أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011 - سلام عبود - لقد ابتلع السنة الطُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم!















المزيد.....



لقد ابتلع السنة الطُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم!


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 3567 - 2011 / 12 / 5 - 20:21
المحور: ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011
    


 ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها

عنوان المقال:
لقد ابتلع السنة الطـُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم!

ملاحظة: تتركز أجوبتي على الواقع العراقي في الأغلب.

1ــ هل كانت مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية مؤثرة في هذهِ الثورات؟ و إلى أي مدى؟
تفاوتت هذه المشاركة من مكان الى آخر، بيد أنها ، بشكل عام كانت أقل بروزا من مشاركة القوى الإسلامية والقوى التي تدعي الاستقلال السياسي، والتي ستظهر لاحقا باعتبارها قوى هلامية، مشتتة، طرفها الأقوى هو تيار الارتماء التام في المشروع الأجنبي حربيا وسلميا ودعائيا.
هناك طابع عام مميز لهذه الثورات، عدا سوريا التي يتم رسم خطواتها وحساب جداول حركتها من الخارج بالساعات، وتركز نشاطها في المناطق الثأرية والمواقع الحدودية. لقد أخذت الثورات العربية صفة انتفاضات مدينية، قوامها الرئيس الحقوق المدنية، وليس الشعارات الطبقية أو المطلبية النقابية.
لقد انعشت هذه الثورات أطرَ المنظمات السياسية والنقابية المشلولة منذ زمن طويل، ومنحتها فرصة للتحرك والتفاعل، لم يكن قادة وأعضاء هذه الأطر يحلمون بها. بيد أن العبرة دائما في النتائج، التي قد تجني منها القوى اليسارية والديموقراطية بعض الفوائد، منها الصحوة وإعادة الأمل وإعادة الثقة بالجماهير. عدا ذلك سيكون الطابع العام المميز لهذه الثورات هو تحطيم مركزية قديمة، تسلطية، جمعت بين العسكرة والأسرية والشعارات التمدينية الكاذبة، لصالح النموذج الجديد، وهو النموذج التابع، المخول بتفويض من الأميركان وحلفائهم الدوليين، مهمة ضبط ايقاع ومسارات التغيير في المنطقة، وجعلها تدور في ثلاثة أطر: الأول، يضم اتحاد الدول الخليجية والملكية القائدة للسياسة الإقليمية العربية الراهنة، وهو الطراز السلطوي المحبذ من القوى المتحكمة بالسياسة العالمية، ويشمل نظم الحكم الأكثر تخلفا دستوريا وحقوقيا، بما فيها النظم القروسطية. الثاني حلقة الدول التي مسها التغير، والتي تجري فيها إصلاحات دستورية متعددة، لكنها في النهاية ستكون خاصعة للسيطرة المباشرة سياسيا وعسكريا وماليا من قبل الإطار الأول وتاليا القوى الأجنبية، الإطار الثالث، وهو إطار محتمل وافتراضي: الدول التي تخرج على هذا المخطط. هناك تقسيم عمل سياسي وعسكري نشأ في منطقتنا بعد الغزو الأميركي للعراق، هذا التغيير سيكون عنوانا لمرحلة تاريخية طويلة قادمة، على انقاض المرحلة السابقة، التي سميت بمرحلة التحرر الوطني، والتي قادتها عناصر عسكرية بثياب مدنية نشأت جذورها في تربة مؤسسة قومية كاذبة وفاشلة. من دون أن نفهم شمولية هذا التحول الاقليمي والعالمي الجديد وتبدل الأدوار، يستحيل علينا أن نفهم مسارات ومآل الحركات الشعبية العربية. لقد نشأ جنين تخصصي في قلب هذا النموذج تتولى قطر جانبه السياسي الإعلامي، والإمارات المتحدة جانبه الأمني والتجاري، والسعودية جانبه العسكري والديني، والكويت جانبه الإداري والتنظيمي، وتتوزع الأدوار التخصصية الأخرى على ما تبقى من الشركاء. وفي الجانب الإقليمي تمارس تركيا دور الممر السياسي والعسكري،الذي يربط بين القرار "الدولي" وبين الحدث العربي. وهذه نتيجة خطيرة، لكنها هي الواقع الفعلي لما يحدث، في المدى المنظور. الثورة التونسية أكثر الثورات العربية عفوية، والمصرية أعلاها وعيا وأكبرها أملا قوميا، والليبية أكثرها دموية، واليمنية أكثرها خذلانا، والبحرينية أكثرها غدرا، والسورية أكثرها التباسا، والعراقية أكثرها فشلا.
أثبتت الأحداث العربية أن البحرين مثلا بحرينان، بالضبط كما أن المنطق الديموقراطي الأميركي والغربي منطقان، منطق لك ومنطق عليك، وأن البحرين بحر لك وبحر عليك.
ولا تختلف القطيف عن المنامة في هذا الجانب، فشيعة المنطقة الشرقية غرباء، جاءوا من خارج الحدود خلسة، كما يصف مفتي عام السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ الذين يقفون وراء الاحتجاجات الشعبية: «هؤلاء المارقين مثيري الشغب ليسوا منا، وإنما فئة ضالة تتبع الخارج ويأتمرون بأوامر خارجية، وليس لهم علاقة بوطننا ولا بلادنا".
غزو البحرين عسكريا من قبل قوات سعودية، ليس سوى تأويل بلطجي لقرار مجلس التعاون الخليجي، القاضي بالتدخل والمساعدة في حال حدوث تدخل أجنبي. ففي الخليج لا يأتي البلطجية على البعران، بل يمتطون أحدث طرز العربات المقاتلة!
المؤولون، الفرحون بتأويلهم، غبي عليهم أنهم بهذا التأويل التحقيري يرفعون علم الطائفية فوق سقف ممالكهم، ويؤسسون قاعدة نفسية وقانونية وسياسية تقول إن 70 بالمئة من الشعب البحريني أجنبي ( استنادا الى تقرير منظمة ابن خلدون لمراقية حقوق الأقليات). الحاكم المأزوم يعلن للملأ أن البحرين بحرينان. 30 بالمئة منهم بحرينيون بحارنة، و70 بالمئة بحرينيون متبحرنون، بدون، مغشوشون، حقوقهم المدنية تعد تدخلا أجنبيا في شؤون المملكة، صعدوا الى سفينة البحرين قادمين من أعماق البحر المظلمة، وتمّ قبولهم على اليابسة بسبب كرم شيوخها، وشيوخ الخليج، ومثلهم سكان المنطقة الشرقية في مملكة آل سعود. كل هذا يحدث على الرغم من أن طبيعة المعركة القائمة في البلدين يعرفها الجميع، معركة كرامة، ومعركة حقوق مدنية تتجاوز حدود الطوائف، وحدود اللعب بمشاعر الأقليات والأكثريات.
الإمبريالية الدائخة، التي ربحت حربها التاريخية بضربة مفاجئة، عند سقوط غريمها المريض قبل أوانه، أرغمها تَسارعُ الأحداث وشدّةُ شرهها وأنانيتها واستفرادها، على فقدان موهبة الموازنة والاستثمار الواقعي لقواها الحقيقية، المحدودة عالميا: تراثها، خبراتها، طاقاتها، وجودها المادي، عمق تحالفاتها الدولية عسكريا، عدا قدراتها النارية غير المحدودة.
هنا يكمن تناقض القوة العالمية الواحدة الجوهري: تفوّق القدرة النارية وما يصاحبها من خيال سياسي على حجم المقدرات الواقعية اللازمة للانشار عالميا وتحقيق السيطرة الدولية. هذا التناقض الموضوعي جعلها تتخبط بين مبالغات الذات وكبريائها المتورم، وبين حقائق الواقع واحتمالاته وممكناته الظاهرة والخفيّة، المتوقعة وغير المتوقعة، السّارّة والمبكيّة.
حينما ننظر الى البحرين ونقارنها بليبيا، نجد مفارقة ديموقراطية، من طراز رفيع. أميركا تتخلى عن دورها، الذي أرغمت الجميع على تبنيه، بدفعهم الى جعل الهجوم الجوي قرارا تنفيذيا، باسم الشرعية الدولية. لكنها سرعان ما ضربته عرض الحائط، من دون ندم أو حتى تبرير، حالما وجدت أن هذا الدور لا يصلح أن يكون أداة مباشرة لانتشار قواتها على الأرض، وأنه لن يفضي الى إخراج القرار السياسي الليبي من أيدي الناتو (الأوروبي التحكم).
أميركا دائخة أكثر من الشوارع العربية. قادة أميركا دائخون أكثر من الحكام العرب. والثوريون العرب ليسوا بمنجاة من عوارض الدوخة أيضا. الجميع دائخون. نحن في مرحلة الدوخة التاريخية، بعد مرحلة الصدمة والترويع، التي عمّت العالم عند الغزو الأميركي للعراق واحتلاله. الشعوب تبحث عن أفق يخرجها من معاناتها التاريخية، وأميركا وحلفاؤها يبحثون عن حظائر جديدة للحكم يجرون الثورات اليها.
السياسة الآن سياسة الدائخين. الدائخون الكبار يسعون الى قيادة أسماك البحار الهائجة، الى شبكة الديموقراطية الأميركية المهترئة. على عبد الله صالح يواجه الثورة اليمنية السلمية بتراث محاربة القاعدة عسكريا! قوات الرئيس المرفوض شعبيا يتم تسميتها "القوات الموالية لعلي صالح"، وليس "قوات قمع النظام"، كما يطلق على القوات السورية. والقوات المسلحة اليمنية المعارضة، تسمى "القوات الموالية لابن الأحمر"، بدلا من القوات الوطنية "المنشقة"، كما هي الحال في المثالين السوري والليبي! في هذه النقطة تحديدا، عند توصيف ثوراتنا المغدورة، حتى "الجزيرة" تصاب بالدوخة، وتفقد لباقتها! الأوروبيون يتدارسون فكرة إدانة السلطة اليمنية والمعارضة!
كيف نفسر ما يحدث في سوريا؟ الطرفان، المعارضة والسلطة، يملكان مبررات جدّية لإدارة الصراع فنيا على الأرض. النظام السوري، الدائخ الى حد الترنح، يضع تجربة العراق، التي ظهرت علنا في بيان "المحاصصة السياسية" للمعارضة السورية، بنسبها القومية والعرقية والطائفية، أمام شعبه، ويرفعه دليلا صريحا على أن "تعريق" المعركة السورية هو الهدف النهائي للمعارضة، مانحا نفسه حق الاستخدام البربري للقوة ذريعة لمواجهة خصومه الدائخين. أمّا المعارضة، التي تملك مبدئيا حقا جديا وضروريا بإنهاء سلطة الحزب الواحد، تفقد شيئا فشيئا حظها في الخروج من ورطة النموذج العراقي، الذي حصرت خطواتها في نفقه حصرا مميتا. المشروع السوري مرسوم من الخارج، ليس بالأيام ، بل بالساعات، خطوة خطوة. هذا السير الحثيث، المبرمج، الذي رأيناه سابقا في خطوات المعارضة العراقية، سيرغمها، عاجلا أم آجلا، لو حالفها الحظ، على القبول بنتائجه المأسوية، باعتبارها مجرد تحصيل حاصل، وأنها لم تكن سوى جزء حتمي من تركة النظام الحاكم وسياسته. وتلك نتيجة قاسية، لا تقل كارثية عما يحدث في العراق. لأن النتائج، وليست الوسائل، هي غايات الثورات. الحديث عن النموذج العراقي ليس تنبوءا، وليس ضربا من الخيال. الجنين العراقي بدأ يكون ملامحه الواضحة، قطعة قطعة، في رحم الواقع السوري: ظهور قاعدة تحاصصية في وثيقة الاعلان السياسي، ظهور العراب الدولي الذي سيتوج ملكا للسياسة الداخلية والخارجية بأفضلية ممتازة وصورة محسنة قياسا بالعراق، السفير الأميركي، فتح ممرات آمنة لدولة القاعدة بمشورة نغروبونتي القديم، أو نغربونتي جديد، علما أن "دولة القاعدة لبلاد الشام وما جاورها" وأمراءها المليون لا تحتاج الى فتح ممرات، لأن منابرها قائمة وعامرة، قيام مجلس حكم تحاصصي على قاعدة عرقية وطائفية أمر معلن، تبخر التيار الديموقراطي سيتم خلال بضعة أشهر، حالما تغدو الحرب الطائفية العرقية قانونا للاصلاح السياسي والعدالة الجديدة التي يديرها سفير واشنطن وشركات الحماية الأجنبية، تدمير بنية الدولة أمر شرعي في ظل وجود جيش مارس القتل، اكتشاف محاسن اسرائيل وخيانة المحايدين سترسم صورة العلاقات العربية كلها وفق شعار "شام حر جديد، لا عربي ولا إسلامي"، ولكن باستبدال كلمة عربي بعرقي وكلمة إسلامي بطائفي ، وصولا الى صيغة شعب بلا هوية، منح حقوق الجيرة في هيئة تجاوزات حدودية وشروط سياسية لمن أيدوا بالمال والسلاح والسياسة ، قادة المعارضة الديموقراطيون سيعودون الى بلدان اللجوء لمراجعة الحساب وقراءة نشيد الخيبة مجددا، الى آخر المسلسل. مسلسل المخاوف هذا حق مشروع لمن تهمه مصائر الشعب السوري، بيد أن ايقافه غاية أساسية تتحدى المعارضة السورية تحديا مباشرا، تيارها الديموقراطي والوطني خاصة، وتحملها المسؤولية كاملة عن النتاتج قبل وقوعها، بنفس الدرجة التي تحمل السلطة القائمة مسؤولية الاصرار على تعطيل الاستجابة السريعة للحل الوطني الديموقراطي، ومسؤولية التأخر في الخروج من الفخ البعثي الصدامي المميت .
الثورة اليمنية الأكثر صبرا واحتداما شعبيا، ما انفكت تحاول تجريب نموذجها السلمي، النموذج الذي يسعى باستماتة الى النأي بنفسه وثورته عن خاتمة لا يريدها. لكن النظام، وحلفاؤه الاقليميون والدوليون، يستميتون بشراسة في جره اليها جرّا.
الواقع كله يقول إن على عبدالله صالح، بسياسته الابتزازية المتخلفة، وسوء إدارة السلطة، عاد باليمن الموحد الى صيغة يمنين، من الناحية الواقعية، حتى بدا الشمالي محتلا في الجنوب. اليمن يمنان، شئنا أم أبينا، هكذا أراد حكم العسكري المرفوض، وربما أراد أكثر من ذلك حينما قاد الى خلق أكثر من يمنين بقوة السلاح وبقوة الطائرات بدون طيارين. تلك واحدة من مساوئ فترة حكم علي عبدالله صالح، الذي ضاعف مشاعر الانقسام الوطني، ولم يوقفها عند الشمال والجنوب، بل امتدت البحرنة على يديه الى صعدة، وقادت حرب مكافحة الإرهاب الدعائية الى تأسيس "دولة القاعدة" اليمنية. هكذا نرى أن يمن الثورة، على العكس من بحرين الحكومة، التي جرى بحرنتها الى بحرينين. اليمنان، وربما اليمنات الثلاث، ترفع الوحدة، على أسس ديموقراطية شعبية، شعارا فوق صدور المنتفضين الدامية.
في اليمن يتحد اليمنان (الجنوب والشمال)، ومعهما يمن صعدة، على قاعدة الثورة، أمّا في البحرين فيقوم الحاكم بتجزئة الشعب الى بحرينين، لغرض وأد الثورة.
لوحة الثورة تصيب الجميع بدوار البحر. في تونس ومصر وصلت عوارض دوار البحر الى سقفها الأعلى. في تونس تقيم الدولة الحاكمة سلطتها على جسد الثورة الجريح، وفي مصر تُرسم حدود دول الطوائف المصرية بالدم. في ليبيا يمتزج دوار البحر بالحرائق المناطقية الثأرية. وفي سوريا يمتزج انغلاق الأفق الواضح بالقسوة والانتقام، وفي البحرين ترسم قوات درع الجزيرة خارطة بحرية جديدة، تقسم البحرين بموجبها الى بحر أجنبي مستباح، وآخر تحرسه سفن الاحتلال.
ولكن، خلف دوار البحر هذا كله، ينتصب علم واحد ووحيد، علم اللاعب التاريخي الأكبر، الربان المخمور بانتصاراته العسكرية، القرصان الدولي الجديد، الذي يرفع على سفينته- بدلا من ديموقراطية الشعوب- علما أسود، تتوسطه جمجمة وعضمان متقاطعان.


2- هل كان للاستبداد والقمع في الدول العربية الموجه بشكل خاص ضد القوى الديمقراطية واليسارية دوره السلبي المؤثر في إضعاف حركة القوى الديمقراطية واليسارية؟
في العقدين الماضيين، كان اليسار أقل عرضة للاضطهاد السياسي مما حدث له في عقود سابقة، في أماكن كثيرة. كان المواطن بشكل عام هو الموضوع الأساسي لتراكم عملية الاضطهاد، المواطن المحروم من حقوقه المدنية ومن الكرامة والعيش الآدمي في حده الأدنى. لذلك كان من المفترض أن يكون اليسار جاهزا، في قلب الحدث. لكنه كان في غيبوبة تامة، في غرفة الانعاش. في العراق تماهى الحزب الشيوعي العراقي مع حكومة الاحتلال ومع أكثر القوى الطائفية والعرقية تخلفا، وكان في الحكم يتحاصص معهم ما يرمى اليه من بقايا خبز الشعب وكرامته. أما القوى اليسارية العراقية الأخرى فلم تتمكن بعد من تأطير قواها بشكل يمكنها من العمل الوطني المستقل والفاعل. لأنها أيضا تعاني من أمراض متنوعة.

3- هل أعطت هذه الانتفاضات والثورات دروساً جديدة وثمينة للقوى اليسارية والديمقراطية لتجديد نفسها وتعزيز نشاطها و ابتكار سبل أنجع لنضالها على مختلف الأصعدة؟
الإفادة من الدروس أمر نسبي، يرتبط بمقدرة كل قوة على تمثل عملية التغيير والاستجابة لها. ربما ستمنح الثورة التونسية واليمنية والبحرينية أملا أقوى لليسار، وقد يولد جيل مصري متنور ديموقراطيا ومتدرب على ممارستها. أما ما يحدث في العراق الآن فهو مثير للاحباط. فقد استغلت القيادات التي سايرت بشكل ذليل مشروعي الاحتلال والحكم الطائفي العرقي الفاسد، الحراك الشعبي، لغرض جني الفائدة الدعائية مما حدث، وذلك بسرقة فكرة التيار اليساري والديموقراطي الداعية الى وحدة اليسار، من طريق إقامتها مراجعة تلفيقية وإطار لا يقل تلفيقية عن هذه المراجعة، من دون أن تقوم هذه القيادات بنقد الذات ومحاسبة المخطئين، ومن دون أن تعيد للقوى والعناصر التي تضررت جراء تلك الأخطاء فرص العودة للعمل المشترك. إن الشطارة في سرقة ثمار النهوض الثوري العربي من طريق اقصاء المنافسين أمر مخجل وساذج، لأنه لن يقود إلا الى خداع الذات مجددا. هؤلاء مثل الذي يسرق نفسه. أين هي الدروس الثمينة؟
أين تراكم الخبرة؟ الوطن معروض للتقسيم والتفكيك، وقادة الحزب الشيوعي ومثقفوه يعملون خدما لمصلحة التقسيميين والفاسدين والمحتلين. إن أكبر كارثة لحقت بالوطن جراء الاحتلال، ليس التهديم السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل عملية قتل التيار الديموقراطي والمشروع اليساري العراقي عامة، ولكن للأسف بأيد شيوعية. هذه شطارة حقيقية، لكنها شطارة إجرامية مدمرة، قد تفيد هذا وذاك، لكنها ستكون ضربة قاتلة لليسار العراقي عامة، وللأمل الذي حلم به الناس لأزمان طويلة، القاضي بإقامة وطن حر وشعب سعيد.
4ــ كيف يمكن للأحزاب اليسارية المشاركة بشكل فاعل في العملية السياسية التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية ؟ وما هو شكل هذهِ المشاركة ؟
عليها أولا أن تجد نفسها وهويتها وشعاراتها المبدئية وخطها السياسي والايديولوجي الواضح. عليها ثانيا أن تؤمن حقا بالجماهير التي تناضل في صفوفها ومن أجلها. وعليها ثالثا أن تجدد وتفعـّل كيانها قبل وقوع الحدث. بعد الحدث سيكون كل شيء قد فات أوانه.
حينما ننظر الى الواقع العراقي نجد اضطرابا عجيبا في صفوف اليسار. القوى جميعها، العرقية والطائفية والعشائرية المحلية والأجنبية، مشغولة الى حد الهوس في لعبة التهديم والتفتيت والتقسيم، بينما يضرب اليسار أخماسا في أسداس، ولا يعرف رأسه من رجليه. وهذا يشمل جميع فئات اليسار من دون استثناء. لأنهم غارقون في خلافاتهم، وفي قوقعاتهم، وفي انتصاراتهم الوهمية، بينما تؤسس الحياة قواعدها الصلبة والقاتلة على أرض الواقع. ما يحدث الآن هو أن الدستور، الذي يتوجب وطنيا أن يمزق أربا، أضحى مرجعية لا خلاف عليها، يستند الجميع اليها ويتخذها قاعدة تشريعية للتقسيم، ولكن كل واحد وفق طريقته. القادة الأكراد مع الإقليم، ولكن بعد أن يتم اقتطاع الأراضي التي يريدونها. السنة مع التقسيم ولكن قبل التحاصص مع الأكراد، الدعوة والصدريون صم بكم، بل يزيد حزب الدعوة الأمر سوءا، من طريق أساليبه الاستفزازية اللافتة واكتشافاته الأمنية المتأخرة. الحكيم، الشريك الأساسي للقيادة الكردية في حلم التقسيم، ساكت مثل الأخرس. أليس هذا عجيبا! لقد ابتلع السنة العراقيون الطعم. هناك من يريد دفع التيار البعثي الأمريكي الطائفي المناطقي السني الى تكون قاعدة واقعية وعلنية للانفصال، تتيح للقوى الطائفية الشيعية فرصة ذهبية مجانية للتوحد تحت شعار الدولة الطائفية أو الفيدراليات الطائفية. وهم يعملون، أسوة بالقادة الكرد، على استفزاز وإثارة العناصر الأكثر سوءا في المكون السني. لكنهم لا يريدون البدء بمشروع التقسيم خشية أن يتهموا بالوقوع في أسر المشروع الإيراني. لذلك سيكون السنة، أو أسوأ سياسيي السنة، هم من يمنح الطائفيين الشيعة حقا كاملا في تكون دولتهم الانفصالية أو فدراليتهم الطائفية، بذريعة أن السنة هم الذين قادوا الانفصال أو التمزيق. ولكن غبي على هؤلاء أنهم سيصطدمون بالوحش الكردي الجائع والشره، كما أنهم سيقعون فريسة للفخ الأردني القاضي بربط العراق، شماله ووسطة باسرائيل، صاحبة اليد السحرية في مشروع التقسيم.
إن إثارة هذا الإشكال وتصعيده، في وقت شديد الحراجة، في الأسابيع الأخيرة لخروج القوات الأميركية العلنية، له مدلول أبعد من التلويح االتلويح بعصا الاحتلال لكسب ما يمكن كسبه، قبل فوات الأوان، إنه يعني أيضا وضع مرتكزات سياسية تشريعية - زائفة كالعادة- وذرائعية هدفها ايجاد ثغرات تسمح للمناطق بالتحاور المباشر مع القوى الأجنبية والمحتلين تحديدا، من طريق القنصليات وشركات الحماية الأجنبية وعقود الاستثمار والتصدير والجيوش أيضا. هنا يكمن بيت القصيد. وهذا التوجه يشمل الجميع من دون استثناء، ولكن باختلاف مصادر الارتباط التي يريدون إقامتها لاحقا.
بعد القواعد العسكرية المباشرة، والحصانات، والتدريب، يخرج على الشعب العراقي بعض القادة الأكراد بصيغة من أكثر صيغ الاحتلال غرابة وشذوذا في التاريخ البشري كله: الاحتلال الجوي. يقول عضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية شوان طه عضو التحالف الكردستاني: " ان من الممكن توقيع اتفاقية للدفاع عن أجوائنا مع الأمريكان وهم خارج العراق ...  نستطيع ان نوقع اتفاقات مهمة مع العديد من القوى الخارجية ومنها القوات الامريكية لحماية اجوائنا وهم خارج حدود العراق وذلك عن طريق القواعد الامريكية في قطر والسعودية والدول المجاورة ... ان مثل هكذا اتفاقيات تنال رضا الجميع لانها توفر الحماية للبلاد وفي الوقت نفسه لا تسمح لاية قوى خارجية ان تبني قواعد لها في العراق" . (الصباح 29-11-2011 ) 
ولم يكن شوان يغرد خارج السرب كما يظن البعض، فالمعلومات تؤكد أن المفاوضات جارية منذ زمن بإشراف أميركي على ابدال المظلة الأميركية بأخرى أقل سفورا هي مظلة الناتو، أي الخروج من صيغة الاحتلال الواحد الى الاحتلال الجماعي. وبهذا الصدد اعترف النائب حيدر العبادي، عضو لجنة الأمن والدفاع بوجود " مفاوضات تجري حاليا مع حلف الناتو في مسألة حماية الأجواء العراقية." وهو نوع من الاستعمار مدفوع الأجر.
والأدهى من ذلك أن خطة توريث الناتو سماء العراق قد جرى بحثها في مجلس النواب من وراء ظهر الشعب، من دون إذاعة خبر عن تلك المفاوضات والمباحثات. وهذا يعني أن رأي القيادات الكردية والقوى المؤيدة لبقاء الاحتلال هو الذي تم فرضه كشرط للقبول بمغادرة القوات الأميركية الظاهري. يقول العبادي "": ان "مشروع الاتفاق مع الناتو موجود حاليا لدى مجلس النواب وتمت قراءته القراءة الاولى قبل شهر ونصف  ": ان "مشروع الاتفاق مع الناتو موجود حاليا لدى مجلس النواب وتمت قراءته القراءة الاولى قبل شهر ونصف"  (الصباح 29-11-2011)
هذا ما يحدث الآن علنا، أمام أنظار الجميع. أين اليسار من هذا؟ متى يتحرك هذا اليسار؟ وما مقياس وطنيته؟
ما العبرة التي يستخلصها اليسار من الحراك العربي؟ آراء أمينة النقاش، نائبة رئيس حزب التجمع الوحدوي المصري، في أحداث العنف في ميدان التحرير يوم 20 تشرين الثاني لا تختلف كثيرا عن خطاب حسني مبارك عقب الثورة المصرية: قوات الأمن تدافع عن نفسها ضد تدخل البلطجية ومثيري أعمال الشغب! هذا نموذج آخر لليسار المخجل.
إذا كان قصيرو النظر السنة ابتلعوا الطعم الشيعي الكردي، فإن اليسار الخفيف ابتلع الطعم الأميركي بأريحية حزبية عالية!
حينما يتذكر بناة العراق الجديد حزب البعث، بعد مرور تسع سنوات على سقوطه، ويقومون بتحريمه، فجأة، كما لو أنه سقط يوم أمس، فما هذا سوى دليل قاطع على أن الصراع السياسي في العراق لم يزل حتى هذه اللحظة يدور في إطار البعث. بعثيو الدعوة وبعثيو التيار الصدري وبعثيو المجلس الأعلى وبعثيو الفضيلة وبعثيو علاوي والنجيفي وبعثيو البارزاني والطالباني وبعثيو السنة والشيعة وبعثيو الشيوعيين، يتشاجرون حول سبل اقتسام جسد البعث الأم وتحاصص تركته الثقيلة.
إن الجريمة الكبرى بحق الوطن لا تكمن في اجتثاث أو عدم اجتثاث البعث، ولا في صحة أو زيف وجود مؤامرة بعثية - بعثية خالصة. الجريمة تكمن في أن شهادة الإثبات الأساسية على قيام مؤامرة بعثية تمّ تأكيدها بسبب امتناع أغلب من اتهموا بالمؤامرة عن الاستجابة للاحزاب القائمة ورفضهم الانخراط فيها، الأمر الذي عُدّ دليلا حسيا قاطعا على وجود نوايا آخرى لدى المتأمرين. أي العودة الى نظرية "كل الشعب بعثية". بيد أن السؤال الأهم هنا هو: كم بعثيا سابقا وعضوا في جيش الوشاة، ممن دخلوا العملية السياسية أو انتشروا في الاحزاب، يسارية ويمينية، لم يزل على ولائه البعثي، ولم يزل يمد خيوطا خفية عميقة أو ضعيفة مع فكر ومع بقاياه وحلم عودته؟ هذا هو السؤال الذي حاول الأميركان القفز عليه عند غز للعراق، وأغرقوا الوطن بسلسلة من التجارب السياسية العبثية المصطنعة والمدمرة.
إن ما يحدث الآن هو تطوير أصيل وخلاق لمبادئ البعث الجوهرية المتعلقة بالمواطنة، التي كانت تقوم على قاعدة قوامها: "من ليس معنا فهو ضدنا". في ظل غياب البديل الوطني، أرغمَ تحطيمُ المركزية الدكتاتورية الجميعَ على استلاف فكر البعث الإقصائي، ولكن بثوب جدديد، طائفي وعرقي ومناطقي، يلائم التمزق الوطني ويعمقه، قوامه مبدأ "من ليس منا، فهو ضدنا". لذلك يشعر كثيرون، عند المقارنة الحسية، أن طغيان البعث لا يختلف في درجة سوئه عن طغيان وعنف الحاضر إلا في تجانسه ووحدة مصدره.
أي درس يمكن لليسار استخلاصه من هذا الواقع المعقد؟ لن يتمكن اليسار من تحقيق ذلك ما لم يقم بتثوير نفسه من الداخل، والعودة الى المواطن المغلوب على أمره لاستنهاضه، وإعادة دراسة قوانين تسيير الحياة بطريقة مثمرة؟
5- القوى اليسارية في معظم الدول العربية تعاني بشكل عام من التشتت. هل تعتقدون أن تشكيل جبهة يسارية ديمقراطية واسعة تضم كل القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية ببرنامج مشترك في كل بلد عربي, مع الإبقاء على تعددية المنابر, يمكن أن يعزز من قوتها التنظيمية والسياسية وحركتها وتأثيرها الجماهيري؟ 
هذا أمر لا نقاش فيه. ولكن كيف ومتى؟ يجب أن يعاد النظر في أسس هذه الجبهات، وفي جوهر عملها على ضوء تطورات الواقع والحياة. الحياة متبدلة، لكن الأحزاب تعيش في قوقعة متحجرة، لا تمنحها حظا جديا في التفاعل السريع والإيجابي مع ما يحدث. التكتل على أساس التنوع مبدأ حيوي وضروري. لذلك أنا أعجب كيف يستطيع حزب يساري أن يتحالف مع بريمر والحكيم والطالباني والبارزاني وعلاوي وغيرهم، ولا يجرؤ على التحالف مع قوى اليسار المخالفة له في التوجه؟ لماذا؟ الجواب عن هذا السؤال يوضح كل شيء بصورة جلية. على قواعد اليسار طرح مثل هذه الأسئلة على قياداتهم. يجب أن يتعلموا ممارسة الجرأة، وبخلاف ذلك فإن الحياة ستدير ظهرها لهم.

6ــ هل تستطيع الأحزاب اليسارية قبول قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية وتتصدر واجهة هذهِ الأحزاب بما يتيح تحركا أوسع بين الجماهير و أفاقا أوسع لاتخاذ المواقف المطلوبة بسرعة كافية؟
لست خبيرا في شؤون التنظيم والانتخابات. لكنني أحسب أن عنصري المرأة والشباب ليسا وسيلة دعائية ناحجة لدى اليسار وحده، وليسا أداة فنية للوصول الى غاية سياسية واجتماعية فحسب، بل هما جوهر الفعل الإجتماعي ومركز مضمونه. ولكن أي يسار نعني؟ إن اليسار المشلول يترك دائما فجوة بينه وبين العناصر الشابة، عدا الفئات الوصولية والمتمرسة على التملق. أما المرأة فإنها تصبح لعبة للزينة السياسية. إن الفعل الحقيقي المعبر عن مشكلات الشباب والمرأة هو الكفيل بجعل المرأة والشباب وسيلة للنصر ومضونا للنصر، غاية له ووسيلة اليه.

7- قوى اليسار معروفة بكونها مدافعة عن حقوق المرأة ومساواتها ودورها الفعال، كيف يمكن تنشيط وتعزيز ذلك داخل أحزابها وعلى صعيد المجتمع؟
حقوق المرأة، حالها حال الحقوق الاجتماعية والمدنية الأخرى، لا يمكن الحصول عليها بالنيات أو بالأماني، بل بالنضال اليومي الفكري والاجتماعي، من طريق ترقية الوعي وتنشيط المشاركة الواقعية سياسيا واجتماعيا. ولكن من أجل أن تحقيق ذلك على القوى اليسارية أن تختار برنامجها السياسي وتحالفاتها الكفيلة بوضع تصوراتها موضع التنفيذ، سواء بالنضال من أجل تحقيقها بالمعارضة، أو من طريق تشريعها من داخل السلطة القائمة. أما اتخاذها شعارا، فلن يحقق شيئا جديا، في ظل طغيان تام للممارسة التكفيرية والقروسطية والسلفية واللصوصية، التي أعادت المجتمع العراقي تشريعيا وحياتيا عقودا طويلة الى الوراء.

8ــ هل تتمكن الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية في المجتمعات العربية من الحدّ من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر ؟
ليس الإسلام هو مشكلة اليسار العربي. وليست مهمة اليسار وضع سياسة لمقاومة الإسلام أوغيره من الأديان. إن الحق المدني، وحقوق المواطنة أعلى من سقف الدين باعتباره اعتقادا إيمانيا خالصا، وأقدس وأكثر شرعية من الدين باعتباره سلطة سياسية. لذلك فإن النضال من أجل الحقوق المدنية الواضحة يكوّن بنفسه وسيلة تربوية ثقافية واجتماعية لمواجهة التكفير والتحزب أو الاحتكارالديني والسلفية العقائدية. أما الانغمار في الحرب الدينية فهو جزء من شعارات أكثر القوى اليمينية الدولية بربرية، القوى المستندة الى أكثر قوانين الحرب الدينية رجعية وتخلفا. مثل هذا التوجه شعار منافق، مزدوج، يرفعه تيار الصقور الأميركي، الذي يحارب الإسلام السياسي من منطلقات لاهوتية وذرائعية لا تقل فسادا وبشاعة عن الإسلام التكفيري نفسه، ويحاربه محليا من طريق الاعتماد على أكثر النظم السياسية تخلفا في مجتمعاتنا العربية، كالنظام السعودي وغيره من الملكيات والمشيخات، أو جماعات الأخوان المسلمين. لقد قاد هذا الصراع المجلوب الينا بقوة الضغط الدولي الى تقسيم أساليب الحكم الى ثلاث شرائح أساسية: نظم حكم عسكرية عائلية حزبية خالية من الصبغة الدينية المباشرة، وقوى دينية تتدرج تنوعا من السلفية التكفيرية الى الأخوان المسلمين، ونظم قروسطية النهج والتفكير من نمط النظام السعودي. وقد تم حصر الصراع بين هذه القوى، مما قاد الى سحق التيارات الديموقراطية وإضعافها شعبيا الى حد الإفقار التام. هذه أبرز نتائج الانشغال بحرب الدين. لا بد من إعادة توزيع الأدوار خارج مشروع الحرب الأجنبية، القادمة من الخارج تحت غطاء الحرب على الإرهاب أو الحروب الصليبية أو غيرها من المسميات، حتى تنفتح آفاق المجتمعات العربية مجددا على احتمالات التغيير من الداخل. إن فتح الآفاق هو مهمة اليسار، وليس الانشغال بالحرب الدينية المستوردة. لليسار مهام أخرى أكثر جوهرية من هذه الحرب، عليه أن يلتفت اليها، وأن لا ينشغل بحرب ليست حربه.

9- ثورات العالم أثبتت دور وأهمية تقنية المعلومات والانترنت وبشكل خاص الفيس بوك والتويتر..... الخ، ألا يتطلب ذلك نوعاً جديدا وآليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية وفق التطور العملي والمعرفي الكبير؟
كل الثورات افادت من أفضليات الحضارة. لكن المفارقة عندنا حدثت حينما تم تعويض النقص في الاتصال التقليدي، الذي كان يتم بواسطة الخلايا الحزبية والمنشورات السرية، بوسائل اتصال جديدة، ليست من صلب تكوين الأحزاب. لذلك بدت الثورات العربية خروجا على الأحزاب والأطر التقليدية لا فكرا ومبادرة فحسب، بل بدت خروجا فنيا أيضا، لأنها وجدت وسيلة جديدة للتحريض والاتصال. وربما كانت هذه الوسيلة هي عنصر المفاجأة للنظامين المصري والتونسي تحديدا، اللذين انشغلت مخابراتهما في مراقبة الخلايا الحزبية شبه المشلولة، فأضاعت جهودها في مهمات ثانوية، خالية من الأهمية العملية. لذلك لجأ حسني مبارك الى التضييق على سبل الاتصال بمنع تسيير القطارات والحافلات والتحكم في بيع شرائح الاتصال الهاتفي. لكن الوسيلة التنظيمية "الثورية" فنيا انتصرت على عملية المنع السياسي التقليدية، لأنها جزء من محركات الحياة اليومية المعاصرة، بما فيها حياة النظام نفسه، لا يمكن ايقاف فعلها، من دون أن تشل الحياة بأكملها. وإذا كانت الثورات قد أفادت من الاتصال كوسيلة للنهوض الشعبي، فعلى قوى المجتمع الإفادة من هذه الوسائل لما بعد الثورات أيضا، من أجل الثورة الحقيقية، التي تقوم بتعديل جوهر الانسان الأخلاقي والمعرفي والسياسي والجمالي. وعلى اليسار، الذي أدمن على الثقافة المغلقة والآحادية العقادية وكبت النقد والتشهير والتسقيط الحزبي للمعارضين باسم "نفذ وناقش" و"الصيانة الحزبية" و"الحزب فوق الجميع" استخدام هذه الوسائل لتثوير بنيته من الداخل، ومدها بحيوية الحياة المتحركة وبالشفافية والجدل الخلاق ونشر الحقيقة وتعرية الاخفاقات، وهذه مهمة الشباب تحديدا.

10- بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن، كيف تقيمون مكانته الإعلامية والسياسية وتوجهه اليساري المتفتح ومتعدد المنابر؟
الحوار المتمدن مثل كل مشروع جديد ورائد، له ما له وعليه ما عليه.
يسجل للحوار أنه تمكن بجهود محدودة أن يتحول الى موقع للرأي السياسي ذي تأثير واسع، كما أنه استطاع أن يوسع من دائرة الاختلاف والقبول به. وتلك حسنات كبيرة في بيئة قائمة على تقاليد مصادرة الرأي واحتكار الحقيقة وحق العبث بالمغاير. إن دور الموقع في حفظ ونشر وتوثيق الأفكار، وسعة حجمه وتنوع مادته تجعلنا نقول بثقة إن الحوار المتمدن موقع ثقافي وإخباري شعبي بامتياز.
لكن الحوار المتمدن وقع في إشكالات متنوعة أضرت به ضررا بالغا، سواء أقر بذلك أم كابر وأنكر. ومثل هذه الظواهر تكون دائما بداية لخطر أعمق قد يغدو قاتلا، إذا لم يستخدم القائمون عليه جرأتهم وحكمتهم ومسؤوليتهم في تغيير ما هو معيق وكابح.
أهم هذه الإشكالات أنه فقد الكثير من عناصر الجذب فيه، على صعيد الأسماء أو المضامين، وتحول الى قوة طرد واضحة، بسبب انتصار فكرة الكثرة. ونعني بالكثرة، الاستقواء والاستئناس بالعدد والتعامي والصمم بسبب كثرة وضجيج القطيع، وفق نظرية تغليب الكم على النوع: " من يربح المليون!". وقد قاد هذا الى تحول الموقع الى صبغة سياسية وعقلية تكاد أن تكون واحدة، رغم تفرعاتها الطفيفة.
ثانيا، قام الموقع بخرق المعايير التي ينادي بها ويطالب الآخرين أن يلتزموا بها، والتي هي موضع احترام من قبل الجميع، وهي موجودة في صفحة شروط النشر، التي يضربها بعض محرري الحوار المتمدن عرض الحائط، حينما يحلو لهم ذلك. وهذا ضرر فادح يثلم مصداقية الموقع. ثالثا السبّ والتناول الشخصي (الذي يقود ببساطة الى عقوبات قانونية في القوانين الأوروبية كافة) والأسماء المستعارة عند التعقيب والرد، والتحكم بالمواضع صعودا ونزولا عند رغبة المحررين وليس انطلاقا من مقاييس موضوعية، وإغفال حقوق المؤلفين ( الكتب التي أصدرها الحوار ولم يقدم لكتابها حتى نسخة واحدة من جهود فكرهم، وهي جريمة أخلاقية وقانونية، وسياسية أيضا في نظر الجهات الداعمة). رابعا، التوجيه الثقافي الدعائي، من طريق تشجيع المديح الكاذب والنفاق. فعلى سبيل المثال نشر الموقع مئآت المقالات في عيد ميلاده المجيد. من يقرأ كل هذا الركام؟ وهل يعقل أننا بدلا من أن نحث القارئ على قراءة رواية جميلة أو بحث علمي، نغرقه في هذه المطولات الفارغة، التي تتجاوز آلاف الصفحات؟ لماذا نلوم القذافي وصدام وغيرهما على كلمات المديح المكتوبة في حقهم؟ إن موقع النشر يجب أن لا يكون مخلصا للنشر كغاية بذاتها، بل يتوجب أن يكون مخلصا لمبادئ وأسس النشر القانونية والأخلاقية وغاياتها العلمية والتربوية البعيدة. التطوير الفني للشكل أمر حيوي وضروري، وسهولة التعامل مع الصفحات وتحديد أولويات جديدة، والتخلص من الترهلات الزائدة عن الحد وغير المفيدة أمور جديرة بالنظر.
وربما تكون أخطر الجوانب السلبية في الحوار المتمدن، عندي شخصيا، هي طغيان الكتابات الانشائية على البحوث والتحليل. وقد وجدت أن قراء الحوار لا يقرؤون البحوث الجادة على الإطلاق، ومنهم من يكتفون بقراءة العنوان والرد على الهوية. الأمر الذي قاد الى نشوء إدمان وتشوه خلقي في الأمزجة، جعل من استسهال الكتابة، والعجالة في إبداء الرأي، وعدم نضج الأفكار، والانفعال غير المدروس، وردود الفعل العاطفية السطحية، مادة سهلة ومشاعة وفاشية. يجب أن تُقلب التربية الثقافية رأسا على عقب، مع الحرص على أن لا يفقد الموقع جماهيريته. اليسار يحتاج الى مراكز للابحاث والدراسات، تقام على أسس علمية، وتكون قاعدة معلوماتية ومعرفية، ومن جانب آخر تكون أداة رؤيوية واستشرافية وطليعية في قيادة التيارات الفكرية وعناصر الحركة المعلوماتية، ترصد الاتجاهات وتتعقب وتحلل حركة الواقع، وتفتح نوافذ للنظر الى المستقبل، وللتنبوء والتوقع. هذا ما أتمناه.
على الحوار المتمدن أن يكون أصيلا حقا، وأن يكون بمستوى شعاراته وطموحه العالي. لأن الفوز بالأصالة هي الشجاعة بعينها، وهي وسام الفخر الحقيقي. إن مجتمعاتنا أحوج ما تكون الينا، ليس كعدد إضافي، أو كقطيع، بل كنوع مميز، مغاير، صادق، متواضع، معطاء وأصيل.
سلام عبود



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة والكرامة بين الفلسفة والأخلاق والسياسة
- شاعر لكل البشر
- عدن: مرثية البحث عن الجنة!
- دور الاحتلال في رسم صورة الحاكم العراقي
- من يرسم حدود العراق ج2
- من يرسم حدود العراق؟
- باربي ربّانية!
- الشروط الأخلاقية للحرية
- الى مظفر النوّاب آخر الصعاليك
- المثقف العراقي المستقل تحت ظلال الاحتلال
- للّغة ثوراتها وثوّارها أيضا
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء الثامن)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء السابع)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء السادس)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الخامس)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الرابع)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال ( الجزء الثالث)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الثاني)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (التجربة العراقية)
- الأسرار النفسية لهزائم صدام العسكرية


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....



الصفحة الرئيسية - ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011 - سلام عبود - لقد ابتلع السنة الطُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم!