أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - فرحة الزهرة وأحزانها: معادلات الموت والميلاد















المزيد.....



فرحة الزهرة وأحزانها: معادلات الموت والميلاد


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 4115 - 2013 / 6 / 6 - 23:08
المحور: المجتمع المدني
    


بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتماع
الجزء الثامن: 8 /10
الفرد العراقي وتوظيف المهارات العدوانية
لغرض إنزال مفاهيم علم النفس من سرير النظرية الى أرض التطبيق، سنعمد في هذا الجزء الى إثارة مشكلات سياسية يومية معروفة، واتخاذها مثيرا ومحفزا اجتماعيا، ومراقبة طريقة تقبل المجتمع لها، وسبل التعامل معها، وكيفية استخدام الموروث والخبرة العنفية القديمة لمصلحة خبرات جديدة، ولمصلحة تكوين مهارات تراكمية إضافية، وكيف يتم تصعيد الدوافع، وما هي مسارات واتجاهات التصعيد.
إن المجتمع العراقي الذي تعرض الى كوارث فريدة، مريرة، لم يتعرض لها مجتمع آخر بنفس القدر والعمق، أحوج من سواه الى الدراسات التي تعني بالإنسان وعلاقاته الإجتماعية. وربما يكون هذا العوز، مقارنة بطغيان الانشغال التام بالكتابات السياسية الفجّة والخطرات الأدبية، مظهرا من مظاهر الخلل في بنية الثقافة الوطنية، التي لم تستطع حتى الآن وعي ذاتها، من الداخل، وعيا علميا متوازنا، يمكـّنها من رؤية الحقائق الاجتماعية وتفسيرها ووضع الحلول والمعالجات لها على ضوء مناهج العلم. ولم يزل بعيدا عن المنال تحويل هذه المعارف الى وسيلة من وسائل انضاج قرار الحاكم والسياسي، أو تهذيب ممارساته وتصحيح دوافعه وأوهامه.
سنتوقف في هذا البحث عند ظاهرتين جرى تناولهما بالملاحظة من قبل كثيرين، هما: العلاقة بين العنف الطائفي والغلو الديني، تحت واجهات سياسية، وتغليب مشاعر الموت على مشاعر الحياة في الثقافة السائدة. ما هو جديد، أو أميل الى الجدة هنا، هو محاولة الجمع بين الموضوعات المتفرقة في وحدة منهاجية، ودراستها على أنها وحدات منفصلة كموضوعات، لكنها أجزاء تكمّل بعضها، وتندرج في نسيج عام، له أطر معلومة ومحددة بحثيا. وهو أمر لم يكن بمقدور منهج رواد اجتماعيين لامعين فعله منفردين، كالدكتور علي الوردي، الذي أوقعته شحة البحوث العلمية في العراق في مشكلات خلط الناسوت والتاريخ بالنياسة والاجتماعيات، إذا أردنا استعارة تعبير كلود ليفي ستراوس ( اختلاط وقائع التاريخ بتحليل الوقائع وكشف امتداداتها التاريخية في مختلف مظاهر الحياة)، أو خلط النفسي بالاجتماعي، الذي حرص فرويد على تجنبه. إن العلوم الاجتماعية والنفسية، والتوثيق العلمي، ومناهج البحث التاريخي الحديثة، لم تزل في طورها البدائي عندنا. لذلك تغرق كتاباتنا في سيول من الانشاءات والخطابات السياسية، أو في موضوعات الأدب والفن، جاعلين منها هدف الثقافة الاوّل، وهو أمر تجاوزته المعارف الأوروبية منذ قرون. الأمر الثاني هو الدعوة الى عدم الاكتفاء بكشف وتفسير الظواهر الدراسية، أو تبصير القارئ بأخطارها وحسناتها، وبما هو إيجابي أو سلبي فيها، وإنما التوغل أبعد في مجال الكشف عن مسبباتها النفسية وبواعثها الداخلية، وعدم الركون الى مظاهرها الخارجية الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والسياسية. أي تفسير البواعث السالفة نفسها، وردها الى أصولها الأبعد والأعمق، من طريق تحديد منابع ظهورها داخل النفس البشرية، وفي إطار الفعاليّة الاجتماعية، باعتبارها نشاطا جماعيا للأفراد. ومما يجب ذكره هنا، هو أن شعوبا كثيرة قبلنا، شهدت حروبا قاسية، اندفع علماؤها ومؤسساتها العلمية الى دراسة دوافع تلك الكوارث بسبل شتى، منها التحليل النفسي والاجتماعي، وعدم الاقتصار على الخطابات الخواطر السياسية، أو حتى على التدوين التاريخي وحيد الجانب. لقد ساهمت عقول علمية أوروبيّة كبيرة في مناقشات عميقة ودراسات أماطت اللثام عن الكثير من خبايا النفس البشرية والعقل البشري، حري بنا التعلم منها.
أما اختيار مادة المقارنة في هذا الجزء من الدراسة فأسبابها الآنيّة الحسيّة المباشرة ترتبط، كما سنوضح لاحقا، بمجرى الأحداث اليومية الراهنة. لكن دوافعها العميقة تكمن في موضوعي النقاش الأساسي، وهما: صعود المد الديني وما يرافقه من استخدام للدين في الدعاية والحرب السياسية، وتطور واستمرار تغليب مبادئ وتقاليد الموت والألم على تقاليد ومبادئ الحياة والفرح. وهما موضوعان يميزان ويطبعان الحياة السياسية والاجتماعية الراهنة بمجملها، ويشكلان الملمح الأكثر بروزا في الواقع السياسي والاجتماعي القائم.
ولكن تجدر الإشارة مسبقا الى حساسية الموضوعين، الناشئة من صلتهما بالعقائد وبالسياسة اليومية من ناحية، وارتباطهما بأوسع قطاع من المجتمع، يضاف الى ذلك مساس موضوعات البحث ذات القارئ مسا عاطفيا عميقا، يحسبه المعني بالنقد جارحا، حينما يُأخذ مأخذا شخصيا. لذلك قد تُحدث هذه المعالجات موجة من الهلع في نفوس بعض سريعي الإثارة، من صغار العقول. وربما يرى البعض، لاسيما المنافقون، أن أفكار البحث قد تعرّض القارئ العراقي المتعب، والمغلوب على أمره، الى صدمة غير مبررة، وهو مهموم بصدماته السياسية والمعيشية والوجودية الدائمة. ولكنني أرى أنه آن الأوان لأن يواجه الفرد والمجتمع نفسيهما مواجهة شجاعة وذكية. فقد طال وعرض الجرح الوطني النفسي والمادي، وطالت واستطالت حدة الاستهتار والاستهانة بالفرد والمؤسسة الاجتماعية من قبل كل من هب ودبّ، وكل من حَسِب أنّ القوة هي اللغة التي سيجبر بها الآخرين على قبوله قائدا ومسيّرا للحياة الاجتماعية، وفق شروط الأمر الواقع. أي الارتداد بالمجتمع الى أكثر اللحظات وحشية وبدائية في تاريخ الإنسان: العنف، وسيلة محببة لحسم النزعات وصناعة الوحدة الاجتماعية، والتضليل الديني والقومي والعرقي، وسيلة وحيدة لتبرير مبدأ القوة والربح السياسي السريع. آن الأوان أن نرى أنفسنا على حقيقتها، وآن الأوان أن نفعل ذلك ظالمين أو مظلومين. هذا الجزء حوار ساخن، لا حياد فيه، مع الشر ودوافع العطب والعطالة الروحية المرضية المتوطنة في الذات الفردية والجماعية، التي استمرأت التعايش مع قوانين العنف وشروطها النفسية والأخلاقية بأنانية سافرة، معادية لحرمة الإنسان وشروط تفتحه. لذلك راحت الذات العاجزة أو المشلولة تكرر أخطاءها المميتة مرة تلو الأخرى، من دون أن تدرك جسامة هذه الأخطاء وحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها في صيانة هويتها - الفردية والجماعية- وصناعة تاريخها الراهن وتاريخ أجيالها القادمة.
ما مسؤولية المواطن؟
بما أننا نتحدث عن الدوافع، تتطلب الأمانة العلمية منا أن نتحدث عن دافع آخر للتركيز على هذا الموضوع تحديدا، وعن سبب اختيار هذه الزاوية للنظر الى الموضوع على وجه خاص. إن السبب يكمن في طبيعة الفرد العراقي، الميّال بحكم الضغط الاجتماعي القاسي والطويل المسلط عليه، الى الاختباء دائما خلف الجماعة، أو خلف الأنا الأعلى الجمعي، والى تبرير فعله الفردي الخاطئ باسم الجماعة أيضا، معتقدا أنه يكسب الحسنيين: الظهور بمظهر المضحّي والجريء وصاحب مشاعر الإيثار والغيرة من جانب، وابتلاع الأخطاء وتكرارها، براحة ضمير من جانب آخر. لأن الأخطاء المتعلقة به، في ظنه، لم تُرتكب من قبله شخصيا، وإنما ارتكبها ضميرعام، باسم الوطن أو الكرامة أو الجيش الباسل أو التحرير أو العراق القديم أو العراق الجديد أو المرجعية أو السيد القائد، أو أية تسمية عمومية أخرى تخفي أخطاء اللص والقاتل والمرتشي والمزور والواشي والمنافق والمطبّر والمشعوذ وتاجر السياسة والفكر، وكل حاملي صنوف التشوهات الاجتماعية. هذان الحدّان السلوكيان المشينان للهروب من المسؤولية الشخصية، اللذان اعتادهما قطاع كبيرمن المجتمع العراقي واحترفهما واتقنهما وأوهم نفسه بنزاهتهما، هما سبب اختيار زواية النظر هذه، وسبب اللجوء الى منهج التحليل النفسي. لأن هذا المنهج، على ما فيه من هفوات ونواقص، هو المنهج الوحيد القادر على فضح التضليل الذي يمارسه الفرد على نفسه، ثمّ تاليا التضليل الذي يمارسه المجتمع بأكمله على ما يعرف بالأنا الجمعي الأعلى، حتى غدا خداع النفس وسيلة علنية معترفا بها من قبل الجميع، وأصبح طريقة مألوفة، ومقبولة سلوكيا، كما لو أن المجتمع يتآمر على نفسه! لقد أضحى التواطؤ السلبي، المرضي، قانونا أخلاقيّا، وربما غدا درعا وقائية في مواجهة كل من يحاول اختراق محرمات التضليل أو مسّها، وأضحى سلطة قضائية عليا تحيل كل من يسعى أو يجرؤ على تحدي المسلمات العدوانية الى محكمة القطيع، وسيكولوجية القطيع، التي تدمغ من يقف في طريقها بتهمة إهانة الذات الجماعية الكبيرة، المقدسة في نظرهم، المنحطة الجوهر في نظر الحقيقة. من طريق منهج التحليل النفسي يمكننا رصد المسؤولية الفردية، ووضع الفرد أمام ذاته، أي أمام ضميره الشخصي المباشر. فلا يحق للطـّام، أو مطبّر، أو عضو ميليشيا، أو فرقة تكفيرية، أو كاتب تعبوي هاو أو محترف، أو سياسي جلف جاهل، أن يختبىء خلف السومريين والميديين والآشوريين وعدنان وقحطان أو حمورابي أو الأئمة الأطهار أو المرجعيات والمظلوميات. إن هذه الدراسة تهدف الى وضع الفرد أمام مسؤولياته الشخصية، أمام ذاته، وأمام أناه وحده دون غيره من البشر. فلا صلة للحسين الشهيد بالمكونات اللبيدية الخاصة بمطبّر أو لطـّام، ولا صلة لقحطان أو عدنان بالبواعث السلوكية العصابيّة لتكفيري قاتل، ولا صلة لحمورابي بالأولات المرضية لمزور أو لص أو كاتب يحترف ويستمرئ صناعة المغشوشات الثقافية والاجتماعية ويتلذذ بها علنا.
لا بد من الاشارة هنا الى أن حدثين مباشرين، وما رافقهما من ردود أفعال وإشارات ودلالات مرجعية، نفسية وثقافية، كوّنا محتوى هذا الجزء من هذا الفصل. أولهما، الأحداث التي وقعت على حدود محافظة ميسان في 18-12 -2009، حينما قامت قوة إيرانية باحتلال بئر نفطية عراقية ورفع العلم الإيراني فوق برجها. وثانيهما، تزامن أعياد الميلاد المجيدة ورأس السنة الميلادية مع تعازي عاشوراء، وتنازل المسيحيين عن الاحتفال بعيدهم لصالح أحزان عاشوراء. ولكن هذا التخصيص لن يجعلنا نتوقف كثيرا عند تفسير الحدثين تاريخيا أو سياسيا، بل سنكتفي منهما برصد تأثيرهما على ما يعرف بالوعي العام والمزاج الشعبي.

الموت والميلاد: عرس القاسم
يربط بعض الرواة بين مناسبة "فرحة الزهراء" وتولية الإمام المهدي المنتظر إماما. ( ابن الحسن العسكري وآخر الأئمة، ولد بسامراء عام 255 هـ). ولكن لا أحد يستطيع تثبيت منطقية العلاقة، التي تربط بين فاطمة الزهراء وولادة الإمام المهدي. لأن فاطمة الزهراء هي مبتدأ السلالة الإمامية والمهدي منتهاها. بينهما قرون طويلة من تقلبات التاريخ. ربما يكون تاريخ فرحة الزهرة ( التاسع من ربيع الأول) أقرب زمنيا ومنطقيا الى تاريخ تولية المهدي أماما، هذا الحساب الزمني لا يخلو من المنطق. فقد كانت وفاة الإمام الحسن العسكري في الثامن من ربيع الأول. ولكن حسابات الواقع تشير الى غير ذلك. لأنّ هذا التاريخ يحمل لبسا عاطفيا كبيرا. فهو يجمع بين موت إمام واختيار آخر. وهذا أمر لا تقره النفس والتقاليد، إذا كانت العلاقة التاريخية بين المناسبة والإمامة صحيحة حقا. أمّا ربط هذه الفرحة بمقتل عمر بن الخطاب، الذي يصادف موته في التاسع من ربيع الأول، في تقدير بعض المراجع الشيعية، فهو تخريج فاسد تماما، يروج له دعاة الفكر الطائفي من غلاة الفريقين. لأن هذا الربط القسري مشحون بالعثرات التاريخية وبالعمى العدواني. لقد قـُتل الخليفة عمر في 26 ذي الحجة عام 23 هـ. أما فاطمة الزهراء، فلم يكن بمقدورها أن تفرح بطعنة عمر القاتلة، لأنها ماتت قبل وقوعها بإثنتي عشرة سنة! ولكن الموروث الشعبي الفاسد تاريخيا وعقائديا قد لا يكون مبرءا من تزوير تاريخ ما، لغرض صناعة علاقات سببية ملفقة، تربط الفرح بالمآسي والأحقاد، وهو جوهر ما نرمي الى إثباته. هناك من ربط بين هذا الطقس ومقتل عمر بن سعد، أمير الجند الذي كـُلـّف بقتل الحسين. وهذا الرابط الانتقامي له ما يبرره ويسوغه. فقد روي أن العراقيين احتفلوا بموت الحجاج، وأسموا فرحهم بـ "عرس العراقيين". لكنهم لم يُخلـّدوا واقعة الفرح هذه. أما عمر بن سعد فقد كان مترددا في مقاتلة الحسين. وقد تم تكليفه بالأمر بسبب مصادفة قدرية قاهرة. فلم تكن وجهته كربلاء. لكن خروج الحسين توافق مع خط سير جنده. وحتى مقتله من قبل المختار الثقفي تمّ بشكل متأخر، بعد أن حصل على الأمان منه. من دون شك، لقد أفرح محمد بن الحنفية نبأ مقتل عمر بن سعد، كما رُوي، لكن الحدث لم يكن سوى تفصيل جزئي في سلسلة أفعال المختار الانتقاميّة. ربما تكون هذه المناسبة من اختلاق المخيلة الشعبية أيضا. بيد أن طقس "فرحة الزهرة"، جمع في الأحوال كلها، بين الموت والحياة، حتى في أفضل صيغها: مباركة إمامة الإمام المهدي. ولم يكن هذا الطقس - بصيغته المنزّهة من الحقد - سوى ترجمة شعبية، لما يعتمل في النفوس، وردة فعل عاطفية، ذات طبيعة دفاعية، هدفها تقوية الذات وشد أزرها، ولكن بطريقة خاطئة عند نسبته الى فاطمة الزهراء، وعند استغلاله شعبيا لأغراض طائفية. هذا المشهد المتناقض رأيناه يتكرر رمزيا في الطقوس الشيعية، في عرس القاسم أيضا. وإذا إذا كان موضوع "فرحة الزهرة" يتضمن إشارات سلبية طائفيا، لمن يربط الحدث بمقتل عمر بن الخطاب، فإن مشهد عرس القاسم أكثر منه دلالة على التناقض الشعوري، لكنه أكثر نبلا وصفاء في توجيهه العاطفي والدعائي، لأنه يربط بين الموت والحياة، لصالح التشبث بالحياة. إن المعنى المتواري خلف الحدث الخيالي في عرس القاسم، يعلن تحدي الموت من طريق استمرار تدفق قوة الحياة. وهو مشهد رمزي يتحدث عن عرس أقيم للقاسم في موقعة كربلاء. وفي هذا العرس الفني نسي الرواة ذكر الطرف الثاني للعرس (العروس). وعلى الرغم من فساد تفصيلات الحدث (العرس)، فقد قررت الذاكرة السردية إتمامه بتزويج القاسم بن الحسن، وهو غلام في الرابعة عشرة من العمر، قبيل مصرعه المؤلم بدقائق. يبيّن تسلسل الحكاية أن القاسم دخل خيمة العرس، بينما كان أخوه أبو بكر، في طريقه الى الموت. وهناك من يجعله سابقا لمصرع أبي بكر. وعلى الرغم من كثرة الشقوق في رواية عرس القاسم، إلا أن الدلالات العاطفية لهذا العرس عظيمة الأثر في نفوس المعزّين الشيعة، ليس بسبب صحة أو عدم صحة الواقعة، وإنما بسبب طابعها المأسوي العميق، وصياغتها الفنية الرهيفة العالية: ربط الحياة بالموت، من طريق إقامة عرس وسط مأتم، وعقد زواج في لحظة استباحة دموية، حتى أن" ُثوب العرس صبّح جـِفن". هذا التداخل بين الموت والحياة صورة رمزية، وأسطورية في بنائها وفي أحداثها، لكنها لوحة تصعيدية، عالية الحساسية في تأثيرها، وفي توجيهها الفني وإشاراتها الشعورية، التي رسخت في مخيلة الناس عبر القرون. إن مشهد عرس القاسم، بصورته التمثيلية: صيوان الزواج والشموع والحناء، تذكر بتناقضات مقتل الإله تموز، وبمشهد الاحتفال به. وقد أشار المسرحي العراقي فاضل سوداني الى هذا الترابط الطقسي. بيد أن الأمر لا يتوقف عند المظاهر الخارجية للطقس، فربما أضاف العراقيون، بمشهد عرس القاسم، بعدا جديدا للمأساة العراقية القديمة المتوارثة من زمن البابليين. إن حكاية موت القاسم تخلو من فكرة إعادة الحياة للميت، أو البعث، لكنها تشترك مع الاسطورة القديمة في إختلاط لحظتي الموت والحياة ببعضهما، مع التأكيد على استمرار الوجود وشدة عناده. أما الأناشيد التي خـُصّ بها عرس القاسم، فهي على درجة عالية من الفرادة التخيلية والحرقة العاطفية المحزنة. "أوه يا قاسم يا بني، صيوان عرسك مبني، مبني بجص ونورة، جت العروس تزوره". إن صيوان العرس، المبني لأسباب تتعلق بالقافية الشعرية، بالجص والنورة، صورة أخرى عجيبة في دلالاتها اللامنطقية. لأنها بكائية صارخة، تجمع بين المتناقضات الشعورية الحسية، بين قماش الصيوان وبين الجص والنورة، مادة بناء القبور. إن المخيلة الشعبية هي الوريث الدائم للتفكير الأسطوري، والحامل التاريخي لبقاياه وموروثاته السحرية. إن تداخل الحزن والفرح طقس شعبي يضرب عميقا في وجدان المجتمع، سواء عرف الناس حقائقه أم لا. لأنه جزء من معايشات الواقع، ومن تأويلاته العاطفية. إن البحث عن لحظات للفرح وسط المآسي يحمل قدرا من التفاؤل والأمل باستمرار الوجود، والإصرار على إدامة وإطالة لحظة الحياة. وهذا ما نفتقده الآن. فقد تمت استعادة لحظات الموت، ورفعت بأوامر حكومية الى منزلة الطقوس الجماعية المقررة رسميا، فراحت، لكثرتها، تستنزف عواطف وطاقات وواجبات المجتمع والدولة، وتسرق حياته اليومية.
تناقضات الموت والميلاد المثيرة
عشرة مجالات يتفوق فيها العراق عالميا. وهي مجالات تصنع بتداخلها الشخصية الوطنية، وتعكس شكل بناء مؤسسات المجتمع: حجم الحدود المنتهكة وعدد المنتهكين، عدد الحروب الداخلية والخارجية خلال ربع قرن، حجم الفساد ونهب الثروة الوطنية، عدد الأرامل والأيتام، عدد المعوقين، حجم الإنفاق العسكري، عدد أفراد قوى الجيش والأمن والقوات الرديفة قياسا بعدد السكان، عدد الفقراء قياسا بحجم الثروة الوطنية الخيالي، عدد المهاجرين في وقت قياسي. أما المجال العاشر فهو: ارتفاع معدلات الإنجاب والتناسل.
تؤكد منظمة "يورو نيوز" الخاصة بالشؤون الاقتصادية على وجود مليوني إنسان يعيشون في حالة الجوع في العراق، وإن منسوب الفقر لم ينخفض منذ سقوط النظام السابق عام 2003. لكنها تشير من جانب آخر الى ارتفاع في معدلات النمو السكاني. وهي حالة مدهشة ومحيّرة.
في 28 تشرين الثاني 2012 أكدت وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، على لسان وزيرها علي الشكري، هذه الحقيقة المثيرة: إن العراق يعد من أكبر دول العالم في معدلات النمو السكاني، اذ تصل الى نسبة 3 بالمئة سنويا، وان النمو السكاني في العراق من أكبر المعدلات في العالم. اذ يوجد عدد يتراوح بين 3ـ 4 دول في العالم يزيد معدل النمو السكاني فيها على العراق. اما تقارير الوزارة فتؤكد أن معدل الولادات السنوي يصل الى 4.8 بالعشرة، وهذا معدل كبير جدا، بينما يصل المعدل العالمي الى 2.5 بالعشرة" ( الصباح 29 تشرين الثاني 2012 )
لقد تحققت هذه النسب العالية في ظل الحروب المتواصلة والإرهاب والقلق الاجتماعي والهجرة الخارجية والتهجير، التي تواصلت على مدى أربعة عقود ونصف العقد. وعلى الرغم من ذلك كله، لم يزل التناسل والانجاب يحتل مكانة مرتفعة جدا في قائمة اهتمامات الفرد العراقي، وفق المقاييس الدولية. وهي ظاهرة ربما تجيب عن بعض الأسئلة المتعلقة بسوء ردود أفعال المجتمع العراقي تجاه ما يحدث لثروته وطبيعة حياته وسبل إدارتها وحقوق التمتع بها. وقد تعكس أيضا بعضا من خصوصيات البناء النفسي للمجتمع وسبل ممارسة عواطفه وتنظيم مشاعره. ربما ينظر البعض الى هذه الظاهرة على أنها تحد للموت. وهذا أمر ممكن، ولكن في ظروف أخرى، مثل الظروف الذي استدعى ظهور مرثية "عرس القاسم" الخيالية، أو ظروف المجتمع الفلسطيني، الذي يواجه سياسة طرد وتذويب وتدمير للوجود، تتطلب، في بعض مظاهرها تثبيت حضور الإنسان الفلسطيني عدديا. لكنها من جانب آخر، في ظروف المجتمع العراقي الراهن، ربما تشي بسلبية ردود الأفعال الإجتماعية (لا أباليّة قهريّة)، في مواجهة المناخ الاجتماعي المحبط، الذي يجعل التكاثر عزوفا جماعيا صامتا، في هيئة رد فردي، شديد الخصوصية، يستهدف تقبـّل معضلة اليأس من صلاح الحال. إن الانكفاء والاكتفاء والتأقلم مع شروط المحيط العام القاسية ضرب من الإهمال المقصود، غير المدرك، للواقع الخارجي، العصي على المقاومة والتغيير. إنه ضرب من الاستغراق في العادة التكرارية الفطرية لإدامة شروط العيش والبقاء. أي الارتداد الى الإشباع الغريزي، التناسلي، في مواجهة انسداد آفاق الحياة. إن الموت العبثي، بمعايشاته ومشاعره وضغطه العنيف على الذات، يدفع الحياة الى أن تحتمي في قوقعة العائلة الصغيرة، منكمشة على ذاتها. لأنّ الموت العبثي المتواصل يقلل من قيمة ومضمون الحياة، ويختزل فعاليتها وأفاقها وأهدافها الى أدنى مستوى، ويدمر شهية الاستمتاع بكنوز الحياة العامة. أي أنه يحيل الوجود التاريخي للجماعات، بشكله الضروري، وليس الفاعل، مشروعا شخصيا مغلقا، أنانيا، يحقق دوام دورة الحياة، بصرف النظر عن طبيعة ما يجري في المحيط الإجتماعي العام.
إن ما يحدث في العراق عبث كبير، تعجز عن محاكاة مشاهده حتى أساطير العصور القديمة.
إن الإدمان الإرغامي على معايشة مشاهد وأحداث الموت، جعلت الموت يكون مادة خصبة ومحببة حتى في البرنامج الترفيهي الفكاهي العراقي، المفيد والعلاجي، "أكو فد واحد". حيث تحتل الطرائف عن الموت والموتى والقتل والضرب والاعتداء على ذوي العاهات حيزا كبيرا شرعيا، مألوفا، من مادة السخرية. وهذا يعكس ميلا مزدوجا وحاجة ضرورية متناقضة، هدفها مواجهة شدة حضور الموت والنقص النفسي والبدني، بالتغلب عليها، من طريق استعادتها والانتصار عليها بالمفارقة اللفظية الساخرة. لكن هذا الإجتراء يعكس، من جانب خفي، خوفا داخليا غير مدرك من هذه المعايشات المؤلمة، القهرية.
لذلك لم يكن غريبا أن يتنازل المسيحيّون العراقيون عام 2010عن أعيادهم، لصالح أحزان طقوس عاشوراء. فقد حدث ذلك التزامن القدري بين الموت والميلاد في ذروة الهجوم على المقدسات المسيحيّة، مما جعل الإرادة تصاب بشيء من العطل والاحتراز والحذر. لكن المؤسف أن يقوم المسيحيّون بتكرار الخطأ نفسه في احتفالات أعياد الميلاد لعام 2011 أيضا، بالطريقة ذاتها.
يقول رئيس ديوان الوقف المسيحي، رعد عمانوئيل الشماع: " ان قرار الوقف الذي منع اقامة الاحتفالات هذا العام في النوادي والقاعات والاماكن العامة، جاء تعزيزا لأواصر المحبة والأخوة التي تجمعنا بأبناء شعبنا من المسلمين، وما يشغله الامام الحسين عليه السلام من المكانة الكبيرة في ضمير الانسانية، وقد اتخذ هذا القرار بمباركة جميع رؤساء الطوائف الدينية، اذ ان جميع العراقيين من مسلمين ومسيحيين وصابئة مندائيين وايزيديين وغيرهم انما هم شعب واحد ينبغي ان تكون احزانهم واحدة وافراحهم واحدة، وان يلتقي على طريق بناء عراق التسامح والحرية والتعددية والعيش المشترك".
ربما تكون لمثل هذه المبالغات ما يبررها، سياسيا، ولكن ليس دينيا أو اجتماعيا ونفسيا. إن رئيس ديوان الوقف المسيحي لا يكتفي بهذا القدر من المنع، بل يذهب بعيدا في تعاطفه مع الماضي المحزن، الى حد يصيب حتى القارئ المسلم، والشيعي تحديدا، بالخرس والذهول. يقول السيد عمانوئيل: "بعض المسيحيين وفضلا عن الغائهم احتفالاتهم بأعياد الميلاد، ذهبوا الى المشاركة في العزاء بمصاب الحسين (ع) والخروج في المواكب الحسينية واقامة مآتم العزاء، وكذلك استقبالهم الزوار وتقديم الطعام والشراب للزائرين." (الصباح 25. 12. 2011)
ربما يشعر بعضنا أن إجراء مقارنة للموت بالميلاد، مأخوذة من مثلين مختلفين دينيا: المسيح والحسين، تخلو من الإقناع التام. هذا أمر ممكن وجائز. ولكن، كيف نفسّر التعارض الشديد بين طقوس الموت والميلاد، والمفاضلة بين الحياة والموت، في أمثلة مأخوذة من بيئة دينية وعقائدية واحدة: الإسلام؟
بعد الأرقام المليونية للزيارات، التي وصلت الى رقم يفوق حجم الطائفة كلها، بنسائها ورجالها وأطفالها ومرضاها ومهجريها ومهاجريها، رقم فاق الثمانية عشر مليون زائر، حلت علينا مناسبة ولادة "فخر الكائنات"، الرسول محمد. ما عدد المحتفلين بـ " فخر الكائنات"؟
عن هذا السؤال تجيبنا صحيفة الصباح، شبه الرسمية في 26- 1- 2013 ، بعنوان كبير:
" الاف المسلمين يحيون ذكرى ولادة فخر الكائنات الرسول المصطفى".
وهذا نص الخبر: " احيا الاف المسلمين في بغداد والمحافظات ذكرى ولادة فخر الكائنات الرسول المصطفى محمد (ص)، وفي وقت زينت فيه شوارع وبيوت العاصمة واقيمت المناقب النبوية بمدح الرسول الأعظم.
وهنأ رئيس الوزراء نوري المالكي في برقية تلقت (الصباح) نسخة منها، المسلمين بشكل عام والعراقيين بشكل خاص بمناسبة المولد النبوي الشريف، مبتهلا الى الله العلي القدير ان يحفظ العراق وشعبه ويجنبه كل مكروه.
...وأوصت المرجعية الدينية العليا بالاعتدال واحترام الاخر باعتباره المنهج المتبّع لدى غالبية المسلمين والمذاهب، مؤكدةً ان محبة النبي (ص) وتقديسه تمثل محور التقاء قلوب المسلمين وعقولهم وافكارهم.
وبلغت الاحتفالات ذروتها في منطقة الاعظمية حيث اعتاد سكان بغداد والمناطق القريبة منها الى التوجه ليلا الى جامع الامام ابو حنيفة النعمان حيث تــقام الموالد النبوية الشريفة وحلقات الذكر الخاصة بالرسول الاعظم.
كما اعتاد العراقيون بهذه المناسبة زيارة مرقد الامام علي بن ابي طالب (ع) في مدينة النجف. وقد أمن مجلس المحافظة الاجراءات الامنية الخاصة بهذه الزيارة من خلال نــشر نحو 30 الف عنصر أمني وتخصيص طريقين لمرور السيارات الى اقرب نقطة تصل الى الصحن الحيدري الشريف. من جانبها أوصت المرجعية الدينية العليا لمناسبة اسبوع المولد الشريف لرسول الرحمة محمد (ص) عدة امور اهمها دعوتها للمسلمين للانفتاح على الشعوب غير المسلمة للتعريف بالاسلام وشخصية الرسول، موضحةً ان الاعتدال والاحترام للاخر هو المنهج المتبع لدى الغالب من المسلمين والمذاهب الاسلامية."
سعة الفارق بين الموت والميلاد إسلاميا، في العراق، تقاس بمقدار الفارق بين ثمانية عشر مليون زائر من المعزّين وبين "آلاف" المحتفلين. أما الفارق الجوهري فيكمن في أن الأعظمية هي موقع الاحتفال الرئيس، ينافسها موقع فرعي آخر هو"ضريح الإمام علي". الأول تعمّه مظاهر الفرحة والأناشيد، والثاني تحرسه قوات عديدها 30 ألفا! هذا ما جاء في نص بيان الحكومة، وما علينا سوى تصديق روايتها.
اللوحة التي رسمتها جريدة الصباح تبدو للناظر مشطورة قسمين متباعدين مكانيا وعاطفيا وعقائديا وأمنيا: هناك فرحون غير مبالين بالأمن، لا يحتاجون الى من يحرسهم. وهناك فرحون بالإنابة، يذهبون الى الفرح بحراسة جيش جرار، لأنهم يمارسون الفرح بحماية الأب الأكبر(الطائفة)، ولمصلحته!
ولكن، لو تركنا التفسير والتأويل والتعبئة، وذهبنا الى الى الواقع، الى مناخ وجو وقدسية الفرح وطقوسه، نجد ما هو أبشع. نجد أن طقوس "التسامح والانفتاح والاعتدال"، التي طالبت المرجعيات الأهالي الالتزام بها، والمبادئ التطبيقية العملية لممارسة الفرح، ممثلة في دعوة رئيس الوزراء الى "حفظ العراق من كل مكروه" قد تمت ترجمتها ترجمة فورية، في عيد المولد النبوي نفسه، حينما فتح أفراد من الجيش العراقي النار على المتظاهرين في الفلوجة، فأوقعوا تسعة قتلى وأربعين جريحا، وفق رواية المتظاهرين، وأربعة قتلى و19 جريحا، في "الاحتكاكات" بين المندسين وقوات الأمن، وفقا لبيان الحكومة. إن التفسير الوحيد الممكن لما حدث في الفلوجة، يؤكد نظريا وتطبيقيا، أن الموت لم يكن جزءا من المكروهات، وأن الفرح طقس طارئ ومهمل، حتى لو كان يوم مولد "فخر الكائنات". إن تأكيد رئيس الوزراء بأنهم لم يتفاجأوا بما حدث، يضع على عاتق الأجهزة الأمنية مسؤولية مهنية وسياسية وأخلاقية مضاعفة، تلزمهما بضبط النفس التام، وعدم التسرع بفتح النار على المتظاهرين، لو كان هناك حقا إدراك مسبق بوجود من يريد استثمار التحرك السلمي، لغايات أبعد من حدود المطالب السلمية. كان لزاما على جيش الدولة أن يحترم " فخر الكائنات"، وأن يحترم طقوس الفرح الخاصة بمولده. هذا هو العنوان الثقافي المستخلص من معادلة الموت والميلاد. فلا قدسية للفرح في بلاد أدمنت رسم عواطفها من طريق طقوس الموت. كان الطرفان المتصارعان حول توزيع مناسيب القوة، يختبران بعضهما سياسيا. وقد اختارا، معا، أن يكون الموت هو الحكم الوحيد، الذي يدير دفة المباراة، حتى إذا تمت طقوسها في يوم مولد رسول الإسلام.
إن العنف التهييجي الطائفي يُسقط حرمة الرسل، ويدمي أفراحهم.
في هذا المناخ لم يعد غريبا أن تتضارب الآراء حول الأرقام وأعداد القتلى والجرحى. فلم يكن خروجا على المألوف أن يخفضها البيان الحكومي الى أربعة قتلى و19 جريحا، وأن يرفعها رئيس مجلس محافظة الأنبار جاسم الحلبوسي الى ثمانية قتلى وخمسين جريحا، ويجعلها أبو ريشة تسعة قتلى وأربعين جريحا، ويجعلها الشريط الاخباري لفضائية بغداد "10 شهداء وأكثر من 70 جريحا". حرب الأرقام والإيهام هنا لا تحتاج الى تفسير أو تأويل. الإشارات العدائية المتبادلة المسلحة بالغش، والأرقام العشوائية الانتقائية، لا تحتاج الى تأويل أيضا، لأنها المبدأ الذي تقوم عليه عقيدة التعبئة لدى الطرفين. وهذا أمر مفهومة دوافعه، رغم أنه يتعارض مع مبدأ حرمة المواطنة، وقدسية العدالة، وحيادية الإعلام، في القضايا الوطنية الخطيرة.
لو تركنا المشهد كله، بجانبه السياسي والعاطفي والقانوني والدعائي، وتوجهنا نحو علم النفس التحليلي، نعثر على فجوة مرضية، على غاية البشاعة، تشكل المحتوى النفسي، الواعي واللاواعي، الذي ينظم عقل الإعلام الرسمي.
لو عدنا الى صحيفة الصباح، عدد يوم السبت 26 كانون الثاني 2013 نجد أمرا محيّرا، لا يقبل التفسير بيسر. فلا أثر لمولد "خير الكائنات" على الصفحة الأولى من الجريدة الورقية، ولا أثر لحادث إطلاق النار على المتظاهرين.
لكننا نجد الخبرين على الصفحة الثانية، الداخلية. لماذا؟ إذا كان تأخير خبر عيد مولد "خير الكائنات" الى الصفحة الثانية تقليدا وعرفا خاصا، له حججه المجهولة!! فكيف يمكن قبول تأخير مقتل أربعة متظاهرين وجرح تسعة عشر، وفق رواية الحكومة. وهو خبر تصدر واجهات الأخبار في القنوات الإعلامية كافة، وعدّه المالكي جزءا "من صدام لم تنفاجأ به" ،" تديره مخابرات دولة خليجية وينفذه مندسون من بقايا البعث والقاعدة"؟ كيف لا يمثل خبر بهذا المستوى من الخطورة، لدى صحيفة البلاد الأولى، قيمة إعلامية وطنية، ترقى الى مستوى الخبر الأول؟ ولماذا لم يصل خبر موت المواطنين، على يد الجيش أو على يد غيره، في الفتنة "المدبرة المعروفة الأبعاد، التي تديرها مخابرات أجنبية", في تقدير القائمين على الصحيفة، الى مستوى أخبار الصفحة الأولى الأخرى؟ مما لا شك فيه، أن ما حدث كان سهوا إعلاميا، وربما شخصيا. لكنه سهو له صلة مباشرة بقوانين علم النفس، قبل أن تكون له صلة بقوانين النشر، وبشروط التوازن االثقافي وبالمبادئ الوطنية. هنا يكمن الخلل. إنه سهو، ولكنه ليس شخصيا. إنه سهو تاريخي، تمت صياغته صحافيا بمبادرات شخصية. إنه سهو في العقل المسيّر للوعي الثقافي، المفروض على المجتمع. وهذه واحدة من ظواهر ثقافة ما بعد الأحتلال: احتقار مضمون الحياة، تحت تأثير المُشبعات الشعورية التاريخية. إن الوعي السني لا يستطيع تقبّل حقيقة فقدان السلطة. أما الوعي المقابل فيملك حساسية مفرطة إزاء أي فعل يهدف المساس بالدور القيادي الجديد، المجيّر طائفيا. لذلك تقول رغد صدام حسين، في ظهور مفاجئ لها، عقب الحدث: "إن ما يشهده العراق حاليا هو منازلة بين الخير والشر. وأن العراق لنا ولأبنائنا، ونحن أبناء العراق". وقد لاقى الخبر صدى قويا جدا لدى الطرف الآخر. فسارعت المواقع الشيعية كافة الى نقل الخبر وإعادة نشره، باعتباره الدليل الجرمي الأكيد، الذي يثبت تورط المعارضين من جهة، والذي يوثق حقوق أبناء الطائفة المقابلة من جهة أخرى، بما في ذلك حق الدفاع عن أنفسهم، بقوة سلاح الدولة. وهذا ما عنيناه بالمشبعات الشعورية، لدى الطرفين.
وإذا كانت أحداث المولد النبوي ترتبط بالمشبعات الشعورية، فإن مجزرة الحويجة، نيسان 2013 تؤرخ مجددا، حالها كحال صولة الفرسان، ومجزرة جماعة الصرخي، على أن القوة تستخدم بإفراط يفوق حدود الخيال حينما يكون الطرف المفترَس بلا غطاء. وهذا يشمل مفخخات التكفيريين أيضا، التي يحلو لها أن تضرب فقراء العراق وتستثني السياسيين. إن القمع الوحشي يصبح، عند المواجهات غير المتكافئة، وسيلة مقرونة بخسة الجبناء، ومظهرا للتباهي بالبشاعة والصلف علنا، وليس وسيلة لتطبيق القانون أو الحزم. هذا النزوع يطبع سلوك أعلى سلطة في الجيش العراقي، وقد تكرر مرارا، بصرف النظر عن حجم الملابسات المتعلقة بمجزرة الحويجة. لأن مدينة الحويجة وسكانها نقطة التماس الجغرافية والبشرية والحقوقية والعسكرية، التي ستقرر شكل بناء الخارطة العراقية في المستقبل القريب. ولم يكن الصدام فيها سوى تصديع متعمد لأحد أسوار العراق الداخلية.
ومن مظاهر التحريم المثيرة، التي يمتزج فيها الدافع السياسي بالديني، بطريقة تسيء الى السياسة والدين معا، ما نشره (موقع الناس)، في 9- 4- 2012 تحت عنوان (بغداد... منع الطلبة الكورد من الاحتفال بعيد نوروز)، جاء فيه: " بمناسبة رأس السنة الكوردية الجديدة وأعياد نوروز، نظم مجموعة من الطلبة الكورد وباشراف رئيس قسم اللغة الكوردية في جامعة بغداد وجمعية طلبة كوردستان، يوم 8-4-2012 احتفالا على قاعة (بلاط الشهداء) بجامعة بغداد، إلا أن حرس الجامعة منعوا اتمام احتفالاتهم بذريعة أن هذا اليوم يصادف ذكرى وفاة (فاطمة الزهراء)، فيما كان الطلبة قد حصلوا على موافقة رئيس الجامعة لتنظيم هذا الاحنفال داخل الجامعة. ويرى منظمو الاحتفال ان السبب الرئيسي في منع الاحتفال هو الخلافات القائمة بين حكومة اقليم كوردستان والحكومة الاتحادية، مستندين برأيهم هذا، على ما شاهدوه في اليوم نفسه، من قيام مجموعة من الطلبة العرب بتنظيم حفل للتخرج في الجامعة المذكورة ولم يعترضهم أو يمنعهم أحد"
في هذا الحدث نعثر مجددا على حالة من حالات استخدام الدين لأغراض سياسية، واستخدام عناصر الموت ضد عناصر الحياة، وتغليب عواطف الحزن ونزعة النواح المصانعة على عواطف الفرح الحقيقية ومشاعر الرغبة في الحياة.
في مجتمع قائم على المساواة، لا يحق لعاطفة ما أن تنتصر على أخرى، لأسباب سياسية ومصلحية خاصة. لأن حق التمتع بالوظيفة الإيمانية وطقوسها شرط دستوري، يتوجب على الجميع القبول به. إن المنع والمشاركة في العزاء بدلا من الاحتفال بالميلاد أو بالأعياد القومية، قد يكون واجبا أخلاقيا ضروريا، لو أن الحسين أو فاطمة الزهراء ماتا في زماننا، وليس قبل عشرات القرون. لقد ألف المجتمع العراقي صيغ الإذلال، المسلطة عليه من قبل القوى الأقوى. إن الأقوى يستخدمها، باسم المجتمع، لغرض المقايضة السياسية والاجتماعية، التي تقود في آخر المطاف الى سلب الجميع حقوقهم، وجعل إهدار حقوق الآخر قانونا طبيعيا، معترفا به إجتماعيا. فخلف هذه الظاهرة نعثر على سبب سلب الشيعي حقه المعتقدي، حينما يكون الحكم سنيّا متطرفا, وفيها أيضا نجد من يريد سلب السنيّ حقوقه، باسم طائفة أخرى، لأغراض سياسية محضة. أما المذاهب والمكونات الأصغر والأضعف، فهي مادة دائمة للاستحواذ، حتى من قبل من يمثلها. ومثالنا المتعلق بمنع احتفالات أعياد الميلاد وأعياد نوروز بعض المظاهر الداخلية لاختلال الهوية، واهتزاز قواعد تنظيمها.
إن المنطق البشري الطبيعي السوي يقرر أن الموت يجب أن يتنازل طوعا لصالح الحياة، والماضي أو التاريخ يتنازل لصالح الحاضر، والشقاء يتنازل لصالح السعادة، والطاثفة الكبيرة لصالح الطائفة الأصغر، التي تعيش تحت ظلالها الحانية والعادلة. هذا هو قانون الحياة الأبدي، قانون استمرار الوجود، الذي نراه مقلوبا رأسا على عقب في المجتمع العراقي الجديد. ما الذي يحدث؟ من يدير محركات البشر ويوجهها في الاتجاه المضلل هذا؟
إن إدارة المجتمع السليمة تقتضي تحشيد طاقات المجتمع المادية (ثرواته) والروحية (ثرواته العقلية والعاطفية)، لغرض صناعة تراكم في الثروتين. بيد أن الإدارات الفاشلة تصنع العكس، تقوم بتبديد الثروتين، فلا تصنع سوى تراكم العوز والأزمات والإخفاقات واللصوص والأرامل والأيتام.
إن تحكم قوانين ومشاعر الموت بمشاعر المجتمع ليست نزوة تمّ فرضها من شخص أو قوة ما، وإنما هي استثمار سياسي بشع لحقائق الواقع. ولا أعني هنا استثمار عواطف الشيعي، المتعلقة بشهداء آل البيت. وإنما المشاعر الأكثر أرضية وحسيّة، المرتبطة بحقائق الحاضر، وليس بحقائق التاريخ البعيد. إن إلقاء نظرة سريعة على سبل توزيع المساكن من قبل وزارة الإسكان العراقية، يعطي صورة مركزة لحقيقة الدوافع التي تسير الأحداث والمشاعر. يقول وزير الإسكان محمد الدراجي، الثلاثاء 30 نيسان 2013: إن تخصيصات وزارته لا تتجاوز 4 بالألف من ميزانية العراق! وإنها موزعة بالطريقة التالية: 10 بالمئة لشهداء الجيش، 10 بالمئة لشهداء الشرطة، 10 بالمئة لشهداء المقابر الجماعية، 20 بالمئة للمهجرين، 10 بالمئة للمعوقين، 10 بالمئة للأرامل، 10 بالمئة لضحايا العمليات الإرهابية. أما ما تبقى من المجتمع فله 20 بالمئة فقط. إنه توزيع عادل حقا، ولكن في إطار الإجحاف والظلم الشامل. إنه توزيع مهين لكرامة الشعب، قياسا بحجم الميزانية العراقية الهائلة. أما دلالاته فلا تعني سوى أمر واحد: إننا نعيش في مجتمع للأموات، وليس للأحياء فيه سوى الخمس.
في العراق يملك الموت- خيالا وواقعا أو عبثا - سطوة عالية في مجال التحكم بشروط إدارة الحياة، وفي مجال رسم سبل العيش. لذلك يتوجب على المجتمع العراقي النضال من أجل تحرير نفسه من مشاعر وطقوس وتقاليد الموت، سواء أكانت طقوسا حربية، أو طقوسا تذكريّة. آن له أن يجد سبلا جديدة، أكثر نقاوة وتطمينا، لممارسة الحياة؛ سبلا تكون أقل إغراقا في التعاسة، النابعة من مشاريع سياسية، هي نتاج مباشر لأعصبة الحروب.
(جزء من الفصل الرابع- الباب الأول من كتاب: الثقافة العراقية تحت ظلال الاحتلال)



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطة صحية ناجحة، في خدمة الأموات فقط
- رحلة الموت السعيد من المنبع الى المصبّ
- ألغاز السياحة الدينية في زمن المفخخات
- موسم صيد الطرائد الشيعيّة
- مواكب عزاء لحماية الإثم السياسي!
- الطائفيّة أفيون الشعوب الإسلاميّة! (خطر احتكار الحقيقة دينيّ ...
- بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتم ...
- ثورة عراقية في فن التزوير
- لقد ابتلع السنة الطُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم ...
- الثورة والكرامة بين الفلسفة والأخلاق والسياسة
- شاعر لكل البشر
- عدن: مرثية البحث عن الجنة!
- دور الاحتلال في رسم صورة الحاكم العراقي
- من يرسم حدود العراق ج2
- من يرسم حدود العراق؟
- باربي ربّانية!
- الشروط الأخلاقية للحرية
- الى مظفر النوّاب آخر الصعاليك
- المثقف العراقي المستقل تحت ظلال الاحتلال
- للّغة ثوراتها وثوّارها أيضا


المزيد.....




- العفو الدولية: الحق في الاحتجاج هام للتحدث بحرية عما يحدث بغ ...
- جامعات أميركية تواصل التظاهرات دعماً لفلسطين: اعتقالات وتحري ...
- العفو الدولية تدين قمع احتجاجات داعمة لفلسطين في جامعات أمري ...
- اعتقالات بالجامعات الأميركية ونعمت شفيق تعترف بتأجيجها المشك ...
- منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية تؤكد مسئولية المجتمع ال ...
- ارتفاع حصيلة عدد المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ ...
- العفو الدولية: المقابر الجماعية بغزة تستدعي ضمان الحفاظ على ...
- إسرائيل تشن حربا على وكالة الأونروا
- العفو الدولية: الكشف عن مقابر جماعية في غزة يؤكد الحاجة لمحق ...
- -سين وجيم الجنسانية-.. كتاب يثير ضجة في تونس بسبب أسئلة عن ا ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - فرحة الزهرة وأحزانها: معادلات الموت والميلاد