أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - مواكب عزاء لحماية الإثم السياسي!















المزيد.....


مواكب عزاء لحماية الإثم السياسي!


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 4106 - 2013 / 5 / 28 - 09:00
المحور: المجتمع المدني
    


(بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتماع)
10/3 الجزء الثالث
إن إقامة علاقة عاطفية ذات طابع سلبي مع التاريخ، ومع المثل الأعلى التاريخي، لا تتم بالضرورة من طريق تفريغ الإحساس بالذنب (الإثم) تفريغا سلبيا. لكن هذا التفريغ السلبي، من طريق المبالغة والاستثمار التكسبي السياسي الشره للمشاعر الدينية، ضرب بقوة حياة المجتمع العراقي بعد سقوط الديكتاتورية، وصار عنوانا رئيسيا للحياة اليومية ولانشغالاتها. فقد اشتعلت حمى تسيير المواكب المليونية المحروسة بآلاف القوى الأمنية والتخصيصات المالية والبشرية الهائلة، في ظروف أمنية مضطربة. لقد غدت هذه المواكب ضربا من الألهيات الفجّة، الدعائية، في مجتمع يحتاج الى العمل النشيط والمثابر، والى الهدوء النفسي والتطمين الاجتماعي، أكثر مما يحتاج الى اللطم والتطبير ومواكب ومسيرات العزاء اليومية، المبالغ فيها، التي خرجت عن طبيعتها المألوفة، المتعارف عليها في المجتمع العراقي منذ قرون. فقد تحولت ظاهرة دينية "مستحبة"، في أفضل أحوالها، الى ظاهرة عبادية وفريضة تفوق دافعا وهدفا الحج ، باعتباره ركنا أساسيا من أركان الإسلام. لقد تحول طقس الطائفة الى تحشيد ديني يتفوق على شعائر الإسلام نفسه، باعتباره الدين الأم. فما يحدث يتجاوز حدود المقاييس المنطقية المرتبطة بالحدث، والمقاييس الطبيعية المرتبطة بالهدف الإيماني. إن ما يحدث هو سباق باسم الإيمان الديني، لكنه يجري خارج دائرة الدين كعبادة وحاجة روحية، وخارج دائرة الدين كامتثال لأوامر ربانية، عليا. إنه سباق سياسي خالص، ومكشوف. وهو سباق شره وجشع يتناسى العواقب النفسية والاجتماعية والاقتصادية المترتبة على هذا الغلو الإيماني العاطفي الكاذب. أما الجوانب الأخلاقية الناتجة من المسيرات الجماعية المليونية الطويلة، وما ترافقها من إباحات وتجويزات وآثام سلوكية (تفتقد طرق المسيرات الى الإيواء اللائق، ولوازم الصحة والنظافة، وسبل حماية النساء والأطفال والصبيان والعوائل من العبث. وهي أمور تقع في صلب التبشير الديني، ولكن يتم تجاهلها تجاهلا تاما، عدا توفير الطبيخ، الذي هو أضعف حلقات الإيمان)، تفوق حدود المنطق الديني، أو حتى غير الديني. لأنها تتعارض تعارضا مطلقا مع الدين، الذي يبشر به مسيّرو الحملات المليونية.
هناك طرق عديدة لتحويل الإحساس بالفقد والإثم وتفريغه اجتماعيا. على الرغم من أن فكرة التفريغ هنا، واهية الأساس من حيث الجوهر، لأنها دافع داخلي مؤوّل تأويلا خاطئا. إن الشيعي الراهن غير مسؤول عن مقتل الحسين شخصيا. لذلك هو غير مسؤول عن تكفير ذنب لم يرتكبه، أو عن توبة ما، لا ترتبط به ارتباطا شخصيا مباشرا، عدا مغزاها التاريخي والتربوي. وإذا افترض المعزّي أن عدم وجوده في تلك اللحظة التاريخية القاسية (استشهاد الحسين) يُعد في نظره تأنيبا رمزيا للضمير، فإن مثل هذه المشاعر تحمل تشكيكا عميقا في جوهر فكرة الدين الإسلامي عن أفعال الإنسان. وهنا نلاحظ أن أقرب آل البيت الى الحدث وأكثرهم ارتباطا به، لم يخضعوا أنفسهم لقوانين الندم والتبكيت السوداوية، بل مارسوا حياتهم الشخصية بكل متطلباتها وشروطها الممكنة، باعتبارها شكلا من أشكال تحدي الواقع القاهر. فقد حاربوا الموت بالحياة. إن واقعة استشهاد الحسين مثلا، تؤخذ، كما تؤكد المرجعيات كلها، على أنها محض تذّكر واعتبار. وفي هذه الناحية يمكن إيفاء هذا الاعتبار على نحو أكمل، بأساليب وأشكال عديدة معروفة للجميع، من طريق التعبد الإيماني الحقيقي، كالتعبد روحيا، صوما وصلاة، أو تقديم المساعدة الاجتماعية والتصدق والمعاونة. وهي طقوس مشتركة لدى الأديان جميعها، تدل دلالة وافية على التقوى والخشوع والاخلاص والوفاء، وعلى التطهير النفسي أيضا حينما تمارس رمزيا. ولكن من دون تظاهر دعائي، استعراضي، يهدف الى استمراء وتقبل القسوة عاطفيا، أو إيقاع الإيذاء البدني حسيا، أو تعطيل بعض أوجه الحياة الاجتماعية واستنزاف الموارد والطاقات. لقد أوجد المجتمع العراقي صيغا متعددة للتطهير النفسي، أشهرها السيرة "القراية" و" المجالس الحسينية"، والارتقاء الفني بالحدث من طريق التمثيل "التشابيه"، التي نجد لها صورا قريبة الشبه في بعض بلدان البحر الأبيض المتوسط الأوروبية، رغم الفوارق الجمالية والنفعية الكبيرة. والتشابيه، شكل فني، ذو منزلة راقية وفعالة للتطهير الذاتي وللتثقيف والتعريف وللدعاية أيضا؛ وكذك المجالس، والأعمال الخيرية. أما الضرب المباشر والايذاء الجسدي، والمسيرات الجرارة، فهي صورة تتعارض تماما مع الهدف: تذكر المثل الأعلى الايجابي السامي. كما انها إساءة الى مضمون الرمز والى الذات العليا وتعطيل لقوى المجتمع. وتلك نتائج لا يرضاها المثل الأعلى ذاته لمريديه. في هذه الأمثلة يتحول الدين الى ألهية حقيقية، والى وسيلة ضارة ومخدرة ومكلفة ومعطلة. أي إنها تدخل، من المنظور الفلسلفي الإسلامي نفسه، في دائرة الشر، باعتباره معيقا أو خللا في قوانين التنظيم الطبيعي. هنا يتحول الدين حقا الى التسمية التي أنكروها على قائليها: مُخدِّر أو أفيون.
يذكر البلاذري أن عدد التوابين الذين بايعوا سليمان بن صرد الخزاعي بلغ ستة عشر ألفا، وقيل إثنا عشر ألفا، لم يبق منهم عند معركة (عين الوردة) سوى أربعة آلاف. في الثاني والعشرين من جمادى الأُولى 65ه دارت الحرب بين التوابين وبين جند بني أمية، فكانت الهزيمة نصيب التوابين، بسبب نكوص المبايعين. وقد قال بن صرد متعجبا: " سبحان الله، أما تذكر هؤلاء الله وما أعطونا من الميثاق" (البلاذري ج7 ص 368). إن النكوص ظاهرة متكررة، حتى لدى من يكفّرون عن النكوص! لذلك لا يجوز تأبيدها عاطفيا ونفسيا. لقد حدث هذا الخذلان المركّب بعد سنوات معدودات من مقتل الإمام الحسين. وابن صرد هذا، الذي كان شيخا طاعنا، من رجال الإمام علي بن أبي طالب، لم يرتض أن يذهب الى الآخرة وهو يحمل إثم خذلان الحسين. كان يخشى مقابلة الإمام علي والنظر في وجهه. من نحن من هؤلاء!
إن تعبئة القوى الاجتماعية حكوميا، من طريق الروابط الدينية الضيقة والمتعصبة، أي تسييس الدين، يفرض على الحكام أن لا يعودوا بالدين الى صورته البدائية، كما لو أنه مطلب غريزي. أي ممارسة التعبئة على غرار ما تفعله الجماعات التكفيرية، التي ترتد بالفعل الديني وما يرافقه من أفكار الى أبشع أشكال ممارسته بدائية وسلبية، وأكثرها تضادا مع شروط الواقع وحاجات التطور البشري. إن مهمات القوى السياسية، القائدة للمجتمع، في ظل نظام عادل هي تغيير اتجاهات الدوافع العاطفية، لما فيه خدمة المجتمع والارتقاء بالتطور الثقافي وبالوجدان الجمعي. إن التربية الوجدانية التصعيدية المضللة تخلق ذاتا منافقة، كاذبة، مدمنة على التفريغ النفسي الكاذب، الذي يغدو حصانة نفسية وعقائدية، تجوّز قبول أي فعل سلوكي خاطئ يرتكبه الفرد. لأن المُكّفر النفّاج (باللطم والتطبير والمسيرات الجماعيةالطويلة) والمصانع، يعتقد أنه قدّم ما يخصه من واجب، وأضحى مطهّرا، ومفرّغا من تعذيب الضمير. إن التطهير الكاذب يخلق ذاتا كاذبة، مدمنة على الخداع، وذاتا معطوبة، مستعدة لتكرار الخطأ من دون تأنيب ضمير. وهذا يعني أن القوى السياسية التي تشجع الأفراد على الإغراق في الطقوس، والمبالغة فيها، إنما تريد أن تنتج مواطنا فاسدا من الداخل، وتتفنن في صناعة شروط إفساده. لقد وصل العطب والنفاق الاجتماعي حدودا خيالية، حينما قامت أحزاب سياسية تتباهى بالعلمانية والإلحاد ورفض الخرافات، بالتحول الى قوة مضافة تدعم رصيد الظاهرة التصعيدية الدينية. إن الدين هنا يغدو وسيلة إباحية لتحقق المحرّم، ووسيلة للنيل من كرامة الدين، ومن قداسته. إن رجال الدين السياسيين يمتهنون الدين ومشاعر الفرد الدينية امتهانا يقتل ويشوه الغايات السامية للدين نفسه. هل ما يحدث فورة عفوية أم تخطيط سياسي منظم؟ لا يهم هذا كثيرا. إن ما يهم الآن هو أن استمرار تحفيز المشاعر الثأرية، وتصعيد الاتجاهات الفطرية الخاطئة وتحويلها الى مبادئ مقدسة، وتحويل الجهاز السياسي الى مشرف على تنفيذ هذه المقدسات التضليلية، وتحويل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، الى راع وحارس لتنفيذ طقوس التقديس، إنما تحيل المجتمع بأسره، من يرضى ومن لا يرضى، طوعا أو كرها أو نفاقا، الى قطيع من الجهلة الغرائزيين، البدائيين.
إن فترات اضطهاد الشيعة الطويلة دفعت بعضهم الى ايجاد تكييفات مزاجية قهرية، وصيغ ومفاهيم نمطية خاصة لتوصيف الممارسة السلوكية، نابعة من شروط العيش في بيئة عدوانية، قامعة، طويلة الأمد. وهذا ما نجده في الأوصاف التي يطلقها بعض مؤرخي الشيعة، وبعض فقهائها، على من يريدون نعتهم بشدة التقوى أو الطهر. فهم يصنعون منهم بشرا مغايرين حقا، ومميزين حقا في شدة تقواهم، ولكن في صيغ تجعلهم في مرتبة المرضى المصابين بالسودواية، الأقرب الى أعراض المناخوليا.
لقد شاعت تقاليد البكاء في الثقافة الشيعية، وعدّها البعض ضربا من التعبد والخشية الإيمانية. وقد بولغ فيها لدى الرواة الشيعة، فجعلوا الإمام الثائر زيدا بن علي بن الحسين رجلا لا يملّ من البكاء ولا يكلّ: " فإذا جن الليل عليه نام نومة خفيفة، ثم يقوم فيصلي في جوف الليل ما شاء اللّه، ثم يقوم قائماً على قدميه يدعو الله ويتضرع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر". بيد أن من يعود الى التاريخ يجد ما هو مخالف تماما لهذه الصورة المصطنعة. فقد كانت صورة الإمام زيد النفسية، تتميز بالجرأة والشجاعة وقوة الشخصية، حتى أن شخصيته فاقت شخصية إمام عصره، ابن أخيه الإمام جعفر الصادق، حدة وعنادا في مواجهة العسف. وتلك صفات لا تتلاءم مع الشخصية البكّاءة، التي رسمها فقهاء حسينيات النواح والندب.
وقد جعل بعض الرواة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن تبكي عند قراءة القرآن، وهذا أمر محتمل. ولكن منهم من جعلها "تبكي آناء الليل والنهار"، وأنها حفرت لها قبرا في غرفتها كانت تصلي فيها وتبكي. وهي صورة، إذا قدر لها أن تأخذ على أنها حقيقة، فلن تنتج شخصية مؤمنة، تقية، بقدر ما تنتج شخصية أميل الى المرض والعصاب. إن البيئة النفسية التاريخية، الضاغطة، تصنع توصيفاتها ومفرداتها ومقاييسها الخاصة، التي ترسم بها، من منظورها المغلق، أشكال السلوك البشري، من دون أن تعي أنها خاضعة الى نوع من القهرية التاريخية السوداوية.
حينما نلقي نظرة على طبيعة الأسماء الشيعية في جنوبي العراق، ونبحث في دلالاتها الطائفية، لا نصاب بالدهشة عندما نجدها تخلو تماما من أسماء عمر وأبي بكر وعثمان على سبيل المثال. هذا أمر طبيعي، نشأ بحكم الخلاف الطائفي طويل الأمد. ولكن حينما نتساءل: من أين استمدت العواطف الشعبية خزينها الإقصائي، الانتقائي هذا؟ الجواب على ذلك يكمن بدرجة أولى في حجم وطول ما حاق بالشيعي من جور وتهميش. لكنه يتعلق أيضا بقوة خضوع الفرد الى قانون التربية الجماعية. إن إلغاء أسماء يزيد ومعاوية وسفيان سلوك مبرر نفسيا وأخلاقيا. لكن إنكار اسم عمر وأبي بكر، أمر لا يقره منطق ديني، مهما كان مغاليا. هذا الموضوع يدفعنا الى التساؤل: لماذا شذّ أفراد محددون من الطائفة نفسها عن قاعدة التحريم "المقدسة" هذه؟ الجواب على ذلك يميط اللثام عن موضوع تصعيد الدوافع وتهذيب العواطف، ودور المرجعيات السياسية والدينية والشحن العاطفي في صناعة الاتجاهات السلوكية. ربما سيصاب الشيعي البسيط بارتجاج شعوري حينما يُطلب منه أن يسمي مولده الذكر باسم مختلف، أمثال عمر وأبي بكر وعثمان، وأن يسمي مولده الأنثى باسم عائشة. لكن "عمر" كان اسما لأحد أبناء الإمام علي، جرى تغييبه من الذاكرة، إلا ما ندر. وقد فسر بعضهم الأمر تفسيرا شائنا، حينما عللوا سبب هذا التغييب يعود الى أن "عمر بن علي" لا ينحدر من نسل فاطمة، وأن أمه من أبناء السبي في عين التمر. لكن أم كلثوم، ابنة الإمام علي، كانت زوجة عمر بن الخطاب نفسه.
لا يعرف الشيعي البسيط أن من أعاد السيدة عائشة الى بيتها، عقب معركة الجمل، هو أخوها محمد، بأمر من الإمام علي. كان محمد بن أبي بكر أحد مخلصي الإمام الأوفياء، كما كان عبدلله بن عمر، بحكم طبيعته العادلة وزهده، ميالا الى الإمام علي. وإذا كان عمر بن الخطاب قد أورث عمرا بن علي بن أبي طالب اسمه ( قيل إنه كان ضمن شهداء الطف الـ 25)، فإن محمدا بن أبي بكر كان "ربيب علي"، وأحد أخلص أبنائه في السلم وفي الحرب. قتل محمد بن أبي بكر عام 38 على يد جيش معاوية في مصر، بعد ان تفرق عنه شيعته من الجند وتركوه وحيدا. كان موته حسيني الطابع أيضا. سبق استشهاده استشهاد الحسين بعقدين من السنين. سيصاب الشيعي البسيط بصدمة أقوى حينما يعرف أن شهيدين من آل البيت، حملا اسم أبي بكر وآخرين حملا اسم عمر، كانوا بصحبة الإمام الحسين في معركة الطف، على اختلاف وتضارب الروايات والتفصيلات. أولهما أخوه أبو بكر بن علي، الذي جعله بعضهم باسم عبدالله ووضع ضمن القتلى الخمسة والعشرين. أما الثاني فابن أخيه، أبو بكر بن الحسن. أما عثمان فهو أحد أبناء علي بن أبي طالب، وقد استشهد في الطف مقطوع الرأس. ولسكينة ابن اسمه عثمان من عبدالله بن عثمان، وفي هذا خلاف يطول شرحه.
إن مصاهرات الأئمة العلويين مع الصحابة وأبنائهم ومع بني أمية امتدت طوال عهود، وبلغت العشرات. وهذا دليل كاف على أن مبدأ الإثم والتكفير لم يكن جزءا من طابع حياتهم، رغم وجود روايات تنكر أغلب تلك المصاهرات. لكن ذلك لا يلغيها، لأن ما لا خلاف عليه كثير وكاف.
وإذا صح زواج سكينة بعبدالله بن عثمان، تكون قد اقترنت بابن رملة بنت الزبير، وبابن عثمان بن حكيم، الذي قتل في معركة الجمل وهو يقاتل ضد الإمام علي. وقيل إن لها ولدا منه اسمه عثمان أيضا.
لقد شهدت سكينة مقتل أبيها، حينما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وعاشت محنة السبايا. لكنها في الوقت نفسه زوج مصعب ابن الزبير، أحد خصوم الحسين وقاتل المختار الثقفي الثائر لدم الحسين! وتنكر بعض الروايات وجود ابن لسكينة اسمه عثمان، بل تنكر هذه الروايات أن تكون سكينة قد تزوجت بمصعب وعبدالله بن عثمان أو زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان أصلا. كما أنكر البعض زواج فاطمة بنت الحسين بعبد الله بن عمرو بن عثمان، وهناك من عد هذا الزواج وزواج سكينة بمصعب " قهرا وجبرا". وهناك من يؤكد أن سكينة لم تتزوج إلا بابن عمها عبدالله الأكبر بن الحسن، ولم تتزوج بعده. أما فاطمة بنت الحسين فقد تزوجت من الحسن المثنى بن الحسن، ولم تتزوج بعده، كما يؤكد الاصفهاني في (مقاتل الطالبيين). بيد أنه يذكر أن أم فاطمة هي أم اسحق ابنة طلحة بن عبدالله، خصم الإمام علي في معركة الجمل. كما يذكرأن الحسن بن علي كان مصاهرا لطلحة أيضا.
يروى أن الحجاج تزوج بأم كلثوم ابنة عبدالله بن جعفر بن ابي طالب، وهي أخت محمد، الذي قتل في كربلاء مع الحسين. وهناك طبعا من ينكر زواج الحجاج من أم كلثوم، أو ينكر استمرار هذا الزواج ، وأنكر آخرون أمر طلاقها منه.
أما إنكار زواج سكينة بمصعب لاستحالات سياسية، فهو إنكار واه. لأن زواج مصعب من سكينة له ما يبرره تاريخيا لو صح وقوعه. فالزبيريون ما كانوا أشد قسوة على العلويين من بني أمية. وقد سعوا الى الإفادة من نقمة أنصار علي والحسين لمصلحة حربهم ضد منافسهم الأموي. لذلك سمحوا للتوابين بالتجمع، وسمحوا لهم أن يتوجهوا لمقاتلة بني أمية في (عين الوردة)، ولم يعترضوا مسيرهم. كان الزبيريون يسعون الى استثمار النقمة على بني أمية لمصلحتهم، وهذا سبب ظهور حركة المختار الثقفي أيضا، الذي لم يتحول الى عدو إلا بعد أن أظهر ميله الى جعل الخلافة في أحد أبناء علي ، محمد بن الحنفية. لذلك كان زواج مصعب بسكينة ممكنا تاريخيا، وإن كنا لا نستطيع القطع بذلك.
هذا الاختلاط الإخباري يؤكد تضارب الروايات وتداخلها، لكنه يشير بمجمله الى عمق دائرة المصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى الى أن دائرة الأحقاد لم تتحول الى إشارات وشعارات سياسية في زمن الأئمة الأوائل، ولم تتأسس على ضوئها مرجعيات لغوية ودلالات رمزية حينذاك.
سيقول قائل إن بعض تلك الأسماء ربما تكون قد أختيرت قبل استفحال الخلاف على الخلافة وما تبعه من صراعات دموية. لكن الأسماء والمصاهرات تكذب ذلك، فهذا علي بن الحسين، زين العابدين، يكذب التنابذ والتطرف في العداء، حينما يطلق على أحد أبنائه اسم عمر. وهنا، لا بد لنا أن نلاحظ، أن تحولا واضحا طرأ على الأسماء في بداية انتصار بني العباس. أي بظهور سلطة جديدة لها شعارات سياسية دينية محددة، مصحوبة بصيغ دعائية وإعلامية موجهة. وقد مالت أسماء أبناء جعفر الصادق ( ولد عام 80 في حقبة بني أمية، وتوفي 148 هـ في خلافة المنصور، وهو من نسل أبي بكر عن طريق أمه وجدته لأمه) الى العائلة العلوية أساسا، والى أسماء نبوية، أمثال: محمد، اسماعيل، اسحق، موسى. وهو ملمح ربما ينسجم مع فكرة التقية عند الصادق، وينسجم مع أجواء انتصار بني العباس على بني أمية.
من يوجّه الناس؟ أي مرجعية تلك التي تصنع وتصوغ الإطار العاطفي والرمزي للطائفة؟ هذه أسئلة سياسية وعقائدية، لكنها أسئلة ثقافية أيضا، وأسئلة تربوية، تتجاوز حدود الفرد الى الجماعة. أي تتجاوزه الى الإرث التربوي التاريخي للجماعات البشرية.
من أين يستقي الفرد مثله الأعلى، من الإمام الحسن، الذي جعل ابنين من أبنائه تحت اسم عمر وأبي بكر، أم من فقهاء الحسينيّات؟ أيهما قدوة الشيعي: الإمام زين العابدين، أبو عمر، أم فقيه طائفي؟
إن عناصر التنابذ والخلاف والإختلاف لا تنحصر في بعض أوجه ممارسة الطقوس وفي الفقه، وإنما هي محفورة بعمق في النسيج اللغوي والنفسي للفرد. وهي من الخطورة، أنها لا تحتاج الى كدّ عال، لكي تتحول الى شرارة للحريق على الهوية. من هنا نرى أن اللعب والانهمام بالعنصر الطائفي، مهما كان بريئا، يضع المجتمع على حافة الخطر دائما.
إن الدلالات الرمزية للأسماء ليست حكرا على الثقافة الشيعية، بل هي صفة مميزة لثقافة الفرق، السياسية خاصة، المعادية للشيعة أيضا، وبقوة رهيبة. فقد أضحت الطائفية السياسية تعيد إنتاج وتأسيس الأحقاط بطرق تفوق حتى قوانين المنطق والعقل. وربما تلخص جارتنا، الطفلة الفلسطينية، ذات العشر سنوات، العائدة توا من زيارة مع أهلها الى فلسطين، المناخ الثقافي للصراع الطائفي بثوبه الجديد. تقول الطفلة عن مشاهداتها في القدس: " إنهم منعوا من زيارة بيت المقدس.... وأن من منعهم هم "الصهاينة". ومن هم الصهاينة؟ تجيب: "هم اليهود الإسرائيليّة". ومن هم " اليهود الإسرائيليّة"؟: "هم الشيعة اللي يذبحوا المسلمين!".
الى أين تذهب السياسة الطائفيّة بالثقافة وبالعيش المشترك؟
إذا كانت الطائفية السياسية قد سممت عقل طفلة فلسطينية، ودفعتها الى تغيير معادلة الصراع القومي والديني التاريخية كلها لصالح إسرائيل، فإن جارنا الآخر "أبا فدك"، يحوّل الحاضر والمستقبل الى مرجعية أبدية للأحقاد العبثية، باسم الوفاء للمثل الأعلى، وعلى حسابه.
لقد وصل الغلو الطائفي حدودا خيالية لدى البعض، حتى كاد أن يكون موهبة إعجازية خارقة في فن الشحن العاطفي التاريخي السلبي. لذلك نجد من يسمي ابنته المولودة في أكثر دول العالم تسامحا وتحضرا، سويسرا، باسم "فدك". وهو اسم يستدعي من أعماق التاريخ والذاكرة خلافا هامشيا، حدث قبل خمسة عشر قرنا، يتعلق بملكية قطعة أرض. بهذا الاسم يتحول التاريخ الى ذاكرة حيّة، يقظة، يتم زراعتها، بكل شحناتها ودوافعها ومحمولاتها، في نفوس أجيال بريئة قادمة! هذا الضرب من المغالاة في تذكر الأحقاد، لا يسمم الحاضر فحسب، بل يعتدي على حرمة المستقبل أيضا.
(جزء من الفصل الرابع- الباب الأول من كتاب: الثقافة العراقية تحت ظلال الاحتلال)



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطائفيّة أفيون الشعوب الإسلاميّة! (خطر احتكار الحقيقة دينيّ ...
- بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتم ...
- ثورة عراقية في فن التزوير
- لقد ابتلع السنة الطُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم ...
- الثورة والكرامة بين الفلسفة والأخلاق والسياسة
- شاعر لكل البشر
- عدن: مرثية البحث عن الجنة!
- دور الاحتلال في رسم صورة الحاكم العراقي
- من يرسم حدود العراق ج2
- من يرسم حدود العراق؟
- باربي ربّانية!
- الشروط الأخلاقية للحرية
- الى مظفر النوّاب آخر الصعاليك
- المثقف العراقي المستقل تحت ظلال الاحتلال
- للّغة ثوراتها وثوّارها أيضا
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء الثامن)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء السابع)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء السادس)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الخامس)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الرابع)


المزيد.....




- كنعاني: الراي العام العالمي عازم على وقف جرائم الحرب في غزة ...
- كيف تستعد إسرائيل لاحتمال إصدار مذكرة اعتقال دولية لنتنياهو؟ ...
- منظمة التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بش ...
- الأمم المتحدة: الطريق البري لإيصال المساعدات لغزة ضرورة
- الداخلية التركية تعلن اعتقال 23 مشتبها بانتمائهم لـ-داعش- بع ...
- تقرير كولونا... هل تستعيد الأونروا ثقة الجهات المانحة؟
- قطر تؤكد اهتمامها بمبادرة استخدام حق الفيتو لأهميتها في تجسي ...
- الكويت ترحب بنتائج تقرير أداء الأونروا في دعم جهود الإغاثة ل ...
- كيان الاحتلال يستعد لسيناريو صدور مذكرات اعتقال بحق قادته
- سويسرا تؤجّل اتّخاذ قرار حول تمويل الأونروا


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - مواكب عزاء لحماية الإثم السياسي!