أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - التحول الديمقراطي واامجتمع المدني















المزيد.....



التحول الديمقراطي واامجتمع المدني


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 4054 - 2013 / 4 / 6 - 14:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


التحول الــديمقـراطي
والمجتمع المدني

(( مناقشة فكرية وأمثلة لتجارب دولية ))

د. عبدالوهاب حميد رشيـد




العنوان : التحول الديمقراطي والمجتمع المدني
المؤلف : د. عبدالوهاب حميد رشيد
الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى- دار المدى/ دمشق 2003



Title: Democratization and Civil Society
Titel: Demokratisering 0ch Civila Samhället
Author: Dr.A.W.H.Rashid
Copyright © The Author
First Edition: 2003
ISBN: 91-631-3332-6 SWEDEN

تمهيــد

ما هي الديمقراطية؟ هل هي هدف أم وسيلة؟ وهل هي سياسية فقط أم سياسية واجتماعية (اقتصادية)؟ وهل هي نظام وحيد قائم بذاته أم شكل من أشكال أنظمة الحكم السياسية؟ وهل هي محصورة في الأنظمة الليبرالية أم يمكن بناء خطابات (مشروعات) ديمقراطية متعددة بتعدد الأفكار الايديولوجية والأنظمة الاجتماعية؟ وهل هي طبخة جاهزة تتحقق آنياً من خلال الدساتير والقوانين الأوامرية أم هي عملية اجتماعية حضارية مستمرة وممتدة للتنمية البشرية؟ وهل هي انفتاح لا مشروط على الأسواق العالمية والظاهرة الاستهلاكية أم لها ضوابط وشروط سياسية واقتصادية في سياق التنمية المجتمعية؟ وهل تقوم في ظروف استمرار التبعية وتزايد المديونية الخارجية أم أنها تجسّد بناء الاستقلال الوطني وتطوير البنية الاقتصادية؟ وهل تتماشى مع اتساع سوء التوزيع وتهميش وفقر الأغلبية أم تتطلب السير نحو الاقتراب من التوازن بين الحرية السياسية والمساواة الاقتصادية؟
وما هو المجتمع المدني؟ وما مكوناته وشروطه ومواصفاته وأهميته ومشكلاته؟ وهل الأحزاب السياسية تدخل في منظماته؟ وهل هو مجرد مجموعة منظمات أم رسالة اجتماعية؟ وهل المجتمع المدني آلية محصورة في الأنظمة الليبرالية الغربية أم متاحة لكل الأنظمة الاجتماعية؟ وما علاقته بالمجتمع البرجوازي؟ وما علاقة المجتمع المدني بالديمقراطية؟ هل هما مترادفان ومتنافسان؟ وهل يحل أحدهما محل الآخر؟ أم أنهما متكاملان ويتواجدان معاً؟ وما هي خلفيات المجتمع المدني وتجاربه الدولية؟ وكيف حال المجتمع المدني في الوطن العربي؟ وما هي تطوراته في العراق؟ هذه الأسئلة وغيرها- التي تحتل عادة مساحة واسعة في حواراتنا التي تدور في هذا المجال- هي محل اهتمام ومتابعة هذه الدراسة. وذلك في محاولة للمساهمة بنشر الثقافة السياسية الحضارية بين قراء العربية, وبما يعزز المعلومة والحوار، ويساهم في تحسين ثمارها، ويدعم القدرة على فهم وتفهم الإشكاليات الكثيرة التي ترافق هموم الأنظمة السياسية الحكومية وقضية الديمقراطية والمجتمع المدني، علاوة على إشكاليات الأحزاب السياسية.
عليه، تضمنت الدراسة قسمين. يبحث القسم الأول التحول الديمقراطي في ثلاثة فصول: النظام السياسي(ف1)، الديمقراطية (ف2)، الأحزاب السياسية (ف3).. بينما يناقش القسم الثاني المجتمع المدني في أربعة فصول: الجوانب المفاهيمية (ف1)، التجارب الدولية (ف2)، التجربة العربية (ف3) وأخيراً المجتمع المدني في العراق(ف4)، ولتنتهي الدراسة بالهوامش والمصادر، إضافة إلى محلق بالأحزاب السياسية التي ظهرت مع نشوء الدولة العراقية- المرحلة الملكية.





القسم الأول
التحول الديمقراطي



الفصل الأول- الأنظمة السياسية

1- ماهية النظام السياسي
بدأ التطور التاريخي لعلم السياسة في صورته المنهجية لدى فلاسفة الاغريق القدماء. وحسب ارسطو (384- 322ق.م) تحتم طبيعة التطور البشري نوعا من المجتمع المنظم في ظل نظام حكومي. وأن غياب الحكومة يعني الفوضى anarchy وتسيّد قانون الغابlaw of jungle .(1) وبنفس المعنى قال الزعيم الصيني ماوتسي تونغ: إن الواقع يفرض دائما وجود رؤساء.(2)
يُقال أن لكل رابطة إنسانية- مجتمعية وجه سياسي معين، لذلك لا يوجد في الواقع من لا يتعامل مع شكل من أشكال النظام السياسي، رغم أن النظام السياسي لا يشكل سوى جانباً من جوانب الروابط البشرية.(3)
والنظام السياسي للدولة يخص شكل وطبيعة نظام الحكم الذي يتصف بالتباين. عليه تعددت محاولات تحديد مفهوم النظام السياسي. فحسب المفهوم الضيق, يُعبِّر النظام السياسي عن مجموعة من المؤسسات الرسمية الدستورية- القانونية التي تشكل الحكومة. ويرتبط هذا التعريف بالتحليل التقليدي (الكلاسيكي) للنظام السياسي الذي ينصب على القواعد الدستورية والقانونية. أما التعريف الواسع لهذا المفهوم فيشمل كافة أشكال الممارسات السياسية التي لا تقتصر على النظام القانوني للدولة، حسب، بل كذلك على حقائق الحياة السياسية أيضا. ويقوم هذا المفهوم على التحليل التطبيقي empirical analysis للعمليات السياسية ومحاولة تحديد الحقائق الكامنة لأِشكال الحكومات. أما أكثر تعريف واسع بالمقارنة مع المحاولتين السابقتين، فينظر إلى النظام السياسي باعتباره مجموعة عمليا ت متقاطعة intersection process أو نظاما فرعيا يتفاعل مع بقية الأنظمة الفرعية من اقتصادية واجتماعية. وهذا الاتجاه يقود إلى إظهار الفعل السياسي، ويؤكد على أهمية دراسة التطور السياسي من جوانبه الاجتماعية المختلفة.(4)
ومع ملاحظة المحاولات الكثيرة لتعريف وتحديد مفهوم الحكومة، إلا أنها في صورتها العامة تعبر عن منظمة تقوم بإِدارة المجتمع السياسي في سياق امتلاكها للسلطة (القوة) واستخدامها من خلال القوانين والمؤسسات التي تشرف عليها وتباشر مهامها من خلالها.(5) وتستخدم لفظة الحكومة بطرق متعددة. ففي المنطوق العام تجسد طريقة منظمة لإدارة شؤون المجتمع. وهنا من الممكن التفريق بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية. وبطريقة اكثر تحديدا، نتكلم عن الحكومة باعتبارها هيئة تضم مجموعة أشخاص من النخبة القيادية للمجتمع، لها قوة تجعل مواطنيها يتصرفون بطريقة محددة. ولأِن هذه الهيئة هي حكومة، لذلك فهي تتمتع بامتلاك القوة وبسلطة استخدام هذه القوة.(6)
كما تترادف لفظة الحكومة government مع كل من لفظة الولاية والدولة state. فهي تعني في الولايات المتحدة الأمريكية حكومة الولاية في نظام الفيدرالية الأمريكية. ويكمن الفرق بين الحكومة والدولة في أن الأُولى متحركة- متغيرة، بينما الدولة ثابتة، أي تتصف باستمرارية وجودها رغم حركة تطورها. وحسب التعريف التقليدي (الكلاسيكي) لمفهوم الدولة المستقلة المأخوذ به لدى منظمة الأمم المتحدة، تشكل الحكومة أحد مكوناتها بالإضافة إلى: الشعب، الأرض، السيادة. وهنا من المفيد التنبيه إلى تحاشي الخلط بين الحكومة والوزارة، إذ أن الحكومة هي وعاء لتجمع السلطات الثلاث، بينما الوزارة تعني السلطة التنفيذية، رغم أنها اكثر قوة عادة لدورها في التنفيذ وسيطرتها على المؤسسة العسكرية- البوليسية. وهذا يشكل دافعا رئيسا لإخضاعها إلى الرقابة المؤسسية.
ويختلف مفهوم الدولة عن مفهوم الأمة. إذ أن وجود الدولة مرتبط بوجود الشعب (علاوة على الأرض والحكومة والسيادة) وليس الأمة بالضرورة. والفارق بينهما هو أن الشعب أحد مكونا ت الدولة، ويتحدد بحدودها السياسية. بينما الأمة تكوين اجتماعي تاريخي سابق على وجود الدولة ذات لغة مشتركة (بالإضافة إلى عوامل الشعور والتاريخ والمصالح المشتركة).(7)
ولما كان النظام السياسي يشكل نمطا مستمراً من العلاقات البشرية، فهو يتضمن إلى حدود واسعة الرقابة control والسلطة authority أو القوة power. بالإضافة إلى مسألة التأثير في هذه السلطة أو القوة. وهناك عموما حدودا متباينة لدرجة تأثير الأفراد (والجماعات) في النظام السياسي نتيجة التباين في امتلاكهم الموارد السياسية، متمثلة في: الثروة والدخل، المنزلة الاجتماعية، العلاقات (بما في ذلك رابطة الدم/النسب: الأسرية، العشائرية، القبلية)، المعلومات، القدرة على الترغيب والترهيب. علاوة على اختلاف امتلاكهم للمهارات والكفاءات التي يستخدمها الأفراد من خلالها مواردهم السياسية، وتجد جذورها في اختلاف الهبات الطبيعية والفرص الاجتماعية والحوافز والبواعث والمواهب والقدرات على تعلم وممارسة المهارات السياسية. وأخيراً، حجم الموارد التي يستخدمها الأفراد للأغراض السياسية. وتتوزع الموارد السياسية على نحو متباين في المجتمع نتيجة عوامل تتقدمها: سوء توزيع الثروة والدخل، اختلافات وراثية، عوامل بيولوجية واجتماعية متوارثة ومكتسبة جنباً إلى جنب مع الاختلافات في الخبرات والتجارب والمهارات, تباين التخصص الوظيفي، وغيرها.(8)
لوحظت ظاهرة القدرة السياسية المتباينة لأِفراد وطبقات المجتمع على مدى قرون طويلة. حاول ارسطو تفسيرها عندما نسَّب حكم الأغنياء (الأقلية) إلى "مجرد الصدفة".(9) وبعد عشرين قرناً شرح روسو هذه الظاهرة في مقالته الشهيرة (مقالة في أصول عدم المساواة)، وعزاها إلى سوء توزيع الثروة والدخل. وبعد أقل من قرن على روسو، قدَّم كل من ماركس وانجلز تفسيراً مماثلاً في البيان الشيوعي وسلسلة الأعمال الفلسفية اللاحقة على البيان المذكور.(10)

2- أنماط الأنظمة السياسية
ويمكن الحديث عن أربعة أشكال، على الأقل، من الأنظمة السياسية فوق الوطنية: (11) الإمبراطوريات، الجامعات، الاتحادات الكونفدرالية، ومنظمة الأمم المتحدة. أما الإمبراطوريات فتكونت من شعوب تنتمي إلى أقوام وثقافات متباينة، وقامت بصفة جوهرية على القوة والإكراه، واستمدت وجودها من فرض القوة و/ أو الارتكان إلى العقيدة الدينية، وجسّدت أنظمة حكم اوتوقراطية (حكومة الفرد الاستبدادية المطلقة).
تقوم الجامعة League على شكل تعاقدي بين حكومات دول مستقلة لتحقيق أهداف مشتركة في سياق التعاون بينها، مقابل احتفاظ كل منها بشخصيتها المستقلة. جسّدت عصبة الأمم الحالة القصوى للمنظمة فوق الوطنية، وجاءت حصيلة اتفاق الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بعد التوقيع على ميثاق إنشائها (1919). ولم تنضم إليها الولايات المتحدة الأمريكية بسبب "مذهب مونرو"Monro Doctrine .(12) وعبّرت عن سيطرة الدول الكبرى على قراراتها من خلال احتفاظها باستخدام حق الفيتو Veto.
يشكل الاتحاد الكونفدرالي confederation رابطة إرادية بين دول مستقلة توافق في حدود معينة على العمل الجماعي لتحقيق أهداف مشتركة، وتنشئ آليات موحدة للتشاور. وتحافظ الدول المشتركة على قواتها المسلحة وشؤونها الخارجية كلا على حدة، وتتمتع بحقوق متساوية وبشخصيتها المستقلة وحق الانسحاب من الاتحاد متى شاءت. وعادة ما تفشل الكونفدرالية في توفير سلطة فعالة، كما أنها تفتقر إلى القابلية على الاستمرار.
تعتبر منظمة الأمم المتحدة هيئة دولية فوق الوطنية. وهي كذلك رابطة إرادية، وتضم معظم الدول المستقلة في العالم. ووجدت باتفاق الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية من خلال مؤتمر سان فرانسيسكو (1945) بغرض تحقيق أهداف دولية مشتركة معلنة تتقدمها مهمة حفظ السلام والأمن الدوليين وتعزيز التعاون المشترك بين أعضائها. كذلك احتفظت الدول الكبرى بحق استخدام الفيتو. وقاد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى تشديد قبضة الولايات المتحدة الأمريكية على هذه المنظمة التي واجهت، بالإضافة إلى ذلك، انتقادا ت مستمرة لعجزها عن المساهمة في تضييق فجوة الدخل بين مجموعتي الدول الغنية والفقيرة.
إن نشوء الدولة الوطنية تَحققَ وفق أسس وظروف تاريخية متباينة. إذ تأسست دول عديدة ضمّت مجموعات بشرية ذات هوية ثقافية وتاريخية ولغوية مشتركة كما في بريطانيا وفرنسا باعتبارهما الحالة الأولى لظهور الدولة الوطنية الموحدة. وفي حالات أخرى ضمّت مجموعا ت بشرية ذا ت انتماءات ثقافية متعددة مثل سويسرة.
كما قامت الدولة الوطنية على مجموعة مبادئ جعلت من الحكومة المركزية محل الولاء الأسمى من قبل شعوبها. وجاء انتصار الفكرة الوطنية في أعقاب حروب القرنين التاسع عشر والعشرين، بدءا بالحروب النابليونية التي ساعدت على انتشار مبادئ الثورة الفرنسية وأطلقت الفكرة الوطنية كقوة حاسمة في أوربا، ولغاية الحربين العالميتين اللتين قادتا إلى انهيار الإمبراطوريات القديمة والحديثة ولتحملا في أعقابهما المبادئ الوطنية لحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومنحتا الولادة للحركات الاستقلالية في المستعمرات المختلفة. وبذلك اتجهت مسيرة العالم، بعامة، لتنتظم كلية على أساس الدولة الوطنية (القومية) الموحدة.
إن العناصر التي تنفرد بها الدولة الوطنية تتمثل في امتلاكها قوة مستقلة توفر لها فرض القانون العام في إطار حدودها. بمعنى أن الدولة الوطنية هي رابطة (منظمة) اقليمية تتوفر لها منظومة أجهزة ومكونات تمكنها من ادعاء السيادة على كافة التنظيمات الأخرى في أراضيها، واحتكارها استخدام القوات المسلّحة، وحق حكومة الدولة إدعاء العمل باسم الشعب- الوطن في نطاق حدودها.
تعزز مفهوم الدولة الوطنية كبؤرة محورية لولاء الناس نتيجة عوامل عديدة في مقدمتها الحروب والتهديد بها، بالإضافة إلى هموم التنمية والخدمات الاجتماعية وما يماثلها. من هنا أصبحت الدول الوطنية- من وجهة نظر شعوبها- ملاذاً وضماناُ لحياتهم ورمزاً لكرامتهم ومصدر الهام قيمي وأخلاقي لمشاعرهم، لتصل أوجها في تعبير هيجل "واجب الرجال ليس الدفاع عن أي وطن يختارونه، بل الدفاع عن وطنهم هم، أرض الآباء والأجداد. هذا المطلب المركزي- الذي على أساسه تقاس كل التصرفات الأخلاقية للأفراد- هو مصدر كافة الواجبات المسلّم بها والمعروفة دائما لكل فرد والأساس الموضوعي الذي تعتمد عليه منزلة كل مواطن. لأِنه لا مكان في الحياة الحقيقية لفراغ الأفكار،مثل فعل الخير من اجل الخير نفسه".(13)
ونتيجة عوامل تراوحت جزئيا بين الضرورات الإدارية، وجزئيا بسبب ضغط المصالح داخل الدولة الوطنية، علاوة على مخاطر تركيز السلطة في جهة واحدة، اضطرت كافة الحكومات المركزية تقريبا التنازل في حدود معينة وبدرجات متباينة عن قدر من سلطاتها لصالح وحداتها الفرعية. وهكذا برزت صور متعددة للدولة الوطنية تراوحت بين الدولة الوطنية المركزية (حيث السلطة محصورة في المركز وله استرجاع ما تنازل عنها لصالح فروعها)، والدولة الوطنية اللامركزية (وتتمتع الهيئات الفرعية- بصفة قانونية- بسلطات صنع القوانين إلى حدود معينة)، بضمنها الدولة الوطنية الموحدة الفيدرالية.
تتوزع السلطة في الدولة الوطنية القائمة على النظام الفيدراليfederal system بين مجموعتين من الحكومات، إحداهما الحكومة المركزية والثانية الحكومات المحلية (الفرعية)، ولكل منهما سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. وعادة ما يقوم الاتحاد الفيدرالي على أساس دستور اتحادي ينظم توزيع السلطة بين الحكومة المركزية التي تمارس سلطاتها على كافة أجزاء البلاد والحكومات المحلية (الفرعية) حيث تمارس سلطات مستقلة ذاتيا في إطار حدودها الجغرافية، عدا شؤون القوات المسلَّحة والخارجية.
شكلت المجتمعات القبلية المنظمة النموذجية للجنس البشري في بدايات تاريخه، وهي لا زالت قائمة ومؤسسة فعالة في أجزاء عديدة من العالم الثالث، بخاصة. ويقوم منطق القبيلة، في شكلها التقليدي، على علاقات النسب- القرابة. وتتكون فروعها من جماعات حميمة من الأفخاذ- العشائر، وقلما تكون قاعدتها الاقليمية محددة. وتكون مؤسساتها غير متباينة، وهياكلها المتقاطعة مؤطرة في أنظمة اجتماعية ذات وظائف شمولية. وفي هذا النظام يتم اختيار زعيم القبيلة من بين الرجال الراشدين. ويتوزع الرجال الأكبر سنا بين رؤساء القبيلة والكهنة (السحرة) وأعضاء مجلس القبيلة. ومسؤولية هؤلاء الحفاظ على تقاليد القبيلة وقانونها التقليدي غير المدون، حيث اكتسب هذا القانون العرفي موافقة رجال القبيلة على أساس ديني، رغم انه يخضع لنفس منطق التطور العام الذي تخضع له القبيلة.
تعتبر القرية أو المجتمعات الريفية كينونة سابقة على المدينة والتي تشكل امتدادا تاريخيا متطورا للقرية. من هنا تقوم بين القرية والمدينة اختلافات تجد جذورها في تباين تطورهما التاريخي. فالقرية مرتبطة بدورة الحياة الزراعية، في حين تعتمد المدينة على التجارة والصناعة والحرف. والقرية رابطة حميمة للعلاقات الإنسانية، بينما المدينة هي مكان الكثافة السكانية. كذلك فإن ثقافة القرية بسيطة وتقليدية، بينما المدينة هي مركز العلوم والفنون والثقافة. كما أن القرية خضعت لديمقراطية بدائية قوامها المناقشة وجها لوجه في مجلس القرية أو مع رئيس القبيلة. أما حكومة المدينة فلم تكن أبدا بهذه البساطة، وأن أشكال الملكية الاستبدادية والارستقراطية والاوليغاركية قد ازدهرت أصلا في المدينة. وحتى في الدول الوطنية لعالم اليوم، فالتناقضات بين القرية والمدينة كمراكز للنشاط البشري واضحة للعيان. فالحياة في الريف اكثر دفئا، والعلاقات الإنسانية تخلو من الرسمية، وهيكل المجتمع اكثر استقرارا أو أقل استعدادا للتغيير. هذا على خلاف المدينة، فالفرد مجهول أو كما يقال رقم من الأرقام، والاتصالات بين الناس رسمية بدرجة رئيسة والمواقف الفردية والعائلية في المجتمع عرضة للتغيير السريع.
ظهرت المدن في أشكال معقدة من التنظيمات السياسية- الاجتماعية في وديان دجلة والفرات والنيل والنهر الأصفر ويانغ (النهر الأزرق) ودخلت هذه المدن المبكرة في صراع مثير مع أنماط الحياة البدائية والمجتمعات الريفية التي انحدرت منها، بعد أن استبدلت علاقات النسب/القرابة قاعدة المجتمع الريفي- بحالة أخرى تقررت على أساس الحرفة والطبقة. وتحول رجال القبيلة من السحرة إلى كهنة للمعبد يترأسون مؤسسات دينية أكثر تطورا وتعمل بصورة فعالة للسيطرة الاجتماعية. كما أن الأنظمة المبكرة للحكم بقيادة شيخ القبيلة والأشكال البسيطة لقيادة الكوميونة فسحت الطريق لظهور الملكية التي جمعت بيدها الوظائف الزمنية والدينية. كذلك استبدلت المقايضة بِأنظمة فعالة للتبادل وأخذت الثروة تتدفق من التجارة التي أصبحت هدفا للضريبة وأداة للقوة في المدينة. وبرز كذلك التميز الطبقي نتيجة تقسيم العمل، وأنشئ وتطور نظام الجيش والجندية الاحترافية. وقدمت طبقة العبيد قوة العمل للمشروعات الكبيرة في مجال الري والحصون والمباني الفخمة. ومع استمرار هذه التطورات أصبحت المدينة قادرة على بناء قوتها بدرجة عالية مكّنتها من فرض سيطرتها على القرى والمدن الأخرى الواقعة في محيطها، لتصبح أخيرا مركزا للإمبراطوريات المبكرة في وادي الرافدين ومصر والصين وفارس.
أما المدينة الاغريقية فقد قامت على تناقض ملفت للنظر مع حكم الاستبداد الذي طبع إمبراطورية المدينة الشرقية. إذ أن المدينة الاغريقية اتسمت بالديمقراطية والانتخابات، رغم أنها انحصرت في طبقة الأحرار من الذكور. وربما كان في تواجد أعداد كبيرة نسبيا من الذكور الذين ولدوا أحرارا ما ساعد على اكتساب حق إدارة حكومة مدنية من خلال انتخاب موظفيها والمساهمة المباشرة في مجلس المدينة.
وفي فترة متأخرة من العصور الوسطى ظهرت المدن المستقلة في أوربا. ورغم أنها اختلفت عن المدن الاغريقية واصطبغت بِأشكال المجتمعات الإقطاعية فهي كذلك شددت على مبدأ الرابطة التعاونية. ولأِول في تاريخ الحضارة المدنية كانت أغلبية السكان القاطنين من الأحرار. كما أن نمو الأعمال والتجارة وتراكم الثروة حررت المدينة من البنية الإقطاعية، وأصبحت النقابات الحرفية للتجارة وأصحاب الحرف القاعدة التي عززت نوعا من ديمقراطية المدينة. إلا انه مع مرور الوقت تحولت هذه النقابات إلى مؤسسات مقفلة شكلت القاعدة لسيطرة الأقلية. كما واجهت هذه المدن الحرة التهديد مع الظهور المتزايد للدولة الوطنية الجديدة وأصبحت أهدافا مرغوبة للملوك الطامحين، واضطرت أخيرا إلى الاستسلام للسيطرة الملكية. إلا أن ما خلفتها من تراث في سياق النظام السياسي كانت ذات قوة تأثيرية بالغة في تطوير الهياكل الدستورية للدولة الديمقراطية الليبرالية المعاصرة .
وأخيراً، تضافرت قوى تاريخية وضرورات إدارية في العديد من الأنظمة السياسية الوطنية الحديثة لإفراز صورة أخرى من المجتمعات شبه الوطنية متمثلة في المقاطعات وبمستوى وسط بين المجتمع الوطني والمجتمع المحلي. ففي بعض الحالات، مثل الكانتونة السويسرية والمقاطعة البريطانية والاقليم الألماني والولاية الأمريكية، تميزت هذه المجتمعات برسوخ مؤسساتها السياسية وممارساتها للوظائف الحكومية. وفي حالات أخرى جاءت حصيلة عوامل اثنية وثقافية ولغوية وفيزيوغرافية (ظواهر طبيعية- جغرافية) أو عوامل اقتصادية قادت إلى المحافظة على شخصيتها في غياب هياكل سياسية. وكما في حالة الأنظمة السياسية شبه الوطنية تستند هذه المجتمعات أحيانا إلى قاعدة التقليد حتى ولو كان ذلك في شكل اقتفاء آثارها لفترات سابقة على ظهور مفهوم الدولة الوطنية.

3- تصنيف الأنظمة الحكومية
بدأت محاولات متواصلة لعلماء السياسة من أجل تطوير أشكال ونماذج من الأنظمة الحكومية المختلفة وفق أسس تصنيف متنوعة ومتباينة.(14) وتعتبر من بين المحاولات المبكرة مبادرة كل من افلاطون وارسطو تحديد أشكال الحكومات بالعلاقة مع عدد من بيدهم السلطة السياسية وطبيعة استخدامهم لهذه السلطة. وتقوم فكرة افلاطون على وجود تعاقب طبيعي لأِشكال الحكومات: الحكومة الارستقراطية (الشكل المثالي لحكومة القلة- حيث يكون الحكم بيد قلة من ذوي القيم والحكمة وأهل السياسة الطيبة). وفي ظروف إساءة استخدامها للسلطة تخلي مكانتها إلى حكومة تيموقراطية (حكومة مبنية على أساس الثروة وحب الشهرة- تتكون من قلة ينصب اهتمامها الأساس على الشرف والأمجاد العسكرية). ونتيجة لأِطماع هذه الحكومة فهي تتطور إلى حكومة اوليغاركية (صيغة منحرفة فاسدة لحكومة القلة) التي تترك بدورها مكانتها إلى حكومة ديمقراطية (حكم الأكثرية) وتستمر الدورة لتصل هذه الحكومة، بسبب التزايد المفرط لسكانها، إلى ديمقراطية فوضوية (حكومة بدون قانون)، والتي تقود بدورها إلى بروز الحاكم المستبد.
ومن المحاولات الهامة في العصر الحديث تلك التي جاءت في كتابات ميكافيلي وغيره بشأن التميز بين الحكومات الملكية والجمهورية، إلا أن هذه الكتابات فشلت في فرز الأنظمة الاستبدادية عن تلك الديمقراطية. بينما شكلت مسألة الشرعية محاولة أخرى لدراسة النماذج الحكومية لدى عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر عندما ناقش ثلاثة أشكال من أنظمة الحكم بالعلاقة مع شرعيتها، وهي:(15)
الأولى: السلطة التقليدية traditional authority، وتعتمد شرعية الحكم على إيمان راسخ بقدسية تقاليد وأعراف قديمة مؤدية إلى طاعة الناس للحكام الذين يمارسون السلطة نسبة إلى هذه التقاليد. يذكر ويبر أن هذه الحالة شكَّلت الأغلبية العامة البدائية للسلطة التقليدية.
الثانية: السلطة الملهمة authority charismatic ، وتقترن بمؤهلات شخصية استثنائية للحاكم. وتستند إلى الادعاء بالإخلاص لقيم ومبادئ وأهداف اجتماعية جوهرية وحرمات خاصة استثنائية مثل البطولة أو السلوكية النموذجية لشخص الحاكم ومواصفاته.
الثالثة: السلطة القانونية authority legal ، وتعتمد شرعية السلطة على الاعتقاد أن وصول الحاكم إلى السلطة جاء بطريقة قانونية وأنها أصبحت مقبولة في صورة التزام لأنها قانونية، ذلك أن ما تحقق بطريقة قانونية يعتبر شرعيا.
وضعت مشروعات التصنيف السابقة على جنب بعد أن تدفقت الدراسات المعاصرة في مجال التحليل السياسي خاصة في السنوات الأخيرة. وهذه الدراسات فتحت المجال لكميات هائلة من تصنيف الأنظمة الحكومية دون أن يكون بالإمكان تحديد أفضلها. ذلك أن اختيار التصنيف الأفضل يرتبط بوجهة نظر الباحث وموضوع بحثه. فالعالم الجغرافي قد يميز بين الأنظمة السياسية نسبة إلى مساحة أراضيها، والديمغرافي بالعلاقة مع سكانها، والاقتصادي بالنظر إلى توزيع الثروة والدخل فيما بينها، الخ.. بمعنى وجود اختلافات لا تحصى بين الأنظمة الحكومية من تاريخية واقتصادية وتكنولوجية واجتماعية واثنية ودستورية وقانونية. ويرتبط بذلك إمكانية تشخيص ستة أسس لاختلاف الأنظمة الحكومية.(16)
الأول: الطريق نحو الحاضر- لكل نظام سياسي، وإلى حدود معينة، ماض خاص به. إن هذه المسألة هي أكثر من مجرد نقطة تجريدية، لأِن الحاضر يتحمل ثقل إرث الماضي الذي يؤثر في المستقبل أيضا. وهذه الاختلافات في ماضي الأنظمة السياسية تعني أن دول العالم لم تبدأ من نفس النقطة الزمنية، ولم تكن لها فرص متماثلة، ولا تشترك بنفس العوامل والمتغيرات. فالشعوب التي لم تعرف سوى الحكم الفاشي من غير المحتمل أن تحقق الاستقرار والديمقراطية في بحر أشهر قليلة. لان تاريخها الممتد إلى حاضرتها يضع كافة البصمات الحادة على تناقضاتها بحيث تكون من القوة إلى حدود أن بناء السلام الاجتماعي يتطلب فترة زمنية ليست بالقصيرة من الجهود السلمية.
الثاني: درجة الحداثة- يضع التاريخ بصماته الواضحة في شكل مراحل متباينة للتنمية أو الحداثة في المجتمعات السياسية، ولتظهر في اختلافات ضخمة من بلد إلى آخر فيما يخص حصة الفرد من الناتج القومي، التعليم والثقافة، المهارات الفنية، التصنيع والتحضر، الصحف والمجلات وما شابه. وهذه العوامل تكون متشابكة ومتداخلة. فالبلد الأقل تطورا نسبيا في مجالات معينة من المحتمل أن تكون كذلك في مجالات أخرى مماثلة.
الثالث: توزيع الموارد السياسية والمهارات- تتوزع الموارد السياسية والمهارات بطرق متباينة في الأنظمة السياسية المختلفة. ورغم أنها موزعة على نحو غير متساو في كافة الأنظمة، إلا أن درجة عدم المساواة تختلف من بلد إلى آخر. مثلا كانت م50% ن مساحة الأراضي الزراعية مملوكة الى 7و0% من الملاكين في العراق قبل ثورة تموز 1958، مقارنة بالدانمارك حيث كانت نفس النسبة مملوكة من قبل 21% من الملاكين.
الرابع: أسس الانشقاق والتلاحم- إن نمط الاتفاق السياسي من تعارض وائتلاف له أسباب مختلفة تعود إلى عوامل كثيرة واسعة تتطلب دراستها من اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وأثنية وجغرافية، الخ.. كما أن التاريخ يضع بصماته على كيفية التعامل مع هذه الاختلافات. مثال ذلك: الاختلافات العرقية - ففي الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت هذه المشكلة طريقا عنيفا لحلها وخلّفت آثارها في التفرقة حتى الوقت الحاضر. وعلى النقيض من ذلك في البرازيل التي كانت تواجه نفس المشكلة (نسبة عالية من السكان العبيد كانوا من أصل أفريقي)، إذ أن السكان المسيطرين في البرازيل، وهم من أصل برتغالي، كانوا أقلَّ حدّة في التعامل معها وقبلوا التمازج العرقي بصعوبة أقل. لذلك فرغم استمرار التمايز العرقي في البرازيل إلا أنه لم يكن مصدرا رئيسا للتناقض على خلاف الولايات المتحدة الأمريكية.
الخامس: صرامة التناقضات- إن صرامة التناقضات بين أفراد وفئات المجتمع تختلف بالعلاقة مع الأنظمة المتعددة سواء فيما بينها خلال فترة زمنية معينة أو في إطار النظام السياسي لفترات زمنية مختلفة. فقبل أكثر من قرن مضى كان الأمريكيون متورطون في قتل بعضهم البعض على نحو واسع خلال الحرب الأهلية التي دامت طيلة الفترة الأولى لرئاسة ابراهام لنكولن، بالإضافة إلى سنة أخرى من رئاسته الثانية (1860-1865)، أي خمس سنوات انتهت بانتصار الشماليين وباغتيال لنكولن نفسه. وكان ذلك دليلا على وجود تناقض حاد في المجتمع الأمريكي. إن حالات العصيان المسلح، الحرب الأهلية، الثورات العنيفة، حرب العصابات، معارك الشوارع، التهجير الواسع.كلها تناقضات اجتماعية تعبّر عن حدود قصوى من الصرامة. أما الخطابات والمناقشات والاجتماعات والمظاهرات والإضرابات السلمية والانتخابات الدستورية فهي جميعا ترمز إلى انفتاح المجتمع على الطرق السلمية لحل تناقضاته ومحاولة بلوغ حلول مشتركة على أساس الإقناع والقناعة لمصلحة كافة الأطراف المتعارضة.
السادس: مؤسسات تحصيص وممارسة السلطة- وأخيرا، تختلف الأنظمة السياسية في مؤسساتها وكيفية توزيع السلطة بينها وممارستها. فهناك أنظمة تتركز فيها السلطة بيد أقلية، مقابل أنظمة أخرى تتوزع فيها السلطة على مجموعة مؤسسات تقوم على المشاركة الشعبية.
وفي الصفحات التالية مناقشة لثلاثة أنواع من تصنيفات الأنظمة السياسية وذلك بالعلاقة مع: عدد من بيدهم السلطة وطبيعة استخدامها، ومدى الفصل بين السلطات الثلاث- أي تجزئة السلطة بدلا من حصرها في جهة واحدة، ومسألة انتقال السلطة (التعاقب).
(1) الأشكال المعاصرة للأنظمة الحكومية
تتراوح أشكال الأنظمة الحكومية بين الاستبدادية المطلقة وشبه المطلقة وحكومة القلة والحكومة الدستورية التعددية.(17) فالأنظمة الحكومية الملكية قامت في صورتها القديمة على الاستبدادية المطلقة absolution. والاستبدادية هي ايديولوجية تنسب الى توماس هوبز (1588-1679). وتعود في أحدث جذورها إلى فترة القرون الوسطى التي شهدت مذهب "الحق الإلهي للملك"، والداعي إلى ضرورة عدم وجود أية قيود على تصرفات الحكومة- الملك. بينما تعود في جذورها القديمة إلى بدء الحضارة السومرية وظهور دولة المدينة. وتتسم الحكومة الاستبدادية المطلقة بغياب كافة أشكال المؤسسات الدستورية. ويلاحظ حاليا، فيما عدا أنظمة خليجية عربية، زوال الأنظمة الاستبدادية المطلقة على المستوى الدولي تقريبا.(18)
يوفر العالم المعاصر أمثلة عديدة حية و/ أو تاريخية لأِنماط الحكم الفردي: الملكي والجمهوري.. الحكم المطلق.. الحكم الدكتاتوري، بالإضافة إلى صورها الفاشية والنازية، وسواء كانت مدنية أو عسكرية. وتتواجد أشكال متنوعة من الحكم الفردي الاستبدادي في دول العالم الثالث المعاصرة والتي جاءت- في الغالب- على أنقاض الأنظمة الاستعمارية. وبغض النظر عن تسمية الطاغية/ الدكتاتور- رئيس جمهورية، ملك، أو قائد عسكري.. فإن هذه الأنظمة الاستبدادية قامت على جذور مشتركة من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. علاوة على ظهور نمط دكتاتوري آخر في أمريكا اللاتينية باسم "كاديلو"، إذ تراوح بين الكاديلو الريفي في القرن التاسع عشر بتمثيله لمصالح أصحاب الأرض في الريف وبين الكاديلو العصري في القرن العشرين، كما في نظام بيرون (الأرجنتين) الذي قام على أكتاف ضباط الجيش ممن تعهدوا برنامج إصلاح وطني.
كذلك تباينت الدكتاتورية في الأنظمة الشمولية المتقدمة تكنولوجيا والمستندة إلى نظام الحزب الواحد بالمقارنة مع تلك في دول العالم الثالث. فالنازية الألمانية بقيادة هتلر اعتمدت في حكم الدولة على الحزب الواحد. واستند قائد الحزب إلى حب الجماهير (الكارزمية)، مع استخدام الايديولوجية الرسمية لبناء شرعية الحكم والحفاظ على النظام السياسي، بالإضافة إلى استخدام القوة البوليسية الإرهابية والصحافة الموجهة وتطبيق كافة الوسائل العلمية والتكنولوجية الحديثة المتاحة لتحقيق السيطرة على سلوكية الاقتصاد والفرد. واقترن النظام بالعنصرية في ايديولوجيته. ومع أن النازية الألمانية تبنت صيغة "الاشتراكية الوطنية" إلا أنها في الأساس كانت معادية لفكرة الثورة، وعبأت مجموعات من الطبقة الوسطى لمتابعة تحقيق أهداف عسكرية وفق مبدأ تنظيمي وحيد تمثل في طاعة الفوهر. وتدخل الأنظمة الماركسية (الحزب الواحد) أيضاً ضمن الأنظمة الشمولية التي استخدمت قوة الدولة والصحافة لتحقيق السيطرة المركزية على سلوك الاقتصاد والفرد. إلا أنها كانت مختلفة جوهريا، إذ تجاوزت ايديولوجيتها المفاهيم العنصرية بالدعوة إلى الأممية، وقامت على هدف ثوري في بناء الاشتراكية، وتوجهت في دعوتها إلى الطبقة العاملة والفئات الكادحة لتحقيق أهدافها الاجتماعية. وحققت إنجازات اقتصادية ضخمة في بحر فترة قياسية مقارنة بِأوضاعها التاريخية. وليست أقل أهمية، مصداقية دعوتها إلى السلام العالمي، حيث أنها لم تدمر نفسها وأهلها وغيرها، كما هي عادة نهاية الأنظمة الدكتاتورية.
أما أنظمة الحكم الدستورية constitutional فهي تقوم على وجود دستور دائم يرسم كيفية اختيار أشخاص الحكم وفق الانتخابات العامة السرية، وبناء السلطات الثلاث والرقابة المتبادلة بينها، مع ضمان التعددية والانتقال السلمي للسلطة، بالإضافة إلى الحريات العامة وحقوق الإنسان. وهنا من المفيد إبداء ملاحظتين:
الأولى: أن هذا النظام السياسي الذي يقوم على آلية التحول الديمقراطي ليس كافيا في حد ذاته. أي أن الحقوق السياسية ليست الهدف النهائي للإنسان-المجتمع، بل وسيلة حضارية لنيل حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، وتحسين أوضاعه المعيشية- الحياتية. عليه لا يكفي الحديث عن النظام السياسي فقط، بل لا بد من ربطه بالنظام الاجتماعي.
الثانية: إن مجرد وجود دساتير وانتخابات وبرلمانات وأحزاب سياسية لا يعني في حد ذاته غياب المضمون التسلطي للنخب الحاكمة، ولا يمنع من احتكار السلطة. والأمثلة على ذلك كثيرة في دول العالم الثالث ومنها منطقتنا العربية. ذلك أن مهمة التطبيق الفعلي والممارسة في الساحة السياسية من حيث مدى صحته ودقته وسلامة توجهاته ومصداقية التزامه تبقى تشكل الجانب الآخر من حيث الأهمية. وهذه المسألة ترتبط بدورها، وإلى حد بعيد، بمدى التطور الحضاري للمجتمع وقدرته على تحقيق الاستمرارية النمطية والمتصاعدة للتحول الديمقراطي بعيدا عن المراوحة والتراجع.

(2) التقسيمات المعاصرة للسلطات الحكومية
ميّز ارسطو بين ثلاثة أصناف من نشاطات الحكومة متمثلة في: التداول في قضايا عامة، قرارات تنفيذية للحاكم، والأحكام القضائية. إلا أن هذا التقسيم لا ينطبق على التقسيم المعاصر للسلطات الثلاث من تشريعية وتنفيذية وقضائية. كما أن ارسطو اقتصر في مناقشته على إجراء تميز نظري فقط بين وظائف معينة. ووقف عند هذا الحد دون التوصية بإنشاء ثلاث هيئات منفصلة لهذه السلطات. بل انه في الواقع وضع السلطة في يد شخص واحد هو الرجل الفاضل، وبالنتيجة فهو لم يأخذ في الاعتبار أبدا مبدأ الفصل بين السلطات. كذلك ميّز الفيلسوف البريطاني جون لوك في القرن السابع عشر بين الوظيفتين التشريعية والتنفيذية، وفشل مثل ارسطو في تحديد المؤسسات المنفصلة لوظائف الدولة.(19)
وكان الفيلسوف الفرنسي البارون مونتسكيو (1869- 1755) أول من أجرى تقسيما حديثا بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، موضحا أن العدو الخطير للحرية يتمثل في تجميع السلطات الثلاث في جهة واحدة. وجاء بنظريته هذه عام 1748. وأصبح مفهوم فصل السلطات الثلاث أحد المذاهب الرئيسة في الدساتير الحديثة. وقادت أفكاره هذه إلى تأثيرات جوهرية، وأخذت في الاعتبار على نحو واسع من قبل مؤطري دستور الولايات المتحدة الأمريكية عندما أعلن جيمس ماديسون (1751- 1836) بقوله "إن تراكم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في نفس الجهة قد يؤكد المفهوم العميق للحكم الاستبدادي".(20)
إن الوظائف المميزة عموما للسلطة التشريعية هي صنع القانون. ولكن السلطة التشريعية تقوم عادة بمهام أخرى منها: اختيار السلطة التنفيذية والرقابة عليها ومحاسبتها من توجيه اللوم ولغاية سحب الثقة وإسقاطها، الإشراف على الإدارة، تخصيص الأرصدة المالية, تصديق المعاهدات الخارجية، النظر في تعيين عناصر تنفيذية أو قضائية مرشحة للوظائف العليا، توجيه الاتهام إلى عناصر تنفيذية أو قضائية مسؤولة، إقرار أمور الحرب والسلام.. فالسلطة التشريعية في الواقع تقوم بهذه المهام على نحو أكثر أصالة من مهمة صنع القانون. إذ تشارك السلطة التنفيذية عادة بالمهمة التشريعية من خلال المبادرة بتقديم مسودات القوانين إلى السلطة التشريعية، وحق ممارسة سلطات تشريعية أصيلة أو مفوضة (إصدار الأنظمة والمراسيم). علاوة على أن القضاء، من واقع منزلته، يشارك أيضا في صنع القوانين سواء من خلال تفسيره و/ أو ممارسته سلطة المراجعة القضائية للقوانين الصادرة.
تشكل السلطة التنفيذية بطبيعتها أقوى السلطات الثلاث لأنها تمارس مهمة تطبيق القوانين والأحكام القضائية من خلال احتكارها تنظيم وإدارة القوات المسلحة والأمن الداخلي، لذلك فهي تمتلك وحدها القوة والسلطة الشرعية لاستخدام هذه القوة. وهذه السلطات تثير مخاوف سوء الاستخدام. وفي غياب أو ضعف رقابة السلطتين الأُخريين على ممارساتها عندئذ تكون مخاطر سوء استخدام السلطة التنفيذية لقوتها جسيمة حقا تجاه الحقوق والحريات العامة. أما السلطة القضائية فهي حاملة راية العدل والمساواة أمام القانون- ويعتبر القضاة مثل المشرعين والمنفذين- مساهمين رئيسين في صناعة العملية السياسية. وتُعلن المحاكم قواعد سلوكية لها طبيعة قانونية.
والخلاصة، فان علاقة السلطات الثلاث في نظام دستوري تتطلب تأكيد مجموعة مبادئ تتقدمها:
* تحاشي تجميع السلطات في مركز واحد والمتمثل بالسلطة التنفيذية عادة، لما في ذلك من مخاطر إساءة استخدامها تجاه المواطنين في ظروف قيام الاستبداد.
* إقامة نظام مرن من العلاقات لتحقيق التكامل بين هذه السلطات وليس مجرد الفصل بينها. وهذا يتطلب بناء نظام متكامل للرقابة المتبادلة بينها، وبما يؤدي إلى سلامة أدائها ودفعها إلى التعاون المشترك.
* قيام الجمعية الوطنية- البرلمان (مجلس واحد أو مجلسين)- على أساس الانتخابات العامة السرية المباشرة. وهذا لا يمنع وضع شروط ملائمة للمرشحين من حيث: العمر، المستوى التعليمي، الخبرة، المساهمة الاجتماعية، وغيرها.
* تثبيت وظائف السلطات الثلاث والرقابة المتبادلة بينها في القوانين الدستورية، مع إعطاء مساحة كافية من المرونة لنمو قيم التعاون والتكامل بين هذه السلطات.
* التأكيد على استقلال السلطة القضائية دستوريا لإبعادها عن تأثيرات السلطتين الأُخريين، مع ضرورة تمكينها من المراجعة الدستورية لقوانين السلطة التشريعية وقانونية إجراءات وأنظمة ومراسيم السلطة التنفيذية.
* الأهمية القصوى لتأكيد الممارسة العملية لهذه المبادئ.

(3) تصنيف الأنظمة الحكومية وفق أسلوب التعاقب
من المسائل الشديدة الحساسية التي تواجه الأنظمة السياسية هي التعاقب، أي نقل السلطة. فحينما صاح المنادي "مات الملك" كان جوابه "عاش الملك". إلا أن الجواب لم يتحقق بالضرورة في لحظته أو دون مناقشة. ففي الملكية الوراثية الأوربية كان السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه الحالة هو: من الحاكم بعد الملك الراحل؟ وكان السؤال الثاني الذي يرتبط بالسؤال الأول:كيف يستبدل الحاكم الحالي أو يحرم من السلطة ومن قبل من؟
واجهت الأنظمة السياسية حتى في المجتمعات القبلية البدائية هذين السؤالين بطرق مختلفة. فالسجلات الانثروبولوجية (المتعلقة بعلم الانسان)، تبين أن رؤساء قبائل وملوك كان يتم اختيارهم بطرق عديدة منها: اختبارات طقوسية أو أصول دينية كانت تتقرر من قبل رجال القبيلة أو الكهنة. وفي أحيان أخرى تم إضعاف مبدأ الوراثة باختيار الزعيم من بين الراشدين من العائلات المرموقة. كذلك تباينت طرق إبعاد حاكم القبيلة بين قتله بعد فترة زمنية أو عندما تضعف قدراته السحرية أو تفتر قواه البدنية والصحية، وبين عرضه لاختبارات التحدي بمنازلة مرشح كفء.(21)
تفرز مشكلة التعاقب توترات ضخمة للنظام السياسي عموما. إن لحظة اتخاذ القرار بانتقال السلطة تعبّر عن توقف استمرارية الحكم مؤدية إلى ظهور حالات مرتبكة من الفعل وعدم التأكد من المستقبل. وهذه الظاهرة تجسّد بطبيعتها أزمة سياسية تختبر سلوكية الأنظمة المعنية بطرق قد تكون في غاية الأهمية للتحليل السياسي المقارن، رغم أن المقارنة المحورية تبقى بين تلك الأنظمة التي وفرت طرقا قانونية أو عرفية من دستورية- انتخابية أو وراثية/ تقليدية، مقرونة بممارسات حقيقية، ضماناً سلمياً وتعاقباً منتظماً، وبين تلك التي عجزت عن نقل السلطة إلا بالتوترات واحتمالات استخدام العنف.
وعادة ما تكون الأنظمة السياسية عرضة لنوع آخر من التوترات عندما يواجه من بيدهم السلطة محاولات التحدي لإبعادهم عنها. وبغض النظر عن الطريقة المستخدمة بشأن من يحل محل الحاكم، فهي مشكلة مستمرة في كافة الأنظمة السياسية. وفي سياق الممارسات الفعلية للتعاقب فان أشكال ردود فعل هذه الأنظمة تجاه التوترات التي تواجهها تطرح لغزا مهما بشأن سلوكها. ومن المنطقي أن تنتهي الأزمة السياسية إما سلميا وقد تأخذ طريق العنف. وفي بعض الأحيان ربما تقترب من نقطة التدمير عندما تغيب عن النظام السياسي المعني المناعة، متمثلة ليست فقط في التدابير القانونية المثبتة لقواعد التعاقب، بل وبنفس الأهمية الممارسات الفعلية السلمية.
ورغم أن الحكام المستبدين لا زالوا أحيانا يحاولون تنصيب أبنائهم أو أقرباءهم خلفاء أو ورثة من بعدهم، إلا انهم يستندون إلى القوة اكثر من ادعاءات الوراثة أو الادعاءات الأخرى. ويمكن القول أن هذه الحالة قائمة في الوطن العربي بصفة عامة. وهذه الظاهرة وجدت تعبيرها في المقالة الصحفية التي نشرها عالم الاجتماع العربي الدكتور سعدالدين ابراهيم بعنوان: جمهوريات عربية نحو ملكيات دستورية؟ (الحياة-العدد13352 في 28 أيلول/سبتمبر1999).

4- تطور وتبدل الأنظمة السياسية
تتطلب دراسة الأنظمة السياسية التعامل ليس فقط مع العناصر الكبيرة من نمو وانهيار، بل كذلك التعامل مع الحركة الدائمة الاستمرار للتعديل والتكيف. إن ضخامة وتنوع التغيرات التي حدثت في الأنظمة السياسية على مستوى العالم بين العقدين الثاني والأخير من القرن العشرين تعكس بشكل واضح أبعاد هذه المسألة. وفي السطور التالية محاولة مكثفة لمناقشة العوامل الكامنة وراء استقرار أو عدم استقرار الأنظمة السياسية، وأنماط التغييرات التي تواجهها.(22)
اختبرت الأنظمة السياسية بعامة شكلا من الحرب الداخلية مؤدية إلى انهيار عنيف للحكومات- الأنظمة. إن ظهور أزمات معينة قد تقود إلى هذا الانهيار. فالحرب، خاصة الهزائم العسكرية الكبرى كانت حاسمة في حفز ثورات عديدة. إن كوميونة باريس (1871)، والثورات الروسية (1905/ 191)، وإسقاط هتلر لدستور فيمار (ألمانيا) وثورات الصين، كلها حدثت على أنقاض الكوارث العسكرية. ويرتبط بذلك عوامل عديدة منها: النظرة الرخيصة لحياة الإنسان، بروز اضطرابات عامة. كما تشكل الأزمة الاقتصادية حافزا مشتركا آخر لاندلاع الثورة، لأنها تولد، ليس فقط ضغوطا واضحة بشأن ندرة الموارد والحرمان، بل كذلك تهديدا للموقع الاجتماعي للأفراد والجماعات، خاصة الطبقات والفئات الفقيرة من عاملة وكادحة وفكرية ووظيفية، لأِن آثار الأزمة تتوزع عادة لصالح الأغنياء ورجال الأعمال، في حين يقع عبئها على الفقراء وأصحاب الدخول الثابتة من أكثرية أبناء المجتمع. وهنا تتكون لدى الأغلبية الإحساس بفقدان الأمن، بالإضافة إلى تفاقم العلاقات بين الطبقات الاجتماعية. وغالبا ما تعمل الأزمة الاقتصادية الحادة على نحو مماثل والكوارث العسكرية من فقدان الثقة بالقيادة والنظام السياسي. عامل آخر سريع الانفجار هو اندلاع الثورة في أنظمة سياسية أخرى، خاصة دول الجوار. ذلك أن الثورات تميل إلى الانتشار. فالثورة الفرنسية (1879) انتشرت بذورها في أوربا ووجدت صداها في الثورات العديدة التي قامت عام 1848. بينما أعقبت الثور البلشفية في روسيا (1917) عشرات الثورات.
تبرهن الأنظمة السياسية غير المستقرة على سهولة تعرضها للعطب، وتفشل أمام ضغوط الأزمات لتتحول إلى مختلف أشكال الصراع الداخلي التي تقود إلى إضعافها وسقوطها. إن الأسباب الأساسية لعوامل الفشل هذه هي نقص الإحساس الواسع بشرعية سلطة الحكومة وغياب الحد الضروري للاتفاق العام على الأشكال المناسبة للفعل السياسي. فالحكومات تعاني إحدى عقباتها القاتلة عندما تحكم في غياب موافقة الأغلبية أو عندما تخضع شرعية النظام لتساؤلات واسعة. مسألة أخرى ترتبط عن قرب بمشكلة الشرعية كسبب لانهيار الأنظمة السياسية، هي غياب إجماع عام على سياسة ملائمة. فالنظام السياسي يكون محظوظا إذا بادر بفتح قنوات العمل السياسي وتبنّى إجراءات عملية لحل المظالم. ذلك أن أهمية إدارة "قواعد اللعبة" هذه تسمح بِإحداث تغييرات بطرق سلمية. فالأنظمة السياسية المستقرة غالبا ما تعكس صبرا مدهشا أمام الأشكال الاحتمالية الغاضبة للسلوكية السياسية مثل الإضرابات والمظاهرات. ومثل هذه السلوكية "التنفسية" مرفوضة في أنظمة تقوم على العنف وتخشى من المخاطر العالية المحتملة لمثل هذه الحركات وتصاعدها إلى النقطة التي يمكن أن تولد صراعا حقيقيا لغير صالحها.
لعلّ ابسط تعريف للنظام السياسي المستقر هو القادر على الاستمرار في الحياة أثناء الأزمات بعيدا عن العنف والصراعات الداخلية الحادة. ولقد حققت الديمقراطيات الليبرالية الغربية في معظمها تقدما سلميا بهذه الطريقة، بسبب حساسية ردود الفعل السياسية تجاه قوى التغيير، والتكيف المرن لهياكل النظام لمقابلة الضغوط المتولدة، بالإضافة إلى الممارسات السياسية المفتوحة والتي سمحت بالتطور التدريجي المنظم. هذا رغم ظهور فلسفات سياسية جديدة، وحصول زيادات سكانية، وبروز المشكلات الصناعية، وعوامل أخرى كثيرة من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
إن دراسة التغيير السياسي مهمة صعبة، لأِن التغيير يحدث بطرق كثيرة مختلفة وفي نقاط زمنية عديدة في النظام السياسي. ويمكن التفرقة بين أربعة أنماط رئيسة من التغيير السياسي هي: الثورة الجذرية، والتطوير الهيكلي، وتغيير القادة، وتغيير السياسات.
تُعبِّر الثورة عن أكثر نمط سياسي للتغيير مقارنة بالأنماط الأخرى، لأِنها تقود إلى إحداث تغيير جذري في النظام السياسي نفسه. كما وتتعدى آثارها إلى تحولات هيكلية في النظام الاجتماعي برمته. ومما يجدر ذكره أن الأحداث السياسية القاسية drastic التي رافقت هذا النمط من التغيير ظهرت في ثلاث ثورات كبرى غير مسبوقة في العصر الحديث بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر، متمثلة في: الثورة الأمريكية- حرب التحرير (1776- 1783)، الثورة الفرنسية (1789)، والثورة البلشفية (1917). أفرزت هذه الثورات الثلاث آثاراً واسعة وعميقة في الحياة السياسية، مؤدية إلى تغيير دائم في حياة الناس ومعتقداتهم. ولم تقف نتائجها عند حدود مجتمعاتها، بل امتدت كذلك إلى الأنظمة السياسية الأخرى.
ورغم أن الثورة الأمريكية تجسدت في حرب الاستقلال, فقد تضمن إعلان الاستقلال Independent Declaration معياراً جديداً شاملاً للحكومات الحرة. لقد حاربت الثورة من خلال رجال عاشوا في كنف مؤسسات احتضنت سياسة حرية التجارة، وتشرب قادة الثورة من مؤسسات حكومية واجتماعية عبَّرت عن هامش من الحرية في ظل الكولونيالية. وكانوا أكثر المواطنين شهرة ممن آمنوا بفكرة التطور التدريجي، لذلك بقيت الثورة بعيدة عن الهيجان الاجتماعي، ولم تحرض طبقة ضد أخرى. لكن رجال الثورة جددوا أفكارهم هذه بعد تأثرهم بِأفكار مونتسكيو التي انبثقت من قلب الثورة الفرنسية، وطوروا ثورتهم من المطالبة بالحكم الذاتي إلى المطالبة بالاستقلال عن الحكم الأجنبي، وليحققوا بناء أول جمهورية عصرية. ومما تجدر الإشارة هنا أن جورج واشنطن (1732- 1799) قائد حرب التحرير والثورة الأمريكية ضد الإنكليز وأول رئيس جمهورية للولايات المتحدة الأمريكية (1789- 1797)، سبق له وأن خدم في الجيش البريطاني واشترك في حرب السبع سنوات ضد فرنسا (1756- 1763).
أما الثورة الفرنسية التي أوقعت أوربا في حرب ضروس، فقد دمَّرت الإقطاع وقادت إلى انتشار مفهوم الحكومات الشعبية المعاصرة والحريات السياسية، وهي صاحبة أول إعلان لحقوق الإنسان. كما أنها شكلت نقيضاً حاداً للثورة الأمريكية. فلم تكن الثورة الفرنسية دعوة إلى الاستقلال، بل كانت تمزيقاً اجتماعياً سريعاً ضد الحكام (الملك والنبلاء) الذين عاشوا على أكوام من المظالم الاجتماعية. بينما حققت الثورة البلشفية الروسية أول جمهورية سوفيتية (شعبية) عمالية معاصرة ذات أفكار أصيلة في الدعوة إلى الأممية الاشتراكية. وتماثلت مع الثورة الفرنسية في أنها كانت ضد الحكام (الملكية القيصرية) والمظالم الاجتماعية. وقادت سريعاً إلى تصفية الملكية والأوضاع الإقطاعية المتخلفة.
يتضمن النمط الثاني للتغيير ( التطوير الهيكلي) إجراء عمليات تبديل وتكييف وتطوير مستمرة في هيكل النظام السياسي. ولأِن هيكل النظام السياسي (التدابير المؤسسية) هي مقرر لنواتج السياسة, لذلك يُجسِّد هذا النمط من التغيير أهداف الفعل السياسي بمختلف أشكاله. ذلك أن الناشط السياسي political activist والمصلح reformer والثوري revolutionary يشاركون جميعاً في إدراك أن السياسة الحكومية يمكن أن تتغير عنى نحو فعال عند تعديل الأشكال المؤسسية التي تعمل الحكومة من خلالها. فالأنظمة السياسية تُعاني suffer من مخاطر الانهيارات العنيفة عندما تفشل هياكلها المؤسسية وممارساتها تبني سياسات مقبولة لحل التناقضات الاجتماعية، وتحمل مسؤولياتها في هذا المجال.
يُعتبر تغيير القادة النمط الثالث للتغير السياسي. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن إدراك مهمة تبديل أشخاص الحكومة قد تكون طريقة فعالة لتغيير سياسة الحكومة وتقرير مختلف أشكال الفعاليات السياسية السلمية. لذلك فالأنظمة السياسية التي تتوفر لها أساليب قاعدية ودستورية وممارسات سلمية لاستبدال قادتها، تمتلك في الوقت نفسه مزايا إيجابية لنجاحها في معالجة أزماتها.
وأخيراً, قد تكون السياسة الحكومية نفسها واسطة مهمة للتغيير السياسي. فالسياسات الحكومية الأمريكية والبريطانية بعد عام 1945، أمثلة في هذا السياق. إذ أدت السياسة الحكومية الجديدة في الحالتين إلى تعديلات modifications واسعة في النظام السياسي: التوسع السريع لدور الحكومة في الاقتصاد، استخدام نظام ضريبي متقدم لإعادة توزيع الدخل، تنفيذ برامج وطنية للرفاهية الاجتماعية..








الفصل الثاني- نظرية الديمقراطية وتطبيقاتها

1 - ماهية الديمقراطية
تعبّر الديمقراطية عن مفهوم تاريخي اتخذ صورا وتطبيقات متعددة في سياق تطور المجتمعات والثقافات. وتقوم فكرتها الأساسية على حكم الشعب وممارسته الرقابة على الحكومة. ويتمثل جوهر الديمقراطية في توفير وسيلة منهجية حضارية لإدارة المجتمع السياسي بغية تطوير فرص الحياة.(23) وظهرت في صورتها المبكرة مع ازدهار الحضارة الاغريقية- دولة المدينة. ومورست مباشرة لفترة قصيرة، واقتصرت على الأقلية من الأحرار دون العبيد والنساء.(24) ففي عام600 قبل الميلاد أصبحت أثينا تحت قيادة بيركلس- المناصر للحرية. يقول في إحدى خطبه: إن حياتنا السياسية حرة... ونحن أحرار ومتسامحون في حياتنا الخاصة...".(25) وبعد حوالي ألفي عام ظهرت الديمقراطية المعاصرة. وفي ظروف صعوبة تطبيق الديمقراطية المباشرة في عصر الكثافة السكانية، عندئذ اتخذت تطبيقاتها أشكال الديمقراطية غير المباشرة أو النيابية.(26)
تشكلت الديمقراطية الحديثة، والى حدود بعيدة، نتيجة الأفكار التي انبثقت عن فترة النهضة الأوربية. ولم تظهر بالمعنى الليبرالي إلا في القرن الثامن عشر عندما بشر المفكرون الغربيون بفكرة المساواة، وطالبوا بحق الشعب اختيار حكومته والإشراف عليها. وكانت الدعوة منصبّة على حق الاقتراع العام بضمان دستور مكتوب صادر عن مجلس تأسيسي منتخب بأغلبية أصوات الناخبين. وربط روسو تحقيق المساواة بتوفر عاملين: أولهما الإرادة (معنوي)، وثانيهما المقدرة (مادي)، وطالب بخلق التوازن بينهما.(27) وفي ظروف تمحور الديمقراطية الليبرالية حول المساواة السياسية والحرية الاقتصادية عندئذ فتحت الطريق أمام الرأسمالية الغربية إقامة المشروعات الضخمة وفتح الأسواق العالمية واجتياح الشعوب الأخرى وإنشاء الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة. فظهرت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتولدت النظريات الحديثة التي تناولت مشكلات المجتمع بالدراسة والنقد، وبدأ الفكر الاشتراكي في إبراز عيوب البرجوازية، ورأت أن الطبقة المسيطرة تعمل على إخضاع الديمقراطية لمصالحها. وارتباطاً بهذه التطورات، ظهرت الحركة الديمقراطية الاجتماعية باتجاه بناء مجتمع أكثر عدلاً بالمقارنة مع الديمقراطية الليبرالية.(28) وأخذت الأنظمة السياسية المختلفة تدعي أحقيتها بصفة الديمقراطية حتى تلك الأكثر إهدارا لحقوق الإنسان. وربما وجدت هذه الظاهرة تفسيرها في العوامل الثلاثة التالية: أولها أن الديمقراطية ليست إرثاً حضارياً لأِية ثقافة محددة.. وثانيها عدم بلوغ الأنظمة السياسية بِأشكالها المتنوعة مستوى من الموازنة بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية بحيث يحظى بالقبول العام.. وثالثها عدم حصول إجماع عام على مفهوم الديمقراطية ومكوناتها.
تقوم الديمقراطية على مبادئ الحرية freedom. وهي تختلف عن "التحرير" liberty الذي دعا أولاً إلى تحرير الإنسان من العبودية بسلاسلها الحديدية، ولاحقاً المطالبة بتحرير الاقتصاد من ظروف الإقطاع وقوانين القرون الوسطى، بهدف توفير البيئة المواتية لانطلاق البرجوازية الصاعدة. بينما تقوم الحرية على مفهوم نوعي إيجابي يتضمن مبادئ حقوق الإنسان.(29)
ُتجسِّد الحرية قضية إنسانية تُعبِّر عن ملكية الإنسان لفكره وإرادته، وتمنحه شعور المواطنة الكاملة، وتعمل على تحرير عقله، وتعزيز بديهته ونفاد بصيرته. كما أنها تقود إلى تعميق مشاعر الود والاحترام بين الأفراد والشعوب. من هنا قيل أن الحرية تشبه الاسبيرانتو في توفيرها لغة تفاهم مشتركة بين الشعوب.(30) بينما توقع روسو انحسار احتمالات حدوث حروب بين الدول الديمقراطية لاهتمام شعوبها بتطوير حياتهم الحضارية. وربط الدكتور علي الوردي نشوء الديمقراطية بمرحلة متقدمة للحضارة البشرية "... إن ظهور الديمقراطية الحديثة لا يقل في أهميته الاجتماعية عن ظهور الدولة. فإن الدولة قضت على التقاتل القبلي. بينما الديمقراطية قضت على التقاتل السياسي."(31) ومع ذلك تبقى الحرية بدون معنى حقيقي في غياب حق الاختيار "أن تنصحني بعدم القيام بفعل ما، هو كلام أجوف، ما لم أقتنع أني قادر على صنع قراري بقبول أو رفض النصيحة. ومن المؤكد إذا فقدت قدرتي على اتخاذ قراري بالخيارات المتاحة، وأصبحت مجرد منفذ لصوت القدر الذي أملاه ماض متصلب أو بسبب شروط اجتماعية قاسية مفروضة، عندئذ من الصعب أن افهم لماذا أتحمل مسؤولية تصرفي."(32)
إلا أن الحرية ليست مطلقة، بل محدودة ومحددة في إطار المسؤولية المشتركة لأِفراد المجتمع. وهذا يرتب مسألتين: أولاهما ليس لأِحد الحق في رفض الحرية، لأِن ذلك يعني نكران آدميته والتهرب من مسؤولياته الاجتماعية. من هنا قيل "لا مهرب من الحرية ".(33) وثانيتهما تتطلب الحرية درجة من الانضباط لضبط ممارسة الفرد لحريته بالعلاقة مع ممارسات وحريات الآخرين.
إن إحدى العقبات التي تواجه الحرية والحركة الديمقراطية عموما هي النزعة الذاتية القوية نحو السلطة الحكومية. يحذر اللورد اكتون بقوله: السلطة تجسد الفساد... إن هؤلاء الذين يتمتعون ببعض السلطة حتى وإن كانوا من أصحاب الضمائر الحية، عادة ما يرونها منقبة في الحصول على المزيد منها.(34 ) وهذا مبرر آخر للرقابة على الحكومة حتى لا تتبنى سياسات وتشريعات قد تقود إلى إضعاف أو تشويه الحرية، لأِن ما يتخذ بطريقة ديمقراطية ليس بالضرورة أن يكون ديمقراطيا.(35)
تدعو الممارسة الديمقراطية إلى رفض المطلقات لصالح النسبية في التعامل مع الأفكار والممارسات الدنيوية، والتخلي عن همجية العنف في ظل سماع الرأي الأخر، ونبذ المواقف العصبية في إطار استعداد النخب السياسية العيش بسلام على أساس المنافسة الانتخابية. "إن أعضاء المجتمع السياسي يسعون وراء أهداف متباينة، يتم التعامل معها- بين أمور أخرى- من قبل ألحكومة. إن الاختلاف والاتفاق جانبان مهمان من جوانب الأنظمة السياسية. إن الناس الذين يعيشون معا لن يستطيعوا أبداً الاتفاق على كل شيء. ولكن إذا أرادوا الاستمرار في الحياة معا، فهم لن يستطيعوا إلا أن يتفقوا على أهدافهم".(36)
كما تتطلب عملية التحول الديمقراطي بناء تدريجي لبيئة اجتماعية من سياسية وثقافية واقتصادية ومؤسسية توفر لها إمكانية الاستمرارية والنمو المتصاعد. وهنا تلعب المواريث التاريخية- الاجتماعية دورا حيويا في هذه المسيرة. ففي الهند مثلا، طبقت الديمقراطية منذ أوائل الخمسينات من القرن العشرين وسط انتشار واسع للامية والفقر والانشقاق الاثني والديني، بحيث شكلت لغزاً للمفكرين الغربيين ولنظريات الديمقراطية الغربية.(37)
وفي محاولة لتفسير الديمقراطية في الهند، نوقشت مجموعتين من العوامل من تاريخية ثقافية ومؤسسية. يذكر أحد كبار كتاب الهند في قضايا التحضر وهو Chaturvedi ,Badrinath: إن أحد مبادئ الفكر الهندي الذي ساد المجتمع هو أن كافة الأفكار تقريبية (نسبية) بالعلاقة مع الحقيقة. عليه لا يوجد فكر يمثل الحقيقة كلها. وبالنتيجة استطاع الهنود تطوير موقف فكري تجاه الأفكار الأخرى على نحو مقبول جدا.(38) برزت هذه الأفكار الثقافية وممارساتها بصورة جلية في الفترة الكولونيالية، إذ وفرت قدرة عظيمة على الاستيعاب والتكتل، وفي اتباع طريقة تؤكد على التوفيق بدلا من الانتصار. وهذه المواصفات شكلت قيما ديمقراطية عالية مقارنة بممارسات دول العالم الثالث بعامة.
بينما تجسّدت مجموعة العوامل المؤسسية في حزب المؤتمر الهندي ودوره في التطوير التدريجي الفعلي للمؤسسات الديمقراطية. فقد نشأ الحزب عام1885، ويعتبر من أقدم الأحزاب السياسية في العالم،ليس من حيث الزمن، حسب، بل كذلك من حيث سلوكه في تحقيق التوافق والإجماع. ساعدت هذه السلوكية على بناء أرضية مواتية لقيادة الديمقراطية بعد أن حققت الهند استقلالها (15-آب/اغسطس1947). وجرّب حزب المؤتمر أن يكون وعاء (ناد) لكافة الأفكار والطبقات والمصالح في المجتمع الهندي باتجاه تطويرها وليس بقصد احتوائها ووأدها. وساهم في تأهيل أعضائه وقياداته ممارسة قواعد التسامح الديمقراطية. ولا تقل أهمية دور حزب المؤتمر تشجيع التعددية الحزبية. يُضاف إلى ذلك بروز قيادة تاريخية حضارية مختلفة نوعيا عن مثيلاتها في معظم دول العالم الثالث، إذ قادت إلى الاستقلال والديمقراطية على طريق النضال السلمي وبناء إرادة الجماهير، متمثلة في شخص زعيم الهند غاندي الذي فتح بنضاله السلمي (ومغزله اليدوي) الطريق لاستقلال بلاده السياسي والاقتصادي.
وتشكل مملكة السويد مثالا آخر لامتداد عملية الصراع من أجل نقل السلطة من الملك إلى ممثلي الشعب (البرلمان) لفترة امتدت منذ عام 1435م عندما تحققت ولادة البرلمان في صورته الأولى (اجتماع اربو) ولغاية النصف الأول من سبعينات القرن العشرين عندما استكملت السويد نظام الملكية الدستورية. ولم تظهر التسمية الحالية للبرلمان قبل عام 1500م. ولم تتطور قواعد صلبة لكيفية عمل البرلمان قبل عام 1600م عندما أخذت الفصول البرلمانية دورتها كل ثلاث سنوات في استوكهلم بدلا من اربو. وجاءت الخطوة المركزية التالية عام 1866م عندما تم إحلال مجلسي البرلمان محل الشكل القديم. هذا رغم أن حق الاقتراع بقي محصورا بفئات معينة من أصحاب الثروة وذوي المنزلة الاجتماعية لغاية عام 1909 عندما شمل كافة الذكور المؤهلين. وبقيت المرأة محرومة من حق الانتخاب لغاية عام 1921. وحصلت النقلة الكبرى الأخيرة بالعلاقة مع سلطة البرلمان عام 1971 عندما اجتمع البرلمان ذو المجلس الواحد، وليشرع في دورة انعقاده خلال الفترة 1973-1974 قانوناً جديداً للحكومة وآخر للبرلمان الذي افتتح دورته في صورته المعاصرة عام 1975 بعد تجريد الملك من سلطاته السياسة ليصبح رمزاً للبلاد وشخصية غير سياسية.(39)
ليست الديمقراطية عسلا نقيا جاهزا، أي قاصرة على الإيجابيات فقط، ولا تقدم حلولا سحرية للمعضلات المجتمعية، بل لها كذلك سلبياتها، سواء ما تعلق ببطء صنع القرارات أو انفتاح المجال لحصول المزيد من الانحرافات السياسية والإدارية أو الجرائم الاقتصادية والاجتماعية بما فيها نشاطات "المافيا" وأعمال السوق السوداء، خاصة في الدول الأقل نموا. من هنا كانت مهمة التحول الديمقراطي نمطية تتسع وتتعمق مع انتشار الثقافة الوطنية الديمقراطية وتحسين الأوضاع الحياتية للمجتمع. هذا علاوة على أهمية تطوير الكفاءات والمهارات لإدارة العملية السياسية المجتمعية ومواجهة مخاطر الانحرافات الاجتماعية من سياسية واقتصادية وإدارية.
تعني لفظة "الديمقراطية" بمعناها الاغريقي حكم الشعب. إذ تتكون هذه اللفظة من demos أي الشعب people و kratos بمعنى حكم rule. ورغم سهولة التفسير اللغوي للديمقراطية إلا أن محاولات تحديد مفهومها واجهت اختلافات واسعة. ولعل ذلك بسبب أن الديمقراطية ليست مفهوما علميا يمكن بالتالي تعريفه بصورة منهجية، بل هي مجرد تعبير لغوي ينظر إليها كل فريق من زاوية مختلفة.(40)
نوقشت الديمقراطية من منطلقين متباينين: أولهما نظري، فأصحاب النظرية المعيارية Normative Theory يعتبرونها هدفا (وصف ما يجب أن تكون عليه). وثانيهما تطبيقي، حيث أن أنصار النظرية التجريبية (الامبريقية) Empirical Theory يرونها وسيلة (وصف ما هي عليها الآن). من هنا فالديمقراطية وفق المنطلق الأول هي سياسية بحتة، بينما هي سياسية واقتصادية (اجتماعية) حسب المنطق الثاني. ويبرر أصحاب المفهوم السياسي للديمقراطية وجهة نظرهم بِأن إدخال المسائل الاقتصادية والاجتماعية سيجعل هذا المفهوم واسعا يصعب دراسته. بينما يفضل الفريق الثاني التعريف الواسع للديمقراطية على أساس أن محاولة التعريف السياسي الضيق تستبعد أية منا قشة بشأن التوزيع الحقيقي للسلطة- الثروة في المجتمع، وتجعل من مشكلة عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية مسألة منفصلة.(41)
ربما تصبح هذه المناقشة اكثر سهولة وفهما فيما إذا قمنا بالفصل بين نظرية الديمقراطية وبين عملية التحول الديمقراطي. فالأولى تعبر عن نظرية بحتة غرضها تقديم صورة مثالية قصوى لما يجب أن تكون عليه. وهنا تشكل الديمقراطية كنظرية هدفا قائما بذاته. لذلك فهي ليست محل تطبيق. أما الثانية فهي تعبر عن فكرة عملية، وتنظر للديمقراطية باعتبارها طريقة حضارية تستخدمها الأنظمة السياسية المعنية لبلوغ غاياتها الايديولوجية. وهنا يمكن إبداء ثلاث ملاحظات: أولاها أن حصر الديمقراطية بجانبها ألسياسي فقط، يستند إلى اعتبارات فكرية (نظرية) مثالية. أما الديمقراطية وفق اعتبارات التطبيق العملي، فتكون بطبيعتها وسيلة تتعامل مع كافة الجوانب الاجتماعية. وثانيتها ليست الديمقراطية حكرا على ثقافة معينة، بل هي آلية حضارية متاحة لكافة الأنظمة الاجتماعية. وثالثتها أن الديمقراطية ليست حالة آنية تتحقق من خلال الدستور والقوانين والأوامر فقط، بل هي عملية ممتدة لها شروطها الاجتماعية.
من المعروف أن قيما ومبادئ ديمقراطية عديدة تراكمت على المستوى الكوني منذ بدء الحضارات البشرية الأولى وحتى الحضارة الحديثة المعاصرة. ويمكن الوقوف عندها سواء في المعتقدات الدينية أو الأدبيات العلمانية. وهي قيم ومبادئ لا تستطيع ثقافة معينة الادعاء بملكيتها. بمعنى أن لكل مجتمع عناصر في مواريثه التاريخية وثقافته المعاصرة بحيث يمكن أن تستغل كموجودات ديمقراطية. إن مبادئ مثل العدل والحق والتعاون والإخاء والمساواة أمام القانون وما أشبه هي قيم ديمقراطية ذات سريان عالمي. وهذا يدعو إلى معرفة الحدود الدنيا الواجب توفرها في نظام سياسي حتى يوصف بالديمقراطية. وبغض النظر عن الأشكال الرسمية للتطبيقات الديمقراطية،هناك درجة من الاتفاق على أن العناصر الثلاثة التالية تشكل الحد الأدنى لمكونات الديمقراطية في أي نظام سياسي:(42)
الأول: حقوق الإنسان- بما فيها الحريات العامة. ومن المهم هنا التأكيد على ثلاثة جوانب لهذه الحقوق: أولها تحقيق المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع. وثانيها ضمان الحقوق الاجتماعية للمواطنين، بما فيها ألحق الاجتماعي للعمل، وحق التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وثالثها الممارسة الإيجابية لهذه الحقوق على نحو يقود إلى مشاركة المواطنين بصورة فعالة في صنع قراراتهم الجماعية. إن تحديد هذه العناصر يعبّر عن أهمية الممارسة العملية لهذه الحقوق بغض النظر عما تحتويها الدساتير، ومهما كانت المبررات الايديولوجية.
الثاني: التعددية السياسية- تقوم الديمقراطية المعاصرة على التمثيل النيابي. وهذا يدعو إلى ممارسة الناخبين حقهم في اختيار ممثليهم من خلال انتخابات حرة لإدارة شؤون حكمهم لفترة زمنية محددة. إن الاختيار هنا وظيفي وليس شخصيا. عليه وجب تعدده، لان حصره بمرشح واحد يفقده صفته الفعلية لصالح الصفة الشخصية. وهذا لا يوفر انتخابا حرا.
الثالث: التداول السلمي للسلطة- تفقد التعددية مضمونها وقيمتها في ظروف احتكار السلطة، لأِن التعددية تتطلب إعطاء فرص متماثلة لكافة الأحزاب المتواجدة في الساحة السياسية الدخول في المنافسة لكسب ثقة الناخبين وسماع حكمهم بشأن تولي السلطة نيابة عنهم وتنفيذ البرنامج الأكثر قبولا من وجهة نظر أغلبيتهم. وهذه الآلية تجعل من جماهير الناخبين حكما بين الاتجاهات السياسية المتعددة وتمنح فرصة الحكم دوريا لصالح هذا الاتجاه أو ذاك حسب إنجازاته ومواقفه. وهنا أيضا العبرة بالممارسة العملية وليس بمجرد النصوص الدستورية.

2 - أنماط الأنظمة الدستورية
تقوم الحكومة الدستورية على اتفاقية لربط أعضاء المجتمع السياسي سوية، متضمنة إجراءات بكيفية رسم سياساته وصنع قراراته بغية حل المسائل المستقبلية التي تواجهه.(43) ويتميز النظام الدستوري بوجود دستور دائم منظم للحياة السياسية ويوفر رقابة فعالة على ممارسة السلطة الحكومية. ويكون الدستور إما في شكل وثيقة قانونية أساسية مدونة أو عبارة عن مبادئ وأعراف مقبولة غير مدونة بحيث رُسخت عبر فترة زمنية ممتدة. والدستور باعتباره القانون الأساس للدولة، يعتبر الميزان الذي تقاس عليه القوانين الصادرة عن المجلس التشريعي المنتخب بحيث لا تكون مخالفة للدستور كشرط لدولة لازم لدولة القانون، وإلا أصبحت كافة الدول قانونية، لعدم وجود دولة بدون قوانين.(44)
يتواجد نمطان رئيسان للديمقراطية الدستورية في العالم المعاصر هما النظام البرلماني والنظام الرئاسي، وبينهما نظام وسط هو النظام الثنائي.(45) ويشار أحيانا إلى الحكومة البرلمانية- التي تشكل بريطانيا نموذجها الرئيس بـ "نموذج ويستمنستر أو "النظام الوزاري" تمييزا لدور مجلس الوزراء في الحكومة. ويشكل النمط الكلاسيكي للنظام البرلماني الذي يوفر تكامل أو انصهار السلطتين التشريعية والتنفيذية. وفي هذا النظام تنحصر إدارة الرقابة بصفة رئيسة في تصويت البرلمان بـ "عدم الثقة" أو رفضه إصدار تشريع حكومي هام. وتكون الانتخابات العامة قاصرة على اختيار نواب الشعب في البرلمان فقط، حيث تنبثق السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) عن الأغلبية البرلمانية. يضاف إلى ذلك سمات أخرى للنظام البرلماني، منها: ممارسة رئيس الدولة (ملك/ رئيس جمهورية) دورا رمزيا يقتصر على المناسبات الوطنية. بينما لا تتعد سلطته السياسية على دعوته لزعيم حزب أو ائتلاف أحزاب الأغلبية البرلمانية لتشكيل الوزارة، علاوة على حقه في حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة عندما لا يوجد مرشح يحظى بثقة البرلمان لتشكيل الوزارة.
يستند النظام الرئاسي- وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية نموذجها الرئيس- على مذهب الفصل بين السلطات. ويميز بشدة بين الجهاز الإداري وبين الجهاز السياسي. ويكون هذا المبدأ معززا بانتخابات منفصلة للسلطتين التشريعية والتنفيذية. أما الرقابة المتبادلة بين السلطتين فهي تتحقق عبر آليات عديدة، منها: حق الفيتو لرئيس الجمهورية (ويمكن تجاوزه بصدور قرار الكونغرس بِأغلبية الثلثين)، ودور البرلمان في تصديق المعاهدات، وضرورة ضمان موافقته عند تعيين الرئيس لكبار مساعديه من وزراء وسفراء، ودور الكونغرس في تخصيص الأرصدة المالية (خاصة الميزانية السنوية للاتحاد)، وشرط موافقته عند إعلان الحرب، بل أن موافقته تكون لازمة حتى عند إرسال قوات أمريكية إلى الخارج، نظرا لقدرته على حجب تخصيص الأرصدة المالية. يضاف إلى ذلك أن السلطة القضائية توفر أيضا رقابة قضائية بضمنها الرقابة الدستورية من خلال ممارستها المراجعة الدستورية للقوانين. وفوق ذلك ترد سمات أخرى خاصة بالنظام الرئاسي، منها:
* إن النظام الرئاسي هو دائما جمهوري. ويتم انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة لفترة محددة (أبع سنوات في حالة الرئيس الأمريكي قابلة للتجديد مرة واحدة فقط). ويقوم بِأداء وظيفته باعتباره رئيسا للدولة ورئيسا للوزراء .
* إن استمرار رئيس الجمهورية أداء مسؤولياته مسألة ثابتة طيلة فترة ولايته عدا حالات التقصير والخيانة والعجز. إذ لا يمكن إعفاء الرئيس الأمريكي مثلا من قبل الكونغرس إلا في مثل هذه الحالات .
* يحكم الرئيس من قبل هيئة فنية غير منتخبة (غير سياسية) يعمل أعضاؤها بوظيفة سكرتيرين له لإدارة الوزارات المختلفة، حيث يختارهم ويعينهم (بعد موافقة البرلمان)، وهم مسؤولون أمامه مسؤولية كاملة.
* سلطة الرئيس محددة بالموافقة البرلمانية فيما يخص تصرفات تنفيذية هامة عديدة في ظل الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية..
أما النظام الثنائي فهو يجمع مواصفات النظامين السابقين، وتشكل فرنسا نموذجه الرئيس. ويتميز النظام الفرنسي بانتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام المباشر لمدة سبع سنوات (قابلة للتجديد مرة واحدة فقط)، مقابل مبادرة الرئيس اختيار رئيس وزرائه من الأغلبية البرلمانية. وكان الدافع للأخذ بهذا النظام في عهد ديغول عام 1958 هو معالجة مشكلة عدم استقرار الحكومات الفرنسية في فترة الجمهورية الفرنسية الرابعة. حيث جمع الدستور الجديد مواد دستورية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة. وفي ظروف الانتخابات العامة التي تجري في فرنسا لفترتين مختلفتين: إحداهما لانتخاب رئيس الجمهورية والثانية لانتخاب الجمعية الوطنية التي ينبثق عنها مجلس الوزراء، فان حصيلة الانتخابات البرلمانية تقرر كيفية مسيرة نظام الرأسين غير المتوازيين. فإذا نجح الرئيس ومؤيدوه (حزبه) الفوز بالأغلبية البرلمانية عندئذ سهل عليه اختيار رئيس وزرائه ليكون اكثر طوعا وانقيادا لسياساته، والعكس صحيح في مثل هذه الأحوال.


3- خطابات (مشروعات) ديمقراطية
يقصد بالخطاب Democracy Discourse لأِغراض هذا البحث، مبادرة النظام السياسي المعني تطبيق الديمقراطية وسيلة منهجية لبلوغ غاياته الايديولوجية المجتمعية. عليه يرتبط المشروع الديمقراطي بالمفهوم التطبيقي (الامبريقي)، ويجمع بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، أو بين ألحرية السياسية والمساواة الاقتصادية، إذ يحاول النظام التزاوج بينهما، لان استقراره وتطوره يعتمد على حل هذه المعادلة الصعبة. بمعنى أوضح، يجسّد الخطاب الديمقراطي مشروعا حضاريا هدفه تنمية الإنسان باعتباره الغاية والوسيلة في سياق تحقيق مسيرة وطيدة ومتصاعدة للتنمية الحضارية المجتمعية الشاملة.
هناك اتفاق على أن الديمقراطية ليست مجرد فكرة غربية، وان النموذج الغربي للديمقراطية ليس الشكل الوحيد للديمقراطية. وهذا يدعو إلى الفصل بين الديمقراطية كمفهوم تاريخي وبين الديمقراطية الليبرالية باعتبارها حصيلة ظهور الرأسمالية وتطورها. وحيث أن الديمقراطية وسيلة منهجية لتنظيم المجتمع السياسي في إطار حضاري أكثر رقيا وإنسانية، عليه يمكن افتراض أعداد من الخطابات (المشروعات) الديمقراطية بالعلاقة مع الأفكار والايديولوجيات الاجتماعية وتطبيقاتها المتنوعة.(46) ولأِغراض هذا البحث ستتم مناقشة موجزة لثلاثة مشروعات ديمقراطية هي الليبرالية والماركسية والإسلامية.

(1) الخطاب الليبرالي للديمقراطية
تبلورت الليبرالية الغربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر في الفترة الممتدة بين الإصلاح الديني والثورة الفرنسية. ففي هذه الفترة ساهم المفكرون الليبراليون في دك أسس النظام القديم الذي ربط الحقوق بعوامل الوراثة (نبالة المولد) والثروة (حيازة الأرض)، وقدموا صورة لمجتمع يقوم على الأساس القانوني لتنظيم العلاقات الاجتماعية، ويشكل رأس المال المصدر الأكثر أهمية للثروة والتمايز، ويلعب الربح الغاية العظمى في النشاط الاقتصادي. وبذلك عبّرت الليبرالية في مفهومها الأصيل عن تحرير الإنسان والاقتصاد من القيود الاستبدادية- الإقطاعية للقرون الوسطى باتجاه إزالة القيم القديمة للتضامن الاجتماعي والدعوة إلى مبدأ المنفعة والفردية (تطابق مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع)، واحترام الملكية الخاصة، وعدم تدخل الدولة في إطار مبدأ الحرية الاقتصادية، حيث اتجه حاملوا هذه المبادئ نحو مدها لما وراء البحار. وبذلك ساهموا في فتح عصر جديد من الاستعمار العالمي بدأ عسكريا واستقر اقتصاديا في صورة استغلال شعوب العالم الثالث. وهكذا بنت الديمقراطية الليبرالية مكوناتها من الناحية التطبيقية على ثلاثة أسس هي: الحرية، المساواة السياسية، وعدم تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية. وتطلبت هذه المكونات تبنّي مفهوم الدولة القانونية التي تقوم في عناصرها الرئيسة على: وجود الدستور والفصل بين السلطات، خضوع الحكام لأِحكام القانون، انفصال الدولة عن شخص الحاكم، وعدم صدور القانون إلا من سلطة تشريعية منتخبة وتطابقه للدستور، المساواة السياسية بِإعطاء صوت واحد لكل من له حق الاقتراع وتطبيق آلية الانتخابات.(47) وعموما واجه المشروع الليبرالي للديمقراطية جملة انتقادات، منها:
* سوء توزيع الثروة والدخل بسبب تخلف الديمقراطية الاقتصادية (الاجتماعية) عن الديمقراطية السياسية في هذا المشروع. وتقود هذه الظاهرة إلى الإخلال بالحقوق السياسية حسب تعبير روسو.
* تستند التعددية السياسية الليبرالية إلى جوانب مظهرية تفقد مضمونها الحقيقي. ذلك أن النخب السياسية، وان تعددت شكلا فهي ذات مصالح موحدة موضوعا. وهذه الظاهرة انعكست في احتكار السلطة دون أن تتوفر فرص ظهور حزب جديد أو مرشح جديد خارج دائرة النخب السياسية هذه حتى في ظروف التيارات البرجوازية ذاتها.
يشير أحد المفكرين الغربيين إلى أن الصراع بين الحرية والمساواة هو أصل الفوضى في الأنظمة الغربية. بينما يعدد مفكر آخر وجوه أزمة الديمقراطية الليبرالية في: سقوطها من سموها، خسارتها لقناعة المواطن والمجتمع، سيطرة نخبة الأقلية، فقدان الفرص، التضاؤل الشديد لقيم الخطب والشعارات(ضعف الثقة)، تغليف الحقائق وتزييف الأحداث والانشغال بتوافه الأمور على حساب المصلحة العامة.(48)

( 2 ) الخطاب الماركسي للديمقراطية
إذا كانت الديمقراطية جسما غريبا زرعت في رحم الليبرالية البرجوازية في خضم نموها، ومن ثم تعايشت معها وأصبحت جزءا منها، فان الديمقراطية في المشروع الماركسي- على الأقل نظريا- تشكل النصف الحقيقي الآخر من مكوناته. لأِنه يربط ما بين السياسة والاقتصاد، ويقوم على تصفية مصدر الاستغلال والتناقضات الطبقية وبناء القاعدة المادية للديمقراطية (الاجتماعية). ومع ذلك تخلفت التطبيقات الماركسية عن تحقيق ديمقراطية سياسية متقدمة مقارنة بالديمقراطية الليبرالية، وذلك في ظروف سيطرة الحزب الواحد وغياب التعددية والإصرار على تفسير الماركسية من وجهة نظر اجتماعية على حساب الحقوق السياسية. وإزاء هذا الاختلال في المشروع الماركسي للديمقراطية.. يحق للمرء أن يتسأئل: أين يكمن التناقض؟
هناك اتفاق في هذا المجال على ما يأتي:(49) أن العدوان على الحريات الفردية في الأنظمة الماركسية ليس سمة ملازمة للفكر الاشتراكي وللدول الاشتراكية. ولا يوجد نظريا ما يحتم الربط بين استمرار النظام الاشتراكي ووجود حزب واحد، ولا يوجد ما يتناقض وإمكانية تداول السلطة بين أحزاب اشتراكية. كما أن مرحلة التحول الاشتراكي تقوم بتصفية التناقضات الطبقية (العدائية) دون تصفية التناقضات غير العدائية. ومجتمع بلا تناقضات هو مجتمع ميت. وان التناقض ظاهرة أصيلة في المجتمع والكون حسب منهج ماركس الجدلي، وان التقدم رهن بالقدرة على تجاوز الشيء ونقيضه إلى شيء أرقى من الاثنين. وان التجربة أثبتت أن قضايا بناء الاشتراكية اعمق بكثير من قضايا بناء المجتمع الطبقي.من هنا لا بد أن يختلف الناس ولو كانوا جميعا ينتسبون إلى ماركس. بل أن ماركس نفسه لم يكن حتى مقصرا في تقديره لحدود الديمقراطية البرجوازية واعتبرها حقيقية وليست مزيفة رغم نواقصها، ورأى أنها تشكل تقدما مهما في تاريخ البشرية. وكان ماركس مقتنعا أن النظام الاشتراكي سوف لن ينكر الحقوق الديمقراطية السياسية بل سوف يحترمها ويطورها ويعطيها مضمونا اعمق. وعموما,فإن البون الواسع الذي ظهر بين التطبيقات "الاشتراكية" في الأنظمة السوفيتية وبين النظرية الماركسية وجد تعبيره لدى أحد المفكرين الغربيين (شومبيتر) في عبارته التالية "هناك بين المعنى الحقيقي الذي تتضمنه رسالة ماركس وبين الأساليب والايديولوجية البلشفية فجوة هي على الأقل مثل اتساع الفجوة التي كانت موجودة بين الدين الذي بشَّر به أهل الجليل المتواضعون وبين أساليب وسادة الحرب في العصور الوسطى"(50)
في نهاية هذه المناقشة قد يكون مناسبا التذكير مرة أخرى بان الديمقراطية مفهوم حضاري تاريخي تتطلب فترة نضوج مناسبة. وهي مهمة أكثر صعوبة وتتطلب صبراً أعظم ونفسا أطول في حالة المجتمعات الأقل تطورا. وإذا كان الأمر كذلك، أليس التطلع إلى قدرة الثورة الاشتراكية تحقيق ديمقراطية سياسية متقدمة مقارنة بالديمقراطية الليبرالية وفي مجتمع تقليدي خلال فترة قصيرة نسبيا قفزاً على الواقع وتجاوزاً على منطق التاريخ؟ وإذا كان ماركس قد بنى تحليله على قيام الثورة الاشتراكية في مراكز الأنظمة الرأسمالية المتقدمة (وهذا يتطلب تصفية الاستعمار العالمي سياسيا واقتصاديا)، بينما رأى لينين قيامها في أطراف هذه الدول (مع ملاحظة أن الثورة التي قادها لينين اتسمت بالعنف والاستبداد في مرحلة أو أكثر من مراحلها) إذن كيف يمكن تحقيق ديمقراطية متقدمة في مرحلة التحول الاشتراكي وسط بحر واسع من التخلف الاجتماعي؟ وهل يمكن قيا م ثورة اشتراكية وبدء مرحلة التحول الاشتراكي في المجتمعات التقليدية أم أنها تظل متجذرة بتحقيق مهمة التحرر الوطني؟ أليس الفكر الماركسي الأصيل نفسه هو نظرية للتحرر من الاستعمار (الاستغلال) أولا باعتبارها الأساس لدك الإمبريالية العالمية والطريق لبناء الاشتراكية في مرحلة لاحقة؟
لعل هذه الأسئلة تستحق التفكير جدياً في المبادرة بتشجيع الدراسات الاشتراكية عموما، وتأكيد أهمية عقد الندوات والمؤتمرات العلمية بصورة منظمة، وذلك في محاولة لبحث جوانب ثلاثة- على الأقل- متمثلة في: الأول الخوض في بحث مرحلة التحول الاشتراكي باتجاه استكمال وتطوير التحليل الماركسي.. الثاني تحليل العوامل الجوهرية التي قادت إلى فشل التجربة السوفيتية.. الثالث دراسة وتحليل بنية الخطاب أو الخطابات الماركسية للديمقراطية..

( 3 ) الخطاب الإسلامي للديمقراطية
تشكل مهمة متابعة الآراء الإسلامية ومحاولاتها صياغة خطاب أو خطابات إسلامية للديمقراطية من المهام الصعبة. وذلك بسبب وجود مدارس كثيرة وآراء إسلامية مرجعية فردية متباينة لا تقل عددا وتأثيرا. وفوق ذلك فان قوة تأثير الأغلبية التقليدية (السلفية/ الأصولية) الملتزمة بقوة بالمرجعية والنصوص الدينية واستخدامها سلاح "التكفير" في وجه المحاولات الإصلاحية الفكرية الإسلامية جعلت من الصعوبة بلورة أفكار محددة متفق عليها عموما و/ أو مدارس إسلامية متحررة لصياغة مشروع أو مشروعات إسلامية للديمقراطية مقبولة لدى عامة الإسلاميين، وذلك في ظروف التخلف التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، وفي غياب ثورة فكرية- ثقافية- دينية لإحداث إصلاحات جذرية في المفاهيم والمبادئ والأسس الإسلامية.
تحرم العقيدة الإسلامية سوء استخدام السلطة، لكن الحضارة الإسلامية بقيت صامتة بِشأن البنية المؤسسية التي تمنع حصول سوء الاستخدام هذا. كما أنها تركت أعباء المسؤولية لممارسة الحاكم (الخليفة) وإرادة الله. ولم تهتم بٍإنشاء نظرية تبرر ضرورة الحد من قوة السلطة أو فصل مجالات معينة من سلطة الحاكم ولو لتلك الحدود التي فصلت فيها المسيحية وظيفة الكاهن الدينية عن وظيفة الحاكم المدنية. من هنا أصبح الحاكم يمارس السلطتين الدينية والدنيوية بشكل مطلق. وحتى في ظروف وفترات معينة عندما تجنبت المؤسسة الدينية الإسلامية شؤون الحكم وبقيت بعيدة عنها، استمرت في سكوتها بِشأن حدود سلطة الحاكم وغير معنية بالأفكار السياسية الدنيوية المتعلقة بشؤون الحكم والناس.(51)
يُضاف إلى ذلك أن الحضارة الإسلامية لم تعترف بالأحزاب السياسية واعتبرتها بدعاً على الإسلام وعامل تفرقة اجتماعية، ومن ثم مناقضة لسنة الحكم. كما ولم يُبذل جهد مقصود لإِشراك الشعب فعلاً في الحكم أو وضع قيود على سلطة الحاكم. ورغم دعاوى السلطنة تمثيلها للمبادئ والقيم الإسلامية فإن التصرفات الفردية للسلطان (الخليفة) وممارساته المنحرفة، مقابل استخدامه لفتاوى رجال الدين من أجل تبريرها ومنحها الشرعية، جسَّدت السلطة الملكية الاستبدادية المطلقة.(52)
ولم تقم الدولة الإسلامية على قاعدة منح الشعب حق الحد من سلطة الحاكم حتى في حالة تجاوزه أحكام الشرع الإلهي. نعم لقد كان عليه أن يستشير الفقهاء في مسائل معينة كتلك المتعلقة بتفسير أحكام الشرع والدين. ولكنه إن لم يفعل أو تجاهل مشورة العلماء، فلم تكن لدى هؤلاء من وسيلة سوى تحذيره من مغبة أفعاله وأن "يصلوا لله" لإهدائه سواء السبيل. وقلّما حاول العلماء التأثير في الخليفة عن طريق إثارة الرأي العام، بل على العكس كانوا يدعون الناس إلى الهدوء والسكينة حتى في ظروف استمرار الاضطرابات في الحياة السياسية الإسلامية والتبدل المستمر في أحوال الخلفاء. وذلك من منطلق قناعتهم أن الحكم الاستبدادي يضمن سلامة النظام أكثر من مقاومة الحاكم الظالم.(53)
وحيث لم تقم الدولة الإسلامية على قاعدة منح الشعب حق الحد من سلطة الحاكم حتى عند تجاوزه أحكام الشرع الإلهي- هذا إذا ما اعتبرت تصرفاته المنحرفة خروجاً على الشرع في ظل الفتاوى الجاهزة لتبريرها- عليه، لم يكن الحاكم الوارث مسؤولاً أمام المحكومين، فهو "الحاكم المطلق بِأمر الله".(54)
بدأت الحركة الإسلامية الحديثة منذ منتصف القرن التاسع عشر بجهود جمال الدين الأفغاني الذي استهدف تحرير المسلمين من الظلم الداخلي ومن السيطرة الأجنبية. وتكمن أهمية دور الأفغاني من الإصلاح الديني في محاولته دعم الزعماء الدينيين الذين سعوا إلى بعث الإسلام من جهة، ونظرته المتسامحة إلى الذين أيدوا تبني الحضارة الأوربية من جهة أخرى. آمن أن قوة أوربا تكمن في العلم الحديث والتكنولوجيا. لذلك حثّ المسلمين على اكتساب المهارات العلمية والتقنية الأوربية. إن محاولته دمج المادية الأوربية بالروحانية الإسلامية اعتبرت في وقتها من أهم إسهاماته في الفكر الإسلامي.(55)
واصل محمد عبده طريق معلمه الأفغاني، حيث استند في فكرته الإصلاحية الإسلامية على فرضيتين: الأولى أن للدين في حياة الأمم، خاصة تلك التي يعتمد نظامها الاجتماعي على الدين، دور لامناص منه.. والثانية أن تلبية متطلبات الحياة المعاصرة توجب قيام مؤسسات ومهارات فنية كتلك التي تفوقت شعوب الغرب- بفضل فعاليتها- على سواها من الشعوب. ورأى أن الإسلام لا يستطيع التغلب على الانحطاط إلا بتحكيم العقل والتحرر من السلفية. إذ شرح في "رسالة التوحيد" دور العقل في الحياة عموما، وأكد على أن الإسلام كان على الدوام دين العقل. وخرج من هذه الفرضية الأساسية باقتراح يدعو إلى تفسير الشرع الإسلامي في ضوء العقل. وقال أن الغلبة يجب أن تكون للعقل في حالة التناقض بين المعنى الحرفي للقانون الإسلامي وبين التفسير العقلي له. ومن هذا المنطلق حلل للمسلمين مثلا أكل لحوم الحيوانات التي يذبحها المسيحيون واليهود، وإيداع الأموال بالفائدة في المصارف. كذلك اعتبر عبده أن مفتاح التقدم يكمن في العلوم والتربية الغربية. ورأى عقم الأسلوب القديم القائم على المذاكرة (الحفظ) بدلا من التفكير (التحليل). وذهب في تفسيره إلى أبعد من معلمه الأفغاني، إذ دعم نظرية داروين في نشوء الإنسان وارتقائه، كما وجد إشارات في القرآن إلى "الصراع من اجل البقاء" أو "البقاء للأصلح" باعتبارها من نواميس الطبيعة. لكن آرائه بقيت في نطاق الإصلاح المحدود دون أن يتمكن من نقلها لرسم معالم هذا الإصلاح، بسبب فشله جزئيا في دفع حججه إلى نهاياتها المنطقية، بالإضافة إلى محاولته التوفيق بين التقليديين والمحدثين،(56) لاستحالة أو صعوبة التأليف عادة بين طرفين متعاكسين.. فالحضارة، حسب الوردي، هي ظاهرة كلية لا يمكن تجزئتها.(57)
تراجعت الحركة الإصلاحية الإسلامية بعد محمد عبده، رغم أن محمد رشيد رضا قدم نفسه داعية للإصلاح على خطى الأفغاني وعبده، نظرا لما اتسم به منطقه من نزعة تقليدية في سياق إصراره على أن الإسلام كنظام ديني ومدني يجب أن يبقى أساس الحياة السياسية، بالإضافة إلى ابتعاده عن مجرى الفكر الحديث، بتركيزه على الخلافة ودورها في النظام الإسلامي. إلا أن ردة فعل دينية انبعثت بين الحربين العالميتين في مواجهة الفكرة القومية والتجربة الكمالية التركية التي ألغت المؤسسات الدينية وأقامت الدولة على أسس علمانية. فتشكلت جمعيات إسلامية عديدة ركزت على الخلق الديني واستهدفت جذب الشباب وإبعادهم عن الأفكار العلمانية. إذ اشتهرت من بينها لاحقا جمعية "الإخوان المسلمون" التي أكدت على أن الإسلام نظام شامل لمختلف شؤون الحياة الاجتماعية. وشكلت آرائها تراجعا للتسامح الديني الذي بدأه الأفغاني وعبده. ومقابل احتكام محمد عبده إلى العقل أصرّ الإخوان المسلمون على الأساس الديني للحكم وأهمية الخلافة. كما لم يرغب الإخوان التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، وبذلك فشلوا في اقتراح منهج إصلاحي للنظام السياسي القائم.(58) إن استمرار تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية العربية بخاصة، والإسلامية بعامة، عوامل ساهمت أخيراً في ظهور حركات إسلامية جمعت بين التراجع الفكري وبين ممارسة العنف (السلفية). ورغم هذا التراجع والانقطاع عن الفكر الإصلاحي الإسلامي، ألا أن المناقشات الفكرية الإسلامية بشأن الدين والديمقراطية والتحديث بقيت مستمرة.
وفي دراسته الميدانية في الساحة الاندنوسية، لاحظ اندرس اولين (جامعة لند- السويد) مناقشات نشطة تدور بين مجموعة مدارس فكرية ومصادر اجتهادية إسلامية بشأن الخطاب الإسلامي للديمقراطية.(59) مع ملاحظة أن هذه المناقشات تستند في جذورها إلى ذات الأسماء الإسلامية المرجعية المعروفة والتي سبقت مناقشتها. وإذ يخرج اولين بجملة آراء مشجعة عن إمكانية صياغة الإسلام لمشروعه أو مشروعاته الديمقراطية، طالما ترك إرثا من القيم الديمقراطية في نصوصه وممارساته، إلا أن هذا الرأي لا يفترض اتفاقا عاما وقناعة واسعة قبل أن تبلغ المناقشات الإسلامية مرحلة واضحة من النضوج في أفكارها ومدارسها، خاصة ما يتعلق بشأن المفاهيم والمبادئ الإسلامية على نحو يتفق والديمقراطية. وهذا يتطلب بدوره ترسيخ القناعة أولا بضرورة تحرير عقل الإنسان والتحرر من الأحكام الجاهزة في تقرير الأمور الدنيوية المتغيرة، مقابل اعتماد النصوص الدينية مظلّة فلسفية عامة في سياق تفسير وتقرير وقائع الحياة الدنيوية وفق منطق العلم والتحضر والإيمان الراسخ بقيمة الإنسان وحقه بناء جنته في الأرض.
يلاحظ على المدرسة الإسلامية التقليدية (السلفية) أنها ترفض إمكانية التطابق بين الإسلام والديمقراطية بدعوى أن السيادة الشعبية لا يمكن أن تكون فوق سيادة الله، وأن الشريعة (القانون الإسلامي) هي قانون متكامل بحيث لا يترك مجالا في الإسلام لمزيد من التشريعات. بينما ترى المدرسة الإسلامية المعاصرة إمكانية حصول مثل هذا التطابق استنادا إلى القيم والمبادئ الإسلامية. أما المدرسة الثالثة وهي المدرسة الإسلامية المعاصرة المحدثة فهي تجمع بين أفكار المدرستين السابقتين، إذ ترى أن الإسلام يؤسس مشروعه الخاص بالديمقراطية، إلا أنها تثير- كما في المدرسة التقليدية- مسألة السيادة الشعبية. فإذا ‘فهمت الديمقراطية باعتبارها سيادة شعبية عندئذ يتعارض الإسلام والديمقراطية.. أما إذا ‘فهمت كونها تشكل صيغة محدودة للسيادة الشعبية بحيث تأتي في المرتبة الثانية للقانون الإلهي عندئذ يتلاشى هذا التعارض. وبذلك تكون آراء هذه المدرسة متقاربة لنموذج الحكم الإسلامي الإيراني، حيث يعترف بالدستور والانتخابات في ظل "القانون الإلهي" المعبر عنه بمرجعية "آية الله" باعتباره "ظل الله في الأرض". وعموما فان هذه الاعتراضات على السيادة الشعبية ربما تعبر عن عجز هذه الآراء استيعاب مفهوم الديمقراطية والسيادة الشعبية، على الأقل، من زاويتين: الأولى أن الديمقراطية ليست نظاما بديلا للإسلام أو أي من الأنظمة الاجتماعية الأخرى بقدر ما هي وسيلة متطورة وممارسة حضارية لتطبيق أفكار وايديولوجيات أنظمة الحكم الاجتماعية المختلفة. من هنا لا مفر للإسلام من الأخذ بالطريق الديمقراطي إذا ما أُريد له المساهمة في إعادة بناء المجتمعات الإسلامية وانتشالها من التخلف والتبعية والمشاركة في الحضارة الإنسانية.. والثانية أن الديمقراطية والسيادة الشعبية وأنظمة الحكم عموما هي أمور دنيوية. وإذا كان الأمر كذلك فعلا، فمن ذا الذي يمثل "سيادة الله " في الأرض (الدنيا)؟ أليس مجموع الناس (الأغلبية) أكثر تمثيلا لهذه السيادة من قلة نخبوية أو شخص فرد حاكما كان أم رجل دين؟ أليس رأي الجماعة في الإسلام أولى من رأي الفرد؟
ورغم سهولة الوقوف عند أفكار ومبادئ عديدة في الأدبيات الإسلامية (الحرية، المساواة، العدالة، الشورى، المحبة، السلام..) إلا أنه بالإضافة إلى الحاجة للاتفاق على تفسيرات حضارية لهذه المبادئ باتجاه تحرير عقل الإنسان وبناء إرادته نحو العلنية والتعددية ونسبية الحياة الدنيوية والتعامل السلمي، هناك حاجة أيضاً إلى تفسيرات حضارية لهذه المبادئ وتحاشي ازدواجية التفسير في التعامل الاجتماعي. يُضاف إلى ذلك هناك اتفاق على أن الشرط اللازم للإسلام الديمقراطي هو المرونة. كما أن ما افتقدته الحركة التاريخية الإسلامية هو تبن منظم ومتواصل لقواعد أخلاقية وقانونية ديمقراطية إسلامية, وذلك نتيجة غياب تقنين ومأسسة استخداماتها.(60)
ولا تقل أهمية، حاجة المشروع الإسلامي الديمقراطي إلى تحقيق الفصل التام بين العقيدة والممارسات الدينية المطلقة باعتبارها مسألة شخصية معنوية وبين الأفكار والممارسات الدنيوية النسبية باعتبارها مسألة اجتماعية مادية. والاعتراف بعلمانية الحياة الدنيوية التي تقوم على أساس العلم القائم على تحرير العقل وإطلاق الفكر بعيداً عن كافة القيود والحدود والممنوعات والمحرمات. وترسيخ مفهوم النسبية في التعامل مع أمور الحياة الدنيوية المتغيرة. والقناعة بِأن، (الله) أدرك هذه البديهة البسيطة. من هنا كانت فكرة الآخرة- عالم المطلقات الموعود واللامحدود. ومن هنا أيضاً كان امتناع (الله) التعامل مع مملكة البشر في دنياهم لِئلا يواجه مسؤوليات المثالب والنواقص والعيوب وكل المشكلات الدنيوية التي ترافق أفكار وأعمال المجتمع البشري (الإدارة والثواب والعقاب). وإذا كان (الله) نفسه قد فصل ما بين النسبي (للبشر) والمطلق (لنفسه) فلماذا إصرار المؤسسة الدينية الإسلامية على الخلط بينهما؟(61)

4 – الانتخابات
في السطور التالية محاولة لمناقشة ثلاثة موضوعات هي: ماهية الانتخابات أنظمة الاقتراع، والدوائر الانتخابية، من حيث مفاهيمها وكيفية تنظيمها والعلاقات المتداخلة بينها.


(1) ماهية الانتخابات
تشكل العملية الانتخابية election وسيلة لصنع الخيارات السياسية من خلال التصويت، وتوفر ممارسة واقعية لاختيار القادة وتقرير قضايا وطنية مطروحة. وفي ظروف عدم إمكانية أعضاء المجتمع حكم أنفسهم مباشرة عندئذ تصبح الانتخابات ممارسة عملية تهيئ الفرصة لتشكيل حكومة ديمقراطية موثقة لتمثيلهم. وفي هذه الحالة لا تقتصر الانتخابات فقط على اختيار قادة مقبولين من وجهة نظر المقترعين، حسب، بل كذلك وضعهم تحت طائلة المسؤولية. كما أن إخضاع القادة لسلطة القانون بامتثالهم لدورية الانتخابات تساهم في حل مشكلة التعاقب على السلطة بصورة سلمية.
وتقدم الانتخابات فرصة للأحزاب السياسية اختبار إنجازاتها وبرامجها أمام المواطنين في سياق المنافسة السلمية للفوز بثقتهم وحمل أمانة السلطة والحكم باسمهم. كما أنها توفر منتديات لمناقشة الأمور العامة والتعبير عن الرأي العام وتبادل التأثير بين الحكام والمحكومين. كذلك فهي تعزز شرعية الحكام المنتخبين، وتولد مزيدا من التلاحم بين أعضاء المجتمع السياسي، وتعبئ المقترعين نحو عمل مشترك تجاه الحكومة وتودع السلطة والشرعية لأِمانة أولئك الذين اكتسبوا ثقة الناخبين وفازوا بالسلطة باسم الشعب. علاوة على أن الانتخابات تُجسِّد قيمة ومنزلة الفرد كمواطن وإنسان. وتُعبِّر عن إرضاء وجدانه وشعوره واحترام ذاته، لأنها تمنحه قول كلمته باعتباره عضوا له أهميته في المجتمع سواء بمناصرته أو رفضه هذا المرشح (الحزب) أو ذاك. وحتى في حالة امتناعه عن التصويت فهي تمنحه شعور المواطنة في التعبير عن موقف ولو في صورة سلبية من الاحتجاج. كذلك تعبر الانتخابات عن مناسبات وطنية تماثل الأعياد الوطنية عندما يحتفل الشعب كله تعبيرا عن مشاعر وطنية ولاستخلاص العبر والدروس المشتركة.(62)
وحتى توفر الانتخابات آلية ديمقراطية، فهي تتطلب توفر الشروط السبعة التالية: حق الاقتراع بمنح صوت واحد لكل من بلغ سن الرشد.. ممارسة الاقتراع بتوفير حرية حقيقية للمقترع لإبداء رأيه على أساس السرية التامة، وفي غياب الضغوط والرشاوى والترهيب وسوء العاقبة.. جدول زمني للانتخابات بتوحيد التوقيت الزمني من حيث بدء افتتاح صناديق الاقتراع وإغلاقها بالنسبة لكافة الدوائر الانتخابية في البلاد.. قواعد الترشيح بِإتاحة حرية الترشيح لكافة المواطنين بصورة فردية أو من خلال الأحزاب السياسية وان تكون مفتوحة.. توفير حرية المنافسة الانتخابية من حيث التعددية والفترة التحضيرية، وتمكين كافة المرشحين من التغطية الإعلامية والجماهيرية، ومكافحة قانونية وفعلية لكافة أشكال الفساد والرشاوى ووضع حد أعلى للمصاريف الانتخابية.. الإشراف على الانتخابات بإيجاد هيئة نزيهة، مستقلة إداريا وماليا، ولها سلطة الإشراف على الانتخابات.. نقل السلطة بالتزام كافة الأطراف القبول بنتائج الانتخابات والتخلي عن السلطة للحزب أو المجموعة الفائزة في حدود الفترة الزمنية المرسومة في القانون.(63)
بالإضافة إلى الانتخابات العامة، تتواجد كذلك أشكال أخرى للرجوع إلى الناخبين في حالات خاصة محدودة وغير منتظمة مثل الاستدعاء recall والاستفتاء العام الشعبي referendom والاستفتاء العام الحكومي plebiscite. تعتبر آلية الاستدعاء طريقة انتخابية استخدمت تاريخيا لربط النائب بمصالح جمهوره من خلال إيداع رسالة استقالته (غير مؤرخة) أثناء ترشيحه. أما الاستفتاء الشعبي فيأتي بعد الانتخابات العامة من حيث الأهمية. وهدفه أخذ رأي الناخبين في مسألة وطنية مركزية غالبا ما لم تكن مطروحة أثناء الانتخابات الحكومية. وقد تكون حصيلة الاستفتاء ملزمة دستوريا أم مجرد رأي شعبي استشاري. ولكن حتى في الحالة الأخيرة فالأغلب الأعم أن تأخذ الحكومة بها، كما حصل في الاستفتاءات التي جرت في السويد والنرويج وفنلندة خلال الفترة 1996- 1997 بشأن الانضمام إلى الاتحاد الأوربي. بينما استخدم الاستفتاء الحكومي-تاريخيا- لأِخذ رأي الناخبين بشأن حل مشكلات حدودية. كما أنه يطبق حاليا بمبادرة الحكومات السلطوية (غير المنتخبة) لأِخذ رأي المواطنين فيها كطريقة للإدعاء بكسب شرعيتها.



( 2 ) أنظمة الاقتراع
يوفر نظام الاقتراع قاعدة لعد الأصوات وإقرار حصيلة الانتخابات، أي معرفة قرار الأغلبية. ذلك أن عملية عد الأصوات وتثبيت نتائجها تتطلب وجود قاعدة حسابية قانونية متفق عليها وتمارس بصفة شرعية. وتصنف قواعد صنع قرارات التصويت في مجموعتين رئيستين:(64)
الأولى: قاعدة الأغلبية البسيطة- تقوم على أساس منح تمثيل واحد لكل دائرة انتخابية في الجمعية الوطنية (البرلمان). وتعامل الوحدات الإدارية القائمة في البلاد باعتبارها دوائر انتخابية. وتضم هذه المجموعة كل من قاعدة الأغلبية العددية البسيطة وقاعدة الأغلبية النسبية البسيطة. ويتحقق الفوز بموجب القاعدة الأولى عند حصول المرشح على أكبر عدد من الأصوات مقارنة بأي مرشح آخر في دائرته الانتخابية. بينما يتطلب الفوز وفق القاعدة النسبية حصوله على أكثر من50% من أصوات دائرته الانتخابية.
تمتاز هذه الطريقة بسهولة تطبيقها وانخفاض تكاليفها نسبيا. ولأنها- وبالذات القاعدة النسبية- توفر أكبر قدر من الاستقرار، لذلك فهي الأكثر تطبيقا في عالم الانتخابات المعاصرة. ولكن يعاب عليها كونها تكافئ الأحزاب الكبيرة على حساب الأحزاب الصغيرة. وهذه مشكلة ديمقراطية، خاصة عندما تمثل هذه الأحزاب مجموعات اجتماعية من أقلية اثنية، دينية، قومية.. ومع ذلك يمكن مواجهة هذا النقد باتخاذ ترتيبات معينة لتمثيل هذه الجماعات في البرلمان.
الثانية: قاعدة التمثيل المتناسب، وتعتمد في جوهرها على منح كل دائرة انتخابية عددا من المقاعد البرلمانية تتناسب وحجمها (السكاني). وتمتاز هذه القاعدة بتوفير فرصة تمثيل كافة الأحزاب بما فيها الصغيرة. لكنها تتطلب إعادة رسم الدوائر الانتخابية بحيث تتجاوز التقسيمات الإدارية القائمة. وهذا يدعو إلى إيجاد معايير مناسبة تكون أساسا لتحديد حجم الدائرة الانتخابية باعتبارها عاملا حاسما لضمان سلامة تطبيق هذه القاعدة. كما أنها تتطلب تكاليف إضافية وتطبيق طرق إحصائية متقدمة. وتتضمن صيغا عديدة لا بد من دراستها بعناية لاختيار القاعدة الملائمة بالعلاقة مع مرحلة التطور السياسي والثقافي في البلاد.
ربما شكلت طريقة القائمة الحزبية واحدة من أكثر قواعد التصويت احتمالا في تحقيق تمثيل حقيقي من بين طرق التمثيل النيابي المتناسب. وتقوم الخطوة الأولى على تقديم قائمة ترشيح من قبل كل حزب من الأحزاب المشاركة في الانتخابات (مرتبة حسب أولوية المرشحين) حيث توزع المقاعد البرلمانية على نحو متناسب مع الأصوات الانتخابية التي يفوز بها كل حزب. تمتاز هذه الطريقة بتجاوزها للانتخابات الفرعية عندما يتقاعد عضو البرلمان أو يرحل بسبب الاستقالة أو الموت. إذ أن المرشح التالي في قائمة الحزب يحل محله بصورة روتينية لملئ الفراغ البرلماني. إلا أن هذه الطريقة لا تخلو من نواقص. فهي تقود إلى استبعاد تلك النسبة التي لا تكفي لتسمية فوز مرشح واحد. وهذه تحدث مع كافة القوائم، إلا أنها أكثر تأثيرا على الأحزاب الصغيرة عندما لا تكفي نسبتها الحصول على مقعد برلماني. وقد يتم تجاوز هذه النقص من خلال تشكيل الائتلاف. ومع ذلك تبقى مشكلة الإجابة على كيفية التعامل مع المرشحين المستقلين والجماهير غير الحزبية؟

(3) الدوائر الانتخابية
تتحدد الدوائر الانتخابية في تقسيمات جزئية لجمهور الناخبين بحيث تكون لكل دائرة انتخابية ممثلا نيابيا أو أكثر في البرلمان. ولا ينفصم رسم الدوائر الانتخابية عن طبيعة التمثيل وطرق التصويت. وتحتل مهمة التمثيل النيابي الأولوية، وتتطلب تحديد ماهية التمثيل ومن يتم تمثيله. وفي مثل هذه العلاقات المتداخلة تصبح وظائف الدوائر الانتخابية ومهمة تحديدها من الأمور الحيوية.
وتتلخص المشكلة المركزية في أن المنطقة الانتخابية كمنطقة إدارية قد تضم أشكالا متباينة، بل ومتنافرة من مجموعات المصالح الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها الاثنية والدينية، التي تحاول كل منها الحصول على تمثيل لها في الهيئة التشريعية. ولقد وجدت هذه المشكلة معالجتها تاريخيا عندما كانت مصالح الناخبين غير متنافرة وكانت الاختلافات الاثنية وغيرها بعيدة عن التناقضات الحادة، كما في الدول الانجلو- أمريكية، حيث تم اللجوء في هذه الحالة إلى التقسيمات الإدارية ذاتها واعتبرت دوائر انتخابية وطبقت طريقة التصويت وفق الأغلبية البسيطة.
إلا أن الوحدة الإدارية قد تضم فئات لغوية متعددة ليس بينها من يأمل الحصول على الأغلبية، أو أن كلا من هذه الفئات قد تكون كبيرة إلى درجة تؤهلها الحصول على ممثل نيابي في البرلمان. عندئذ يفضل اعتبار المنطقة الجغرافية وحدة إدارية لفرز الأصوات بعد تقسيمها إلى عدة دوائر انتخابية تضم كلا منها مجموعة متجانسة من المقترعين. أما تنفيذ الانتخابات في هذه الحالة فيكون بتطبيق إحدى قواعد التمثيل المتناسب، بحيث تمنح الوحدة الإدارية التي تضم عددا من الدوائر الانتخابية حق التمثيل بنفس العدد من المقاعد البرلمانية مقارنة بوزنها السكاني. ومع أن أنظمة التمثيل المتناسب تتجاوز المناطق الإدارية إلى رسم دوائر انتخابية تأخذ في اعتبارها تعددية الفئات اللغوية و/ أو المصالح المتنافرة، إلا أنها من المحتمل أن تقود إلى عدم استقرار الحكومة وخلق عبء جامح ثقيل من التناقضات في جسم الأجهزة الحكومية مؤدية إلى سرعة سقوط الحكومة (الوزارة) أو جمود الحالة السياسية, كما حصلت في إيطاليا مثلا بعد فترة الحرب العالمية الثانية. من جهة أخرى، ورغم أن التمثيل على أساس التقسيمات الإدارية ووفق قاعدة الأغلبية البسيطة يمكن أن يقود إلى بناء حكومة قوية مستقرة، إلا انه قد يخفي التباينات في تركيبة الوحدات الإدارية، وربما تتسبب في شعور الاقليات حرمانها من التمثيل النيابي. كما أنه مسألة مقلقة للمرشح الفائز نفسه فيما إذا كان يمثل أغلبية حقيقية في هذه الحالة طالما أنه قد يكون حصيلة ائتلاف قلق في غياب قدرة ممثل واحد تمثيل المصالح المتباينة في دائرته الانتخابية. من هنا قد يكون الممثل النيابي عموما بعيدا عن القدرة على الاستجابة لكافة هذه المصالح.
وأخيراً تبقى مهمة تحديد الدوائر والمناطق الانتخابية مسألة محورية، وتتطلب الابتعاد عن الأساليب الاعتباطية، وذلك تحاشيا لظهور مشكلة سوء التحصيص بين الدوائر الانتخابية، لكونها ظاهرة غير ديمقراطية تقود إلى تجاوز الحصص التمثيلية أو الحد منها بالعلاقة مع الدوائر الانتخابية. وهنا من المفيد مناقشة ثلاثة أشكال من سوء التحصيص:(65)
الأول:سوء التحصيص الدستوري- ويتحقق دستوريا عند اعتبار التقسيمات الإدارية المختلفة في مساحاتها وسكانها دوائر انتخابية متماثلة لكل منها ممثل نيابي واحد في البرلمان.
الثاني: سوء التحصيص الاجتماعي- ويتحقق نتيجة التطور الاقتصادي/ الاجتماعي خلال فترة زمنية وبما يؤدي إلى إعادة التوزيعات السكانية بين الدوائر الانتخابية المختلفة، بحيث تصبح أحجامها غير متناسبة مع حصصها التمثيلية في البرلمان.
الثالث:سوء تحصيص جيري- وتتضمن هذه الطريقة إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة تحكمية بمنح أفضلية للمجموعات السياسية المؤيدة وتقليل فرص فوز المجموعات المعارضة من خلال إعادة تجميع الأصوات المؤيدة وتشتيت الأصوات المعارضة. سميت هذه الطريقة باسم محافظ ولاية ماسوشتس الامريكية Elbridge Gerry (1714- 1814) الذي أدرك إمكانية التأثير في النتائج الانتخابية من خلال إعادة رسم الدوائر الانتخابية.




















الفصل الثالث- الأحزاب السياسية

1 - ماهية الأحزاب السياسية
يعبّر الحزب السياسي عن منظمة جماهيرية للأفراد في سياق انتماءاتهم الفكرية- الطبقية. وتقوم على أفكار ايديولوجية موحدة تُجسِّد أولويات مجتمعية محددة، وتوفر العمل المشترك في إطار المنافسة السياسية، وتبغي الوصول إلى السلطة من أجل إحداث تغييرات اجتماعية منشودة وفق تصورات مستقبلية مرسومة. من هنا يتميز الحزب السياسي الحديث بثلاث سمات محورية هي: هيكل تنظيمي دائم.. تفويض بتمثيل المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، وبالاعتماد على انتخابات مفتوحة. والمساهمة في الحكومة، سواء بتشكيلها أو المشاركة فيها أو ممارسة دور المعارضة.(66)
ويختلف الحزب السياسي عن جماعة المصلحة أو جماعة الضغط، إذ تتمثل جماعة المصلحة في رابطة أفراد ذوي مصلحة مشتركة تدافع عنها بقصد ترسيخها وتعزيز مواقعها وزيادة تأثيرها. وتتحول جماعة المصلحة إلى جماعة ضاغطة عندما تمارس تأثيرها في الحكومة والحزب.
ظهرت الأحزاب السياسية في صورتها الحديثة في أوربا والولايات المتحدة في القرن التاسع عشر وعلى نحو متواز مع ظهور الانتخابات والأنظمة البرلمانية. وشملت تسمية الحزب كافة الجماعات المنظمة الساعية لبلوغ السلطة السياسية، سواء بواسطة الانتخابات أو الثورة. انتشرت الأحزاب السياسية هذه على مستوى العالم في القرن العشرين، وإن ظلّت أحزاب عديدة في دول العالم الثالث مؤسسة وفق معايير شخصية أو قبلية أو اثنية.. بالإضافة إلى أن أحزاب هذه الدول اتسمت كونها جزئيا سياسية وجزئيا عسكرية. شهد هذا القرن أيضا استخدام الأحزاب السياسية من قبل الأنظمة الاستبدادية لأِغراض غير ديمقراطية.
وفي محاولة لمناقشة البواعث التي تقود إلى إنشاء وتأييد الحزب السياسي في الديمقراطيات الغربية فقد وردت خمسة أسس رئيسة هي: الطبقة الاجتماعية، الأوضاع الاقتصادية، الدين، الاختلافات الاقليمية (المناطقية)، والانتماءات الفلسفية. إلا أن هذه التقسيمات، حسب العديد من الدراسات الميدانية- لم تعد قوية كما كانت في بداية القرن العشرين. إذ تقدمت الأوضاع الاقتصادية وحلَّت محل الطبقة كمؤشر للموقف الاجتماعي.(67)
تقوم الأحزاب السياسية بوظائف جوهرية في المجتمع السياسي: العمل كجسر يربط ما بين الحكومة والمواطنين، تعبئة المصالح المتقاطعة وحل المشكلات والتناقضات الاجتماعية من خلال لقاءاتها ومناقشاتها داخل البرلمان وخارجه، التخفيف من مركزية ممارسة السلطة والانفراد بالقرار، والتعبير عن طموحات المواطنين بالمشاركة وترشيد قرارات الحكومة، ممارسة دور مدارس للتثقيف السياسي والتربية الوطنية. عليه يتطلب قيام واستمرار النظام الديمقراطي توفر شرطين بهذا الخصوص: وجود أحزاب سياسية أولا، وأن تكون هذه الأحزاب ديمقراطية ثانيا.
من هنا يمكن تصور الأحزاب السياسية باعتبارها أعمدة رئيسة في صرح النظام الديمقراطي. لذلك يكون منطقيا قيام بنية الحزب على نحو متماثل وبنية النظام السياسي نفسه، سواء بوجود ثلاث سلطات منفصلة تمارس الرقابة المتبادلة أو تطبيق الانتخابات الحرة وفق الاقتراع العام السري وتعددية الخيارات والقبول بنتائجها، وعدم احتكار السلطة، والتعددية السياسية والتعامل السلمي، وحرية التعبير، والالتزام بمبدأ الانفتاح والعلنية، وضمان ولاء الناس للوطن أولا في سياق تربية حزبية تؤكد على الاستقلال والديمقراطية. وهذا يدعو أن يكون الحزب السياسي ديمقراطيا في أفكاره وأهدافه وبرامجه وتنظيماته وعلاقاته الداخلية والخارجية. وتشكل المكونات الثلاثة التالية حّداً أدنى لضمان الديمقراطية في الحزب السياسي:(68)
الأول: الشرعية الحزبية- يتطلب تنظيم الحزب السياسي مؤسسيا وفق أسس الوطنية السياسية بعيدا عن الانتماءات الشخصية والقبلية والطائفية. ووجود التنظيم يدعو إلى إصدار قرارات ملزمة للأعضاء وقبولهم لهذه القرارات. إلا أنه لا التزام دون أن تقابله حقوق، ولن تستقر شرعية التنظيم دون محاولة الاقتراب من تحقيق التوازن بين الالتزامات والحقوق. وإن إجبار العضو (المواطن) على تنفيذ الالتزامات في غياب الحقوق يضعه في خانة العبيد ويحط من كرامته ويلغي وجوده كإنسان. عليه ليس هناك من مبرر يحصر حق العضوية بين الانصياع الأعمى لقرارات الحزب وبين التخلي عن المبدأ، لأِن ذلك يعني حرمانه من حقه الطبيعي في حرية الرأي والاختيار. ويرتب مبدأ الشرعية الشروط التالية: ربط مبدأ الالتزام الحزبي بإقرار مبدأ حقوق الإنسان (العضو) يتقدمها حق تقديس حياته واحترام كرامته.. تطبيق مبدأ الانتخابات على أساس الاقتراع العام السري لاختيار كافة مستويات قيادات الحزب وعلى أساس توفر تعددية فعلية للمرشحين تسمح بحرية الاختيار (الانتخاب). أن تقوم هذه الانتخابات بصورة دورية منتظمة بعيدة عن الاحتكار والعمل على تغذيتها بدماء جديدة، وتحاشي ظهور الزعامات الشخصية والقيادات الأبدية التي لا يتخلص منها الحزب إلا بالموت.. أن يكون للحزب دستور داخلي (لائحة نظام أساس) يتضمن فلسفة وأهداف الحزب وسياساته وبرامجه التفصيلية وتشكيلاته، مع بيان حقوق وواجبات أعضاء الحزب وحدود سلطات قياداته. ولعلّ أكثر الشروط العصرية لمثل هذا الدستور هو تحديد واضح لكيفية إدارة السلطات الثلاث وواجباتها وعلاقاتها مع بعضها.
الثاني: آلية تداول القيادة- تتمثل في ممارسة الانتخابات لاختيار العناصر المرشحة لمواقع المسؤولية الحزبية بمختلف مستوياتها وعلى أساس الاقتراع العام السري وتعددية المرشحين، مع أهمية التركيز على شرط الكفاءة والخبرة. وأن
3 يتم انتخاب القيادة العليا من المؤتمر العام للحزب على أساس تقويم دورها السياسي وإنجازاتها الفعلية. يضاف إلى ذلك ضرورة عدم احتكار القيادة وفتح المجال لرفدها بعناصر جديدة بصفة مستمرة، كما سبقت الإشارة. وبذلك يصبح الحزب أكبر من أية قيادة ويتخلص من مشكلة ترهل القيادات واحتكار السلطة والزعامات الشخصية.
الثالث: التعددية السياسية- وتعني القبول بتعدد الاتجاهات داخل الحزب في إطار الفكر الواحد. وهي تختلف عن ما يسمى بوحدة الإرادة الحزبية التي تكون مطلوبة لتحاشي عوامل الانشقاق الداخلي وإبراز وحدة الحزب أمام الجماهير لتسهيل تعبئتها. عليه فان أعضاء الحزب مطالبون الالتزام ببرنامج الحزب وقرارات هيئاته القيادية المنتخبة. إلا أن المطلوب أولاً خضوع البرنامج والقرارات هذه لمناقشة مفتوحة من قبل كافة أطراف الحزب. ومن أجل ضمان حرية المناقشة لابد من تجنب تبادل الاتهامات والنعوت وتحاشي ممارسة الإرهاب الفكري والامتناع عن محاولات قمع الاتجاهات المعارضة أو إقصاء أصحابها من مواقع المسؤولية.
والتعددية تعني أيضا التعامل الديمقراطي مع القوى الأخرى، بما يتطلبه من الإقرار المتكافئ بوجود الآخرين، والتلاقي عند أهداف سامية عليا مشتركة على أساس التعامل السلمي، دون أن ينفي ذلك ضرورة استمرار الخلاف.ذلك أن الحلم بانفراد حزب ما في الساحة (السلطة) السياسية وإلغاء وجود الآخرين هو سراب لا طائل ورائه سوى هدر الإمكانات البشرية والموارد المادية للمجتمع.
إن القبول بالتعددية أمر طبيعي طالما هناك بشر لهم أفكارهم المختلفة واجتهاداتهم المتباينة ومواقفهم المتعددة في دورة حياة المجتمع. والمسألة الأكثر أهمية هي أن تصب هذه الخلافات وتعددية الآراء لصالح الأهداف الوطنية دون إلغاء لوجود فريق لحساب فريق آخر. عليه تتفق التعددية مع متطلبات الجماهير بوضعها أمام خيارات متعددة من حيث توجهات وأساليب وتوقيت العمل السياسي. وهذا يساعد بدوره على بلورة الأفكار وتزيد من قوة التغيير المنشودة، وتقود إلى جذب مزيد من الجماهير إلى الساحة السياسية. ويرتبط بذلك أيضا أن لا يدعي أي طرف احتكار الحقيقة دون الآخرين، وتبنّي فلسفة تقوم على القناعة النسبية بالأفكار الايديولوجية وتجنب المطلقات. وبالنتيجة تتطلب عملية التحول الديمقراطي وجود أحزاب ديمقراطية تقوم على العلنية والتعامل السلمي والقبول بالنسبية والاعتراف المتكافئ بالآخر. مع أهمية تأكيد الممارسة العملية.

2- أنماط الأحزاب السياسية
ظهرت الأحزاب السياسية منذ بداياتها في شكل أحزاب نخبة ُسميت أحزاب الكادر أو أحزاب القاعدة الضيقة، تمييزاً لها عن الأحزاب الجماهيرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر وسميت أحزاب القاعدة العريضة. وكانت أحزاب الكادر تعبر عن تناقض أساس بين طبقتين هما الارستقراطية والبرجوازية. تضمنت الأولى طبقة المحافظين من ملاك الأرض (الإقطاعيين) والنبلاء مدعومة من رجال الدين. بينما شملت الثانية طبقة الأحرار من رجال الصناعة والأعمال والمال والبنوك والتجار والمهنيين مدعومة من الفئة الدنيا لرجال الدين، بالإضافة إلى الطبقة العاملة في المدن.
سادت أحزاب الكادر من المحافظين والليبراليين السياسة الأوربية في القرن التاسع عشر وتصاعدت خلال التطور الاقتصادي والاجتماعي العظيم، ومارست السلطة على نحو واسع من خلال الانتخابات. وكانت الفروع المحلية لهذه الأحزاب مسؤولة عن دعم مرشحي أحزابها سياسيا وماليا، رغم أنها حافظت على قدر رفيع من الاستقلال الذاتي. كذلك حافظ عضو البرلمان على درجة عالية من الاستقلال عن حزبه. إذ أن نظام الانضباط الحزبي- خاصة بالنسبة إلى أعضاء البرلمان- ظهر لاحقاً في الأحزاب البريطانية المعتمدة على الأغلبية البرلمانية لتشكيل الحكومة.
لم تختلف الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلتها الأولى خلال القرن التاسع عشر عن أحزاب الكادر الأوربية فيما عدا اعتمادها بدرجة أقل على الايديولوجيا. فالشكل الأول للصراع بين الارستقراطيين والبرجوازيين أو بين المحافظين والأحرار عبّر عن نفسه في حرب التحرير (الاستقلال) حيث مثلت بريطانيا سلطة الملك والنبلاء، وجسّد الثوار مصلحة البرجوازيين. وجاء الشكل الثاني للصراع بين الارستقراطيين من أصحاب الأراضي الزراعية ومالكي العبيد من المحافظين وبين الأحرار والذي تفجّر في الحرب الأهلية. ومع ظهور الولايات المتحدة دولة موحدة بعد الحرب الأهلية، فقد جاءت منذ البداية تجمعا برجوازيا يقوم على مبدأ المساواة السياسية والحرية الفردية. كما عبّرت أحزابها عن عائلة ايديولوجية واحدة.
وفيما يخص هيكل الحزب، كان الاختلاف طفيفا بين الأحزاب الأمريكية والأوربية، فكلاهما تضمنت النبلاء أو النخبة. إلا أن العلاقات بين الفروع المحلية ومركز الحزب كانت أكثر ضعفا في الأحزاب الأمريكية مقارنة بالأحزاب الأوربية. إن ألنظام اللا مركزي الحاد في الولايات المتحدة مكن الحزب من إنشاء سلطة محلية شبه دكتاتورية في الولاية بالسيطرة من خلال الانتخابات على كافة المراكز الحيوية التي تعدت وظيفة المحافظ إلى البوليس والمحاكم والمالية العامة. وأخذت اللجنة المحلية للحزب تضم مجموعات من المغامرين والعصابات التي أرادت ضبط توزيع الثروة وضمان استمرار سيطرتها. وهذه المجموعات كانت تخضع لسطوة القائد السياسي المسيطر على الآلية الحزبية على مستوى المدينة والمقاطعة والولاية الذي كان مسؤولا عن ضمان الأصوات الانتخابية لمرشحي الحزب بوعود مثل العمل النقابي والرخص النقابية والإفلات من البوليس وما أشبه. وحالما أصبح الحزب مسيطرا على الحكومة - بعد فوزه بالانتخابات- عندئذ يكون قد ضمن ومؤيدوه الإفلات من العقوبة باستخدامهم لطرق غير مشروعة مثل أوكار البغاء والقمار وحصر التعاقدات العامة لصالح رجال الأعمال المفضلين.
تضم أحزاب الكادر عادة عددا محدودا من المناصرين في سياق مواصفات خاصة للعضوية، بينما توحد أحزاب القاعدة العريضة مئات الألوف وأحيانا الملايين من الأعضاء. ولا يشكل عدد أعضاء الحزب المعيار الوحيد أو الأهم لحزب القاعدة العريضة، بل أن الشرط الجوهري هو أن يؤسس الحزب نفسه على أساس القاعدة الجماعية، وتكون العضوية فيه وفق معيار الوطنية السياسية، أي مفتوحة لكافة المواطنين في المجتمع. وهذا هو الشرط المركزي الذي يميز حزب القاعدة العريضة عن حزب الكادر بغض النظر عن عدد الأعضاء.
بدأت الأحزاب الاشتراكية تنظم نفسها مع نهاية القرن التاسع عشر على مستوى القارة الأوربية على أساس القاعدة العريضة بغرض تنظيم الأعداد المتزايدة من طبقة أصحاب الأجور التي كانت تتعاظم بفعل الحركة الصناعية المتصاعدة التي أخذت أهميتها السياسية في التزايد المستمر بسبب توسيع حق الاقتراع العام. وبغرض جمع الأموال اللازمة لممارسة نشاطها، اتجهت هذه الأحزاب إلى تعبئة مواردها بطريقة منظمة بالاعتماد على طبقة العمال التي، رغم أنها كانت فقيرة، إلا أن ضخامة أعدادها كانت توفر مصدرا ماليا طيبا لهذه الأحزاب بعد أن ابتدعت طريقة فرض رسوم العضوية. كما بنيت تشكيلات الحزب وفق أسس مركزية ومن ثم بروز الاتجاهات الاوليغاركية. عليه بدأت الأحزاب الاشتراكية جهودها للحد من هذا الاتجاه بتطوير إجراءات ديمقراطية لاختيار القيادات على مستوى كافة المسؤوليات الحزبية ومن خلال مؤتمر الحزب الذي كان يضم العناصر المنتخبة لمختلف فروع الحزب ومستوياته.
شكلت الأحزاب الشيوعية الفصائل الأولى التي انشقت عن الأحزاب الاشتراكية، ونجحت في تطوير تنظيمات هيكلية جديدة. فبينما اعتمدت أحزاب الكادر والأحزاب الاشتراكية على إنشاء فروعها على أساس المنطقة الجغرافية، كونت المجموعات الشيوعية خلاياها في موقع العمل. إن خلية موقع العمل كانت العنصر الأصيل الأول في المنظمة الحزبية الشيوعية التي جمعت أعضاء المجموعة الحزبية مع بعضهم ممن ينتمون إلى مؤسسة واحدة. وتميزت الخلية بقوة تنظيمها. ونبع تماسكها من الحرفة المشتركة لأِعضائها، وشكلت قاعدة الحزب، كما تميزت بكونها الأصغر حجما والأكثر عددا مقارنة بالأقسام الفرعية للأحزاب الاشتراكية. وتطلب هذا النظام الجديد بدوره تنظيما حزبيا قويا وقيادة حزبية ذات سلطة واسعة. وهذه الخاصية التنظيمية للحزب الشيوعي قادت إلى بروز خاصية ثانية تمثلت في الدرجة العالية من المركزية وعلى نحو اكثر صرامة من المركزية التي كانت قائمة في أحزاب القاعدة العريضة، رغم أن الأحزاب الشيوعية طبقت- من حيث المبدأ- حرية المناقشة وطورتها على كافة المستويات الحزبية قبل اتخاذ وصنع القرارات الحزبية. إن حالة الانشقاق- التي كانت تحصل بين فينة وأخرى في الأحزاب الاشتراكية- اعتبرت محظورة ومحرمة في الأحزاب الشيوعية التي نجحت عموما في المحافظة على وحدتها. والسمة الجوهرية الأخرى التي ميّزت الأحزاب الشيوعية هي الأهمية القصوى التي أعطتها للمسألة الايديولوجية .

3 - أنظمة الأحزاب السياسية
تشتهر الأنظمة الليبرالية بنظام الحزبين ونظام تعددية الأحزاب. بينما ظهرت ثلاثة أنواع من أنظمة الحزب الواحد (الفاشي، الشيوعي، ونظام الحزب الواحد في العالم الثالث مع التأكيد على اختلاف ايديولوجية وطبيعة وأهداف كل منها). ولا يستند هذا التصنيف على عدد الأحزاب العاملة في ظل النظام السياسي، حسب، بل كذلك على تنوع السمات المميزة لكل من الأنظمة الثلاثة. فأنظمة الحزبين وتعددية الأحزاب تعبر عن الطرق المفتوحة المستخدمة في العملية السياسية لمواجهة تناقضات المصالح في المجتمعات التعددية، لذلك فهي تشكل جزءا من آليات الديمقراطية. أما نظام الحزب الواحد فيعمل عادة في جو لا يسمح بظهور التناقضات الحقيقية على سطح العملية السياسية. وفي أنظمة الحزبين أو تعددية الأحزاب، حيث يعترف النظام بوجود التناقضات وظهورها ومعالجتها، فهذا قد يجعل من العملية السياسية مهمة صعبة وتفرض إيجاد نوع من الائتلاف لتطويق المصالح المتنافرة، وتقدم العملية الديمقراطية على أنها في واقعها مهمة توفيقية إلى درجة بعيدة.(69)
أن التميز بين نظام الحزبين ونظام تعددية الأحزاب يرتبط كذلك بطبيعة النظامين السياسيين في أوربا الغربية. ففي حالة الحزبين تقوم الحكومة على أغلبية برلمانية ناجمة عن هيمنة أحد الحزبين الكبيرين، وهذه الأغلبية تضمن استمرار الحكومة بصورة فعالة. ومثل هذا النظام يعبر عن أغلبية برلمانية. أما في حالة تعددية الأحزاب فمن النادر لحزب واحد تحقيق أغلبية برلمانية. من هنا وجب تشكيل الحكومة على أساس الائتلاف وتكون أكثر متغايرة وأكثر رخاوة. والحصيلة هي ضعف الاستقرار السياسي وضعف السلطة. وهذا النظام يعبر عن غياب الأغلبية البرلمانية.
يعتبر الائتلاف عادة الوسيلة المطبقة لتحقيق أغلبية برلمانية في نظام تعددية الأحزاب، ويختلف تأثيره بدرجة كبيرة بالعلاقة مع طبيعة الانضباط في الأحزاب المكونة للائتلاف. ففي حالة الأحزاب المرنة التي تتصف بضعف الانضباط الحزبي وسماح الحزب لعضو البرلمان اتخاذ مواقفه التصويتية حسب قناعته، يكون الائتلاف ضعيفاً وعمره قصيراً. وتكون الحكومة في هذه الحالة في حدودها القصوى من الضعف وعدم الاستقرار. من جهة أخرى، إذا كانت الأحزاب المشاركة في الائتلاف تتصف بالصلابة والانضباط عندئذ من المحتمل بناء نظام يشبه كثيرا نظام الحزبين. وهذه الحالة هي الغالبة عندما يتحالف حزبان قادران على توفير أغلبية برلمانية. وهذا النوع من الائتلاف يعبّر عن ثنائي القطبين ويولد عناصر نظام الحزبين في إطار تعددية الأحزاب. وتشكل السويد مثالاً لظهور هذا النموذج في فترات مختلفة منذ عام 1970.
هناك فارق جوهري بين نظام الحزبين في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. فرغم سيطرة حزبين كبيرين على الحياة السياسية في كل منهما، إلا أن النظام السياسي يعمل بطريقة مختلفة في كلا البلدين. ورغم وجود أحزاب ثالثة بصورة مستمرة في الحركة السياسية الأمريكية إلا أنها فشلت في أن تلعب دورا محسوسا في الساحة السياسية. ويكمن اختلاف الأحزاب الأمريكية عن مثيلاتها في أوربا الغربية بأنها ليست مرتبطة بنفس الدرجة بالحركات الاجتماعية والايديولوجية التي أثرت بدرجة ملموسة في الحياة السياسية الأوربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومع أن الأحزاب الاشتراكية تواجدت على طول التاريخ الأمريكي، إلا أنها لم تستطع أبداً تحدي سيطرة الحزبين الكبيرين. وينسب عجز الأحزاب الاشتراكية الأمريكية إلى القدرة العالية للرأسمالية الأمريكية على التكيف، بالإضافة إلى التوسع الاقتصادي المستمر، علاوة على قسوة الرأسمالية الأمريكية تجاه الأحزاب اليسارية، كما في لجنة مكارثي وممارساتها الإرهابية ضد قوى اليسار الأمريكي.(70)
يلاحظ أن الأحزاب الأمريكية تظهر في مجموعتين متجذرتين في حزب ليبرالي واحد. أما هياكل الأحزاب الأمريكية فهي تتصف بالمرونة واللامركزية. إن صيغة الفيدرالية والاستقلال المحلي تميل إلى إضعاف الهيكل الحزبي الصلب وإضعاف السيطرة في خطوط (فروع) الحزب. فالمنظمة الحزبية قد تكون قوية ومتجانسة على المستوى المحلي، إلا أنها تكون أضعف على مستوى الولاية، وغير قائمة على المستوى الوطني. عليه، فرغم وجود نظام الحزبين إلا أن أغلبية برلمانية مستقرة غير محتملة.(71)
يعتمد نظام الحزبين البريطاني على ممارسة حزبية صارمة، متمثلة في انضباط فعال بالعلاقة مع نمط التصويت في البرلمان. ففي كل عملية تصويت مهمة، يكون ملزما لكافة أعضاء الحزب البرلمانيين التصويت في جبهة واحدة وفق توجهات الحزب. لذلك من المتوقع أن يبقى رئيس الحزب (رئيس الوزراء ) في السلطة خلال الدورة البرلمانية، ومن المرجح أن التشريعات القانونية التي يقترحها أن تكون قابلة للإقرار. وليس هناك فصل حقيقي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لأِن الحكومة وأغلبيتها البرلمانية تشكل جبهة واحدة متجانسة صلبة أمام المعارضة التي ليس لها سوى التعبير عن معارضتها في صورة بدائل مدروسة. وهكذا،فإن الأغلبية البرلمانية خلال الدورة البرلمانية لا بد وان تكون تحت السيطرة الكاملة لحزب الأغلبية، وأن المشكلات الداخلية في إطار الحزب تشكل التهديد الوحيد للحد من سلطة الأغلبية. وطالما أن كل حزب مؤلف من مجموعة منظمة تلتزم الانضباط الحزبي ويرأسها شخص متميز يتوقع أن يصبح رئيس الوزراء في حالة فوز حزبه بالانتخابات البرلمانية، فإن حصيلة هذه العملية نظام سياسي يتمتع بالاستقرار والقوة. لكن هذه الحالة تفترض مسبقا أن كلا الحزبين متفقان فيما يخص القواعد الأساسية للديمقراطية (عدم احتكار السلطة). وفي غير ذلك،فان نظام الحزبين لن يُكتب له الحياة.(72)
كذلك ظهرت أنظمة الحزب الواحد في دول العالم الثالث، وتراوحت في أفكارها المعلنة وممارساتها بين الاتجاهات الاشتراكية والفاشية. وكانت أضعف تنظيماً من أقرانها في الدول المتقدمة، علاوة على خضوعها للولاءات الشخصية والتقليدية. كما أن أحزاباً عديدة ادعت الاشتراكية، وفي نفس الوقت اتخذت مواقف عدائية صارمة من الشيوعية ومنظماتها. وعموماً، عبَّرت هذه الأحزاب، كما هي حال أنظمة الحزب الواحد، عن دكتاتورية الحزب و/أو قيادته الاستبدادية في سياق احتكار السلطة.(73)
وأخيراً، قد يكون من المفيد التنبيه إلى أن هذا الفصل اقتصر على مناقشة الأحزاب العلنية فقط، أما الأحزاب السرية، فقد سبق بحثه في مجال آخر.(74)



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-- الفصل السا ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-- الفصل السا ...
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة- الفصل الخامس
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة- الفصل الرابع
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-0الفصل الثال ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة--ف2/هدر الإم ...
- مستقبل العراق: -الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-
- نموذجكم الديمقراطي في العراق.. مقتل متظاهر غير مُسلّح وتسعة ...
- خمس وعشرون ساعة في بطن الحوت: أروقة الموت الطائفية في سجن ال ...
- نساء العالم.. ساعدن أخواتكن العراقيات
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- تلاستنتاج/ المصطلحات/ المراجع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السابع عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الحادي عشر
- مأسسة عدم المساواة في أمريكا
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الخامس عشر
- حصيلة الصراع في سوريا 60 ألف قتيل قبل نهاية العام 2012
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الرابع عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثالث عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثاني عشر


المزيد.....




- فيديو غريب يظهر جنوح 160 حوتا على شواطىء أستراليا.. شاهد رد ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1000 عسكري أوكراني خلال 24 سا ...
- أطعمة تجعلك أكثر ذكاء!
- مصر.. ذعر كبير وغموض بعد عثور المارّة على جثة
- المصريون يوجهون ضربة قوية للتجار بعد حملة مقاطعة
- زاخاروفا: اتهام روسيا بـ-اختطاف أطفال أوكرانيين- هدفه تشويه ...
- تحذيرات من أمراض -مهددة للحياة- قد تطال نصف سكان العالم بحلو ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن سلمت كييف سرّا أكثر من 100 صاروخ ATA ...
- مواد في متناول اليد تهدد حياتنا بسموم قاتلة!
- الجيش الأمريكي لا يستطيع مواجهة الطائرات دون طيار


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - التحول الديمقراطي واامجتمع المدني