أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - آبار للنفط وأخريات للأحقاد















المزيد.....


آبار للنفط وأخريات للأحقاد


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 4117 - 2013 / 6 / 8 - 21:17
المحور: المجتمع المدني
    


بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتماع
الجزء التاسع 10/9
كان وقع الحدث الأول: إحتلال بئر الفكة، عنيفا على نفوس الناس. فقد كان السلوك الإيراني يمثل درجة عالية من التعامل العدواني والسطو المسلح على ملكية وسيادة شعب تقاسم معه الإيرانيون مرارة واحدة من أبشع وأطول حروب التاريخ المعاصر. ومن دون شك هناك من يرى أن الإيرانيين لا يفتقدون الحجج تماما، وأنهم لم يذهبوا ذلك المذهب الاستفزازي من دون سبب جديّ، يمس مصالحهم الخاصة.
أما الأصوات الهادئة المحايدة فتشير الى أمور أخرى كثيرة لا تسر، يعرفها الجميع بدقة تامة وتفصيل ممل. وهي حقائق دامغة بذاتها، ولا تحتاج الى مفسرين أو شراح أو مبررين، سواء احتل الإيرانيون البئر أم أنهم اكتفوا بمظاهرة احتلال. هذا الفريق يرى أن ما يحدث في العراق يتجاوز حدود بئر نفطية الى ما هو أكبر وأعمق وأشمل، الى عملية استيلاء تاريخية، غير مسبوقة، على أكبر مخزون عالمي للنفط، تمت بالارغام من قبل كبريات الشركات النفطية العالمية المرتبطة بمصالح الدول المشاركة في غزو العراق، سميت بالتعاقدات والاستثمارات. جرى ذلك تحت غطاء واحد، هو إتمام صفقات متسارعة لبيع المخزونات النفطية العراقية، في بقعة معروفة للجميع بسهولة الاكتشاف، وسهولة ورخص عمليات الحفر، وجودة المادة الخام ونظافتها، ناهيك عن أن أغلب الآبار المتعاقد عليها مكتشفة الحدود أصلا، مما يجعل اتفاقيات التعاقد حولها نهبا مجانيا سافرا للثروة الوطنية، يُراد تسريع وتائره في ظل الفوضى السياسية والأمنية العارمة، والتنافس المحموم على السلطة، بغية استنزاف أكبر قدر من الاحتياطي العراقي، قبيل نهاية العقد الثالث من هذا القرن، ونهب العائدات المستحصلة على عجل من دون رقيب أو حسيب، قبل قيام نظام يتيح للمواطنين فرض رقابة قانونية على ثروات وطنهم. أي ان لصوص مرحلة الفساد لا يكتفون بسرقة الحاضر، بل يصرون على سرقة مستقبل الشعب سلفا. أما البئر 4 المسكينة، فهي بئر تقع على شريط حدودي جرت فيه معارك طاحنة، مرعبة، وظلت البئر مغلقة لأكثر من عقدين. والأكثر إثارة في الأمر أن البئر ظلت سليمة، حالها كحال آبار الحقل كله، ولم تدمّر رغم النزاع التاريخي على الحدود، ورغم الحرب البشعة التي أحرقت الأرض والبشر، بينما تعرضت الآبار النفطية الواقعة في المنطقة المحاذية للحدود الكويتية الى كوارث بشعة، بعضها أحرق وخُرّب بعضها بأوامر من الطاغية الجاهل، أو بفعل نشاط القوات المهاجمة، وبعضها الآخر تم الاستيلاء على ما هو سليم منه وضمه الى حلفاء القوة المنتصرة. هنا، توجد عبرة، قد تكون موضع جدل وخصام. لكنها لا تسجل لصالح مشعلي الحروب والمطالبين بحرب فورية. إن التسارع اللافت للنظر في استخراج النفط، في وضع شديد القلق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودستوريا، يتطلب من البلدين الجارين صياغة اتفاقيات مشتركة، تحدد بشكل عادل ما هو مشترك وما هو خاص، وتنهي أي إشكال قانوني يتعلق بامتدادات الحقول النفطية المتجاورة، ويمنح الطرفين قدرا من الطمأنينة السياسية. لكن هذا الوضع لا يمنح إيران أو غيرها من الدول الحق في الاعتداء العسكري، حتى لو كان الأمر محض إشارة أو تذكير، أو إرغام على التفاوض. لأن الاحتلال العسكري فعل عدوانيّ، لا يحق لأي طرف القيام به أو التلويح به، مهما كانت المبررات التي يسوقها.
لقد انسحبت القوات الإيرانية من البئر، وحلت محلها القوات العسكرية العراقية، من دون حدوث صدام مسلح. بينما ظلت القوات الأميركية تراقب تطور الحدث وتعمل على تصعيده، من طريق التلويح يوميا، بشكل استفزازي، بأن خطة ضرب إيران عسكريا أضحت جاهزة، وهي تنتظر القرار السياسي من الرئيس الأميركي، كما صرح قائد القوات الأميركية في العراق.
ماذا جرى في الجانب الشعبي؟
لقد أدرك المواطنون وجود ضغط عسكري إيراني مكشوف، ذي أهداف متعددة، لها حسابات واختبارات خاصة عسكرية وسياسية، يقابله تهديد أميركي سافر ببدء حرب جنونية مدمّرة ستتخد من العراق قاعدة لها. إن ضرب إيران بريّا سيتم من خط التماس العراقي الإيراني، لا من الكويت أو الدمام. أمام هذا الخطر الجسيم والمحتمل، كان لا بد للشعب أن تكون له كلمة. وكانت كلمته واضحة: رفض العدوان الإيراني جملة وتفصيلا. بيد أن بعض القائمين على وسائل على الإعلام وعلى صناعة الرأي العام السياسي لم يكتفوا بذلك، بل أخذوا بناصية الحدث وسارعوا بدق طبول الحرب، وراحوا يستثيرون العواطف الشعبية في اتجاه واحد: امتشاق البنادق والذهاب الى ساحة المعركة.
فجأة عادت مفرادات الحرب العراقية الإيرانية الى الظهور مجددا، بالطريقة ذاتها التي صنعتها من قبل أجهزة الدعاية الحربية: المجوس، الفرس، الصفويون، تسميد الأرض بالجثث، الجيش الباسل، أسود الرافدين، معركة الكرامة والشرف، التضحية بآخر قطرة دم، وغيرها من مفردات الحرب الدموية، التي أهلكت وأصابت أكثر من مليون مواطن، وسلبت المجتمع جيلا كاملا من البشر، تلاه جيلان من المصابين بالعطب الروحي.
لماذا يحدث هذا؟ كيف يجرؤ مجتمع عاش واحدة من أقسى التجارب البشرية أن يعود، بطرفة عين، في حدث عسكري صغير وهامشي، الى ممارسة خطأ تاريخي جسيم وكارثي لم تندمل جراحه بعد؟ ما الذي يقرر ويصنع ويقود المشاعر العدوانية في المجتمع؟ ومن يعلو بها فوق العقل وفوق خبرات التجربة المريرة المعيشة؟
لقد جاءت حرب الكويت ردا على تداعيات حرب إيران، وكانت حربا خاطئة في دوافعها وأساليبها وأهدافها ونتائجها. ما القوة التي تعيد دفع المجتمع العراقي، مرة تلو أخرى، بهذه البساطة المدهشة، الى نداء الحرب؟ ما أسباب ذلك؟ من أين يأتي استسهال الموت بهذه الصورة المجانيّة؟ هل الحرب قدر لا فكاك منه، أم أن الذات لا قيمة لها بنظر نفسها، أم أنها صناعة سياسية خالصة؟ ما مصدر العدوانية في نفس الكائن؟ ما صلة الحرب بالثقافة والحضارة؟ وكيف تعبر الذات عن مشاعرها الغريزية بشكلها العدواني أو بشكلها البنـّاء؟ من يوقظ غريزة الموت والتدمير في اللاشعور الجمعي؟
هذه الأسئلة المهملة، والترفيّة - ترف عقلي - في نظر البعض، هي الأسئلة الأكثر راهنية وخطورة، التي يتوجب على الجميع الوقوف أمامها بأمانة تامة، وتقليبها تقليبا صادقا، لكي تتمكن الذات من وعي نفسها، ومن رسم صورتها الواقعية على حقيقتها. ولا بد لنا أن ننوه هنا، الى أن التلويح بحرب عربية كردية، أمر مماثل للتصعيد التعبوي ضد إيران، في درجة استخدامه ميول الجماهير العاطفية، قد ينذر بكارثة محتملة في أي وقت.

هل الحرب ضرورة عراقية؟

كم حربا يجب أن نخوض لكي ندرك أن السلام أثمن من الحرب، والحياة أجمل من الموت؟ عن هذا السؤال يجيب أحد المواطنين في موقع عراقي اسمه "كتابات":
"كل هذا ونوري المالكي، بائع السبح، ومهرب البشر السابق في دمشق، وشلته من حزب الدعوة يدعون لحل دبلوماسي لحل المسألة، حل دبلوماسي يا مالكي، هذه مسالة شرف وتحتاج الى رجولة تنقصكم جميعا، تحتاج الى شجاعة عراقية اصيلة انتم لا تعرفونها، كل هذا وتستغربون ان يتحسر العراقيون على ايام صدام حسين الذي كان حتى في اوج ضعف نظامه يرعب سادتك الايرانيين وغيرهم، ولا نقول سوى (شوية) رجولة او غادروا اماكنكم الا يكفيكم ما سرقتم وذبحتم، والمشكلة انكم ترشحون انفسكم مرة اخرى، باي وجه وباي خزي تريدون البقاء في الحكم يا عبيد ايران." ( مدرس تاريخ سابق)
كم قتيلا يجب أن يسقط من هذا الشعب لكي يعي المجتمع أن الإنسان هو جوهر الحياة، وأن النظام السياسي ما هو إلا خادم لمصالح الشعب ووسيلة لبلوغ التقدم الحضاري، لا قيمة له بذاته، سواء أجاء بالانتخاب أو بالإكراه، بالمحاصصة، أو بالاحتيال؟ إن اختصار الحياة الى حكمة تافهة مفادها أن تحررنا من تعاسة معينة هوغاية الغايات، أضحت لفرط تهافتها وضعتها استبدالا لتعاسة سابقة بتعاسة جديدة، أي أضحت تجديدا لمبدأ التعاسة الدائمة. عن هذا السؤال يجيبنا من الطرف الآخر للمعركة، أحد كتاب الموقع ذاته بمقالة تحت عنوان "حملة تضامن مع بلير" :
"الى محبي العراق وعلى رأسهم توني بلير" بلير او بالاحرى توني بلير رئيس الرؤساء ووزير الوزراء.
سيدي انت محرر العبيد وفاتح ابواب بلد كان موصدا وانت من اعاد لبغداد مكتبتها التي سفح حبرها هولاكو العصر الحديث. انت من اعاد حمورابي ومسلته التي غرقت في وحل التسلط لقرون طويله. انت من جعل البلد يتنفس الحريه .. الحريه التي مايزال اقزام الطاغيه الذي ركلته بقدميك يحاولون نفث الدخان في رئة هذا الوطن الفتي بين الفينة والاخرى. انت.. بوقفتك البطوليه التي وقفتها في برلمان مملكتك الشامخه ايام كنت قائدها. انت من نقرع له الاجراس ونشعل الشموع عرفانا بالجميل. لن تستطع الوجوه الصفراء التي طبلت لابقاء التيار الصدامي حبلا معلقا في رقاب ملايين العراقيين. هاهم اليوم يعلنون عليك الحرب لانك كنت ومازلت عنوانا للشهامة ومحام اعاد لمظلومي العراق حقوقهم. لازلنا نعاني من ثاليوم الزمن الغابر ولكننا نتنفس برئة تقاوم العفن الذي تكلس بين ثناياها. ها هو العراقي يتحدث بالتلفون من دون ان يخشى رقيبا ويسهر من دون ان يحسب حسابا لمن يجلس بقربه ويسافر من دون ان يرتجف في مطار بلده."
السعادة السوداء، هي ببساطة، أن نخلق سعادتنا من طريق نسيان تعاسة الآخرين، وفي أحوال كثيرة من طريق إلغاء سعادة الآخر بكل الوسائل، حتى غير البهيجة منها.
إن المواطن، صاحب الكلمات السابقة، يعي تماما أنه ليس أكثر تحضرا، أو تأهيلا نفسيا وقانونيا وثقافيا، من البرلمان البريطاني؛ لكنه على الرغم من ذلك، لا يستجيب بيسر للاشارات المستخلصة من مساءلة البرلمان لرئيس وزراء حكومته السابق، (على الرغم من أن المساءلة لم تتجاوز حدود الإعلام، كنوع من تكفير الذنب الأخلاقي التنافسي). لأن هذا المواطن يرى في المساءلة تهديدا مباشرا لسلطة العنف المطلقة، التي يؤمن بها، وتحديا لسيادتها التامة وتحكمها بالشعور الغريزي، العدواني. هنا يلعب بلير دور المحارب المحرر المنتصر في مقابل صدام المحارب المهزوم. هنا تتقابل الإرادات المتناحرة وتتضارب، لكنها تتقاطع في نقطة محددة، مكونة قاسما مشتركا واحدا، يستند الى منظومة نفسية متجانسة الدوافع، مختلفة المظاهر. فمهما اختصم هذان الطرفان يظلان مشدودين الى ترسبات كثيفة من موروثات العنف السابق، ومن صدماته المؤذية، التي لم يتم بعد تفريغها تفريغا صحيا تاما، سياسيا وقانونيا ونفسيا. لقد قاد التحرير أو الاحتلال من طريق الغزو الأجنبي الى تراكم الإحتقان التاريخي. وبدلا من أن يتم تحرير المجتمع من ضغوطاته النفسية والاجتماعية، اندفع الطرفان الى موجات من التفريغ السلبي، العدواني، بالعنف السافر، وبإطلاق المشاعر التدميرية، بدلا من تهذيبها. يقول فرويد: " إن قوة جاذبية هذه الدوافع التدميرية يسهل امتزاجها بدوافع أخرى من نوع شبقي ومثالي. وعندما نقرأ عن المذابح الجماعية التي كانت ترتكب في الماضي فانه يبدو أحيانا كما لو أن الدوافع المثالية كانت مجرد ذريعة للشهوة التدميرية؛ وأحيانا – كما في حالة الفظائع التي ارتكبت في محاكم التفتيش- يبدو كما لو ان الدوافع المثالية قد تقدمت في الشعور، بينما اكتسبت الدوافع التدميرية تعزيزا لا شعوريا " ( أفكار لأزمنة الحرب والموت- ص 53)
إذا أردنا أن نمزج الأحداث اليومية المتزامنة ببعضها: احتلال بئر الفكة، والتخلي عن احتفالات أعياد الميلاد لصالح التعازي الحسينية، يجيبنا كاتب من كتاب الموقع نفسه، تخفى تحت اسم عظيم الدلالة " قابيل وهابيل". يقول قابيل في مقالة تتحدث عن إلغاء احتفالات أعياد الميلاد في العراق واحتلال البئر:" 3 ملايين نائح ذهبوا لإحياء عاشوراء بينما كان يكفي 300 واحد منهم لتطهير بئر النفط الذي احتلته إيران رغم أنفنا فكشفت لنا حجم كذبنا. فمن جهة نقول بأن الحسين علمنا الثورة على الظلم ومن جهة أخرى نكتفي بإستنكار إحتلال أراضينا ..... فإذا كان كل هذا الظلم لا يحرككم للثورة على الظالم فمالذي سيحرككم يا أيها الأدعياء والمرائين." (كتابات 27-12)
ربما يكون هذا الخطاب أكثرها دلالة. فكاتبه يناصر المسيحيين في جزء من مقالته، وهذه نقطة ايجابية. لأن مناصرة الأقليات والدفاع عن حقوقهم واجب الأغلبية الأول، كما أن تسليط الضوء على المبالغة في تسيير طقوس العزاء وتسخيرها سياسيا نقطة تستحق أن نصغي لها بعقل. وإذا لم تكن صادرة من دوافع طائفية، فهي فكرة سديدة أيضا. والتذكير بثورة الحسين على الظلم ملاحظة مفيدة أيضا. ولكن الانقلاب في المشاعر يأتي حينما تصبح الأعياد وتخفيف طقوس العزاء وسيلة من وسائل الحرب، ومنصة لإطلاق طاقات العنف وتصعيد بواعث الغرائز التدميرية، بدلا من أن تصبح وسيلة لتصحيح انحراف الذات العدوانية وتوجيهها اتجاها مغايرا: التوجه نحو السلام والأمان الأجتماعي.
وهذا مثال رابع يكمّل الأفكار السابقة ويوصلها الى خاتمتها المنطقية، أي يوصلنا الى الإمساك بسبل تطوير وإثارة الدوافع العدوانية في المجتمع. تحت عنوان "ساعة الحظ قصيرة فلا تضيعوها"، ظهر نص، يتسم بالتفاؤل الكبير، والأمل، يبشر العراقيين بقرب زوال تعاستهم، التي لازمتهم طوال تاريخهم المعاصر، ويطلب منهم اغتنام الفرصة الذهبية لنيل السعادة المنشودة قبل فوات الأوان: " ان الحظ قد جاء للعراقيين أخيرا ودفع بالغباء الايراني نحو البئر رقم 4 في حقل الفكة النفطي العراقي، فهذه هدية لم نكن نتوقعها أبدا من ايران ولا من القدر ولا من الحظ لأننا نعرف حظنا البائس، ولأننا نعرف الدهاء الايراني، ولكن غلطة شاطر بألف غلطة، وهاهم الايرانيون يخطأون ويرتكبون حماقة هي بمثابة هدية ثمينة للعراقيين جميعا.. وذلك لتحفيزهم نحو العدو الخارجي والتهديد الخارجي ونسيان ما بينهم من مشاكل حزبية وطائفية وقومية داخلية لحين طرد العدو الخارجي، فساعة الحظ قصيرة ولا تقبل التكرار أبدا ولا تتوقعوا أن الحظ سيأتيكم مرة ثانية"
إذا كان حل المشاكل الحزبية والطائفية والقومية التاريخية يتم من طريق تحرير بئر نفطية! فماذا عن الوطن كله؟ ألا يصلح مادة مشجعة للتحفيز على الوحدة؟ يجيبنا فرويد عن هذه الأسئلة في كتابه ( أفكار لأزمنة الحرب والموت) قائلا: " عندما يتم تحريض الكائنات البشرية على الحرب قد يكون لديهم عدد كبيرمن الدوافع للتصديق عليها، بعضها نبيل وبعضها وضيع، بعضها يتحدثون عنه صراحة وبعضها الآخر يلتزمون الصمت بشأنه" (ص 53)
إذاً، نحن شعب محظوظ، خانه القدر طويلا!! وها هو القدر يبدي ندمه ويمنحنا فرصة ذهبية ثمينة جديدة، أن نذهب فورا الى الحرب مجددا، قبل أن يسرق الحاسدون واللؤماء الأسباب الموجبة لقيام هذه الحرب الثمينة ، فنخسر فرصة الموت المشتهاة.
ربما يقول قائل إن ما تعرضه من أقوال مجرد أفكار ساذجة لا تصلح أن تكون مقياسا لسبل تفكير المجتمع. مثل هذه الاعتراضات قالها بعض الذين صمتوا على ظلم الديكتاتورية أيضا، حينما جرت مناقشة أدب الحرب. ولكني لم أزل أرى العكس تماما، لم أزل أرى أن كاتبي هذه الأفكار، وقبلهم أفكار التعبئة الديكتاتورية، هم جزء هام من المجتمع، ولا يوجد "مواطنون" آخرون مؤثرون في الواقع اليومي غير هؤلاء. لأنهم هم السواد الأعظم من المجتمع، الضاغط روحيا وعاطفيا، والمستجيب الى نداءات الغريزة. هم الذين ساروا تحت راية القادسيات قاتلين ومقتولين، سعداء وتعساء. وهم الذين ساروا تحت تكبيرات الاقتتال الطائفي. وهم الذين يريدون أن يسيروا بالمجتمع تحت أعلام حرب جديدة. وهم الذين نريد لهم العيش بأمان وخير وسلام أيضا. ربما يكون بعض هؤلاء لا يعيش أصلا في العراق، وربما يكون بعضهم هاربا من معركة ما، وربما يكون عسكريا يدافع عن مهنة سابقة فقدها، وربما، وربما... لكنهم جميعا يشتركون في أمل واحد: معارضة سلطة قائمة أو تأييدها، من طريق المطالبة بمزيد من الحروب. وهذا مطلب سياسي أيضا، لكنه مطلب يكشف عن البرنامج النفسي والتربوي والسياسي الموعود والمتمنى: الحرب، التي غدت عند البعض قانونا من قوانين الحياة، وطريقة مثلى لتحقيق التطمين النفسي والوحدة والتراضي مع القدر، أي تحقيق السعادة.
إن أهمية أفكار هذه الكتابات تكمن في بساطتها، ووضوح غاياتها، وفي مقاصدها التحريضية المباشرة، وفي سهولة كشف خلفياتها النفسية والثقافية، على عكس كتابات المثفقين والسياسيين الملتوية، والمحتجبة خلف ركامات من التبريرات العقلية المخادعة، والجمل الخاوية والملتوية. أي ان أهميتها بحثية خالصة. حينما نربط هذه المقالات بغيرها من الدعوات المماثلة نجد أننا أمام ذاكرة حربية يقظة. أي أمام فعالية عدوانية حيّة ونشيطة. إن هذه الذاكرة، تعمل من أجل اهتبال أخطاء الحاضر العنفية أيضا، لكي تعود بالجماعة البشرية الى مرحلة العنف الحكومي السافر من جديد. إنها حلقات متصلة من ماض وحاضر ومستقبل، مربوطة بخيط واحد، هو الشر والميول العدوانية العلنية، وهذا جوهر ما سميته "ثقافة العنف".
بتاريخ 11 أيار 2013 قام النائب حيدر الملا، بقراءة بيان باسم باسم "القائمة العراقية"، يتعلق بموقف القائمة من اعتصامات الأنبار وموقف الجيش. ولكن، في ثنايا بيانه، ومن دون توقع، ظهر تذكير للشعب العراقي بواقعة بئر الفكة. تـُلي البيان من على شاشات التلفزيون، وورد مثال الفكة، باعتباره واقعة تاريخية تثبت تقاعس الجيش العراقي، وتهاونه في فتح جبهة حرب ضرورية مع إيران! حدث هذا بعد أربع سنوات على واقعة حقل الفكّة! وهذا يعني أن رسائل وتعليقات كتاب الانترنيت المجهولين، التي بدت ساذجة، لا قيمة سياسية لها في حينها، إنما هي جزء من ثقافة تيارات سياسية كبرى في العراق. وهذا ما نعنيه بالمشبعات العنفية، والمضمرات العدوانية الكامنة، التي يصعب على الباحث تتبع مساراتها وربطها بأسبابها الحقيقية، في مجتمع لا تحمل الكلمة فيه صفة قانونية وجزائية أو أخلاقية.
كيف نفسر هذا النشاط النفسي والعقلي إجتماعيا؟ ما الآليّة العلمية الممكنة، التي تستطيع اختراق تلافيف هذا التشابك المرعب من الدوافع المعقدة والبحث عن أوالاتها الخفية والعلنية ووضعها في نسق مفهوم؟ في هذه الأمثلة نواجه كارثة وجدانية وسلوكية لا يقوى العلم على حل ألغازها وتفكيك إشاراتها الشريرة بيسر.
إن أزمة الذات الاجتماعية العراقية تكمن هنا، في هذا الحيز الضيق من المقايسات: بين مكرمات توني بلير ومكرمات أم المعارك، بين إلغاء احتفالات الميلاد وإحياء تقاليد التعازي، بين البقاء في التعاسة القديمة وبين البحث عن تعاسات بديلة، بين حظ العيش في أتون حروب الديكتاتور وبين حظ الإسراع الى حرب جديدة. هكذا "تتحقق السعادة، بالنجاة من التعاسة" (فرويد، قلق في الحضارة، ص 22)
إن حشر مصيرالمواطن العراقي في هذا الخندق القاتل من خنادق العدوانية الغريزية، هو المظهر السافر لمجمل النشاط اليومي للسياسيين العراقيين، ولما يعرف بالمثقف العراقي الجديد، ومن خلفهم جموع المنومين إنسانيا وثقافيا.
هذه الأجوبة أمثلة نموذجية مأخوذة من مئات الأمثلة، التي تبارت ولم تزل تتبارى في إعلان مشاعرها العلنية المؤيدة، والمهللة، بشكل فظ وعدواني، لمشروع الحرب، الحرب السابقة والحرب الراهنة والحرب القادمة، من دون أي إحساس بالذنب، أو الشعور بتأنيب الضمير.
نواب ووزراء ورؤساء وزراء يكذبون علنا أمام شعبهم مرة تلو أخرى، معلنين أنهم سيكشفون الإجرام المرتكب بحق الشعب: القتل والنهب والتدمير والفساد. لكنهم لا يفعلون، ثم يعودون مرة تاسعة وعاشرة، من دون إحساس بتأنيب ضمير أو إحساس بالخجل يكررون الوعود والأفعال المشينة ذاتها. من يسوغ للذات الجماعية تكرار الخطأ القاتل علنا؟ ومن يسوغ للذات الفردية تكرار الخطأ الشخصي المعيب علنا؟ ألا يعتبر التستر على وقائع القتل والسرقة، لو صحت، اشتراكا في الجريمة؟ ألا يعتبر القانونُ الجنائي المتسترَ شريكا في الجريمة وفي العقاب؟ لماذا تسمح الذات بحدوث ذلك؟ من يمنحها المشروعية الأخلاقية والتطمين النفسي لفعل ذلك؟ ولماذا يقبل المجتمع بهذا السلوك؟ لماذا يكشف رئيس لجنة النزاهة فجأة اسم قائد عمليات بغداد على أنه الاسم الأول في قائمة المجتثين؟ لماذا يفعل ذلك بعد سنوات من النشاط القيادي، وبعد أن تكررت عمليات التفجير والقتل السادية بحق المواطن؟ لماذا يكتشف موقع على الانترنيت فجأة أن وزير الأمن الوطني شروان الوائلي كان بعثيا، محسوبا على علي الكيمياوي، وقام بأعمال سرقة واحتيال، فقط حينما اصطدم بصابر العيساوي، علما أن الوثائق التي استخدمها ناشر الاكتشاف، كدليل على تلك الجريمة، منشورة علنا منذ خمس سنوات؟ (كتابات الأحد، 20 تشرين الثاني، 2011 )
لماذا نكتشف بعد عشر سنوات أن رئيس هيئة القضاء الأعلى كان مشرعا لأبشع قوانين إذلال البشر في التاريخ: قطع الآذان والألسن ووشم الجباه؟ ولماذا نكتشف أن الحاكم الذي ساق صدام الى المشنقة، ساق في حقبة صدام مواطنين أبرياء الى المشنقة ذاتها لصالح نظام صدام؟ هنا، يصبح حتى الهدف النبيل جزءا من الحالة العدوانية، ومن عملية تبادل منافع الشر، ويغدو غاية إجرامية متصلة بها، شئنا أم أبينا. لماذا يستثنى هذا المجتث ولا يستثنى غيره؟ لماذا يُحاسب هذا المذنب ولا يحاسب غيره؟ هذا السؤال موجه بنفس القدر من المسؤولية الى المجتث والمذنب، والى القائمين على الإجتثاث وضبط معايير الذنوب، والى المواطن الذي تقبّل الحالتين. هؤلاء هم أركان المجتمع الأساسية الثلاثة، بدون تكاملهم وظيفيا، يغدو الفعل الإجتماعي عبثا محضا. لكن الركن الأساسي في معادلة الوعي الاجتماعي هو المواطن، وليس الحاكم. ربما يكون للنخب المثقفة دور مميز في هذا المجال، لكنه دور يكتسب ملموسيته العملية وقوته من طريق واحد: اتحاده بمقدار وعي المجتمع لذاته. إن مأساة المجتمع العراقي الكبرى، تكمن في أنه يعامل من قبل السياسيين على أنه مجتمع قطيعي بإمتياز تام.
هذه الأسئلة سياسية في ظاهرها، لكنها نفسية وتربوية في جوهرها، وهي بمجملها لا تنتسب الى قائمة الخطأ السياسي الجسيم فحسب، بل تنتسب أيضا الى قائمة الاختلالات النفسية، الشعورية الجسيمة. لذلك سنقوم بدراستها نفسيا على ضوء منهج التحليل النفسي، لكي لا يظن البعض أننا نريد إقامة محاكمات سياسية لأحد، وإنما نبتغي تعريف الفرد بمكونات ذاته وهويته النفسية الحقيقية، وسبل عمل دوافعه الغريزية، التي يجهل موقعها في كيانه، علّه يستطيع إعانة نفسه على تبديل سلوكه، أو في الأقل كفّ المجتمع عن أذاه، والتعرف على حقوقه المسروقة، بما فيها الحق في معرفة نفسه وما يعتمل في ذاته.
متى سيتمكن الشعب من كسر دائرة الشر المغلقة واستخدام غريزة الحياة بدلا من غريزة الموت والهدم؟
من أين تأتي مشاعر الرضا عن الذات العدوانية؟ من يخلق دوافعها ومحركاتها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة عمدنا الى دراسة بعض أفكار سيغموند فرويد، عالم النفس المشهور، ومؤسس نظرية التحليل النفسي، علـّنا نجد فيها شيئا من العلاج النظري، وشيئا من الصلاح والنفع. وسنعمل على استكمال تحليل مظاهر العنف في الفصول القادمة المخصصة لدراسة العامل الجغرافي وتطور بناء مؤسسات العنف، وسنتوقف طويلا لدراسة انعكاسات نوازع العنف أدبيا وثقافيا، وسبل ظهورها في النص الكتابي، من طريق تحليل نصوص ثقافية متنوعة لكتاب ديمقراطيين مستقلين، و يساريين أو محسوبين على ذمة اليسار ، لكي نبين كيف يتم اخفاء الدوافع العدوانية باحتراف ومكر، باسم الثقافة، وباسم الخير أيضا. بيد أن النتيجة واحدة: الدعاية السافرة أو الضمنية للعنف والكراهية، والتصعيد المرضي للنوازع التدميرية، على حساب قوانين الحق والقيم الثقافية وحياة المجتمع.
بيد المجتمع العراقي قدم صفحات مشرقة وذكية، حيّرت السياسيين البريطانيين، حينما ابتدع تقاليد راقية للوفاق الطائفي. وهي تقاليد تقوم على قاعدة التصعيد العاطفي الايجابي للشعائر والطقوس الدينية والطائفية، بطريقة أفزعت الحكام البريطانيين. ما سرّ ذلك؟

(جزء من الفصل الرابع- الباب الأول من كتاب: الثقافة العراقية تحت ظلال الاحتلال)



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فرحة الزهرة وأحزانها: معادلات الموت والميلاد
- خطة صحية ناجحة، في خدمة الأموات فقط
- رحلة الموت السعيد من المنبع الى المصبّ
- ألغاز السياحة الدينية في زمن المفخخات
- موسم صيد الطرائد الشيعيّة
- مواكب عزاء لحماية الإثم السياسي!
- الطائفيّة أفيون الشعوب الإسلاميّة! (خطر احتكار الحقيقة دينيّ ...
- بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتم ...
- ثورة عراقية في فن التزوير
- لقد ابتلع السنة الطُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم ...
- الثورة والكرامة بين الفلسفة والأخلاق والسياسة
- شاعر لكل البشر
- عدن: مرثية البحث عن الجنة!
- دور الاحتلال في رسم صورة الحاكم العراقي
- من يرسم حدود العراق ج2
- من يرسم حدود العراق؟
- باربي ربّانية!
- الشروط الأخلاقية للحرية
- الى مظفر النوّاب آخر الصعاليك
- المثقف العراقي المستقل تحت ظلال الاحتلال


المزيد.....




- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة
- زاهر جبارين عضو المكتب السياسى لحماس ومسئول الضفة وملف الأسر ...
- حماس: لا نريد الاحتفاظ بما لدينا من الأسرى الإسرائيليين
- أمير عبد اللهيان: لتكف واشنطن عن دعم جرائم الحرب التي يرتكبه ...
- حماس: الضغوط الأميركية لإطلاق سراح الأسرى لا قيمة لها
- الاحتلال يعقد اجتماعا لمواجهة احتمال صدور مذكرات اعتقال لعدد ...
- مسؤول أمريكي: قرار وقف النار وتبادل الأسرى بيد السنوار.. وقد ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - آبار للنفط وأخريات للأحقاد