسها الطويل، صمودها فى مواجهة التحديات، وهم شجر المقاومة يستظل به عموم الناس يتشربون أنفاسهم يستردون ما فقدوه من أمل فى عودة الأمور إلى وضعها المعدول، وهم صناع الوجدان وبنَّاءو ذاكرة الوطن ومشيدوا صروح مجده"(52).
فى إبداعات التشكيلى خيرى شلبى ورؤاه المنفتحة على العالم، لن تنغلق الشخصية المصرية على حدود رقعة الوطن، العرق المصرى الأصيل، بل تمتد بتأثيراتها وأصالتها ومواهبها الفذة إلى شخصيات غير مصرية الأصل مثل: "فيروز" و"جبران خليل جبران" و"جورجى زيدان" فيصوغ لكل شخصية رسوم وأوصاف من النور.
يقول الكاتب واصفا جبران :"فى العينين كتب ودواوين وأسفار: شعر ونثر وفلسفة وموسيقى وألوان وحدائق.. فيها بؤس واغتراب، وصبر أيوب، وجبال لبنان، وفخامة قبة الصخرة، وكبرياء الجامع الأموى، ورسوم مايكل أنجلو، وحكمة الشجر، وهيافة النخيل، وقلق البحر، ودهاء المحيط.
الفم الدقيق مطبق على سر غامض، منظره يوحى بأنه لم يعرف الكلام طول عمره، لم يعرف سوى القبل وهمسات الوجه الصوفى، والترانيم"(53).
تغير طقس الأجواء والمعطيات المصرية الخاصة فى البورتريه السابق، لكن بقيت مشتركات إنسانية وثقافية تضم القومية العربية، والحضارة الإنسانية وحضارة دول البحر الأبيض المتوسط، كما تبرز الخصوصية الفردية والإقليمية، ويستمر الكاتب يصف جبران، ثم تتغلب عليه روح السرد، فنجد قصاً جميلاً ومعبراً لمراحل من تاريخ حياة جبران فى لوحة فنية مدهشة.
- 5 -
الرؤية وفيضان الحكى:
كثيراً ما لاحظ النقاد على نصوص "خيرى شلبى" الروائية نزوعها إلى بناء فنى وقصصى متشابك، يطلقون عليه أحياناً الاستطراد، يقول "على الراعى" عن هذا الملح عند الكاتب "وهو سمة واضحة من سمات القص عند خيرى شلبى، ويؤدى هذا إلى تخلخل العمل شيئاً ما، وإن لم يضر بقيمته النهائية"(54).
ويطلق عليها د. جابر عصفور الكتابة المتدفقة يقول: "خيرى شلبى هذا الكيان المتفرد الذى تقرأه وكأنك تستمع إلى طريقته المذهلة فى الحكى" تقرأ أعماله وكأنك تسمع صوته، وهى مقدرة فذة لا يملكها إلا ذوو العزم من المبدعين"(55).
ويقول د. "حامد أبو أحمد" معلقاً على "هند سليمان" إحدى شخصيات نص "نسف الأدمغة"، ولها قصة طويلة تعرفها بالتدريج ونحن نقرأ هذه الرواية التى تمتلئ بالقصص الفرعية على طريقة "خيرى شلبى" فى الكتابة، فهو بطبعة حكاء متفوق فى هذا الجانب ينقلك من حكاية إلى حكاية فى إطار سردى واحد يشبه ما نراه فى "ألف ليلة وليلة" مع استخدام التقنيات المحدثة وتطبيق الأساليب الجديدة فى فن السرد"(56).
ويقول د. "حاتم حافظ" وهو بصدد التعليق على أحد فصول نص نعناع الجناين: "... وفى حالات كثيرة أخرى يبدو لنا وكأن لا سيطرة للراوى – وبالتالى للكاتب – على الحكى، وكأن السرد يسرد كيفما اتفق، لكن هذه الانقطاعات والانفراطات تساعد على خلق التشويق الذى يبرع فيه العم خيرى فيظل قابضاً على أنفاسنا حتى النهاية. ولعل هذه الانقطاعات أيضاً تمنحنا فرصة كى نعيد طرح التساؤلات التى سبق وأن طرحها علينا، بل ونعيد مساءلة المسؤول عنه، ويمكننا فى النهاية موافقة الراوى على أن التاريخ الذى يكتب بمعرفتنا أكثر روعة من ألف تاريخ موروث"(57).
أتصور أن القصص الفرعية بجانب القصة الأم فى نصوص الروائى هى امتداداً لرؤيته العميقة التى أتحدث عنها فى هذه الدراسة وهى ما تؤكد رؤيته للأواصر والعلاقات المتشابكة بين الأشياء والظواهر والبشر بعضها وبعض.
فى ظنى أن الانقطاعات والانفراطات المتعددة التى يتحدث عنها الناقد قد تجاوزت أهدافها المباشرة من تشويق، وإعادة طرح التساؤلات، ومنح الفرص، سوى لرؤية متسعة تشمل الوجود وعناصره وهى فى حالة من الحيوية ،تنبعث بينها العلاقات فى دورات حياتية لا تعترف بالفناء التام أو الحدود القاطعة بين ظواهر الحياة ومعانيها وقيمها.
أدرك الكاتب أن لا حدثاً متوحداُ عارياً، وأن المحصلة النهائية لأى شئ هى مجموع ما يحيط به من أشياء من خلال شبكة من العلاقات المتفاعلة الحيوية، ولذا اكتظت نصوصه بالحيوات الفرعية التى تطلب لذاتها، كما تغذى ما قد يبدو قلب النص، أو الحدث الرئيسى فيه، أو الشخصية المحورية.
فى نصه "موال البيات والنوم" تبدو شخصية الراوى فيه أقرب إلى شخصية الروائى ذاته، وأن معاناته مع المدينة وما يسكنها من بشر وقيم هى معاناة فترة قلقه من حياته، ولقد أقر هو لى بذلك فى أحد حواراتنا معاً حول النص، ذكر أن الشخصية تتماس معه إلى حد كبير.
لقد وجدت فى دراسة قمت بإعدادها بعنوان "البورتريه فى النص الروائى عند خيرى شلبى"(58) أن شخصية الراوى لا ترسم لها ملامح مباشرة، بل أن الروائى يبدو كتشكيلى يضع شخوص العمل فى لوحة جدارية كبيرة، ينظم نسب وجود كل شخصية فى موضعها الحيوى المتحرك، متى تبرز فى صدارة السرد وتفرد لها الفقرات، ومتى تختفى ثم تعود، بعد أن كانت فى خلفية المشهد الكلى لنص "موال البيات والنوم بكامله" متى تسهم بدور فى حياة البطل الرئيسى "الراوى"، فى أية لحظة تتداعى على ذاكرته، وفى أى موقف من الحياة؟.
وحين يخط القلم متدفقاً كل لون أو ظل، ومع الانتهاء من محددات كل شخصية وملامحها تبقى بؤرة الجدارية شاغرة وتشعر أن هناك نقصاً، أين البطل الراوى "فؤاد"؟ لا يكتمل الراوى إلا منحوتاً قسمة وملمحاً تلو آخر، عبر شخوص متعددة، ومعاناة سنين طوال، وفوق شوارع وخطى المشائين اللامتناهية.
فحين يكتب "خيرى شلبى" الآخرين يكتب ذاته أو الراوى فى هذا النص، وحين يرسم بفرشاته ملامحهم وتفاصيلهم فهو ضمناً يصوغ ملامحه، وهنا فقط تكتمل بؤرة الجدارية، هو أو الراوى من خلال الآخرين والأحداث.
يكتب المبدع البورتريه الفنى وتصبح له بصمته الخاصة التى تميزه عن أستاذه فى فن البورتريه "عبد العزيز البشرى"، فهو يبحث عن جمالية الشخصية وتاريخها وخصوصية تفاعلها التى تميزها، وهو عادة ما يتناول النماذج والشخصيات التى مرت بحياته وعرفها واقعاً أو قراءة، وربما يساءل "خيرى شلبى" ذاته فى أحد أوقات تأملاته ما هو الفرق بين الإنسان والمكان؟ ألا يمتلك المكان ملامحاً وروحاً، ألا يكتنز بين جنباته التاريخ بأحداثه وأساطيره؟ ألا يعبر معماره عن أحد جوانب شخصيته وتميزه فى الوجود؟ ألم يترك البشر فوقه بصماتهم، أو ترك هو بصماته عليهم؟.
ينتقل المبدع بين الإنسان والمكان ويكتب ما يبعث المكان للخلود ويصفه، يسجل خصوصيته الجغرافية وتاريخه، يحكى المكان منغمساً فى البشر، أو يقص عن البشر محملين بروح المكان، وهو ما صنعه فى وصفه للمقابر، وما تحمله من قصص وخبايا ونماذج بشرية، وما صنعه أيضاً فى وصفه لمنطقة "بطن البقرة" وتاريخها، ما استمر بحكيه عن قرى البرارى فى دلتا مصر الواقعة بين أحضان النهر، بين أحضان خيرى شلبى ووجداناته.
يقول "جابر عصفور" فى كتابه" زمن الرواية" عن كتابة "خيرى شلبى" "أنه يختص بمنطقة إبداعية تتحاور فيها الأنواع وتتآلف اللهجات، وتتقارب المتباعدات وتعثر المختلفات على ما يجمع بينها فى علاقات مفاجئة من القرب"(59).
قد أفسر الحكى المتشعب فى نصوص "خيرى شلبى" بأنه نوعاً من العشق للحياة، الحياة فى حالة من السيولة والاسترسال، فى حالة من الجاذبية والتى تبدو معها كل حادثة أو شخصية أو فكرة تستدعى قرينتها أو نقيضها أو ما يجاورها من كيانات، هناك مجال للجاذبية بين الموجودات يستشعره المبدع ويشير إليه فكراً وتقنية.
فهو ليس رفضاً للتكثيف أو الاختصار والاكتفاء بالتلميح قدر ما هو طاقة تنفذ إلى أعماق الظواهر والعلاقات فيما بينها، أتذكر أننى قرأت تندره مع الراحل الجميل "إبراهيم أصلان" وقوله له :"أعرض أنا الحياة وأشرحها، وعليك أنت أن تختصرها وتكثفها" ويظلا كلاهما عالمين من النور والجمال والفن أضاءا سماوات مصر، قد يبدو "خيرى شلبى" فى سردياته كالنهر الذى يفيض فيبعث الحياة فى كل الأنحاء فى المتن مع الهامش، وفى الهامش مع المتن.
التماهى واللغة:
- 5 -
تتميز دوال الروائى بالشفافية، تقدم وسطاً قادراً على النفاذ مباشرة إلى الدلالات، نسقاً من الكتابة يرسل هذه العلاقات بين الموجودات التى أشير إليها فى دلالات ثنائية متضامة واقعية عينية، وفى الوقت ذاته تحمل من التجريد والميتافيزيقا ما يدفعه فيها من طاقة روحية تشى بحال من التواصل والوحدة، ووسائله فى ذلك متعددة وتتضمن اختيار الدال النافذ، أساليب التشبيه والكناية، المجاز البسيط غير المتراكب، التوليف بين الفصحى والعامية.
إن تلك العفوية والحميمية التى تحكم علاقة "خيرى شلبى" بمفرداته تتضح على الدلالة مباشرة دون عناء كبير من الكاتب فى أن يتخير مفرداته أو يشذبها أو يجنب ما قد يبدو صادماً للذوق العام، إن اقتناص الدلالة هو شغله الشاغل، اقتناص الدلالة الصوفية والتجريدية المضفورة بالحدث الواقعى، يقول فى نصه "موت عباءة" واصفاً الخياط الذى حاكها: "ما زال حياً يرزق وإن طعن فى السن، يتوكأ على ذكريات عزيزة لا يفى يطلق بخورها فى دكانه الذى يشغله الآن ابنه"(60).
تبدو العباءة فى نص "موت عباءة" رمزاً ومعادلاً موضوعياً لطبقة الملاك من الفلاحين فى الريف المصرى، طبقة برجوازية محافظة استلت لذاتها مكانة وكانت تصطنع مظاهر محددة لترسم ملامح الأبهة والتميز "فذوى العباءات مقدمين على غيرهم فى الدخول وفى الجلوس وفى ترتيب الموائد والمحافل. فإن هم تحدثوا أعطيت لهم الأذان باحترام شديد بغض النظر عن غثاثة أو قيمة ما يخرج من أفواههم"(61).بجانب الكنايات المعبرة تتضافر أساليب التشبيه مع المجاز لتجسيد علاقات تماهي الموجودات .
يقول الراوى فى نص "نسف الأدمغة": "فجأة ارتجَّ الهواء، كأن جموده تشقق من هزة كونية عاتية، هبت ريح عمودية – كأنما بدقة هندسية – من مسقط هوائى غير مرئى لتنزل هابطة بعنف فوق الرديم الطازج فوق فتحة المقبرة التى كانت مفتوحة عصر اليوم فى استقبال جتة جديدة؛ كانت ريحاً ذات مخالب كمحارث البلدوزر تنغرس فى الرديم الناعم الطرى صانعة دوامة هوائية كالتى درجنا على تسميتها بفسية العفريت.. الدوامة الهوائية كانت مشمولة بصوت صرخة حادة مرتاعة كصوت فوق أسفلت الشوارع"(62).
يستمر القص ليفسر "عم وهدان هذا المشهد يقول: "الروح صعدت إلى باريها فى السماء فلم تجد لنفسها مكاناً فى الدفاتر المحسوبة بالمواعيد!.. ربنا سبحانه بصنعة لطافة قفل فى وجهها باب رحمته!.. نزلت الروح إلى الأرض تبحث عن جسدها فتجده دفن فى التراب فتحاول الحفر بكل جنون للوصول إليه كما شفت بعينيك فتفشل طبعاً.. تصعد إلى السماء فتعود إلى الأرض حائرة ذليلة إلى أن طردتها عن الأرض كلمة "الله أكبر" فى أذان الفجر!.. من يدرى؟ لعلها ذهبت إلى الجامع وسط المصلين تتوضأ وتصلى تائبة لعل الله يغفر لها ما فعلته بنفسها!".
كانت أى مقاطعة لعم وهدان أو مراجعة له فى أى شئ مما قال تعتبر فى نظرى فجاجة منقطعة النظير؛ سيما أن ما عبرت عنه مخيلته الفطرية كان تصوراً بديعاً حقاً لعالم تعجز عقولنا عن تصوره على الحقيقة"(63).
فى الفقرة السابقة تتبدى تلك العلاقات المتراسلة التى تتحكم بوعى وثقافة الإنسان المصرى البسيط الذى عبر عنه "خيرى شلبى" فى كثير من إبداعاته، والذى يعترف هو بقدرة هذا الإنسان على صنع تصورات بديعة عن العلاقات بين معانى العالم من حوله، كأنه يصنع ملاحمة وأساطيره الخاصة، ويؤلف فيها بين تعاليم الدين الذى يكن له كل الاحترام وبين موروثه القديم من الأساطير، وبين تصورات عقله الخاص ليباعد بينه وبين خوفه.
كما تتشكل مجموعة من أساليب التشبيه والمجاز فى الفقرة السابقة وكلها تدل على براعة الروائى فى صياغة المعانى الدقيقة متوسلاً بالمحسوسات لينقل عوالم ضبابية وغامضة، لكنه يوفق فى تجسيدها.
وتتراسل الفصحى مع اللهجة العامية المصرية بمستوياتها المتنوعة فى نصوص خيرى شلبى، ولا يجد القارئ نتوءاً صادماً فى هذه التكوينات التى يصنعها الكاتب إلا نادراً، خاصة لو كان المتلقى على دراية بطريقة الكاتب، وهى تكوينات تضم بجانب الفصحى مفردات عامية من المستوى المتدنى الذى يشيع على ألسنة الطبقات الدنيا، وأصحاب الحرف، ومصطلحاتهم ومفرداتهم التى لا تستخدم حتى فى العامية الشائعة المتداولة، كما ينقل الروائى مفردات اللهجة العامية للريف المصرى دون أدنى تشذيب.
إن حالة الاندغام والتضام والتجاذب التى يصنعها الروائى فيما بين العامية والفصحى ترسلنا مباشرة لمنطق رؤيته التى تعالجها هذه الدراسة.
تحتمل الكتابة كما الحياة هذه العلاقات المتبادلة ذهاباً وإياباً بين كافة الموجودات والأفكار والمعانى، بين الدول سواء كانت فصحى أو عامية، تذوب الكيانات الفاصلة بين مستويات اللغة من شدة العفوية والتلقائية، لا انتقاء كيفما يعن له السرد.
فى روايته الوتد يقول على لسان "الحاجة تعلبة" أمال بنت أم صفيحة ما جاتش ليه عشان تدعك لى رجلى.. تقول "سميحة".. لازم بتحنن البهايم.. أصل البهايم بتتعب فى الحليب الصبح.
هنا تكون مريم قد تقرفصت فوق الأرض فاشخة وركيها فى لا مبالاة أبيحت لها بحكم عمرها الطويل فى دار العكايشة.. زحفت بإليتيها فوق الأرض ممسكة بالمقشة المصنوعة من قحف الجريد.. ولسوف تجعل نهار الحاجة أسود إذا لم تمسك لسانها عنها"(64) يستطيع الروائى أن يقدم لغة الواقع كما هى، يدفعها كما يقولون (بعبلها) أى بكل الزخم والمخزون الإنسانى الذى طالما حمَّل فيها.
تتوه الحدود ما بين لغة الحوار باللهجة العامية الريفية، ولغة السرد التى تعتمد على الفصحى فى الوصف والقص، لكنها فصحى معبرة عن البيئة الريفية القح، وقد لا يقف القارئ ليميز الفرق بين مستوى اللغتين فكأنما يرسلا ظلالهما لبعضهما البعض فلا تستبين الفروق إلا لمدقق.
تأتى الدلالة، والتعبير عن الوسط والسياق الذى ينقله النص السردى أولوية أولى وثانية وعاشرة فى رؤية "خيرى شلبى" الإبداعية، كيفما تتبادر المفردة لتعبر عن المعنى الذى يريد أن ينقله يهئ لها سياقها اللغوى، فهو ينطلق دون قيد ولا يعنيه تنوع مستويات اللغة فى النص الواحد.
فى نصه "نسف الأدمغة" يقول المعلم "عيد التربى": "الحمد لله! رزقى واسع فى الأفيون والحشيش، تقول إن أمى دعت لى فى ليلة قدر بأن يغنينى الله بالكيف؟! رزق الهبل على المجانين صحيح! ناس من زملائنا الطربية يستخدمون المقابر والأحواش كمخازن لصالح التجار نظير مكسب كبير!.. هم يعرفون أننى أعرف وأطرمخ! يريدون شراء سكوتى! أو مجاملتى! المهم أننى كلما قابلت واحداً منهم غمزنى بهبرة!"... إنما قل لى يا عكروت!.. ما رأيك فى هذه النتاية التى حششت معكم منذ كام يوم عند الأسطى حسين قشدة؟.."(65).
تتحول أجواء اللغة والمفردات ومستويات الحوار والسرد مع اختلاف البيئة أو السياق المحكى عنه، يختلف مستوى لغة مجتمع الريف عن مجتمع المهمشين فى المدينة وخاصة أهل "الكيف"، لكن يظل التبادل بين الفصحى واللهجة العامية هى الأيديولوجية الحاكمة لسردية النص الروائى عند خيرى شلبى.
فى الفقرة السابقة وهو سرد يشبه حالة بينية بين المونالوج والديالوج يبوح فيه المعلم "عيد التربى" يستشعر القارئ أن اللغة بينية حائرة بين الفصحى والعامية لأنها بالفعل تحتوى على عناصر من مقومات وسمات كلٍ منهما، تتكون الجملة ذاتها من النسقين اللغويين، قد يبدو التركيب خاضع لمقتضيات الفصحى، لكن بعض المفردات هى مفردات مستخدمة فى العامية بلا شك مثل أطرمخ، هبرة، غمزنى، عكروت، النتاية، كما تحتوى الفقرة على الأمثلة الشعبية التى استهوت الكاتب ورأى فيها حكمة وتكثيف شعب عريق لكثير من تجارب الحياة.
تبدو حالة المزاوجة تلك فى مستويات اللغة ذات اتساق مع رؤى كثيرة فيما يختص بإبداعات خيرى شلبى. واتساقاً مع ذات الرؤية تتجاذب أساليبه اللغة التقريرية ولغة المجاز والتشبيه والكناية وما عداها من صور البديع المتباينة، لكن ما أود الإشارة إليه هو استخدام خيرى شلبى لأساليب التشبيه، يتعامل الروائى معاً بحنكة عارف ذى حيل مراوغة، خاصة وهو بصدد كتابته لفن البورتريه.
وعادة ما يوظف الروائى لعناصر التشبيه كثير من مفردات الواقع لينقل جو النص الخاص، وله عدساته الخاصة التى تلتقط الدقيق الذى لا تلمحه العين فى وهدة الاعتياد وثباته.

المصادر والمراجع:
* "ماهية الشئ" تعنى تحول كينونته، أو حالة من التمازج الناجزة ،ومصطلح التماهى يفسره البعض بالتقمص والتوحد، يتماهى أى يماثل غيره فى ماهيته أو يجانسه ويلائمه.
- والتماهى فى الفلسفة مفهوم يهدف إلى حل العلاقة بين الفكر والوجود.. بين الروح والطبيعة عن طريق الإقرار بالتماهى المطلق بينهما.
1- خيرى شلبى: إسطاسية، دار الشروق، ط1، القاهرة، 2010م، 83.
2- السابق: 124.
3- خيرى شلبى: موال البيات والنوم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009م، 39.
4- خيرى شلبى: الوتد، مهرجان القراءة للجميع، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2003م، 7.
5- خيرى شلبى: موت عباءة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000، 81.
6- السابق: 11.
7- أنظر مذكرات تيوفيل جوتيه فى كتاب "مدخل إلى الأدب العربى الحديث": أحمد درويش، ط1، 2008.
8- خيرى شلبى: الوتد، 47، 48.
9- خيرى شلبى: بغلة العرش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999، 5.
10- مجلة الإذاعة والتليفزيون: حوار أجراه أيمن الحكم مع د. جابر عصفور، ع3992، 11 سبتمبر، 2011، 86.
11- حاتم حافظ: نعناع الجناين، رواية تساءل التاريخ الموروث، مجلة الهلالة، ديسمبر 2010م 38.
12- جابر عصفور: زمن الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999، 370.
13- محمد برادة: سر ذلك الوهج، أدب ونقد، ع315، يناير 2012، القاهرة، 59، 60.
14- شعبان يوسف: خيرى شلبى فيلسوف الهامش، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2011م، 5.
15- خيرى شلبى: لحس العتب، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2005، 59.
16- السابق: 8.
17- السابق: 33، 34.
18- خيرى شلبى: الوتد، 30.
19- خيرى شلبى: وكالة عطية، دار الشروق، القاهرة، 35.
20- مجلة الإذاعة والتليفزيون: جابر عصفور "حوار"، 86.
21- خيرى شلبى: أبو حيان التوحيدى ربيع الثقافة العربية، مؤسسة العروبة للطباعة والنشر، ط1، 1990.
22- السابق: 31.
23- السابق: 35.
24- السابق: 32.
25- السابق: 35.
26- السابق: 42.
27- أمانى فؤاد: الإبداع الأدبي فى تراث أبى حيان التوحيدى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008.
28- أبو حيان التوحيدى: الهوامل والشوامل.
29- أمانى فؤاد: الإبداع الأدبى فى تراث أبى حيان التوحيدى.
30- جابر عصفور: زمن الرواية، 369.
31- خيرى شلبى: الشطار، 406.
32- حامد أبو أحمد: الواقعية السحرية فى الرواية العربية، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة 2009م.
33- حامد أبو أحمد: الواقعية السحرية فى روايات خيرى شلبى، مجلة الهلال، ديسمبر 2010م.
34- إخلاص عطا الله: فى وداع خيرى شلبى، مجلة إبداع، العدد العشرون، خريف 2011م، 288.
35- خيرى شلبى: موال البيات والنوم، 83.
36- انظر دراسات سابقة – أمانى فؤاد: البورتريه فى النص الروائى عند خيرى شلبى، الهلال، ديسمبر 2010م 19 : 25.
37- خيرى شلبى: إسطاسية، 11.
38- خيرى شلبى: نسف الأدمغة، دار الشروق، ط1، القاهرة، مارس 2007، 113.
39- السابق: 9، 10.
40- السابق: 11.
41- هالة البدرى: شيخ الحكائين، الإذاعة والتليفزيون، ع3992، 17 سبتمبر 2011، 88.
42- محمد الشافعى: الراهب يسكن شرنقة البوح، الهلال، ديسمبر 2010، 80.
43- جمال حمدان: شخصية مصر، الهيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2000، 179.
44- السابق: 208.
45- خيرى شلبى: إسطاسية، 251.
46- خيرى شلبى: مقدمة نص قرار الاتهام ضد طه حسين عام 1927م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، القاهرة، 1972م.
47- خيرى شلبى: عناقيد النور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010م، 16.
48- السابق: 70
49- السابق: 13.
50- خيرى شلبى: أنس الحبايب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2010، 65.
51- السابق: 171، 172.
52- السابق: 14.
53- السابق: 47.
54- على الراعى: الرواية فى الوطن العربى، دار المستقبل العربى، ط1، القاهرة، 1991، 114.
55- جابر عصفور: زمن الرواية، 375.
56- حامد أبو أحمد: الهلال، ع ديسمبر، 2010، 15.
57- حاتم حافظ: الهلال السابق، 43.
58- أمانى فؤاد: الهلال السابق، 9 : 25.
59- جابر عصفور: زمن الرواية، 370.
60- خيرى شلبى: موت عباءة، 11.
61- السابق: 11.
62- خيرى شلبى: نسف الأدمغة، 19، 20.
63- السابق: 22.
64- خيرى شلبى: الوتد، 17.
65- خيرى شلبى: نسف الأدمغة، 109



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنسان والفن..والوحوش
- البناء الروائي في -عاشق تراب الأرض-للروائي :أحمد الشيخ
- الحدود في الأسلام والمعاصرة
- أشياء برع فيها الأخوان المسلمون
- روضة... هندسة القاهرة
- الصمت الصاخب بالموسيقي في -تانجو وموال- للروائية -مي خالد-
- بعيدا عن إطلاق الرصاص..
- سُحقاَ للتبعية
- الفانتازيا الذهنية بين روايتين صانع المفاتيح وعالم المندل
- المرأة والقهر المضاعف
- الإله في كتاب النحات
- الإعاقة بين الواقعية والفانتازيا
- صانع المفاتيح...سارق نار الفانتازيا الذهنية
- فطر عنيد
- كن اختيارك
- قراءة نقدية لحفيدات شهرزاد
- كلنا صرعي هذا الضريح..
- رجال بلون الحرباء
- لا للرفق بالقوارير
- دعونا نستولد منها ... الثورات


المزيد.....




- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - التماهي بين الموجودات في أدب خيري شلبي