أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبدالوهاب حميد رشيد - اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثالث عشر















المزيد.....



اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثالث عشر


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 3956 - 2012 / 12 / 29 - 11:33
المحور: الادارة و الاقتصاد
    




المنظمة العربية للترجمة
بيروت


اقتصاد القرن الحادي والعشرين
الآفاق الاقتصادية- الاجتماعية لعالم متغير


تحرير
وليام اي. هلال (و) كينيث ب. تايلور


ترجمة
د. حسن عبدالله بدر (و) د. عبدالوهاب حميد رشيد







السويد 2009


ISBN: ISBN 978-91-633-2084-2












المنظمة العربية للترجمة
عنوان الكتاب: اقتصاد القرن الحادي والعشرين
"الآفاق الاقتصادية- الاجتماعية لعالم متغير"
تحرير: وليام اي. هلال (و) كينيث ب. تايلور
ترجمة: د. حسن عبدالله بدر (و) د. عبدالوهاب حميد رشيد
السويد 2009




Title: 21st Century Economics: perspectives of socioeconomics
for changing world
Editor: William E. Halal and Kenneth B. Taylor
Translator: Dr Abdulwahab H. Rashid and Dr Hasan A. Badr
SWEDEN 2009
ISBN 978-91-633-2084-2















المحتويات
قائمة الجداول 4
قائمة الأشكال 4
شكر وامتنان 5
مقدمة الطبعة العربية 7
كلمة تمهيدية: روبرت م. سولو( الحائز على جائزة نوبل للسلام) معهد ماساشيوستس للتكنولوجيا 21
مقدمة: الانتقال لاقتصاد المعلومات العالمي- وليم أي. هلال (و) كينث ب. تايلر 23
الجزء الأول: القوى التي تشكل النظام الاقتصادي الجديد 31
1. التحولات: قوى التغير الرأسمالي- ارنست سترنبيرغ ، جامعة نيويورك، بوفالو 31
2. العولمة: منظور اقتصادي- جغرافي- بيتر ديكن، جامعة مانشستر/ إنجلترا 47
3. المورد الذي لا ينضب: إحكام السيطرة على الطاقة الهائلة للمعرفة- وليم إي. هلال، جامعة جورج واشنطن 59
4. المحرِّكات الإقليمية للاقتصاد العالمي- ألن جي. سكوت، جامعة كاليفورنيا، لوس انجلوس 73
5. البساطة الإرادية: هل هي حركة اجتماعية جديدة؟- أميتاي إتزيوني، جامعة جورج واشنطن 91
الجزء الثاني: النماذج الناشئة للمنشأة 105
6. المنشأة في عصر المعلومات - ستين ثور، المعهد العالي للتكنولوجيا، لشبونة / البرتغال 105
7. المنظَّمات الشبكية- الخلوية- ريموند مايلز، جامعة كاليفورنيا، جارلس سي. سنو، جامعة بنسلفانيا الحكومية، جون أ. ماثيوس، جامعة ويلز الجنوبية، غرانت مايلز، جامعة تكساس الشمالية 119
8. اقتصاد السوق الداخلي- رُسل ل. أكوف، جامعة بنسلفانيا 131
9. النشاط الاقتصادي والبيئة: اقتصاد نشاط الأعمال النظيف- بول اِكنز، جامعة كيل/ إنجلترا 139
10. شركة لوفتهانزا: دراسة تطبيقية- مارك لبرر، جامعة رود/ ايسلندا 153
الجزء الثالث: بين مبدأ عدم التدخل الحكومي والسياسة الصناعية 161
11. نحو تطوير نموذج اقتصادي للقرن الحادي والعشرين: دروس من شومبيتر، وميردال، وهايك- جيمس انغريسانو، كلية البيرستون في إداهو 161
12. الطريق نحو الدمار: السيطرة الكلاسيكية الجديدة في الاقتصاديات الانتقالية- روبرت جي. ماك إنتير، جامعة الأمم المتحدة/ هلسنكي 175
13. اليابان في مواجهة القرن الحادي والعشرين- كوجي تايره، جامعة إلينوس 189
14. المشروعات الاجتماعية والديمقراطية المدنية في السويد: تطوير مجتمع الرفاهية القائم على المشاركة للقرن الحادي والعشرين- فيكتور أ. بيستوف: جامعة بحر البلطيك/ ستوكهولم 205
15. السبيل الإنساني للازدهار الاقتصادي- مارك أ. لوتز/ جامعة ماين 221
16. نحو الرأسمالية الشاملة في الولايات المتحدة- كينث ب. تايلر، جامعة فيلَنوفا 235
17. اقتصاد موجه نحو المجتمع المحلي- سيفيرن ت. برون، كلية بوسطن 247
الاستنتاج: على الجانب الآخر من الألفية: تجميع الفكر الاقتصادي التقدمي- وليم إي هلال
(و) كينيث ب. تايلر 261
أهم المصطلحات الواردة في الكتاب 269-277



قائمة الجداول
3 1 - أمثلة على المشروع الداخلي 63
3 - 2 أمثلة على مجتمعات أعمال 66
3 3 - أمثلة على أنظمة المعرفة 67
1-4لصناعة والخدمات في مناطق العواصم التي يزيد عدد سكانها على مليون نسمة في الولايات المتحدة 83
6 - 1 شركات الحاسوب ذات الفعالية القصوى خلال سلسة زمنية طويل 114
6 - 2 السنوات التي شهدت وفورات متزايدة بالنسبة للحجم 115
7 - 1 التطور التنظيمي 120
- 72 موقع المعرفة الفنية الإدارية في الأشكال التنظيمية البديل 122
9 - 1 البيانات المالية لمشروع معين بحسب مقارنة التحليل التقليدي للشركة
بتقييم التكلفة الكلية TCA 144
10 - 1 جدول المستخدَم المنتَج لوحدات المشروع الداخلي في شركة لوفتهان 155
15 - 1 الدخول الكلية كنسبة من القيمة المضافة في الصناعة 226
أ-1 خلاصة المفاهيم 267







قائمة الأشكال
1-4 بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD: نمو الصادرات
نسبةً لنمو الناتج المحلي الإجمالي 75
2-4 (أ). التجارة الخارجية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي
مقابل (ب). الناتج المحلي الإجمالي لبلدان OECD 77
3-4 النتائج الموقعية التخطيطية للتفاعل بين تكاليف المعاملات
المكانية والوفورات الخارجية 79
4-4 التمثيل التخطيطي للجغرافية المعاصرة للرأسمالية العالمية 82
6-1 منحنى الانتشار النمطي stylized ودورات حياة المنتَج 109
6- 2 تجربة باستعمال الحاسوب computer simulation: إمكانية التفرع (أو التشعب) 110
-6 3 تجربة باستعمال الحاسوب computer simulation:: فوضى 111
1-7 التنظيم الخلوي لشركة TCG 121
-7 2 التطور المشترك للعصر الاقتصادي والشكل التنظيمي الأرصدة، والتدفقات، والرفاهية في عملية الإنتاج 123:125
9-1 الأرصدة، والتدفقات، والرفاهية في عملية الإنتاج 141
2-9 المدخلات من المادة والطاقة في دورة حياة منتَج ما 145
3-9 مراحل متابعة العمل من أجل بيئة سليمة 147
1-10 الهيكل الجديد لمجموعة شركة لوفتهانزا 157
















شكر وامتنان

يدين محررا الكتاب بالشكر العميق للكثيرين ممن قدموا مساعدات جوهرية لإصدار هذا العمل. ونحن نُثمّن المساعدة الفنية لناشرنا ميكيل فلاميني، وباقي المتخصصين في مطبعة شارع مارتن، الذين أنجزوا كل العمل الحاسم من خلف الكواليس والذي يعتمد عليه عمل المؤلفين على الدوام. رابطة تقدم الاقتصاد-السوسيولوجي، التي أسّسها أميتاي أتزيوني، قدمّت المقر الفكري الذي صغنا فيه أفكارنا لهذا العمل أول مرة. ونقدم الشكر العميق لحسين أسكاري للمساعدة التي قدمها لنا للاتصال بروبرت سولو لكتابة التمهيد لهذا الكتاب. وقد قام مساعدونا: ماري آن ديمولا، كارولان وايدماير، وكاتي براون، بعملهم البطولي المعتاد في وضع الفهرست والصور وباقي المهام. ونحتفظ بامتناننا الأهم لعلمائنا الثمانية عشر الذين ساهموا بكتابة هذا العمل. فهذا الكتاب هو حقاً عملهم بالمعنى الجماعي.






























مقدمة
يشكل هذا الكتاب محاولة علمية تهدف إلى خلق الوضوح، قدر الإمكان، للكثير من حالات عدم اليقين التي تصاحب ثورة المعرفة التكنولوجية، من اقتصادية واجتماعية وتقنية، في ظروف التحول مع بداية الألفية الثالثة، وتوفير فهم أفضل لما في عالم اليوم من تغيرات اقتصادية كبيرة. وقد ساهم في إعداد هذا الكتاب 18 عالماً بارزاً يعملون في مختلف الجامعات والمؤسسات العلمية الغربية، تركزت مهامهم على تقديم تحليلات قيّمة للعوامل الفاعلة التي تشكل الأنظمة الاقتصادية وتخمين الموقع الذي تقود إليه هذه الاتجاهات.
تتجسد أهمية هذا الكتاب، ليس في شمولية موضوعاته الكثيرة المطروحة، من اقتصادية واجتماعية وتقنية، في سياق ثورة المعرفة التكنولوجية التي تعيش البشرية بداياتها حالياً فحسب، بل والأكثر من ذلك بما يقدمه من آراء وتحليلات غنية تثير الكثير من النقاش وتتطلب المزيد من البحث. كما أن تنوع موضوعاته وتكاملها بالعلاقة مع الثورة التكنولوجية يجعل منه مرجعاً لا غنى عنه للمثقفين وأهل العلم والفكر، ومصدراً هاماً يسد شيئاً من الفراغ في المكتبات العربية. إن ثورة المعلومات الحالية تخلق أنظمة جديدة للاقتصاد السياسي، تماماً كما خلقت الثورةُ الصناعية الأنظمةَ القديمة التي تتحول الآن. فلأول مرة في التاريخ، يجري تنظيم الشؤون الاقتصادية سعياً وراء المعرفة.
كما تدفع هذه القوة الجديدة لإدارة المعرفة باتجاه إعادة بناء البنى الاقتصادية بحيث تتيح زيادات هائلة في الإنتاجية، وإزالة العمل الروتيني، وخلق قنوات أكثر للتوزيع، وافتتاح أسواق ضخمة جديدة، وتسهيل العمليات العالمية في كل المجالات تقريباً.
يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء. يستكشف الجزء الأول القوى التي تحرّك التغير الاقتصادي؛ ويبين الجزء الثاني الآثار الاقتصادية الجزئية التي تترتب على بنية وسلوك منشآت الأعمال؛ بينما يفحص الجزء الثالث الأنظمة الجديدة، الناشئة، للاقتصاد السياسي.
يعالج الجزء الأول- بفصوله الخمسة- القوى التي تشكل النظام الاقتصادي في سياق الاستعمال الإلكتروني لتقنية المعلومات، والانتقال على النطاق العالمي للأسواق الحرة، والتعطش الواعي للتحديث، والقوى الأخرى المؤثرة للعولمة التي تساهم كلها في خلق أحد أكثر الاتجاهات إثارةً في عصرنا- توحيد العالم المتنوع في كلٍ متماسك.
وتثير هذه الاتجاهات أسئلة حاسمة عن طبيعة الحياة الاقتصادية في المستقبل. ما هي الأشياء المشابهة التي يمكن استخلاصها من الثورة الصناعية لرسم خطوط ثورة المعرفة؟ وفي أي طرق ينبغي للنظام العالمي الجديد أن يكون مجرد توسع للأنماط الاقتصادية والسياسية السابقة، وفي أي طرق يختلف عنها؟ وما هي أهمية هذا الرافد العميق في التاريخ؟
في الفصل الأول، يصف ويعرّف ارنست ستيرنبيرغ Ernest Sternberg الإمكانات الاقتصادية المتعددة في القرن الحادي والعشرين. ويجد أن الرأسمالية هي عملية ديناميكية وتطورية، ساهمتْ في توجيه ليس فقط التغير الاقتصادي، بل، وبدرجة متزايدة، الأبعادَ الاجتماعية والسياسية والثقافية والشخصية للمجتمع.
يرى ستيرنبيرغ أن العالم يسير حالياً نحو تحولات هامة جداً وهو يودع الرأسمالية العالمية للقرن العشرين. فإلى أين نحن ذاهبون؟ نحن نعيش وسط تغير هائل. فالرأسمالية باتت حضارة اقتصادية ديناميكية تطويرية تدفع بحضارتنا، وقدرات الازدهار الاقتصادية لدينا، وعلاقتنا بالبيئة، وهويتنا الشخصية، نحو اتجاهات متقاربة. وإذ نشق طريقنا باتجاه القرن الحادي والعشرين، فسنحتاج لعلم اقتصاد جديد يمكنّنا بصورة أفضل من إدراك الإمكانات الرأسمالية المتعددة والتأثير فيها.
من أفكار التغير الاقتصادي الهائل الفكرة التي قد تكون أكثرها تأثيراً ، تلك التي تقول بأن الصناعات والأقاليم تعمل الآن في اقتصاد عالمي، وأن العولمة تُشاهد كتحول رأسمالي شامل له تأثير في كل جوانب الحياة الاقتصادية.
ولكن الاعتماد المتبادل يجلب البلاء أيضاً. التلوث عبر الحدود والمحيطات، والتغير العالمي للجو، وتدمير طبقة الأزون، والإنفلونزا، والأوبئة المتنقلة بين أرجاء المعمورة. وهنا يأخذنا هذا الفصل في رحلة تمر بثمانية مفاهيم للتحول الرأسمالي.
أولاً، إذ قاد تعقيد الوضع الصناعي إلى زيادة الحاجة للمعلومات، فإن المنشآت والحكومات عملتا على تجهيز (وتحمل مخاطرة) التدفق السريع والمتزايد باستمرار من المعلومات.
ثانياً، وفي إطار المجتمع الصناعي، أدركت منشآت الأعمال أنها تكسب جل الأشياء من تشكيل رغبات المستهلكين.
ثالثاً، في أعقاب رأسمالية صناعية وسعّت التجارة الدولية، بتنا عرضةً لكثرة من الصلات والاحتكاك بجهات متعددة الجنسية وعالمية. كما تخلت المنظمات والأفراد عن رؤاهم ضيقة الأفق بعد أن توفرَ لهم التنوع وباتوا يشاركون في ثقافات متعددة في اقتصاد عالمي.
رابعاً، إن التدويل المتزايد للتجارة، الذي ميّزَ العالم الصناعي، وضعنا أيضاً أمام مركنتيلية جديدة. فالتنظيمات فقدتْ المعاني التقليدية لمبدأ فصل السلطات الحكومية والمنافسة الخاصة، وتحولتْ بصورة متزايدة إلى ترتيبات شراكة جديدة هجينة بهدف إعادة التأكيد على الثروة الوطنية من خلال التقنية المتقدمة.
خامساً، وكنتيجة للتعقيد المتزايد للمراتب الهرمية الإدارية في المجتمع الصناعي القديم، أصبحنا نقع في فخ عمليات المنشآت العملاقة لقطاع الأعمال. فقد اكتسبت البيروقراطيات العالمية قدرة على الحركة تتجاوز حدود البلاد، وصارت تهيمن على الحكومات الوطنية والمحلية، وحوّلت العاملين إلى ميكانيكيين تابعين وموظفين لتدوين البيانات.
سادساً، عجّل المجتمع الصناعي القديم بحالة عدم اليقين إلى حد انهيار المنظمات الصناعية الفوردية لتلك الحقبة نفسها. وقد شكل المنظِّمون الأذكياء جيلاً جديداً من منشآت لها تخصصات مرنة.
سابعاً، ساعدنا نفس المجتمع الصناعي للقرن العشرين على توسيع شخصياتنا بتجاوز أبعاد معينة، كالطبقة والجنسية ومكان العمل، وتكوين ولاءات جديدة. أدت هذه الأبعاد إلى ظهور مجموعة من الحركات من شأنها اختراق منشآت الأعمال والحكومات ببرامج اجتماعية.
ثامناً، فرضت التغيرات في المجتمع الصناعي تهديدات أكبر على العشائر والأعراق والأديان بحيث أدت إلى عصر أعدنا فيه اكتشاف تمسكنا بمعتقدات أصولية.
يتكون الفصل الثاني- العولمة: منظور اقتصادي- جغرافي- بيتر ديكن Peter Dicken، من قسمين رئيسين. أولاً، محاولة رسم المناطق الأساسية للخريطة الجغرافية- الاقتصادية الجديدة، ومن ثم بيان بعض الأسس الرئيسية لأهمية الجغرافية بالنسبة لفهم عمليات العولمة. ثانياً، استكشاف ما اعتبره ديكن القوى الثلاثة الأكثر أهمية، والمترابطة ترابطاً وثيقاً، التي تشكل وتعيد تشكيل الاقتصاد الجغرافي: المنشآت متعددة الجنسية، والدول، والتقنية.
إن شروط تراكم المعرفة عالية التركز. فالابتكارات- التي هي روح التغير التكنولوجي- تجسد عملية تعلم في الأساس. وهذا التعلم يعتمد على تراكم وتطور المعرفة المعنية في مجال واسع جداً. المفهوم الأساسي هو بيئة الابتكار التي تصنع السياق التكنولوجي- الاجتماعي المحدد وتتم الابتكارات في إطاره.
يتحدى ديكن الموقف القائل بانتهاء دور الجغرافية، ويرى أن كل نشاط اقتصادي ينبغي، ليس فقط أن يكون قائماً في مكان ما، بل أيضاً- وعلى نحو أكثر دلالة- هناك ميل قوي لأن يشكل النشاط الاقتصادي تشابكات أو تكتلات جغرافية متركزة.
كما أن دور الدولة ما يزال هاماً في الاقتصاد العالمي. فرغم الانفتاح المتزايد، ما تزال الحدود الوطنية تمثل انقطاعات هامة على سطح الأرض. ومع توالي عقود عديدة من العمليات الدولية، تبقى الشركات متعددة الجنسية مرتبطة بصورة متميزة بأساسها الوطني.
وهكذا يعترف ديكن بالواقع الجغرافي- الاقتصادي الجديد في سياق هذا التأثير الثوري لتكنولوجيا الاتصالات، ويتابع ذلك ليفسر كيف أن القوى والقيود الأخرى ساهمت في تشكيل بنية الاقتصاد العالمي الناشئ. ويشير ديكن إلى أن قوة الحكومات الوطنية، والشركات متعددة الجنسية، والتكنولوجيا، جعلت من المسافة والموقع الجغرافيين أمراً أساسياً لفهم الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين.
وفي الفصل الثالث، يطرح وليم هلال William E. Halal، وبالعلاقة مع السيطرة على ثورة المعرفة، مجموعة واسعة من الأدلة والآراء لتحديد أسس اقتصاديات المعرفة، مركزاً على الدور التغييري الذي تقوم به المنشأة العالمية. يجّمع هلال الاتجاهات الاقتصادية والبيانات التي توفرت لديه لفحص القواعد الثورية الجديدة لإدارة المعرفة ويعرض الأسس الثلاثة التالية لهذه الظاهرة المربِّكة، ولكن المثيرة:
الأساس الأول: التعقيد يُعالج بالحرية. فالنجاح لم يعد يتحقق من خلال السيطرة والتوجيه، بل تتيحه الحرية التنظيمية بين الناس في القاع.
الأساس الثاني: التعاون فعال اقتصادياً. فالقوة الاقتصادية لا تأتِ من الحدة والصرامة، بل من خلال التدفق التعاوني للمعلومات ضمن مجتمع الأعمال.
الأساس الثالث: المعرفة توجهّها الروح. فالوفرة لا تنتج عن الغنى الاقتصادي، بل من التسيير البارع لعالم معقد لا متناه.
ويلخص هلال تنبؤاته في أن التحسينات الهائلة في تكنولوجيا المعلومات سوف تدخل في التيار الرئيسي في وقت ما خلال سنوات قليلة. ويبين هلال، في نهاية هذا الفصل، كيف أن القوى التي تطلقها التكنولوجيا يحُتمل أن تقود إلى ثلاثة ثورات مناظرة لتلك الأسس الثلاثة : ثورة من التحكم إلى الحرية؛ وثورة من الخلاف إلى الوفاق؛ وثورة من المادية إلى الروح.
أصبح واضحاً أن المعرفة هي الأصل الأكثر استراتيجيةً في المنشأة ومصدر كل الإبداع، والابتكار، والقيمة، والتقدم الاجتماعي- أي المورد الذي لا ينضب. المعلومات هي مورد لا ينضب لأنها تمثل عرضاً غير محدود للقدرة على إدارة إمكانات غير محدودة.
قامت الشركات الكبيرة بتفكيك مراتبها الهرمية. ونشهد الآن ظهور منشآت تنظيمية تُدار ذاتياً وتتفاعل بحّرية ضمن "سوق داخلي". ولا يتطلب الأمر سوى القليل من الخيال لتوسيع هذه الاتجاهات إلى النقطة التي سيحكم بها منطقُ المشروع بدلاً من منطق الهرمية.
الرسالة التي يؤكد عليها هلال هي أن العالم يدخل حيزاً مجهولاً جديداً، عصراً مختلفاً بشكل أساسي بحيث أن القواعد القديمة لم تعد تسري. ولابد من استبدال معرفة الماضي بمفاهيم تتماشى مع الحقائق الجديدة للمعرفة التي لا تنضب. النجاح يتحقق على نحو أفضل من خلال حرية التنظيم؛ والقوة تأتي عبر المجتمع التعاوني؛ وتتدفق الوفرة من الوعاء الدقيق للفهم، والمعنى، والروح غير المحدودة.
وفي الفصل الرابع- المحركِّات الإقليمية للاقتصاد العالمي، يحاول ألن جي سكوت Allen J, Scott تجريد بعض الاتجاهات الهامة في الجغرافية الاقتصادية والاقتصادية والسياسية للرأسمالية العالمية في نهاية القرن العشرين وتقديم بعض التكهنات حول مسارها المحتمل في العقود المبكرة من القرن الحادي والعشرين. ويحدد سكوت هدفه، على وجه التحديد، في التشريح الأساس لموقع الإنتاج والمنافسة في النظام العالمي المعاصر بالمقارنة مع إعادة الهيكلة السياسية الدولية العميقة التي انطلقت، أيضاً، في الفترات الأخيرة. وينصب التحليل هنا على الديناميكا المكانية لمركبات الإنتاج الكثيفة والمركزة التي تشكل الأقاليم المتحضرة الكبرى في العالم والتي يبدو عليها أكثر وأكثر أنها تؤلف محركِّات كل النظام الرأسمالي العالمي. ويبين أن هذه الصيغة الأولية المقتضبة تفتح سلسلة من الأسئلة متنوعة ومحيِّرة بصورة غير عادية . ويذهب سكوت إلى أن العالم في طريقه نحو نظام دولي أكثر تكاملاً بدرجة كبيرة- عالم بلا حدود- رغم أننا ما نزال بعيدين عن محطته النظرية الأخيرة. وكلما نتحرك في هذا الاتجاه، فإن الدولة ذات السيادة القائمة على إقليمها تخلي مكانها لصالح "الدولة التجارية" trading state التي تعتمد رفاهيتها، بدرجة أكبر وأكبر، على تواصل نجاحها في الإنتاج الموجَه للتصدير ضمن إطار التقسيم الدولي للعمل.
وهكذا ينتهي سكوت، في تحليله للأقاليم والعولمة في ظل ثورة المعرفة هذه، إلى فحص الموقع الجغرافي وكيف يمنح هذا الموقع ميزة استراتيجية من خلال وجود الوفورات الخارجية الإيجابية وتدني تكاليف المعاملات. ويؤكد سكوت على أن الرأسمالية العالمية تجتاز مرحلة من التأقلم المكثف من شأنها أن تعيد تخصيص القوة الاقتصادية بعيداً عن الدولة ذات السيادة وباتجاه المستويات الدولية والإقليمية.
وفي الفصل الخامس، يدرس أميتاي اتزيوني Amitai Etzioni موضوعة البساطة الإرادية- الاستراتيجية الحية من ناحية أهميتها السوسيولوجية كعامل موازنة ممكن للمجتمع الرأسمالي السائد. وقد اهتم اتزيوني بوصف هذه الفكرة وإبراز مظاهرها المختلفة وعلاقتها بالتنافس. كان لـ اتزيوني السبق في دراسة التوازن الدقيق الذي ينبغي أن تحافظ عليه كل الأنظمة الاجتماعية بين العوامل الاقتصادية والسلوك الاجتماعي. ويركز هذا الفصل على التوجه المتميز نحو البساطة الإرادية كرد فعل على تزايد التنافس، والنزعة الاستهلاكية المفرطة، وانهيار القيم والمعايير التقليدية.
تشير طريقة البساطة الإرادية إلى قرار ذاتي بتحديد الإنفاق على السلع والخدمات الاستهلاكية والاهتمام بالمصادر غير المادية للإشباع، وذلك انطلاقاً من الإرادة الحرة، وليس تحت ضغط الفقر أو البرامج الصارمة للحكومة، أو في السجون. إنها طريقة بسيطة خارجياً وغنية داخلياً. عمل تحريري. اختيار واعٍ. تأهيل شخصي وإبداع. كما أن التحول باتجاه البساطة الإرادية له نتائج هامة بالنسبة للمجتمع على العموم وليس فقط لحياة الأفراد المعنيين. وهناك طريقة واعدة للتفكير بهذه النتائج وهي أن نسأل عن ماهية المحصلات التي يمكن أن تتحقق لو أن عدداً متزايداً من أفراد المجتمع، بل ربما غالبيته الساحقة، انخرطتْ بنوع واحد أو أكثر من البساطة الإرادية. إن هذه النتائج واضحة جداً في قضايا البيئة، ولكنها أقل وضوحاً بالنسبة للعدل الاجتماعي مما يبرر المزيد من الاهتمام.
إن مكتشفات العلم الاجتماعي والخبرة التاريخية الأخيرة لا تترك سوى القليل من الشك بأن الحجج الإيديولوجية لم تؤثر كثيراً على النتيجة المنشودة- أي إعادة توزيع الثروة الكبيرة- في المجتمعات الديمقراطية. ويبدو أن حالات عدم المساواة الاقتصادية قد زادت في أجزاء كثيرة من العالم. والآن، من الواضح بأنه إذا أريد تحسين العدل الاقتصادي- الاجتماعي بشكل جوهري، فالأمر يستلزم قوة إضافية جديدة.
يستعرض الجزء الثاني، في خمسة فصول أيضاً، التصورات الجديدة، الناشئة، في حقل إدارة الأعمال وباقي المؤسسات الاقتصادية. إن تكنولوجيا المعلومات، والمنافسة الاقتصادية، والمطالبات المتعلقة بالبيئة، ونشوء فئة من المستخدَمين والمستهلكين أكثر تعلماً، قد أبطلت الهرمية التقليدية لقطاع الأعمال. وتخلق هذه التغيرات مزيجاً غير معهود من التنافس والتعاون، كما يتجلى هذا الأمر في ظهور موجة التحالفات التعاونية حتى بين متنافسين أشداء في حقل الأعمال.
درسَ ستين أ. ثور Sten A. Thore تأثير تكنولوجيا المعلومات information technology (IT) في إطار الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية. الفصل السادس يفتتح هذا الجزء برسم الانفجار في التنوع الاقتصادي الناجم عن التكنولوجيا الرفيعة. يذهب ثور إلى أن تعقد التقنيات المنبثقة emergent technologies يزيح النظام الاقتصادي القديم ويخلق نظاماً جديداً، أصبح شكله الآن فقط قابلاً للإدراك. وتبين الأدلة بأن IT تعجل معدل التغير في اقتصاديات السوق، خالقةً شروط "نمو مفرط"، تتطلب إدارة ماهرة لدورة حياة المنتجات. إن الاختلالات القوية تعم صناعات تكنولوجيا المعلومات، جاعلةً النماذج التقليدية، التحليلية، غير ذات جدوى لفهم العمليات أو النتائج المُلاحظة.
قدّمَ ثور مخططاً تمهيدياً للنموذج الاقتصادي الجديد الذي يتابع آثار التحول السريع لاقتصاد السوق في عصر المعلومات. ويستند هذا النموذج الجديد إلى إقرار النقاط الأربعة التالية:
1. دورات حياة المنتجات القائمة على المعرفة تكون قصيرة، في الغالب، بسبب تزايد سرعة تطور الإنتاج. فمع تدفق المنتجات الأكثر تطوراً نحو السوق، تصبح الأجيال السابقة قديمة ومهجورة.
2. إن الشركات التي تمارس عملياتها التسويقية بنجاح وتبيع المنتجات الأكثر تقدماً من الناحية التقنية في أي وقت معطى، سوف تختبر معدلات نمو مثيرة- تسمى النمو المفرط. وعلى النقيض، فالشركات التي تتصف ببطء إنتاجها، يمكن أن تواجه انهيار أسواقها فجأة، مع نتائج كارثية.
3. تباشر الشركات ذات التقنية العالية عملها عادةً على طريق ديناميكي بعيداً عن التوازن طوال الوقت. والمدار هنا غير خطي، ويتضمن احتمالات حصول فوضى.
4. ونتيجة حصول جيشان صناعي ضخم، سينبثق تطور تقني سريع. وينشأ نوع من التوازن بين الإبداع والنسيان، وبين العملية التجارية للمنتجات الجديدة في سياق انطلاق شركات جديدة منشأة حديثاً تندمج وتحقق مكاسب اقتصادية، وتلك التي وقعت في الإفلاس.
وفي حين يفترض الاقتصادُ التقليدي السلوكَ المثالي، والتوازن، واستقرار هذا التوازن، فإن الطراز السائد للشركات القائمة على التقنية الجديدة يتسم بالسلوك المثالي الجزئي وعدم التوازن: القفز المفاجئ بين ما هو كائن وبين ما هو بالإمكان.
ماذا سيجلب لنا هذا البحث اللانهائي عن المخترعات الجديدة؟ الجواب المدهش للرياضيات غير الخطية المعاصرة هو اتجاهان نحو النظام والفوضى- البناء والتدمير، اختراع الجديد ونبذ القديم- إلى حد يمكن أن يحفظ كل منها في نقطة توازن، لن يبلغ أبداً نمطاً ثابتاً ولا ينتهي إلى التلاشي باتجاه اضطراب غير مسيطر عليه. يسمى ذلك التوازن "حافة الفوضى". على الحافة يحتوي النظام كفايته من الاستقرار لحفظ نفسه، وكفايته من الإبداع لتطوير ذاته.
هل الفوضى حالة مماثلة للعشوائية؟ تتجسد المقدمة المنطقية الأساسية لنظرية الفوضى في اتجاه كل شيء في الكون نحو الاضطراب: الانحلال والتفسخ، النهوض والسقوط، الإفلاس وموت شركات، حالات الاندماج والكسب، الشركات المغيرة والشركات الجشعة. كلها أجزاء من الآلية، العضو الحي، أو الشركة. وفي سياق لحظة قصيرة، الحياة نفسها هي انتصار على الموت، ولكنه انتصار سريع الزوال على الدوام. فالحياة تتطلب التجديد في كل لحظة.
أصبحت الاقتصاديات المتطورة في العالم حالياً مدفوعة من خلال نمو فريد لا مثيل له للمعرفة الرأسمالية، ومن غير الواضح ما إذا كان هذا النمو السريع قابلاً للاستمرار. هل ستقود الألفية الجديدة باتجاه نمو عنيف ولكنه مؤازر لهذا النمو أم سيحدث انهيار ضخم كما في الكساد العظيم الذي حدثَ في الثلاثينات؟ ماذا سيأتي في المرة القادمة: ازدهار أم إخفاق؟ هل يمكن لأسواق الأسهم في العالم الاستمرار في التسلق إلى ارتفاعات شامخة أبداً مدفوعة بثورة الديجيتال أم أن مخزوناً ضخماً يقبع في الانتظار؟
ينكب ريموند مايلز Raymond Miles، شارل سولو Charles C. Solow، غرانت مايلز Grant Miles، جون ماتيوس John Matthews على دراسات موسعة للشركات الديناميكية. ويصفون شكلاً جديداً للمنظمة الشبكية "الخلوية"، مشيرين إلى كيف أن التطور اللاحق للشبكات التنظيمية سينقل المؤسسات للقرن الحادي والعشرين.
منذ فترة الثورة الصناعية، تحركَ الاقتصاد الأمريكي من عصر الآلة إلى عصر المعلومة ليقف حالياً على عتبة عصر المعرفة. وفي سياق هذه العملية، تحولت أشكال المنظَّمة من صناعات رأس المال الكثيف إلى صناعات المعلومة الكثيفة، وحالياً باتجاه صناعة الابتكارات كالبرمجة والتقنية الحيوية، حيث تكمن الميزة التنافسية، على الأغلب، في الاستخدام الفعال للموارد البشرية. ويعتقد أولئك الكُتاب أن هناك اتجاهات محددة يمكن ملاحظتها في مجال التطور المشترك للأسواق والمنظَّمات- اتجاهات تجعل من الممكن توقع شكل وعملية المنظَّمة في القرن الحادي والعشرين، وبخاصة نمو الاعتماد على المنظِّم، والتنظيم الذاتي، ومشاركة العاملين في تملك المنشأة.
باختصار، وعبر كامل فترة تطوير المنظمة، هناك اتجاهات محددة وواضحة تماماً. أولاً، مع ظهور كل شكل جديد للمنظَّمة، يبرز التوقع القوي بأن أعضاء المنظمة سيطوّرون قابلية التنظيم الذاتي حول عملية التشغيل، والسوق، ومهمات المشاركة. ثانياً، يُزيد كلُ شكل جديد من نسبة الأعضاء الذين توقعوا أداء دور المنظِّم - ممن يشخصون احتياجات الزبائن، ومن ثم يجدون ويركزون الموارد اللازمة لذلك. ثالثاً، زاد كل شكل جديد للمنظَّمة من فرص الأعضاء لاختبار الجانب النفسي من المشاركة في الملكية، أسواق، سلع وخدمات، الخ... ويرون بأن هذه الاتجاهات المحورية يمكن استخدامها للتنبؤ بالخصائص الرئيسية للمنشآت التنظيمية في القرن الجديد.
ورغم الاتفاق على أن المنظمات الحديثة ينبغي تصميمها كشبكات سلسة، عضوية، فإن هناك وضوحاً أقل بالنسبة للكيفية التي ينبغي أن يعمل بها هذا النظام اقتصادياً. فكيف يمكن للمديرين أن يعرفوا أين ومتى تخُلق أو تُدمر القيمة الاقتصادية في شبكة ما؟ ومَنْ يمتلك السلطة لتحديد أجزائها المختلفة؟ وكيف تتحدد المسئولية؟ وهنا يقدم العالم المشهور رُسل ل. أكوف Russell L. Ackoff نموذجياً سوقياً للمنظَّمة يوفر أساساً اقتصادياً للإجابة على هذه الأسئلة.
يلقي رُسل الضوء على وضعية الممارسة الإدارية في الوقت الحاضر من خلال الحقيقة المتمثلة بتوفر المعالجات أكثر من المشاكل. وأظهرت دراسته أن جهود حوالي ثلثي الإدارة النوعية الكاملة TQM كانت مخيبة. وفي الواقع، تبين دراساتُ أخرى أن جهود سياسة تخفيض حجم العمالة تنتهي بتكاليف إضافية. والمعالجات فشلت لأنها كانت ضد النظام. النظام هو كلي لا يمكن تقسيمه إلى أجزاء مستقلة. ويتم اشتقاق صفاته الجوهرية (مفهومه) من خلال تفاعل أجزائه، ولا تؤخذ هذه الأجزاء بشكل منفصل.
تتعامل كافة المعالجات مع أجزاء أو جوانب النظام على أساس جزئي. وتظهر على شكل حصيلة مقلوبة في سياق قيامنا بتحسين أجزاء النظام على أساس منفصل. وهنا، فمن النادر جداً أن ننجح في تحسين أداء النظام ككل.
ماذا نستطيع أن نستنتج؟ يعتمد أداء النظام على كيفية تفاعل أجزاءه، وليس على كيفية أداء أجزاءه بصورة منفصلة. ومع ذلك، فإن المعالجات المطبقة في الوقت الحاضر تركز على اعتبار كل جزء من الأجزاء منفصلاً عن النظام الذي هو جزء منه. وهذا الفعل قد يحسّن أداء الجزء ولكن نادراً ما يحّسن أداء النظام ككل.
يبين عمل رسل مشكلة أساسية أخرى تقوم على التمييز الذي استنبطه بيتر دروكر Peter Drucker بين عمل الأشياء بصورة صحيحة وعمل الشيء الصحيح. أداء الشيء الصحيح بصورة خاطئة أفضل من أداء الشيء الخاطئ بصورة صحيحة. كلما عْملنا الشيء الخاطئ بصحة أكبر، فإنه يصبح أكثر خطأ.
تواجه المشروعات الاقتصادية عدداً من المشاكل التي لا يمكن التعامل معها من خلال مجموعة واحدة من المعالجات، بل من خلال تحويل المنظَّمة في سياق اقتصاد سوق داخلي.
ويستنتج رُسل من دراسته لهذا الفصل بأنه يمكن في الواقع إلغاء الحاجة إلى تخفيض الحجم بتحطيم الاحتكارات الروتينية الداخلية وذلك بتحويل اقتصاد سوق المشروع من وضع تم تخطيطه مركزياً وتحت السيطرة إلى اقتصاد سوق. فعلى المستوى الوطني (الاقتصاد الكلي) نحن ملتزمون بملاحقة اقتصاد السوق، كما تمت صياغته أصلاً من قبل آدم سمث في كتابه "ثروة الأمم". ولكننا على مستوى المشروع (الاقتصاد الجزئي) نستخدم عادةً نفس النظام الاقتصادي الذي استخدمه الاتحاد السوفيتي قبل تحوله- وضع تم تخطيطه مركزياً وتحت رقابة مركزية.
إن نمو الطبقات الوسطى الكبيرة في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وربما أفريقيا، قد يزيد من عدد الأفراد الذين يعيشون بالمستويات الصناعية للاستهلاك، من بليون واحد حالياً إلى حوالي عشرة بلايين في العقود 3-5 القادمة. وهكذا، فإن زيادة بمقدار عشرة أضعاف في مستوى التصنيع أمر محتمل. وهذا يزيد الضغط بنفس المقدار على الأنظمة البيئية. بول اكنز Paul Ekins هو أحد أبرز اقتصادييّ العالم ممن ركزوا على هذا التحدي الضخم. في الفصل التاسع، يعرّف اكنز الأسس الناشئة "للاقتصاد الأخضر" ويرسم السياسات الآمنة بيئياً التي تطوّرها الشركات والحكومات المؤمنة بالتقدم.
الغرض من النشاط الاقتصادي هو خلق الثروة. وهذا الغرض فُسر أحياناً بزيادة قيمة الأسهم المملوكة. ومع ذلك، فهذا التراكم الخاص قد يجد تبريره فقط من وجهة النظر الاجتماعية الواسعة إذا نجمَ عن هيكل تكاليفه وأسعاره أي آثار اجتماعية وبيئية.
أصبح من المعروف على نطاق واسع أن النشاط الاقتصادي ككل يولد تكاليف بيئية لا تنعكس في أسعار السوق. وبالتالي فإن هذه التكاليف هي بمثابة مصدر لعدم الكفاءة الاقتصادية، يقود إلى خسارة في الرفاهية البشرية. وهكذا، فإن تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، في فصله عن الصناعة، ذكرَ بأن من الواضح أن مقاييس الرقابة ومنع التلوث الصناعي ستتطلب تقويتها بدرجة كبيرة. وإذا لم يحصل ذلك، فسوف لن يكون بالإمكان تحمل ضرر التلوث على صحة الإنسان في مدن معينة ويتهدد استمرار نمو الرفاهية .. وإذا أريد أن تكون التنمية المستديمة مستديمة على مدى فترة طويلة، فيجب إحداث تغيير جذري في مفاهيم نوعية التنمية.
وهناك الآن انطباع جماعي بأن حجم وكثافة التحدي البيئي هي بمستوى جعل من استجابة النشاط الاقتصادي غير ملائمة، وربما مأساوية. وفي تصريح غير مسبوق للجمعية الملكية البريطانية بالاشتراك مع الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، في رسالتها إلى قمة ريو عام 1992، ذُكرَ بأن عدم كبح استهلاك الموارد لإنتاج الطاقة والاستخدامات الأخرى... يمكن أن يقود إلى نتائج كارثية على البيئة العالمية. قد تنتج بعض التغيرات البيئية أضراراً لا يمكن معالجتها بالعلاقة مع قدرة الأرض على حفظ الحياة... إن مستقبل كوكبنا في الميزان.
وفي الواقع، فإن شرطاً مهماً لا مفر منه لمواجهة هذا التحدي البيئي بنجاح يتمثل في تحويل طريقة إنتاج السلع والخدمات باتجاه "النشاط الاقتصادي النظيف". وهذا الفصل يطوّر بعض الأفكار التي تتضمن كيف يمكن للنشاط الاقتصادي، وإلى أي مدى، التحرك بهذا الاتجاه.
يبدأ اكنز بتقديم نموذج لخلق الدخل، قابل للتطبيق بشكل متماثل للنشاط أو الاقتصاد الجزئي بغية فهم مدى المساهمات الحاصلة للبيئة من خلال فعالية النشاط والاقتصاد. ثم يضع هذه المساهمة في محيط إنشاء مفهوم بيئة مستديمة ليصبح من حيث المبدأ أساساً تنظيمياً رئيسياً لسياسة البيئة. وبعد ذلك، يأخذ اكنز بالاعتبار كيف يبدأ النشاط الاقتصادي بالرقابة عن بعد، وقياس، وتقرير، وإجراء حسابات آثار البيئة، وهو الشرط المسبق الضروري للقدرة على إدارتها. ثم يناقش اكنز نطاق الجدوى المالية الجارية لنشاطات الأعمال للتحرك صوب بيئة مستديمة وتقديم نتائج قسم من الحالات المدروسة. وأخيراً يطرح اكنز بعض التغيرات التي لابد منها في مجال النشاط الجاري لتشجيع المزيد من هذا النشاط على التوجه نحو هذا المسار "النظيف" من خلال نشاطات ملائمة للبيئة والتي هي أكثر ربحية.
وفي نهاية هذا الفصل، يقدم اكنز استنتاجاته بأن التنمية المستديمة تصبح، بشكل متزايد، هدفاً أساسياً للسياسة الحكومية والتحويل العام للنشاط باتجاه النشاط النظيف باعتباره أمراً ملحاً ولازماً للتنمية المستديمة. وبغية ضمان مساهمة المنشآت في الأهداف الوطنية باتجاه التنمية المستديمة، فإنها تتطلب، أولاً وقبل كل شيء، تطبيق نظام الإدارة البيئية ليمكنها من قياس ومراقبة تأثيراتها البيئية.
يقدم الفصل العاشر التجربة الناجحة في تطبيق هذه المفاهيم من قبل شركة الخطوط الجوية الألمانية Lufthansa. وفي بحثه لشركات النقل الأوروبية، يفحص مارك ليرر Mark Lehrer توجه هذه الشركة في مجال الحد من توجيه وإشراف الدولة deregulation، واضطراب السوق، والتغير التكنولوجي. إن التحسن المثير الذي نتجَ عن عمل هذه المنشأة هو مثال بارز تحاول المنشآت متعددة الجنسية أن تجاريه.
أنشأت شركة لوفتهانزا العام 1995 نظام السوق الداخلي من أجل السيطرة على هذا التحدي المعقد. وكنتيجة ذلك، فإن قسم المسافرين، وقسم نقل البضائع، وقسم الصيانة ومعالجة البيانات، هي الآن وحدات منفصلة بصورة قانونية وتمارس نشاطها مع بعضها بعضاً كزبائن ومجهِّزين.
وكان ذلك التحول ثورة ثقافية سلمية. وفي سياق الجهد الواسع للشركة، باتت لفظة "التغيير الفكري" mental change عنصراً راسخاً في مفردات لغة الشركة. ومع التعاظم المفاجئ للطاقة التنظيمية للشركة في خلق الأفكار البارعة، أعيدت هيكلة أعمال الشركة، وأعادت الشركة وضعها بصورة استراتيجية من شركة ألمانية بحتة من حيث نطاق عملها إلى مؤسسة أوروبية.
يمكن توصيف أسلوب عمل شركة لوفتهانزا في سياق ثلاثة مفاهيم: التزام يتعذر إلغاؤه، وتكييف آلية التنفيذ، ودليل إداري شامل. ماذا فعلَ الهيكل الجديد لتمكين وحدات الشركة الجديدة من العمل؟ أولاً وقبل كل شيء، منح الهيكلُ الجديد الشركةَ حرية كبيرة لتنمية نشاط أعمالها بإيجاد زبائن من خارج الشركة. الوحدات الثلاثة الجديدة كلها بلغت مستوى المنافسة الدولية في مجالاتها.
إن ترسيخ عمليات النقل، والصيانة، والنظم، كانت خطوة محورية لنشر قيم المؤسسة عبر الخطوط الجوية، لكن مديريّ لوفتهانزا يؤكدون بأن ذلك كان خطوة واحدة في الصراع لخلق ديناميكية أكثر- التجديد الذاتي للمنظمة. كما أن جلب مديريها نحو التقارب بدرجة أكبر من قوانين السوق، ساعدَ إصلاح لوفتهانزا أن يغرس في أذهانهم بأن هيكل الشركة الجديد في سياق الأسواق الداخلية ليس مجرد إصلاح لمرة واحدة بل جزء من عملية ديناميكية للتغيير.
يعالج الجزء الثالث والأخير، بفصوله السبعة، سياسة عدم التدخل الحكومي والسياسة الصناعية على مستوى الاقتصاد الكلي. ثمة فحص لمجموعة من وجهات النظر بغية وصف ذلك الحيز الواسع الذي يقع بين الحدْين المتطرفيْن للرأسمالية القائمة على سياسة عدم التدخل الحكومي والاشتراكية القائمة على سيطرة الدولة.
فرغم اعتقاد معظم الناس اليوم بأن الاشتراكية قد ماتت، وأن الرأسمالية تنعم بالنصر، هناك ارتباك هائل تحت سطح هذا الاعتقاد العام. فثمة اقتصاديين كثر يعتقدون بأن الأسواق، وليست الرأسمالية، هي التي تنتشر في المعمورة، وأن هذين المفهومين لا يعنيان الشيء نفسه على الدوام.
ترسم فصول هذا الجزء نماذج للسياسة الاقتصادية مما جرى تطويرها في دول مختلفة من العالم، بما في ذلك آخر الأفكار حول اقتصاديات ما بعد الشيوعية، ومصير الديمقراطية الاجتماعية، ودولة الرفاهية، والسياسة الصناعية، والأشكال الجديدة للسياسة الاقتصادية. ويحاول الفصل الأخير، الذي كتبه محررا الكتاب، أن يضع موضوعات واستنتاجات الفصول السابقة في كل واحد متماسك.
يستهل هذا الجزء، في فصله الحادي عشر، هذا الاستكشاف للأنظمة الاقتصادية الكلية بمناقشة للنماذج البديلة. يستعمل جيمس انغرسانو James Angresano، وهو متخصص بالأنظمة الاقتصادية المقارنة، المفاهيم الغنية لدى غونار ميردال Gunnar Myrdal، وجوزيف شومبيتر Joseph A. Schumpeter، وفردريك هايك Friedrich Hayek، لتذكيرنا بأن العديد من الحلول لما تبدو أنها مشاكل اقتصادية صعبة يمكن العثور عليها في الأفكار الرائدة التي طُرحت منذ سنوات خلت. إن الاستفادة من حكمة هؤلاء الاقتصاديين الثلاثة الكبار تقود إلى فهم واقعي أكثر للظواهر الاقتصادية الأمر الذي يمكن أن يصبح الأساس لوضع نموذج جديد متعدد المراجع.
ويخلص انغرسانو إلى ضرورة تشجيع العلماء الاجتماعيين الذين يختارون نموذجاً جديداً لتحليل المشاكل الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين بمساهمات ميردال وشومبيتر وهايك. إن دراسة أعمالهم الكبرى تثبت أن هناك بديلاً للمنظور التبسيطي للاقتصاديين الكلاسيك الجدد- بديلاً يطرح تنبؤات أكثر دقة لمسار التنمية الاجتماعية ومداها. إذ يقدم هؤلاء العلماء الثلاثة فهماً أكثر واقعية للاقتصاديات، وأن طرقهم التحليلية المعتبرة قادرة على تهيئة أساس متين لبناء السياسة.
فما هي الدروس التي يمكن للطلاب والمهنيين، الباحثين عن منظور اقتصادي جديد للقرن الحادي والعشرين، أن يتعلموها من ميردال وشومبتر وهايك؟ أولاً، إن مفاهيم هؤلاء الكُتاب للواقع، ونقدهم للاقتصاد الكلاسيكي الجديد، وطرقهم التحليلية، تبين أن هناك مجالاً مهماً للتحليل الديناميكي طويل الأمد الذي يفسر بصورة مركبة الجوانبَ التاريخية والسياسية والاجتماعية من المجتمع محل الدرس. ثانياً، إن فرضيات شومبيتر وهايك المعيارية تنسجم مع الأدلة الأخيرة التي تشير إلى أن الأداء الاقتصادي غير الكفء يتوافق مع التدخل الحكومي الواسع. ولذلك، فهناك القاعدة التي تملي ضرورة المحافظة على بيئة اقتصادية تساعد على الابتكارات التنظيمية. وأخيراً، فإن الفرضيات المعيارية وطرق التحليل لدى هؤلاء الاقتصاديين الثلاثة تثبت بأن الكُتاب التحليليين بوسعهم تجنب التحيز الخفي والأحكام القيمية الشخصية (وبالتالي التحليل الزاخر بالإيديولوجيا). ودون زعم الموضوعية والتجرد، يقدم ميردال وشومبيتر وهايك تحليلاً واستنتاجات مناسبة ومفيدة فكرياً أكثر من تلك التي يقدمها مهنيو الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. وإن الناس، الساعين للتغلب على هذه وغيرها من نواقص المنظور الكلاسيكي الجديد بتطوير نموذج جديد بديل لتحليل المشاكل الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين، يحسنون صنعاً بالرجوع لـ ميردال وشومبيتر وهايك، بين المساهمين المبدعين في علم الاقتصاد.
وفيما يخص مستقبل اقتصاديات ما بعد الشيوعية، درسَ روبرت جي. ماك انتير Robert J. McIntyre المحنة التي تواجه البلدان الشيوعية السابقة في مرحلة انتقالها العسير لتحرير الأسواق. وإذ ينتقد انتير المبادرات الكلاسيكية الجديدة- غريبة الطابع في البلدان الانتقالية، فإنه يرفض فرضية انسداد الطريق الثالث. كما أنه يستشهد أيضاً بالرأي العام الأخير، مشيراً إلى أن نوعاً جديداً من التسوية الاجتماعية ينبثق الآن مما قد يؤدي إلى مؤسسات اقتصادية تختلف بشكل متميز عن الرأسمالية الأوروبية.
إن رفض النظام الاقتصادي- السياسي من النمط السوفيتي قاد شريحة واسعة من المثقفين والمسئولين الحكوميين الجدد في أوروبا الوسطى والشرقية لاعتناق نسخة مؤدلجة بقوة، وليس لها أي أساس سياسي، من رأسمالية السوق الحرة. وهنا يشير انتير إلى أنه رغم أن صُناع القرار والخبراء الهامين في البلدان هذه كانوا يتحاورن فيما بينهم كخبراء كلاسيك جدد، فإن الكيان النظري الذي حملوه ليس هو المسئول عن الدمار الذي تسّببوا به، بل برنامجهم السياسي المرافق الخفي والمتأثر بالنظرية الكلاسيكية الجديدة.
ويستنتج انتير بأنه إلى الحد الذي تبقى فيه عملية بناء نظام جديد ذي توجه سوقي مفتوحة على التأثير السياسي المحلي (وإعادة التوجيه)، فسيكون من الهام مراقبتها. وحينما يكون للرأي المحلي تأثير قوي على عملية الخصخصة، فإن الواقع يتحول بعيداً عن فرضيات اقتصادييّ السوق الحرة الذي يهيمنون حالياً على عملية صنع القرار على مستوى البلاد. إن استطلاعات الرأي في أوروبا الشرقية لا تعكس غير اهتمام قليل بالأشكال البحتة للرأسمالية، بينما تشمل أدوات المسح أي خيار يتضمن الحماية الاجتماعية من النوع الذي كان قائماً في ظل النظام السابق. إن تفشي الفساد في سياسات الخصخصة والسْوقنة، التي تُنفذ في ظل القواعد المعمول بها، قد خلقَ مقاومة تتطلب أما التسوية النظامية أو القمع.
وإذا تيسرَ تحقيق البديل المأمول، فربما يظهر نوع جديد من التسوية الاجتماعية يتضمن خليطاً مؤسسياً يختلف عن الرأسمالية الأوروبية والكلاسيكية. وفي انسجام مع العقلانية الاقتصادية المعرَّفة بشكل صحيح، فإن تقييم نجاح النظام سوف يأخذ بالاعتبار تجهيز السلع غير الفردية وغير المادية.
إن انهيار "اقتصاد الفقاعة" الياباني قد أحدث انقلاباً هائلاً في منزلته العالية الأخيرة التي كان فيها اليابان معتبراً كبلد لا يُقهر. في الفصل الثالث عشر، يصف كوجي تايره Koji Taire المنطقَ الاقتصادي للنظام الياباني، وانطباع العالم عن اليابان، والتغيرات الجارية فيه، والمحن التي يلقيها التغير على منشأة الأعمال بالعلاقة مع الثقافة التقليدية في اليابان. ويشير تايره إلى أن التوتر الديناميكي بين أولئك الذين يرغبون بإعادة بناء الماضي وأولئك الذين يتخيلون اليابانَ كبلد جديد ينتمي للقرن الحادي والعشرين، سيتم حله عاجلاً وفقاً لما تمليه التوجهات الوطنية والدولية.
وفي استنتاجاته، يخلص تايره إلى أن اليابان في اضطراب عظيم في الوقت الحاضر، هذا إنْ لم نقل أكثر. فعصر قد انقضى، وآخر يبدأ. ومن المدهش أن هناك مؤشرات كثيرة، وفي جميع قطاعات الدولة والمجتمع والاقتصاد في اليابان، تتقارب لتأكيد نهاية عصر ما. لقد انهارت القواعد والسياسات والممارسات السابقة، ولابد من عمل شيء ما بالنسبة لها.
فالمجتمع الياباني يشيخ بسرعة مع ما يحمله ذلك من عبء أكثر في مجال الضمان الاجتماعي، ومدخرات أقل. كما يتقلص أكثر تكوين رأس المال المحلي، وإن النمو الاقتصادي المستديم لاقتصاد اليابان الناضج ربما يكون 3 % أو أقل في المدى البعيد. وستبقى المدخرات أكبر من تكوين رأس المال المحلي، وإن الفرق بينهما سوف يُصدر أو يُستثمر في الأصول أو الإنتاج الأجنبي. ومع توجه المزيد من الاستثمارات اليابانية للبلدان الأجنبية، فإن استثمارات أجنبية ستأتي لليابان بحيث تساعد اليابان، بدرجة أكبر، على تقبل الظهور العالمي. وفي الوقت نفسه، فإن الحد من التوجيه الحكومي سوف يساعد المنشآت والعاملين اليابانيين على الابتعاد عن الممارسات اليابانية "الفريدة" باتجاه الاستراتيجيات الناجحة. وفي الأخير، فإن اليابان سيصبح بلداً "عادياً"، يبدو ويتصرف على نحو شبيه بأي بلد صناعي آخر.
إن نمو العمليات العالمية للمنشآت اليابانية، سوية مع كون اليابان أكبر دولة مانحة لمساعدات التنمية الرسمية للبلدان النامية، قد أثار ذات مرة تكهنات واسعة الانتشار حول احتمال سيطرة اليابان على العالم. وهذه التكهنات كانت تقوم على فرضية بسيطة تقول بتحول القوة الاقتصادية إلى قيادة سياسية/ عسكرية. إن تاريخ اليابان السياسي والعسكري والدبلوماسي بعد الحرب العالمية الثانية لا يبين وجود هذا الارتباط. فاليابان، التي هي قوة اقتصادية، تبقى كقزم سياسي/ عسكري تعتمد كلياً تقريباً على الولايات المتحدة في فهم مشاكل السلم والأمن في شرق آسيا.
ومن الواضح أن نمو الصين هو القيد الأهم على دور اليابان في آسيا. ففي شرق آسيا، فإن الخط الرئيسي للاحتكاك الدولي هو بين الصين والحلف الأمريكي- الياباني. إذ أن السياسة الآسيوية للولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب الباردة تعتبر الصين كعدو رئيسي مما يضع اليابان في وضع صعب جداً. ومع أن اليابان توافق الولايات المتحدة على ما تعنيه الصين القوية بالنسبة للسلم والاستقرار في شرق آسيا، فإنها تعترف بحسن الجوار في علاقاتها الثنائية مع الصين.
ورغم مساعدات التنمية الكبيرة المقدمة للصين رسمياً من الحكومة اليابانية، والاستثمارات الواسعة للشركات اليابانية في الصين، فإن الصين ما تزال في وضع غير ملائم في مبادرات السياسة الدولية تجاه اليابان. ومع أن بلدان جنوب شرق آسيا ترحب أيضاً بالدور الياباني عبر التجارة والمساعدة والاستثمار، ولكنها غير متحمسة لعلاقاتها مع اليابان خارج رابطة بلدان آسيان (ASEAN). فمن ناحية، تضمر هذه البلدان لليابان الشكوكَ التي تعود لفترة الحرب العالمية الثانية. ومن ناحية أخرى، فهي تخشى استعداء الصين باصطفافها مع اليابان في ترتيبٍ سيبدو "كتطويق" للصين.
وإذا أخذنا هذه القيود الداخلية والخارجية كمعطيات، فإن الدور الأمثل لليابان في آسيا سوف يبقى موقف مَنْ يقدم يد العون (من الدرجة الثانية) للولايات المتحدة في التطور المستقبلي للعلاقات الأمريكية- الآسيوية وذلك بالاعتماد على سيناريو ترسمه الولايات المتحدة أساساً.
لقد ازدهرتْ الاقتصاديات الاسكندنافية- السويد والدانمارك والنرويج وفنلندا- لعقود في ظل الجمع الاقتصادي الفريد بين الأسواق الاقتصادية والسيطرة الديمقراطية. ولكن هذا النظام، أيضاً، تجري مراجعته. فيكتور بيستوف Victor Pestoff درسَ النظام الاسكندنافي لسنوات عدة. وفي الفصل الرابع عشر، يذهب بيستوف إلى أن الأسس الرئيسية " للديمقراطية المدنية" في السويد سليمة رغم الحاجة للتغيير. ويبين تحليله المستفيض أن نموذج المشروع الاجتماعي يقدم إطاراً قوياً لتأهيل العاملين. فهو عماد لأي تغير نظامي في مستقبل السويد ويمكنه أن يقدم بديلاً لدولة الرفاهية في كل أوروبا.
تعرضَ الاقتصاد السويدي لنقد متزايد على مدى سنوات عدة. تشمل أصول هذا النقد عوامل إيديولوجية وسياسية ومالية واقتصادية وجغرافية. ومع وجود هذه الأزمة، علاوة على عضوية السويد مؤخراً في الاتحاد الأوروبي واحتمال عضويتها في الاتحاد النقدي الأوروبي، يحق التساؤل فيما إذا ستتمكن دولة الرفاهية في السويد من البقاء والاستمرار وفيما إذا كان محتملاً بعد الآن وجود دولة رفاهية شاملة في بلد منفرد ضمن المجموعة.
تشير الشواهد والأدلة المقدَّمة هنا إلى أن الجواب على هذين السؤالين يمكن أن يكون إيجابياً، إذا ما أمكن إيجاد طرق ووسائل في السويد لتطوير النماذج التنظيمية لتعظيم تعزيز مشاركة العامل، وتعظيم تعزيز مشاركة المواطن في حصيلة الخدمات الاجتماعية.
الطريق لمعالجة شيء من التحديات التي تواجه دولة الرفاهية وإزالة ما تواجهها من تصاعد العجز الديمقراطي، يدعو إلى إحداث تغيير مثير وجذري للعلاقة بين الدولة ومواطنيها من خلال تطوير رفاهية اجتماعية على أساس المشاركة. وهذا الاقتراح مطروح هنا لتطوير "ديمقراطية مجتمع مدني".
يتجسد أحد المحاور المركزية لديمقراطية المجتمع المدني في إدراك أن الديمقراطية متفاعلة بطبيعتها. فهي تنمو حينما تكون محل ممارسة وتضمحل عند تركها هاجعة لفترة طويلة. ذلك أن مفهوم الديمقراطية المدنية يرتبط بفكرة رأس المال الاجتماعي. ومعظم صيغ رأس المال الاجتماعي، كالثقة مثلاً، هي "موارد أخلاقية" يزداد عرضها مع الاستخدام، وتؤول للنفاد بخلاف ذلك.
تهتم دولة الرفاهية الحديثة بالمساهمة في أربعة جوانب للحياة المعاصرة: المشاركة في العلاقات المرتبطة بالمؤسسات السياسية من خلال الانتخابات؛ والمشاركة في المؤسسات الاجتماعية؛ والمشاركة في تقرير حياة العمل؛ والمشاركة في مؤسسات المجتمع المدني- دعامة الديمقراطية.
ويمكن للمشاريع الاجتماعية والخدمات الاجتماعية التعاونية المساعدة في إثراء قيمة العمل بتعزيز الإدارة الذاتية التعاونية، وتحسين بيئة العمل بتوفير المِلاك العامل مع إشراف أكبر، ودعم اجتماعي، وتفاعل مديد مع الزبائن، وأيضاً من أجل دعم قدرات المواطنين كمنتجين مشاركين من خلال تعزيز الإدارة الذاتية التعاونية، نوعية خدمات أفضل، وبتكلفة أقل في الغالب، وأخيراً تطوير الديمقراطية المدنية.
إن القطاع الثالث والإدارة الذاتية التعاونية للخدمات الشخصية الاجتماعية ستوفر قاعدة أفضل وأكثر ديمومة لخلق المؤسسات لتسهيل تراكم رأس المال الاجتماعي. لقد تعززت القيم الاجتماعية المميزة من خلال خدمات الرعاية اليومية التعاونية في مجالات عديدة، على المستوى المحلي وعلى المستوى المؤسسي، وتطورت التعاونيات في السنوات الأخيرة على مستوى كافة مناطق السويد والدول الأوروبية.
ويتوقع بيستوف من المشروعات الاجتماعية والخدمات الاجتماعية التعاونية أن تكون قادرة على المساعدة في تجديد القطاع العام بتحويل خدماتها الاجتماعية إلى القطاع الثالث باتجاه تطوير نموذج جديد لدولة الرفاهية وتوفير مساحة أكبر لمساهمة المواطن كمستخِّدم ومنتج للخدمات الاجتماعية. وهكذا يمكن للمجتمع التحول نحو مجتمع الرفاهية المشاركة. وإذا ما تعززت القيم الاجتماعية في إطار المشروعات الاجتماعية والخدمات الاجتماعية التعاونية، فإنها سوف تكتسب اعترافاً واسعاً في البحث العلمي الاجتماعي السويدي وفي المناقشات العامة. وقد تُشكل مشهد القرن الحادي والعشرين. وإذا لم يتم تجديد حياة دولة الرفاهية بتوسيع المجال لمشاركة المواطنين وتعزيز المشروعات الاجتماعية والخدمات الاجتماعية التعاونية والديمقراطية المدنية، فإنها ستصبح، وفي وقت قريب جداً، مجرد ذكريات تاريخية من الماضي. ففي غياب وجود تصور لتجديد حياة وتطوير دولة الرفاهية؛ بدون تطوير مجتمع رفاهية مشاركة جديدة؛ بدون مشاركة أكبر للعامل في إنتاج الخدمات الاجتماعية؛ وبدون تنمية الديمقراطية المدنية، ستبقى دولة الرفاهية الشاملة الحالية تواجه الانهيار بصورة جدية.
أطلقَ تقدم الأسواق الحرة منافسةً عالمية شديدة بحيث أخذت الأجور والإعانات تتراجع في الاقتصاديات المتقدمة، وإن مشروعات إعادة البناء الاقتصادي تقود إلى التسريح، حتى بين المديرين والمتخصصين. وقد أجبر نفس هذا الضغط التنافسي الحكوماتَ في مختلف بلدان العالم على تفكيك العديد من برامج الرفاهية. في الفصل الخامس عشر، يحاول مارك أ. لوتز Mark A. Lutz، وهو اقتصادي متخصص في حقل "الاقتصاد البشري"، تقديم الأساس المنطقي في سياق مراجعة ناقدة لمفاهيم علم الاقتصاد، وكيف أن هذه المراجعة قد تساعد على حل القضايا الصعبة التي تواجهنا جميعاً ونحن نلج القرن الحادي والعشرين.
يقدم لوتز تحليله من منظور "رؤيا إنسانية"، وهو أسلوب يثير الاهتمام بالإنسان باعتباره محور المرحلة. وهذا المنظور ابتدعه سيسموندي Swiss J. C. Sismondi في العقود المبكرة من القرن التاسع عشر.
تأصلَ الانحراف الاجتماعي في أيام سيسموندي في ثلاثة تطورات جديدة متداخلة. التفاوت (أو عدم المساواة)، والفقر، وغياب الضمان (أو عدم التأكد) من المستقبل. وقد ركز سيسموندي على عدم التماثل في قوة المساومة بين الطبقتين: طبقة المالكين وطبقة العاملين. وبحسب سيسموندي، هناك عنصران رئيسان كانا مسئولين عن الاضطرابات الاجتماعية العنيفة لتلك الأيام. الأول، فصل العمل عن الملكية. والثاني هو بناء نظرية التوازن الجامدة والتجريدية التي عملت أكثر باعتبارها مسكِّنا اجتماعياً. وطالبَ سيسموندي بدمج رأس المال والعمل، وبناء اقتصاد سياسي جديد يركز أكثر على رفاهية الإنسان بدلاً من الثروة الوطنية.
وفي الوقت الحاضر، نواجه مرة أخرى نوعاً من التحول الاقتصادي ناجم إلى حد بعيد عن سقوط الشيوعية، فاتحاً العالم كله لقوى السوق الحرة تحت مظهر العولمة: اندماج التجارة، والتمويل، ومعلومات تخلق السوق العالمية والثقافة. وكما كان الحال في أيام سيسموندي، يتجذر أصل المشكلة في التشبث كثيراً بنظرية تجريدية تستند إلى فرضيات غير حقيقية لاقتصاديين يرون صورة مشوهة وزائفة في سياق افتراضهم بأن المنافسة العالمية لا يمكن أن تقود إلى أي خطأ. وهنا يناقش لوتز بعمق وجه الإشكالية التي تفسد نظرية الاقتصاد العالمي المعاصر.
يبدو أن جوهر التطورات العالمية هو تفويض السلطة للشركات وسحبها من المجتمع. ومن الواضح أن التهديد الفعلي بنقل العمليات إلى الخارج قد أضعفَ قوة مساومة العمل. كما أن الشركات المتحررة من القيود أضعفت، أيضاً، قدرة الحكومة على فرض الضرائب، ومن ثم قدرتها على ضمان تمويل سياسة رفاهية الدولة. وباختصار، تخلق العولمة نوعاً من "إنسان جديد" يشبه ذاك الذي تفترضه النظرية الاقتصادية: يتصف بالرشد الوهمي، وحريص على مصلحته الشخصية، حذر/ أناني، غير قادر على إدراك جوهر الحقيقة أو النبل أو السمو الإنساني. والأرجح هو أن العولمةُ تفتح الطريقَ لمزيد من التوجه المادي والعملية التجارية، وهذه ليست هي حلم البشرية قط.
مصيبة أخرى تنجم عن قوة الشركات في عالم الميزة المطلقة في التجارة الدولية تتمثل في البيئة العالمية ومعها مستقبل الأجيال القادمة. وكما في معايير العمل، تخلق التجارة ضغطاً باتجاه تقليل حماية البيئة. ومرة أخرى، إنه التهديد بنقل النشاط الإنتاجي إلى الخارج، مؤدياً إلى جعل الحكومة غير متحمسة لإصدار قوانين بيئية جديدة.
وبالنتيجة، يبدو أن المسألة حالياً ليست أكثر من كون الشمال ضد الجنوب، بل الأصح، وكما في أيام سيسموندي، العمل ضد رأس المال. ويبدو أن منطق العولمة يشير إلى انحطاط كلي للميزان العالمي لكل من البشرية والبيئة في كل من الدول الصناعية والدول النامية المتجهة نحو المرحلة الصناعية. ويخلص لوتز، من وجهة نظر إنسانية، إلى الحاجة إلى ثلاثة إصلاحات تشمل المؤسسات السياسية، والمؤسسات الاقتصادية، وأخيراً، إصلاح علم الاقتصاد.
تضمر المجتمعات اللبرالية في العالم الغربي تناقضاً داخلياً مفاده أن الديمقراطية السياسية والحرية الاقتصادية غالباً ما تدخل في توتر غير مريح. الديمقراطية تقوم على مبدأ "فرد واحد، صوت واحد" وتعكس السياسة الاجتماعية فكرة "العدل والمساواة للجميع". بينما تخصص الرأسمالية "الأصوات الاقتصادية" بصورة غير متساوية، وتدعم المؤسسات الاقتصادية التي تعزز عدم المساواة. ومن بين الحلول الجيدة الكثيرة التي تم اقتراحها لحل هذه المحنة، فإن خطة ملكية رأس المال الشامل قد تكون أكثرها طموحا.
في الفصل السادس عشر، يصف كينث ب. تايلر Keneth B. Taylor تقليد الرأسمالية الشاملة في الولايات المتحدة وتاريخ هذه الخطة. ويخلص إلى أفكار معينة عن الاتجاهات القائمة وما يمكن القيام به بالنسبة للتناقض بين الرأسمالية والديمقراطية في المستقبل.
استندت الثورة الأمريكية على مفاهيم ليبرالية وأسفرت عن الدعوة إلى الحرية السياسية والتحرر من الاستغلال الاقتصادي. يتابع هذا الفصل مسيرة الأفكار المؤيدة لشيء من إطار الرأسمالية العالمية في أمريكا منذ القرن الثامن عشر لغاية أواخر القرن العشرين. ثم يفحص بإيجاز القوى الاقتصادية الاجتماعية التي تشكل الفترة المبكرة للقرن الحادي والعشرين وتنعكس على احتمالات قيام حركة جادة باتجاه المزيد من الاقتصاد الديمقراطي.
مع حلول القرن التاسع عشر، جرى بناء الرأسمالية العالمية بدعم من الدستور وظهر أنها تقوم بتوليد عناصر شاملة لمجتمع ديمقراطي. وخلال العقود الثلاثة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، اختلطت السياسة المدافعة عن تعزيز الرأسمالية العالمية مع الأفكار الاشتراكية والشيوعية. ولسوء الحظ، فإن المشهد الأمريكي للديمقراطية الاقتصادية صار مدفوناً تحت تدفق الحماسة الوطنية وعدم الثقة التي تولدت نتيجة الحرب الباردة.
صار معروفاً الآن بشكل جيد أنه ما بين العام 1973 والعام 1995 ارتفع الناتج الحقيقي الإجمالي بنسبة 36 % بينما الأجور الحقيقية لساعة عمل العاملين من غير المشرفين انخفضت بمقدار 14 % لنفس الفترة. ما هو فريد بالنسبة لهذه الحقيقة أنها تشير للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة إلى تحرك معدلات حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي GDP والأجور الحقيقية لغالبية الأمريكان باتجاهين متعاكسين. ما هو تفسير هذا الأمر الذي يبدو وكأنه تناقض؟ يناقش تايلر هنا عوامل عديدة لأسباب هذه الزيادة في تفاوت توزيع الدخل وتغيرها الهيكلي.
لماذا لم يحقق الرأي العام الأمريكي صوتاً جماعياً في واشنطن في أعقاب البزوغ القوي للشركات ذات القدرات التقنية؟ أولاً، إن سقوط الشيوعية أنهى الخوف من "الانجراف نحو الاشتراكية" وأضعف الحوافز الحكومية لتقليص التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. ثانياً، إن وسائل الإعلام تلهي وتربك الأمريكان من خلال تحريف قدراتهم على فهم المسائل الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية القائمة. وهنا يصرخ تايلر بقوله: "إذا كان الدين أفيون الشعوب في القرن التاسع عشر، فإن الإعلام الإلكتروني هو أفيون الشعوب في أواخر القرن العشرين".
ثمة علماء كثر يدركون وجود مجموعة من القوى من شأنها دفع الاقتصاديات بعيداً عن الرأسمالية المتوحشة- رأسمالية البقاء للأفضل- وباتجاه يشجع الرفاهية الاجتماعية الأوسع. في الفصل السابع عشر، درسَ سيفيرن ت. برون Severyn T. Bruyn بصورة موسعة الأسسَ التي تميّز جميع الأنظمة الاقتصادية، وعملَ مؤخراً مع الأمم المتحدة لتطوير المفاهيم اللازمة لتشكيل المجتمعات المدنية الاقتصادية في الأقاليم والعالم برمته. ويقدم نظراته لمفهوم المؤسسات الاقتصادية القائمة على المجتمعات المحلية. إذ يصف برون تصوره لمنطق "القطاع الثالث"- المجتمع المدني- من منظور دولي، مع تقديم أمثلة غزيرة. وهو يخلص إلى أن عناصر مفهوم "الرأسمالية لجميع المتعاملين" stakeholder capitalism تتقارب بطريقة ما بحيث تعزز تطور الاقتصاديات المدنية في القرن الحادي والعشرين.
يخص هذا الفصل المجموعات المحلية، ومركزة القوة والسلطة وبناء المجتمع المدني. ويدرس كيف أن بعض الشركات تلغي مركزية العمليات لتصبح مسئولة أكثر أمام الناس والمؤسسات المحلية. ويراجع هذا الفصل، من خلال أمثلة من تجارب قائمة، هذه الاتجاهات بالعلاقة مع الحركة التعاونية المستمرة بالنمو بشكل هادئ في الحاضنة الرأسمالية.
تبرز خلطة جديدة من التعاون والتنافس في الإطار الرأسمالي. ويترتب على ذلك أن النماذج البحثية ينبغي أن تكرس جهودها لتناول كيفية قيام الاقتصاد، داخل العولمة، بإلغاء المركزية وسط كل عوامل المركزة.
يتطور المجتمع المحلي من خلال الروابط المحلية- منظمات سياسية محلية، نوادِ اجتماعية، مؤسسات غير ربحية، روابط دينية مدنية، مشروعات تجارية صغيرة. هناك اتفاق حيوي بأن أعضاء الروابط يصنعون قراراتهم من خلال التوافق الشخصي، والإجماع، ومبدأ صوت واحد لكل عضو. إنه نظام غير مركزي، رابطة تعاونية، يجسّد صورة المجتمع المدني، حيث تنتشر الحركات الموَّجهة مدنياً حول العالم. وتعمل الحركات المدنية على بناء مجتمع مختلف مع وأبعد من الأسواق والحكومات التقليدية.
بدأت اللحظات التي يتشكل فيها القطاع الثالث بالبزوغ. فهو ينبثق وسطاً بين نشاط الأعمال والحكومة. تعتبر المنظمات غير الحكومية جزءً من هذه الحركة العالمية الواسعة. وهي تسمى بالقطاع الثالث لأن نشاطات الأعمال التقليدية قد اُستبعدت منها. يتحقق المجتمع المدني عندما يتجه الناس نحو تأكيد التعاونية والاعتماد على النفس. وتعتمد التعاونيات على قيم المساعدة الذاتية، والمسئولية الذاتية، والديمقراطية، والمساواة، والعدل، والتكافل. وفي سياق قيم مؤسسيها، يعتقد أعضاء التعاونية بالقيم الأخلاقية للأمانة، والشفافية، والمسئولية الاجتماعية، والاهتمام بالآخرين.
ويقدم برون أمثلة عديدة على حركات القطاع الثالث- المجتمع المدني- وإنجازاتها الذاتية تجاه مجتمعاتها، وبخاصة الفئات الأضعف، كما في كراشي (باكستان)، وأحمد آباد (الهند)، وسريلانكا، وماليزيا، والسنغال، والفيليبين، والمكسيك، وأكوادور، والبرازيل، وكولومبيا، وكينيا، واليابان، علاوة على الدول الغربية.
هناك اتجاه متزايد للمديرين التنفيذيين الرئيسيين CEOs في الشركات الكبيرة لتسليم السلطة الرسمية لمديريّ الأقسام الأدنى. يقوم هؤلاء المديرون حالياً بإعادة تنظيم شركاتهم باتجاه إنشاء مراكز ربحية، وتشجيع المنافسة والتعاون بين هذه المراكز. كما تم تشجيع المراكز على بناء أسواق تحالفات داخل وخارج المنشأة. ومن الناحية النظرية، فإن نقل القيادة البيروقراطية إلى الفيدراليات الديمقراطية للشركات تقلل احتمال تعرض المجتمعات المحلية للتدمير.
أصبحت أشكال الترابط والتمازج الجديدة بين القطاعات الربحية وغير الربحية مسألة ظاهرة، مؤدية إلى تغيير ساحة السوق، وتتطلب البحث. يساهم نشاط الأعمال بخلق رأس المال في النشاط غير الربحي كما في الجامعات والمنظمات غير الحكومية، والتأثير في السياسات. كما تضافرتْ قوى المعاهد الدينية ونشاطات الأعمال لإزالة الأحياء الفقيرة ببناء مساكن من قبل نشاط الأعمال، مقابل قيام الكنائس ببرامج التدريب لتثقيف مالكي السكن الجدد. ويتحرك القطاعان نحو مزيد من التقارب مع اتجاه أهدافهما الاجتماعية والاقتصادية للالتحام بدرجة أكبر في التطبيق اليومي. تتجه المشاركة بين المؤسسات الربحية وغير الربحية لتصبح مُركّبة من الناحية المالية والقيم الإنسانية وبطريقة يمكن أن تخلق اقتصاداً موجهاً نحو المجتمع المحلي بدرجة أكبر.
وأخيراً، تنتهي هذه الدراسة التحليلية إلى خمسة استنتاجات رئيسية:
الاستنتاج الأول: يحتمل أن تتكامل اقتصاديات القرن الحادي والعشرين من خلال شبكات المعلومات الرفيعة وتتحول إلى اقتصاد عالمي موحد من نوع ما.
الاستنتاج الثاني: يمكن أن تشهد اقتصاديات القرن الحادي والعشرين المزيد من سياسة الحد من التوجيه (أو التدخل الحكومي)، وإلى درجة تقترب فيها أنظمة الأسواق من حالة المنافسة الكاملة.
الاستنتاج الثالث: إن الهدم البنّاء، الناجم عن الانتقال إلى اقتصاد عالمي يقوم على المعرفة، سوف يستمر بخلق الفوضى الاجتماعية إلى أن يتم تعريف ايديولوجيات جديدة للنظام الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين.
الاستنتاج الرابع: المنشآت في القرن الحادي والعشرين قد تتشكل كأنظمة مشروع داخلي وذلك لإدارة التعقد، كما أنها ستوِّحد أيضاً مختلف الأطراف المعنية في تحالفات رفيعة، وتزيد من القيمة الاقتصادية.
الاستنتاج الخامس: على المدى الأطول 10- 50 سنة قد تُطوِّر اقتصاديات القرن الحادي والعشرين أسساً إيديولوجية جديدة، تُجسد درجات متغيرة من سلوك السوق الحرة والتماسك الاجتماعي معاً ضمن سياق غرض وقيم ومعنى أرفع على الجانب الآخر من الألفية الجديدة.
ومن المفيد الإشارة إلى أن الهوامش التي تحمل العلامة  تعود للمترجمَين، وهي ليست جزءً من الكتاب نفسه، وقُصدَ بها المزيد من توضيح بعض المفاهيم والأسماء والأحداث للقراء. والعلامة تغني عن تكرار القول، في كل هامش، بأن الهامش يعود للمترجمَين.
وأخيراً، يشكر المترجمان السيد توم بيرسون Thom Pearson (بريطانيا) لما قدّمه من مساعدة أثناء ترجمة الكتاب.
وختاماً، وبغض النظر عن شكليات إصدار هذا الكتاب، تقتضي الأمانة العلمية التأكيد هنا بأن هذا الجهد المتواضع، ترجمةً ومراجعةً، هو حصيلة عمل ثنائي مشترك بيننا، وعليه اقتضى التنويه.


الدكتور حسن عبد الله بدر الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد






















تمهيد
روبرت م. سولو
الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، معهد ماساشيوستس للتكنولوجيا

قد يمثل المقتطفُ التالي أكثر ما يجري الاستشهاد به، بين ما كتبتُ: "ربما تشاهدْ ثورة الحاسوب في كل مكان عدا حقل إحصاءات الإنتاجية". وقد كان ذلك صحيحاً، ومعَّللاً جيداً، حينما كتبته قبل عقد من الزمن؛ والمضحك أنه ما يزال صحيحاً. فالفترة التي جرى فيها إدخال وشيوع تكنولوجيا المعلومات IT هي فترة النمو البطيء في الإنتاجية على المستوى الوطني. ومهما فَعلَ الحاسوب، فإنه لم يجعلنا أفضل بشكل مثير في مجال إنتاج السلع والخدمات القابلة للتسويق. واعتقادي هو أن هذا اللغز لا يمكن تفسيره فقط بصعوبة قياس الناتج الحقيقي للصناعات الخدمية الحديثة الذي تأثرت نوعيته، مع أن الصعوبة تكمن هناك بدون شك.
إن الحاجة لحل ذلك اللغز- إذا كان ذلك لغزاً حقاً- قد أدت إلى ظهور الصناعة المنزلية الصغيرة small cottage industry. ولابد أن يكون هناك شيء من الحقيقة في بعض التفسيرات التي قُدمت. وقد ذكرتُ بالفعل اللجوء إلى سوء القياس (ليس فقط سوء القياس، بل التحيز الكبير). والتفسير المرشح الآخر هو أن الصناعة ما تزال تتلمس طريقها وتتعلم من استعمال تكنولوجيا المعلومات، وإن أفضل النتائج من ذلك لم تأتِ بعد. فمن يدري؟ وثمة تفسيرات أخرى. ومن شأن المزيد من المعلومات والتحليل أن تخبرنا، أخيراً وبدون شك، عن المزيد عما جرى وما يزال يجري. إن الإيحاء المعقول الذي أريد طرحه هنا- وهذا الكتاب في ذهني- هو أن الإنتاجية الصناعية قد لا تكون هي القضية المركزية الصحيحة. صحيح أن تكنولوجيا الحاسوب تلعب دوراً ما في الإنتاج. ولكن النتائج الهامة والمثيرة للاهتمام حقاً لثورة الحاسوب ربما لا تتعلق بتكنولوجيا الإنتاج رغم كل شيء، بل بمكان ما آخر من الاقتصاد والمجتمع.
إن إلقاء نظرة فاحصة على عناوين الفصول في هذا الكتاب لا تبين وجود تركيز على تفاصيل عملية الإنتاج. وبدلاً من ذلك، فإن ما يجده هؤلاء الكُتاب مثيراً للاهتمام هو التغيرات، التي تحفزها تكنولوجيا المعلومات IT، في الطريقة التي يجري بها تنظيم المنشآت والصناعات والاقتصاديات والحكومات، وكيف ترتبط الواحدة منها بالأخرى ضمن المسائل التي ذكرتها تواً. فيمكن للمرء بسهولة أن يرى كيف أن الحاسوب ومتعلقاته من تكنولوجيا المعلومات IT قد أتاح أو تطلْب تغيرات كبيرة في الطريقة التي تتشكل بها المنشآت والطريقة التي تعمل بها. وهذا كاف بالتأكيد لتغيير حياة الأفراد المنخرطين في تلك المنشآت- أي بالضبط بالنسبة لنا جميعاً. ولكن ليس للأمر صلة قوية بالناتج الحقيقي في الساعة الواحدة real output per hour، حينما يحمل "الناتج" معناه الاعتيادي. وهذا يمكن أن يكون طريقة مختلفة تماماً لحل لغز الحاسوب: فإذا ألقيتَ نظرة على الجانب الخاطئ، فقد لا تجد أي شيء.
ومع ذلك، فهذه ليست هي نهاية القضية، ما لم تكنْ نظرتك ضيقة جداً لنطاق التفكير الاقتصادي. وإذا أخذنا بالمثال الأكثر مباشرة، فمن المؤكد أن تكنولوجيا المعلومات الحديثة تُغيّر أهمية المسافة البحتة في الحياة الاقتصادية. وهذا التغير هو الأقوى سويةً مع التغير في السلع والخدمات. وفي ما يسميه صديق لي ‘الاقتصاد غير الهام’ weightless economy، فإن المسافات بين الزملاء، بين المورّدين ومَنْ يستعمل الموارد، بين واجهة المكتب ومؤخرته، كلها تهم بدرجة أقل من المعتاد. وهذه عبارة لا تثير غير الدهشة ما لم تقترن بمزيد من التحليل. ولكن التحليل متواصل، كما تشهد على ذلك فصول هذا الكتاب.
وإذا كان بوسعي متابعة هذه النقطة أكثر قليلاً، فإن تقليل المسافة يُتوقع أن يؤثر ليس فقط على موقع النشاط الاقتصادي (وغيره)، بل على اقتصاد التكتل agglomeration، أو تشابك clustering المنشآت والمستخدَمين فيها. فبعض العوامل التي تساعد على التكتل ربما أضعفتها تكنولوجيا المعلومات: فمن الممكن، ولو ليس من المؤكد، مثلاً، أن الحاجة للعلاقات المباشرة وجهاً لوجه بين البائعين والمشترين، أو بين مبدّعي الأفكار ومن يطبقها، يمكن استبدالها بالعلاقات بين شاشات الحاسوب. ومن الناحية الأخرى، فإذا أصبح التكتل العمودي أقل أهميةً، لأن المعلومات وليس الأشياء هي التي يلزم أن تتصدر السلسلة، فإن المواقع ذات الميزة النسبية من العمل بمؤخرة المكتب، أو إنتاج البرمجيات software production، أو الكتابات النثرية prose-writing، هي التي تجتذب مجموعات أكبر من المنشآت المنخرطة في تلك النشاطات، حتى إذا كانت لديها صلات مختلفة. وقد سمعت بأن مالاكا Malaga في أسبانيا قد باتت، لذلك السبب فقط، مركزاً كبيراً للاستخدام.
إن طبيعة العوائد (أو الغلة) بالنسبة للحجم returns to scale هي الموضوع الهام الآخر من علم الاقتصاد، والمرتبط ارتباطاً وثيقاً، وقد يحتاج إلى إعادة نظر في ضوء تكنولوجيا المعلومات. والتفكير النظري Armchair reflection ليس بمنأى عنا؛ فهناك طرق واضحة يمكن فيها للحاسوب أن يتحيز باتجاه تخفيض أو زيادة العائد بالنسبة للحجم، ولا ينبغي للجواب أن يكون هو نفسه في كل فرع من النشاط الاقتصادي. وهذا موضوع هام بالنسبة لاقتصاد الاحتكار والمنافسة، وبالتالي بالنسبة لوضع السياسة الاقتصادية.
ومن محتويات هذا الكتاب، يتضح بأن تكنولوجيا المعلومات IT تثير أسئلة، عن أداء المؤسسات الاجتماعية والسياسية، تتجاوز حدود علم الاقتصاد، كما يمُارس هذا النظام الفكري اليوم. وإذا أمكن الرد على تلك الأسئلة، فإن بعض المضامين بالنسبة للتغير المؤسسي سيكون لها نتائج أبعد على الاقتصاد economy وبالتالي على علم الاقتصادeconomics. قد تكون هناك مفاجآت. وكما يعلّمنا لغز الإنتاجية، فإن الأهمية الاقتصادية لابتكار تكنولوجي معين ليس دائماً ترتبط بقوة مع قيمة الهزة لذلك الابتكار نفسه. ولكن ذلك مجرد مبرر آخر لمواصلة التحليل على كل الجبهات الفكرية.















مقدمة: الانتقال إلى اقتصاد المعلومات العالمي
وليم إي. هلال (و) كينث ب. تايلر
William E. Halal and Kenneth B. Taylor

كلما يقترب القرن الحادي والعشرين، يتضح أكثر أن الحياة الاقتصادية ستكون مختلفة في الجانب الآخر من الألفية الجديدة. فالشيوعية قد انهارت، و تظهر بنى جديدة للأعمال corporate structures باستمرار، وأن الحكومة " يُعاد تكوينها"، و تُولد صناعات جديدة تماماً، وأن العالم يتوحد ضمن سوق عالمي تحكمه قواعد المعرفة.
وهذا الكتاب، اقتصاد القرن الحادي والعشرين Twenty-First Century Economics، قد صُمّم لمساعدة العلماء، والطلبة، وواضعي السياسة الاقتصادية، على توفير فهم أفضل لما في عالم اليوم من تغير اقتصادي كبير. وقد جمعَ محررا الكتاب مجموعة من العلماء البارزين لتقديم تحليلات قيّمة للعوامل القوية التي تشكل الأنظمة الاقتصادية حالياً ولتخمين الموقع الذي تقود إليه هذه الاتجاهات.
إن مبدئنا الهادي هو أن هذا الجيشان ينشأ أساساً عن انتقال تاريخي بين حقبتين. فثورة المعلومات الحالية تخلق أنظمة جديدة للاقتصاد السياسي، تماماً كما خلقتْ الثورةُ الصناعية الأنظمةَ القديمة التي تتحول الآن. فلأول مرة في التاريخ، يجري تنظيم الشؤون الاقتصادية سعياً وراء المعرفة. فبعد صراع طويل لتطوير الزراعة، والصناعة، والخدمات، فإن السيطرة على استعمال المعرفة تَعْد بتحسينات هائلة في حياة الإنسان، مثلما تخلق تحديات ضخمة بنفس الدرجة.
ولفهم الطبيعة الثورية حقاً لهذا الانتقال، تأملْ بضع حقائق عامة من شأنها أن تلخص القوى التي أطلقتها التحسينات في تكنولوجيا الحاسوب. إن قدرتنا على معالجة المعلومات، خلال العقود القليلة الماضية، قد تضاعفت بمعامل يبلغ مليون واحد تقريباً، ومن المحتمل أن نشهد زيادة مليونية أخرى خلال العقود القليلة القادمة(1). إن هذه القوة الجديدة لإدارة المعرفة تقوم بإعادة تنظيم البنى الاقتصادية بحيث تتيح زيادات هائلة في الإنتاجية، وإزالة العمل الروتيني غير الضروري، وخلق قنوات أكثر مباشرة للتوزيع، وتشجيع الإنتاج من السلع والخدمات ذات النوعية العالية، وافتتاح أسواق ضخمة جديدة، وتسهيل العمليات العالمية في كل الأعمال تقريباً.
كما تمارس ثورة المعلومات تأثيراً مضاعفاً لأن هذه القدرة المتزايدة على اكتساب المعرفة تعّجل بالتقدم العلمي. وهذا يفسر إلى حد بعيد لماذا نشهد فتوحات تاريخية في كل الحقول. فعلم الوراثة الحيوي، مثلاً، قد يحقق قريباً السيطرة على العمليات الحياتية، تماماً مثلما تتيح العلومُ الطبيعية الآن القدرة على إنتاج القنابل الهدروجينية واستكشاف الفضاء.
وباختصار، فإن أساساً تكنولوجياً أرفع يجري تشييده للاقتصاديات، وهو يعمل على تحريرنا من قيودنا القديمة. إن نشوء هذه الشبكة القوية والعالمية للمعلومات يمكن تصورها، مجازاً، كنمو في ‘النظام العصبي المركزي’ بالنسبة للكرة الأرضية من شأنه تسهيل عمل مجتمعات المعرفة الحديثة.
ورغم أن آفاق اقتصاد المعرفة يمتلك طاقات كامنة هائلة وقد يكون مثيراً من الناحية الفكرية، فإنه يثير بنفس الدرجة مجموعة غير مسبوقة من التحديات، تتناولها أيضاً الفصول التالية. إن المطالبات بالمحافظة على البيئة سوف تستلزم درجة غير مألوفة من الابتكار في الأنظمة التكنولوجية والممارسات الاقتصادية. ويبزغ الآن نظام اجتماعي أكثر تعقداً وتنوعاً تنبغي إدارته بأنظمة أرفع للاقتصاد السياسي. وإن الاصطفاف الاقتصادي، والمنافسة الشديدة، والدعم الحكومي الأقل، ستتطلب مؤسسات جديدة من أجل المحافظة على النظام المدني.
وسوف تفرض التغيرات الديموغرافية سلسلة صعبة بشكل خاص من التحديات بالنسبة لبلدان أساسية. فمن الآن وحتى العام 2030، فإن أكثر من 70% من الزيادة في سكان العالم ستكون في البلدان الأقل نمواً. وتتسارع الهجرة من هذه الأجزاء من العالم، وهو اتجاه يُرجح استمراره في النصف الأول من القرن القادم(2). إن الغالبية العظمى من طالبي الهجرة إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD هم فقراء وغير ماهرين معاً. وتأتي هذه الهجرة في وقت تقوم فيه الكثير من المنشآت في دول OECD بنقل الإنتاج إلى الخارج للاستفادة من تدني الأجور هناك. وهذه الاتجاهات تشكل تحدياً للحكومات في دول OECD لكي تتعامل بشكل خلاّق مع التوترات الاجتماعية- السياسية والتمزقات الاقتصادية التي تسببّها الحركات غير المسبوقة في السكان والإنتاج.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن نسبة كبار السن في مجموع السكان في دول OECD تتزايد. وهذا الاتجاه من شأنه خلق مشاكل اجتماعية أخرى، على فرض استمرار مؤسسات الرفاهية الاجتماعية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وقوة التصويت المتزايدة لدى كبار السن، والعجز الحكومي ومستويات الدَين الكبيرة في تلك الدول. إن ارتفاع سعر الفائدة وتناقص الاستثمار وتباطؤ النمو الاقتصادي هي النتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك الوضع.
وقد قامت أسواق المال بالفعل بمعاقبة الحكومات المسرفة التي تنفق من خلال دفع أسعار الفائدة على الدَين العام للارتفاع في تلك الدول غير المسئولة مالياً أكثر من غيرها(3).
وتوحي أفضل التوقعات المتوفرة أن عملية الانتقال هذه سوف تكتمل في عقد أو عقدين، رافعةً الأنظمة الاقتصادية القائمة إلى أساس أعلى ولكن أكثر صعوبة لم يتيسر لأحدٍ فهمه حقاً لحد الآن. إن الغاية من هذا الكتاب يمكن فهمها على أفضل وجه على أنها محاولة علمية هدفها أن تستوضح، قدر المستطاع، الكثير من حالة عدم اليقين هذه.
الكتاب يتكون من ثلاثة أجزاء. أولا، نقوم باستكشاف القوى التي تحّرك التغير الاقتصادي؛ ثم نبين الآثار الاقتصادية الجزئية على بنية وسلوك منشآت الأعمال. وأخيراً، نفحص الأنظمة الجديدة، الناشئة، للاقتصاد السياسي.

الجزء الأول: القوى التي تشكل النظام الاقتصادي
إن الاستعمال الإلكتروني لتكنولوجيا المعلومات، والانتقال على النطاق العالمي للأسواق الحرة، والتعطش الواعي للتحديث، والقوى الأخرى المؤثرة للعولمة تقوم كلها بخلق أحد أكثر الاتجاهات إثارةً في عصرنا - توحيد العالم المتنوع في كلٍ متماسك. وإذ يتحرك رأس المال، والمعلومات، والتكنولوجيا، والأفراد، عبر الحدود، فإن هذه العملية التوحيدية تقوم الآن بدمج أوروبا الغربية والشرقية في مجتمع اقتصادي واحد، وإزالة الحواجز الاقتصادية بين بلدان القارة الأمريكية، وتكوين حوض الباسيفيك الديناميكي. وعاجلاً أم آجلاً، قد تدمج هذه القوى نفسها التكتلات الاقتصادية مع بعضها لخلق تجارة مفتوحة بين معظم الدول، وأسواق نامية ضخمة جديدة، وشكل ما للحكم العالمي.
وتثير هذه الاتجاهات أسئلة حاسمة عن طبيعة الحياة الاقتصادية في المستقبل(4). ما هي الأشياء المشابهة التي يمكن استخلاصها من الثورة الصناعية لرسم خطوط ثورة المعرفة؟ وفي أي طرقٍ ينبغي للنظام العالمي الجديد أن يكون مجرد توسع للأنماط الاقتصادية والسياسية السابقة، وفي أي طرق يختلف عنها؟ وما هي أهمية هذا الرافد العميق في التاريخ؟
وهناك خمسة فصول، كتبها علماء بارزون، تقّدم تصورات أكاديمية متنوعة تمتد من الاقتصاد، إلى الجغرافية، والاجتماع، حيث يركز كل واحد من هذه العلوم على كيف أن كل مجموعة محددة من القوى تنتج بعداً متميزاً من التغير الاقتصادي.
أبعاد التغير
ثمة إرباك مبرر لدى المراقبين لأننا نلاحظ تحولاً متعدد الأبعاد يقود إلى اتجاهات مختلفة، ومتناقضة في الغالب. في الفصل الأول، يصف ارنست سترنبيرغ Ernest Sternberg التحول الجاري، ويعّرف الإمكانات الاقتصادية المتعددة في القرن الحادي والعشرين. ويجد سترنبيرغ بأن الرأسمالية هي عملية ديناميكية وتطورية، عملتْ على توجيه ليس فقط التغير الاقتصادي بل، وبدرجة متزايدة، الأبعاد الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والشخصية، للمجتمع. وهو يدعو إلى طرح علم اقتصاد جديد، تفسيري، يمكّننا من التأثير على التحديات والفرص الاقتصادية المتعددة.
الواقع الجغرافي- الاقتصادي الجديد
لقد خفّضت الثورة التكنولوجية، الناشئة من تتابع الابتكارات الجزئية، وتكاليف المعاملات إلى مستويات تتيح عمل أي شيء في أي مكان ومن ثم بيعه في أي مكان من العالم. في الفصل الثاني، يسلّم بيتر ديكن Peter Dicken، بهذا التأثير الثوري لتكنولوجيا الاتصالات، ولكنه يتابع ذلك لتفسير كيف أن القوى والقيود الأخرى ساهمتْ في تشكيل بنية الاقتصاد العالمي الناشئ. ديكن يشير إلى أن قوة الحكومات الوطنية، والشركات متعددة الجنسية، والتكنولوجيا، قد جعلت من المسافة والموقع الجغرافيْين أمراً أساسياً لفهم الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين.
السيطرة على ثورة المعرفة
رغم أن ثورة المعلومات معروفة جيداً، بيد أن هذا الأمر غير مفهوم عموماً على أنه يرقى إلى ثورة حقيقية. فثمة عالم مصمَّم أساساً لإدارة المعلومات والمعرفة يُدخل إمكانات غير مسبوقة تهدف، كما يبدو، إلى تحويل النظام الاقتصادي. في الفصل الثالث، يطرح وليم إي. هلال William E. Halal مجموعة واسعة من الأدلة والآراء لتحديد أسس اقتصاديات المعرفة knowledge-based economies، مركِّزاً على الدور التغييري الذي تقوم به المنشأة العالمية. ويستنتج هلال بأن القواعد الفريدة للمعرفة تقود ثلاثة اتجاهات كبرى، هي بمثابة ثورات بفضل دورها هي ذاتها وسط قطاع الأعمال والمؤسسات الأخرى: التحول من السيطرة إلى الحرية؛ من الخلاف إلى الوفاق؛ من المادية إلى المعرفة والروح. وهو يوحي أيضاً بأن هذه القوى يُحتمل أن تُحدث "انقلاباً " في الفكر الاقتصادي بين العامين 2000 و 2005 تقريباً.
الأقاليم والعولمة
في الفصل الرابع، يفحص ألن جي. سكوت Allen J. Scott كيف أن القرب الجغرافي يمنح ميزة استراتيجية من خلال وجود الوفورات الخارجية الإيجابية وتدني تكاليف المعاملات. ويؤكد سكوت أن الرأسمالية العالمية تجتاز مرحلة من التأقلم المكثف من شأنها أن تعيد تخصيص القوة الاقتصادية بعيداً عن الدولة ذات السيادة وباتجاه المستويات الدولية والإقليمية.


البساطة الإرادية
كان لأميتاي اتزيوني Amitai Etzioni السبق في دراسة التوازن الدقيق الذي ينبغي أن تحافظ عليه كل الأنظمة الاجتماعية بين العوامل الاقتصادية والسلوك الاجتماعي. في الفصل الخامس، يركز اتزيوني على التوجه المتميز نحو البساطة الإرادية voluntary simplicity. إن البساطة الإرادية الحديثة، الواضحة بأشكال عدة وبدرجات بينّة، تبرز كرد فعل على تزايد التنافس competitiveness في أماكن العمل، والنزعة الاستهلاكية المفرطة، والانهيار في القيم والمعايير التقليدية. فهو يفحص هذا التوجه المثير، ويستكشف من ثم المضامين الاجتماعية- الاقتصادية للبساطة الإرادية وهي تنتشر بين التجمعات والمجتمع.

الجزء الثاني: النماذج الناشئة للمنشأة
لما كانت المنشأة هي أساس النشاط الاقتصادي الجزئي، فإن الجزء الثاني يستعرض التصورات الجديدة، الناشئة في حقل إدارة الأعمال وباقي المؤسسات الاقتصادية. إن تكنولوجيا المعلومات، والمنافسة العالمية، والمطالبات المتعلقة بالبيئة، ونشوء فئة من المستخدمَين والمستهلكين أكثر تعلماً، قد أبطلتْ الهرمية التقليدية لقطاع الأعمال. فالشركات تعيد تصميم أجهزتها البيروقراطية القديمة للأعمال وتحوّلها إلى أنظمة أكثر كفاءة لتسليم السلع والخدمات، وتقلّل من مركزية العمليات باتجاه خلق وحدات شبة مستقلة، وتعيد تعريف علاقاتها مع مختلف الأطراف. إن هذه التغيرات تخلق مزيجاً غير معهود من التنافس والتعاون، كما يتجلى هذا الأمر في ظهور موجة من التحالفات التعاوني collaborative alliances، حتى بين متنافسين أشداء في حقل الأعمال.
الفصول في هذا الجزء تقوم على عمل علماء الاقتصاد والإدارة لرسم الأشكال الجديدة، الناشئة، للأعمال. إن التغيرات الشاملة systemic في السلوك الاقتصادي الجزئي لها أهمية خاصة لأنها، بدورها، يمكن أن تخلق تغيرات شاملة في السلوك الاقتصادي الكلي. وهكذا، فنحن نستكشف أيضاً النتائج المحتملة بالنسبة للأنظمة الاقتصادية.
بنية وسلوك منشآت المعرفة
درسَ ستين أ. ثور Sten A. Thore تأثير تكنولوجيا المعلومات IT في إطار الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية. الفصل السادس يفتتح هذا الجزء برسم الانفجار في التنوع الاقتصادي الناجم عن التكنولوجيا الرفيعة. يذهب ثور إلى أن تعقد التكنولوجيا المنبثقة emergent technologies يزيح النظام الاقتصادي القديم ويخلق نظاماً جديداً، أصبح شكله الآن فقط قابلاً للإدراك. وتبين الأدلة بأن IT تعجل معدل التغير في اقتصاديات السوق، خالقةً شروط "نمو مفرط"، وتتطلب إدارة ماهرة لدورة حياة المنتجات. إن الاختلالات القوية تعم صناعات تكنولوجيا المعلومات، جاعلةً النماذج التقليدية، التحليلية، غير ذات جدوى لفهم العمليات أو النتائج المُلاحظة. ويتنبأ ثور بأن الشركات الأمريكية القائمة على المعرفة سوف تحافظ على ميزتها التنافسية العالمية حتى القرن الحادي والعشرين.
الشبكات التنظيمية والوحدات الخلوية
يمثل الانتقال من الهرمية إلى الشبكات أحد التغيرات الأكثر وضوحاً في حقل الأعمال. فبينما كانت الطبيعة الميكانيكية للعصر الصناعي تتطلب من المنشأة أن تراقب وتسيطر على المهام الروتينية، فإن المهام المعقدة في عصر المعلومات تتطلب تحالفات تعاونية بين أنماط اقتصادية متغيرة. والنتيجة هي أن الشبكات أصبحت تمثل الشكل البنيوي المتميز للمستقبل، سواء في أنظمة المعلومات أو في أنظمة المنظَّمة. في الفصل السابع، ينكب رايموند مايلز Raymond Miles وشارل س. سولو Charles C. Solow وجون أ. ماثيوس John A. Matthews وغرانت مايلز Grant Miles على دراسات موسعة للشركات الديناميكية، أدتْ إلى إكمال هذه البنية. وهم يصفون شكلاً جديداً للمنظمة الشبكية "الخلوية"organization cellular network، إضافة إلى نقاط القوة والضعف للأشكال المختلفة، ويشيرون إلى كيف أن التطور اللاحق للشبكات التنظيمية سيحمل المؤسسات للقرن الحادي والعشرين.
اقتصاد السوق الداخلية
رغم اتفاق كل المساهمين على أن المنظمات الحديثة ينبغي تصميمها كشبكات سلسة، عضوية، فإن هناك وضوحاً أقل بالنسبة للكيفية التي ينبغي أن يعمل بها هذا النظام اقتصادياً. فكيف يمكن للمديرين أن يعرفوا أين ومتى تُخلق أو تُدمر القيمة الاقتصادية في شبكة ما؟ ومَنْ يمتلك السلطة لتحديد أجزائها المختلفة؟ وكيف تتحدد المسئولية؟ اقترحَ بعض العلماء، وبخاصة العالم المشهور رسل ل. أكوف Russel L. Ackoff، نموذجاً سوقياً للمنظمة يوفر أساساً اقتصادياً للإجابة على هذه الأسئلة. ففي الفصل الثامن، يصف أكوف الأساس المنطقي لوجهة النظر هذه، ويقدّم مجموعة من الأمثلة التي توضح بأن منظمات السوق تتيح المسئولية، وحرية التنظيم enterpreneurial freedom، والاستجابة الديناميكية، وهي صفات مميِّزة لكل الأسواق.
التحول البيئي القادم
إن نمو الطبقات الوسطى الكبيرة في آسيا، وأمريكا الجنوبية، وربما أفريقيا، قد يزيد من عدد الأفراد الذين يعيشون بالمستويات الصناعية للاستهلاك، من بليون واحد حالياً إلى حوالي عشرة بلايين في العقود 3 - 5 القادمة. وهكذا، فإن زيادة بمقدار عشرة أضعاف في مستوى التصنيع هي أمر محتمل، وهذا يشّد ويضغط strain بنفس المقدار على الأنظمة الايكولوجية ecological systems(5). بول اكنز Paul Ekins هو أحد أبرز اقتصادييّ العالم ممن ركزوا على هذا التحدي الضخم. في الفصل التاسع، يعّرف اكنز الأسس الناشئة "للاقتصاد الأخضر" ويرسم الممارسات الآمنة بيئياً التي تطوّرها الشركات والحكومات المؤمنة بالتقدم progressive.
تجربة شركة Lufthansa
الفصل العاشر يقدم التجربة الناجحة في تطبيق هذه المفاهيم من قبل شركة الخطوط الجوية الألمانية Lufthansa. في بحثه لشركات النقل الجوية European، يفحص مارك ليرر Mark Lehrer الاستجابة الإدارية في شركة Lufthansa لسياسة الحد من التوجيه deregulation، واضطراب السوق، والتغير التكنولوجي. فمنذ العام 1995، أخذت شركة Lufthansa بنظام داخلي للسوق، قاد إلى تحويل عدد من أقسامها إلى وحدات مستقلة. ورغم إقرار الإدارة بأن فكرة الأسواق الداخلية لم تكن هي الدواء الشافي، فإنها آمنت بأن وجود الأسواق من شأنه تشجيع الطاقات التنظيمية enterpreneurship وتحديد المسئولية في جميع مستويات البنية الجديدة للأعمال. إن التحسن المثير الذي نتجَ في عمل هذه المنشأة هو مثال بارز تحاول المنشآت متعددة الجنسية الأخرى أن تُجاريها.

الجزء الثالث: بين سياسة عدم التدخل الحكومي والسياسة الصناعية
عند مستوى الاقتصاد الكلي، ثمة فحص لمجموعة من وجهات النظر بغية وصف ذلك الحيز الواسع، وغير الموضَّح إلاّ بصورة بائسة، الذي يقع بين الحدين المتطرَفيْن للرأسمالية القائمة على سياسة عدم التدخل الحكومي والاشتراكية القائمة على سيطرة الدولة.
فرغم اعتقاد معظم الناس اليوم بأن الاشتراكية قد ماتت، وإن الرأسمالية تنعم بالنصر، فهناك ارتباك هائل تحت سطح هذا الاعتقاد العام. فثمة اقتصاديين كثر يعتقدون بأن الأسواق، وليست الرأسمالية، هي التي تنتشر في المعمورة، وإن هذين المفهومين لا يعنيان الشيء نفسه على الدوام نظراً إلى أن أنظمة السوق تختلف إلى حد بعيد(6).
إن هذا التمييز بات حاسماً نظراً إلى أن القوى المؤثرة تغّير الأنظمة الاقتصادية بطرق غير متوقعة. ففي الشرق، نجد أن صراع روسيا، وأوروبا الشرقية، وآسيا، من أجل تبني الرأسمالية ذات الطابع الغربي يصطدم بعقبات مريرة ويتسبب في معاناة هائلة لأن هناك، كما يبدو، عدم انسجام كبير مع التقاليد العامة المألوفة في هذه الدول. وهكذا، فإن السؤال الرئيسي الذي يواجه واضعي السياسة هو: أي نوع من نظام السوق من شأنه أن يكون أكثر ملائمة للثقافة والتقاليد في الدول الشرقية؟
ومما يزيد من الحيرة والارتباك، هو أن الغرب يمكن أن يواجه أزمته هو نفسه في وقتٍ يسود فيه الاعتقاد بأن الرأسمالية قد انتصرت. تقوم أوروبا والولايات المتحدة الآن بالحد من توجيهها وإشرافها على الأسواق وسحب إعانات الرفاهية الاجتماعية السابقة وذلك لإنعاش المنشآت، ولكن ظهور الأسواق التنافسية المتوحشة وفقدان الدعم العام يمكن أن يثير اضطرابات سياسية حادة(7).
ترسم فصول هذا الجزء نماذج جديدة للسياسة الاقتصادية، مما جرى تطويرها في دول مختلفة من العالم، بما في ذلك آخر الأفكار حول اقتصاديات ما بعد الشيوعية، ومصير الديمقراطية الاجتماعية ودولة الرفاهية، والسياسة الصناعية، والأشكال الجديدة للسياسة الاقتصادية. ويحاول الفصل الأخير، الذي كتبه المحرران، أن يضع موضوعات واستنتاجات الفصول السابقة في كلٍ واحدٍ متماسك.
توجيه الاقتصاديين الكبار
نستهل هذا الاستكشاف للأنظمة الاقتصادية الكلية في القرن الحادي والعشرين بمناقشة للنماذج البديلة. في الفصل الحادي عشر، يستعمل جيمس أنغرَسانو James Angresano، وهو متخصص بالأنظمة الاقتصادية المقارنة، المفاهيم الغنية لدى غونار ميردال Gunnar Myrdal وجوزيف شموبيتر Joseph Schumpeter وفريدرك هايك Friedrich Hayek لتذكيرنا بأن العديد من الحلول لما تبدو كمشاكل اقتصادية صعبة يمكن العثور عليها في الأفكار الرائدة التي طُرحت منذ سنوات خلت. إن الاستفادة من حكمة هؤلاء الاقتصاديين الثلاثة الكبار تقود إلى فهم واقعي أكثر للظواهر الاقتصادية، الأمر الذي يمكن أن يصبح الأساس لوضع نموذج جديد يقوم على مراجع عدة.
مستقبل اقتصاديات ما بعد الشيوعية
درسَ روبرت جي. ماك إنتير Robert J. McIntyre، لعدة سنوات، المحنة التي تواجه الدول الشيوعية السابقة حينما تواجه الانتقال العسير لتحرير الأسواق. في الفصل الثاني عشر، يصف إنتير العقبات عميقة الجذور التي تواجه هذه الدول ، إضافة إلى قوى وسياسات التغيير. وإذ ينتقد إنتير المبادرات الكلاسيكية الجديدة-غربية الطابع في الدول الانتقالية، فإنه يرفض فرضية انسداد الطريق الثالث. وهو يذهب إلى أن السياسات الحالية تقود إلى طريق لم يسلكه بنجاح أي بلد. كما أنه يستشهد أيضاً بالرأي العام الأخير مشيراً إلى أن نوعاً جديداً من التسوية الاجتماعية ينبثق الآن مما قد يؤدي إلى مؤسسات اقتصادية تختلف بشكل متميز عن الرأسمالية الأوروبية.

إعادة هيكلة النظام الياباني
رغم أنه ليس مثيراً كانهيار الشيوعية، فإن انهيار "اقتصاد الفقاعة" الياباني، مع ذلك، قد أحدثَ انقلاباً هائلاً من منزلته العالية الأخيرة التي كان فيها اليابان معتبراً كبلدٍ لا يُقهر. كثيرون يعتقدون بأن من الضروري إعادة هيكلة النظام الياباني برمته. توجي تايره Toji Taira مرجع بارز حول الاقتصاد الياباني. في الفصل الثالث عشر، يصف تايره المنطق الاقتصادي للنظام الياباني، وانطباع العالم عن اليابان، والتغيرات الجارية فيه، والمحن التي يلقيها التغير على منشأة الأعمال والثقافة التقليدية في اليابان. ويشير تايره إلى أن التوتر الديناميكي، بين أولئك الذين يرغبون بإعادة بناء الماضي وأولئك الذين يتخيلون اليابان كبلدٍ جديد ينتمي للقرن الحادي والعشرين، سيتم حله عاجلاً وفقاً لما تمليه التوجهات الوطنية والدولية.
الاقتصاديات الاسكندنافية
السويد، والدانمارك، والنرويج، وفنلندا، قد ازدهرتْ لعقود في ظل الجمع الاقتصادي الفريد بين الأسواق الحرة والسيطرة الديمقراطية democratic controls، ولكن هذا النظام أيضاً تجري مراجعته. فيكتور بيستوف Victor Bestoff، وهو اقتصادي من جامعة بحر البلطيق الجديدة، درسَ النظام الاسكندنافي لسنوات عدة. وهو يعتقد بأنه رغم الحاجة للتغيير، بيد أن الأسس الرئيسية "للديمقراطية المدنية" في السويد تبقى سليمة. ويشير تحليله المستفيض إلى أن نموذج المشروع الاجتماعي يقدم إطاراً قوياً لتأهيل العاملين. فهذا النموذج يبقى كعماد لأي تغير نظامي في مستقبل السويد ويمكنه أن يقدم بديلاً لدولة الرفاهية في كل أوروبا.
الاصطفاف الاقتصادي والرفاهية الإنسانية
إن تقدم الأسواق الحرة قد أطلقَ منافسة عالمية شديدة بحيث أخذت الأجور والإعانات تتراجع في الاقتصاديات المتقدمة، وإن مشروعات إعادة البناء الاقتصادي تقود إلى التسريح، حتى بين المديرين والمتخصصين.
وقد أجبرَ نفس هذا الضغطُ التنافسي الحكوماتَ في مختلف دول العالم على تفكيك العديد من برامج الرفاهية فيها، دون أن تُبقي للشعوب غير شبكة أمان أقل في مواجهة الصعاب الاقتصادية. مارك أ. لوتز Mark A. Lutz، اقتصادي بارز في حقل "الاقتصاد الإنساني" الذي يكابد لإعادة توجيه الفكر الاقتصادي الأرثودكسي نحو هدف أكثر معنى لخدمة الاحتياجات والكرامة الإنسانية. في الفصل الخامس عشر، يحاول لوتز تقديم الأساس المنطقي لهذه المراجعة الناقدة لمفاهيم علم الاقتصاد، وكيف أنها قد تساعد على حل القضايا الصعبة التي تواجهنا جميعاً ونحن نلج القرن الحادي والعشرين.
الرأسمالية الشاملة
إن المجتمعات اللبرالية في العالم الغربي تضمر تناقضاً داخلياً مفاده أن الديمقراطية السياسية والحرية الاقتصادية غالبا ما تدخل في توتر غير مريح. الديمقراطية تقوم على مبدأ "فرد واحد، صوت واحد"، وتعكس السياسة الاجتماعية فكرة "المساواة والعدل للجميع". بينما الرأسمالية تخصص "الأصوات الاقتصادية" بصورة غير متساوية، وتدعم المؤسسات الاقتصادية التي تعزز عدم المساواة. وبين الحلول الجيدة الكثيرة التي تم اقتراحها لحل هذه المحنة، فإن خطة ملكية رأس المال الشامل universal stock ownership قد تكون أكثرها طموحاً. في الفصل السادس عشر، يصف كينيث ب. تايلر Kenneth B. Taylor تقليد الرأسمالية الشاملة في الولايات المتحدة وتاريخ هذه الخطة. وهو يخلص إلى أفكار معينة حول الاتجاهات القائمة وما يمكن القيام به بالنسبة للتناقض بين الرأسمالية والديمقراطية في المستقبل.
المجتمع المدني
ثمة علماء كثر يعون وجود مجموعة من القوى من شأنها دفع الاقتصاديات بعيداً عن الرأسمالية المتوحشة- رأسمالية البقاء للأفضل- وباتجاه نظام يشجع الرفاهية الاجتماعية الأوسع. سيفيرن ت. برون Severyn T. Bruyn درسَ بصورة موسعة الأسس الاجتماعية التي تميز جميع الأنظمة الاقتصادية، وعملَ مؤخراً مع الأمم المتحدة لتطوير المفاهيم اللازمة لتشكيل المجتمعات المدنية الاقتصادية في الأقاليم والعالم برمته. ويقدم الفصل السابع عشر نظراته لمفهوم المؤسسات الاقتصادية القائمة على المجتمعات المحلية community-based economic institutions. إذ يصف برون تصوره لمنطق "القطاع الثالث" من منظور دولي، مع تقديم أمثلة غزيرة. وهو يخلص إلى أن عناصر مفهم "الرأسمالية لجميع المتعاملين" stakeholder capitalism تتقارب بطريقة ما بحيث تعزز تطور الاقتصاديات المدنية في القرن القادم.
تأليف الفكر الاقتصادي التقدمي
تضع خاتمةُ الدراسة كلَ الفصول السابقة في ملخصٍ متماسك للأنظمة الاقتصادية التي يُحتمل أن تتطور عند بداية القرن الحادي والعشرين. وإضافة إلى ذلك، فنحن نستكشف الآفاق لنماذج اقتصادية جديدة تجمع، من ناحية، الأسواق الحرة التي خلقت ثروة تُحسد عليها في الدول الرأسمالية كالولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى، التعاون الاقتصادي الذي كان قد خلقَ نوعية، يُحسد عليها بنفس الدرجة، من الحياة في الديمقراطيات الاجتماعية في أوروبا الشرقية وآسيا. ورغم وجود التحديات الكثيرة، فإن الأدلة تشير إلى أن ثورة المعرفة تدفع الدول في كلا الاتجاهين، خالقةً إمكانية تصميم اقتصاديات نابضة بالحياة، وأكثر إنتاجية لأنها بالذات تشجع العمل الحر المنسجم اجتماعياً.

هوامش
(1)William Halal, A Forecast of the Information Revolution, Technological Forecasting & Social Change 44, no. 1 (August 1993): 69-86.
(2)Hal Kane, What s Driving Migration? World Watch (January/February 1995).
(3)‘’ Caught in the Debt Trap, The Economist, April, 1, 1995, 59-60.
(4)Lester Thurow, The Future of Capitalism (New York: William Morrow &Co., 1996).
(5)Megan Ryan and Christopher Flavin, Facing China’s Limits, in Lester Brown, ed., State of the World (New York: W. W. Norton, 1995), 113-131.
(6)Robert Ozaki, Human Capitalism (Tokyo: Kodansha, 1991)
(7)Peter Drucker, Post-Capitalist Society (New York: Harper Collins, 1993).












الجزء الأول
القوى التي تشكل النظام الاقتصادي الجديد
الفصل الأول
التحولات: قوى التغير الرأسمالي
ارنست ستيرنبيرغ، جامعة نيويورك/ بوفالو
Ernest Sternberg, State University of New York at Buffalo

زمن التغير الهائل
يبدو أننا يمكن أن نودع الرأسمالية الصناعية للقرن العشرين. إذ أن الإنتاج القائم على التجميع، والمواجهات بين الإدارة والعمال، والبيروقراطية الهرمية للأعمال، والحدود الجامدة بين العام والخاص، والحرب الباردة، الإيديولوجية، أصبحت كلها مجرد ذكريات عزيزة. فإذا كان الأمر كذلك، فإلى أين نحن ذاهبون؟
ربما ندخل الآن ما بعد العهد الصناعي، الذي يقوم على المعلومات، والتحليل، واتخاذ القرارات الرشيدة. أو ندخل عهد ما بعد الحداثة حيث تغمر حياتنا التصوراتُ التجارية الواقعية أكثر من اللازم. إذاً، قد نكون بالفعل نعيش في عهد جديد من الاعتماد المتبادل العالمي الذي ينحي جانباً الحدود الوطنية. أو ربما نحن الآن على حافة عهد ميركنتيلي جديد تتعاون فيه الحكومات وقطاعات الأعمال في كل بلد لتأكيد القوة الاقتصادية الوطنية. وقد ندخل عهداً تهيمن فيه المنشآت العالمية على الاقتصاديات المحلية. وقد نجتاز حداً فاصلاً صناعياً في وقت تكتسب فيه المجموعات المحلية من المنشآت التنظيمية enterpreneurial firms أهمية اقتصادية أكبر. ومما لا شك فيه أننا نعيش في وقت تجبر فيه الحركاتُ الاجتماعية كلاً من الحكومات والمنشآت على الاستجابة للقضايا القائمة كجنس المرء، والتوجه الجنسي، والمسائل الإثنية، والبيئة. وقد يكون عصرنا هو العصر الذي تقوم فيه المذاهب الأصولية الجديدة new fundamentalisms بإعادة توجهينا نحو حقائق خالدة.
وفي الواقع، فنحن أمام تحولات هامة جداً. ولكن هل هي تحولات إلى ما بعد العصر الصناعي، أو ما بعد عصر شركة فورد postfordism، أو ما بعد الحداثة، أو ما بعد الوطنية؟ ويبدو أنه ما أن قضى العصر الصناعي القديم نحبه، حتى جرى الإعلان عن ظهور عصور جديدة عديدة، يا للعجلة. إن مفاهيم التغير الرأسمالي قد تتنافس مع بعضها البعض لتبوح بمفهومنا نحن، الحقيقي، والظرف الاقتصادي الوشيك. ومع ذلك، فمن المحزن أنه ما أن جرى بالكاد الإعلان عن ظهور عصر جديد حتى تم فضحه، كخرافة عادةً.
إن مجلدات من التكهن عن عصر المعلومات قد رُفضت بازدراء بوصفها "خرافة الاقتصاد ما بعد الصناعي" و "معلومات خرافية(1)." إن أفكار الانتقال من الإنتاج الكبير إلى أنظمة اقتصادية جديدة تتميز بوجود منشآت مرنة وتنظيمية enterpreneurial firms، قد رُفضت حتى قبل أن تمر عليها عشر سنوات على أساس أنها "جغرافية خرافية(2)." ثمة تشكيلة من عصور جديدة وخرافات غير معروفة تتصادم مع بعضها بعضاً بصورة غير مريحة.
ومن المؤكد أن هناك الكثير من الغلو والمبالغة في العديد من التصورات والتصورات المضادة. ولكننا إذا اخترنا أفضل المساهمات وأكثرها جديةً، فيمكن، كما أعتقد، أن نجد بذوراً معقولة وقوية في أفكار التغير الجذري هذه. ويأخذنا هذا الفصل في رحلةٍ تمّر بثمانية مفاهيم للتحول الرأسمالي(3). وحينما نمر بها على عجل، يمكننا أن نلاحظ ما تبدو كعلامة مثيرة: كل مفهوم يبدو معقولاً، حتى إذا كانت هذه المفاهيم تشكِّك وتتناقض مع بعضها البعض، عند أخذها مجتمعةً.
كيف يمكن أن نفهم هذه القوى المتنافسة للتغير الاقتصادي؟ إن الأفكار الاقتصادية التقليدية عن التكنولوجيا، وتغير الأذواق، والأزمات الرأسمالية، لا تستطيع أن تفسر بشكل كافٍ تزامن هذه التحولات الجذرية. أنا أفترض بأن تصور كارل بولاني Karl Polanyi للرأسمالية كمجتمع تهيمن عليه آلية سوق مضطربة- مع أنها قيّمة، في الغالب- يمكن أن يزودنا بتفسير قوي. فمثلما قاد الغلو في سياسة عدم التدخل laissez-faire في القرن التاسع عشر إلى تطوير الرأسمالية الصناعية الحديثة، الموجهَة من قبل الدولة، والبيروقراطية، فإن الرأسمالية الصناعية قد أطلقتْ قوى تقود الآن إلى تحولها.
إن العصور الجديدة هي تحولات حقيقية- كما فهمَ بولاني هذا المصطلح من كل بد. التحول لا يتألف فقط من التغيرات الإضافية في تفضيلات الأفراد، وليس فقط من التعديلات الاجتماعية البنيوية (مع أنها قد تتضمن صفات إضافية وبنيوية معاً). والأصح هو أن التحولات الرأسمالية تمتلك الصفة البارزة وهي أنها تغّير العوامل البشرية human agents: الأفراد، والمنظمات، والمؤسسات، التي تشارك بها.
نحن نعيش وسط تغير هائل. فالرأسمالية قد باتت حضارة اقتصادية ديناميكية تطويرية تدفع بحضاراتنا، وقدرات الازدهار الاقتصادي لدينا، وعلاقتنا بالبيئة، وهوياتنا الشخصية، نحو اتجاهات متقاربة. وإذ نشق طريقنا باتجاه القرن الحادي والعشرين، فسنحتاج إلى علم جديد، تفسيري، للاقتصاد يمكّننا بصورة أفضل من إدراك الإمكانات الرأسمالية المتعددة والتأثير فيها.

العصور الرأسمالية الجديدة: قائمة جرد
عصر المعلومات
ضمن قائمتنا للتحولات الرأسمالية، فإن مفهوم ما بعد العصر الصناعي أصبح جذاباً بالفعل وألهمَ الكثير من التعليقات. ويسلّم أنصاره الآن، على الأغلب، بأن فترة ما بعد العصر الصناعي يمكن فهمها على نحو دقيق ومحدد على أنها عصر المعلومات(4).
وبخلاف الاقتصاد الصناعي السابق، الذي وسّعَ الدخول الشخصية وشيّدَ القوة الوطنية بواسطة الآلات والموارد الطبيعية والسلع المادية، فإن اقتصاد المعلومات الجديد يخلق الثروة والقوة من خلال ممارسة المعرفة. فالصناعات المهيمنة هي تلك التي تجمع، وتحلل، وتحّول المعلومات. إن نسب متزايدة باستمرار من قوة العمل تعمل في مهن معلوماتية- كأعمال ذوي الياخات البيض، والعلم والهندسة، والاستشارات، والبحث. وحتى المنشآت، التي ما تزال تنتج السلع، تعتمد الآن أكثر فأكثر على قدرتها معالجة المعلومات(5).
إن ظهور هذا العالم الجديد يُعزى أحياناً إلى زيادة الإنتاجية في الصناعات التحويلية التي سادت في العصر السابق. فهذه الصناعات الآن يمكنها بكفاءة إنتاج سلع أكثر عند تكلفة أقل للوحدة الواحدة. ولذلك، فإن المستهلكين في الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة، حيث حققّت الدخول زيادات في قسم كبير من القرن العشرين، يفضلون الآن إنفاق نسبة أكبر من دخولهم على التعليم، والنصح والإرشاد، والمعلومات، والتسلية.
ووفقاً لهذه المحاجة، فإن عصر المعلومات قد ظهرَ للوجود بسبب تغير إضافي في التفضيلات الاقتصادية. ومع ذلك، فإن معظم المعلقين حول عصر المعلومات يعزون ظهوره إلى التقنيات الجديدة. فالحساب computing، والاتصالات عن بعد telecommunications، ووسائل الإعلام الإلكترونية الواسعة، والتقنية الجديدة للتصوير- أي تلك التي يُشار إليها جماعياً بـ "تقنية المعلومات"- قد عجّلت دخولنا في عصر المعلومات. وإن البعض يربط بقوة "عصر المعلومات" بهذه التقنيات بحيث أنهم يستعملون هذا المصطلح بنفس المعنى كمرادف لمصطلحيّ "عصر الحاسوب" و "عصر تقنية المعلومات(6)."
ولكننا أيضاً نستطيع أن نقدم حجة معقولة لظهور العصر الجديد دون أن نجعل من التكنولوجيا سببه القوي. وفي الواقع، فإن أقوى حجة لصعود العصر ما بعد الصناعي تأتي من الحماس للأدوات الإلكترونية الدقيقة والاتصالات المتقدمة(7). فهذه الحجة تعزو ظهور العصر الجديد إلى الاحتياجات المتغيرة للرأسمالية الصناعية في القرن العشرين. فجذور اقتصاد المعلومات، بحسب هذه الحجة، تعود للتعقيد complexities الكامن في المجتمع الصناعي القديم. فالابتكارات الصناعية، والتنظيم البيروقراطي للمجتمع والقائم على وجود شركات الأعمال، وما يتطلبه الصراع المنظَّم على مستوى العالم من معلومات، والطلبات الجديدة على التعليم والخدمات الاجتماعية- وباختصار، التعقيد المتزايد على الدوام- قد أدت إلى زيادة الحاجة للوصول السريع للمعلومات. ولذلك، ففي العالم الصناعي نفسه كانت تكمن بذور ولادة عصر المعلومات(8).
إن ظهور عصر المعلومات الجديد كان له أثر قوي يتمثل في أن نمطاً جديداً للفهم بات جلياً في القرارات الاقتصادية والسياسية. فالمعلومات يتم جمعها، والاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية يجري قياسها، والقرارات تُتخذ من خلال مشاورة تكنيكية- تحليلية. وإذ تزدري القوة الإيديولوجية للسياسة في الماضي، فإن المنشآت والحكومات في عصر المعلومات تتخذ قراراتها وفق حساب تكنوقراطي(9). فالنخبة الجديدة تحرز قوتها وثروتها بفضل شهاداتها العالية في التعليم الجامعي. كما أن الثقافة العلمية الجديدة المعتدلة، والمحاجة التحليلية، والكفاءة المكتبية، تحقق قبولاً عالمياً واسعاً. والمحاجة البشرية أصبحت تُفهم كشكل لمعالجة المعلومات يمكن أن يؤخذ فيه الأفراد كحلقات في أنظمة الضبط cybernetic systems. والاتصالات البشرية باتت تُعَّرف كانتقال معلومات، يتم تداولها جيداً من خلال خيوط بصرية أو إلكترونية. التسلية، والمحادثة، والتجارة، والعمل، يمكن أن تتحقق على حد سواء عبر استعمال شبكة المعلومات العالمية. كما تُمارس الشؤون السياسية من خلال أنظمة تفاعل التغذية الاسترجاعية Plebescitary feedback systems.
إن أنظمة الاتصالات ذات الأشرطة العريضة، والمعالجة الجزئية فائقة السرعة، وعلم البصريات الليفية، والأنواع المتميزة الأخرى من التكنولوجيا، توسّعْ بالتأكيد من قدرتنا على معالجة المعلومات. وكلما ازدادت هذه القدرة، فإن طلب المنشآت، والحكومات، والأفراد، يزداد على خدمات المعلومات، مما يقّوي بدوره من تطور التكنولوجيا الجديدة. إن الضغوط الاقتصادية لتطوير التكنولوجيا هذه، والرغبة باستعمالها، تحدثان في وقت واحد في سياق التحول الهائل للرأسمالية المتقدمة. والحصيلة هي ظهور عصر اقتصادي جديد تهيمن فيه المعلومات والتحليل.

اقتصاد الصور The Economy of Images
إن الاعتناق الفكري المضطرب لما بعد الحداثة قد ملأ رفوف المكتبات بالتكهنات عن عصر رأسمالي آخر، جديد. ولكن هذا العصر الجديد للصور يبدو كوجه عملة غريب من اقتصاد المعلومات.
في اقتصاد الصور، فقدنا المعاني الميتافيزيقية والتقاليد الفكرية والجمالية المستفيضة. ففي الحقبة السابقة، للعالم الحديث، كانت الفنون تفكر بنفسها وكأنها تعمل في حيز مستقل ومنعزل، يمكنها أن تتأمل ما للحياة الصناعية من عقلانية وهدف واضح purposefulness. ولكن، الآن، فإن هذه الأنماط من التعبير الفني المجرد قد اُستكشفت واُستنفدت. وقد أنهارَ التمييز بين الإنتاج الفني ومنتجات العالم التجاري- بين الفن والنتاج الاصطناعي.
إن أولئك الذين يكتبون عن عصر ما بعد الحداثة ربما يفحصون الآثار بالنسبة للأدب، والفن المرئي، أو النقد، أكثر مما بالنسبة للاقتصاد. ولذلك، فمن الممكن مسامحة المعلقين حول اقتصاد المعلومات لو أنهم لم يلاحظوا أن عصر ما بعد الحداثة له دلالات تعاكس تلك التي تعود للعصر ما بعد الصناعي(10).
وفي وقتنا الحاضر، فإن المقدرة الإلكترونية والميكانيكية على إعادة إنتاج الفن وتقديم الصور قد قادت إلى تكاثر مكر واسع الخيال. إن الواقعية المؤسَسة بإحكام للعهد الصناعي الحديث قد أفسحت المجال لواقعية مفرطة من المعاني المنفلتة والمفككة(11).
فعمل السيارة أصبح الآن نمطاً للتحرر الذاتي. والكساء قد كفَ عن أن يكون ثياباً تمت خياطتها من القماش، بل أصبح علامات تدل على بهاء المنظر، الأمومة، الاحترام، وبقية الصفات الذاتية. ومع أن الأكل ما يزال يحمل شبهاً بالإنتاج الصناعي، فإن الأطعمة أخذت شكل لفة بالية من مستخدمات الطعام، ولكن هذه الأطعمة، في الطاولات الطويلة للطعام المبرَّد ومطاعم الوجبات السريعة، أصبحت أشياء ثانوية ملحقَة بمحيط مصمَّم بعناية.
إن تطور العقارات (أراضي ومبان) وأسلوب بناء الضواحي تخلق الآن مناطق سكنية وتجارية مع بنية أساسية مُحكَّمة (قرى صيد سمك، ومسارح حفلات إثنية، ومعتكفات برّية). إن المنتجعات السياحية- منتجات ما بعد الحداثة ذات الأهمية الاقتصادية المتزايدة دوماً- تصمَّم لتمثيل تجارب حضارية دخيلة، مع أنها في الغالب ذات مصداقية اثنوغرافية تافهة، حتى حينما توضع في الموقع الملائم. إن صلصة الطماطم ketchup تفقد معناها كتوابل طماطم أمريكية لتصبح موضوعاً للحنين الحسي للوطن. وهذه الصور باتت منتشرة جداً بحيث أنها لم تعد مجرد وسائل تحايل لجذب المستهلكين لسلعة معينة. فهي الآن الوسيلة ذاتها التي نمارس من خلالها رغباتنا الخاصة.
ويبدو أن هذا الاقتصاد الجديد للصور قد ظهرَ حينما كان بوسع الإنتاج الصناعي أن يلبي بسهولة الحاجات الأولية من السلع المادية والخدمات العملية. إن ممّوني المنتجات التجارية يدركون بأنهم يستطيعون الآن بيع ليس فقط الأشياء المحلية بل الصور المغرية التي من خلالها يمكن للمستهلكين أن يتظاهروا بممارسة هواياتهم- الصور التي تعتبر، بالنسبة لها، سلعاً أو خدمات محددة، أمراً عرضياً إلى هذا الحد أو ذاك. إن الاهتمام نفسه بإنتاج المعاني significations يصبح الآن عنصراً طاغياً من الرأسمالية المتقدمة.
إن تكنولوجيا التلفزيون، والفيديو، والأفلام السينمائية، تسهل وتقّوي هذا التحول الاقتصادي. ولكن كما رأينا عند زيارتنا لاقتصاد المعلومات، فإن التكنولوجيا لا تخلق العالم الجديد بصورة منعزلة، بل تشارك فيه بشكل متكرر.
وبخلاف اقتصاد المعلومات، فإن اقتصاد الصور لا يعبأ إلاّ قليلاً بمعالجة المعلومات، والحساب، والتحليل التكنيكي. إن الولع والتباهي بالسجاير لا شأن له بالمعلومات، رغم كل شيء. وإن الإفراط السائد في الصور عقبة للتفكير المتماسك، إن كان يعني أي شيء أصلاً. ففي هذا الاقتصاد، لا يسيطر المختصون التكنيكيون-التحليليون. وإن المهندسين ومشغّلي وسائل الإعلام الالكترونية مطلوبون، ولكن كموظفين فقط functionaries. فالمهارات التي تهيمن في الاقتصاد هي تلك التي تعود للأداء التعبيري، والفنون المرئية، والتصميم التصويري، والعلاقات العامة، وتصميم المنتجات والرزم، والواقعية العملية، وإنتاج الفيديو.
في اقتصاد الصور الأكثر تقدماً، اقتصاد الولايات المتحدة، فإن الصناعات الرائجة هي تلك التي تقدم فقرات تسلية في الهواء الطلق theme parks، والإعلانات، ومعارض التسوق shopping malls، ومناطق البيع بالتجزئة retail environments، والأفلام السينمائية. إن القوة الاقتصادية الحقيقية للبلاد تكمن الآن في الصناعات التي تشكل الصور المثيرة للذكريات والعواطف. وإن هذه الصناعات لها حدود مشتركة مع الثقافة الأمريكية ويتعذر تمييزها عنها. وعلى غرار الأفلام السينمائية الأمريكية، فإن السلع الاستهلاكية، ومحلات الأطعمة السريعة، تنتشر في العالم كله، وإن صورها التي يُعاد تكوينها باستمرار تبرز كثقافة عالمية.
إن اقتصاد الصور الجديد، عالمي الانتشار، يطوّق ليس فقط إمبراطوريات الدعاية والإعلان. فحتى منشآت الأعمال التي تنتج سلعاً عادية كالسيارات تنفق على تصميم صورة السلعة بقدر ما تنفق على الجوانب الميكانيكية. إن منشآت ما بعد الحداثة تحقق الثروة- مثلما يحقق سياسيو ما بعد الحداثة المنزلة الاجتماعية prestige- حينما يجري تصميم معارضها (مع الصور وهي تغلّف المنتجات التي تبيعها) على نحو ما لإثارة رغبات المشاهدين ومخاوفهم. فالمركز المهيمن في الاقتصاد لا يهتم الآن بإنتاج السلع، ولا بمعالجة المعلومات، بل بتشكيل المعاني significations.

عصر الاعتماد المتبادل العالمي
من أفكار التغير الاقتصادي الهائل، الفكرة التي قد تكون أكثرها تأثيراً والتي تقول بأن الصناعات والأقاليم تعمل الآن في اقتصاد عالمي. وهذه العولمة globalization تُقدَم أحياناً كقضية درجة، كتغير إضافي فقط في الرأسمالية. ولكن العولمة يمكن أيضاً أن تُشاهد كتحول رأسمالي شامل له تأثير على كل جانب من الحياة الاقتصادية(12).
وهذا التدويل internationalization نلاحظه كلما توجبَ على كل بلد بصورة متزايدة أن يربط نفسه بالتجارة الدولية، والمالية، والاستثمار، وتبادل العملة، وأسعار السلع، وموازنة الديون. وينبغي على منشآت الأعمال فيه أن تستجيب للتغيرات في الأسعار، والمعايير السلعية، والابتكارات للعملية الصناعية، ومعارض التسويق التي تُقام في كل مكان من العالم.
إن هذا القول أصبح كلاماً عادياً الآن، طبعاً. ولكن المثير هو أنه حتى حينما تقوم المنشأة بإنتاج سلعة ما لا تتنافس في الأسواق العالمية، فإنها تجد، رغم ذلك، أن ترتيبات صنعها وبيعها قد تم تدويلها. فالبحوث المحلية لتطوير السلع تتفاعل مع البحوث المناظرة التي تجري في أماكن أخرى من العالم. والأرصدة الاستثمارية ترد عبر أسواق المال العالمية. وثمة مؤسسة عالمية للتأمين تؤمن الحماية ضد المخاطر. ويقدم الخبراء من مختلف الدول المشورة والنصح في حقول المحاسبة، والإدارة، أو ضمانات النوعية quality assurance. كما أن براءات الاختراع، والعلامات التجارية، والرخص، وبقية أشكال الملكية الفكرية، يتم التأمين عليها في عدة بلدان. والمواد تُجلب من مصادر مختلفة. والأجزاء المكونِّة للمشروع تمارس نشاطها في بلدان عديدة. وحتى في موقع الإنتاج المحلي، فإن السلعة يتم تجميعها بصورة نهائية من قبل قوة عمل من عدة بلدان وعدة قوميات. ولإنتاج سلعة ما مركبة، وحتى تلك المخصصة للسوق المحلية، فإن المنشأة تضطر لنسج الكثير من شبكة العلاقات العالمية.
يتم ترتيب هذه العلاقات وتسييرها من خلال اتفاقات دولية. ويتم التنسيق ما بين العملات، وتُوقَع اتفاقات التعريفة، وتُعلن مناطق الموانئ الحرة والمعالجة، كما تكتسب المناطق الحدودية طابعاً دولياً، وتظهر التكتلات التجارية القارية- كتبشير بقدوم تجارة عالمية حرة أكثر. كما أن زوال الكتلة السوفيتية يبشّر بقيام أسواق عالمية جديدة ومستقلة تحصل فيها البلدان الأفقر، أخيراً، على الفرصة لتحسين مستوى المعيشة فيها.
في هذا العالم الجديد، فإن منشآت الأعمال، والمدن، والأقاليم، التي تزدهر هي تلك التي تتكيف للاقتصاد العالمي. والكفاءات الأساسية المطلوبة هي إجادة اللغات الأجنبية، والإطلاع على ثقافات العالم، ومعرفة الأسواق الأجنبية، وفهم قواعد التجارة الدولية. ويصبح الإطلاع على ما يدور في الخارج شرطاً جوهرياً للتقدم الاقتصادي.
إلا أن الاعتماد المتبادل العالمي يجلب البلاء أيضاً: التلوث عبر الحدود والمحيطات، والتغير العالمي للجو، وتدمير طبقة الأزون، والانفلونزا والأوبئة المتنقلة بين أرجاء المعمورة. ولكن في نفس الوقت، فإن التوسع نفسه للعلاقات الدولية يخلق اتفاقات بين دول متعددة، وأجهزة تعود لحكومات دول متعددة، ومنظمات متعددة الجنسية، يمكن للعالم من خلالها أن يحقق عملياً الاستقرار ويسيطر على الآثار الجانبية.
لقد ظهرَ هذا الاعتماد المتبادل الجديد من رحم نظام الاقتصاديات الوطنية، الذي يصعب الدفاع عنه، لأوائل القرن العشرين، والذي عملَ من خلال مؤسسات الاكتفاء الذاتي الرأسمالية، والحواجز التجارية، والكساد العالمي المتكرر، والحرب العالمية، والحرب الباردة. ويمكن للولايات المتحدة، وهي الدولة التي خرجت منتصرةً من الحرب العالمية الثانية، أن تصبح اللاعب الاقتصادي العالمي المسيطر، فارضةً الحرية الإنجلو- أمريكية على الآسيويين والأوروبيين المتمردين. إن تقنيات الاتصالات، والحساب، والنقل، كانت فعالةً مرة أخرى، حيث عملتْ على خفض تكاليف التجارة، والسفر، والتعاون عبر الحدود. وفي عقود قليلة، هبطَ التأثير الأمريكي، غير المتوازن، وإلى جانب ذلك، أخذت أوروبا وآسيا مكانتهما. وتدخل منشآت أمريكا الشمالية في علاقات معقدة من التنافس والتعاون.
وهذا الاقتصاد العالمي الجديد يقوم الآن ليس فقط بتعزيز الازدهار، بل بإنعاش الفنون أيضاً. فالاستعارات العالمية تتضاعف في حقول الموسيقى، والفنون، والعلوم. فالكساء، والإبداع، والطب، والإذاعات، والرياضة، كلها تتعزز من خلال الاتصالات الدولية. فنحن الآن أمام عصر كامل من الاعتماد المتبادل العالمي.

الميركنتيلية الجديدة
كان لانتشار المعلومات والخدمات التي تقّدم الصور في اقتصاد مُدَّول نتيجة محيِّرة. فبخلاف التوقعات المرتبطة بعصر ما بعد الصناعة، فإن ذلك الانتشار يُزيد من الأهمية الاقتصادية المحلية للصناعة المتقدمة. وبعكس الميل نحو الاعتماد المتبادل العالمي، فإن ذلك الانتشار يقّوي من عزم البلدان على بناء مصائرها التكنولوجية المحلية.
إن أصحاب رؤيا "الميركنتيلية الجديدة" (وهو مصطلح يُرجَح أن يستعمله النقاد أكثر من الأنصار) يشيرون إلى أننا ندخل الآن ظرفاً اقتصادياً تصبح فيه التقنيات المتقدمة والصناعة الرفيعة مصدْرين استراتيجيْين للازدهار الاقتصادي(13). يعترف الميركنتيليون الجدد بأن نسبة أكبر من كل اقتصاد تُخصص الآن للخدمات والمعلومات. وبما أن هذين العنصرين لا تجري المتاجرة بهما أو نقلهما عبر الحدود بنفس السهولة التي يتم بها ذلك مع السلع، فإن الصناعات التحويلية تصبح، على نحو غريب، أكثر أهمية في العلاقات الاقتصادية الدولية(14). كما يعترف الميركنتيليون أيضاً بأن خدمات الأعمال، والحكومات، والعناية الصحية، والتسلية الإذاعية، ومعالجة المعلومات، تستخدم بشراً أكثر من السابق. ولكن هذه الخدمات تستعمل تقنيات متقدمة جرى تطويرها في القطاع الصناعي، أي في ذلك الجزء من الاقتصاد الذي يستثمر كثيراً في البحوث والهندسة.
ونظراً لاعتماد قطاعات المعلومات على الصناعة في الحصول على التقنيات اللازمة لها، فإن تدهور منشآت البلد الصناعية يسيء إلى بقاء صناعاتها المعلوماتية المتقدمة كذلك. وخلافاً لبعض التوقعات، فإن الدول الرأسمالية المتقدمة تجابه الآن أهمية استراتيجية أكبر للصناعة المتقدمة تكنولوجياً(15).
وينبغي على البلدان، الآن أكثر من أي وقت مضى، بناء طاقاتها في التكنولوجيا المتقدمة. يتوجب عليها أن تكون في طليعة البلدان الأخرى في إنتاج شبه الموُصلاِّت semiconductors، والحاسوب، وقطع الحاسوب الخارجية peripherals؛ والبصريات الليفية، والمحوِّلات الالكترونية optoelectronic switching، والهواتف الخلوية، والأقمار الصناعية satellites؛ والتصوير المتقدم، وطرق التصميم التصويري، والتلفزيونات المتطورة high-definition؛ وتقنيات الفضاء الخارجي والنقل السريع aerospace and high-speed transit. على هذه البلدان أن تبني الطاقات الهندسية لدمج مثل هذه المعدات والبرمجيات software في الأنظمة المعقدة للحساب، والاتصالات، والتصوير، والنقل.
ومن المؤكد أن البلدان (كما سنلاحظ في الفقرة التالية عن العصر الرأسمالي القادم) تقيم منشآت متعددة الجنسية في أنحاء متفرقة من العالم. ولكن المنشآت العالمية الألمانية واليابانية الأكثر نجاحاً تحافظ على ولاءها الوطني. فكلما تْنصّب هذه المنشآت تجهيزات أجنبية، فهي تفعل ذلك لتتخطى الحواجز التجارية، أو تستأجر قوة عمل رخيصة، أو تكسب الوصول للتكنولوجيا. ورغم طابعها المتعدد الجنسية، فإن هذه المنشآت تُبقي مكتبها الرئيسي وطاقاتها التكنولوجية الأساسية في بلدها الأم.
وفي عالم من دول- وطنية تحرص على مصالحها، فإن مثل هذا الاستجابة أمر حتمي. فإن حقيقة بقاء البلد وحقيقة القدرات القسرية للحكومات تعني أن مبررات الدولة لها الأسبقية على المنطق المطوَل للاعتماد المتبادل العالمي(16). ولذلك، فإن البلدان الرأسمالية الآن تهتم بصناعاتها وتقنيتها الاستراتيجية بشكل هادف. وفي الحقبة الاقتصادية السابقة، كان بوسع هذه البلدان أن تفعل ذلك من خلال توجيهات حكومية مباشرة أو عن طريق تأميم منشآت الأعمال. ولكن الحرب الباردة وما لها من قدرة دائمة على التعبئة منحَ البلدان الغربية الخبرة في إقامة علاقات تعاقدية أكثر تعقيداً بين القطاعين الحربي والتجاري.
وبالاعتماد على هذه الدروس، تبني البلدان الرأسمالية صناعاتها الاستراتيجية من خلال إجراءات مُركّبة تخص العلاقة بين المنشآت، جامعة وصناعة، صناعة وحكومة، ومنشآت مدنية- حربية. وحتى في اللبرالية المزعومة للسوق في الولايات المتحدة، فإن هذه العلاقات الحربية- الصناعية (إضافة إلى السياسة الصناعية التوجيهية لليابان) تغدو الآن النموذج لرأسمالية تعاونية جديدة collaborative capitalism(17).
إن هذا التشابك للسياسة الصناعية هو ما يقود البعض لوصف هذا الاقتصاد الجديد كاقتصاد "ميركنتيلي". وهذه الكلمة تشير إلى استخدام الحواجز التجارية، من قبل ملوك أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بقصد مراكمة كنوز الذهب treasure وبالتالي بناء الثروة الوطنية. إن المقدرة الإنتاجية المتقدمة تكنولوجياً تخدم الآن كمعادل للكنوز. وتتضافر جهود الحكومة والصناعة في كل بلد لكي يضعا معاً السياسة الصناعية لبناء الخزينة التكنولوجية technological exchequer .
وفي هذا الاقتصاد، فإن المهن الخدمية، بما في ذلك المهن القائمة في معالجة المعلومات والتسلية، تتجاوز عدد المهن التكنيكية. ولكن لذلك السبب بالذات، فإن ما لدى البلد من مهندسين، وفنيين، ومختبرات، هو الأمر الحاسم. إن بلدان العالم تبني الآن ترتيبات ميركنتيلية جديدة لخلق تكنولوجيا جديدة، وإدارة التجارة، ومباشرة الصناعة المتقدمة بفعالية أكثر.

العصر الجديد لسيطرة الأعمال
تويوتا Toyota، ايكسون Exxon، ماتسوشيته Matsushita، والت دزني Walt Disney، هوجست Hoechst، بيبسيكو Pepsico، فيلبس Philips ، ونظرائها، وما يرتبط بها من منشآت أعمال خدمية، تهيمن الآن على الحياة الاقتصادية في العالم. تمارس هذه المنشآت شكلين من السيطرة في حقل الأعمال corporate control أصبحا الآن شاملْين. أولاً، إنها تُشّدد من سيطرتها على العمل من خلال الأتمتة ومعالجة المعلومات. ثانياً، إنها تُوسّع من سيطرتها على الوحدات الإدارية الفرعية المنتشرة عالمياً. إن نشاط قطاع الأعمال حقّقَ فعالية إدارية وحضوراً عالمياً جعله مغرياً أكثر من أي وقت مضى.
كان القرن العشرين معروفاً، طبعاً ولوقت طويل، بوصفه القرن الذي سيطرتْ فيه شركات احتكار القلة العملاقة ذات المراتب الهرمية على معظم الأشياء في كل اقتصاد رأسمالي. ولكن التوسع الأخير في سيطرة الأعمال، شامل ومنتشر في كل مكان بحيث أنه يعكس، في الواقع، تحولاً في الرأسمالية المتقدمة. إن مزايا الحجم التي تنشأ عن الإنتاج كبير الحجم، والقدرات على استعمال أنظمة الأتمتة لتكييف الإنتاج لمهام متنوعة، وإمكانات التنسيق التي أتاحها الحساب المتقدم computing وتقنيات الاتصالات؛ والآليات والاتفاقات السياسية التي تسّهل الحركات الدولية- كل ذلك قد عملَ معاً (أو دُفع لكي يعمل معاً من خلال تأثير الأعمال) لتوسيع سيطرة الأعمال.
إن انتشار قوة الأعمال يرتبط بقوة بظهور المالية العالمية. وإذ لم تعد تخضع لسيطرة أفراد وعائلات معينة، فإن الشركات الكبرى largest corporations يملكها مستثمرون لا حصر لهم ممن يمتلكون المَحافظ والأسهم والسندات ويمارسون تأثيراً قليلاً على الحصص الفردية. إن أكبر أصحاب الأسهم هم أنفسهم شركات corporations: كصناديق التقاعد، وشركات التأمين، والمصارف، والصناديق التعاونية.
يتصرف مديرو الأعمال والمديرون الماليون كنخبة متشابكة عالمياً. وهم قد يختلفون فيما بينهم ويتنافسون على الاستثمارات الفردية، ولكن تجمعهم مصلحة متبادلة في وجود إجراءات صحيحة وجو عمل سليم؛ وعلاقات مقبولة مع الحكومة وجماعات المصالح والعمل(18). ورغم أنهم يديرون عمليات ذات نطاق عالمي، فأنهم يبقون قريبين من بعضهم بجعل العمليات الأساسية تتم في مدن عالمية مختارة كنيويورك، وفرانكفورت، وطوكيو، ولندن(19).
ورغم دعمهم المزعوم للمنافسة الاقتصادية المفتوحة، فإن المديرين متعددي الجنسية يستعملون استراتيجيات محكَّمة للمحافظة على مراكزهم الاقتصادية البارزة. وهم يسيطرون على حزم من براءات الاختراع، والملكية الفكرية، والخبرة الهندسية. كما أنهم يحكمون السيطرة على الشعارات logo، والعلامات التجارية، والسمعة، والمظهر الخارجي للنوعية والجودة وذلك لتأمين المزايا الهائلة في الأسواق العالمية. وهم يمارسون بشكل عدواني التسعير، والاكتساب acquisitions، والهيمنة takeovers، حينما يتم تشخيص وجود منافسين خطرين. وإن أكثر ما يستفيدون منه هو مشاركتهم في النخبة العالمية للأعمال وشبكات علاقاتها للمصلحة المتبادلة. فبعكس الحال مع رومانسية السوق الحرة، فإن الخارجيين outsiders- ممن تنقصهم الخبرة، وينحدرون من بلدان لها علاقات ضئيلة مع تلك النخبة، وليسو قريبين من التمويل- لا يملكون سوى فرصة قليلة لاكتساب قوة الأعمال.
يعمل عصر هيمنة الأعمال، أيضاً، من خلال السيطرة على العمل بشدة أكثر. إذ أن قدرة مشرفيّ الأعمال على إعادة تغيير مواقع العمليات الإنتاجية في مختلف الأقاليم والبلدان تمكنهم من الضغط على منظمات العمل. كما تسمح التقنياتُ الجديدة للاتصالات للمديرين بفرض تقييد أكثر على تلك المنظمات عن طريق تشتيت العاملين في محطات الحاسوب في مناطق بعيدة، رغم محافظتها على الإشراف المركزي. وبفضل تقنيات المتابعة الإلكترونية، يمكنهم الآن الإشراف بدقة على معدلات العمل في مواقع المعمل المرهقة التي تضم العاملين مع المدخلات- البيانات. وتتدنى منزلة الحرفيين والعمال الماهرين نظراً إلى أن الأشكال المختلفة من الأتمتة المتكاملة حاسوبياً تحّول العاملين إلى مجرد تابعين ميكانيكيين machine tenders(20). إن الطبقة الوسطى تهبط ويظهر تقسيم طبقي جديد بين مَنْ يتعاملون مع المدخلات من البيانات الروتينية ومَنْ يشاركون في نخبة المديرين.
كما أن سيطرة الأعمال تشكّل الآن المصير الاقتصادي للدول والأقاليم، بما لها من قوة يصعب مقاومتها عبر الحدود السياسية. فالمصانع القائمة يتم إيقافها لتعود للعمل من جديد في مواقع قريبة من السواحل، حيث يكون العاملون أكثر انقياداً، وتكاليف العمل أقل، والحماية القانونية رخوة، والاستقطاعات الضريبية في حدها الأدنى. وحتى من دون إيقاف العمل في وحدة ما للإنتاج، فإن التهديد بإعادة تعيين مهام العاملين وأعبائهم بين المصانع يمكن أن يؤثر بدرجة كافية على نظام العمل.
وفي ظل المنشآت متعددة الجنسية، فإن محاولات الحكومات الوطنية لتوجيه السياسة الصناعية- نحو ميركنتيلية جديدة- محكوم عليها بالتخبط. إن ما يبدو وكأنه تجلي عصر معلومات هو، إلى حد بعيد، نتاج عرضي by-product لسعي قطاع الأعمال لفرض سيطرة وتحكم المنشآت المعقدة. وإن هدف امتدادها العالمي، كأوضح أثر لها، ليس هو تحقيق الاعتماد المتبادل العالمي، بل هيمنة الاقتصاديات المحلية عالمياً.
كما أن سيطرة الأعمال بهذا القدر من شأنها أيضاً تشكيل رغبات المستهلكين. إن سطوة الوجود المفرط للصور هي الحصيلة العملية جداً للتسويق المقصود من جانب الأعمال. فبعد أن روّعت الحكومات، فإن المنشآت متعددة الجنسية يمكن أن تستعمل الدعاية والإعلان لخلق رغبات في سلع تافهة أو ضارة كالمشروبات الخفيفة، السجائر، المشروبات الكحولية، حليب الأطفال (كبديل للبن الأم)، في بلدان ليس فيها للفقراء سوى دخل ضئيل متذبذب.
الاقتصاد السياسي العالمي الجديد أخذ شكلاً تسيطر فيه طبقة عالمية جديدة على استثمار وجهاز إنتاج متعدد الجنسيات. إن أعضاء هذه الطبقة يعيشون في مدن عالمية مختارة، ويحضرون جامعات مختارة، ويتكلمون لغات قليلة خاصة بالنخبة (ومع الإنجليزية باعتبارها اللغة المشتركة lingua franca)، ويسافرون عبر نفس المطارات، ويلبسون نفس الملابس الفاخرة لقطاع الأعمال، وينزلون في فنادق ذات معايير معينة. وهم ليسو بالضرورة مولعين بالظهور في حالة انسجام، ولكنهم في الواقع يبرزون كنخبة عالمية، وينشرون في العالم كله الثقافة الموحدة لإشراف الأعمال.

عصر التخصص المرن
إن هذه الأزمنة المضطربة لم تكن ملائمة لبيروقراطيات الأعمال التي سادت في رأسمالية القرن العشرين. إن ثباتها الاقتصادي قام على وجود فترات إنتاج طويلة لوحدات متماثلة، وتقسيم عملية الإنتاج إلى مهام بسيطة وروتينية، وأنواع جامدة من العمل، وفصل العاملين من ذوي الياخات البيض عن خط ذوي البدلات الزرق، والمواجهات بين النقابات والإدارات. وقد اعتمدت تلك الأزمنة في أدائها على صيغ إدارية ترتبط بفردريك وينسلو تايلر Frederick Winslow Taylor، المناصر الكلاسيكي لفكرة الكفاءة الروتينية في مكان العمل، وهنري فورد Henry Ford، المناصر لخط التجميع.
وندخل الآن في عصر ما بعد تايلر أو فورد، الذي لم تعد تسود فيه حكمتهما(21). فهذا زمن تفكيك قوة الأعمال المتكاملة عمودياً وصعود منشآت رأسمالية أصغر أكثر تنظيماً، أكثر تخصصاً، أكثر تكيفاً، منشآت تعتمد على قوة عمل ذات مهارات متعددة.
وقد اجتازت الرأسمالية هذه العتبة الصناعية لأن الأسواق للوحدات المنتَجة على نطاق واسع باتت متشبعة الآن. فالمستهلكون في الاقتصاديات الغنية يبدون اهتماماً أقل بالملابس البسيطة والخفيفة، والأطعمة المنتَجة على نطاق واسع، والبيوت المتماثلة، والسيارات النمطية. فمنشآت الأعمال التي تخدم هؤلاء المستهلكين لم تعد قادرة على الصمود بإنتاج منتجات متماثلة لأوقات طويلة، بل ينبغي عليها، على العكس، أن تتجاوب مع أذواق متنوعة جداً ومتبدلة بسرعة.
وفي الوقت نفسه، فإن المنافسين الأجانب، الذين يظهرون بمنتجات وعمليات جديدة، يقتحمون أسواقاً داخلية محصَّنة من خلال مواضع متخصصة في السوق. إن صعود التقنيات الجديدة، الباعثة على عدم الاستقرار، من التكنولوجيا الحيوية وصناعة الخزف المتقدمة إلى أجيال تتجدد باستمرار من معدات الحساب computing equipment، تضع ضغوطاً أكثر على المنشآت الخاصة حتى تتكيف بسرعة. وفي هذه البيئة المتقلبة، فإن الشركات الصناعية المنظمَّة بيروقراطياً تكون في حالة تنقصها الميزة.
إن الكثير والكثير من المنشآت لا تصمد الآن إلاّ لأنها تضع خطط إنتاج قصيرة الأمد، وتستثمر في معدات يمكن أن تؤدي مهاماً متنوعة، وتُدخل بسرعة منتجات جديدة. والشركات يمكن أن تسّهل مثل هذا التغيير بالاعتماد أكثر على الحاسوب لمتابعة العمليات وكذلك بزج المهندسين والمصمِّمين أكثر في الإنتاج. وبغية إنتاج منتجات ذات نوعية أرفع ضمن أنواع أكثر، ولفترات أقصر، فإن المنشآت تبتكر أشكالاً لتنظيم مواقع العمل لا تعتمد على الإشراف ذي التسلسل الهرمي.
إن المنشآت الصغيرة، التنظيمية enterpreneurial firms، هي في أفضل وضع لتحقيق هذا الانتقال. فهي صغيرة إلى حدٍ كافٍ للاستجابة للأذواق المحددة، ونبيهة إلى حدٍ كافٍ للتكيف بسرعة للتغيير الحاصل. وعندما يتواجد عدد كبير من مثل هذه المنشآت في نفس الإقليم الجغرافي، فإنها تتمكن من الاعتماد على نفسها في الحصول على المعلومات والخدمات المتخصصة، التي حاولت الشركات الصناعية الكبرى ذات يوم الحفاظ عليها تحت مظلة تنظيمية واحدة. إن نفس العوامل التي تجعل البيئة الاقتصادية غير مستقرة- تقنيات الحساب والاتصالات- تساعد على ربط هذه الشركات بعضها ببعض ومع عملائها، مما يزيد أكثر من مقدرتها على الاستجابة السريعة.
وغالباً ما تجد المنشآت بأنها تصمد على نحو أفضل حينما تتكتل في أقاليم صناعية جديدة مثل سيليسون فالي Silicon Valley وإيطاليا الثالثة Third Italy. إذ يمكنها هناك أن تهتم بمجموعة متنوعة من العلاقات المرنة فيما بينها: فهي تتمكن من الوصول إلى المعلومات الداخلية، وتستفيد من (وتساعد على تطوير) العمل المدرب جيداً في الإقليم، وتقوم بالشراء والبيع والدخول في علاقات. ورغم العولمة الواضحة للاقتصاد، فإن الإنتاج الرأسمالي يصبح الآن أكثر اعتماداً من أي وقت مضى على ما بين المنشآت من علاقات بفضل القرب الجغرافي.
إن منظمات الأعمال الأكبر تثابر وتستمر، ولكن ينبغي أن تغير طرقها في أداء عملها. ففي البيئة الحالية غير الآمنة، تتخلص هذه المنظمات من الشركات الفرعية ذات القدرات التقليدية. وهي تقّوي من قبضتها على قلب التقنيات وتبني خطوطاً إنتاجية متشابكة. كما أنها تنصرف عن دوائر البحث المحكّم والمدار مركزياً، ومكاتب أنظمة- المعلومات، وعمليات مركزها الرئيسي التي كانت ذات يوم تهدف إلى التنسيق بين الوحدات الفرعية المتعددة. وبدلاً من ذلك، فهي تبحث عن المرونة من خلال العلاقات مع عدد ضخم من الحلفاء في الأعمال، والشركاء الاستراتيجيين، الممِّونين، والمتعاقدين الفرعيين.
إن المستخدَم في الإنتاج الكبير في العصر الصناعي السابق آيل إلى الزوال اليوم؛ فمهاراته الروتينية هي تلك المهارات بالذات التي يمكن أتمتها. فبخلاف التوقعات بأن الأتمتة والحوسبة ستعمل على التقليل من شأن مهارات العاملين وتحوّلهم إلى تابعين ميكانيكيين machine tenders، فإن البيئة الجديدة قد قدمت مكافأة على تنوع المهارات البشرية. فحينما يتعلق الأمر بتقديم منتجات جديدة، والتكيف لأزياء جديدة، وتغيير طرق الإنتاج، واستيعاب التكنولوجيا الجديدة، فإن الروبوت robots لم يتكيف في أي مكان كما ينبغي. وإن منشآت الأعمال لم يعد بوسعها أكثر أن تعتمد لا على العاملين غير الماهرين الذين يخضعون للإشراف بصورة جامدة ولا على الأتمتة. وبدلاً من ذلك، تقوم تلك المنشآت بتأجير عاملين أكثر تعلماً وقدرةً، كما أنها تشجع على زج العاملين أكثر في قرارات الإنتاج.
ولذلك، فإن التحول الرأسمالي الجديد يجلب معه ظهور أقاليم رأسمالية جديدة وديناميكية، واعتماد اقتصادي جديد على التنوع البشري،، وثقافة دولية جديدة للتنظيم enterpreneurship.

عصر الحركات الجديدة
في التغيرات الرأسمالية، شاهدنا لحد الآن منشآت الأعمال، والحكومات، وإدارييّها، بوصفهم الممثلين التاريخيين الرئيسيين. فهؤلاء هم الممثلون الذين ينفذون التغير الرأسمالي. ولكن مثل هذا التحول يرهق الأفراد- المواطنين، المستهلكين، أعضاء الأسر، والعمال- كقوة هائلة تحدد مصائرهم الشخصية.
وعند حلول القرن الجديد، كان مواطنو العالم الرأسمالي المتقدم قد اكتسبوا الوعي الذي به سيتمكنون من الرد على التغير الاقتصادي مطلق العنان. وهم اكتسبوا هذه المقدرة، جزئياً، من التعليم الذي أتاحه الازدهار الرأسمالي نفسه. كما أن تقنيات المعلومات، والإذاعات، والاتصالات، كانت حاضرة مرة أخرى بحيث أنها قدّمت للمواطنين معرفة متزايدة دوماً بالحقوق، والامتيازات، والمخاطر. والحصيلة هي ظهور حركات جديدة لتوجيه الشؤون الاقتصادية نحو النفع الاجتماعي.
ومع ذلك، فإن هذه الحركات تظهر أيضاً لسبب آخر أكثر عمقاً. فنفس التغيرات الرأسمالية، التي ناقشناها، قد حوّلت ولاءات الفرد. ففي الحقبة الرأسمالية القديمة، كرّسَ المواطنون ولائهم (غير ولائهم لأسرهم) لطبقتهم، لوطنهم، لجيشهم، أو لمكان عملهم. وبخلاف ذلك، فإن الفرد الجديد يكتسب مجموعة من الهويات، والاهتمامات، والولاءات: لجنسه، لبيئته الطبيعية، لتفضيله الجنسي، وللشؤون العامة الملائمة. فهو (أو هي) يشارك في الحركات الاجتماعية التي تؤكد على حقوق الأقليات، أو تقلل المخاطر الإنسانية، وتقدم الضمان الاقتصادي، وتقاوم تخريب المحيط الإنساني.
وفي ستينات القرن العشرين، كانت حركات الشباب الراديكالية قد فُهمت أساساً على أنها طليعة للفعالية الاجتماعية(22). وبعد عقد من ذلك، برزتْ الحركات التي تعكس قوة المجتمعات المحلية والسيطرة المحلية. وكرد على هبوط الصناعة التحويلية، وعلى توجه قطاع الأعمال نحو تغيير مواقع العمل بحسب رغباته، قامت الحركات هنا وهناك للاحتجاج على إغلاق المصانع، والمطالبة بإشراك العاملين في صنع قرارات الأعمال، وبالديمقراطية الاجتماعية. كما حاولت الحركات المبعثرة في البلدان الرأسمالية المتقدمة أن تستعمل المنظمات المحلية، والمجموعات الاجتماعية المعبأة، والسلطة الضئيلة للحكومات المحلية لممارسة التأثير المحلي على الاقتصاديات المحلية. ولكن عند نهاية القرن، كسبت الحركات الاجتماعية أعظم تأثير لها عندما أصبحت لقضاياها صلة هامة بجهات محلية كثيرة(23).
إن الحركات الواسعة تنشط الآن عبر الأقاليم والبلدان لحماية البيئة الطبيعية، ولضمان سلامة السلع الاستهلاكية، وللضغط من أجل المحافظة على الصحة العامة، وللدفاع عن حقوق الضعفاء، ولزيادة الوعي العام بشأن التهديدات المتزايدة دوماً من عدة مصادر- كالأشياء التي تُضاف للأطعمة وتجعلها غير صحية، ومواقع النفايات الخطيرة، والنمو السكاني المفرط، والشعر الغنائي والموسيقي البذيء، والممارسات الجنسية الضارة.
إن هذه الحركات أصبحت قادرة الآن على حمل التطور الرأسمالي على الاهتمام بمثل هذه القيم. وفي الواقع، فإن الحركات بات لها مثل هذا التأثير القوي والواسع بحيث أن منطق السياسة والأسواق قد تغيرَ. والحصيلة هي رأسمالية جديدة، واقتصاد اجتماعي تتخلله مجموعة من الاهتمامات الإنسانية. وهذا الاقتصاد الجديد يختلف بقوة عن دولة الرفاهية التي سادت في الحقبة الصناعية السابقة: فهو لا يركز أساساً على إعادة التوزيع الاقتصادي أو التقسيم المحدَّد بيروقراطياً للحقوق. إذ أن الحركات الاجتماعية الجديدة تطالب بأن يكون لممثليها الحق بالتشاور والتأثير على القرارات التي تتخذها الهيئات الحكومية وقطاع الأعمال.
وسواء تعلقَ بالتلوث السام، أو بتمكين الأقليات من العمل، أو بسلامة السلع الاستهلاكية، فإن الحركات تصل إلى مصادر المعلومات، وتكسب المقدرة على مراقبة الأداء، وتُوصل آرائها ومعارفها إلى شتى المنتديات (لجان قطاع الأعمال، وسائل الإعلام، الهيئات التشريعية، الهيئات الاستشارية)، وتدخل في حوار مفتوح مع مَنْ لديهم وجهات نظر أخرى، وتنجح في أكثر الأحوال في المشاركة بالقرارات الهامة.
ورغم تنوعها، فإن الحركات الاجتماعية يجمعها خيط عام: وهو مبدأ الشفافية والمشاركة open, participatory ethic. فهي تنشد القوة للمشاركة في القرارات التي تؤثر على الشؤون الإنسانية. وبذلك، تتمكن الحركات الاجتماعية من تشكيل سجل منشأة أعمال ما في حقل سلامة العمل، وجودة السلعة، وانبعاث السموم، هذا دع عنك علاقاتها مع الأفراد من مختلف الأعراق، والتوجهات الجنسية، وجنس المرء، وحالات الإعاقة والعجز والضعف.
وإذ تخضّب مطالبها حياة الأعمال، فإن للحركات آثار عميقة على عمليات الاقتصاد. فكل منشأة أعمال، كل هيئة حكومية، وكل جامعة، تعمل الآن في بيئة أخلاقية معقدة لا نظير لها في الماضي. فهي تولي عنايتها لردود الأفعال المحتملة على أفعالها من قبل مجموعة من الدوائر والمتعاملين داخلياً وخارجياً.
إن هذا الدليل الأخلاقي لقرارات قطاع الأعمال يبّشر باقتصاد اجتماعي حقاً: رأسمالية، يحرسها حُراس لديهم اهتمامات إنسانية متنوعة ويصبحون مشاركين عضويين في حياة قطاع الأعمال. وعند مواجهته باقتصاد المعلومات الذي يهيمن عليه التفكير التحليلي، فإن الاقتصاد الاجتماعي الجديد هذا يعمل من خلال المفاوضات المفتوحة، والمناقشة، والحوار. ومع أن المستهلكين، في اقتصاد الصور، لهم حياتهم التي تحددها النزوات والخيالات fantasies وتعكسها وسائل الدعاية والإعلام، فإن المواطنين، في الاقتصاد الاجتماعي هذا، هم المشاركون المؤثرون في وضع اتجاهات منشآت أعمالهم وحكومتهم. في الرأسمالية الجديدة هذه، لم تعد الأحداث الاقتصادية تجري من خلال الممارسة الطائشة لقوة قطاع الأعمال ولا من خلال العمليات التلقائية لآليات سوق عالمية. على العكس، فهي تبزغ من خلال المراقبة الاجتماعية الملية، والمشاركة الواسعة، والحجة المعلَّلة.

عصر الأصوليين الجدد
إن الانتشار العالمي للتغير المضطرب يلوح كتهديد عميق للهوية الشخصية. ولذلك، فإن العشائر، والأعراق، والأديان، والطوائف، في كل أرجاء العالم، تعيد صقل الحضارات القديمة، وتعيد اكتشاف القيم الأصلية، وتعيد التأكيد على الحقيقة الأبدية، وتكتسب القوة للكفاح من أجل الحقيقة. إن التحولات نفسها التي تم وصفها تضيف إلى الطابع الملح لهذه المهمة. فعصر المعلومات وسياسته التكنوقراطية تعم الآن الحياة الإنسانية مع مبدأ لا أدري من التحليل agnostic. كما أن التجارة العالمية تواصل تقدمها عبر البلاد والمجتمع مع عرض مدوِّخ من المغريات الجديدة. إن بيروقراطيات قطاع الأعمال متعدد الجنسية، وأسواق المال العالمية، والتحالفات الميركنتيلية بين الحكومة وقطاع الأعمال، والمنظِّمين البارعين مع تقنيتهم المتقدمة، لديهم قوة جبارة لإفساد الحكومات، والعمل على عدم استقرار الاقتصاديات، وانتهاك قدسية القيم العزيزة، وتخريب العرف الجدير بالاحترام.
الأصولية fundamentalism التي تنبعث كرد فعل على ذلك لا ينبغي خلطها بالتقليدية traditionalism. فالمجتمع التقليدي حاربَ وخسرَ خلافه مع المجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر(24). كما أن الممارسات التقليدية الباقية تتعايش مع العالم الصناعي وقد وجدت لها أدواراً هامشية فيه. وإن التقليديين والمتدينين الأرثودكس من جميع الأنواع قبلوا بإبعاد الدين إلى مكان منزوٍ للتأمل الشخصي- كما حدثَ مع الفن في العالم الحديث. وفي منتصف القرن العشرين، عملتْ الحكومات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية تسوية مؤقتة وخدمتْ كمَصْد بين النخبة الحديثة والجماهير التقليدية. ولكن عند انهيار هذه التسوية، تم التشكيك بسهولة انقياد المتدينين الأرثودكس. وفي الوقت نفسه، فإن الحياة الصناعية في حالة فوضى وتداهمها تحولاتُ يتعذر تجنبها.
ويتسارع ظهور الحركات الأصولية ليس بسبب انتشار العهد الصناعي الحديث والعلماني والتكنولوجي، بل بسبب تلاشيه. وفي هذه البيئة، يبحث الأصوليون في ذخائرهم التي لا تتغير من التاريخ، والآثار، والأصل، والكتاب المقدس، والأسطورة، عن أحجار كريمة من المعتقد القوي. وبعد ترتيبها وتزيّينها كما ينبغي، فإنها تصبح معتقدات غالية تحميها براءة أبدية. وعند مقارنتها بالصور المتجددة أبداً، والمربكِّة دوماً، والمُتلاعَب بها دائماً، التي من خلالها تشكّل وسائل الإعلام مفاهيمنا الذاتية، فإن الأصولية تعيد خلق ذلك الأساس الأبدي من المفاهيم الذي يمكننا أن نعتمد عليه(25).
يعتمد الأصوليون بصورة انتقائية على ذخيرتهم الثقافية ويعيدون بنائها بأشكالٍ لا يستطيع التقليديون إدراكها دائماً(26). فهم يحددون موضوعات الالتزام العاطفي (الملابس البسيطة، والفن المسالم، وحياة الجنين) التي قلّما اهتم بها أسلافهم. كما أن الأصوليين الجدد لا ينفرون من التكنولوجيا. فهم يستعملون شبكة الحاسوب العالمية، والتلفزيون، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية. وفي الجامعة، يصون الأصوليون الجدد الهندسة والعلوم الطبيعية، حتى ولو جرى قمع العلوم الإنسانية والاجتماعية.
كما أن الأصوليين ليسو معاديين للرأسمالية. فالدولة الأصولية النموذجية في هذه الحقبة، جمهورية إيران الإسلامية، تحتفظ بالمشروع الخاص، وبالملكية الخاصة، وبالتجارة الخاصة. وإن البازار bazaar، السوق، والتاجر، هي مصادر قيَّمة لصيانة المعتقد. وكما في الأصول البروتستانتية للرأسمالية، فأنه في هذا العهد الرأسمالي الجديد، أيضاً، يمكن للتجارة والادخار والاستثمار أن تكون ناقلات للتقوى- ما دام المشروعُ يخلص الولاء للوصفات الأصولية، وما دامت الحركةُ تشارك في المكافآت المالية.
وفي هذا العصر الجديد، تتقيد منشآت الأعمال بآداب المجتمع من ناحية السلوك، والملابس، وجنس المرء، والتقويم وما فيه من مناسبات. وهي تقيم العلاقات مع المؤمنين، وتشجع الفضيلة في مكان العمل، وتدفع العشر. فالحياة الاقتصادية تتحول بواسطة الإخلاص للحقائق الأبدية.
إن العالم كله يشاهد ظهور الحركات التي تؤكد الأصوليين الجدد. فتزايد الحماس للدين، في الدول الشيوعية السابقة، لا تكاد تضعفه حتى ضرورة استكمال الحاجة لرجال الدين. وبالنسبة للإنبعاثي هاريدي Haredi ، فإن أعظم عقبة سياسية ربما هي أن اليهود، والحرس الثوري، والناشطين الهندوس، والأغلبيات الأخلاقية، لا يقيمون بشكل جاهز تحالفات مع بعضهم بعضاً. ولذلك، فثمة فارق أساسي بين الأصوليين الجدد والحركات الاجتماعية الجديدة. فالحركات الاجتماعية تمارس الحوار، والمشاركة، والمفاوضات، وعملية الأخذ والعطاء السياسية. أما الأصوليون، فربما يكونوا مستعدين للدخول في ترتيبات تكتيكية، ولكنهم يظلون عالقين بالاعتقاد بتعذر التوصل إلى تسوية في نهاية المطاف. كلاهما قد يكون قلقاً بشأن الهوية الأخلاقية، ولكن الحركات الاجتماعية تُدخل قضايا الأعراق إلى المنشأة كقضية مدنية، بينما تفعل الحركات الأصولية ذلك لتأكيد السيطرة العرقية. وبينما نجد العصر الجديد للحركات الاجتماعية يعيد تشكيل الرأسمالية من خلال المشاركة الجماعية، فإن العالم الجديد للحركات الأصولية يحوّلها عبر التصميم الهادف أو العنيد.

قوى التحول
قبل نصف قرن من الآن، تكاثرت أفكار التغير الراديكالي، وانتشرت بسرعة بقدر ما وهنَ الإيمان بالتقدم، كما يبدو. وقد أبرزت نفسها ليس فقط عصور ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة والعصور الباقية، ولكن أيضاً العصر الذري، وعصر الحاسوب، وعصر الفضاء، وعصر الجينات، والعصور الجديدة الأخرى(27). وقد أُذيعت على نطاق واسع أنباء وصولها، وهي الآن لا تعتبر أنباءً هامة إلاّ بشكل عابر. ليست التغيرات المثيرة ما اعتادت أن تكون عليه. وقد تكون الرغبات الشديدة بالعصور الثورية الجديدة علامات على أزمنتنا، لولا أن المؤمن الألفي السعيد يأمل بمظهر عقلي. وربما أن مجرد كثرة العصور الجديدة تثبت أننا فقدنا الاتجاه، فتشّدنا إلى آمالنا المثيرة الأخيرة قبل أن نفقد الإيمان بالأمل الجديد.
إذاً، مرة أخرى، فإن الخلل المنطقي في مثل هذا الرفض العدمي يبدو واضحاً جداً. إن تعلنْ هذا كعصر معين عند انقضاء عصور جديدة هو تناقض ذاتي ميئوس منه لأن ذلك، طبعاً، هو إعلان عن عصر جديد. وإذا أخذنا عصراً جديداً واحداً بصورة جدية، فإن العصور الأخرى يمكن أن تطالبنا بإبداء الاهتمام بها. وفي الواقع، فإن الرأسمالية تطفح بقوى التغيير. فكل واحد من "العصور الجديدة" ينير إمكاناتنا الحالية أو الموشكة على الظهور. وإن التحدي الذي أمامنا هو فهم معنى كثرتها.
وبين أمور أخرى، يمكننا أن نعمل ذلك بأن نختار رؤيا واحدة للتغيير، وأن نعلن بأنها صحيحة، ورفض الرؤى الباقية. وفي الواقع، فإن هذا النوع من المزاج الفكري غالباً ما يميز التناول المعاصر لموضوع التغير وذلك، جزئياً، لأن المشاركين به يشعرون بأنهم يقومون بالتنبؤ ويشعرون بأنهم ملزمون باختيار المستقبل الصحيح. وهذا يسري على عصر المعلومات، وعصر العولمة، وعصر ما بعد الحداثة، وغيره؛ فلكل عصر المتحمسين له الذين يأخذون القوة الرأسمالية المفضلة كمهمة شخصية. إن المراهنة على العصر الصحيح تعني تثبّيت المستقبل في موضع ما وتُثبت للمرء أنه عَراّف (أو متنبئ). والحصيلة الفضلى تأتي من اختيار المستقبل الصحيح، وليس من تسليط الضوء على الإمكانات الحالية.
وبدلاً من اختيار المستقبل الصحيح، يمكننا أن نجرب استراتيجية أخرى: دمج التغيرات المتعددة في اتجاه تاريخي ضخم واحد. وغالباً ما تحاول الكتابات عن التغير المعاصر أن تفعل ذلك، كما هو شأن، مثلاً، أدب العلم- الاجتماعي social-science literature الذي يرد تحت عنوان: "إعادة الهيكلة الصناعية(28)." ومع ذلك، فمع انهيار عدد من الاتجاهات المعاصرة (ورفض عدد من الاتجاهات الأخرى)، فإن فكرة إعادة الهيكلة الصناعية تُجانس مفاهيمنا لما يحدث في الوقت الحاضر وتقوّض قدرتنا على إدراك الإمكانات المتعددة.
ولكي نفهم تماماً معاني الجرد الذي قدمناه للعصور الجديدة، فينبغي أن نتخلى عن هذه الطرق التقليدية لإدراك معنى التغير الراديكالي. ولذلك، أقترحُ أن نسلّم بإمكانية التحولات المتعددة، المتزامنة. وحينما نأخذ هذا الموقف الفكري، فنحن لا نراهن على وضع ما بشأن المستقبل. فمن الممكن أن كل أو معظم الرؤى لعصر ما جديد قد لا تكون سوى خرافات حداثة- متأخرة. وقد يحدث أيضاً أن عصراً جديداً واحداً أو خليطاً من عصرين أو ثلاثة عصور يسود في المستقبل. ولكننا لا نستطيع بعْد أن نقول شيئاً. فالحقبة الحالية حبلى حقاً بالمستقبل وهي- بقدر ما يمكن قوله- لم تلد بعد. ومهمتنا هي دراسة الحمل الرأسمالي هذا.
وإذا كانت كل العصور الجديدة، فرادى أو ضمن خليط ما، معقولة على نحو منسجم، فينبغي أن تكون هناك قوة ما تأخذنا في عدة اتجاهات متقاربة. فما هي القوة التي تشكل الأساس للتغيرات الرأسمالية المتقاربة؟

التكنولوجيا، الأذواق، أو الأزمات؟
النظام الأكاديمي المأخوذ به عادةً للنظر في العالم الاقتصادي، أي علم الاقتصاد الأرثودكسي، يستخلص استنتاجاته عن التغير المثير من فرضيته الأساسية: إن آليات السوق تمكّن الأفراد المهتمين من حل الحاجات والضغوط الجديدة بكفاءة. والاقتصاديون يبحثون عن تفسيرات، للتغير في الأحداث، خارجية بالنسبة للسوق external or exogenous: في التقنية المتغيرة أو الأذواق المتغيرة.
لنأخذ القاطرة الأولى: التقنية. التقنيات الجديدة مضَّمنة حقاً في قوى التغير الرأسمالي. إذ أن عصر المعلومات إضافةً إلى عصر الحركات الاجتماعية الجديدة؛ وعصر الميركنتيلية الجديدة إضافةً إلى عصر الأصولية الجديدة؛ كلها تحدث جزئياً بسبب التغير التكنولوجي. إن أحد عناقيد التقنيات: "تقنيات المعلومات" الجديدة- التي تتألف من الحساب، والاتصالات، والإذاعة- تلعب دوراً مركزياً بشكل خاص. هل يمكن لكل واحد من العصور الجديدة أن يكون النتيجة للتقنية؟
التفسير معقول ما دمنا نعالج كل عصر جديد- كل تحول- على حدة. ولكنه يصبح غير معقول في مواجهة التحولات المتعددة. إذ لا يمكن لنفس المجموعة من التقنيات أن تسّبب كلاً من التنسيق العالمي لقطاع الأعمال ومرونة الأعمال المحلية، أو كلاً من الاعتماد المتبادل العالمي والميركنتيلية الوطنية. وحينما توضع عصور جديدة متشعبة (أو متباعدة) divergent بجانب بعضها بعضاً juxtaposed، فإنها تبين استحالة الحتمية التكنولوجية. من المؤكد أن التكنولوجيا لها صلة وثيقة بظهور العصور الجديدة. ولكن القوى التي تخلق كل عصر متصَّور تقّدم الدافع والاتجاه للتغير التكنولوجي بقدر ما تتأثر هذه القوى به. وأنا أستنتج بأن أياً من العصور الجديدة المطروحة لا تنشأ ببساطة عن الابتكار التكنولوجي.
وبالنسبة للقاطرة الثانية، فإن الاقتصاديين التقليديين قد يفترضون أن العصور الجديدة المفترضة هذه تنشأ ببساطة عن الأذواق الفردية المتغيرة. وبحسب وجهة النظر الأرثودكسية هذه، فإن الرؤى الاقتصادية الموصوفة هنا قد تستحق بعض التعليق ولكن يندر أن يكون لها أثر كبير لأن ذات الواقع القائل بأن التسوية حاصلة يفترض بأن الأسواق، التي تقود سلوك المستهلكين والمنتجين بفعالية، تستجيب للأذواق المتغيرة التي تؤثر في الطلب على المعلومات والتشكيلة السلعية وحماية البيئة، أي على القيم الأساسية. ومع ذلك، فهذا القول ليس من شأنه سوى توسيع المشكلة أكثر. فكيف نفسر تغير الأذواق؟ وإذ لا تمكّنهم عُدتهم من الإجابة على هذا السؤال، فمن المحتمل أن يبحث الاقتصاديون، مرة أخرى، عن أسباب خارجية كالعوامل "الاجتماعية" أو "الثقافية" التي يُعتقد بأنها تقع خارج العالم الاقتصادي. ومع ذلك، فإن دراستنا للتحولات الرأسمالية تفترض أن العصور الجديدة لا تنشأ عن عوامل فوق اقتصادية extraeconomic events، بل من اتجاهات كامنة في الرأسمالية.
وبانصرافنا عن التكنولوجيا والأذواق كعوامل محرِّكة أساسية للتغير الرأسمالي، فنحن نزيل الشكوك الرئيسية عن البحث عن أسباب خارجية دون أي فائدة. فلكي نجد مصادر التحول، علينا أن نعود للاهتمام بالاتجاهات الكامنة في الرأسمالية المعاصرة.
إن الاقتصاديين المتأثرين بتقاليد الفكر الماركسي يتمسكون فعلاً بمواقف في الاقتصاد تحاول فهم الديناميكية التاريخية. ولذلك، فإن فهمهم للتغيرات المثيرة أفضل بكثير- حينما تُعالج هذه التغييرات كلٍ على حدة. وهكذا نجد نظرة ماركسية جديدة لما بعد الصناعة، ولما بعد الفوردية- "مدرسة التوجيه"، وانتقادات لسلعنة العلامة commodification of the sign (اقتصاد الصور)، وانتقادات لعولمة رأس المال. ولكن هذه التوصيفات الماركسية الجديدة، أيضاً، لا تصمد عند مواجهة عصور جديدة متعددة. إن الماركسيين الجدد من شأنهم أن يعترضوا على أفكار التحولات المفتوحة، والمتزامنة، وغير المحسومة. ففي الفكر الماركسي، في نهاية الأمر، فإن فكرة عصر رأسمالي جديد لابد أن تأتي كنتيجة لفعل التناقضات الرأسمالية في اتجاه ما قابل للتعريف. ولكن جردنا للعصور الجديدة يمكّننا أيضاً أن نقول بأن مصير الرأسمالية غير مندرج في التاريخ؛ وبدلاً من ذلك، نشاهد عدداً من التغيرات المتزامنة التي لم تُحسم اتجاهاتها بْعد.
الأفكار الماركسية الجديدة للتغير الرأسمالي غالباً ما تعالج "رأس المال" وكأنه قوة وهمية disembodied force تخضع لأزمات دورية وتعديلات بنيوية. ولكن رأس المال له هذه الآثار لأن الإنتاج الرأسمالي يركز القوة power في طبقة معينة. وسواء أكان هذا بالتآمر أم لا، فإن أعضاء الطبقة يستجيبون لهذه النزعات من خلال مكائد تؤذي، وتستغل، وتؤثر، بصورة مختلفة على مَن يفتقرون إلى القوة السياسية- الاقتصادية. إن النتائج المتباينة لهذا التفاوت في القوة تطلق نزعات رأسمالية جديدة. وهذه السلاسل من الأزمات والتعديلات البنيوية تنشأ، إذاً، عن الواقع الأساسي: السيطرة المتفاوتة والمصالح المتعارضة، الكامنة في الإنتاج الرأسمالي.
وعلى نحو مغاير، فإن جردنا للعصور الجديدة يفترض ليس أزمة بنيوية، بل تغيراً مضطرباً turbulent change. فعمليات الأسواق والشبيهة بالأسواق في قلب المجتمع الرأسمالي تمارس ضغوطاً على العوامل الشخصية (أفراداً، ومنظمات، ومؤسسات) التي تستجيب من خلال استراتيجيات ثقافية، وصناعية، وتكنولوجية. ومن المؤكد أن أولئك الذين يمسكون بالقوة من خلال الثروة أو الوظيفة يمتلكون تأثيراً غير متناسب على تلك الاستجابة، ولكنهم هم أنفسهم تزيحهم جانباً قوى التحول. وليس لدينا فهماً سهلاً جداً للمصالح الطبقية بحكم أن المصالح نفسها تتحول.
ولذلك، فإن دراستنا للعصور الجديدة توحي بلونٍ من التفكير ربما يتجنبه الاقتصاديون من كلا الاتجاهين التقليدي والراديكالي: الفكرة القائلة بأن نفس عمليات وتطور النظام الرأسمالي تغّير الكائنات البشرية المشاركة فيها. إن قبول ذلك المنطق يفترض أننا لا نستطيع بدرجة كافية فهم التغير الراديكالي كحصيلة للمصالح المتعارضة بنيوياً بحكم أن طبيعة المصالح تتغير. ووفقاً لنفس المنطق، فإن أفعال التبادل الفردية هي أكثر من تصرفات نفعية. إذ أن آثارها تتخطى التكاليف والعوائد costs and benefits التي يمكن للمتبادلين أن يحسبوها بشكل عقلاني. إن النظام الرأسمالي ربما يمتلك الأثر المحيِّر المتمثل في تغيير الكائنات البشرية، والثقافات، والمنظمات، التي يعمل من خلالها.

اقتصاد المستقبل
أشار الاقتصادي الناقد كارل بولاني، في ذروة الحرب العالمية الثانية، إلى أن الكساد والحرب العالمية ميزّتا نهاية رأسمالية القرن التاسع عشر، وعالماً اقتصادياً هيمّنت فيه على المجتمع الغربي سياسةُ عدم التدخل الحكومي القائمة. وفي الرأسمالية المتحولة مجدداً، التي أخذت مكانها، توصلَ المجتمعُ إلى أساليب لحماية نفسه من فوائض السوق(29). إذ حاولتْ سياسة التوجيه الحكومي، والسياسة العامة، والنقابات، حماية الجمهور والبيئة والعمال؛ وهدفتْ السياسة الاقتصادية الكلية والسياسة التجارية إلى حماية الاقتصاد نفسه؛ بينما سعت الاتحادات الاحتكارية trusts والشركات القابضة لحماية منشآت الأعمال من أهواء المنافسة المتواصلة- وهو موضوع لم يذكره بولاني.
لقد تمكنَ بولاني من ملاحظة مثل هذه التغييرات بفضل الطريقة التي فهمَ بها الرأسمالية. فقد نظرَ إليها كمجتمع تهيمن عليه قوة قاسية لآلية سوق تلقائية. فالمجتمع الرأسمالي يتغير كنتيجة لعوامل عدم الاستقرار الكامنة والتي تمارسها هذه الآلية على الأفراد، والمنظمات، والثقافة. ولذلك، فإن الرأسمالية الصناعية، الموجَّهة حكومياً، والمنظَّمة بيروقراطياً- والتي سيبقى القرنُ العشرين في الذاكرة بسببها- قامتْ كنتيجة لعدم اليقين والآثار الجانبية الهدامة لأنظمة السوق القائمة على عدم التدخل الحكومي. وقد شهدَ منتصف القرن العشرين، وتحت السيطرة الأمريكية للعالم غير الشيوعي، استقراراً غامضاً، غير واضح.
ولكن بولاني لم يعش أكثر ليدرك أن الرأسمالية الصناعية لمنتصف القرن العشرين تضمّنت القوى المحرِّكة التي من شأنها تحويلها مرة أخرى. وأقترحُ أن ننظر إلى جردنا للعصور الجديدة في ذلك الضوء. فمع أن العصور الجديدة ساعدت على ظهور مجموعة محيِّرة تماماً، فهي كلها تعكس الآثار المنطقية لقوة اقتصادية نامية ومنتشرة في قلب المجتمع الصناعي للقرن العشرين. وقد عكسَ هذا المنطق نفسه بصورة مختلفة في كل واحد من العصور الجديدة.
أولاً، إذ قاد تعقيد المجتمع الصناعي إلى زيادة الحاجة للمعلومات، فإن المنشآت والحكومات عملتا على تجهيز (وتحمل مخاطرة) التدفقات السريعة والمتزايدة باستمرار من المعلومات. ورغم كتل المعلومات، فإن المنشآت والحكومات انصرفتْ للتحليل بوصفه الشكل الحاسم لصنع القرار. وقد غدت أفعال المنشآت والحكومات جزءً من أنظمة جمع المعلومات، والتوزيع، والمعالجة، والعرض. وقد تقدمَ الأفراد والمنظمات في الحال للعمل، وحتى لفهم أنفسهم، كمعالجين للمعلومات.
ثانياً، وفي إطار المجتمع الصناعي، أدركت منشآت الأعمال أنها تكسب جل الأشياء من تشكيل رغبات المستهلكين. إن التشكيل الهادف والبارع للمعاني significations أصبح شاملاً بحيث بات حتى المصمّمين يؤمنون بها. إن الإعلان، والعلاقات العامة، وخطوط الإنتاج في هوليود، وشخصيات وسائل الدعاية والإعلان، قد كسبوا القوة power لتعريف العالم إلى درجة قوية جداً بحيث أننا الآن نفهم حياتنا الخاصة نفسها من خلال حقائق الصور التجارية التي تقدمها وسائل الدعاية والإعلان.
ثالثاً، في أعقاب رأسمالية صناعية وسعّت التجارة الدولية، كنا عرضة لكثرة من الصلات والاحتكاك بجهات متعددة الجنسية وعالمية. كما تخلت المنظمات والأفراد عن رؤاهم ضيقة الأفق، حيث توفرَ لهم التنوع وباتوا يشاركون بثقافات متعددة في اقتصاد عالمي.
رابعاً، إن التدويل المتزايد للتجارة، الذي ميّزَ العالم الصناعي، وضعنا أيضاً أمام ميركنتيلية جديدة. فقد فقدت التنظيماتُ المعاني التقليدية لمبدأ فصل السلطات الحكومية government checks-and-balances والمنافسة الخاصة. إذ تحولتْ بشكل متزايد إلى ترتيبات شراكة جديدة هجينة بهدف إعادة التأكيد على الثروة الوطنية من خلال التقنية المتقدمة.
خامساً، كنتيجة للتعقيد المتزايد للمراتب الهرمية الإدارية، التي وُضعت أول مرة في المجتمع الصناعي القديم، أخذنا، أكثر من أي وقت مضى، نقع في فخ عمليات المنشآت العملاقة لقطاع الأعمال. فقد اكتسبت البيروقراطيات العالمية قدرة على الحركة تتجاوز حدود البلاد، وباتت تهيمن على الحكومات الوطنية والمحلية، وحوّلت العاملين إلى ميكانيكيين تابعين machine tenders وموظفين لتدوين البيانات.
سادساً، لقد عجّلَ المجتمع الصناعي القديم بحالة عدم اليقين uncertainty إلى حد انهيار المنظمات الصناعية الفوردية لتلك الحقبة نفسها. وقد شكّل المنظِّمون الأذكياء جيلاً جديداً من منشآت لها تخصصات مرنة، والتي قامت باستئجار العاملين المتعلمين ومتعددي المهارات ممن يمكنهم الاستجابة بسرعة للتغيرات الاقتصادية.
سابعاً، لقد ساعدنا نفس المجتمع الصناعي للقرن العشرين على توسيع شخصياتنا بحيث تتجاوز أبعاداً معنية كالطبقة، والجنسية، ومكان العمل، وبالتالي تكوين ولاءات جديدة. وقد أدت هذه الأبعاد إلى ظهور مجموعة من الحركات من شأنها اختراق منشآت الأعمال والحكومات ببرامج اجتماعية.
ثامناً، فرضت التغيرات في المجتمع الصناعي تهديدات أكبر على العشائر، والأعراق، والأديان، بحيث أدت إلى عصرٍ أعدنا فيه اكتشاف تمسكنا بمعتقدات أصولية.
ولذلك، فإن العصور الرأسمالية الجديدة تظهر ليس فقط من خلال التقنيات الجديدة، وليس فقط كاتجاهات إضافية incremental، وليس فقط كتغيرات بنيوية تحدث بعيداً عن إدراك الممثلين البشريين. على العكس، فهي حقاً الآثار للتحولات. فالتحول الرأسمالي قد يتضمن صفات تكنولوجية، وإضافية، وبنيوية، ولكنه أيضاً يمتلك الصفة الأخرى، المحدِّدة، وهي أن التحول الرأسمالي يغيّر الممثلين (أفراداً، ومنظمات، ومؤسسات) الذين يشاركون فيه(30).
وكنتيجة للقوى التي يتعذر السيطرة عليها والتي انطلقت حينما أصبح السوق القوة المركزية في المجتمع، فإن رأسمالية القرن التاسع عشر، القائمة على سياسة عدم التدخل الحكومي، تحولت إلى المجتمع الصناعي للقرن العشرين. إن الرأسمالية الحديثة نفسها، الموجَّهة حكومياً، والتي تحمل طابع احتكار القلة، وفيها دولة الرفاهية البيروقراطية، تضمنت القوى التي تحوّل الرأسمالية الآن مرة أخرى. ومن خلال الآثار المتزامنة والمتفاعلة لهذه التحولات تتشكل الآن رأسمالية القرن الحادي والعشرين. هذه حضارة اقتصادية ناشئة، ومضطربة (أو مشاغبة)، تندفع بقوة مع إمكانات ملهمِّة ومخيفة.
وعند عتبة القرن الحادي والعشرين، ما نزال نحن في وسط مجموعة تحولات، ولا نعرف بعد أي منها، أو أي خليط منها، سيسود في المستقبل. إن أفكار التحول تتباعد عن بعضها بعضاً لأنها تعكس إمكانات زماننا الباعثة على التباعد possibilities divergent. ولا ينبغي علينا أن نحاول إخفاء هذه الإمكانات الباعثة على التباعد وذلك بأن نرسم صورة متجانسة للتغير. بل علينا، على العكس، أن نحاول فهم وكشف الاتجاهات المتعددة التي تعيد الآن تشكيل العالم.
ولذلك، فإن أنماط تفكيرنا بالاقتصاد ما تزال تحت تأثير مجتمعات القرن التاسع عشر والقرن العشرين التي تكونت فيها مفاهيم الرأسمالية. وينبغي علينا أن نطوّر ترتيباً اقتصادياً جديداً، وتفسيرياً، يمكّن من تأمل التغيرات التي تحصل في العالم. فالعلم الاقتصادي للمستقبل هذا economics of the future هو الذي سيسمح لنا بفهم أفضل للحصيلة من التحولات المتعددة وبإعداد أنفسنا على نحو أفضل للتفاعل معها.

هوامش
لقد تمت كتابة هذا الفصل فقط لأن الكاتب يمتلك زملاء مثل أرثر هوي شين Arther Hui-Chen، سام كول Sam Cole،
برونو بي. فريشي Bruno B. Freschi، إبراهيم جمال Ibrahim Jamal ، وماجدة كوردل ماك هال Magda Cordell Mchale، الذين حملوه على تقييم المحنة الفكرية التي يفرضها التغير المعاصر. وهو يقدم شكره لهم، إضافة إلى جون فريدمان John Friedman وسوزان كرستوفر Susan Christopher لملاحظاتهم المفيدة.
(1) See Stephen S. Cohen and John Zysman, Manufacturing Matter: The Myth of the Post-Industrial
Economy (New York: Basic Books, 1987); and Langdon Winner, The Whale and the Reactor: The Search for Limits in an Age of High Technology (Chicago: University of Chicago Press, 1986), especially the essay “ Mythinformation,” 98-120.
(2)See A. Amin and K. Robins, The Emergence of Regional Economies? The Mythical Geography of . Flexible Accumulation, Environment and Planning: Society and Space 8 (1990): 7-34; and Richard A. Walker, Regulation, Flexible Specialization and the Forces of Production in Capitalist Development, Revised paper presented at the Cardiff Symposium on Regulation, Innovation and Spatial Development, University of Wales, September 13-15, 1989
(3) إن بعض الرؤى للعصور الرأسمالية ترتبط بقوة بكاتب أو كاتبين، مع إن الخلافات بين أصحاب الرؤى كثيرة للغاية، وإن كل واحد منهم لديه أتباع بحيث إن كل رؤية تحولت إلى مدرسة. وعند تقديمها في حيز ضيق كهذا، فأنا أعمد إلى قولبة وتبسيط هذه المدارس بحيث تضيع خصوصية الكُتاب وما بينهم من فروق دقيقة. وأنا أفعل هذا لكي أشحذ الفروق والتوترات وأعزز فكرة إن الرؤى تفترض اتجاهات رأسمالية متقاربة.
(4) تتضمن الأعمال الكلاسيكية حول اقتصاد ما بعد الصناعة: Daniel Bell, The Coming of Post-industrial Society: A Venture in Social Forecasting (New York: Basic Books, 1976) and John McHale, The Changing Information Environment (London: Paul Elek, 1976) . لاحظْ قبول بيل Bell لمفهوم اقتصاد المعلومات في العمل:”Communications Technology- For Better or Worse,” Harvard Business Review 57, no. 3 (1979): 20-42. . ويتضمن الأدب الحديث حول اقتصاد المعلومات، مع مراجع غنية لبقية هذا العلم الغزير: Tom Forester, ed. Computers in the Human Context: Information Technology, Productivity, and People (Oxford, Basil Blackwell, 1989), and Kevin Robins, ed. , Understanding Information: Business, Technology and Geography (London: Belhaven, 1992). . وللإطلاع على ثبت مراجع شامل لفترة منتصف ثمانينات القرن العشرين، أنظر: Miriam Whitaker and Ian Miles, Bibliography of Information Technology: An Annotated Critical Bibliography of the English Language Sources Since 1980 (Aldershor, U. K. : Edward Elgar, 1989).
(5) ثمة محاولة هامة لقياس نمو اقتصاد المعلومات في الولايات المتحدة توجد في عمل: Marc Uri Porat, The Information Economy: Definition and Measurement (Washington, D. C.: Office of Telecommunication, U.S. Department of Commerce, 1977).
(6) هذا صحيح في الكثير من فصول العمل الذي نشره فورستر: Forester, ed., Computers in Human Contexts..
(7) تفترض حجة دانيل بيل Daniel Bell المطروحة في العمل: The Coming of the Post-Industrial Society امتداداً تاريخياً واسعاً يتجاوز مجرد التعليل التكنولوجي. وقد حاول إيان مايلز Ian Miles وزملاءه ، على وجه التحديد، فصل مفاهيم اقتصاد المعلومات عن الحتمية التكنولوجية. أنظر: Ian Miles, Howard Rush, John Bessant, et al., IT Horizons (Aldershor, U. K., : Edward Elgar, 1988), and Ian Miles and Kevin Roberts,” Making Sense of Information,” in Kevin Robins, ed., Understanding Information. . ولذلك، كان لانجدون ونِر Langdon Winner ( في العمل: “Mythinformation” in: The Whale and the Reactor) يبالغ في فكرته ويضعها في مفاهيم مترابطة كلياً لمجتمع المعلومات مع الحماس للتكنولوجيات الجديدة.
(8) ومع الأسف، فإن أدب اقتصاد المعلومات لا يسهب حول هذه النقطة. الكاتب الوحيد الذي يعزو ظهور اقتصاد المعلومات إلى "تعقيد" الحياة الصناعية هو ميلفن كرانزبيرغ Melvin Kranzberg في عمله: “The Information Age," in Forester ed., Computers in Human Context, 19-32, especially 21-24.
(9) الكثير من عمل بيل: Coming of the Post Industrial society يشدد على ظهور الحساب العقلاني كقوة مهيمنة في المجتمع الجديد. إن وصفاً مماثلاً للرأسمالية المعاصرة، من زاوية إن صنع القرار يتم على أساس تكنوقراطي، نجده في المقالات المبكرة ليورجن هابرماس Jurgen Habermas، وبخاصة عمله: “The Scientization of Politics and Public Opinion," in Toward A Rational Society (Boston: Beacon Press, 1970, trans. J. J. Shapiro).. وللإطلاع على مناقشة للمفهوم التكنوقراطي مقابل المفاهيم الأخرى للاقتصاد السياسي الحالي، أنظر: Ernst Sternberg, “Incremental Versus Methodological Policy making in the Liberal State," Administration and Society 21, no. 1 (May 1989): 54-77.
(10) فمثلاً، يشدد فرْيد بلوك Fred Block على إن الاختيار بين العناوين: " ما بعد الصناعي" و "ما بعد الحديث" هو أمر اعتباطي. أنظر عمله: Postindustrial Possibilities (Berkeley: University of California Press, 1990), 4, n. 7.
(11) أنني أقتبس على نطاق واسع وبحرّية من عدة مراجع، ولكني متأثر بشكل خاص بعمل جين باودريلارد Jean Baudrillard، وبخاصة عمله: The Mirror of Production (St. Louis: Telos Press, 1975, trans. Mark Poster) and Simulations (New York: Semiotext(e) 1983, trans. Paul Foss, Paul Patton, and Philip Beitchman). . كما تأثرتُ كذلك بعمل أرثر كروكر وديفيد كوك Arther Kroker and David Cook, The Postmodern Scene (Montreal: New World Perspectives, 1986). . وللإطلاع على معالجة ماركسية جديدة لهذه الظواهر، أنظر: W. F. Haug, Critique of Commodity Esthetics (Cambridge: Polity Press, 1986). . وهناك أيضاً أدب تقليدي أكثر يراقب الدور المتزايد للصور والإعلان في الرأسمالية الأمريكية. أنظر، مثلاً: Stuart Ewen, All-Consuming Images: The politics of Style in Contemporary Culture (New York: Basin Books, 1988).
(12) التأملات عن الاعتماد المتبادل العالمي تخطت نطاق الأدب المتخصص، وهي تغمر الآن المناقشات السياسية والاقتصادية. وقد ظهرت الأفكار الأولى حول العلاقات متعددة الجنسية لدى: Robert O. Keohane and Joseph S. Nye, Jr., eds., . Transnational Relations and World Politics (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1971). . والعمل الموجز الأخير، مع مراجع مستفيضة لأعمال أخرى، هو: John Accordino, The United State in The Global Economy: Challenges and Policy Choices (Chicago: American Library Association, 1992).. ثمة تقييم دقيق بشأن التوجهات السياسية politics للاعتماد المتبادل العالمي ما بين الدول مقابل التوجهات السياسية التي تصحبها إمكانات الخلاف العسكري يظهر في عمل: Robert O. Keohane and Joseph S. Nye, Jr., “Power and Interdependence Revisited,” International Organization 41, no. 4 (August 1987):725-753. . ويمكن إيجاد مجموعة من المقالات تعكس الحماس الساذج في الكثير من المناقشات المعاصرة لدى: William E. Brock and Robert A. Hormats, eds., The Global Economy: America s Role in the Decade Ahead(New York: W. W. Norton, 1990).
(13) عموماً، إن مثل هذه النقاط يطرحها أولئك الذين يلاحظون الكثير من المنافسة التكنولوجية الشديدة بين الدول والمزيد من التدخل الحكومي في اقتصاديات الدول الرأسمالية. ولذلك، تظهر مثل هذه المحاجات في الأدب الذي يدور حول "السياسة الصناعية". للإطلاع على دليل لأدب السياسة الصناعية، أنظر: Ernst Sternberg, Photonic Technology and Industrial Policy: U. S. Responses to Technological Change (Albany, New York: State University of New York Press, 1992), chap. 4 . وحول الحجج المتعقلة باستمرار وزيادة أهمية التجارة الصناعية، أنظر: Cohen and Zysman, Manufacturing Matters. . وثمة نقاط مماثلة حول بقاء الأهمية السياسية للتجارة يطرحها : Richard Rosencrance in The Rise of Trading State (New York: Basic Books, 1986). .وللإطلاع على حجة مختلفة إلى حد ما بشأن موضوعة ما بعد الصناعة، أنظر: Jonathan Gershuny, After Industrial Policy? (Atlantic Highlands, New Jersey: Humanities Press, 1978), التي تؤكد على أننا ندخل عهداً تحل فيه محل الخدمات أشياء أخرى تقدم خدمات لنا (مثل ماكنات الغسيل التي تحل محل خدمات المكوى).
(14) See Block, Postindustrial Possibilities, p. 19.
(15) See Cohen and Zysman, Manufacturing Matters.
(16) العلماء السياسيون كانوا سيشيرون إلى تلك الحجة ك "واقعية".
(17) See Sternberg, Photonic Technology and Industrial Policy, chaps. 5-8.
(18) للمحافظة على الاستمرارية مع مفاهيم التغير السابقة، فأنا أتجنب بشكل متعمد مدخلاً شائعاً لتناول رأس المال المتحرك عالمياً يعالج "رأس المال" كقوة وهمية disembodied force تخضع لأزمات دورية وتعديلات بنيوية. إن العديد من الملاحظات حول قطاع الأعمال العالمي والقوة المالية يمكن طرحها من خلال تحليل مؤسسي أكثر، وهو ما أقترحه هنا.
(19) الأدب المتعلق بالنخبة المتشابكة عالمياً يستعرضه جون فريدمان: John Friedmann, "Where we Stand: A Decade of World City Research," Paper presented at the Conference of World Cities in a World-System, Sterling, Va, April 1-3, 1993. See, for example, articles in Richard B. Knight and Gary Gappert, ed., Cities in a Global Society (Newbury Park, Calif: Sage Publications, 1989).
(20) العمل المعروف جيداً لتمثيل هيمنة قطاع الأعمال هو: H. Braveman s Labour and Monopoly Capital (New York: Monthly Review Press, 1974). . يوسّع هارلي شايكن Harley Shaiken هذه المحاجة في العمل: Work Transformed: Automation and Labor in the Computor Age (New York: Holt, Rinehart and Winston, 1985).. وكمثال على السيطرة التكنولوجية المتزايدة لقوة العمل، أنظر: Congress of the United States, Office of Technology Assessment, The Electronic Supervisor: New Technology, New Tensions (Washington, D. C.: U.S. Government Printing Office, September 1987).
(21) ثمة عمل مؤثر عن انقسام الأسواق الواسعة: Michael Piore and Charles Sabel, The Second Industrial Devide (New York: Basic, 1984).. وحول المضاعفات بالنسبة لتطور الموارد البشرية، أنظر: Lauren Benton et al. , Employee Training and U.S. Competitiveness: Lessons for the 1990s (Boulder, Colo: Westview Press, 1991).. والكتاب الذي ينظر إلى الآثار العملية للسياسة الاقتصادية هو: Paul Hirst and Jonathan Zeitlin, eds., Reversing Industrial Decline? Industrial Structure and Policy in Britain And Her Competitors (Oxford: Berg Publishers, 1989).. ويتجلى العرض النقدي لهذا الأدب في : Amin and Goddard, The Re-emergence of Regional Economies? .
(22) تظهر هذه الموضوعات في العمل المبكر ليورغن هابرماس Jorgen Habermas s : Toward a Rational Society, Chaps. 2 and 3.
(23) للإطلاع على عرض موسع للأدب الأخير عن الحركات الاجتماعية، أنظر: Arturo Escobar, Culture, Practice and Politics: Anthropology and the Study of Social Movements, Critique of Anthropology 12, no. 4 (1992): 395-432.
(24) الخلاف بين المجتمع المحلي community والمجتمع الصناعي، أنظر: Ferdinand Tonnies, Community and Society (East Lansing : Michigan State University Press, 1957) ، وبخاصة الأقسام التمهيدية للمترجم التي تقارن مفاهيم تونز مع مفاهيم المفكرين الاجتماعيين الآخرين.
(25) للإطلاع على مقارنة مماثلة، أنظر Benjamin R. Barber, Jihad vs. McWorld, The Atlantic 269 (March 1992): 53-55 ff.
(26) سلسلة المجلدات التي تقيم هذا التمييز بين التقليدية والأصولية تبدأ مع عمل: Martin E. Marty and R. Scott Appleby, Fundamentalisms Observed (Chicago: University of Chicago Press, 191). . وهذه السلسلة هي أفضل مصدر، إلى حد بعيد، للدراسة المقارنة بين الحركات الأصولية comparative fundamentalisms.
(27) للإطلاع على قائمة ممتعة للعصور الثورية الجديدة، المذكورة، منذ الحرب العالمية الثانية، أنظر: James R. Beniger, The Control Revolution: Technological and Economic Origins of the Information Society (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1986).
(28) الأمثلة على العمل حول موضوعة إعادة الهيكلة الصناعية تتضمن: Ash Amin and John Goddard, eds., Technological Change, Industrial Restructuring , and Regional Development (London: Allen and Unwin, 1986), and Susan S. Fainstein et. al., Restructuring the City: The Political Economy of Urban Redevelopment (New York: Longman, 1983).
(29) Karl Polanyi, The Great Transformation (Boston: Beacon Press, 1957, originally Published 1944).
(30) وذلك، أيضاً، ما أراه أدق رسالة في عمل بولاني: The Great Transformation. أنظر: Ernst Sterbberg, Justifying Public Intervention without Market Externalities: Karl Polanyi s Theory of Planning in Capitalism, Public Administration Review 53, no. 2 (March/April 1993): 100-109.














































الفصل الثاني
العولمة: منظور اقتصادي- جغرافي
بيتر ديكن، جامعة مانشستر/ إنجلترا
Peter Dicken, University of Manchester, England

مدخل
يتبنى الكثير من الأدب الأكاديمي والشعبي ، صراحة أو ضمناً، الموقف القائل بأن عمليات العولمة تقودنا بإصرار الآن نحو عالم متجانس يختفي فيه/ أو سيختفي التمايز الجغرافي(1). إن عبارات مثل "اختفاء المسافة" أو "نهاية الجغرافية" ترن في مقالات العولمة هذه(2). ووفقاً لهذا الرأي، فإن التطورات التكنولوجية المثيرة قد جعلت رأس المال- والمنشآت التي تسيطر عليه- "متحركاً جداً " hypermobile، ومتحرراً من "طغيان المسافة"، ولم يعد مربوطاً بـ "المكان". وبعبارة أخرى، أنها تفترض بأن النشاط الاقتصادي يصبح "بدون إقليم محدد" deterritorialized. ويشير عالم الاجتماع مانويل كاستلز إلى أن قوى العولمة، وبخاصة تلك التي تحرّكها التقنيات الجديدة للمعلومات، تستبدل "فضاء المكان" هذا "بفضاء التدفقات(3)." فأي شيء يمكن وضعه في أي مكان، ويمكن نقله بسهولة لمكان آخر إذا تعذرَ ذلك. والأفكار هذه مهما بدتْ مغرية، فإن لحظة من التفكير ستبين مدى ضلالها. ورغم أن تقنيات النقل والاتصالات قد تم تثوريها حقاً، بيد أن كلاً من المسافة الجغرافية، والمكان بشكل خاص، يبقيان كلاهما عامليْن أساسييْن.
ولذلك، فإن موضوع هذا الفصل هو تحدي الموقف القائل بانتهاء دور الجغرافية. وتماماً كما تبينَ أن نبوءة فوكوياما عن "نهاية التاريخ" لم يكن لها أي أساس(4)، فإن القول بنهاية الجغرافية يسيء تفسير النمط المعقد الذي تتسرب به الجغرافية (من ناحية الفضاء والمكان) إلى كل العمليات والمؤسسات الاجتماعية. يتكون هذا الفصل من قسمين رئيسين. أولاً، أرسمُ المناطق الأساسية للخريطة الجغرافية- الاقتصادية الجديدة، ومن ثم أبيّن بعض الأسس الرئيسية لمحاجتي القائلة بأن الجغرافية تهم بالنسبة لفهم عمليات العولمة. ثانياً، استكشفُ ما أعتبره أنا القوى الثلاثة الأكثر أهمية، والمترابطة ارتباطاً وثيقاً، التي تشكل وتعيد تشكيل الاقتصاد- الجغرافي: المنشآت متعددة الجنسية، والدول، والتكنولوجيا. وعند مناقشة القوى الثلاثة هذه، سوف أركز على أبعادها الجغرافية على وجه التحديد.

مناطق الخريطة الجغرافية- الاقتصادية الجديدة
الوحدة التقليدية للتحليل في دراسات الاقتصاد العالمي هي الدولة الوطنية nation-state. عملياً، إن كل البيانات الإحصائية عن الإنتاج، والتجارة، والاستثمار، وغيرها، يتم تجميعها إلى "مجاميع" وطنية national boxes. ومع ذلك، فهذا المستوى من التجميع ليس له سوى فائدة قليلة، مفترضين طبيعة التغيرات التي تحدث في تنظيم النشاط الاقتصادي. وهذا لا يعني أن المستوى الوطني ليس مهماً. على العكس، فأحد موضوعات هذا الفصل هو أن الدول- الوطنية ما تزال من اللاعبين الأساسيين في الاقتصاد العالمي المعاصر. وعلى أي حال، ينبغي علينا أن نعتمد كثيراً على البيانات على المستوى الوطني لاستكشاف الخرائط المتغيرة للإنتاج، والتجارة، والاستثمار. ولكن الحدود الوطنية لم تعد "تحتوي" عمليات الإنتاج إلى الحد، وبالطرق، التي فعلتْ ذات يوم. فهذه العمليات تقّطع الحدود الوطنية وتتجاوزها في صف مذهل من العلاقات التي تعمل بمستويات جغرافية وتنظيمية مختلفة. ونحتاج للقدرة على أن نكون تحت وفوق المستوى الوطني حتى نفهم ما يحدث.
ومع الزمن، فإن تقسيمات عالمية جديدة للعمل- أنماط من التخصص الجغرافي- أخذت تبزغ وتندمج مع الأشكال القديمة لخلق أنماط معقدة جداً للنشاط الاقتصادي عند مستويات جغرافية مختلفة. وبالنسبة لقسم هام من الفترة التي كانت تتبع الثورة الصناعية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت البنية العالمية من حيث الجوهر عبارة عن مركز، وشبه أطراف، وأطراف (أو شبه محيط، ومحيط). وقد ارتبطت هذه المكونات من خلال التدفقات التجارية التي كانت هي نفسها تنظمها اقتصاديات المركز. وكانت الصناعة التحويلية نشاطاً مركزياً بصورة طاغية.
إن هذا النمط البسيط نسبياً لم يعد له وجود- مع أنه لم يكن قط، طبعاً، بسيطاً كما تفترض هذه الكلمة. فأنماط التجارة والاستثمار باتت أكثر تعقيداً خلال العقود القليلة الماضية. والتبادل المباشر بين المركز ومناطق الأطراف (أو المحيط)، القائم على تقسيم واسع للعمل، يتحول إلى بنية معقدة جداً، ومتعددة الأقطاب، ومتعددة المستويات؛ "فُسيفساء من التفاوت دائم الجريان"، بحسب وصف م. ستوربر و ر ووكر(5). وهذا يتضمن تجزئة عمليات إنتاج عديدة وإعادة موقعتها جغرافياً على نطاق عالمي بطرق تقّطع الحدود الوطنية. وقد ظهرت مراكز جديدة للإنتاج الصناعي- الاقتصاديات التي تتصنع حديثاً newly industrializing economies (NIEs)- على نحو بارز جداً، ولو ليس استثنائياً، في شرق آسيا. إن الصناعات القديمة والجديدة معاً، الصناعة التحويلية والخدمات معاً، معنية بإعادة تصنيف اللغز الدولي هذا للكلمات المتقاطعة. لقد انتقلَ المركز الجغرافي للجاذبية لنظام الإنتاج العالمي من موقعة الذي استقرَ فيه لفترة طويلة "في" شمال الأطلسي (والتركيز على شمال- غرب أوروبا والساحل الشرقي للولايات المتحدة) نحو حوض الباسفيك (والتركيز على اليابان ودول شرق آسيا (NIEs.
ومما لا شك فيه، أننا نعيش الآن في اقتصاد عالمي كان قد تبلورَ حول الساحات الثلاثة للثالوث العالمي: أمريكا الشمالية، وأوروبا، وشرق آسيا(6). وقد زادت درجة التركيز الاقتصادي بشكل كبير في الثالوث خلال السنوات 10- 15 الأخيرة. ففي عام 1980، كان 76% من الإنتاج الصناعي الكلي العالمي و 71% من التجارة السلعية قد تحققَ هناك. وفي منتصف تسعينات القرن العشرين، زادت حصة الثالوث من كلا المؤشرين بمقدار عشر نقاط مئوية: إلى 87 % من الإنتاج العالمي و 80 % من التجارة العالمية. وهذه الاتجاهات تعني أن الثالوث العالمي، عملياً، "يمتص" أكثر وأكثر من النشاط المنتج، والتجارة، والاستثمار المباشر للعالم. إن الثالوث يتربع منفرج الساقين على الاقتصاد العالمي كأنه حيوان ضخم حديث Colossus بثلاثة سيقان. فهو يشكل "أضخم أسواق" العالم. وعلى أي حال، فما إذا كان ذلك مجرد نتاج اصطناعي أم لا، هو أمر خاضع للنقاش. فأثنين من الساحات الثلاثة منظَّمة رسمياً من الناحية السياسية في تكتلات تجارية إقليمية (الاتحاد الأوروبي، واتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الشمالية، على التوالي). والساحة الثالثة، والأكثر ديناميكية، من الأقاليم الثلاثة: شرق آسيا، ليست لديها منظَّمة سياسية رسمية، رغم توافر الإمكانات المختلفة. ولكن إذا كان الثالوث يمثل حقيقة هامة، بشكل قائم أو كامن، مع إنتاجٍ وأنظمة تجارية موجهَة داخلياً، فأنه يُلقي مشاكل كبرى على تلك الأجزاء من العالم- وبخاصة البلدان الأقل نمواً- التي هي غير مندمجة بالنظام(7).
الثالوث العالمي هو جانب واحد من مناطق الخريطة الاقتصادية- الجغرافية المعاصرة. وما دام كل من صانعي القرارات في قطاع الأعمال ورجال السياسة يعتقدون بوجوده، فهو سيواصل تأثيره على أنماط النشاط الاقتصادي.
ولكننا، طبعاً، كأفراد لا نفكر بأنفسنا، قبل كل شيء، على أساس أننا نعيش في جزء أو آخر من الثالوث العالمي. فنحن نعيش في مجتمعات متركزة محددة- مدينة، بلدة، قرية. والحقيقة الأساسية لكل الحياة الاقتصادية هي أن كل النشاط الاقتصادي، في نهاية المطاف، متركز في أماكن محددة.
إن كل نشاط اقتصادي لابد ليس فقط أن يكون قائماً في مكان ما، بل أيضاً- وعلى نحو له دلالة أكثر، أن هناك ميلاً قوياً لأن يشكل النشاط الاقتصادي تشابكات أو تكتلات جغرافية متركزة localized geographical clusters or agglomerations. وفي الواقع، فإن التركز الجغرافي للنشاط الاقتصادي على مستوى محلي أو أقل من الوطني، هو القاعدة، وليس الاستثناء. وفي الفترة الأخيرة، فإن انتشار وبروز أهمية التشابك الجغرافي قد جرت ملاحظته- وأصبحت له مكانة مركزية في كتابات الاقتصاديين وعلماء الإدارة البارزين، وبخاصة بول كروجمان، ميشيل بورتر، وكينيكي أوهماي(8). ومع ذلك، فإن علماء الجغرافية الاقتصادية وعلماء الموقع كانوا لعقود يشيرون إلى انتشار ظاهرة التركز الجغرافي هذه(9). ويتناول بعمق أحد المساهمين البارزين في الأدب الجغرافي، ألن سكوت، أقلمة regionalization الاقتصاد العالمي في الفصل الرابع من هذا الكتاب. أما هنا، فلا يلزمنا سوى بضع ملاحظات أساسية.
إن الأسباب التي تقّرر جذور التشابكات الجغرافية المحددة ترجع للصدفة إلى حد بعيد وغالباً ما يغطيها ضبابُ التاريخ. وكما لاحظ غونار ميردال قبل سنوات كثيرة، "ضمن حدود واسعة، فإن قوة جاذبية مركز ما اليوم تنبع بشكل رئيسي من أن حدثاً تاريخياً ما قد بدأ ذات يوم هناك، وليس في عدد من الأماكن الأخرى، حيث كان يمكنه أيضاً بنفس الدرجة أو أفضل أن يبدأ، ومن أن البداية حقّقتْ النجاح(10)." ومهما كان السبب المحدد لبداية وجود تشابك اقتصادي متركز في موقع محدد، فإن نموه وتطوره اللاحق يميل لأن يعتمد على مجموعتين من قوى التكتل agglomertative forces: الاعتمادات المتبادلة الوظيفية وغير الوظيفية traded and untraded interdependencies.

الاعتمادات المتبادلة الوظيفية
إن القرب الجغرافي بين المنشآت التي تؤدي وظائف مختلفة، ولكن مترابطة، في سلسلة الإنتاج يمكن أن يخّفض تكاليف المعاملات المعنية ويجعل من الممكن تحقيق شدة أعلى في المعاملات بين المنشآت المتجاورة. وفي الواقع، لا يحدث دائماً أن المنشآت القريبة من بعضها مكانياً تجمعها بالفعل مثل هذه المعاملات. فالمنشآت قد تكون قريبة جغرافياً، ولكنها غير مرتبطة وظيفياً. ومع ذلك، فإنها سوف تستفيد من النوع الثاني من قوى التكتل.

الاعتمادات المتبادلة غير الوظيفية
هذه هي المنافع، المحسوسة بدرجة أقل، من التشابك الجغرافي، وهي تضم منافع اقتصادية، مثل تطور بيئة ملائمة للعمل، ومنافع اجتماعية- ثقافية. ويؤكد أمين وثريفت على هذا الأساس الاجتماعي- الثقافي للتكتل، ويشيران إلى أنه يسّهل ثلاث عمليات خاصة:1) العلاقات المباشرة وجهاً لوجه، 2) التفاعل الاجتماعي والثقافي "يخدم كمكان للاختلاط بالآخرين، ولجمع المعلومات، ولإقامة التحالفات، ونسج علاقات الثقة بالآخرين والمحافظة عليها، وتطوير قواعد للسلوك". 3) تعزيز المعرفة والأفكار- "المراكز ضرورية لتطوير، واختبار، ومتابعة الابتكارات، ولتوفير مجموعة ناقدة من الأفراد والبنى المتعلمة، والشبكات الاجتماعية- المؤسسية، وذلك لتحديد الفجوات الجديدة في السوق، واستعمالات جديدة للتكنولوجيا وكذلك تحديدها، والاستجابة السريعة للتغيرات في أنماط الطلب(11)." وبعبارة أعم، فإن التكتلات الحضرية كبيرة الحجم تتيح عرض مجموعة كبيرة من التسهيلات الأخرى التي يتعذر توفيرها في ظروف التشتت الجغرافي.
ولذلك، وبمجوعة كاملة من الطرق، فإنه ما أن يستقر تشابك أو تكتل اقتصادي متركز، فإنه يميل للنمو من خلال عملية تطور تراكمية تعزّز نفسها بنفسها. إن الطابع التراكمي لهذه العمليات من التطور الاقتصادي المتركز تؤكد أهمية المسار المنحني التاريخي historical trajectory. لقد بات من الشائع استعمال مصطلحات من علم الاقتصاد التطوري لوصف هذه كعملية تابعة للمسار path-dependent(12). وهكذا، فإن اقتصاد إقليم ما (أو بلد ما) يصبح "مقفلا" locked in على نمط معين، متأثراً جداً بتاريخه الخاص به. وهذا الانسداد قد يكون أما مصدر قوة مستمرة، أو مصدراً للضعف إذا كان يتضمن جموداً تنظيمياً شديداً. ومع ذلك، فحتى بالنسبة للأقاليم "الناجحة"، فإن التبعية للمسار هذه لا تفترض الحتمية المطلقة لاستمرار النجاح. النقطة الهامة هي أن المكان يهم؛ وأن التواجد ضمن إقليم معين territorialization يبقى مكِّوناً هاماً في تنظيم النشاط الاقتصادي.
ولذلك، يمكن وصف الاقتصاد الجغرافي كشبكة من سلاسل إنتاجية، وحيزات اقتصادية، وأماكن، غير متساوية جغرافياً، ومعقدة وديناميكية جداً، ترتبط معاً من خلال خيوط التدفق. ولكن مستوى الحيز spatial scale الذي تجري عنده هذه العمليات متغير هو نفسه. وهذا هو، أيضاً، المعنى الذي تأخذه مستويات مختلفة بالنسبة لعوامل مختلفة في إطار النظام الاقتصادي العالمي. ولكن الاتجاه هو اختزال بُعد المستوى إلى اثنيْن فقط: العالمي والمحلي. وقد كُتب الكثير عن التوتر العالمي- المحلي عند السطح البَيْني interface بين الاثنين. ويُقال بأن المنشآت، والدول، والمجتمعات المحلية، تحاول حل ذلك التوتر. ومع ذلك، فإن عمليات العولمة ليست ببساطة أحادية الاتجاه: من العالمي إلى المحلي. فعمليات العولمة كلها عمليات مضَّمنة embedded، ومنتَجة، ومُعاد إنتاجها، بعمق في سياقات محدّدة. وكما يشير نيجل ثريفت، فإن (البعد) العالمي ليس بعبعاً. على العكس، "فإن المحلي والعالمي يتداخلان ويتشابكان أحدهما مع الآخر بكل الأشكال(13)." ومع ذلك، فمن الخطأ التركيز فقط على هذين الوجهيْن المتطرفيْن للمستوى- العالمي والمحلي- اللذين يتم النشاط الاقتصادي عندهما. ومن الواقعي أكثر أن نفكر بلغة المستويات المترابطة للنشاط وللتحليل، كالمحلي، والوطني، والإقليمي (أي فوق الوطني، أو المتخطي للحدود الوطنية)، والعالمي. فهذه المستويات لها معنى سواء كحيّزات للنشاط الذي تمارس العوامل الاقتصادية والسياسية عملها فيه، وكذلك كفئات تحليلية تلتقط بدقة أكثر بعض تعقيد العالم الواقعي.
كما نحتاج أيضاً أن نضع في أذهاننا أن هذه المستويات لا تمثل كيانات مستقلة. فالصناعات الفردية (إنتاج/ سلاسل سلعية) يمكن معاملتها كبنى منظَّمة عمودياً تعمل عبر مستويات جغرافية متسعة بشكل متزايد. وعند اجتيازها، فهذه البنى العمودية هي الأنظمة السياسية- الاقتصادية المحدَّدة إقليمياً، التي تتجلى، مرة أخرى، عند مستويات جغرافية مختلفة. وعند نقاط تقاطع هذه الأبعاد في حيّز جغرافي "حقيقي" إنما تأتي الحصيلة المحددة، وحيث ينبغي حل مشاكل التواجد ضمن اقتصاد متعولم economy globalizing- سواء كمنشأة أعمال، أو حكومة، أو مجتمع محلي، أو فرد معين.
عالمياً، نحن ننتقل من وضع التكامل الضحل، الذي يتجلى بشكل رئيسي من خلال التجارة الواسعة بالسلع والخدمات والحركات الدولية لرأسمال المَحافظ، إلى وضع التكامل العميق الذي يتضمن ليس فقط التجارة، بل الإنتاج المنظَّم بواسطة الشركات متعددة الجنسية أساساً. ورغم ذلك، فمع أنه هناك، دون شك، قوى عولمة globalizing forces تفعل فعلها، بيد أننا لا نملك اقتصاداً عالمياً معولماً بدرجة كاملة. العولمة ينبغي فهمها كمجموعة من عمليات تربطها علاقات متبادلة أكثر مما هي حالة جاهزة أو نهائية end-state. وهذه الاتجاهات متفاوتة كثيراً في الزمن وفي المكان. وباعتماد هذا المنهج القائم على العمليات، فمن المهم التمييز بين عمليات التدويل internationalization وعمليات العولمة globalization. فهذه المصطلحات كثيراً ما تُستعَمل كمترادفات.
فالتدويل يتضمن التوسيع البسيط للنشاط الاقتصادي عبر الحدود الوطنية، أما العولمة فهي عملية مختلفة نوعياً تتضمن التكامل الفعال لأنشطة مبعثرة دولياً. وكلتا العمليتان تتعايشان- التدويل والعولمة. في بعض الحالات، لا نرى سوى استمرار تبعثر الأنشطة الاقتصادية دولياً والذي استقرَ منذ زمن طويل. بينما، في حالات أخرى، نشهد دون شك تبعثراً وتكاملاً متزايدْين للأنشطة عبر الحدود الوطنية. فنحن نشهد بزوغ اقتصاد- جغرافي جديد يختلف نوعياً عن الماضي، ولكن تتواصل فيه تواجد عمليات التدويل والعولمة معاً وعمليات التكامل الضحل والتكامل العميق معاً. ومع ذلك، فهذه العمليات تفعل ذلك بطرق متفاوتة كثيراً في الحيّز، وفي الزمن، وعبر القطاعات الاقتصادية.

القوى الأساسية التي تشكل الخريطة الجغرافية- الاقتصادية
إن كشف تعقيد الاقتصاد الجغرافي هو مهمة صعبة. وإنه لمن المغّري أن نبحث عن آلية سببية مفردة كالتغير التكنولوجي أو الشركة متعددة الجنسية، أو، كما يتم في الغالب، تخفيض دور الدولة في عالمنا المزعوم "بلا حدود". المنهج المأخوذ به هنا هو المحاجة بأن هذه القوى الثلاثة هي على صلة قوية متبادلة، وبأنها، معاً، تساعد على تنقية الخطوط العريضة للخريطة الجغرافية- الاقتصادية، على الأقل. وما نلاحظه، كحصيلة لما يسمى بعمليات العولمة، هو أساساً النتاج لتفاعل ديناميكي بين الشركات متعددة الجنسية TNCs والدول ضمن سياق بيئة تكنولوجية سريعة التأثر. وبطبيعة الحال، هناك فروق هامة بين القوى الثلاثة هذه. فكل من الشركات TNCs والدول هي مؤسسات، مع كل الصفات البنيوية لمثل هذه الوكالات agencies. ولكنها مؤسسات من أنواع مختلفة جداً، لها غايات مختلفة وزبائن مختلفين. وهناك علاقة ديناميكية فيما بينها. وكما يلاحظ د. م. غوردن، "ربما من المفيد جداً أن ننظر إلى العلاقات بين المنشآت متعددة الجنسية والحكومات على أنها علاقات تعاون وتنافس معاً، علاقات تعاضد وشقاق معاً. وإن المنشآت والحكومات تعمل ضمن علاقة جدلية بشكل كامل، وتدخل في أدوار ومواقف موحدة ولكن متناقضة، لا يستطيع فيها أي من الطرفين الهيمنة بشكل واضح أو كامل(14)."
أما التكنولوجيا، فهي أيضاً مضَّمنة اجتماعياً ومؤسسياً، ولكنها لا تملك، بذاتها، أي وكالة. فهي مخلوقة ومتبناة (أولا) بواسطة الوكالة البشرية: الأفراد، والمنظمات، والمجتمعات. وفي اقتصاد السوق الرأسمالي، فإن اختيارات التكنولوجيات واستعمالاتها تتأثر أساساً بدافع الربح، وتراكم رأس المال والاستثمار، وزيادة حصة السوق، وهكذا. وفي هذا القسم، أركزُ عن قصد على الأبعاد الجغرافية للقوى الثلاثة. وأنا أبدأ بالتكنولوجيا ليس لأنها تلعب الدور الحتمي deterministic في تشكيل الاقتصاد- الجغرافي العالمي، بل لأنها عامل أساسي يسّهل أو يمّكن من التغير الاقتصادي- الجغرافي. وسوف أركزُ على جانبيْن من جغرافية التغير التكنولوجي: أولهما، هو اتجاه النشاط التكنولوجي للتركز الجغرافي بدرجة عالية، وثانيهما، هو تحول علاقات الزمن- الحيز.
التغير التكنولوجي هو في جوهره تغير جغرافي
التغير التكنولوجي هو "المحرِّك الأساسي للرأسمالية"، "القوة الأساسية في تشكيل أنماط تحول الاقتصاد(15)... الخالق الدائم للاضطراب في الميزة النسبية(16)." ومع ذلك، فرغم أن القوة الكاسحة للتغير التكنولوجي، والتحولات الدورية في النماذج التكنولوجية- الاقتصادية(17)، والتغيرات التكنولوجية في النقل والاتصالات التي تقلص الزمن- الحيز، تغرينا بصورة مبررة، بيد أننا نحتاج أن نضع في أذهاننا أن كل التقنيات تتكون في مواقع جغرافية محددة وأن انتشارها اللاحق له بُعد جغرافي قوي. وهذا يصح حتى على ظاهرة "لا علاقة لها بالحيز" spaceless بشكل واضح كالشبكة العالمية للمعلومات Internet.
إن التحولات كبيرة الحجم في النموذج التكنولوجي- الاقتصادي التي حدثت دورياً في التاريخ وكان لها أثراً تحويلياً قوياً على المجتمع كانت كلها تمتلك جغرافية متميزة جداً. إن القيادة التكنولوجية في موجة كوندرَتيف واحدة Kondratiev، مثلاً، ليست بالضرورة متضَّمنة في الموجات اللاحقة. إن القادة التكنولوجيين لموجة كوندرَتيف الأولى (K1) كانوا إنجليز وفرنسيين وبلجيكيين. وقد أنضم إلى هؤلاء ألمان وأمريكان في الموجة التالية K2. الموجة الثالثة K3 وجدت أن القيادة التكنولوجية قد ترسخّت في ألمانيا والولايات المتحدة، مع أن الدول المبادرة الأولى ما تزال بارزة وقد انضمت لها سويسرا وهولندا. وفي الموجة الرابعة K4، كانت اليابان والسويد وباقي الدول الصناعية في مجموعة القيادة. وفي الفترة الأخيرة، وجدت الموجة الخامسة K5 دوراً بارزاً أكثر في القيادة التكنولوجية لليابان. وكذلك، وعلى نحو غير متوقع، لاثنين من دول شرق آسيا NIEs، تايوان وكوريا الجنوبية، اللتين شغلتا مواقع تكنولوجية بارزة في مجالات محددة. ولكن هناك بُعد آخر لجغرافية القيادة التكنولوجية. "وكما تجري الأمور على المسرح الدولي، فهي تمضي كذلك أيضاً في داخل كل واحدة من الاقتصاديات الوطنية البارزة: إن موقع صناعات الابتكار البارزة انتقلت من إقليم إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى. فمنذ ولادة أولى تقنيات المعلومات IT، في موجة كوندرَتيف الثانية، وعبر الموجة الثالثة، كانت المراكز العالمية الرئيسية للابتكار هي برلين وخط بوسطن- نيويورك؛ وخلال الموجة الرابعة، كانت هناك مراكز حضرية جديدة، أكمّلت المراكز المذكورة أو حلّت محلها، مثل كاليفورنيا الشمالية، سيليسون Sicilon، كريسنت الغربية قرب لندن Western Crescent، خط شتوتكارت- ميونيخ Stuttgart-Munich، وتوكايدو- ميغَلوبولِس Tokaido Megalopolis(18).
إن هذا التركز الجغرافي للنشاط التكنولوجي لا يحدث بالصدفة. وكما يؤكد جي. س. متكالف و ن. ديليسيو، "إن شروط تراكم المعرفة عالية التركز(19)." فالابتكارات- التي هي روح التغير التكنولوجي- هي عملية تعلم أساساً. وهذا التعلم- "بعمل الأشياء"، "باستعمال الأشياء"، بملاحظة الآخرين والمشاركة معهم- يعتمد على تراكم وتطور المعرفة المعنية في مجال واسع جداً. وبطبيعة الحال، فإن تطور أنظمة الاتصالات المتقدمة جداً يساعد على انتشار المعرفة بسرعة غير مسبوقة عبر مسافات غير مسبوقة. ومع ذلك، فإن الحقيقة التي تبقى هي أن المعرفة تتكون في مواقع محددة وهي، على الأغلب، تُستعمل وتتعزز بأقصى شدة في المواقع نفسها. ولذلك، فإن المفهوم الأساسي هو بيئة الابتكار innovative milieu التي تصنع السياق التكنولوجي- الاجتماعي المحدد الذي تتم الابتكارات في إطاره. وهذه البيئة تتألف من خليط من عناصر ملموسة وغير ملموسة: المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نفسها؛ المعرفة والمهارة والبراعة know-how التي تتطور عبر الزمن في سياق محدد (فكرة "في الجو شيء ما"، التي عرفّها ألفرد مارشال قبل عقود)؛ و "العادات والتقاليد" conventions التي هي قواعد وأشياء روتينية مفترضة بين مختلف الناس في أنواع محددة تحدّدها حالة عدم اليقين(20)."
وهذه البيئة تختلف على المستوى الوطني عما هي في المستويات المحلية. إن الأنظمة الوطنية المتميزة للابتكار موجودة، كما أثبتَ ر. ر. نيلسن(21). ولكن في قلب هذه الأنظمة الوطنية، نجد على الدوام بيئة الابتكار المتركزة جغرافياً. وعليه: فإن الجغرافية تلعب دوراً أساسياً في عملية الابتكار والتعلم، ما دامت الابتكارات، في معظم الحالات، تتأثر بالمنشآت الفردية أقل مما بالمعرفة وبقية المدخلات والقابليات الموجودة في الأماكن المحدّدة. إن تشابك المدخلات، كالمراكز الصناعية للبحث ومراكز التطور والبحث التابعة للجامعات university R & D، وتكتلات المنشآت الصناعية في الصناعات المرتبطة، وشبكات خدمة قطاع الأعمال، يمكن أن تخلق وفورات حجم، وتسهّل الأفكار التي من شأنها المشاركة في المعرفة والتخصيب التهجيني، وتشجع العلاقات المباشرة وجهاً لوجه من النوع الذي يعزز نقل التكنولوجيا الفعالة. هناك صفتان من شأنهما تفسير الميزة الناتجة عن التكتل المكاني بهذا السياق: إدخال مدخلات المعرفة والمعلومات التي هي "تجسيدات شخصية" أساساً؛ والدرجة العالية من حالة عدم اليقين التي تحيط بالمنتجات. كلتا هاتين الصفتين تحتاجان اتصالات شخصية كثيفة ومتكررة، وسرعة في صنع القرار، وهي أشياء تتعزز كثيراً بالقرب الجغرافي للشركاء الذين يعنيهم الأمر. وفي الواقع، ففي الحقبة الحالية من الانتشار العالمي السريع للمعرفة المشفَّرة، يمكننا حتى أن نحاجج بأن الأشكال، المفترضة ضمناً و "اللصيقة" أكثر بالمكان، من المعرفة تكتسب أهمية أكثر كأساس للمحافظة على الميزة التنافسية(22).
ولذلك، فإن البيئة المحلية للابتكار تتألف أساساً من سلسلة من الاعتمادات المتبادلة غير الوظيفية ضمن سياق زمني من عمليات التغير التكنولوجي التابعة للمسار processes path-dependent(23). وقد أشرتُ سابقاً إلى العناصر الكبرى من هذه العمليات إشارات عامة. إن الفكرة من التأكيد على الطبيعة غير الوظيفية للاعتمادات المتبادلة في هذه البيئة هي تمييز "المادة اللاصقة" cement التي تربط هذا النوع من التكتل في موقع ما عن تلك التي قد ترتبط بتقليل تكاليف النقل (مثلاً، تكاليف نقل المواد والمكونات) نتيجة القرب الجغرافي. ويستعمل م. ستوربر مصطلح "منطقة التكنولوجيا" technology district لتمييز التشابكات الجغرافية القائمة على "المنتجات المعتمدة على التعلم التكنولوجي" عن تلك القائمة على الأنواع الأخرى من المنطقة الصناعية(24). إن هذه التكتلات التكنولوجية تشكل أحد أهم خصائص الاقتصاد العالمي المعاصر، كما يثبت سكوت في الفصل الرابع من هذا الكتاب.
وبطبيعة الحال، فإن التحول في علاقات الزمن- الحيز من خلال التطورات التكنولوجية في أنظمة النقل والاتصالات هو الذي نال أقصى اهتمام في أدب العولمة. فليس من شك في أن العالم قد تقلص إذا تكلمنا بلغة الزمن- الحيز. ولكن هذا التقلص، وكل الدلالات والتفسيرات المرتبطة به، أكثر تعقيداً مما يتم إدراكه عادةً. فرغم أن العالم بات مضغوطاً أكثر من الناحية النسبية، بيد أن هذه الظاهرة متفاوتة كثيراً جغرافياً. فالتطورات التكنولوجية في النقل والاتصالات تؤثر في الأماكن (والناس) بصورة مختلفة. فما دعاه العالم الجغرافي دونالد جانيل "تقارب الزمن- الحيز" يؤثر في بعض الأماكن أكثر مما في غيرها. فمع أن الاقتصاديات الوطنية البارزة في العالم، ومدن العالم الكبرى، باتت أقرب لبعضها، فإن الآخرين- البلدان الأقل نمواً أو المدن الأصغر والمناطق الريفية- قد تُركوا في الخلف، من حيث النتيجة. وفي الواقع، فإن السطح: الزمن- الحيز طيع جداً. فبعض أجزاءه تتقلص، بينما أجزاءه الباقية تتوسع، من حيث النتيجة. فمنافع الابتكارات التكنولوجية تُلاحظ ليس في كل مكان.
ويسري، أيضاً، تفاوت مماثل في حقل الاتصالات الإلكترونية، ولو ربما بصور أقل وضوحاً. فرغم أن تكاليف الاتصالات، على العموم، لم تعد تتأثر بالمسافة بدرجة متزايدة، فإن هناك اختلافات جغرافية (واجتماعية) في مدى الوصول إلى هذه التقنيات. فالطرق الإلكترونية لعصر المعلومات ليس لها، حقاً، صلات عالمية متبادلة شاملة. وعلى العموم، فإن الأماكن التي تستفيد أكثر من الابتكارات في وسائل الاتصال هي الأماكن "الهامة". إن الاستثمارات في تكنولوجيا الاتصالات هي من النوع المرتبط بالسوق؛ فهي تتجه إلى هناك حيث يكون العائد المتوقع عالياً. وإن أثرها التراكمي يقوّي قنوات الاتصالات المؤكدة على النطاق العالمي ويعزز أهمية المراكز (مدن/ بلدان) في تلك القنوات. فمع أن البلدان النامية تضم75 % من سكان العالم، مثلاً، بيد أنها لا تمتلك سوى12 % من خطوط الهاتف العالمية. "وتنشأ الآن جغرافية جديدة للفقراء والأغنياء، يُحرم فيها الفقراء من إمكانية الوصول لتكنولوجيا الاتصالات". كما أن هناك أيضاً بُعداً اجتماعياً ضمن هذا السطح المتفاوت جغرافياً للاتصالات(25). فالتكنولوجيا ليست في متناول الجميع- منشآت أعمال أو أفراد- بصورة عادلة. فرغم الهبوط العام في تكاليف الاتصالات، بفضل التغير التكنولوجي، بيد أن تكاليف الاستعمال غير قليلة.

"المنطقة المتنازَع عليها": الدولة في الجغرافية- الاقتصادية المعاصرة
كما هو من المريح جداً أن نفهم فكرة "نهاية الجغرافية" بوصفها الحصيلة الحتمية للتغير التكنولوجي، فمن المريح جداً، أيضاً، أن نقبل فكرة "نهاية الدولة" كأمر قريب التحقق. إن سيناريو ك. أوهماي حول "عالم بدون حدود" هو بالضبط آخر كلمة في ادعاءات من هذا النوع(26). وإذ أسلّم بأن وضع الدولة الوطنية يُعاد النظر في تعريفه بالتأكيد، بيد أنني أرفض فكرة أن الدولة لم تعد لاعباً أساسياً في أنظمة الاقتصاد العالمي. وأنا أتفق مع موقف ر. ويد الذي يشير إلى أن "التقارير القائلة بموت الاقتصاد الوطني مبالغ جداً فيها(27)." ومع أن بعض قدرات الدولة قد تدنتْ حقاً، ورغم أنه قد تكون هناك عملية "إخلاء" من الدولة الوطنية، فهذه ليست عملية بسيطة يحدث فيها تراجع في كل الجبهات(28). فالدولة الوطنية تبقى القوة الأكثر أهمية في تشكيل الاقتصاد الوطني: فمع أن الحدود الوطنية يمكن النفاذ منها الآن أكثر مما في السابق، بيد أن الدولة الوطنية، كوحدة إقليمية، ما تزال قائمة كوعاء "للثقافات" المتميزة والممارسات المؤسسية (كما يلتقطها، مثلاً، مفهوم نظام الأعمال business system لدى ر. د. وايتلي(29). إن حقيقة أن الدول الوطنية تتصرف كوعاء "للثقافات" المتميزة يعني أن "طرق عمل الأشياء"- بما في ذلك كيف تحاول الدول توجيه الأنشطة الاقتصادية في إطار التشريعات ومن خلالها- تميل للتغير عبر الحدود الوطنية. إن هذه الأوعية لا تحول دون التسرب، طبعاً، فالتسرب الثقافي شائع، وأن سرعته تزداد بتأثير التطورات التكنولوجية في وسائل الاتصالات. ومع ذلك، تتوافر أدلة قوية كثيرة على فكرة تواصل التميز الوطني- ولو ليس الوحدانية بالضرورة- في بنى وسياسات تساعد على تشكيل الأنماط المحلية والوطنية والدولية للنشاط الاقتصادي.
وهكذا، فكل الدول تواصل أداء دور أساسي في الطرق التي تعمل بها اقتصادياتها، رغم أنها تختلف إلى حد بعيد في الأساليب المحددة التي تستعملها وفي الطرق الدقيقة التي تُمزج بها تلك الأساليب. ومع أنه قد تكون هناك درجة عالية من المصادفة (فلم تتصرفْ دولتان بنفس الطريقة بالضبط، حتى رغم وجود ظروف متماثلة)، فإن من الممكن تحديد التوجيهات الدقيقة في حقل السياسة العامة. وتعكس هذه التوجيهات أنواع البنى والمؤسسات والممارسات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تحيط بها. فالمزيج المحدد للسياسة، الذي تتبناه الدولة، مثلاً، يتأثر بمتغيرات مثل: الوضع السياسي والثقافي للبلد، ومدى قوة مؤسساته وجماعات المصالح فيه، وحجم الاقتصاد الوطني وبخاصة حجم السوق المحلية، الموارد المتاحة للبلد، المادية والبشرية، وقدرته على التصرف بتلك الموارد، الوضع النسبي للبلد في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك مستوى تطوره الاقتصادي ودرجة تصنيعه(30).
لقد أصبح شائعاً، في أدب الاقتصاد السياسي المتعلق بالتنمية الاقتصادية، التمييز بين نمطين واسعين: دولة آلية السوق (التوجيهية)، من ناحية، ودولة آلية التخطيط (التنموية)، من ناحية أخرى(31). إن هذا التمييز، رغم بساطته، نجحَ، بشكل خاص، في وضع إطار مفيد جداً لفهم بعض الاختلافات الكبرى بين الدول من ناحية سياستها الاقتصادية، وبخاصة بين الاقتصاديات المصنعة القديمة في أوروبا وأمريكا الشمالية والبلدان التي تتصنع حديثاً في شرق آسيا NIEs. ومع ذلك، فهذا التقسيم يميل لخلق انطباع بوجود تجانس ضمن مجموعة الدول التنموية، وهو أمر غير قائم.
فرغم أن هذه الدول تُوضع معاً في الغالب في مجموعة واحدة، فإن NIEs هي تشكيلة من البلدان متفاوتة إلى حد بعيد. فهي تختلف كثيراً في حجمها (من حيث المساحة والسكان)، وفي مواردها الطبيعية، وفي أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية. ولكن تجمعها صفة واحدة: الدور المركزي للدولة الوطنية في التنمية الاقتصادية فيها. ورغم عدم ملائمة الكثير من المفاهيم المبسطة، فليس في أيٍ من بلدان NIEs حالياً (أو في الماضي) اقتصاد سوق يعمل بحرّية كاملة، وأن الدولة تتدخل على نطاق واسع في جميع الأحوال. ومع ذلك، وحتى مع تسليمه بهذه الصفة المركزية، فإن م. دوغلاس يحذر بشيء من القوة: من المضلِّل وضع دول NIEs في "نموذج غير متمايز "للدولة التنموية". إن نظرة فاحصة تكشف عن وجود فروق هامة بينها من ناحية علاقة الدولة برأس المال، وبالعمل، والاقتصاد الخارجي(32)."
إن دور الدولة الوطنية ما يزال هاماً في الاقتصاد العالمي. إن دورها الإقليمي كـ "وعاء"، المصاغ وفق تاريخها، يعني أن هناك درجة ملموسة من التميز والتنوع الجغرافيْين. ورغم الانفتاح المتزايد، فإن الحدود الوطنية ما تزال تمثل انقطاعات هامة على سطح الأرض. فالحالات التي لا يحس فيها المرء أنه يتنقل من بلد لآخر هي حالات قليلة جداً. وهذه ما تزال الحالة العادية حتى في داخل الاتحاد الأوروبي، الذي تزول فيه بسرعة نقاط التفتيش عند الحدود الوطنية. ومع ذلك، يشير هذا المثال إلى تطور كبير آخر: الاتجاه المتزايد للدول الوطنية للدخول في مجموعات اقتصادية إقليمية على أساس اتفاقات تجارية، للبداية على الأقل.
وليس من شك في أن عدد الترتيبات التجارية الإقليمية قد زاد بصورة مثيرة. فبين العامين 1948 و 1994، فإن 109 من هذه الاتفاقات (الكثير منها هي اتفاقات ثنائية) كانت مسجَّلة في منظمة "الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة" GATT. وقد كانت هناك زيادة ملحوظة بشكل خاص خلال أواخر ثمانينات وتسعينات القرن العشرين: فبين العامين 1990و 1994 سُجلت ليس أقل من 33 اتفاقية تجارية إقليمية. ومع ذلك، مرة أخرى، ينبغي الاعتراف بأن كل هذه المجاميع لا يمكن معاملتها كظواهر متجانسة. فمعظمها ليس سوى اتفاقات تجارة حرة بسيطة. القليل جداً منها فقط يتضمن درجات أعلى للتكامل. وهناك اتفاقية واحدة فقط، الاتحاد الأوروبي، يمكن القول بأنها تتضمن حقاً درجة عالية من التكامل السياسي بالنسبة للساحات الثلاثة من الثالوث العالمي. وفي الواقع، فإن إقليم آسيا- الباسفيك ليس فيه مؤسسة رسمية يمكن مقارنتها بالاتحاد الأوروبي EU أو بمنظمة اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA. وفي الواقع، فإن منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا- الباسفيك APEC يلتزم بنظام تجارة مفتوح ومتعدد الأطراف أكثر مما هو نظام موجَه للداخل. "إن منتدى APECرَعته مجموعة من الدول تلتزم بعمق بنظامٍ متعدد الأطراف للتجارة، وتقلق بشأن الإمكانات في عالم منقسم إلى تكتلات من شأنها التمييز ضد الدول غير الأعضاء في تلك التكتلات. وهكذا، فرغم أن منتدى APECنفسه هو ترتيب إقليمي، تبعث مهمته على الحيرة وهي النضال من أجل إقليمية (تفضيلية)(33)." وعليه، مرة أخرى، فإن الصورة متنوعة جغرافياً في إطار نظام الدولة أكثر مما هي صورة موحَّدة.

الشركات متعددة الجنسية ليست "بلا مكان"
الشركة متعددة الجنسية، قبل أي مؤسسة مفردة أخرى، عُوملت على أنها المشكِّل الأساسي للاقتصاد العالمي المعاصر. وإن نمو الشركة متعددة الجنسية Transnational corporation TNC- وبخاصة الشركة العالمية الضخمة- يُنظر إليه كأعظم تهديد لاستقلال الدولة الوطنية. فقد تحققَ ليس فقط نمو ضخم للاستثمار الأجنبي المباشر FDI، بل أن مصادر وأهداف ذلك الاستثمار باتت متنوعة بصورة متزايدة. ولكن FDI هو مقياس واحد فقط لنشاط الشركة TNC. ونظراً إلى أن بيانات FDI تقوم على ملكية الأصول، فهي لا تلتقط الطرق المعقدة التي تعمل بها المنشآت في العمليات العالمية عبر المغامرات المشتركة ومن خلال تنسيق معاملات حلقات الإنتاج والسيطرة عليها. وعليه، فلابد من تبني تعريف للشركة TNC بشكل أوسع من التعريف المستعمل عادةً في الأدب المتداول. الشركة متعددة الجنسية ينبغي تعريفها أما كمنشأة تمتلك عمليات تتم في أكثر من بلد أو أنها تملك القدرة على التنسيق والسيطرة على هذه العمليات حتى من دون أن تتملكها.
تتولى الشركة متعددة الجنسية التنسيقَ والتحكم بحلقات الإنتاج، وبالتالي، الكثير من الجغرافية المتغيرة للاقتصاد العالمي عبر قرارات الاستثمار أو من خلال الامتناع عن الاستثمار في مواقع جغرافية معينة. كما أن تدفق المواد، والأجزاء المكوِّنة، والمنتجات الجاهزة، إضافة إلى الخبرات التكنولوجية والتنظيمية بين عمليات مبعثرة جغرافياً، يصوغ العملية أيضاً. ومع أن الأهمية النسبية للشركات TNCs تختلف بدرجة كبيرة- من صناعة إلى أخرى، من بلد إلى آخر، وما بين الأجزاء المختلفة من نفس البلد- بيد أن تلك الأجزاء من العالم التي يكون فيها تأثير الشركة متعددة الجنسية، المباشر أو غير المباشر، تأثيراً غير هام، هي قليلة الآن. وفي بعض الحالات، فإن تأثير TNC على المصائر الاقتصادية للمنطقة يمكن أن يكون هائلاً، حقاً.
إن سيناريو "العولمة" تمثله أحسن تمثيل فكرة أن العديد من الشركات متعددة الجنسية هي شركات عالمية تقترب طرقها في عمل الأشياء من تشكيل نموذج متكامل عالمياً. ويُحاج بأن ضغوط العمل في بيئة متنافسة عالمياً تخلق التماثل في الاستراتيجية والبنى بين الشركات متعددة الجنسية. وبالنتيجة، فكل الشركات متعددة الجنسية تمضي بقوة على نفس المسار. وعندما تفعل الشركات ذلك، فإنها تفقد كل هويتها أو ولائها لبلدان أو مجتمعات معينة. وتصبح بالتالي بدون مكان معين placeless. ويدّعي كل من روبرت ريخ وكينيجي أوهماي أن الشركات متعددة الجنسية قد أصبحت أو تصبح "من غير وطن" denationalized. وفي تحذير أوهماي للمديرين، يرد ما يلي: قبل الهوية الوطنية، قبل النسب المحلي، قبل الذات الألمانية، أو الإيطالية، أو اليابانية- قبل أي من هذه الذوات، يأتي الالتزام تجاه مهمة عالمية واحدة، موحَّدة… فالبلد الأم لا يهم. المركز الرئيسي للشركة لا يهم. فالمنتجات التي أنت مسئول عنها، والشركة التي تعمل فيها، لم يعد لها وطن denationalized(34).
وأرى بأن هذا السيناريو للشركات العالمية التي لا تعود لمكان معين placeless ينبغي تحديه. إنه مثال آخر على موضوعة نهاية الجغرافية التي لا تصمد أمام التدقيق الجدي. فالشركات العالمية حقاً ليست قليلة فقط، إن وجُدت أصلاً، بل أن الشركات متعددة الجنسية تبقى أيضاً تتأثر بقوة بالبيئات الوطنية والمحلية المحددة. وبشكل خاص، فإن البيئة الوطنية الأم للشركات متعددة الجنسية تبقى لها أهميتها الأساسية من ناحية كيفية أداء عملها، بمعزل عن التوسعات الجغرافية التي تمارس عليها نشاطها. فكل الشركات متعددة الجنسية لها أساس وطني محدَّد مما يضمن أن كل شركة TNC مضَّمنة أساساً بحدود بيئتها المحلية. وبطبيعة الحال، فكلما امتدت عمليات كل واحدة من TNC على رقع جغرافية أوسع، زادَ احتمال تبني عناصر من البيئة المحلية المضيفة. ولكن حتى في حالة وجود تكيف محلي وتضمين محلي كبيريْن، فإن تأثير الأصول الجغرافية للمنشأة يبقى قوياً جداً.
فإذا صحتْ فرضية الشركة العالمية، فمن المتوقع، إذاً، أن تكون الغالبية من أكبر شركات العالم، على الأقل، قد أمنّت معظم أصولها وعمالتها من خارج بلدها الأم. وفي الواقع، فإن الفحص الدقيق لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD لا يكشف عن دليل واضح لتأييد الرأي القائل بأن حتى أكبر 100 شركة من TNCs هي شركات عالمية بموجب هذه المؤشرات(35). ثمة دليل ضئيل على أن شركات TNCs قد مارست نشاطاتها خارج بلدانها الأصلية، وهو ما كان يمكن توقعه لو أنها منشآت عالمية(36). وبالمثل، فإن تحليل هو Y-S. Hu لبيانات الشركة قادته للاستنتاج بأن "TNC… هي شركة وطنية لها عمليات دولية (أي فروع أجنبية)(37)."
وهكذا، فرغم عدة عقود من العمليات الدولية، فإن الشركات متعددة الجنسية تبقى مرتبطة بصورة متميزة بأساسها الوطني. فشركة فورد ما تزال شركة أمريكية أساساً، و ICI شركة بريطانية، و Siemens شركة ألمانية. وكما يلاحظ جي. ستوبفورد و س. سترانج: مهما كَبرَ المدى العالمي لنشاطاتها، فإن الشركة الوطنية "تعود"، نفسياً وسوسيولوجياً، لبلدها الأم. وفي نهاية الأمر، فإن رؤساءها سيعيرون دائماً الاهتمام لرغبات وأوامر الحكومة التي أصدرت جوازات سفرهم هم وأسرهم. وقد كشفت دراسة حديثة لمجالس مديرييِّ 1000 من منشآت القمة في الولايات المتحدة، مثلاً، أن 12 % فقط منهم لم يكونوا أمريكان- وهي نسبة أقل، عملياً، مما كانت عليه عام 1982 حينما كانت النسبة 17%. ومن الصعب جداً العثور في المنشأة اليابانية حتى على علامة واحدة لوجود مدير أجنبي. وحتى في أوروبا، باستثناء المنشآت ذات الجنسية المزدوجة مثل Unilever، لا تجد أن جنسية أعضاء الإدارة العليا تعكس التوزيع الجغرافي لعملياتها(38).
إن القصد من هذه المحاجة ليس بالضرورة القول بأن الشركات متعددة الجنسية TNCs تحافظ على الولاء لدولها الأصلية. إذ أن طبيعة عملية التضمين embeddedness معقدة أكثر من ذلك. النقطة الأساسية هي أن الشركات TNCs تتكون من خلال عملية تضمين معقدة حيث تشارك الخصائص المعرفية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلد الأم في أداء دور مهيمن. ولذلك، فإن الشركات TNCs هي "حوامل" لمثل هذه الخصائص التي، فيما بعد، تتفاعل مع الخصائص المحددة للمكان في البلدان الذي تعمل فيه الشركات مما يخلق مجموعة من النتائج المتميزة. ولكن الخصائص المستمدة من البلد الأم تبقى هي المهيمنة على الدوام. وهذا ليس معناه الادعاء بأن الشركات TNCs التي هي من أصل وطني محدد هي شركات متماثلة. فهذا ليس صحيحاً، كما هو واضح: ففي إطار أي وضع وطني، ثمة ثقافات أعمال متميزة، ترجع للتاريخ الخاص المحدد في حقل عمل كل منشأة، تدفع هذه الأخيرة للتصرف بطرق محددة استراتيجياً. خذ حالة صناعة السيارات: فالشركات الأمريكية فورد، وجنرال موتور، تتميز تماماً عن شركات تويوتا، فولكسفاكن، فيات، رينو. كما أنها هي نفسها متميزة بعضها عن بعض. وبالمثل، فإن تويوتا و نيسان هي شركات يابانية متميزة، غير متماثلة. وهذا يسري أيضاً على شركات السيارات الفرنسية، وهكذا. ومع ذلك، فإن الشركات ذات الأصل الوطني الواحد توجد بينها نقاط تشابه أكثر من نقاط الاختلاف. وكما بيّنا في القسم السابق، فإن الدول الوطنية تتصرف كحوامل لمجموعات متميزة من المؤسسات والسياسات. إن أنظمة الأعمال هذه business systems (إذا استعملنا مصطلح ر. د. وايتلي) تؤثر وتتأثر بالمنشآت التي تتطور في إطارها. وتساعد هذه الحوامل على إنتاج أنواع محددة من المنشآت.
إن البحوث التجريبية الأخيرة التي قام بها ل. بولي و س. رايخ تقدم الدليل القوي على الرأي القائل بأن الفروق القائمة على أساس وطني بين الشركات متعددة الجنسية تميل للاستمرار، بعكس فكرة التقارب convergence نحو نموذج عالمي متماثل لبنية وسلوك المنشأة. فقد فحصَ هذان الكاتبان الشركات متعددة الجنسية للولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، من خلال مؤشرات عديدة: إدارة الشركات وتمويلها، والتطور والبحوث فيها، والاستثمار الأجنبي، والعادات والممارسات التجارية ضمن المنشأة.
إن تجارب المنشآت التي حللّها بولي ورايخ تقّدم الحجج القوية ضد فرضية التقارب. فأدلتهم "تبين القليل من الضبابية أو التقارب في مراكز المنشآت القائمة في ألمانيا، واليابان، أو الولايات المتحدة... وما تزال المؤسسات الوطنية المتينة والتقاليد الفكرية المتميزة تشكّل وتسّير، كما يبدو، القرارات الحاسمة للشركات… وتبقى هناك فروق وطنية نظامية وهامة بين عمليات (الشركات متعددة الجنسية) في مجال إدارتها الداخلية وتمويلها طويل- الأمد، وفي نشاطها في مجال التطور والبحوث R & D، وفي استثمارها المتشابك واستراتيجيتها التجارية… وأن البنى المحلية، التي في إطارها تتطور منشأة ما منذ البداية، تترك طابعاً ثابتاً على سلوكها الاستراتيجي(39)."
إن جانباً من حجة كون الشركات متعددة الجنسية ليست بلا مكان TNCs are-not-placeless يتمثل في أن الظروف التي تتطور فيها المنشآت في بلدانها الأصلية تواصل ممارسة التأثير القوي جداً على سلوكها اللاحق حينما تعمل في مكان آخر. أما الجانب الآخر الذي يهم الجغرافية، فيخص المدى الذي تتبنى فيه المنشآت العاملة في البلدان المختلفة بعض خصائص بيئاتها المضيفة. فرغم أن تأثير البلد الأم هام جداً، فهو ليس حتمياً كلياً في تأثيره على كيفية تصرف المنشآت في الخارج. فهناك مجموعة كاملة من الأسباب- السياسية والاجتماعية والثقافية- تجبر المنشآت الأجنبية على الدوام على تكييف سياساتها للظروف المحلية(40). فمن المستحيل عملياً نقل حزمة كاملة من مزايا وممارسات المنشأة لبيئة محلية مختلفة. وبالتالي، فإن ما يتحقق عملياً هو مزيج متغير من المؤثرات العائدة للبلد الأم والمؤثرات العائدة للبلد المضيف. ولكن رغم أن التكييف المحلي يحدث تقريباً على الدوام، بيد أن بولي ورايخ قد يكونا على صواب عند ملاحظة: مع أن الشركات متعددة الجنسية تعمل انطلاقاً من أسسها المكتسبة في بلدها الأم، ولكنها، "كما يبدو، تكّيف نفسها عند الحدود، ولكن ليس كثيراً في جواهر الأمور(41)."
وبطبيعة الحال، هناك جوانب عديدة أخرى من نشاط وسلوك الشركة متعددة الجنسية هي ذات طابع جغرافي تحديداً ولكن يتعذر تناولها هنا. فمثلاً، ينبغي باستمرار على الشركات TNCs بالتعريف أن تتخذ قرارات استراتيجية، وأن تضع وتكّيف بناها التنظيمية في ضوء التوتر الاستراتيجي بين التكامل العالمي والاستجابة المحلية(42). وهي تخلق شبكات داخلية وخارجية معقدة تملك، هي نفسها، جغرافيات متميزة. وهذه الشبكات يُعاد تركيبها باستمرار في ضوء قوى التغيير الداخلية والخارجية معاً. إن خلق وتطوير التكتلات الاقتصادية الإقليمية هو دافع هام بشكل خاص للتغير التنظيمي- الجغرافي كلما أعادتْ المنشآت النظر بوضعها وأعادتْ ترتيب حلقات إنتاجها لخدمة الأسواق الإقليمية الواسعة أكثر مما لخدمة الأسواق الوطنية المختلفة. إن هذه الجوانب، وجوانب أخرى من نشاطات الشركة متعددة الجنسية، تجري مناقشتها بتفصيل في عمل ب. ديكن(43).

استنتاج
يتكون الاقتصاد العالمي، عملياً، من مجموعة من الشبكات المعقدة القائمة ضمن كل منظمة وما بين المنظمات- الشبكات الداخلية للشركات متعددة الجنسية TNCs، وشبكات حلفائها الاستراتيجيين، وشبكات علاقاتها التعاقدية الباطنية، والشبكات التنظيمية الأخرى، الأحدث. وتتقاطع هذه الشبكات مع الشبكات الجغرافية المتكونة، بشكل خاص، حول أنشطة التكتلات أو التشابكات ذات الصلة. وعليه، فإن هذه التشابكات المتركزة مضَّمنة embedded بطرق مختلفة في الأشكال العديدة لشبكات الأعمال corporate networks، التي هي نفسها تختلف كثيراً من حيث سعتها الجغرافية. فبعض الشركات TNCs متوسعة عالمياً، بينما ليس لبعضها الآخر سوى اتساع جغرافي محدود. ولكن في كلتا الحالتين، ترتبط المنشآت، القائمة في أماكن محددة- وبالتالي الأماكن نفسها- بشبكات دولية وعالمية بدرجة متزايدة. إن الدور الدقيق، الذي تلعبه المنشآت في هذه الشبكات، ستكون له مضامين هامة جداً بالنسبة للمجتمعات التي تتواجد فيها هذه المنشآت. وفي الوقت نفسه، فإن ذات الخصائص للأماكن المحددة نفسها- من تاريخ، وثقافة، وبنى مؤسسية- تمارس تأثيراً كبيراً على العمليات والشبكات الني نناقشها. وعلى وجه التحديد، فإن المكان وعلاقات الحيز ضمن التعقيدات الإقليمية للنشاط الاقتصادي هي، نفسها، جزء مكِّون من نظام الإنتاج ككل. فالعمليات التنظيمية والجغرافية تشكل ديناميكاً متفاعلاً بشكل متبادل.
ويلعب التغير التكنولوجي دوراً ضخماً في هذه الديناميكا عبر تأثيره على كل من قابلية حركة السلع والخدمات المادية وغير المادية، والأفراد، والمعلومات، وكل الطبيعة المتغيرة لعملية الإنتاج نفسها. ولكن دور التغير التكنولوجي ليس حتمياً deterministic. إذ أن الدولة أيضاً يبقى لها دور مركزي في هذه العمليات. وقد تعمل الشركات TNCs عبر الحدود، ولكن عملياتها لابد أن تقع في أقاليم وطنية محددة. ورغم أنها قد تكون قادرة على التفاوض على شروط عمل أفضل، فليس بوسعها أن تتجاهل كلياً لا السياسات التوجيهية والمؤسسية الأساسية القائمة ضمن حدود الدولة ولا الشروط الاجتماعية والثقافية المحددة التي تميز المجتمع المحلي المحدد حيث هي تعمل. إن المجموعة المحددة من الخصائص في الدول المختلفة وفي المجتمعات المحلية ليس فقط تؤثر على كيفية ممارسة العمليات العولمية globalizing processes، بل أنها تؤثر أيضاً على طبيعة تلك العمليات نفسها. ولا ينبغي أن ننسى أن كل العمليات العالمية تجري في أماكن محددة. وهكذا، فإن فكرة نهاية الجغرافية هي وهم.


هوامش
اكتمل هذا الفصل حينما كنت أستاذا زائراً لقسم الجغرافية في الجامعة الوطنية بسنغافورة. وأتقدم بالشكر للجامعة، وبخاصة للأستاذ المشارك تيو سو إنغ Teo Siew Eng، رئيس قسم الجغرافية، والزملاء الآخرين، لدعمهم وضيافتهم. ويعتمد هذا الفصل بشكل موسع على الطبعة الثالثة من كتابي: Global Shift.
(1) للإطلاع على وجهة نظر معاكسة، أنظر: P. Hirst and G. Thompson, ‘ The Problem of ‘Globalization : International Economic Relations, National Economic Management and the Formation of Trading Blocs, Economy and Society 24 (1992): 408-442; and P. Hirst and G. Thompson, Golbalization in Question (Cambridge: Polity Press, 1996). ويستكشف بي. ديكن و ج. أ. بك J. A. Peck و أ. تيكل A. Tickell الجوانب المختلفة من مناقشات العولمة في: ‘Unpacking the Global’ in R. Lee and J. Wills, eds., Geographies of Economies (London: Edward Arnold, 1997).
(2) تم استعمال هذا المصطلح كجزء من عنوان كتاب عن النظام المالي العالمي؛ أنظر: Richard O Brien, Global Financial Integration: The End of Geography (London: Royal Institute of International Affairs, 1992).
(3) وردتْ حجج مانويل كاستلز Manuel Castells، في البداية، في عمله The Information City (Oxford : Blackwell , 1989) ؛ وقد تم إحكامها أكثر في الفترة الأخيرة في عمله The Rise of the Network Society, vol.1 (Oxford: Blackwell, 1996).
(4) وبطبيعة الحال، فإن فوكوياما لم يكتب عن نهاية التاريخ بصورة عمياء، بل بالأحرى عما اعتبره انتصار الديمقراطية اللبرالية، "نقطة النهاية للتطور الفكري للإنسانية".
(5)See M. Storper and R. Walker, The Spatial Division of Labour: Labour and the Location of Industries, in L. Sawers and W. K. Tabb, eds., SunbeltlSnowbelt: Urban development and Regional Reconstructing (New York: Oxford University Press, 1984(, Chapter 2.
(6) See K. Ohmae, Triad Power: The Coming Shape of Global Competition (New York: Free Press, 1985).
(7) يمكن الإطلاع على مناقشة مفيدة لهذه المشكلة في الفصل 11 من: B. Stallings, ed., Global Change, Regional Response: The New International Context of Development (Cambridge: Cambridge University Press, 1955).
(8) أنظر، مثلاً، أعمال كروجمان التالية P. Krugman, Geography and Trade ((Leuven: Leuven University Press, 1991); Development, Geography and Economic Theory (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1995); and Pop Internationalism (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1996). . أنظر كذلك K. Ohmae, The End of Nation State: The Rise of Regional Economies (New York: Free Press, 1995); and M. E. Porter, The Competitive Advantage of Nations ( London: Macmillan, 1990).
(9) أنظر الفصلين الخامس والسادس من: P. Dicken and P. E. Lioyd, Location in Space: Theoretical Perspectives in Economic Geography, 3d ed. (New York: Harper &Row, 1990), ، حيث يستعرض المؤلفان المناهج التقليدية الاقتصادية-الجغرافية والنظرية-الموقعية لمسألة التركز المكاني. ويمكن الإطلاع على الجيل الأحدث من الأدب الاقتصادي-الجغرافي لدى، مثلاً: A. Amin and K. Robins, The Re-Emergence of Regional Economies? The Mythical Geography of Flexible Accumulation,’ Environment and Planning, D: Society and Space 8 (1990): 7-34; A. Malmberg, ‘Industrial Geography: Agglomeration and Local Milieu,
(10) G. Myrdal, Rich Lands and Poor (New York: Harper & Row, 1958), p. 26.
(11)A. Amin and N. Thrift, Living in the Global,’ in A. Amin and N. Thrift, eds., Globalization, Institutions and Regional Development in Europe (Oxford: Oxford University Press, 1994), 13.
(12) أنظر، مثلاً: G. M. Hodgson, Economics and Evolution: Bringing Life Back into Economics (Cambridge: Polity Press, 1993); and J. de la Mothe and G. Paquet, eds., Evolutionary Economics and the New International Political Economy (London: Pinter, 1996).
(13)N. J. Thrift, ‘Doing Regional Geography in a Global System: The New International Financial System, The City of London and the South East of England, 1984-1987,’ in R. J. Johnson, J. Hauer, and G. A. Hoekveld, eds., Regional Geography: Current Development and Future Prospects (London: Rourledge), 180-207.
(14)D. M. Gordon, ‘ The Global Economy: New Edifice or Crumbling Foundations? New Left Review 168 (1988): 24-64, quoted on 61.
(15)C. Freeman and C. Perez, Structural Crisis of Ddjustment, Business Cycles and Investment Behaviour, in G. Dosi, C. Freeman, R. Nelson, G. Silverberg, and L. Soete, eds., Technical Change and Economic Theory (London: Pinter, 1988), chap. 3.
(16)F. Chesnais, ‘Science, Technology and Competitiveness, Science Technology Industry Review 1 (1986): 85-129.
(17) كان كريستوفر فريمان Christopher Freeman ، وزملاءه، قد كتبوا عن هذا الموضوع. أنظر، مثلاً: Freeman and Perez, Structural Crisis of Adjustment.
(18)P. Hall and P. Preston, The Carrier Wave: New Information Technology and the Geography of Innovation, 1846-2003 (London: Unwin Hyman, 1988), 6, ، علماً بأن التأكيد مضاف من الكاتب.
(19)J. S. Metcalfe and N. Diliso, Innovation, Capabilities and Knowledge: The Epistemic Connection, in Mothe and Paquet, eds., Evolutionary Economics, chap. 3, quoted on 58.
(20) Storper,’ Resurgence of Regional Economies,’ 208.
(21)R. R. Nelson, ed., National Innovation Systems: A comparative Study (New York: Oxford University Press, 1993).
(22)A. Malmberg and P. Maskell, Towards an Explanation of Regional Specialization and Industry Agglomeration, European Planning Studies 5 (1997): 25-41, quoted on 28-29.
(23)Storper,’ Resurgence of Regional Economies,’
(24)M. Storper, ‘The Limits to Globalization: Technology Districts and International Trade, Economic Geography 68 (1992): 60-93.. ثمة فكرة مماثلة، ولكن معَّبر عنها بطريقة مختلفة، ترد في مفهوم منطقة التكنولوجيا technopole . M. Castells and P. Hall, Technopoles of the World: The Making of 21st Century Industrial Complexes (London: Routledge, 1994).
(25)M. Batty and R. Barr, The Electronic Frontier: Exploring and Mapping Cyberpace, Futures 26 (1996): 699-712, quoted on 711.
(26)K. Ohmae, The Borderless World: Power and Strategy in the Interlinked Economy (New York: Free Press, 1990). See also C. P. Kindleberger, American Business Abroad (New Haven, Conn., : Yale University Press, 1969.
(27)R. Wade, ‘Globalization and Its Limits: Reports on the Death of the National Economy Are Greatly Exaggerated, in S. Berger R. Dore, eds., National Diversity and Global Capitalism (Ithaca, N. Y. : Cornell University Press, 1996), chap. 2.
(28) للإطلاع على مناقشة حول هذا الموضوع، أنظر: Dicken, Peck, and Tickell, Unpacking the Global’. أما مفهوم "إخلاء" الدولة الوطنية’hollowing out’ of the state ، فيناقشه جيسوب: B. Jessop, ‘Post-Fordism and the State, in A. Amin, ed., Post-Fordism: A Reader (Oxford: Blackwell, 1994), chap. 8.
(29) R. D. Whitely, Business System in East Asia: Firms, Markets and Societies (London: Sage, 1992).
(30) للإطلاع على مناقشة كاملة حول موضوع السياسات الاقتصادية الحكومية، وعلى أمثلة مفصلة ضمن مسارات مختلفة، أنظر: D. Dicken, Global Shift: Transforming the World Economy, 3d ed. (New York: Guilford Press, 1998).
(31) وفي الواقع، يضع هندرسون وأبلبوم تمييزاً رباعياً. أنظر: J. Henderson and R. P. Appelbaum ,’’ Situating the State in the east Asian Development Process, in R. P. Appelbaum and J. Henderson, eds., State and Development in the Asian Pacific Rim (London: Sage, 1992), chap. 1
(32) M. Douglass,’’ The ‘Developmental State and the Newly Industrialized Economies of Asia, Environment and Planning, A 26 (1994): 543-566, quoted on 543.
(33) R. Z. Lawrence, Regionalism, Multilateralism, and Deeper Integration (Washington, D. C.: The Brookings Institution, 1996), 87-88.
(34)Ohmae, The Borderless World, 94.
(35)UNCTAD, World Investment Report 1996: Investment, Trade and International Policy Arrangement (New York: United Nations, 1996).
(36) باستعمال بيانات مختلفة قليلاً، توصلَ العمل التالي إلى استنتاجات مماثلة: W. Ruigrok and R. Van Tulder, The Logic of International Restructuring (London: Routledge, 1995).
(37)Y. S. Hu, ‘ Global Firms Are National Firms with International Operations, California Management Review 34 (1992): 107-126.
(38)J. M. Stopford and S. Strange, Rival Firms: Competition for World Market Shares (Cambridge University Press, 1991), 233.
(39)L. W. Pauly and S. Reich, National Structures and Multinational Corporate Behaviour: Enduring Differences in the Age of Globalization, International Organizations 51 (1997): 1-30, quoted on 1,4.
(40) يقدم ت. أبو T. Abo تحليلياً تجريبياً مفصلاً لتجربة المنشآت الصناعية اليابانية الأجنبية متعددة الجنسية في عمله المنشور Hybrid Factory: The Japanese Production System in the United States (New York: Oxford University Press, 1994).
(41) Pauly and Reich, National Structures and Multinational Corporate Behaviour,’ 25
(42)See Y. Doz, Strategic Management in Multinational Companies (Oxford: Pergamon, 1986); and S. Pralahad and Y. Doz, The Multinational Mission (New York: Free Press, 1987).
(43) Dicken, Global Shift.







































الفصل الثالث
المورد الذي لا ينضب:
إحكام السيطرة على الطاقة الهائلة للمعرفة
وليم إي. هلال، جامعة جورج واشنطن
William E. Halal, George Washington University

مقدمة
قبل سنوات قليلة فقط، كان الناس يسخرون من فكرة أنه ينبغي على الأعمال التركيز على خلق المعرفة. ومع ذلك، فقد هيمّنت المعرفة على اهتمامات حقل الإدارة أخيراً لأن ثورة المعلومات تعيد تجهيز قطاع الأعمال. إن تطور المنشآت التنظيمية enterpreneurial organizations، والتحالفات التعاونية، وأنظمة المعلومات الذكية، تشكل حداً فاصلاً في علم الاقتصاد: اكتشاف الأسس الجديدة، القوية، لإدارة الطاقة الهائلة للمعرفة التي تقود المنشأة الخلاقة. والآن أصبح واضحاً أن المعرفة هي الأصل الأكثر استراتيجية في المنشأة، ومصدر كل الإبداع، والابتكار، والقيمة، والتقدم الاجتماعي- أي المورد الذي لا ينضب infinite resource.

إعادة تجهيز المنشأة
قامت المنشآت الكبيرة بتفكيك مراتبها الهرمية، وباشرَ منظِّمون كثر بمغامرات جديدة في أماكن أخرى. ونشهد الآن ظهور منشآت تنظيمية مثل ABB، تتألف من 5000وحدة تُدار ذاتياً وتتفاعل بحرِّية ضمن "سوق داخلي". وحتى حكومة الولايات المتحدة تحاول أن تصبح حكومة تنظيمية. فما أهمية ذلك؟ لأن المديرين التنفيذيين يعبئون المهارات وروح الإبداع لدى أعداد هائلة من الناس العاديين لإطلاق المعرفة الراقدة في قعر فروع الاقتصاد.
كما نشهد أيضاً هجمة ملحوظة من التعاون لأن منافع التحالفات قد اكتشفتها كل المنظمات- الكبيرة والصغيرة، الشركاء والمتنافسون، الخاص والحكومي، المحلي والأجنبي. وإذ تطلقْ هذه التحالفات انفجاراً من المعلومات من خلال تحرير الطاقة الكامنة للمشروع الحر، فإنها تحوّله إلى مبادلات منتجة بين المنشآت المتحالفة التي تقوم بتجهيز تقنياتها، وتسويق المعرفة الفنية والخبرات الحيوية. وبعبارة أخرى، يؤدي التعاون إلى تدفق المعرفة عبر هذه الشبكة العالمية وزيادة المكاسب من تداولها وقيمتها.
وتبزغ الآن قوة ثالثة بفعالية أكثر. ففي عام 1997 فقط تسارعت ثورة المعلومات وفجرّت النشاط في حقل التعلم التنظيمي organizational learning، والمنظمات الذكية intelligent organizations، والأصول الفكرية intellectual assets، والمفاهيم الأخرى، الجديدة والمثيرة، التي تركز بشكل مباشر على خلق وإدارة المعرفة. فكل الشركات تفخر الآن بأنها تملك شبكة داخلية فيما بينها يديرها مدير معلومات رئيسي CIO ( chief knowledge officer) أو مدير التعلم التنظيمي director of corporate learning. وفي الواقع، فإن المديرين التنفيذيين الرئيسيين CEOs يُرجعون الإدارة الناجحة إلى مصدرها النهائي- عقل الشركة ونظامها العصبي المركزي الذي يربط مختلف الأفراد والوحدات الكثيرة في كلٍ واحد منسَّق وخّلاق.

عالم لا يحّده غير الذكاء والبراعة والخيال
فالإمكانات يصعب تصورها حقاً، وبخاصة لأننا لا نفهم بالفعل بعد النوعية المحيِّرة وغير المحدودة لهذا الشكل الفريد من القوة. فالمعرفة ترقد في عالم سماوي، مع أسس لم نشرع سوى الآن بفهمها، وأهداف لا نستطيع غير تصورها.
وبخلاف الموارد الأخرى المألوفة بالنسبة لنا، فإن المعلومات هي شيء سائل يتغير باستمرار كلما تحركَ، ويزداد كلما تفاعلَ وعبرَ الحدود. ويصف راي سمث، المدير التنفيذي الرئيسي CEO لشركة Bell Atlantic، ذلك كمبدأ "الأرغفة والأسماك":" بعكس المواد الأولية، فإن المعرفة لا يمكن أن تُستنفد. فكلما توزعْ معلومات أكثر، تخلقْ أكثر منها(1)."
لقد استعملت الثورات الاقتصادية السابقة تكنولوجيا جديدة، ولكن بقسوة أكثر. فالثورة الزراعية خلقتْ الحضارة من خلال تقديم مواد غذائية آمنة- ولكن الناس ظلوا يعيشون ضمن ظروف بدائية وكابدوا مع موارد نادرة. كما أن الثورة الصناعية سخرّت الآلات لصنع السلع المادية- تحت تهديد الحرب النووية وتدمير البيئة.
أما الثورة التكنولوجية، فهي جديدة أساساً لأنها تتعامل مع موردٍ غير محدود تقريباً وقوي بشكل خاص. وبخلاف الموارد المادية- كالأرض، والعمل، ورأس المال- فإن المعرفة تتكون باستمرار وعرضها لا يُستنفد، وبالتالي فأنها تحل مشكلة ندرة الموارد، قديمة العهد. وأعتقد بأن من الملائم القول- لأول مرة- بأننا نَطول مورداً ليس له حدود.
فما هو متاح كثير جداً لأن تكنولوجيا المعلومات IT تقدم طريقة قوية لفهم عالم معقد على نحو غير محدود. فالعلم يكتشف أعماقاً لا يُسبر غورها من الحياة المعقدة في الكون كله: من النطاق الميكروسكوبي للكائنات العضوية الدقيقة، إلى أبعد نقطة في الفضاء، وإلى العالم الداخلي للوعي الإنساني. وكما قال عالم الفيزياء فريمان ديسون، فإن تعقيد الحياة يتوسع: لا حدود في كل الاتجاهات(2)."
وعلاوة على ذلك، فإن ثورة المعلومات هي أول محاولة جادة لنا لجعل المعرفة المهمة الأولى في مجتمعات كاملة. فقد استخدم العالم، العام 1997، بليون جهاز حاسوب شخصي PCs، طاقة كل واحد منها تزيد على طاقة mainframe التي كانت سابقاً تحتل غرف كاملة، وتكلّف ملايين الدولارات، ويتطلب تشغيلها فرقاً كاملة من العاملين. وإن التغيرات الكبيرة حقاً لم تأتِ بعد. ويشير أندي غروف، المدير التنفيذي الرئيسي لشركة Intel إلى "أن طاقة الحاسوب ستكون في القريب العاجل حرة عملياً وبلا حدود عملياً(3)."
ولذلك، فإن المعلومات هي مورد لا ينضب لأنها تمثل عرضاً غير محدود للقدرة على إدارة إمكانات غير محدودة. إن الزيادة الهائلة لملايين المنظِّمين مثل بيل غيت Bill Gates واقتصاديات كاملة مثل كوريا الجنوبية توضح بأننا قد حطمنا كل القيود التي أبقتْ البشرية ذات يوم أسيرة لعالم مادي. إن العقبات العادية كلها تبقى، ولكن الحدود الجدية الوحيدة هي ذكائنا وبراعتنا وخيالنا. وبما أن هذه الآفاق تتجاوز بالتأكيد تقريباً أجرأ تقديراتنا، فمن المحتمل أن موجة التغيير، الموشكة على الحدوث، سوف تفاجئنا وتبهر خيالاتنا وتختبر قدراتنا.

الأسس الجديدة للتقدم
ولكن الاقتصاد، تقليدياً، يُعرف بأنه "العلم الكئيب". فهو يقوم على الموارد المحدودة، التي تقل عند المشاركة بها، فتخلق لنا عالماً من الندرة. وهذا يفسر لماذا أن المعلومات ثورية- فهي تتحدى ما تعلمناه في الماضي.
وهذا الفصل يجمّع الاتجاهات الاقتصادية، والبيانات التي توفرت لي من استعراض الممارسات الإدارية في مختلف الدول، وآراء الكُتاب البارزين، وذلك لفحص الأسس الثورية الجديدة لإدارة المعرفة. وفيما يلي، أقدم عرضاً شديد الإيجاز لهذه البدع المربكِّة، ولكن المثيرة، والتي سنعود إليها فيما بعد بتفصيل أكثر.
1. الأساس الأول: التعقيد يُعالج بالحرية. فالنجاح لم يعد يتحقق من خلال التوجيه والسيطرة، بل تتيحه الحرية التنظيمية بين الناس في القاع.
2. الأساس الثاني: التعاون فعاّل اقتصادياً. فالقوة الاقتصادية لا تأتِ من القوة والصرامة، بل من خلال التدفق التعاوني للمعلومات ضمن مجتمع الأعمال.
3. الأساس الثالث: المعرفة توجّهها الروح. فالوفرة Abundance لا تنتج عن الغنى الاقتصادي، بل عن التسيير البارع لعالم معقد بصورة غير متناهية.

التحول الاقتصادي القادم
إن فهم ضخامة هذه الأفكار من شأنه تحدي مديريّ الأعمال، والمسئولين الحكوميين، والعلماء لسنوات. ولكن النمو المتين لتكنولوجيا المعلومات IT ينبغي أن يستمر في قيادة التغيير. نيكولاس نيغروبونت، المدير في MIT Media Lab يعتبر IT: "القوة الطبيعية التي لا تُرد، والنصر النهائي للامركزية، والعولمة، والتأهيل(4)."
وفيما بعد، سألخص تنبؤاتي التي تشير إلى أن التحسينات الهائلة في تكنولوجيا المعلومات سوف تدخل في التيار الرئيسي في وقت ما خلال السنوات القليلة القادمة. وفي نهاية هذا الفصل، سنرى كيف أن القوى، التي يطلقها هجوم التكنولوجيا هذا، يُحتمل أن تقود ثلاثة ثورات مناظرة لتلك الأسس الثلاثة: ثورة من التحكم إلى الحرية؛ وثورة من الخلاف إلى الوفاق؛ وثورة من المادية إلى الروح.
وحينما تصل هذه التغيرات إلى مقدار معتبر من الناس والمنظّمات، فمن المحتمل أن نشهد "انقلاباً" في الفكر الاقتصادي بين السنوات 2000 - 2005 تقريباً؛ وينبغي لهذا الانقلاب أن يحدث "كالمرور من ثقب إبرة".
إن الحياة الاقتصادية ينبغي أن تختلف على الجانب الآخر من التحول. فعندما تهدأ العاصفة خلال عقد تقريباً، ربما تشكل الأعمال، والحكومات، والمؤسسات الأخرى، تشابكات غير مركزية decentralized clusters من وحدات مشروع داخلية، تعمل من القاع ونحو الأعلى حيث التعقيد المُدار ذاتياً، وتقود الابتكار بهذا الشكل عبر المجتمع بشكل مستمر. كما أنها سوف تندمج تكافلياً مع مختلف الأطراف، بحيث تشكل مجتمعات مترابطة ارتباطاً وثيقاً، ولكن متبدلة، تضم ممثلين اقتصاديين منوعّين. وإن النظام كله سيركز بشدة على قوة المعرفة لقيادة استراتيجيات تخدم الأهداف الاجتماعية والمالية.
وقد يفيد أن نتصور هذا الأمر كمزيج مصفَّى نوعاً ما من ثلاثة نماذج أساسية لمنشآت الأعمال، تشكل نظرية جديدة للمنشأة، قادرة على مواجهة الأوقات الصعبة القادمة- شركة MCI الديناميكية، والتي تكمّلها علاقات العمل التعاونية لشركة Satrun، على أن يقود ذلك كله ذكاء شركة Microsoft.

ماذا يحل محل الهرمية؟
من الواضح الآن أن المنظّمات الهرمية التي هيمّنت على التاريخ تتحول بسرعة، إن لم تكن قد زالت بالفعل. فانهيار الشيوعية لم يكن سوى العلامة الأكثر وضوحاً على فشل الهرمية hierarchy في كل مكان، بما في ذلك انهيار البيروقراطيات القديمة لقطاع الأعمال ومشاعر معاداة الحكومة الكبيرة.
ولكن علم الإدارة مشتت اليوم لأنه يتصارع مع أفكار متناقضة وقضايا صعبة- في نفس الوقت الذي يتوازن فيه مستوى الاضطراب، والتنوع، والتغير، لكي يتفجر حينما تصل ثورة المعرفة قوتها الكاملة في بضع سنوات.

الإدارة تغمرها الحيرة والارتباك
رغم أننا قد تعلمنا أن نحسّن النوعية، ونعيد رسم العمليات، ونشكل الفرق، ونبني الشبكات، بيد أننا كثيراً ما نغرق في الارتباك بسبب التبدل المستمر حالياً للمفاهيم الإدارية المتنوعة- وهي الموضة المنتشرة في الوقت الحاضر.
وهناك تقدير بوجود 31,000 مرشد يتولون تقديم النصح للشركات بشأن مناهج الإدارة management، المختلفة جداً، بما في ذلك "حكمة الذئاب"، و"أسرار القيادة الفظة والعنيفة"، وحتى اقتصاديات العشائر الهندية. إن فيض الأفكار الإدارية الجديدة من الضخامة بحيث يتعذر على العلماء الاتفاق على نموذج للإدارة، وينكب بعضهم لوضع "نظرية موضة"(5).
وتغدو المشكلة واضحة حينما نحاول أن ندوّن الأسس القائمة لأفكار مألوفة كالشبكات التنظيمية. من يملك سلطة اتخاذ القرارات الأساسية في هذه الأنظمة؟ كيف سنعرف إذا كانت العُقد nodes في شبكة ما تخلق القيمة أو تدمرها؟ كيف يتم تقييم الأداء؟ كيف تتحدد المسئولية؟ ماذا عن المكافآت وتخصيص الموارد؟ وهكذا.
فإذا كان الجواب هو أن الإدارة العليا تعالج هذه القضايا، فما هو الفرق، إذاً ؟ أليس هذا مجرد نسخة مرنة أكثر من الهرمية، مع بقاء معظم العيوب القديمة؟ ورغم كل شيء، فإن الهياكل الضخمة من العصر الصناعي القديم لشركتيْ GM و IBM كانت تملك تحالفات قوية مع شركاء أذكياء، في نفس الوقت الذي كانت فيه تتخبط في البيروقراطية. فإذا كان الجواب هو أن الناس أحرار في أن يفعلوا ما يرون أنه الأفضل، فماذا يحول دون الفوضى- هل هو الإجماع بين آلاف المستخدَمين؟ وهل يتحقق هذا بالود والحماسة فقط؟
فرغم كل الحديث الجميل عن "تأهيل الأفراد" لـ "الشبكة" في "منظمات التعلم" learning organizations، فالواقع هو أن معظم الشركات تبقى تحت سيطرة قيادتها بشكل رئيسي- حتى إذا كنا الآن نفهم أن معظم المعرفة توجد لدى مراتب أقل. ومن المفُرح أن نرى العلماء البارزين الآخرين قد سلمّوا أخيراً بهذه المشكلة. كتبتُ قبل سنوات: "المدير هو المشكلة، عادة". وفي العام 1996 ، كتبَ غاري هامل، في مجلة Harvard Business Review، "المشكلة في القيادة"(6).

نقص الحلول للمشاكل المزمنة
كما أن الخلافات هذه مسئولة أيضاً عن افتقارنا للأجوبة الجيدة على المشاكل المزمنة، الناتجة عن إعادة الهيكلة الجارية اليوم التي أصبحت مشهورة بمقاومتها المتحصِّنة، ومكاسبها الاقتصادية الهزيلة، وملاكاتها المرهقة، وزبائنها الذين لا يحصلون إلاّ على خدمة سيئة، والناس الذين يتعرضون للاغتراب. إن إعادة الهيكلة restructuring أمر ضروري بالتأكيد، ولكن المناهج الحالية تركز على تسريح العمال وتخفيض التكاليف، المفروضة على العاملين الذين يكسبون القليل من هذه الإجراءات- في نفس الوقت الذي يعلم فيه المديرون أيضاً بأنه ينبغي عليهم تأهيل الناس، وتشجيع التعاون، ورعاية المعرفة.
وهناك تناقض مماثل يدمّر شرعية قادة الأعمال. فبينما بلغت رواتب المديرين مستويات عالية جداً، فإن أجور المستخدَمين ظلت على حالها لعقدين من الزمان، وأن ثلث قوة العمل تكابد في أعمال هامشية ذات أجور واطئة. وعندما سرّحت شركة روبرت ألان Robert Allen 40,000 عامل ووضعت في جيبها ثلاثة ملايين دولار، فإن سمعة شركة AT&T قد تأثرتْ بحيث هبطت إلى الحضيض في الاستفتاء الذي تجريه مجلة Fortune للشركات المفضلة أكثر لدى الجمهور. وقد لاحظت مجلة Business Week :"إن زيادة متوسط الرواتب 200مرة… لا تجلب الاحترام(7)."
الرأي العام السائد يمكن ملامسته بصورة جميلة في البرنامج الفكاهي " Dilbert ". إذ حوّلَ مقدم أفلام الكارتون سكوت آدمز سخافات علم الإدارة الحالي إلى أقوال ظريفة، جاعلاً من البرنامج نافذةً يطّل البلدُ منها على المعاناة الشديدة للعمال الشباب مع المديرين المربكَين، والمهتمين بأنفسهم. وربما يبالغ آدمز قليلاً، ولكن البرنامج يلتقط التقدير الضئيل لعلم الإدارة الحالي لدى الجمهور.

التغيرات الكبيرة لم تأتِ بعد
والأهم هو أن المفاهيم السائدة ربما لا تصمد أمام التغيرات الكبيرة التي تلوح في الأفق. إن انتشار تكنولوجيا المعلومات قد أطلق منافسة شديدة لخلق حد من المنتجات الجديدة، والأسواق، والخدمات التي لا يفهمها أحد بعد. إن صناعات كاملة كالمصارف ووسائل الإعلام ومؤسسات التعليم تدخل في حقول غير مفهومة بدرجة كافية، ومخيفة. فالتعليم الإلكتروني يجعل صفوف التدريس الحالية، مثلاً، غير ضرورية ومهجورة، تاركاً الأساتذة في أرجاء البلاد في حيرة وارتباك بشأن إعادة تعريف ما ينبغي عليهم عمله، وأين، وتحديد معنى ذلك. كما أن القوة التحريرية لأنظمة المعلومات تخلق أيضاً الاستياء لدى العاملين بسبب تقويض بنية قوة العمل القديمة. فقد أجرى أحد المديرين التنفيذيين CEO لقاءً إلكترونياً من خلال الشبكة الداخلية للشركة، ولكنه لم ينل سوى الهجوم على المديرين التنفيذيين بحيث أضطر إلى إيقاف البث.
هل يمكن للمنشآت أن تجاري هذا المد من التغيير الثوري، دون عاملين متحفزين، وقيادة ملهِّمة؟ كيف سنفهم ما هو مطلوب دون أن نرى التجلي الكامل لهذا التحول التاريخي؟ إن إحدى أكبر العقبات هي أن المديرين عموماً لا يفهمون كيف يمكن خلق جيل مختلف من منشآت تنظيمية من قاعها لِقمتها، وأنهم في وقت صعب يعتقدون فيه أن الأفراد سيتصرفون بمسئولية دون سيطرة مباشرة. ومما يفاقم الأمور، أن المناقشة في هذا الموضوع ممنوعة لأنها تمس موضوع السلطة power، الحساس، مما يضيف إلى الارتباك الذي يميّز علم الإدارة الحالي.
وسيتعذر حل هذه المحنة ما دمنا نفكر في علم الإدارة ضمن إطار تسلسل هرمي، قائم على فكرة الربح. فالمنشآت الكبرى تشكل أنظمة اقتصادية، كبيرة ومعقدة وكأنها اقتصاديات وطنية؛ ومع ذلك، عموماً، فهي مسيطَّر عليها ومُدارة هرمياً من القمة للقاع: عند تحديد المبادرات الاستراتيجية، وتخصيص الموارد والأفراد، ووضع الأهداف المالية، وضبط ومراقبة ميزانية الأقسام. فبمَ يختلف هذا عن التخطيط المركزي الذي فشلَ في ظل الشيوعية؟ وكيف أن السيطرة سيئة بالنسبة لاقتصاد بلد ما، ولكنها جيدة لاقتصاد شركة ما؟ وهل يمكن لأي بنية ثابتة أن تكون مفيدة في عالم متغير على الدوام؟

أسس المشروع، والتعاون، والمعرفة
الأقسام التالية توضح بصورة أكمل "أسس التقدم"، التي تبرز الآن لتعريف "العلم الجديد للإدارة " New Management المطلوب لعصر المعلومات، أو ما يسميه العلماء "نظرية المنشأة" لاقتصاد قائم على المعرفة(8).

تعريف نظام المشروع الداخلي
أحد جوانب العلم الجديد للإدارة، المفهوم أقل فهم، هو طريقة استعمال وحدات الأعمال المستقلة، والفُرق المترابطة- وظيفياً، والتنظيم داخل المنشأة intrapreneurship، والزبائن الداخليين، والمظاهر التنظيمية الأخرى، لتنشيط المنشآت. وإذا كنا نريد تجنب المساوئ المرتبطة بالتدرج الهرمي من القمة للقاع، فتلزمنا طريقة جديدة للتنظيم تقوم على أسس المشروع. ولهذا المفهوم أهمية كبيرة لأنه يقود منطقياً إلى تشكيل اقتصاديات سوق داخلية كاملة.
وقد طَوّرتْ منشآت تقدمية كثيرة رؤى مختلفة لهذه الفكرة الأساسية، كما أوضحتُ هذا الأمر على نحو أكمل في عمل آخر لي(9). وبدلاً من المصطلحات الهرمية- أقسام، فروع، وهكذا- فإن الوحدات تُعرَّف كـ "مشروعات داخلية" internal enterprises أو ما يسميها الكاتبان بنجوتس Pinchots بـ "وحدات في داخل المشروع" intraprise. وكما هو الحال في كل المشروعات، فإن مفتاح النجاح هو معايير المسئولية التي ينبغي الاتفاق عليها بوضوح، وأوسع درجة ممكنة من حرية التنظيم، ودعم أنظمة الشركة وقادتها. ولضرورة مماشاة عصر جديد ومعقد، فإن مجموعة من المنشآت البارزة قد أخذت بهذا المفهوم، كما هو موضح في الجدول رقم 3 - 1.
فبدلاً من وجود بنية ثابتة، ثمة عملية أو بنية متغيرة ذاتية التنظيم، تتطور باستمرار لتقدم كل محاسن الأسواق: المسئولية عن النتائج، وحرية التنظيم، وحوافز للإنجاز، وسرعة الاستجابة زمنياً، والتركيز على الزبائن، والإبداع، وما شابه. ويطلق جارلس هاندي على هذه العملية اسم "تنظيم تعاقدي"(10). وبسبب هذه المرونة، فإن مفهوم السوق الداخلية يقدم أساساً اقتصادياً يسهّل أيضاً الممارسات الأخرى كالشبكات، والأحلاف، والعلاقات العملية.
ومن المهم أن نلاحظ أنه ليست هناك تصميمات تنظيمية مثالية- فالأسواق الداخلية تتعرض لنفس الفوضى، والمخاطرة، واضطراب الأسواق الخارجية. والفكرة هذه لا تصلح للعمليات العسكرية، ولسفن الفضاء، والأوضاع الأخرى التي تتطلب التنسيق الدقيق لآلاف الأفراد والخطط المعقدة، ولا للعمليات الروتينية التي تواجه بيئات بسيطة وثابتة نسبياً. وهكذا، يترتب على المديرين أن يقارنوا تكاليف وعوائد طريقة التسلسل الهرمي بطريقة المشروع لإيجاد المزيج الذي يناسب التنظيم على أفضل وجه.
ولكن إذا كنا نريد تنظيمات ديناميكية قادرة على أن تبرع في أوضاع يزداد تعقدها عشرة أضعاف، بقدر ما يمكن للعين أن تبصر ما يلوح في الأفق، فسيكون من الضروري توسيع المشروع الحر بحيث يتجاوز كل ما هو موجود اليوم. فالمراتب الهرمية المرنة حالياً لن تكون كافية بالنسبة للتقنية الثورية، والمنتجات المتطورة، والزبائن المتطلبين، والمستخدَمين الشباب اللامعين، والأسواق المتنوعة، والمنافسة الشديدة التي تتجلى الآن في كوكبنا. وقد قدّم ستيفن غولدسمث، عمدة Indianapolis خلاصة وافية لهذا الرأي:"ما دمنا نبحث عن أفضل طرق لتنظيم الحياة في عصر المعلومات، فأحد أول الأشياء التي ينبغي عملها هو تحطيم الحكومات الكبيرة، ذات الاستجابة الضعيفة، والاحتكارية… فقد تعلمتُ بأن لا شيء يحسّن من عمل الحكومة غير إدخال المنافسة(11)."

جدول رقم 3 - 1 أمثلة على المشروع الداخلي Internal Enterprise
منشآت ديناميكية: قامت منشآت ديناميكية كثيرة بتبني جوانب مختلفة من المشروع الداخلي، بما في ذلك: MCI, Xerox, Johnson & Johnson, Hewlett-Packard, Motorola, Alcoa, Clark Equipment, and Mobil Oil.. وقد قاومتْ شركة General Motors إضراباً عمالياً لغرض منح أقسام السيارات صلاحية (قسم) الزبائن الداخليين لاختيار مورِّدين من خارج وحدات جنرال موتور.
أسواق العمل الداخلية: ترسل شركتاIntel, Raychem, وعدد متزايد آخر من الشركات، كل عروض العمل الجديدة لتمكين أفضل الأفراد من احتلال مواقعهم. وينتظم العاملون بشئون المعرفة في فرق مُدارة ذاتياً، يتم الدفع لها بحسب الإنجاز، وهي حرة في اختيار قادتها، والعاملين المشاركين الآخرين، وساعات العمل، وطرقه، وكل الجوانب الأخرى من العمل.
Outsourcing and Insourcing: إن الاتجاه القوي للتحول من الهرمية إلى المشروع يحدث أيضاً عندما يتم تكليف موردِّين خارجيين بمهمات معنية outsourcing، وتكليف المشروعات الداخلية بمهمات أخرى insourcing. وقد وصل هذا الاتجاه إلى حد إن المنشأة الجديدة "المتفوقة" لشركة فولكسواجن في ريو دي جانيرو قد أنجزت 80 % من عملها الإنتاجي عن طريق عمال شركة VW- وهذا مثال على outsourcing ضمن الشركات.
الحكومات التنظيمية: تقوم العديد من حكومات العالم بتحويل أجهزتها البيروقراطية إلى حكومات تنظيمية. فقد شكّلت الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة، مثلاً، "الأنظمة القائمة على الإنجاز" performance-based systems، التي تشكل وكالات مسئولة عن النتائج وتمنحها حرية عمل واسعة بعيداً عن الأجهزة الفدرالية. إن إدارة الدفاع، وإدارة الخدمات العامة، وإدارة الطباعة الحكومية، هي وكالات تقوم الآن بما كانت سابقاً وظائف حكومية احتكارية وذلك بقصد تشجيع المنافسة الداخلية الصحية.
المرافق الحكومية المتنافسة: إن المنافسة بين المرافق ستخفف قريباً من حدة المعارك بين الشركات AT&T, MCI, and Sprint ؛ وسوف تدخل ساحة النزال الشركات the Baby Bells، وإن نظام الطاقة القائم على السوق الحرة يتطور بحيث يتمكن الزبائن من الاختيار بين كثرة من منتجي الطاقة.
اختيار المدرسة: إن المدارس K-12 هي على حافة ثورة تنظيمية لأن الأنظمة القائمة على اختيار الوالدين، وvoucher system  ومدارس charter schools ستحل محل البيروقراطيات القديمة وذلك على أساس المشروع.
وفي الخارج: تقوم المنشآت اليابانية بأعمالها خارج نطاق فروعها- kieretsu، وتتحول للعمل بنظام الدفع بحسب الإنجاز. فشركة Matsushita حوّلت أعمال البحث، وتصنيف السلع، ومكاتب المبيعات، إلى وحدات قائمة بذاتها، وهي تقوم بعملها مع بعضها بعضاً. وقد أصبحت مراكز الربح المستقل نموذجاً للأسواق الداخلية. Siemens و Lufthansa هما من بين الشركات الألمانية التي تبنت المفهوم الجديد في الفترة الأخيرة. وقد فعلتْ المثل شركة Semco في البرازيل.
المصدر: تم تكييف المعلومات من: William E. Halal et al., Internal Markets (New York: John Willey & Sons, 1986)..

وفي هذا السياق، فإن معظم التنظيمات تبدو بدائية كالاقتصاد السوفيتي القديم. تأملْ شركة IBM، مجرد نقطة بؤرية من شركة أمريكا Corporate America. وشركة Lou Gerstner تبدو وقد أنقذت شركة Big Blue من الهاوية المالية، ولكن قيمة أقسامها الفردية تبلغ 115 بليون دولار العام 1996 ، بينما كانت قيمة رأسمال الشركة الأصلي 65 بليون دولار. والفارق هذا، البالغ 50بليون دولار، يمثل الثروة التي فُقدت من قبل إدارة شركة IBM. ويدّعي المديرون أن قسم البرمجيات لوحده يبدد 200 مليون دولار كل سنة بعد أن حصل على موافقة المركز الرئيسي على مشروعاته للبرمجيات البالغة 10,000 مشروع(12).
وبدلاً من استعمال ثروة IBM الكبيرة من المعرفة والناس المبدعين لتَصدْر واجهة تكنولوجيا المعلومات، فإن المساهمة الرئيسة لشركة Gerstner انصبتْ، كما يبدو، على فرض النظام discipline: تسريح نصف قوة العمل، خفض التكاليف والدين، وإعادة تركيز جهود التسويق على الزبائن القدامى لشركة IBM. وقد وصفَ مديرو شركة IBM رئيسهم الجديد كما يلي: "إن أسلوبه المتبلد جعلَ التنظيم يرتجف"؛ "أنسْها، إذا كنتَ تتوقع أن تجري مجاملتك"، "يهتم كثيراً بالمنزلة، وبخاصة منزلته هو(13)."
إن السيطرة الهرمية قد يمكنها بَعدْ أن تخدم القيادة في هذه الأوضاع، ولكنها- كالطلاء على خشب متعفن- تخفي فقط الضعف التحتي وتنذر بالكارثة. فإلى متى يمكن لشركة Big Blue العجوز أن تقاوم التحسينات القوية لشركات الحاسوب الكثيرة الأخرى؟ والمنافسون، مثل شركة Dell Computer، يطبقون استراتيجيتهم قليلة التكلفة على آلات كبيرة، وحتى الصين قد نزلتْ للساحة(14).
والحل هو منهج مختلف تماماً لعلم الإدارة، يسخّر المواهب الخلاقة للناس العاديين. فكما خفّضَت أكبر 500 شركة عملاقة، من الشركات التي تذكرها مجلة Fortune، من عمالتها بمقدار 3 ملايين عامل خلال العقد الماضي، فإن المنشآت الأصغر والمشروعات الجديدة قد توسعت بخلق 21 مليون عمل جديد(15).
الإدارة ذات النوعية الكلية Total quality management (TQM)، وإعادة الهندسة، والممارسات الأخرى المألوفة، هي أشياء مفيدة، ولكن الحاجة الرئيسة هي تحويل مصدر السلطة power من القمة إلى القاعدة؛ هي التفكير بالإدارة بلغة المشروع وليس بلغة سيطرة التسلسل الهرمي. أعلمُ بأن هذا الكلام يبدو ثورياً، ولكن هذه الثورة- ثورة المعلومات- هي ثورة مثيرة بقدر ما كانت الثورة الصناعية كذلك، على الأقل. وكما أن الفكرة عن إمكانية خضوع الشيوعية للأسواق كانت تبدو منافية للطبيعة قبل سنوات قليلة فقط، فإن إعادة هيكلة مماثلة تبدو قادمة بالنسبة للشركات الكبيرة- "إعادة بناء حقل الأعمال" corporate perestroike.
وثمة علامة واحدة على هذا التحول الذي يوشك أن يحدث يمكن رؤيتها في تراجع القوة، والمسئولية، ومكافآت مستويات العمل. إن موضوع الدفع بحسب الإنجاز للفرق المُدارة ذاتياً ووحدات الأعمال كان ينمو بشكل ثابت، ويعمل الآن جدياً على تغيير العلاقة مع إدارة الأعمال. ويبين المقتطف التالي كيف تنظر إلى هذا الاتجاه مجموعةُ هاي Hay Group، وهي أكبر منشأة استشارية حول التعويض compensation في أمريكا: "تضع المنشآت المزيد من التعويض في الجانب المتغير، بالمقارنة مع الراتب الثابت، وتعتمد بقوة أكثر على مستوى الإنجاز في ذلك(16)." ولا يتطلب الأمر سوى القليل من الخيال لتوسيع هذه الاتجاهات إلى النقطة التي يحكم فيها منطق المشروع بدلاً من منطق الهرمية. فإذا سلمنا بأن القيمة الاقتصادية تخلقها أساساً الوحدات العاملة، فإن الطريق إلى الأمام يصبح واضحاً. إذ ينبغي على مديريِّ الأعمال التخلي عن السيطرة المباشرة، بتكوين مشروعات داخلية من كل الوحدات نزولاً إلى مستوى فرق العمل.
وأنا لا أقصد أن يتخلى المديرون التنفيذيون الرئيسيون CEOs عن سلطتهم. فهم يصمّمون هذه البنى ويقدمون القيادة لتوحيد وحدات الأعمال ضمن نظام تعاوني موجَه استراتيجياً. فهذا التغير المحوري من شأنه، أيضاً، أن يحل القضايا التي تبعث حالياً على التذمر كتخفيض العمالة downsizing، وإعادة الهندسة reengineering، والنوعية، وذلك بوضع مسئولية هذه القضايا على الفرق المُدارة ذاتياً، المكلَّفة باستعمال الموارد لخدمة الزبائن بصورة مربحة. وضمن هذه الحدود، يمكن أن يكون للمديرين تأثير أكبر لأنهم يقودون نظاماً يتقاسم فيه الجميع مسئولية النجاح.

تشكيل مجتمع أعمال تعاوني
الأساس الثاني يوسّع من فهمنا للأحلاف الاستراتيجية مع المورِّدين وشركاء الأعمال للدخول في علاقات تعاونية مع المستخدَّمين، والزبائن، والحكومة. لقد صاغ جيمس مور هذه الفكرة كما يلي: "المنافسة، التي نعرفها، ميتة(17)." والاستنتاج المنطقي هو قيام "مجتمعات أعمال" corporate communities متشابكة بقوة تربط مصالح مختلف الأطراف stakeholders في كلٍ إنتاجي واحد.
ولكن ماذا عن المنهج التقليدي "العتيد" للأعمال؟ لماذا يترتب على قرون من النزاع الاقتصادي أن تتغير؟ الأمر كذلك لأن ثورة المعلومات تحطم هذا النظام القديم، كما فعلت الثورة الصناعية حينما حطمتْ النظام الاقتصادي القروسطي.
وكما حوّلَ خط التجميع assembly line العاملَ الهام للإنتاج من العمل إلى رأس المال، فإن الحاسوب يحوّل عاملَ الإنتاج الهام من رأس المال إلى المعرفة. المعرفة تختلف لأن التكلفة الحدية لنشرها تافهة وأن قيمتها تزداد عند المشاركة بها، جاعلةً التعاونَ مفيداً لكل الأطراف. وتقود هذه الحقيقة الاقتصادية الجديدة إلى إدراك أن التعاون فعال الآن لأنه يخلق القيمة. وكما توضح الأمثلة في الجدول 2 – 3، فإن كل الحلفاء المتعاونين يستفيدون لأنهم يقدمون ميزة تنافسية.
يمكن لعصر المعلومات أن يكافئ التعاون. ولكن المشكلة هي أن التعاون يحّد من الاستقلالية، وبالتالي فإن الشركات الديناميكية تتجنب الصلات الثابتة من خلال تشكيل تحالفات مع شركاء بديلين. فكل علاقة ربما تتغير مع التحولات في التكنولوجيا، والأسواق، والزبائن، وإن المنشآت تسعى للحفاظ على خيارها بالتحول نحو شركاء آخرين. ولذلك، فإن مبدأ التعاون ينبغي أن يُعدَّل (أو يُضبَط) بالمبدأ الهام بنفس الدرجة: المشروع الديناميكي.
وهذا يقود إلى لغز محيِّر هام يضع المنظمات في اتجاهات متعارضة: فالتعقيد يتطلب حرية تنظيمية، ولكن ثمة حاجة بنفس الدرجة لتوحيد هذا التنوع في كلٍ إنتاجي متماسك. على المديرين أن يبنوا شراكات ثقة لتشكيل مجتمعٍ على أساس القيم والأهداف المشتركة- رغم أننا نسلّم بأن هذا هو تجمع سائل، ديناميكي، من أعضاء متغيرين. إذ تتطور ثقافة أعمال مختلفة، تسلّم بالحاجة للتغيير، بل وتحتفي به كجزء طبيعي من الحياة- كالطلاب الذين يدخلون الكلية، ومن ثم يتركونها مع ذكرياتهم العزيزة عن زملائهم. رون أوكلفيج Ron Oklewisz، أحد المديرين التنفيذيين في شركة Telepad، يرى بأنه لا ينبغي على المديرين "الزواج" من شركائهم، بل الاكتفاء "بالمواعيد" أو "مصاحبتهم وملازمتهم على الدوام".
المشكلة هي أن فكرة التعاون والمجتمع المحلي community تتعارض مع إيديولوجيا الرأسمالية. والأمريكان بشكل خاص مكرسون لفكرة أن الشركات "يملكها" أصحاب الأسهم، وبالتالي فإن هدفهم ينبغي أن يكون مضاعفة الأرباح.
نشاط الأعمال ينبغي أن يكون مربحاً، ولكن هذا الرأي كثيراً ما يضع المديرين في المشكلة الصعبة وهي تعارض ذلك مع مصالح المستخدَمين، والزبائن، والآخرين، الذين يكون لدعمهم أهمية كبيرة. فمثلاً، إن أجور المستخدَمين والتدريب يُنظر إليها، ببساطة، كتكاليف ينبغي تجنبها. وتقف ضد هذا الرأي شركات مثل Marriott و Motorola التي عملتْ شراكات مع المستخدَمين، وتستمتع بعوائد تصل إلى عدة مئات بالمائة من استثماراتها في التدريب(18).
لننظر بعناية أكثر إلى مسألة تخفيض حجم العمالة downsizing، وهو موضوع يرمز لأزمة الرأسمالية هذه. إن الحالة المشهورة لدونلاب Al Dunlap تكشف الكثير بشكل خاص(19). وكمدير تنفيذي رئيسي لمنشأة Scott Paper، فإن Dunlap نجحَ في إعادة هيكلة المنشأة بشكل فعال بحيث أن رأسمال الشركة قد زاد بنسبة 225 %. وهذا إنجاز هائل، كوفئ عليه عن استحقاق. ولكنه كان إنجازاً هائلاً من زاوية الإيديولوجيا الرأسمالية بشكل رئيسي، التي ذُكرت قبل قليل. أما من زاوية مجتمع الأعمال، الناشئ، فالقضية تبدو مختلفة جداً.
المستخدمون. قبضَ المدير التنفيذي 100 مليون دولار مقابل عمل سنتين، وربحَ المديرون الآخرون مبلغاً يتراوح بين10 - 20 مليون دولار لكل واحد منهم. ومع ذلك، فقدَ 12,000 فرد عملهم، مما شكّلَ صدمة كبيرة للبعض منهم أدت إلى إصابته بالسكتة القلبية وأمراض خطيرة أخرى. وقد جرى، فيما بعد، تسريح 8,000 فرد عند بيع المنشأة. فما هو المتوقع منطقياً بالنسبة للأخلاق، والضغط stress، والإنتاجية؟
الزبائن. هبطت المبيعات بسبب نوعية المنتجات التي أثارت دهشة الزبائن، وبسبب معاملة الشركة أيضاً. والمقتطف التالي يبّين ما قالته إحدى السيدات :" Dunlap يبدو كتجسيد للرأسمالية الهائجة- من دون قلب، أو روح، أو ضمير. ولن أستعمل إلاّ منتجات منافسيّ منشأة Scott، قدر المستطاع".
المورّدون. هجرَ Dunlap الاجتماع السنوي مع المورّدين الذي يهدف إلى تحسين علاقات العمل، وتحسين النوعية، وتخفيض الأسعار. ورغم حقيقة أن تقريباً كل المنشآت المُدارة جيداً اليوم تطوّر نفس هذا النوع بالضبط من العلاقة التعاونية مع مورّديهم، فإن منطقه كان ببساطة:"هذا هراء".
وكانت هناك دهشة قليلة، مما أثارته وضعية منشأة Scott من مشاعر، لدى الزملاء المديرين، والعلماء، والصحافيين، والناس العاديين. فقد كان لدى بيتر كابيلي من مدرسة وارتون Wharton التفسير التالي:" Dunlap لم يخلق أي قيمة. فهو أعادَ توزيع الدخل من المستخدَمين والمجتمع لصالح أصحاب الأسهم(20)."
والسخرية هي أن هذه الطريقة الغبية في جمع الثروة لا ينجم عنها سوى قيمة تافهة لاسترداد ما يضيع. فكسب الملايين لا يجعل الناس أكثر سعادة، ولا يلبي الحاجة للصلات الاجتماعية ومغزى أننا جميعاً نكافح حتى النهاية. فبعد نجاحه، اعترفَ Dunlap بشعوره بالكآبة: "لا أشعر بأي شيء. ثمة خواء، كأني فقدتُ قطعة من نفسي". وأنا أفترضُ بأن الحل هو في مباركة التغيرات الحاسمة التي تُدخلها ثورة المعلومات حالياً. فمجتمع الأعمال لا يمثل مسئولية اجتماعية بمعنى "عمل الإحسان". بل هو ميزة تنافسية.
ولكن أفعالنا ومعتقداتنا لم ترقَ بعد إلى هذه الحقيقة الجديدة. فإذا كان العمل مع المستخدَمين، والمورِّدين، والزبائن، وحتى المنافسين، مربحاً، فهذا يعني بأن مهمة الأعمال ينبغي، نوعاً ما، أن تشمل كل هذه المصالح بدلاً من مجرد تحقيق الأرباح لأصحاب الأسهم. وقد لخّصَ دان ميهان Dan Mehan، نائب الرئيس للشئون الدولية في شركة AT&T، هذا الرأي كما يلي في حوار شخصي:" بعد تحقيق برامج النوعية، وإعادة الهندسة، وتحقيق الابتكارات الأخرى، فإن القضايا الأخيرة التي تهم هي: "هل سيستمر زبائننا بتفضيلنا لأنهم يحصلون على قيمة؟ وهل سيرغب مستخدَمونا في أداء عملهم بصورة جيدة؟ وهل سيقبلنا المجتمع كمواطنين صالحين"؟
يترتب على المشروع الحديث أن يكون مؤسسة شبه ديمقراطية تخدم مجتمعاً متغيراً من الأطراف المعنية changing community of stakeholders. وكما تُثبت الشركات الرائعة الكثيرة، المذكورة في هذا الكتاب، فإن المصالح المالية والاجتماعية يمكن ليس فقط أن تكون منسجمة كلياً مع بعضها، بل وأن تعزز بعضها بعضاً، أيضاً.
وتبين مقابلاتي بأن معظم المديرين يفهمون الآن بأن عليهم أن يتعاونوا مع مختلف الأطراف stakeholders وأن يعملوا على خدمة مصالحهم لأن علاقات الثقة هي مفتاح النجاح الاقتصادي. وهذا ما تؤكده أيضاً مراجع بارزة أخرى كالقائمة السنوية لأفضل الشركات في أمريكا، التي تعدّها مجلة Fortune، والتي تضع المنشآت في سلمٍ وفقاً للمنفعة التي يحصل عليها المستخدَمون، وخدمة الزبائن، وسمعة المنشأة في البلاد(21).

جدول 3 - 2 أمثلة على مجتمعات أعمال Corporate Community
كونسورتيوم البحوث: تم في الولايات المتحدة تشكيل 350 مجموعة بحث و 1,600 اتفاقية بحوث بين قطاع الأعمال والحكومة. وتملك صناعة السيارات لوحدها 12 مجموعة يعمل فيها أكبر ثلاثة من مصمِّمي السيارات معاً على تطوير كل شيء بدءً من السيارات التي تعمل بالوقود الجديد إلى السيارات الالكترونية.
اتحاد المورِّدين والموزعين: قامت الشركات Nike, Dell, Chrysler, Caterpillar, Novell بتحسين عملياتها من خلال إقامة علاقات مع المورِّدين والموزعين.
التعاون بين المستخدَمين: تعتبر الشركاتRaychem, Intel, Motorola, ، وأخرى غيرها، العلاقات التعاونية بين المستخدَمين مفتاح استراتيجية الأعمال. وهي توفر التدريب، والحرية للمستخدَمين، ومكافآت مغرية بقصد تخفيض التكاليف وتحسين المبيعات وتقديم المعرفة.
نسج العلاقات: تقيم المنشآت التقدمية علاقات ثقة مع الزبائن، تركّز على أهمية تسليم السلع وزج الزبائن في الشركة. وكمثال جيد على ذلك هو النزهة التي أقامتها شركة Saturn ل 20,000 من مالكي الشركة.
الشراكات بين المتنافسين: بينما تتنافس الشركات GM, Ford, Chrysler مع Toyota, Renault, Fiat، فهي تقوم أيضاً، معاً، بتصميم وصنع وبيع السيارات مع نفس هؤلاء الخصوم. كما إن مزيجاً مماثلاً من التنافس والتعاون يميّز العلاقات بين IBM و Apple، Nucor و USX، Texas Instruments و Hitachi. وبالمثل، فإن شركة America Online هي شريك للشركات Netscape, Sun, Microsoft, AT&T, Sprint إضافةً إلى منافسيْها Prodigy و Compuserve.
تحالفات اقتصادية/ نظم بيئية: تقوم شركات مثل Microsoft و Netscape بتنظيم تحالفات، أو نظم بيئية ecosystems، وذلك لتوحيد المورِّدين، والصناعيين، والموزعين، وآخرين غيرهم، في شبكة من المنشآت المتعاونة في مجال سلعة ما أساسية.
الشراكات بين قطاع الأعمال والحكومة: تقوم المدن الأمريكية Baltimore و San Antonio و Indianapolis، وكذلك 40 ولاية، بعمل شراكات مع قطاع الأعمال، والعمل، والمجموعات المدنية. كما قدمّت حكومة الولايات المتحدة قرضاً بقيمة بليون دولار لشركة Aeroflot مقابل قيام الروس بإزالة الحواجز التجارية على بيع الطائرات.
مجتمع أعمال: قامت بعض الشركات بتوحيد كل هذه التحالفات في "مجتمعات أعمال" كاملة complete corporate communities. كما تطوّر الشركات GM Saturn و The Body Shop و IKEA علاقات ثقة مع الزبائن، وتُشرك العاملين في السلطة، وتتعاون مع المورِّدين والتجار، وتعمل شراكات مع الحكومة- إلى جانب إنها تحقق أرباحاً ممتازة لمستثمريها.
المصدر: تم تكييف المعلومات من: William E. Halal, The New Management (San Francisco: Berrett-Koehler, 1996)..

تعزيز المعرفة بواسطة بنية تحتية ذكية
إن أهمية المعرفة تزداد وضوحاً بفضل حقيقة أن قيمة مختلف أصول المعرفة قد زادت من % 38 من أصول قطاع الأعمال العام 1982 إلى % 72عام 1992. ويُقدر بأن رأس المال البشري وحده، أي القيمة التي تنتج براعة ومهارة قوة العمل، مسئولة عن % 70 من كل الثروة في الاقتصاديات الحديثة. وإذا أضفنا الملكيةَ الفكرية (براءات الاختراع، وغيرها)، وأسماء الشهرة، والأشكال الأخرى للمعرفة، فإن المجموع يصل إلى 80 % من أصول قطاع الأعمال. والمشكلة هي أن المديرين يعتقدون بأن حوالي 20 % فقط من هذا الأصل الاستراتيجي يُستخدم بالفعل(22).
ولمزيد من الدقة، فإن "بنية تحتية ذكية" intelligent infrastructure هي أمر ضروري لدعم المجتمع التنظيمي. ولكن هذه البنية التحتية تستلزم أكثر من التعلم التنظيمي من جانب الأفراد أو الفرق، فالمطلوب هو تعلم نظام أعمال كامل لإنتاج ذكاء تنظيمي organizational intelligence (OI)، كمعادل أعلى من الذكاء الإنساني.
ومن الممكن الآن جمع شبكات المعلومات المتقدمة وبنى التنظيم الديناميكي لإنتاج قدرة غير مألوفة على تكديس المعلومات الأولية من مصادر متنوعة، وحفظها في خزائن البيانات databases، وتحويل البيانات إلى معرفة قيّمة، وتمكين الوحدات من استردادها من أي جزء من الشبكة. إن أسس المشروع والتعاون يمكنها أن تجّهزَ النظام الإداري، ويمكن للحاسوبات الشخصية PCs التي تعمل ضمن شبكة داخل مشروع ما أن تجهز نظام المعلومات.
لاحظْ أن بنية تحتية ذكية ينبغي أن تتضمن ليس فقط أنظمة معلومات قوية. فما هو ضروري بنفس الدرجة هو النصف الإنساني من التنظيم- كل النشاطات التنظيمية والتعاونية التي تتحقق عندما تلتقي مجموعات صغيرة من الأفراد لحل مشاكل، ولتبادل أفكار، ولمساعدة بعضهم بعضاً. إن هذه التفاعلات الإنسانية غير المرتَّبة كما ينبغي تشكل "المعرفة الضمنية" tacit knowledge بالمقارنة مع "المعرفة الصريحة أو الرسمية" المرتَّبة جيداً والمخزونة في أنظمة المعلومات. المعرفة الضمنية لا غنى عنها لأنها تمثل الطريقة التي يفكر بها الناس عملياً، سواء كانت هذه التفاعلات الإنسانية تشمل المستخدَمين وهم يؤدون عملهم، أو الزبائن وهم يقومون بمشترياتهم، أو المديرين وهم يحلون المشاكل التنظيمية.
ولذلك، فإن البنية التحتية الذكية الملائمة تتألف من نظام معلومات لمجتمع أعمال- واسع وشبكة من علاقات العمل الوثيقة التي تربط الوحدات التنظيمية بالمصادر العامة للمعرفة المشتركة. والحصيلة هي "نظام عصبي مركزي" "يرفع" التعلم العادي إلى مستويات قوية جديدة لبناء منظمة ذكية. وإذا حملنا هذا الخط من التفكير مسافةً أبعد، فإن كل فرد يصبح نقطة مفصلية a node في هذه الشبكة، تشكّل فيما بعد "عقل أعمال" له قدرات الذكاء الجماعي. ويقدم الجدول 3 - 3 بعض الأمثلة.

بعيداً عن الأشياء التكنيكية
وبعيداً عن هذه النقاط التكنيكية، فإن نطاق المعرفة مروّع بشكل خاص لأنه لا يمكن فهمه دون تبني غرض ما. وإذا شاء قطاع الأعمال أن يكون قابلاً للحياة، فعليه أكثر من أن يكون إنتاجياً، وأن يكون قادراً على التكيف مع التغيير، وتعاونياً، وباحثاً عن المعرفة. كما ينبغي عليه أيضاً أن يشكل نظاماً اقتصادياً متحضراً يعكس طريقة أفضل للحياة. وباختصار، عليه أن يخدم بعض الأهداف الاجتماعية: إنتاج منتجات وخدمات قيّمة، وتقديم حياة ذات معنى للناس، وحماية البيئة، والحرص على نظام عالمي منسجم. وإذا فشلَ قطاع الأعمال في هذا الاختبار، فمن المؤكد أن تكون هناك مقاومة من جانب الحكومة، ونقابات العمال، والمصالح الأخرى.
والمثال الجيد هو صناعة السجاير. فالنيكوتين يفرض الآن تكاليف سنوية، في مجال الصحة، تصل إلى 100بليون دولار، إضافة إلى أنها تقّصر حياة 400,000 فرد في الولايات المتحدة سنوياً- وهذا يزيد كثيراً على ما تفعله المخدرات، غير الشرعية، مجتمعةً. ولكن شركات السجاير تقاوم المحاولات التي تُبذل للحد من المخاطر الصحية، وهي الآن تتمدد عالمياً. وقد توصلتْ دراسة لمدرسة الصحة العامة في هارفارد إلى أن التدخين هو السبب الأكبر الوحيد للعجز والموت المبكر: "إن وباء التدخين هو حالة طوارئ عالمية(23)." وبعبارة اقتصادية، فإن هذه الصناعة تحطم ما قيمته مئات البلايين من الدولارات بالنسبة للقيمة الاجتماعية وذلك من أجل خلق أرباح للمستثمرين. فهل يجدر بالرجال والنساء الناضجين أن يفعلوا ذلك؟

الجدول 3 - 3 أمثلة على أنظمة المعرفة
محرك المعلومات لشركة McGraw-Hill: خلقت شركة McGraw-Hill شبكة معلومات أعمال-واسعة، وحوافز على الأداء، وبرامج تدريب، وذلك لتوحيد كل الوحدات في "منظومة فكرية"، تشبه الجامعة أو مركز أبحاث. والعنصر المركزي هو عبارة عن خزين معلومات knowledge base أتاحَ المعلومات التي جمعتها الوحدات، والتي يمكن للوحدات الاعتماد عليها فيما بعد لخدمة زبائنها على نحو أفضل- وأحسن اسم لهذه العملية هو "محرك معلومات" information turbine لأنها تحوّل البيانات الأولية إلى دفق من المعرفة التي "خلقت القوة" للشركة.
أنظمة معلومات لشركة Hewlett-Packard : طورّت شركة HP "منظمة تسويق أنظمة حاسوب" لتقاسم المعلومات المتعلقة بالسلعة، وبيانات السوق، والأفكار الاستراتيجية. تقوم وحدة "أنظمة معلومات الأعمال" Corporate Information Systems بوضع كل الإجراءات الإدارية والممارسات الشخصية في موقع الكتروني و Lotus Notes. وهناك نظام اسمه "رابط معلومات" Knowledge Links يقدم معلومات عن أصناف السلع، وخدمات مشتريات، وبيانات هندسية، ومعلومات عن السوق، وأفضل الممارسات العملية. وكل ذلك يجري توحيده بواسطة "شبكة ابتكارات عالمية" تسمح للمستخدَمين بالإطلاع على تجارب بعضهم بعضاً بشأن الأعمال.
خزينة بيانات شركة ميرل Merill Lynch s Data Base: يقوم أكبر وسيط تأمين في العالم بمساعدة 18,000 من مديريِّ حساباته الذين يعملون في 500مكتب على خدمة ملايين من الزبائن وذلك من خلال شبكة حاسوبية تخزن رصيد المنشأة من المعارف المتعلقة بالتأمينات، والتوقعات المالية، وما شابه.
خدمات IBM s IS: يستعمل مدير المعلومات الرئيسية في شركة IBM الشبكة الداخلية للشركة corporate intranet لتزويد الوحدات بتقييمات عن المورِّدين ولربط المشترين من الشركة بمن يبيعون لها. فكل مشتريات شركة IBM تتم من خلال الشبكة، مما يوفر بليون دولار سنوياً.
المصدر الاستشاري لشركة أندرسين Andersen Consulting s Practice Pool: تستعمل شركة أندرسين شبكة عالمية اسمها "تبادل المعرفة" Knowledge Xchange لتكوين، والاستفادة من، الخبرات والتجارب وأفضل الأشياء العملية من سياستها الاستشارية المنتشرة عالمياً. وقد قال مديرها التنفيذي:" زبائننا ينبغي أن يحصلوا على أفضل معرفة في المنشأة، وليس مجرد الأفضل عند الاستشارة".
المصدر: تم تكييف المعلومات من: ‘Some Principles of Knowledge Management, Strategy Business (Winter 1996): 34-41, James Quinn et al., anaging Professional Intellect, Harvard Business Review (March-April 1996):71-83, ‘Jack Welch s Cyber-Czar, Business Week, August 5, 1996, 82-83.

ورغم أنني أحبذ فكرة الهدف الاجتماعي، بيد أنني لا أدافع عنها على أساس أخلاقي، بل لأن المعرفة تتطلب ذلك. ومما يبعث على السخرية أن امتلاك المزيد من المعرفة غالباً ما يتركنا مربكَين أكثر بسبب النقص التام فيها كلها. وهذا اللغز المحيِّر يجعل المعلومات غير ذات معنى ما لم تقودها قيم، رؤية، وهدف معين. وهذا يفسر لماذا نشاهد زيادة الاهتمام بهذه النوعيات من جانب المنظمات، وحتى رجال الدين.
إن التركيز على الهدف مطلوب بإلحاح للحد من المشاكل الناجمة مباشرةً عن تركيز المنشآت على النقود فقط. فالصناعة المسئولة عن رعاية الصحة، مثلاً، ازدرت البلدَ في الآونة الأخيرة بحديثها عن تقليل المصروفات بدلاً من أن تتحدث عن زيادة الأرباح بدون رحمة. وكما هو متوقع، فإن الكونغرس ومعظم الولايات تبطل سريان الفقرات التي تحظر على أطباء منظمات المحافظة على الصحة (HMOs) إبلاغ المرضى عن العمليات باهظة الثمن، وتمنع (HMOs) من إكراه الأمهات الجديدات على الخروج من المستشفى بعد يوم واحد من الولادة، وتفرض إجراءات مماثلة من هذا النوع.
كيف أمكن لمهنة عظيمة، كانت مكرسة لخدمة الإنسانية ذات يوم، أن تقع في هذا المأزق؟ الجواب يبدو سهلاً نوعاً ما: ففي محاولة للأخذ بالفكرة المنتشرة هذه الأيام عن الأعمال الجيدة، فإن (HMOs) فقدتْ الرؤية بالنسبة لمهمتها الرئيسية. وكما هو واضح، فعلينا كلنا أن نسيطر عل المصروفات، ومن الضروري مكافأة المستثمرين على مخاطرتهم برأسمالهم. ولكن الهدف النهائي للأعمال هو خدمة المجتمع بطريقة ما. فإذا أمكن لـ (HMOs) أن تنظر إلى أبعد من القاع، فستجد فرصاً هائلة لتلبية الاحتياجات الصحية الملحة.
وبدلاً من معالجة الأمراض فقط، فإن الأنظمة الصحية التقدمية تعمل على الوقاية منها بواسطة مساعدة الناس على تبني أنماط الحياة الصحيحة، وتجنب العادات الضارة كالتدخين، والوقاية من الأحداث، والأخذ بالإجراءات السليمة الأخرى. إن زيارة المرضى من جانب العاملين في (HMOs) من شأنها أن تساعدهم على تحسين عاداتهم الحياتية لأن ذلك أرخص من دفع ثمن العمليات الغالية فيما بعد. وهكذا تقل التكاليف وتتحسن الصحة في وقت واحد. ويتفق جون غلاودمانس، المدير العام للعمليات الصحية في Aetna، على: " أنه لتحقيق التوفير في التكاليف في المستقبل، يترتب علينا أن نُبقي الناس أصّحاء(24)."
وتنزع كل الصناعات والمهن الأخرى، تقريباً، نحو تحول مماثل، وإن شركات بارزة كثيرة أثبتت القدرة على تبني بعض الأغراض الجديرة. وقد حولّت أنيتا رودِك Anita Roddick، صناعة التجميل عن طريق تلبية حاجة الناس المتزايدة في العالم كله إلى الوسائل الآمنة، والرخيصة، للحفاظ على صحتهم، مع حماية البيئة. كما ابتكرت سكب ليفاو Skip Lefauve مشروعاً ذا توجه إنساني عن طريق تصميم شركة الساتورن Saturn كفرق من العاملين مُدارة ذاتياً، تقوم بإنتاج سيارات ذات نوعية رفيعة، ورخيصة، تُباع من دون أعباء وقيود البيع.
وإذا فحصنا مجدداً بشكل جدي المشاكل الكثيرة جداً التي تبرز اليوم، فيمكننا أن نقول بأنها تقّدم بنفس الدرجة فرصاً واسعة للأعمال الناجحة. إن هذه المشاكل يمكن إعادة النظر إليها بتبصر كحقل واسع لمشروعٍ من نوع جديد، مشروع يخلق القيمة من خلال العمل مع كل مكوناته لخدمة احتياجات الجميع على نحو أفضل.

التحول الاقتصادي القادم
دعوني أمثل دور محامي الشيطان هنا من خلال إثارة الشكوك التي تستقر في أذهان معظم الناس. لماذا ينبغي على المديرين أن يصارعوا لتبني هذه الإجراءات القاسية؟ فلو تركنا السوق تعمل عملها، فإن الشركات سوف تبقى تتنافس من دون كل هذه التغيرات المثيرة وغير المؤكدة. فالمديرون التنفيذيون لن يتخلوا عن سلطتهم أبداً، ولا ينبغي عليهم ذلك لو شئنا أن نحافظ على عالم منظَّم. ومن السذاجة أن نفكر بأنه لا يتعين علينا سوى تحويل المنظمات إلى نوع مختلط من نظام المشروع، والتعاون مع أي فرد ذي علاقة، واستعمال المعرفة لتحسين الرفاهية الاجتماعية.

القواعد القديمة لم تعد تسرِ
إن آفاق التغير الهائل تثير دائماً هذه الاعتراضات. فمن كان يتصور بأن الشيوعية يمكن أن تنهار؟ وبأن حكومة الولايات المتحدة سوف "تعيد تكوين" نفسها؟ وبأن المنشآت الأكثر قوة سوف يتقلص نشاطها، وتُجبر على إعادة الهيكلة، وإعادة الهندسة، والإصلاح؟
إن الرسالة التي أريد التأكيد عليها هي أن العالم يدخل حيزاً مجهولاً جديداً، عصراً مختلفاً بشكل أساسي بحيث أن القواعد القديمة لم تعد تسري. وإن معرفة الماضي التقليدية ينبغي استبدالها بمفاهيم تنسجم مع الحقائق الجديدة للمعرفة التي لا تنضب: النجاح يتحقق على نحو أفضل من خلال حرية التنظيم؛ والقوة تأتي عبر المجتمع التعاوني، والوفرة تتدفق من الوعاء الدقيق للفهم، والمعنى، والروح غير المحدودة.
هذه ليست مجرد نظريات، بل أوصاف للممارسات الأساسية التي تمثل المصدر الرئيسي للقوة الاقتصادية اليوم. وسوف يكون هناك مجال ضئيل للخطأ. وإن نظرة حادة على بعض الاتجاهات الكبرى تكشف بسرعة بأن ثورة كبرى تلوح في الأفق. وقد أحسن صياغتها أندي غروف Andy Grove من شركة Intel: "شبكة المعلومات العالمية Internet تشبه موجة من المد، ونحن في زورق جلدي kayaks(25)."

قفزة النمو القادمة، المضاعفة عشر مرات
هل مضت سنوات قليلة فقط منذ أن أصبحت شبكة المعلومات العالمية Internet الشبكة الفعلية للاتصالات في نظام عالمي جديد؟ إن Internet بات يستعملها حوالي 50 مليون فرد و 500,000 شركة في العالم كله، إضافة إلى أن الشبكة الموجودة في داخل كل منشأة والشبكات الخارجية فيما بين المنشآت أصبحت هي الأساس في الاتصالات التنظيمية. ومن المتوقع وصول Internet إلى 250مليون فرد بحلول عام 2000 - وهذا كله ما يزال يشكل نسبة ضئيلة بالنسبة لما هو ممكن منها كخدمة عالمية للاتصالات الرئيسية.
ويُتوقع حصول مثل هذا النمو المضاعف (الأُسي) في الهواتف، والتلفزيونات TV، والاتصالات اللاسلكية، وتكنولوجيا الاتصالات الأخرى. كما أن الأقمار الصناعية satelites يستعملها الآن 1,2 بليون فرد، ويُتوقع قريباً استعمالها من قبل معظم ألـ 4 بليون فرد المتبقية الأخرى. وقد تزايدت الخدمات اللاسلكية للصوت، والفاكس fax، والبيانات، والفيديو video، بنسبة 50 % سنوياً، ومن المتوقع وصولها لمعظم البلدان الصناعية والكثير من البلدان النامية بحلول عام2000 .
وهناك حتى تقنيات أكثر ثورية تركن في الزوايا. شركة الحاسوب Dell Computer بينّت كيف يمكن بيع ما قيمته بليون دولار من الحاسوبات الشخصية كل يوم. وفي الطريق، الكثير من المشاريع لتدشين مئات من الأقمار الصناعية satelites التي ستوفر "شبكة معلومات عالمية internet في السماء" لكل فرد في المعمورة. ومن المؤكد مجيء النقل المباشر عبر internet: ebcasting، والبرنامج المشتق Java Applets، والوكلاء الأذكياء intelligent agents، والمجتمعات العملية، والحاسوب- الفيديو video PC، والابتكارات الأخرى غير المألوفة.
وترسم هذه الاتجاهات لوحة جريئة، ولكن واقعية، لما سيحدث من عام 2000 ولغاية عام 2005 عندما يكون من الممكن تسيير كل النشاطات الاجتماعية والاقتصادية إلكترونياً. إن المسكن أو المكتب العادي يُرجَح ربطه بنظام عالمي يمكن فيه للأفراد أن يتسوقوا، ويعملوا، وينجزوا عمليات لهم مع المصرف، ويلعبوا، ويتعلموا، وحتى يتعبدوا، من خلال شبكات الإعلام المتنوعة والفعالة. إن ثراء هذا النظام يجمع، كما يُفترض، ذكاء الحاسوب، واتصالات الهاتف، وواقعية التلفزيون المفعمة بالحيوية. وبدلاً من الجلوس والانكباب خلف لوحة الأزرار في الحاسوب، يمكن للمرء استعمال الأوامر الصوتية لكتابة الوثائق، والمكالمات الهاتفية، أو عقد المؤتمرات من خلال الفيديو، ومشاهدة الأفلام وبرامج التلفزيون- وكل ذلك على شاشة حائط، مع صور بالحجم الطبيعي.
وإذ تحرّك هذه التقنيات المتقدمة رأس المال، والمعرفة، والتقنية، وحتى العمل، في أرجاء العالم بحثاً عن أعلى عائد، فإن رشة من المنافسة تنهال على الحكومات، والشركات، والأفراد، لتحقيق التغيير في هذه الاتجاهات العامة.
قصارى القول، إن عملية العولمة هذه يُرجَح أن تضاعف النمو الاقتصادي عشر مرات. وإضافة إلى الغرب المتخم، فإن معظم بلدان العالم تتوق إلى نفس وسائل الرفاهية المادية التي تستمتع بها الآن قلة من البلدان الغنية. وعلاوة على ذلك، فإن السكان في البلدان المتخلفة يبلغ خمسة أضعاف مثيله في البلدان المتطورة- ومن شبه المؤكد أن يتضاعف هذا الرقم عند تصنيع تلك البلدان. وهكذا، فإن الحقيقة القوية هي أن كل الأزمات الكبرى في وقتنا الحاضر يحُتمل أن تتزايد بمعامل يصل إلى 10 تقريباً على المدى البعيد.
وعلى وجه التحديد، فإن مستوى الإنتاج الصناعي، والمنافسة الدولية، والتغير والابتكار، الطلب على الموارد النادرة، وتخريب البيئة، والتنوع الحضاري، ستنمو كلها بعشر مرات تقريباً. فتصنيع الصين وحده ينبغي أن يضاعف هذه الأزمات، على الأقل. كما أن الهند ستضاعفها مرة أخرى.
وباختصار، فإن العالم يواجه تحدياً غير مسبوق في خلق نظام جديد من الاقتصاد السياسي يمكنه أن يدير هذه القفزة في النمو في قارة تعاني أصلاً من الازدحام، والنزاعات، والندرة، والضغط على البيئة، والتعقيد. إن الاعتقاد بأن توسيع نظامنا الحالي من شأنه أن يخلق شيئاً من التشوش والإرباك هو من قبيل التمّني.
إن العالِم الكبير، مؤلف الخيال العلمي، والمستشرف للمستقبل، أرثر سي. كلارك، درسَ العقبات أمام التغير: إن الخبراء الكثيرين الذي يدعّون دائماً، كما يبدو، بأن "الإنسان لن يطير أبداً "، وكل التحسينات العظيمة الأخرى في التاريخ كانت مستحيلة. وجدَ كلارك بأن كل الأدلة على توقع حدوث نقاط التحول هذه كانت متوفرة على الدوام، وأن تأثيرها الثوري كان مفهوماً جيداً. ولكن المشكلة كانت في فشل الخيال والجرأة: في عجز الناس الناشطين عن إدراك الاحتمال القوي بأن العالم سيتصرف على نحو مختلف جداً حالاً، ونقص الشجاعة لديهم للاعتراف بما كانوا يشكون به(26).
ويفشل معظم المديرون في القيادة لأنهم يعانون من فكرة فشل الخيال والجرأة، لدى كلارك. والكثير من النقاش الدائر اليوم هو ببساطة بعيد عن ملامسة التحدي الضخم الذي يلوح في الأفق. من الممكن التفكير بها "كأزمة نضوج". على الناس في كل البلدان تعلم إدارة التحول الحتمي نحو عالم تكنولوجي، فيه تعقيد ونمو لم يُسبر غورهما؛ فليس هناك من بديل.

التقدم نحو التحول
إذا صحّتْ هذه الحجج، فإن الاقتصاديات تمر بمجموعة معقدة من ثورات ثلاثة تستجمع قواها بهدوء: فالتعقيد المتفجر يحّد بشدة من مركزية أشكال السيطرة المؤسسية، ومنافع التعاون تجتذب أطرافاً متنوعة وتحوّلها إلى جيوب مجتمع أعمال، والمعرفة تقود على الدوام للبحث عن المعنى والهدف. إن الدور المتزايد للمرأة في حقل العمل، والمواقف المختلفة للشباب، والتحول العام في القيم، لابد أن يمارس تأثيراً قوياً في هذا الاتجاه العام.
ومن المؤكد أن شيئاً كهذا مطلوب. فإذ تقوم الأسواق الحرة بإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي، فإن كل هذا الهدم البناّء يمّزق شبكات الأمان المريحة لدولة الرفاهية، تاركاً الناس دون دعم المجتمع المدني. إن الفرق بين دخول طبقات القمة وطبقات القاع في الولايات المتحدة قد عاد إلى مستوياته التي كان عليها قبل الكساد العظيم، علماً بأن الكساد فيها يتجاوز مثيله في كل الدول الصناعية الأخرى. وعلى العموم، فإن مؤشرات الرفاهية الاجتماعية قد هبطت إلى مستويات جديدة(27).
في لقاء العام 1996 للمنتدى الاقتصادي العالمي في سويسرا، حذّرَ وليم بينيت William Benett وروزابيث موس كانتر Rosabeth Moss Kanter من أن فقدان الدعم الحكومي يتسبب في "ارتداد اجتماعي ضد الرأسمالية". وحتى جورج روس، الذي قد يكون أشهر رأسمالي في عصرنا، أصدرَ تحذيراً في مقالة عنوانها: "التهديد الرأسمالي". كما أن انتخابات العام 1997 للقادة الاشتراكيين في فرنسا وحزب العمل في بريطانيا ألقت الضوء على المشكلة، وبينّت أيضاً بأن هناك أكثر من طريق واحد لتنظيم الاقتصاد العالمي(28).
يعرف الأوروبيون، واليابانيون، وكل البلدان تقريباً، بأن عليهم تشجيع الأسواق الحرة لتحقيق النمو الاقتصادي. "نتخلف نحن أكثر في السباق من أجل الحفاظ على وضعنا التنافسي في اقتصاد عالمي"، قالها أحد السياسيين الألمان. ولكنهم يقبلون أيضاً حقيقة أنهم لا يستطيعون ترك مواطنيهم لأهواء الأسواق. فقد قال مدير أعمال تنفيذي ألماني:"نعرف بأن الفقر والأمراض الاجتماعية الأخرى غير مقبولة أخلاقياً، وضارة اقتصادياً". وقال نوريو أهغا، المدير التنفيذي لشركة Sony:" لا نستطيع ببساطة تسريح العاملين. فهذا ليس من شأنه سوى جعل الوضع الاقتصادي أسوأ، ونحن لا نستطيع بالفعل أن نعرض ذلك(29)."
الطريق الوحيد الذي يمكنني تخيله لحل هذا الخلاف هو التقدم نحو التحول- باستعمال الطاقات الكامنة لهذا الانقلاب الذي يقترب. والمفتاح هو الإدراك بأن المشروع الحر ليس هو "الرأسمالية" بالضرورة. وكما ذكرتُ سابقاً، فإن قوة المشروع لم تعد تكمن في رأس المال أساساً، بل في المعرفة.
إن قبول هذه الحقيقة يفتح الطريق لنظام جديد من الاقتصاد السياسي يلائم النظام العالمي القائم على المعرفة- أي النموذج الذي بينّتُ معالمه، والذي تشكلُ فيه المشروعات الصغيرة، المُدارة ذاتياً، جيوباً من مجتمع أعمال، تقود المعرفةُ فيه الجميعَ لخدمة أهداف جديرة. توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا، اقترحَ نفس هذا المزيج من اليمين واليسار:"الأسواق الحرة والرفاهية الاجتماعية ليستا على غير انسجام(30)."
ثمة إجراء واحد، رمزي، وحاسم، من شأنه أن يبيّن أهمية هذه الثورة المؤسسية، ويساعدنا على فهمها، وعلى أن نرتقي إلى مستواها. على الأمريكان التوقف عن تسمية نظامهم الاقتصادي بـ "الرأسمالية". أنا أعرفُ مكانة الأسواق الحرة لدى الأمريكان، ولكن الرأسمالية هي نوع واحد فقط لنظام السوق، مكرس لهدف رأس المال: الربح، والعوامل المادية الأخرى التي عملت في الماضي. على الأمريكان، الذين يريدون الاعتماد على طاقة المستقبل، تسمية النظام الاقتصادي من خلال موارد المستقبل- الطاقة التي لا تنضب للمشروع، وللمجتمع، وللمعرفة. وأرى بأن الاسم الأكثر دقة وملائمة هو المشروع الديمقراطي.
ومن شبه- المؤكد أن الأحداث تثير دهشتنا، وأعجبُ لو أننا نقّدرُ الصعوبات التي تنتظرنا. إن قيم وأنظمة العصر الصناعي قد تخُلي مكانها لما يعادلها في عصر المعلومات، ولكن ليست هناك وجبة طعام جاهزة بعد. إن المكافأة على هذه المكاسب هو أن الحياة التنظيمية ربما تشبه تلك النافذة الكبيرة لتكنولوجيا المعلومات، شبكة المعلومات العالمية Internet- الديناميكية، والمتفِّجرة بطاقة مترابطة، ولكن المتوحشة، غير المروَّضة، والخارجة قليلاً عن السيطرة.
ومع ذلك، ففي لحظة ما، قريباً، سوف تدرك الجماهير المتبصرة منطقَ هذا العالم الناشئ، وستحّقق التحولَ التاريخي من عالم القوة إلى عالم الحرية، من الشقاق إلى الوفاق، من المادية إلى الروح. وتبين مقابلاتي أن معظم المديرين يدركون أن التحول آت، ويعتقدون بوقوعه في لحظة ما بين العام 2000 وعام2005 (31). وما كان يعتبر، لحد الآن، أمراً متخيلاً دون أمل، قد يصبح عندئذ حقيقة صلبة وقائمة.
النوعية الغامضة، والصعبة بشكل غير معهود، والأكبر من الحياة، للتحول القادم تذكّرني بعبارة ترد في الإنجيل، نعرفها جميعاً عن قرب ولكن لم نرقَ لمستواها بسبب صعوبة زماننا: "إن دخول البعير في ثقب الإبرة أسهل من دخول الغني للجنة". إن شيئاً من هذا النوع يقبع أمامنا. وخلال السنوات القليلة القادمة، سنتعرض لاختبار عسير، في بوتقة الأزمة، لتحويل أنفسنا ومؤسساتنا. وستكون معاناتنا شديدة وكأنها المرور بثقب إبرة، كما وردَ في الإنجيل.




هوامش
(1) مقتطف من: William E. Halal (ed.), The Infinite Resource (San Francisco: Jossey-Bass, 1998).
(2)Freeman Dyson, Infinite in All Directions (New York: Harper &Row, 1989).
(3) يجري الاستشهاد بغروف Grove في: A Conversation with the Lords of Wintel , Fortune, July 8, 1996 .
(4) Nicholas Negroponte, Being Digital (New York: Alfred A. Knopf, 1995).
(5)John Micklewait and Adrian Woolridge, The Witch Doctors: Making Sense of the Management Gurus (New York: Time Books, 1996). Jeffrey Pfeffer, Barriers to the Advance of Organizational Science, Academy of Management Review 18, no. 4 (October 1993): 599-621.
(6) ظهرَ تعقيبي في: William E. Halal, The New Capitalism (New York: Wiley 1986), 128.. وهامل Hamel مقتطف من:
Gary Hamel, Strategy as Revolution, Harvard Business Review (July-August 1996): 69-82.
(7) ‘’Executive Pay, Business Week, April 21, 1997.
(8)William E. Halal, The New Management (San Francisco: Berrett-Koehler, 1996).
(9)William E. Halal, et al., Internal Markets: The Power of Free Enterprise Inside Your Organization (New York: Wiley, 1993).
(10) Charles Handy, Understanding Organizations (New York: Oxford University Press, 1993).
(11) Halal, Infinite Resource
(12) ‘’Defending Big Blue, Newsweek, September 30, 1996, 50.
(13) Betsy Moris, Big Blue, Fortune, April 14, 1997.
(14) ‘’Going Toe Toe with Big Blue, Business Week, April 14, 1997.
(15) Peter Lynch, The Upsizing of America, Wall Street Journal, Septemer 20, 1996.
(16)Peter Behr and David Segal, Finding New Ways to Carve Up the Rewards, Washington Post, August 16, 1996.
(17) James Moore, The Death of Competition (New York: HarperCollins, 1996).
(18)Bruce Pasternack et al., People Power and the New Economy, Strategy & Business 7 (Second Quarter 1997).
(19) ‘’The Shredder, Business Week, January 15, 1996, 56-61.
(20) ‘’Backlash,’’ Across the Board, July/August 1996, 24-29.
(21)Halal, New Management, 77. Frederick Reichheld, The Loyalty Effect (Cambridge, Mass.; Harvard Business School, 1996).
(22)Thomas Stewart, Trying to Grasp the Intangible, Fortune, October 2, 1996, 157-161; Polly LaBarre, The Rush to Knowledge, Industry Week, February 19, 1996.
(23) Joseph Califano, The Tobacco Talks, Wasgington Post, June 3, 1997.
(24) مقتطفة في: David Hilzenrath, What is Left to Squeeze? Washington Post, July 6, 1997, H1.
(25) غروف Grove مقتطف في ’’ A Conversation ‘’
(26) Arther C. Clarke, Profiles of the Future (New York: Holt, Rinehart, and Winston, 1984).
(27) 1996 Index of Social Health (Tarrytown, NY: Fordham Graduate Center, 1996).
(28)Karen Pennar, A Helping Hand, Business Week, March 24, 1997, ‘’A Continent at the Breaking Point, Business Week, February 24, 1997.
(29) مقتطف في: William Drozdiak, German Economy Lags, Washington Post, May 7, 1997 quoted in Brenyon Schendler,’’ Japan : Is It Changing? Fortune, June 13, 1994.
(30) مقتطف في: Paula Dwyer, Tony s Labour Party Business Week, April 31, 1998, 25.
(31) Halal, The New Management.









الفصل الرابع
المحرِّكات الإقليمية للاقتصاد العالمي
ألن جي. سكوت / جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلس
Allen J. Scott, University of California, Los Angels

الجغرافية- السياسية للإنتاج والمنافسة
سوف أحاول، في هذا الفصل، أن أجرد بعض الاتجاهات الهامة في الجغرافية الاقتصادية والسياسية للرأسمالية العالمية في نهاية القرن العشرين وتقديم بضع تكهنات حول مسارها المحتمل في العقود المبكرة من القرن الحادي والعشرين. وعلى وجه التحديد، فإن هدفي هو التشريح الأساسي للموقع في النظام العالمي المعاصر للإنتاج والمنافسة بالمقارنة مع إعادة الهيكلة السياسية الدولية العميقة التي انطلقت، أيضاً، في الفترات الأخيرة. يتركز التحليل على الديناميكا المكانية لمركبات الإنتاج الكثيفة والمركزة تلك التي تشكل الأقاليم المتحضرة الكبرى في العالم والتي يبدو عليها أكثر وأكثر أنها تؤلف محركِّات كل النظام الرأسمالي العالمي. إن هذه الصيغة الأولية المقتضبة، كما سأبين، تفتح سلسلة من الأسئلة متنوعة ومحيِّرة بصورة غير عادية.
ومن المؤكد أن الكثير بالفعل قد كُتب حول قضيتيّ العولمة والتنمية الإقليمية. فمن جهة، كثيراً ما قُدمت تأكيدات عن تفسخ الدولة التقليدية ذات السيادة القائمة على إقليمها، وتدويل النشاط الاقتصادي في عالم ليس له حدود بصورة متزايدة(1). ومن جهة أخرى، فقد تراكمَ أدب واسع حول موضوع إعادة تشديد النمو الاقتصادي المؤقلَم في الرأسمالية المعاصرة وعن الدور الحاسم للأقاليم كمصادر للميزة الاقتصادية التنافسية(2). كما أن الكثير، أيضاً، قد كُتب عن التفاعل بين هذين المستويين المكانيين للنشاط الاقتصادي (العالمي والمحلي) وحول العلم الجغرافي- السياسي الجديد للإنتاج والمنافسة، الذي بدأ يتبلور حول ما بينهما من ارتباطات(3). وهذا الفصل هو جهد متواضع للبناء على تلك الكتابات من خلال إعادة درس بعض الأفكار النظرية عن عمليات التنمية الإقليمية بشكل عام وتحري مضامينها بالنسبة لعالم تتلاشى فيه بسرعة الحواجزُ السياسية للمعاملات الاقتصادية. وبهذا الشكل، آمل أن أعيد التأكيد بقوة أكثر على الرأي القائل بأن هناك عملية إعادة تنظيم جغرافية أساسية للرأسمالية يجري وضعها حالياً وهي تتضمن انخراط مجموعة من الاقتصاديات الوطنية في نظام معولم وإعادة رسم المجموعات المكانية القائمة في الوقت نفسه بحيث تتشكل شبكةٌ لمركبات إنتاج إقليمية.
الفصل هو، من ناحية، سلسلة من ملاحظات تحليلية وتجريببة empirical عن تلك القضايا؛ وهو ينطوي، من ناحية أخرى، على مجموعة تنبؤات مستقبلية عن عدد من الاتجاهات السائدة التي يبدو أنها تكشف عن شيء ما. نقطة الانطلاق في هذا الفصل هي الفكرة القائلة بأن المد التوسعي للرأسمالية عبر الزمن قد حملها لنقطة من التطور تتجاوز كثيراً الحدود المكانية والمؤسسية للدولة التقليدية ذات السيادة. نحن ما نزال نتحرك بثبات من مرحلة الدولية internationalism (التي تلائم مجموعة من الدول ذات السيادة وما بينها من تفاعلات) إلى مرحلة من العالمية globalism (التي تشير إلى نظام اقتصادي عالمي واحد). ويقود هذا التحول، وفق مصطلحات مدرسة التوجيه Regulationist School، إلى البحث عن أنماط جديدة للتوجيه الاجتماعي social regulation على المستوى العالمي(4). وفي الوقت نفسه، فإن توسع الأسواق، الذي يفترضه نفس الاتجاه العالمي، يؤشر في منطقة تحتد فيها المنافسة وفيها تقسيمات اجتماعية للعمل تزداد تفرعاً باستمرار، يعزز أثرُها الصافي البنيةَ الموقعية السائدة dominant locational structure للنظام كمجموعة اقتصاديات إقليمية تغطي مساحة واسعة. وهذا، بدوره، يدعو إلى مناهج جديدة للتوجيه الاجتماعي على المستوى المحلي. وكما تبّين هذه الأحداث، فإن الجغرافية الاقتصادية للعالم الحديث يُعاد تشكيلها باستمرار كمجموعات غير ثابتة (أو رخوة) من مركبات إنتاج إقليمية، تربطها ببعضها شبكة معاملات مكثفة، وملحَقة بها كتل كبيرة غير مرتبطة بأحد، يبدو أن مسيرة التقدم الاقتصادي قد خلفّتها وراءها ببساطة.

ظهور الرأسمالية العالمية- عرض موجز للاتجاهات والأحداث
كانت الرأسمالية تمتلك أبعاداً دولية منذ بداياتها التاريخية ذاتها. فقد كان هناك، في داخلها، ميل للاندفاع بعيداً عن حدود الدولة ذات السيادة بحثاً عن مصادر جديدة للمواد الأولية، وأسواق جديدة، وفرص جديدة للاستثمار، وهكذا. ومع ذلك، عموماً، فقد كان هذا الاتجاه في الماضي خاضعاً للمصالح الوطنية، مع ميل الدول الرأسمالية الكبيرة للتراجع عنه باتجاه سياسة الحماية والاكتفاء الذاتي عندما يتبين أن التدويل internationalization يهددها (وأوضح مثال على ذلك هو انهيار التجارة العالمية في فترة ما بين الحربين العالمتين). وباختصار، فإن الرأسمالية، لحد الآن، كانت تتجسد على الدوام من خلال اقتصاديات وطنية، يلعب فيها جهاز الدولة المركزي دوراً هائلاً في تشكيل مسارها التطوري(5). إن الدور الضخم للصناعة الفوردية كبيرة- الحجم (نسبة إلى فورد) في العقود المبكرة من القرن العشرين عزّزَ من الارتباط بين الرأسمالية والدولة ذات السيادة، وإن كل البلدان المتقدمة اقتصادياً سعتْ، قدر الإمكان، لتقوية اكتفائها الذاتي في القطاعات الكبرى للإنتاج- الكبير كصناعة الحديد، والكيمياويات، والسيارات، والأدوات المنزلية، والأغذية المعلبة، وهكذا. وقد تجلى هذا الارتباط في الرؤى الوطنية المحدَّدة للسياسة الكينزية وسياسة دولة الرفاهية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل على مظاهر فشل شاملة معينة في النموذج الفوردي للتنمية الصناعية والاجتماعية.
ورغم ذلك، فإن المزايا المتبادلة، المكتسبة من التجارة ما بين الدول والأشكال الأخرى للتبادل الاقتصادي، قادت إلى جهود سياسية منسجمة في سني ما بعد الحرب لوضع أسس نظام عالمي مرتَّب. والحدث الحاسم الأول لهذا التوجه الاقتصادي الجديد هو مؤتمر برتن وودز Bretton Woods العام 1944، الذي وضعَ الترتيبات لنظام دولي متوقع للعملة. كما أسّس المؤتمر مؤسستين ماليتين كبيرتين: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وذلك لتنفيذ توجهاته. وفي العام 1947، تأسست الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة (GATT) لتنظيم التجارة بين البلدان الرأسمالية الرئيسية، والتي انضّمت اليابان لها العام 1955. وتحت قيادة الولايات المتحدة، أصبحت هذه الترتيبات، وترتيبات أخرى أعقبتها، الأساس لتوسع سريع للتبادل الاقتصادي الدولي في سنوات ما بعد الحرب، مثلما خدمتْ أيضاً كمتراس للتحالف العالمي المعادي للشيوعية.
وتحت الحماية الأمريكية هذه، تطورتْ أوروبا الغربية واليابان بسرعة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وإن الأساس لنظام رأسمالي دولي نامٍ ومتين كان قد وُضعَ بإحكام، رغم عوامل عدم الاستقرار الحادة التي بدأت بالظهور في سبعينات ذلك القرن. فقي بداية ذلك العقد، أخذت سيطرة الولايات المتحدة تضعف بصورة مؤلمة، كما يرمز إلى ذلك بشكل مثير قرار الرئيس الأمريكي ريجارد نيكسون، العام 1971، بخروج الدولار الأمريكي عن قاعدة الذهب. وفي غضون سنتين من هذا القرار، كانت عملات كل البلدان الرأسمالية الرئيسية قد عُوّمت (مؤديةً إلى موجات مضاربة في معاملات العملة الأجنبية عبر العالم). إن الجو الذي نتجَ عن فقدان الأمن المالي قد تفاقمَ بسبب الصدمات النفطية في أواسط وأواخر السبعينات. وقد حدثَ في هذا الوقت، أيضاً، أن أنظمة الإنتاج الوطني الكبير لفورد، التي كانت قد ازدهرت في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية في سنوات الرخاء الطويلة التي تلت الحرب، أبدت علامات على أزمات حادة، كانت هي نفسها نتيجة وسبباً للسباق المتسارع في حقل التدويل. فمن ناحية، نتجتْ أزمة شركة فورد عن الاستيراد المتزايد في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية من السلع المنتجة على نطاق واسع في اليابان والبلدان الناشئة والمصنَّعة حديثاً؛ ومن ناحية أخرى، فإن الأزمة نفسها دفعتْ مشروع فورد الأمريكي والأوروبي للبحث على نحو مسعور عن تكاليف إنتاج واطئة، مما شجّعَ بدوره المصانع الفرعية للانتقال على نطاق كبير إلى مواقع أخرى عبر البحار. وكانت حصيلة هذه الاتجاهات هي انهيار وتشتت الكثير من جهاز الإنتاج في شركة فورد، وعملياً، التخلي الكلي عن السياسات الكنيزية وسياسات دولة الرفاهية التي كانت قد زودتها بعمودها الفقري المؤسسي.

الأزمة الحالية
في ظل الحقائق الاقتصادية والسياسية الجديدة الأكثر انفتاحاً، والأكثر تنافسيةً، مع تدخل اقتصادي وسياسي أقل من جانب الدولة بشكل ملحوظ، التي بدأت بالظهور في أعقاب انهيار الفوردية في أواخر سبعينات وبداية ثمانينات القرن العشرين، فإن عولمة أنظمة الإنتاج الرأسمالي واصلت تقدمها السريع، ولو الغريب. وقد بدأت قطاعات إنتاج كثيرة، جديدة ومنبعثة من جديد، ومرنة، باحتلال المواقع الأكثر أهمية كبؤر للنمو في الاقتصاديات المتقدمة، وإن منتجاتها كانت تدخل التجارة العالمية بأحجام كبيرة، إلى جانب المواد الأكثر تقليدية التي تدخل في التجارة الدولية كالسلع، والمواد الصناعية الثقيلة، والسلع المنتجة على نطاق واسع. وقد التحقتْ أخيراً كل هذه القطاعات تقريباً، بطريقة أو بأخرى، بالسلاسل السلعية الدولية المتوسعة(6)، ولكنها في العادة، أيضاً، تبقى راسية في مواقعها المحلية ضمن مركبات إنتاج متكتلة بشكل كثيف.
وتحتل هذه القطاعات الكثير من المركز الديناميكي للرأسمالية الحديثة. وهذه القطاعات هي المسئولة أساساً، وإنْ ليس حصراً قط، عن ثالوث الأقسام الاقتصادية الواسعة، أي: 1) صناعة التكنولوجيا العالية، مع مجموعتها المتنوعة جداً من المنتجات؛ 2) تشكيلة من القطاعات التي تنتج السلع الاستهلاكية رفيعة التصميم مثل لباس القدم عالي الطراز، والسيارات الفاخرة، ومنتجات التسلية التي تُباع في أسواق جميلة عبر العالم كله؛ 3) خدمات قطاع الأعمال والخدمات المالية التي نمت بسرعة خاصة في العقود الأخيرة، وهي واحدة من أحجار الزاوية للاقتصاد العالمي اليوم. وعلى نحو متكرر، فإن الاستثمارات في المصانع الأجنبية الفرعية قد نمت كثيراً وباتت واحدة من أكبر القوى لتوسع الرأسمالية. ومن المفيد أن نلاحظ لأغراض لاحقة، أنه بخلاف ما كان عليه الحال مع المصانع الفرعية الأكثر تبعية في الشركات متعددة الجنسية الممركزة القديمة التي تعود لعهد الفوردية المتقدمة، فإن الاستثمارات الأجنبية هذه الأيام تميل أكثر لأن تأخذ طابع وحدات الإنتاج التي هي أكثر استقلالية نسبياً في بنيتها الرئيسية وتنظيمها الوظيفي(7).
إن كل هذا التطور في التباين بين اقتصاديات العالم الوطنية قد سهّله التخفيض المتواصل للتعريفة الجمركية، والعقبات المؤسسية الأخرى على التجارة، إضافة إلى التحسينات في تكنولوجيا النقل والاتصالات التي حدثت في العقود الأخيرة. ومع إدخال النقل القائم على الحاويات كبيرة- الحجم براً وبحراً، وتزايد الصلات الجوية الدولية الرخيصة، وإدخال أنظمة الاتصالات الدولية الإلكترونية من كل الأنواع، فإن تكاليف إجراء المعاملات بين الدول تهبط باستمرار، بينما ازدادت كثيراً سرعة تداول السلع والمعلومات. والحصيلة هي أن الأنظمة الاقتصادية الوطنية قد غزتْ إحداها الأخرى، بالتدريج ولكن بشكل راسخ، وباتت منخرطة معاً في التقسيمات المتوسعة للعمل.

شكل 1-4 بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD: نمو الصادرات
نسبةً لنمو الناتج المحلي الإجمالي GDP ، 1960 = 1


ملاحظة: البيانات الأصلية بالأسعار الثابتة.. المصدر: OECD (1993a).

وهذه الاتجاهات يمكن توثيقها بتفاصيل إحصائية كثيرة. فالتجارة العالمية نمت باستمرار إلى هذا الحد أو ذاك في فترة ما بعد الحرب، وهي مستمرة بالتوسع بمعدل متسارع (أنظر شكل 4 - 1). في العام 1970، شكلت صادرات السلع العالمية 4,1 % من المنتجات المحلية العالمية؛ وفي العام 1993، بلغ الرقم المناظر 16 %- أي بزيادة تبلغ أربعة أضعاف. الحجم الفعلي لصادرات السلع العالمية في العام 1993 كانت قيمته 3,6 ترليون دولار، جاء أكثر من 70 % منها من بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). الصادرات العالمية من الخدمات التجارية تزيد قليلاً عن ترليون دولار(8). ومع ذلك، فهناك اختلاف كبير بين بلد وآخر في مستوى الاعتماد على التجارة الخارجية. وتبين معطيات الشكل 4 - 2، بالنسبة لبلدان (OECD)، أن نسبة التجارة الخارجية من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) تميل للهبوط من حيث القيمة كلما زاد (GDP). فـ لوكسمبرغ، مثلاً، التي بلغ الناتج المحلي الإجمالي فيها (GDP) 12,5 بليون دولار العام 1993، كانت صادراتها تشكل 85,7 % من (GDP) واستيراداتها 79,6 % منه، بينما نجد أن الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة يبلغ 6,26 ترليون دولار، في حين تبلغ صادراتها 10,3 % من ذلك الناتج واستيراداتها 11,6 % منه. وهكذا، فرغم أن اعتماد كل البلدان على التجارة الخارجية يستمر بالزيادة، فإن البلدان الأصغر هي أكثر انفتاحاً نسبياً من البلدان الأكبر. والنتيجة الطبيعية والهامة لهذه الملاحظة هي أننا إذا أردنا إن نقّسم الاقتصاديات الوطنية إلى وحدات إقليمية أصغر، فإن اعتمادها المتبادل سيكون عالياً جداً حقاً (حتى إذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة أن الحواجز السياسية للتجارة ما بين الأقاليم يندر أن توجد ضمن أي بلد واحد). وما هو حتى أكثر إثارة من توسع التجارة الدولية في السنوات الأخيرة هو النمو الانفجاري لأسواق رأس المال العالمية والعمليات المالية(9). فتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر عالمياً بلغَ 150 بليون دولار عام 1992، مع مخزون للاستثمار الأجنبي المباشر الفعلي قُدرت قيمته بعشرة أضعاف هذا الرقم(10). وفي الواقع، فإن الكثير من التجارة الخارجية تتكون بالفعل من حركات المستخدَمات والمنتجات بين وحدات الإنتاج المنتشرة بين بلدان مختلفة ولكنها تعود لنفس المنشأة. فأكثر من ثلث تجارة الولايات المتحدة هي الآن تجارة ضمن كل منشأة واحدة(11). وفي الوقت نفسه، فإن معاملات العملة العالمية زادت بشكل حلزوني. في العام 1992، بلغت الأصول الأجنبية لمصارف الإيداع المنتشرة عالمياً 7 ترليون دولار(12)، وأن مبالغ هائلة من رأس المال السائل يتم تداولها الآن عالمياً في جزء من الثانية. وفي العام 1992، بلغ المتوسط اليومي لمعاملات العملة الأجنبية 900 بليون دولار- وهو مبلغ يزيد بالفعل 12 مرة عن الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لبلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)(13).

قواعد التوجيه في الرأسمالية العالمية
إحدى نتائج التآكل الملموس للحدود السياسية بين الدول ذات السيادة، والذي ما يزال مستمراً، هي تضاؤل قوة الدول الفردية للسيطرة على مصيرها الاقتصادي الداخلي(14). وحتى الولايات المتحدة، المسيطر السابق على العالم، تخضع لضغوط حادة لإجراء إعادة هيكلة داخلية كنتيجة للضغوط الخارجية. ومع ذلك، فلم يتحقق بعْد تحول مناظر في السلطة السياسية إلى المستوى الدولي لمواجهة تحديات التوجيه regulatory challenges التي أثارتها عولمة العلاقات الاقتصادية الرأسمالية.
يُشار إلى أن الجهود التي عُملت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لوضع آليات فوق- وطنية للتنسيق الاقتصادي تعالج القسم الأهم من تلك التحديات، وإن مبادرات كثيرة جديدة هي قيد التحقيق. إذ يبدو أننا نتحول صوب مرحلة سياسية انتقالية في طريقنا لنظام عالمي أكثر فعالية(15). وما أقصده هنا عملياً هو ظهور التحالفات الاقتصادية متعددة الجنسية كالاتحاد الأوروبي، واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، ومنظمة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، ومؤتمر التعاون الاقتصادي بين آسيا والباسفيك (APEC)، و(MERCOSUR) (النظير الأسباني للسوق الجنوبية المشتركة)، وغيرها، حيث تتخلى مجموعة من الدول بشكل حقيقي عن عناصر من سيادتها الاقتصادية مقابل وصولها بدرجة أوسع للموارد والأسواق في ظل ضمانات مؤسسية وتعاقدية قوية للتعاون. كما قامت الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة (GATT) مؤخراً بإعادة تنظيم منظمة التجارة العالمية (WTO) ومُنحت سلطات إضافية لمتابعة برامجها للتجارة الحرة. كما أن هناك مؤشراً آخر على هذا النشاط وهو التوسع الذي حدثَ مؤخراً لشتى المنظمات الدولية. ففي العام 1960، كان عدد هذه المنظمات 1,422؛ بينما وصلَ عددها إلى 36,468 العام 1994، 5,401 منها هي منظمات ما بين الحكومات و 31,085 هي منظمات غير حكومية(16). ومما لا شك فيه أن هذه التطورات سوف يتم التأكيد عليها في ظل الجو الجديد للانفراج العسكري في العالم المعاصر.
وباختصار، فنحن في الطريق نحو نظام دولي أكثر تكاملاً بدرجة كبيرة، أو نحو ما أسماه كينيجي أوهماي، بتعبير مثير، عالم بلا حدود a borderless world(17)، رغم أننا ما نزال بعيدين عن محطته النظرية الأخيرة. وكلما نتحرك في هذا الاتجاه، فإن الدولة ذات السيادة القائمة على إقليمها تخلي مكانها لصالح "الدولة التجارية" trading state التي تعتمد رفاهيتها، بدرجة أكبر وأكبر، على تواصل نجاحها في الإنتاج الموجه للتصدير ضمن إطار التقسيم الدولي للعمل. إن التوجه للتصدير(18) (بالمقارنة مع إحلال الواردات) هي استراتيجية أخذت بها أجزاء عديدة من العالم للوصول إلى وضعية البلدان المصنعة حديثاً (NICs)(19)، وفي بعض الحالات، للتحرك باتجاه التطور الرأسمالي الكامل. ولسوء الحظ، فهذه ليست مناورة يمكن اللجوء إليها بحسب الرغبة، وإن الفجوة بين العالم المتطور والبلدان المتروكة هي واحدة من أكثر المشاكل إرباكاً وصعوبةً للسياسة policy في النظام العالمي الحديث.

شكل 2-4 (أ) التجارة الخارجية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي GDP (حيث تُقاس التجارة
الخارجية ك 1 / 2 من [الاستيرادات + الصادرات] على (ب) الناتج المحلي الإجمالي
لبلدان OECD، العام 1993

ملاحظة: معادلة خط الانحدار هي: y = 90. 5 x -0.217 with R 2 = 0.46.
المصدر: الحسابات القومية لبلدان OECD، 1993.

النهضة الإقليمية
مع تضاؤل السيادة الاقتصادية الوطنية في عالم بلا حدود على نحو متزايد، سيكون هناك بعض الميل في الدولة التجارية (نظرياً على الأقل، ومع التجرد عما للثقافة والوطنية من آثار تعّقد الوضع) للتحلل إلى رابطة أقاليم. وهذه الفرضية لا تلمح كثيراً للأقاليم التي هي في حالة بدائية كوحدات جغرافية اعتباطية على مستوى أقل من الدولة ذات السيادة، بل بالأحرى إلى مركبات مركزة محددة من النشاط الاقتصادي والاجتماعي، منقوشة بقوة على الأرض. إن أقاليم من هذا النوع هي، أيضاً، عناصر حاسمة من الدولة السيادية التقليدية، رغم أنها، في هذه الحالة، تخضع على الدوام للاتجاهات والسياسات الاقتصادية الوطنية. وفي ظروف العولمة المتعاظمة، مع تضاؤل الوساطة الاقتصادية للحكومات المركزية، فإن خضوع تلك الأقاليم لضغوط المنافسة الخارجية سيكون كبيراً، وإن سعة سوقها ستتوسع أكثر، وبالتالي فإن بنيتها وديناميكيتها الداخليتْين ستتكيفان إلى حد بعيد. إن هذه الملاحظات تفترض، طبعاً، أن هناك علاقة وثيقة بين عولمة الرأسمالية وطابع التنمية الاقتصادية على المستوى الإقليمي. إن طبيعة هذه العلاقة ليست واضحة كلياً، وسوف أحاول، في هذا القسم، توضيح شيء من منطقها الداخلي(20).
بدايةً، يتضمن أي نظام اقتصادي منظَّم أنواعاً مختلفة من الوفورات الخارجية الإيجابية، أي آثار عوائد متزايدة أو علاقات إنتاجية متزايدة، التي هي داخلية بالنسبة للاقتصاد ككل ولكنها خارجية بالنسبة لوحدة الإنتاج المعنية. وفي الرأسمالية الحديثة، فإن هذه الوفورات الخارجية هي مكونات جوهرية للميزة التنافسية. هناك ثلاثة أنواع من الوفورات الخارجية لها أهمية خاصة:
1) التخصص والتكامل هما مصادر كبرى للآثار الخارجية، بمعنى أنه كلما كان بوسع المنتجين أكثر أن يعتمدوا على المصادر الخارجية الكفء (أي، غير المتكاملة عمودياً) للأنواع الخاصة من المستخدمات، صار وضعهم أفضل على العموم. وبهذا الشكل، فإنهم سيتمكنون ليس فقط من استعمال مستخدمات رخيصة بكميات متفاوتة خلال الزمن، بل والحصول أيضاً- دون تأخير ضار- على مستخدمات لها أهمية كبيرة جداً لا يحتاجونها إلاّ في بعض الأحيان وعلى نحو يصعب التنبؤ به.
2) كلما صار بإمكان المنتجين أكثر الحصول على مصدر خارجي للعمل المدرَب جيداً، والذي يمتلك العادات الضرورية، والمعتاد على الترتيب والنظام، بتكلفة معقولة، كانوا أقدر على تحقيق مهام الإنتاج بشكل كفء ورخيص أكثر، وباتَ من الأسرع والأيسر بالنسبة لهم مواجهة أي حالات بطالة يمكن أن تظهر.
3) يتفاعل المنتجون فيما بينهم على جبهات كثيرة ومستويات كثيرة، كما في المناقشات حول المبيعات والمشتريات، وكذلك العمل معاً في روابط الأعمال أو القيام بنشاطات مشتركة في حقل الأعمال. وهذه التفاعلات تفيد في نقل واكتساب أنواع معينة من التعلم وآثار الابتكارات- الاعتماد المتبادل غير الوظيفي- مثلما تخدم في الغالب، أيضاً، كأساس للمعلومات عن التشابكات الصناعية/ التجارية المتميزة التي تساعد على تقوية النظام الاقتصادي المحلي(21). وفي عالم يشّكل فيه رأس المال البشري مكوِّناً هاماً للإنتاج، فإن لهذه الآثار أهمية كبرى.
وإلى هذه الأنواع الثلاثة من الوفورات الخارجية، يمكننا أن نضيف نوعاً رابعاً في صورة ترتيبات مؤسسية شبه- سياسية تعزّز الثقة والتعاون ما بين المنشآت، وتتيح علاقات إشراف فعالة لمجموعات من المنتجين المرتبطين بعضهم ببعض (كما في حالة منظَّمات المستخدم- المنتج الدقيقة). ومن الممكن أن نقدم أنواعاً أخرى من الوفورات الخارجية، ولكن القائمة الرئيسة هذه تكفي للأغراض الحالية. والوفورات الخارجية هذه مصدر حيوي للكفاءة المكتسبة، والابتكار، والنمو، في الرأسمالية الحديثة، وإن فعاليتها تَقْوى عادة كما زاد مستواها ونطاقها. ومع ذلك، لاحظْ بأنها دائماً تتطور وتتوزع في أي اقتصاد بصورة متفاوتة. فهي تنتشر ضمن صناعات معينة (كالمواد الإلكترونية والملابس)، ولكنها تقل في صناعات أخرى (كإنتاج الحديد أو تصفية النفط)؛ ورغم أن منتجيّ المواد الإلكترونية أو الملابس، مثلاً، يميلون لخلق وفورات خارجية قوية ضمن نفس القطاع، بيد أن آثارهم المتبادلة ضعيفة أو حتى سالبة.
إن واحدة من الصفات المثيرة للوفورات الخارجية، كما ذُكرت تواً، هي أنها كلها تتضمن علاقات المكان- المعاملة. فكلها تتضمن أشكالاً من الوصول إلى والصلات مع وحدات نشاط أخرى، مما يعني أن قدرة المنشآت على الاستفادة منها تعتمد أما على كون تكاليف المعاملة قليلة بالنسبة للمسافة (إذا كانت الوحدات الأخرى منتشرة على نطاق واسع مكانياً) أو على كون الوحدات قريبة من بعضها (إذا كانت تكاليف المعاملات المكانية عالية). وعملياً، طبعاً، فإن تكاليف المعاملات المكانية سوف تتغير، أيضاً، اعتماداً على نوع المعاملة بالضبط. فالمعاملات غير المنتظمة، صغيرة- الحجم، والشخصية، تميل تكلفتها بالنسبة للوحدة الواحدة (أو تكلفتها المتوسطة) إلى أن تكون عالية. والمعاملات النمطية وكبيرة الحجم تميل تكلفتها بالنسبة للوحدة الواحدة إلى أن تكون واطئة. وبالاعتماد على طبيعة وكمية الوفورات الخارجية التي تسود في أي وقت محدد، وعلى المزيج من المعاملات كثيرة التكلفة وقليلة التكلفة التي تكمن خلفها، يُرجح أن نجد مستويات متفاوتة على نطاق واسع من التكتل والانتشار في البنية الموقعية للاقتصاد.
والشكل 4 - 3 هو محاولة لتصوير هذه الأفكار كنظام. فهو يبين سلسلة من النتائج الموقعية الافتراضية لثلاثة درجات مختلفة من الوفورات الخارجية (كما عُرفت من قبل): المتدنية (التي يرمز لها بالحرف A)، المتوسطة (B) ، والعالية (C). ولكل واحدة من هذه الحالات، يتعقب الشكلُ العلاقات بين 1) التكاليف المكانية للقيام بمعاملة ما (المحور الأفقي)، 2) مقياس كلي بسيط للتفاعل المادي على المكان (المحور العمودي)، و 3) الاستجابة المعمَّمة للموقع (التي تمثلها درجات الظل المختلفة). المحور الأفقي يمثل القيم المتوسطة فوق ما يكون دائماً عملياً مدى واسع من التكاليف، مفترضين مجموعة المعاملات التي تتواجد في أي اقتصاد معطى. ونفحص الآن الأنماط الجغرافية المعقدة التي تظهر كلما تتغير العلاقات بين الوفورات الخارجية وتكاليف المعاملات. كما نتوقع أيضاً، دون شك، حدوث تحولات نوعية كثيرة متوازية في بنية النشاط الاقتصادي، ولكننا، لأغراضنا الحالية، نركز فقط على الأبعاد التي ذكرناها.
الاستنتاجات الرئيسية من هذا التمرين يمكن تقديمها في صورة أربعة سيناريوهات موقع مختلفة.
1) حينما تكون تكاليف المعاملات المكانية عالية وأن الوفورات الخارجية التي تستمد من وجود منشآت أخرى قليلة نسبياً، فإن المنتجين ببساطة سوف يبحثون عن مواقعهم الأقل تكلفةً من خلال مستخدماتهم الأساسية و/ أو أسواقهم. والنتيجة تميل على العموم إلى أن تكون مجموعة من صور لوسجين- فيبر Loschain-Weberian landscapes. إذ لا يربح المنتجون سوى القليل من التكتل كبير الحجم، ولكنهم يربحون الكثير من القرب من بعض المورِّدين والمشترين المختارين، وبالتالي، فأنهم ببساطة سوف يكيّفون مواقعهم بحيث تتماشى مع التوزيع الجغرافي الأساسي للموارد والسكان(22).
2) عندما تكون الوفورات الخارجية كثيرة، فإن استراتيجيات الموقع لدى المنتجين سوف تتكيف من جديد وفقاً لذلك، مع أن طبيعة عملية التكيف الجديد سوف تعتمد بدرجة عالية على مستويات تكاليف المعاملات المكانية(23). لنتأمل حالتين مختلفتين. تصورْ، من ناحية، أن تكاليف المعاملات عالية بشكل موحد. وهذا الظرف سيشجع المنشآت على التكتل معاً، ولكنه أيضاً سوف يقلص المدى المكاني الذي يتيح للمنتجين في أي تكتل معطى أن يستفيدوا من المصادر الخارجية أو للبيع لأسواق خارجية. وعليه، فإن نمو التكتل سوف يواجه بسرعة حدوداً معطاة خارجياً. ويمكن تقديم مجتمعات الحرف التقليدية كمثال واحد على هذه الظاهرة. ومن ناحية أخرى، إذا كانت تكاليف المعاملات واطئة بشكل موحد، فإن بعض المنتجين سيكون في وسعهم التمتع بالوفورات الخارجية من على بعد. وعليه، فإن الدافع لإقامة التكتل القائم على الوفورات externality-driven agglomeration سوف يضعف (حتى إذا كان المدى المكاني لأي تكتل معطى واسعاً)، وإن جزءً من الإنتاج، على الأقل، سوف يتبعثر
شكل 3-4 النتائج الموقعية التخطيطية للتفاعل بين تكاليف المعاملات
المكانية والوفورات الخارجية

ملاحظة: يمثل المحور العمودي متوسط مستويات التفاعل المكاني حيث X ij هي كمية من التدفق بين أي مكانين، i و j ،
وإن D ij هي المسافة الجغرافية بين نفس المكانيْن.

على مواقع تتوافر فيها أنواع أخرى من مزايا التكلفة. والنتيجة الصافية في كلتا هاتين الحالتين سوف تميل إلى أن تكون صورة موقعية locational landscape تتميز بوجود تكتلات كثيرة صغيرة ومتخصصة.
3) وحينما تكون تكاليف المعاملات المكانية واطئة وتقترب بسرعة من الصفر، فإن حالة من الفوضى الموقعية locational entropy سوف تسود بمجرد أن تكون قد فقدت كل قيمتها الحالية التكاليفُ المتدنية في مكان محدد للأنماط المكانية السابقة. وعلاوة على ذلك، فهذا سوف يحدث حتى إذا كانت الوفورات الخارجية من مرتبة عالية، لأنه لن تكون هناك عندئذ أي قيود مكانية على الوصول إليها. والحالة النهائية التي تكون فيها تكاليف المعاملات مساوية للصفر، سوف تكون مماثلة لعالم البساط السحري حيث سيكون بوسع كل فرد التنقل أو الوصول لأي سلعة أو خدمة أو معلومة بأي كمية ومن أي مكان وفي الحال ومن دون أي تكلفة. ومن الواضح، أننا ما نزال بعيدين في الواقع عن التكتل بهذا المعنى.
4) إن الوضع الأقرب لأغراض هذه الدراسة هو الذي يقع بين الحالتين الموصوفتين في النقطة (2). في هذا الوضع، فإن تكاليف المعاملات المكانية يُفترض أن تتغير ضمن نطاق من التكاليف العالية إلى الواطئة ولكنها ستكون معتدلة أو ذات كثافة وسطية كمعدل. وفي ظل هذه الظروف، يمكن أن نتوقع أن يتكتل المنتجون معاً لتعظيم وصولهم access إلى الوفورات الخارجية، وقبل كل شيء، إلى مجموعة من الوفورات الخارجية التي ترتبط بتلك الأنواع من المعاملات غير المنتظمة، وصغيرة- الحجم، والشخصية جداً. وعلى سبيل المقارنة، فكثير من أنواع المعاملات الأكثر نمطية التي تربط المنتجين بباقي العالم ستكون وطنية وعالمية في مداها. وعلاوة على ذلك، فإن توسع حجم السوق أمام المنتجين سيمكّن من تعميق التقسيم الاجتماعي للعمل في أي تكتل معطى (وبالتالي خلق وفورات خارجية أكثر) مما يشجع على تحقيق جولات إضافية من النمو.
السيناريو الرابع يمكن تشبيهه بحالة المحركِّات الإقليمية التي تنتج عن عولمة الاقتصاد وتدفع إليها في الوقت نفسه. وما دامت الحواجز السياسية أمام التعامل الاقتصادي تتلاشى باستمرار، فربما تصبح هذه المحركِّات- لفترة من الزمن، على الأقل- عنصراً هاماً في النظام العالمي. وأنا أؤكد بأننا في مراحل مبكرة من ظهور اقتصاد رأسمالي عالمي يميّزه نظام المحركِّات الإقليمية هذه بالذات. وأحد الأسباب الرئيسة لهذا التأكيد هو أن الأشكال المعاصرة للإنتاج والتنظيم الاقتصادي تحفل بآثار الوفورات الخارجية التي تجد جذورها في المستويات المتزايدة للمرونة، وعدم التأكد، وتنوع المنتوج product destandardization، والتنافس، التي هي السمات المميِّزة للمشروع الرأسمالي المعاصر. فمن خلال مجموعة من التوسطات المعقدة، شجعت هذه الظروف على عدم التكامل العمودي لأنظمة الإنتاج، ومرونة أسواق العمل، والفرص الأوسع للتعلم والابتكار عند السطح البيني بين المشاركين في السوق، وتثبيت المؤسسات التي تعزز الثقة والتعاون ضمن قطاعات مختارة(24). وعليه، فقد أتاحت أيضاً انبعاث آثار عوائد متزايدة على مستوى النظام الاقتصادي ككل، آثار واضحة بشكل خاص في الفروع القطاعية الكبرى التي ذُكرت سابقاً: صناعة التكنولوجيا العالية؛ والسلع الاستهلاكية عالية التصميم التي تذهب لأسواق جميلة، وخدمات قطاع الأعمال والخدمات المالية. والسبب الثاني لذلك التأكيد هو أنه بالرغم من هبوط تكاليف المعاملات المكانية بشكل مثير عبر جبهة واسعة في العقود الأخيرة، بحيث صار بوسع منشآت كثيرة الوصول بيسر للأسواق العالمية، بيد أنه تظل هناك أنواع مهمة من المعاملات التي هي حساسة جداً لآثار المسافة. فالوفورات الخارجية تميل لأن تتطور كثيراً في شبكات التفاعل التي تشكلها هذه المعاملات بالذات. وإن المنتجين، لكي يؤمنوها، يتكتلون معاً في المكان الجغرافي.
وفي ظل هذه الظروف، فإن أفضل تشابكات superclusters بين المنتجين قد ظهرَ في صورة تكتلات كثيفة (تشكّل عادةً مناطق- عواصم كبيرة large metropolitan areas أو مدناً عالمية) مرتبطة معاً وظيفياً ضمن تقسيم عالمي للعمل. إن الأداء الإنتاجي لهذه التشابكات الفضلى يزداد بوفورات الحجم التي تنشأ حينما تتوافر البنية التحتية المادية والخدمات العامة الأخرى لتؤمن عملها الفعال. وكما أوضح مؤخراً محللون كثيرون، فأنه في هذه الأنواع من الكيانات الجغرافية تتكون الميزة التنافسية advantage competitive في العالم الحديث كعمليات اجتماعية وسياسية، بالمقارنة مع المزايا النسبية advantages comparative الريكاردية التي تكمن في الموارد الطبيعية الموهوبة(25). إحدى الطرق الهامة لتحقيق النمو والتنمية الاقتصادية المتينة اليوم هي بناء أنظمة اقتصادية إقليمية كهذه يمكنها صياغة مكانة ثابتة لنفسها ضمن بنية واسعة عالمياً للتجارة والاستثمار والمنافسة. ومع ذلك، فحتى الأقاليم الناجحة ليست محصنة ضد أن تدخل في طرق تنمية مسدودة، كما يتبين من الانهيار العرضي لمراكز نمو ازدهرت ذات مرة في لحظات مختلفة في تاريخ الرأسمالية.

جغرافية الرأسمالية العالمية
كانت هناك محاولات، منذ خمسينات القرن العشرين، لتجاوز النظرية الأصلية للميزة النسبية كوسيلة لفهم جغرافية التنمية والتجارة. وفي هذا الاتجاه، كانت هناك محاولتان مبكرتان لـ أ. هيرشمان و غ. ميردال اللذين أكدا على أن عملية الاستقطاب polarization وعملية التقطير trickle down عملتا في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية على تكوين عدد صغير من الأقاليم الاقتصادية المتطورة جداً، تحيطها صفوف عريضة من المناطق غير المتطورة نسبياً(26). وقد أسمى هيرشمان وميردال المناطق الأولى بـ "مركز" core الدولة السيادية والمناطق الثانية بـ "المحيط" periphery- وهما مصطلحان بقيا ملازمتيْن في كل المعالجات اللاحقة تقريباً لموضوع التنمية الإقليمية، بما في ذلك معالجتنا الحالية. وفيما بعد، قامت مجموعة منظّرين راديكالية أكثر بإعادة فحص فكرة المركز- المحيط، موِّسعةً إياها لتشمل العالم كله، ودافعتْ عنها من خلال منطقٍ للتنمية المتفاوتة والتبادل غير المتكافئ، مع دعم ذلك بأدلة من العلاقات الإمبريالية الجديدة بين البلدان المتطورة وغير المتطورة(27). وقد أعاد آي. والرشتاين عمل العديد من هذه الأفكار في بحثه عن الاكتساح التاريخي الطويل للتطور الرأسمالي وتكوين النظام العالمي(28). ثم كانت هناك جولة أخرى من البحوث حول الرأسمالية العالمية وفقاً لفكرة المركز- المحيط قام بها ف. فروبل و ه. هاينرجس و أو. كري الذين أشاروا إلى أن البلدان الأكثر تطوراً اقتصادياً صارت متخصصة بالعمل عالي- الأجر وذي الياخات البيض، بينما تتحول البلدان الأقل تطوراً للعمل منخفض- الأجر وذي البدلات الزرق(29). وقد أشار فروبل والكُتاب الآخرون إلى أن العوامل الرئيسة في ما يسمى التقسيم العالمي الجديد للعمل هذا هي الشركات متعددة الجنسية بما لها من أنظمة التجميع العالمية المتوسعة دوماً assembly lines.
إن كل واحدٍ من هذه المناهج يمسك بشيء من المنطق الجغرافي الكلي وديناميكا العالم الحديث. فبطرق مختلفة، نجد أن فكرة الميزة النسبية، والاستقطاب والتقطير، والتطور غير المتكافئ، والتقسيم العالمي الجديد للعمل، تمثل عمليات وظواهر ما تزال تترك أثرها على الأنماط المكانية العالمية للتطور. ومع ذلك، وفي ضوء الفيض الأخير من العمل المنشور حول العلاقات الاقتصادية العالمية- المحلية، إضافة إلى ما ذكرته تواً، فإن شيئاً من إعادة تقييم هذه المناهج يبدو لي أمراً طبيعياً. وأقدّم الآن إعادة تجميع (أو تأليف) تخطيطية تصب، بشكل مباشر إلى هذا الحد أو ذاك، في الخط التقليدي للتحليل الموصوف قبل قليل. نقطة انطلاقي هي الفكرة القائلة بأننا، في المرحلة القادمة من التطور الاقتصادي والسياسي الرأسمالي، ربما سنرى (ونرى الآن) تشديداً لاندماج الرأسماليات الوطنية في بنية اقتصادية واحدة عالمية النطاق، إلى جانب ما يصاحب ذلك من تجسيد مادي للتشابكات الفضلى superclusters للنشاط الاقتصادي لتشكّل المحركِّات الأساسية للنظام كله.
يقدم الشكل 4 - 4 لمحة تقريبية، ولكن شاملة، للعناصر الجغرافية الأساسية لهذا العالم الذي يقترب منا. ثمة نقطتان رئيستان لابد من عملهما.
أولاً، المناطق المتطورة من العالم تُمثَل، في الشكل، كخليط (أو رقعة) من محركِّات اقتصادية إقليمية مستقطَبة، يتألف كل واحد منها من منطقة العاصمة المركزية، والمنطقة الخلفية المحيطة بها والتي تشغلها المجتمعات الملحَقة، والمناطق الزراعية المزدهرة، ومراكز الخدمة المحلية، وما شابه. وكما يبين الشكل، فإن بعض أنظمة منطقة العاصمة- المنطقة الخلفية المحيطة قد تلتحم بعضها ببعض، كما هو الحال في بوسطن- نيويورك- فيلادلفيا، لوس انجلس- سان ديغو- تيوانا، ميلان- تورن- جنوة، طوكيو- ناغويا- أوساكا، وهكذا. كل مركز عاصمة هو موقع لشبكات كثيفة من الأشكال المتخصصة، ولكن المتكاملة، للنشاط الاقتصادي، سويةً مع أسواق عمل محلية كبيرة ومتنوعة، كل واحد منها هو مكان ملائم لتحقيق وفورات تكتل قوية powerful agglomeration economies وآثار عوائد متزايدة. وكلها منخرطة أيضاً في بنى معقدة للتعامل العالمي. ولذلك، وتمشياً مع المناقشة السابقة، فإن هذه المحركِّات تميل ليس فقط لأن تصبح كبيرة، بل أنها تصبح أكبر بشكل ثابت.
ثانياً، إن التوسعات الكبيرة الأخرى للعالم الحديث تقع عند التخوم الاقتصادية المتوسعة من الرأسمالية (المستعمرات السابقة، الدول الاشتراكية السابقة، الأقاليم المنعزلة، والخ..). وعلى الأكثر، فهذه هي مناطق متخلفة لم تكن قادرة على بناء تنظيماتها الاقتصادية التي كان يمكن أن تدفعها نحو أشكال من التنمية القائمة على مركز للنمو، الموصوفة هنا growth-center development. ورغم ذلك، فهذه المناطق تتخللها أحيانا جزر من الرفاهية النسبية والفرص الاقتصادية(30)، وإن بعضها قد يكون بالفعل على مسارٍ يقودها نحو مستويات أعلى من التنمية (المتكتلة) agglomerated. وفي الستينات والسبعينات، فإن أماكن مثل هونغ كونج، وسنغافورة، وتايوان، وإقليم سيئول، ومكسيكو المركزية، كانت كلها في مراحل مختلفة على ذلك المسار. واليوم، فإن عدداً من مناطق- العواصم مثل بانكوك، وكوالا لامبور، وساو باولو- ريو دي جانيرو، تسير على خطى أولئك الرواد، في حين أن أجزاء من نايجيريا، وساحل العاج، والهند، واندينوسيا، وربما فيتنام، في المرحلة الأولى، كما يبدو. إن قضايا السياسة الساخنة، ولكن غير المحلولة، هي كيف ينبغي إطلاق عملية التنمية هذه في مناطق كانت قد قاومّتها لحد الآن، مع العمل، في نفس الوقت، على تجنب كل أنواع الانهيار الاجتماعي الذي يصحب التصنيع والتحضر السريعيْن.
وكلما بات التكامل الاقتصادي أشد، فقد نتوقع أن تتركز نشاطات الإنتاج أكثر في مناطق العواصم والمناطق الخلفية المحيطة بها مباشرةً. فحتى في العقود القليلة الماضية، أصبحت ظاهرة منطقة العاصمة الضخمة أمراً مألوفاً. ولتوضيح هذه النقطة، فإن السكان في طوكيو، وساو باولو، ونيويورك، وميكسيكو سيتي، وشانغهاي، وبومباي، ولوس أنجلس، وبوينس آيرس، وسيئول، وريو دي جانيرو (في تسلسلٍ يعتمد على الحجم المتناقص للسكان) كان أكثر من 10 ملايين نسمة عام 1990، في حين كان هناك 25 تكتل حضري إضافي تجاوزَ السكان فيها 5 ملايين نسمة(31).
وتؤكد المعلوماتُ المطروحة في الجدول 1- 4 نفسَ الفكرة. يبين الجدول أنه في العام 1990 كانت هناك 40 منطقة عواصم في الولايات المتحدة، يتجاوز سكان الواحدة منها أكثر من مليون نسمة وهي تضم 53,5 % من سكان البلاد. وتضم تلك المناطق في فئة أكبر المدن (نيويورك، لوس انجلس، شيكاغو) وحدها 17 % من حجم السكان الكلي. وإضافة إلى ذلك، فقد خلقت تلك المناطق أقل بقليل من نصف القيمة المضافة في قطاع الصناعة التحويلية العام 1972 وأكثر بقليل من نصفها العام 1987 (وهي آخر سنة تتوفر عنها معلومات شاملة). وهذا معناه أن القيمة المضافة زادت بمعدل شامل قدره 30,6 % (بعد استبعاد التضخم) بين العامين 1972 و 1987- وهذا المعدل يزيد على مثيله الوطني الذي بلغَ 2.21%.

شكل 4-4 التمثيل التخطيطي للجغرافية المعاصرة للرأسمالية العالمية



ومع ذلك، فقد كان أداء مناطق العواصم في فئة أكبر المدن أكثر فقراً مما وردَ أعلاه بشكل حقيقي. وفيما يخص حصة هذه المناطق من التشغيل في الصناعة التحويلية، فإنها هبطت بنسبة 6.2% خلال نفس الفترة. وإذا قسمّنا مناطق العواصم ألـ 40 هذه إلى مجموعة الشرق الشمالي ومجموعة sunbelt، فنجد أن القيمة المضافة في الصناعة التحويلية زادت بمعدل 8,6 % في المجموعة الأولى من البلاد وبمعدل 81,5 % في الثانية- وهذا صدى واضح (جزئياً، على الأقل) لتغير مصير شكل الصناعة الفوردي وشكلها ما بعد الفوردي في الولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة. وفي مجال الخدمات، فإن منطقة العواصم الكبيرة في الولايات المتحدة انطلقت بقوة خاصة. فبين العامين1972 و 1992 زادت الدخول في هذا القطاع بنسبة 174 % (كما يتضح من الجدول 1- 4)، بالمقارنة مع ما نسبته 132,7 % في البلاد ككل. وفي نيويورك، ولوس انجلس، وشيكاغو، كان معدل زيادة الدخول عالياً وبلغَ 1,535.9 % خلال نفس الفترة- وهذه شهادة مثيرة على تغير الوظيفة الاقتصادية لهذه المدن في الاقتصاد العالمي الجديد.

الجدول 1- 4 الصناعة والخدمات في مناطق العواصم التي يزيد عدد سكانها على مليون نسمة في الولايات المتحدة
فئة حجم السكان* عدد مناطق العواصم حجم السكان القيمة المضافة في القيمة المضافة في عام1990 الصناعة1972 الصناعة1987

8+ 3 42,3 173,8 190,7
4-8 6 33,6 104,1 164,7

2-4 12 32,0 91,8 128,8

1-2 19 25,2 98,1 127,0

كل المناطق أل40 40 133,1 467,8 611,1
مجموع الولايات المتحدة - 248,7 962,3 1,166.6

فئة حجم السكان % التغير في القيمة المضافة دخول صناعة دخول صناعة % التغير في دخول في الصناعة 72 - 1987 الخدمات 1972 ** الخدمات 1992 *** الخدمات 72 - 1992

8+ 9,7 108,8 237,2 118,0
4-8 58,1 55,6 189,6 241,0

2-4 40,3 42,9 143,8 235,2

1-2 29,4 33,0 88,1 167,0
كل المناطق أل40 30,6 240,4 658,7 174,0

مجموع الولايات المتحدة21,2 379,3 883,0 132,7

صناعة الخدمات تشمل هنا (وفقاً للتصنيف الصناعي الأساسي، SIC للعام 1987) 70(من الفنادق والنزل الأخرى)، 72(خدمات شخصية)، 73 SIC (خدمات قطاع الأعمال)، 75(تصليح سيارات، خدمات، وموقف سيارات)، 76( خدمات تصليح بلدية)، 78(أفلام سينمائية)، 79(خدمات تسلية واستجمام)، 81(خدمات قانونية)، 87(خدمات هندسية وإدارية).
المصدر: US Department of Commerce, Bureau of the Census: (a) Statistical Abstract of the United States, (b) Census of Manufactures, 1972 and 1987, © Census of Service Industries, 1972 and 1987.
* مليون نسمه
** بليون دولار بأسعار سنة 1987
*** بليون دولار بأسعار سنة 1992

ويمكن أن نتوقع أن مناطق الإنتاج الكبرى في العالم ستستمر ليس فقط بالنمو، بل وستصبح أيضاً متميزة أكثر بعضها عن بعض عندما تتلاشى الحدود السياسية وحينما يظهر للعيان تقسيم عمل عالمي شامل أكثر. وهذه النقطة دَرَسها ب. كروجمان و أ. فينابلس اللذان أثبتا أن الأقاليم الصناعية الكبرى في الولايات المتحدة أكثر تخصصاً من البلدان الأوروبية الفردية (المساوية لها من حيث حجم السكان)(32). ولكن نظراً إلى أن عقبات التعريفة الداخلية قد سقطتْ في الاتحاد الأوروبي، مما وسّعَ من حجم الأسواق، فإن البلدان/ الأقاليم الأوروبية تنتقل الآن بصورة واضحة صوب مستويات أكبر من التخصص. وعلاوة على ذلك، فإن الدول-المدن الناجحة، كـ هونك كونك وسنغافورة، تقّدم الدليل القوي على أن التخصص الاقتصادي الإقليمي (سويةً مع التنمية الموجَّهة للتصدير) يمكنه، مع المزيج الصحيح من الفرصة والتقييم السليم للسياسة، أن يشكّل صيغة للنمو السريع جداً في الاقتصاد العالمي الحديث(33).
إن الاستنتاج المفاجئ نوعاً ما الذي يبرز للعيان هو أن عولمة الرأسمالية لا تقود، كما يبدو، إلى مكان جغرافي متجانس، بل إلى أشكال قوية من التمايز من إقليم إلى آخر. بعض الأقاليم، كنيويورك ولندن وطوكيو، تُطّور بؤراً قوية للأعمال والخدمات المالية(34). بينما تبدي غيرها، مثل الغرب الأوسط الأمريكي وإيطاليا الثالثة أو تايوان (كلٌ بطريقته) تركيزاً أساسياً على الصناعة التحويلية. وحتى حينما تنخرط الأقاليم ظاهرياً بخطوط إنتاج متشابهة، فأننا نميل لأن نجد اختلافات بين واحدة وأخرى. إن العديد من التكلات الصناعية الرئيسية في العالم تهتم اليوم بقطاع المواد الإلكترونية، مثلاً، ولكنها في الغالب تتمايز بشكل واضح في المنتجات الإلكترونية المحددة التي تنتجها (سلع استهلاكية، أنظمة اتصالات، حاسوبات، أجزاء مكوِّنة، أدوات، والخ…).
وعليَّ أن أضيف الملاحظة الهامة التي مفادها أن المحركِّات الإقليمية للاقتصاد العالمي تعمل أيضاً كمراكز أساسية لتوليد الثقافة والألفة في العالم الحديث(35). والكثير منها يتضمن مركبات صناعية كبيرة لإنتاج سلع الثقافة في قطاعات مثل إنتاج الأفلام، وبرامج التلفزيون، والتسجيل الموسيقي، والنشر، وإنتاج ملابس المودة، وصناعة المجوهرات، وما شابه، التي يُباع إنتاجها في جميع أرجاء العالم. فهي نقاط تَجَمْع للمصمِّمين، والكُتاب، والممثلين، والفنانين، والموسيقيين، والمبدعين الآخرين، مثلما هي أيضاً أماكن يمكن أن توجد فيها الموارد الوفيرة للاستهلاك الثقافي الجماعي كالمتاحف، وقاعات الاحتفالات، والمكتبات، ودور العرض، ومراكز إحياء التقاليد، والاحتفالات الفنية. وبالنتيجة، فهي تخلق جواً محدداً للاهتمام الثقافي والتجريب (أو الاختبار العلمي) يساعد على إبقاء نشاطاتها التجارية الثقافية وصناعاتها المنتجِّة لسلع الثقافة في الزاوية الأهم والأحدث. واليوم، فإن نيويورك، ولندن، وباريس، وطوكيو، تتنافس مع بعضها للتأثير في هذه المجالات، وهي الآن بمثابة السلف لثقافة رأسمالية كونية (رفيعة وهابطة) بنفس القدر الذي تكون هي فيه أيضاً كمعاقل محصَّنة للسلطة الاقتصادية العالمية.
ورغم هذه الأصول الهامة، فإن كثيراً من هذه الأماكن تزخر بمشاكل ومآزق اجتماعية. فالعولمة، قبل كل شيء، إذ تشق طريقها مخضِّعةً كل المناطق لنفس الضغوط التنافسية الكثيفة، فإن تفرعات اجتماعية-اقتصادية قيد التشكل، كما يبدو، في عدة أقاليم- عواصم كبرى(36). وهذا الاتجاه يبرز، بأشد الوضوح، في ميل اقتصاديات التكتلات الأساسية لخلق أعمال ضئيلة الأجر وقليلة المهارة، تشّغل عدداً كبيراً من الأفراد في مجموعة من قطاعات الصناعة التحويلية المرّهقة وقطاعات الخدمة الوضيعة، إلى جانب الأعمال عالية الأجر وكثيرة المهارة (المهنية، الإدارية، التكنيكية، الإبداعية، وما شابه). ويرتبط بهذا الاتجاه، جاذبية هذه التكتلات بالنسبة للمهاجرين من أقاليم المحيط، أقاليم العالم الثالث (كما توضحها هجرة الأمريكيين من وسط أمريكا إلى لوس انجلس، وهجرة الريكانييْن Puerto Rican والهايتييْن Haitians إلى نيويورك، وأفارقة شمال وغرب أفريقيا إلى باريس، وعمال الفليبين ومنلاند الصينيين Mainland إلى هونك كونك). إن الاستقطاب الشامل، الناشئ، يولد توترات هائلة (مع المشاعر الاثنية والعرقية، في الغالب)، واستعدادات راسخة للانفجارات الاجتماعية، والتدمير المثابر لما للعاصمة الكبيرة large metropolis من دور كامن كجالية اجتماعية للجاليات.

قضايا التوجيه والسياسة- في فسيفساء عالمي من الأقاليم
إن ما حاولت إيصاله هو فكرة استمرار تحول الجغرافية الاقتصادية العالمية إلى فسيفساء من أنظمة إنتاج إقليمية يعتمد بعضها على بعض بصورة متبادلة. وهذا الاتجاه صاحَبه خمود محدد لقدرات التنسيق النظامية للدولة السيادية ونزوع ملازم (ولكن غير متساوي) لوظائفها السياسية للأعلى باتجاه المستوى الدولي حيث تحاول الأساليب التعاقدية والمؤسسية التدرجية ضمان درجة ما من النظام الاقتصادي، وللأسفل باتجاه المستوى المحلي حيث تكافح الحكومات البلدية والإقليمية في العالم كله لصياغة استراتيجيات اقتصادية عملية في إطار الاتجاهات التنافسية التي تعجز الحكومات الوطنية بصورة متزايدة على حمايتهما منها. ومع انتهاء الحرب الباردة، فمن المؤكد أن تفرض هذه الاتجاهات نفسها، مع أن أي تفجيرات كبرى لعدم الاستقرار الدولي من شأنها دون شك قلب المد بالاتجاه المعاكس. ورغم ذلك، فإن الدولة الوطنية تبقى عاملاً كبيراً في العالم السياسي المعاصر، وإن أي ادعاءات حول زوالها الوشيك لابد من النظر إليها بتحفظ. والكُتاب، أمثال أهماي، الذين يتنبئون بانحلالها المفترض قبل هيمنة العلاقات الاقتصادية العالمية يفشلون بشكل خاص في الأخذ بنظر الاعتبار الضغوط الاجتماعية والثقافية التي تواصل فرض الدولة ككيانٍ سياسي كامن في العالم المعاصر(37).

المستوى الدولي
وإذا وضعنا هذا الشرط في الذهن، فمن المؤكد أن يصبح التوجيه الاقتصادي العالمي والاختيار الاستراتيجي كقضايا ملحّة ومعقدة مع مرور الزمن. فهناك كل الأسباب للاعتقاد بتزايد ترتيبات الإشراف الدولي التي وُضعت بالفعل، مع أن مسألة ما إذا كانت هذه الترتيبات ستبقى كنظام مؤقت ad hoc من التنظيمات والاتفاقات (وهو شكلها الحالي) أم أنها ستتطور إلى شيء أكثر من ذلك ككيان له سيادة هي مسألة تظل مفتوحة في هذه المرحلة.
من الواضح أن مهمات التنسيق الاقتصادي الدولي كثيرة، وتغطي قضايا كأسعار تحويل العملات، والعلاقات التجارية، وأشكال الاستثمار الأجنبي المباشر، ونشاطات النقل الجوي والبحري، وحقوق الملكية الثقافية، وقضايا البيئة، وما شابه. إن جزءاً هاماً بالفعل من جهود التوجيه الدولي مخصص لهذه القضايا ومشاكل مماثلة. ولأغراضنا، فثمة قضية لها أهمية خاصة: المهام السياسية التي ستصبح ضاغطة أكثر كلما- أو إذا- شرعتْ بدرجة واسعة مشاكلُ فسيفساء الاقتصاديات الإقليمية، الموصوفة تواً، بالاستحواذ على الإطارات الوطنية البحتة للسيطرة. فإذا كان هناك حقاً شيء من قبيل نظام عالمي من الدول- المدن هو في مراحل تشكله الأولى، فستبرز مضامين هامة بالنسبة للنمط العالمي للتوجيه الاجتماعي social regulation. فبعيداً عما إذا كان هذا المستقبل المتوقع ينطوي على أشكال قوية أم ضعيفة للتوجيه الإقليمي، فسيكون هناك دون شك طلب متزايد على الإدارة الفعالة للنظام كله كأقاليم مرتبطة ببعضها أو متنافسة فيما بينها بشكل مباشر إلى هذا الحد أو ذاك في جميع أرجاء العالم. ومن المحتمل أن يتعزز هذا الطلب بتوكيد- الذات السياسي المتوقع الذي ستنغمر به الأقاليم الكبرى حينما تجد نفسها مسئولة بصورة متزايدة عن مصيرها الاقتصادي وحينما تتزايد المنافسة بين الأقاليم كنتيجة لذلك. ومن الممكن تلخيص الطبيعة الإشكالية الكامنة لهذه الحالة من الأشياء بالنقاط الست التالية:
1) يمكننا أن نتوقع، في المستقبل، تسارع سباقات التنمية الاقتصادية بين مختلف الأقاليم، بل والكثير من ذلك،لأن آثار العوائد المتزايدة تعطي ميزةً تنافسية قوية للأقاليم التي تبدأ بشكل مبكر وتتحرك بسرعة. ولكي تكون هي أول من يتحرك، فإن الحكومات المحلية قد تباشر كلها باستثمار مفرط في استراتيجيات التنمية الخاصة. ويمكن أن تضيع موارد كبيرة في هذه العملية ما لم يتم وضع اتفاقات ملزِّمة ما بين الأقاليم حول البرامج والأولويات.
2) وحتى في هذا اليوم، تنخرط حكومات إقليمية كثيرة في أجزاء مختلفة من العالم في محاولة لإبعاد الموارد عن الأقاليم الأخرى. ولكن إذا كانت لهذه الموارد وفورات خارجية إيجابية هامة بالنسبة للإقليم المهدَّد، فإن إعاقات كبرى يمكن أن تنشأ للأداء الصناعي الشامل.
3) إن نمو الوعي- الذاتي السياسي بشأن القضايا الاقتصادية يمكن أن يدفع الأقاليم للدخول في تحالفات واتفاقات ثنائية ومتعددة فيما بينها. وهذا الاتجاه نلاحظه بالفعل في الاتحاد الأوروبي(38). فالجهد المشترك من هذا النوع يمكن أن يكون مفيداً جداً للمشاركين فيه، ولكنه يمكن أيضاً أن يضر مَن يُستبعَد منه. إن جهداً أوسع من هذه العملية يمكن أن يكون ضرورياً.
4) الشركات متعددة الجنسية هي من أهم المستفيدين الخاصين من الفسيفساء الإقليمي العالمي. كما أنها أيضاً عامل كبير لربط التكتلات المختلفة معاً. فعملياتها تصمَّم دائماً تقريباً للاستفادة من تغير ظروف الإنتاج من حيث المكان وذلك بواسطة تكييفات مناسبة لمستويات الاستثمار والاستخدام في المواقع المختلفة. وإن قدرتها على وضع الأقاليم أحدها بوجه الآخر ما تزال وسيلة تنأى بها تلك الشركات عن التوجيه الفعال.
5) إن الهجرة ما بين الأقاليم، ومن الأقاليم الفقيرة إلى الغنية قبل كل شيء، سوف تفرض مشاكل سياسية هائلة على الحكومات المحلية، وبخاصة هناك حيث تقل فعالية الإشراف الوطني على تدفق المهاجرين (قارنْ النقاش الدائر في كاليفورنيا حول الهجرة غير الشرعية). وقد نسأل: كيف يمكن للأقاليم المرسِّلة والمستِّلمة أن تضع وتقّوي الضوابط التي من شأنها إزالة أسوأ إساءة محتملة لهذه العملية؟
6) هناك قضايا هامة تتعلق بالمسئولية الجماعية عن الأقاليم التي تفشل اقتصادياً، ذلك لأن الفشل في هذه الظروف ليس هو مجموع حالات الفشل الفردية بقدر ما هو انهيار هيكلي في إطار نظام الاعتماد المتبادل عالمياً.
ومما له صلة بالنقطة الأخيرة، وربما الأكثر تعقيداً وإرباكاً في هذا النظام العالمي الجديد الذي تلوح تباشيره، هو الفجوة التي ستواصل بالتأكيد فصل الأقاليم المتطورة عن غير المتطورة منها. وتثير هذه الملاحظة أسئلة صعبة حول كيفية معالجة التوترات السياسية عند التخوم المشتركة للأقاليم وحول الأشكال الملائمة لتقاسم ودعم المعالجة الفعالة لفجوة التنمية التي ستظهر.

المستوى الإقليمي
تمثل الأنظمة الاقتصادية الإقليمية التي ناقشتها مجموعة منتجين وعاملين صمدوا في مكانهم بفضل وفورات التكتل القوية. وبهذه الصفة، فكل واحدٍ منها هو جماعة بالمعنى المحدد الذي يفيد بأن الكل whole هو دائماً أكبر من مجموع أجزاءه. إن مُنظِّرين مثل دبليو. ب. أرثر وبي. أ. دافيد أوضحاا بأن مثل هذه الأنظمة المعقدة تخضع لأنماط التنمية التابعة للمسار path-dependent(39). إن الانسجام مع متطلبات آليات التنسيق بين الأقاليم هو ما يمليه التوجيه داخل الإقليم وذلك لتأمين المنافع الجماعية للكل، إضافة إلى قيادة التنمية بحيث تقود عبر الزمن إلى نتائج أفضل وليس إلى نتائج سيئة. وإضافة إلى ذلك، فما دامت المنافع التنافسية للتكتلات الكبيرة تتقوى على العموم عند وجود آليات التعاون والتنسيق (مما يعزز تقاسم التكنولوجيا، واكتساب المهارات، والتعلم، وما شابه) فمن المحتمل كسب عوائد هامة من خلق المؤسسات الملائمة للنظام الجماعي عند المستوى الإقليمي. وأقدّم حدسي بأن الأقاليم، في ظل التنافس العالمي الجديد، ستجد صعوبة في المحافظة على معدلات عالية للنمو ومدخولات عالية دون التعامل بصورة حاسمة مع قضايا التوجيه الاجتماعي المحلي تلك local social regulation.
والموضوعة الأخيرة تتجلى في الثغرات والانهيارات الملاحَّظة في عدة أنظمة اقتصادية إقليمية اليوم: فهي تظهر، مثلاً، في الغالب في عدم كفاية البحث التكنولوجي للأشكال المحددة للتكتلات، وفي نقص برامج التدريب على العمل لتلبية الحاجات المحلية، وفي ظهور مناطق أعمال تفتقر إلى الثقة وأشكال من التنافس بين المنشآت مما يقوض إمكانات التعاون والتبادل المفيد للمعلومات، وفي نواقص السوق ومشاكل المنتج الحر (أو غير المرتبط بجهة ما) free-rider التي تكتنف كل تكتلات الأعمال (في قضايا مثل تجهيز البنية التحتية الأساسية، والمحافظة على سمعة المنتجات رفيعة النوعية). وبسبب هذه المشاكل، فإن تجارب مترددة، وحتى فاشلة أحيانا، في بناء النظام الإقليمي الجماعي تبرز حتى الآن في العالم الرأسمالي. وهي تتجلى، في كل مكان، في تزايد المبادرات العامة لتعزيز التنمية الاقتصادية الإقليمية، سويةً، في الغالب، مع مناهج يمكن وصفها كسياسيات إقليمية استراتيجية للتجارة. إن أوضح وأنجح الأمثلة على هذه الظاهرة تُلاحظ في الدول- المدن أو الدول- الأقاليم في هونك كونك وسنغافورة، ولكن أمثلة أخرى أقل إثارة يمكن ملاحظتها في أجزاء من أوروبا وأمريكا الشمالية. والحالات المحددة هي: الأقاليم الألمانية lander German مع آليتها لصنع القرارات المحُكَّمة، الخاصة- العامة، الاستشارية(40)، وأقاليم إيطاليا الثالثة Third Italy مع بناها التحتية المؤسسية المتطورة جداً التي تعّزز الابتكار التكنولوجي، والتدريب على العمل، وبحوث الأسواق، ونشاطات التصدير، وتبادل المعلومات، وما شابه(41)، وبشكل جنيني، المجتمعات المستقلة ألـ 17 الأسبانية أو المجالس ألـ 22 الإقليمية المنتخبة في فرنسا. وهناك تجارب هامة كثيرة أيضاً قيد التشكل في الولايات الأمريكية مثل كاليفورنيا، ماشيوستس، ميشغان، وبنسلفانيا، حيث تم وضع برامج قوية للتنمية الاقتصادية بغية تشجيع نمو شبكات الأعمال المحلية وتكوين حلقات بارعة لآثار التكتلات(42).
إن بعض الأمثلة التوضيحية هذه يمكن أن تمثل مجرد حالات رائدة أولية لشبكة عمل سياسي ما تزال قسماتها الرئيسية بحاجة إلى بناء. ومع ذلك، فهي مبادرات محددة يمكن تعزيزها ببناء أدوات محكَّمة أكثر من العمل الجماعي وتكوين الشخصية الإقليمية كلما هبّت رياح المنافسة العالمية بقوة أكثر (وكلما، أيضاً، أطلقتْ اللامركزيةُ الإدارية والمالية مسارها في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة)(43). ومن هذه الزاوية، فإن انتعاش التوجهات السياسية الإقليمية، المتصوَرة هنا، ينبغي تمييزها عن الإقليمية المبكرة التي تظهر في أجزاء من الاتحاد السوفيتي السابق وأوروبا الشرقية، التي تبدو إلى حد بعيد كمجرد تعبير عن ضيم ثقافي وأخلاقي كان مكبوحاً لفترة طويلة.
إن ظاهرة التنازل الاقتصادي والسياسي للأقاليم تثير، أيضاً، قضايا المواطنة والتعايش البلدي communal association(44). ففي كل الظروف، فإن الأفراد والمنشآت لهم مصالح محددة راسخة في بيئاتهم المحلية، رغم أنهم ليس دائماً يمتلكون الحافز أو الفرصة للتعاطف كلياً معها. إن بناء منتديات سياسية إقليمية شاملة وتمثيلية أكثر يشكل ليس فقط إمكانية لتعبئة الناس (ولكبح النظير غير الكفء، وصرفه) بل هي وسيلة ممكنة لتقوية الميزة التنافسية بتعزيز فكرة المجتمع المحلي وترشيد الأسس السياسية والمعلوماتية للاختيار الجماعي الاستراتيجي. وبسبب ذلك، فمن المغّري أن نتصور بأن فكرة المواطنة في النظام العالمي الناشئ قد تتطور عملياً بعيداً عن التأكيد على حق المولد في بلد معين national birthright وباتجاه التأكيد على النسب الإقليمي regional affiliation. وعليَّ أن أؤكد بأن هذه الملاحظات ينبغي تفسيرها كتكهنات معيارية، وليس كتنبؤات نظرية عن أشياء ستأتي. وفي الواقع، فإن إحدى نقاط المجازفة hazards في نموذج التنمية الاقتصادية العالمية، المطروح في هذه الصفحات، هو أن أصله الوراثي، إذا صح القول، يحمل أيضاً مستقبلاً أقل خطورةً من النموذج الذي كنتُ ألمح إليه. ويمكننا أن نفهم شيئاً عن هذا المستقبل الآخر في المستويات المرتفعة للاستقطاب، والتوترات الساخنة، والتهميش والفوضى الاجتماعييْن التي هي واضحة بالفعل إلى حد مؤلم لأن الآثار المتشابكة لكل من العولمة وسياسات المحافظين الجدد بشأن عدم التدخل الحكومي تقابل إحداها الأخرى في المدن الأمريكية الكبيرة اليوم.

الدول- المدن في القرن الحادي والعشرين
بعكس ادعاءات بعض المحللين حول قرب حلول حالة للأشياء يكون فيها "منطق وديناميكا التطور الإقليمي بلا مكان بصورة متزايدة placeless(45)" أو التي تكون فيها "نهاية الجغرافية" في مرمى البصر(46)، فأننا على الأصح، كما يبدو، ندخل مرحلة من التطور الرأسمالي يكون فيها التركز الإقليمي للإنتاج أكثر وضوحاً كنمط للتنظيم الاقتصادي المكاني economic organization spatial. وهذا الاتجاه يحدث، من ناحية، لأن المدى المكاني لأنظمة الإنتاج المؤقلمة regionalized هو اليوم عالمي الانتشار بشكل فعال، ومن ناحية أخرى، لأن جذب الوفورات الخارجية التي تحسّن الأداء يخلق طلباً قوياً على القرب ضمن أقسام الاقتصاد الهامة. نظرياً، يمكننا أن نتصور الزمن حتى حينما يمكن استهلاك الكثير من هذه الوفورات الخارجية عبر أي مسافة، وهي حالة يمكن أن نتوقع فيها أن تبدأ جغرافية العالم الاقتصادية بالاقتراب من حالة الفوضى entropy التي أشرنا إليها سابقاً، على الأقل بمجرد أن تفقد قيمتَها كلُ التكاليف الهابطة في المواقع السابقة.
ومن الواضح أن الحالة القائمة في العالم لا تقترب من هذه الحالة في أي مكان. فكل العلامات تشير حالياً نحو استمرار التأكيد على أشكال التنمية الاقتصادية والهوية السياسية القائمة على الإقليم region-based forms في سياق تسارع عملية العولمة. وكلما نقترب من القرن الحادي والعشرين، فإن الرأسماليات الوطنية الفردية تباشر كلها تقريباً الاندماج في نظام عالمي واحد (وهذا لا يعادل القول بتنحي الدولة الوطنية نهائياً أو زوال الاختلافات الثقافية والاجتماعية الوطنية). إن الأساس الوطيد لهذا النظام يتطابق، وإلى درجة متزايدة، مع سلسلة تكتلات لرأس المال والعمل يعتمد بعضها على بعض بصورة متبادلة في أرخبيل عبر العالم. وهذه التكتلات بدأت بأخذ طابع كونفيدرالية الأمر الواقع من دول- المدن de facto confederation of city-states. وفي المستقبل، أتوقع أن نراها كمنتديات قائمة للتعبير السياسي، تعّزز بقوة احتياجاتها وهوياتها الاقتصادية الفردية، بينما تنشد، أيضاً وبالضرورة، أساليب جديدة للتعاون فيما بينها سعياً وراء المصالح المشتركة. أنا أقدّم هذه الأفكار كاستنتاجات نظرية من الملاحظات حول الديناميكا المكانية والزمنية الحالية لرأس المال. ومن الواضح أن كثيراً منها يبقى بحاجة للتصحيح مع تقدم التحليل ومع تكشف الحوادث الفعلية. وهذه الديناميكا، كما أفهما، لها إمكانات تقدمية ورجعية، سيعتمد شكلها النهائي دون شك، وبدرجة عالية، على ماهية الأنواع المهيّمنة من التعبئة السياسية التي ستكون لها الصدارة في العقود القائمة. وعليه، فإن هذه الأفكار تُورَد كنقطة مرجعية point of reference للمناقشة حول الممارسات السياسية الملائمة ضمن النضال المستمر من أجل الرفاهية المادية والظروف الديمقراطية الاجتماعية للجميع.

هوامش
أشكر جون أغنيو john Agnew ، ونيل برينر Neil Brenner ، وريجارد روسكرانس Richard Rosecrance، وميشيل ويبر Michael Weber للملاحظات التي قدموها بشأن المسودة الأولى هذا الفصل.

(1)R. O. Keohane, After Hegemony: Cooperation and Discord in the World Political Economy (Princeton, N. J. :Princeton University Press, 1984); R. O. Koehane, International Institutions and State Power (Boulder, Colo.: Westview Press, 1989); K. Ohmae, The Borderless World (New York: HarperCollins, 1990); K. Ohmae, The End of the Nation State (New York: The Free Press, 1995); and R. Rosecrance, The Rise of the Trading State (New York: Basic Books, 1986).
(2)P. Hirst and J. Zeitlin, eds., Reversing Industrial Decline? Industrial Structure and Policy in Britain and Her Competitors (Oxford: Berg, 1989); M. E. Porter, The Competitive Advantage of Nations (New York: Free Press, 1990); A. Saxenian, Regional Advantage: Culture and Competition in Silicon Valley and Route 128(Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1994); A. J. Scott, Metropolis: From the Division of Labour to Urban Form (Berkeley: University of California Press, 1988); A. J. Scott, Technopolis: High Technology Industry and Regional Development in Southern California (Berkeley, University of California, 1993). Press
(3)A. Amin and N. J. Thrift, Neo-Marshalian Nodes in Global Networks, International Journal of Urban and Regional Research 16 (1992): 571-587; M. Storper,’’ The Limits to Globalization: Technology Districts and International Trade, Economic Geography 68 (1992): 60-93; M. Storper and A. J. Scott, The Wealth of Regions: Market Forces and Policy Imperatives in Local and Global Context, Fortune 27 (1995): 505-526.
(4)R. Boyer, La Theorie de la Regulatiom: Une Analyse Critique (Paris: Editions la Decouverte 1986); A. Lipietz, New Tendencies in the International Division of Labour: Regimes of Accumulation and Models of Social Regulation,’’ in A. J. Scott and M. Storper, eds., Production, Work, Territory: The Geographical Anatomy of Industrial Capitalism (London: Allen and Unwin, 1986), 16-40.
(5) إذاً، وبخلاف الاتجاهات المؤكدة في نظرية التوجيه المعاصرة، ليس مفاجأة إن الأفكار المتعلقة بالنظام السياسي للرأسمالية قد تمحورت، عادةً، كنظريات للدولة الوطنية.
(6)G. Gereffi and M. Korzeniewicz, eds., Commodity Chains and Global Capitalism (Westport, Conn.: Greenwood Press, 1994).
(7)M. Hart, What’s Next: Canada, the Global Economy, and the New Trade Policy (Ottawa: Carleton University, Centre for Trade Policy and Law, 1994).
(8) General Agreement on Tariffs and Trade, International Trade Statistics (Geneva: GATT, 1993).
(9)N. Thrift and A. Leyshon, A Phantom State? The De-traditionalization of Money, the International Financial System, and International Financial Centres,’’ Political Geography 13 (1994): 299-327; M. W. Zachar, ‘’The Decaying Pillars of the Westphalian Temple: Implications for International Order and Governance, ‘’ In J. Rosenau and E. O. Czempiel, eds., Governance without Government: Order and Change in World Politics (Cambridge: Cambridge University Press, 1992), 58-101.
(10)United Nations Conference on Trade and Development, World Investment Report (New York: UNCTAD, 1993).
(11) Organization for Cooperation and Development, Intra-Firm Trade (Paris: OECD, 1993).
(12)International Monetary Fund, International Financial Statistics Yearbook (Washington, D. C. : IMF, 1993).
(13)W. Lever, ‘’Economic Globalization and Urban Dynamics, 11,’’ in F. Moulaert and A. J. Scott, eds., Cities and Enterprises on the Eve of the Twenty-First Century (London: Pinter, 1996).
(14)B. Badie, La fin des Territoires, Essai sur le Desordre International et sur Iutilite Sociale du Respect (Paris: Fayard, 1995); R. Jessop, ‘’The Future of the National State: Erosion or Reorganization? General Reflections on the West European Case, ms., Department of Sociology, University of Lancaster, UK, 1995.
(15)J. Agnew and S. Corbridge, Mastering Space: Hegemony, Territory, and International Political Economy (London: Routledge, 1995).
(16) Union of International Associations, Yearbook of International Associations (Munich: K. G. Saur, 1995).
(17) Ohmae, Borderless World
(18) Rosecrance, Rise of the Trading State.
(19) S. Strange, States and Markets (London: Pinter, 1988).
(20) وللإطلاع على مادة أكثر عن هذا الموضوع، أنظر: A. J. Scott, ‘’Industrial Organization and Location: Division of Labour, the Firm, and Spatial Process, Economic Geography 62 (1986):215-231, and M. Storper and R. Walker, The Capitalist Imperative: Territory, Technology, and Industrial Growth (Oxford: Blackwell, 1989).
(21)J. Patchell, ‘’From Production Systems to Learning Systems: Lessons from Japan, Environment and Planning A 25 (1993):797-815; R. Salais and M. Storper, Les Mondes de Production: Enquete sur I’dentite Economique de la France (Paris: Editions de I’Ecole Des Hautes en Sciences Sociales, 1993).
(22) وبطبيعة الحال، في ظل الفرضيات (التي ليس لها معنى من الناحية التجريبية) القائلة بأن الحيز الجغرافي هو أرض بكر tabula rasa وإن كل النشاطات الاقتصادية قابلة كلياً للحركة، فإن أي مستوى إيجابي من تكاليف المعاملات المكانية، مع أو من دون وفورات خارجية، سيؤدي إلى تقارب الاقتصاد العالمي نحو نقطة مركزية وحيدة.
(23)P. Krugman and A. J. Venables, Globalization and the Inequality of Nations (Cambridge, Mass.,: National Bureau of Economic Research, Working Paper no. 5098, 1995).
(24)See A. J. Scott, New Industrial Spaces: Flexible Production Organization and Regional Development in North America and Western Europe (London: Pion, 1988).
(25)P. Krugman, Geography and Trade (Leuven: Leuven University Press, 1991); A. J. Scott, ‘’The Geographic Foundations of Industrial Performance, Competition and Change 1 (1995): 51-66.
(26)A. Hirschman, The Strategy of Economic Development (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1958); G. Myrdal, Rich lands and Poor (New York: Harper &Row, 1957).
(27)S. Amin, Le Development Inegal (Paris: Les Editions de Minuit, 1973); A. Emmanuel, Unequal Exchange: A study of the Imperialism of Trade (New York: Monthly Review Press, 1972); A. G. Frank, Dependent Accumulation and Underdevelopment (New York: Monthly Review Press, 1979); D. Harvey, The Limits to Capital (Oxford: Blackwell, 1982).
(28) I. Wallerstein, Historical Capitalism (London: Verso, 1983);I. Wallerstein, The Modern World System 111: The Second Era of Great Expansion of the Capitalist World Economy, 1730-1840s (San Diego: Academic Press, 1989).
(29)F. Frobel, J. Heinrichs, and O. Kreye, The New International Division of Labour (Cambridge, Cambridge University Press, 1980).
(30) Agnew and Corbridge, Mastering Space.
(31)United Nations, World Urbanization Prospects: The 1992 Revision (New York: United Nations, Division of Economic and Social Information and Policy Analysis, 1993).
(32)Krugman, Geography and Trade; A. J. Venables, ‘’Economic Integration and the Location of Firms, American Economic Review, Papers and Proceedings 85 (1995): 296-300.
(33)M. Castells, L. Goh, and R. Y-W Kwok, The Shek Kip Mei Syndrome: Economic Development and Public Housing in Hong Kong and Singapore (London: Pion, 1990); R. Wade, Governing the Market: Economic Theory and the Role of Government in East Asian Industrialization (Princeton, N. J. Princeton University Press, 1990).
(34)S. Sassen, The Global City: New York, London, Tokyo (Princeton, N. J. Princeton University Press, 1991); N. Thrift, ‘’On the Social and Cultural Determinants of International Financial Centres: The Case of the City of London,’’ in S. Corbridge, R. Martin, and N. Thrift, eds., Money, Power, and Space )Oxford: Blackwell, 1994): 327-355.
(35)A. J. Scott, The Craft, Fashion, and Cultural Products of Los Angels: Competitive Dynamics and Policy Dilemmas in a Multisectoral Image-Producing Complex, Annals of the Association of American Geographers 86 (1996).
(36) Sassen, Global City
(37)Ohmae, End of the Nation State
(38)P. Cooke, Globalization of Economic Organization and the Emergence of Regional Interstate Partnerships, in C. H. Williams,ed., The Political Geography of the New World Order (London: Belhaven, 1993), 46-58.
(39)W. B. Arther, ‘’Silicon Valley Locational Clusters: When do Increasing Returns Imply Monopoly? Mathematical Social Sciences 19 (1990): 235-251; P. A. David, ‘’Clio and the Economics of QWERY, American Economic Review 75 (1985); 332-337.
(40)P. Cooke and K. Morgan, Industry, Training and Technology Transfer: The Baden-Wurttemberg System in Perspective (Cardiff, Wales: Regional Industrial Research, 1990); G. Herrigel, ‘’Large Firms, Small Firms, and the Governance of Flexible Specialization: The Case of Baden-Wurttemberg and Sociolized Risk, in B. Kogut, ed., Country Competitiveness: Technology and the Organization of Work ((New York: Oxford University Press, 1993), 15-35.
(41)P. Bianchi, , ‘’Levels of Policy and the Nature of Post-Fordism Competition, in M. Storper and A. J. Scott, eds., Pathways to Industrialization and Regional Development (London: Routledge, 1992), 303-315.
(42)A. M. Isserman, ‘’State Economic Development Policy and Practice in the United States: A Survey Article,’’ International Regional Science Review 16 (1994): 49-100; D. Osborne, Laboratories of Democracy (Boston: Harvard Business School Press, 1990); C. F. Sabel, ‘’Studied Trust: Building New Forms of Cooperation in a Volatile Economy, Human Relations 46 (1990): 1133-1170; J. Slifko and D. L. Rigby, Industrial Policy in Southern California: The Production of Markets, Technologies, and Institutional Support for Electric Vehicles, Environment and Planning A 27 (1995): 933-954.
(43)D. Woods,’’ The Crisis of Center-Periphery Integration in Italy and the Rise of Regional Populism: the Lombard League,’’ Comparative Politics 27 (1995): 187-203.
(44)A. Amin and N. J. Thrift, Institutional Issues for the European Regions: From Markets and Plans to Socioeconomics and Powers of Association, Economy and Society 24 (1995): 41-66.
(45)M. Castells and J. Henderson, ’’Techno-Economic Restructuring, SocioPolitical Processes and Spatial Transformation: A. Global Perspective, in J. Henderson and M. Castells, eds., Global Restructuring and Territorial Development (London: Sage, 1987): 1-17, quoted on 7.
(46) R. O’Brien, Global Financial Integration: The End of Geography (London: Pinter, 1992).


































الفصل الخامس
البساطة الإرادية:
هل هي حركة اجتماعية جديدة؟
أميتاي إتزيوني، جامعة جورج واشنطن
Amitai Etzioni, George Washington University

وصف البساطة الإرادية
إن فكرة بلوغ مستويات أرفع من الاستهلاك من السلع والخدمات هو هدف أبله كان معنا منذ بداية التصنيع. وقد أخذت هذه الأفكار، على الأكثر، صورة مقارنة الحياة الجذابة للحرفي ما قبل الصناعي، الأفقر، مع عامل خط التجميع، الأكثر تجهيزاً. وقد تم تقديم عدة طرق بديلة لدرس الحياة في إطار نظام رأسمالي منذ حلول الرأسمالية، وكان بعض هذه الطرق أكثر توفيقاً من غيرها. وإحدى هذه الطرق، التي يسميها أنصارها بالبساطة الإرادية voluntary simplicity، كانت وما تزال تنال القبول بصورة مطردة. وهذا الفصل يدرس هذه الاستراتيجية الحية من ناحية أهميتها السوسيولوجية كعامل موازنة ممكن للمجتمع الرأسمالي السائد.
منذ ستينات القرن العشرين، أصبح انتقاد النمط الاستهلاكي consumerism أمراً شائعاً بين أنصار الحركات ذات الثقافة المضادة، التي جاءت أساساً كرد فعل على تعاظم الإنفاق الاستلاكي في فترة ما بعد الحرب. وقد تطلعَ هؤلاء الأنصار إلى نمط للحياة من شأنه استهلاك وإنتاج القليل، على الأقل من الأشياء القابلة للتسويق، وتطلعوا لأن يستمدوا الإشباع، والمعنى، ووجود هدف ما، من التأمل contemplation، والتعايش مع الطبيعة، والتماسك، والمواد المنعِّشة، والجنس، والمنتجات الرخيصة(1): ومع مرور السنين، اعتنقَ الكثير في المجتمعات الغربية نسخة مخفَّفة من قيم وأخلاق الثقافة المضادة. وفي الواقع، تشير إحدى الدراسات إلى أن مواقف أمريكا الشمالية من المادية هي مواقف متغيرة. فمثلاً، "80 % ممن شملتهم الدراسة يعتقدون بأن الولايات المتحدة تستهلك الكثير جداً، وأن 88 % يعتقدون بأن حماية البيئة ستتطلب تغيرات كبرى في الطريقة التي نحيا بها(2)."
ويفترض بعض العلماء أن التحول في القيم، نسبةً إلى الجوانب المادية من الحياة، ينشأ كلما تنتقل المجتمعات من الحقبة الحديثة إلى ما بعد الحقبة الحديثة. وتحت هذه الفكرة، أشار أحد الكُتاب:
تحولت البلدان من عهد الحداثة إلى ما بعد الحداثة لأن العوائد (أو الغلة) المتناقصة من النمو الاقتصادي، والبيروقراطية، والتدخل الحكومي والمستويات غير المعهودة من الغنى والرفاهية والضمان، أفضت إلى مجموعة متألقة جديدة من القيم: التأكيدات ما بعد المادية على نوعية الحياة، والتعبير عن الذات، والمشاركة، والتدهور المستمر في القيم الاجتماعية التقليدية(3).
وهذا التغير يتأثر بـ "تبدل القيم عبر الأجيال" حيث يؤكد الأفراد، الذي يولدون ضمن مستويات عالية من الضمان المادي التي توفرت في الرأسمالية الديمقراطية المتطورة، على الرفاهية الذاتية (غير المادية): إذ أن التنشئة الاجتماعية socialization خلال سني التكوين قد خلقت توجهات متأصلة بعمق نحو القيم ما بعد المادية(4).
في المسح الذي أجراه الباحثان رونالد إنغلارت وبول أبرامسون، كانت نسبة من تجاوبَ مع القيم ما بعد المادية الواضحة قد تضاعفت من 9 % العام 1973 إلى 18 % العام1991، بينما هبطت نسبة ذوي القيم المادية الواضحة من 35 % إلى 16 % بين العاميْن المذكوريْن. (والآخرين الذين كانت لديهم آراء مختلطة زادت نسبتهم بشكل طفيف من 55 % إلى 65 %).(5) والاتجاهات كانت مماثلة لتلك القائمة في معظم بلدان غرب أوروبا(6).
ومع ذلك، فقد استمر الاستهلاك الشخصي بالزيادة بشكل مثير خلال الثمانينات. إذ زادت القروض الاستهلاكية من حوالي 350 بليون دولار العام 1980 إلى 1231 بليون دولار العام1997(7)، وقفزَ الإنفاق على الاستهلاك الشخصي من 3,009.9 إلى 4,471.1 ترليون (دولار حقيقي) بين العامين 1980 و 1994(8). وفي هذه الاثناء، هبطَ معدل المدخرات الشخصية لدى الأمريكان من 7,9 % العام 1980 إلى 4,2 % العام 1990، وبقى عند هذا المستوى منذ ذلك الحين(9). وفي هذا الصدد، لاحظَ المراقبون:
إن السياسات الاقتصادية وفق مبدأ عدم التدخل الحكومي وأسواق الأسهم والسندات الدولية الجديدة خلقت فورة من النقود السهلة بين الأثرياء الأمر الذي كان يعني: "اغنمْ الفرصة ما دمت قادراً"- وهو ما كان يتردد أثناء حفلات السمر للفئات الوسطى من المجتمع الاستهلاكي.. ومنذ سني عشرينات القرن العشرين the Roaring Twenties، لم يكن للاستهلاك المظهري هذا الثقل conspicuous consumption. فخلال ذلك العقد، لحقَ الدينُ الشخصي الدينَ العام في مستوياته العالية حيث ملأ المستهلكون بيوتهم وكراج سياراتهم بالسيارات، واليخوت، ولُعب التسلية، وأحواض السباحة(10).
ومع ذلك، فقد تواصلَ البحث عن بدائل لنمط المجتمع الاستهلاكي في فترات اشتّدَ فيها الاستهلاك المظهري، وهو مستمر بجذب الناس كأولئك المنخرطين الآن بطريقة البساطة الإرادية. طريقة البساطة الإرادية تشير إلى قرار بتحديد الإنفاق على السلع والخدمات الاستهلاكية والاهتمام بالمصادر غير المادية للإشباع والمعنى، وذلك انطلاقاً من الإرادة الحرة، وليس تحت ضغط الفقر، أو البرامج الصارمة للحكومة، أو في السجون. وقد وصفَ هذه الطريقة أحد أنصارها الرئيسين، الكاتب دوان الغن، كما يلي: "إنها طريقة للحياة بسيطة خارجياً وغنية داخلياً… اختيار واعي للحياة بما هو قليل على سبيل الاعتقاد بأننا سوف نستعيد المزيد من الحياة أثناء هذه العملية(11)."
وكما أشرتُ بالفعل، فإن انتقاد النمط الاستهلاكي consumerism والبحث عن بدائل له قديم قدم الرأسمالية نفسها. ومع ذلك، فإن القضية ذات صلة بحياتنا على نحو متزايد. لقد قاد انهيارُ الأنظمة غير الرأسمالية الكثيرين للاعتقاد بأن الرأسمالية هي النظام الأفضل وبالتالي الامتناع عن فحص أهدافه بصورة ناقدة، رغم أن الرأسمالية تضمر نواقص جدية. وتثير الكثيرَ من الاهتمام التطوراتُ الأخيرة في البلدان الشيوعية السابقة، وهي تتشبث بالسوق الحرة. فكثيرون في الشرق والغرب يجدون بأن الرأسمالية لا تهتم بالاعتبارات الروحية- البحث عن الصلات والمعاني الروحية- التي هي مهمة بالنسبة للجميع، في نظرهم(12). وعلاوة على ذلك، فلأن الكثير من المجتمعات ذات النمو السكاني العالي تتطلع إلى الغنى كهدف محلي رئيسي لها، فهي تواجه قضايا بيئية، ونفسية، وقضايا أخرى نتجتْ عن النمط الاستهلاكي بمستوى غير معهود من قبل. فمثلاً، أن الآثار الجانبية غير المرغوب بها للنمط الاستهلاكي التي تهتم بها المجتمعات عالية التصنيع بشكل رئيسي، باتت اليوم تواجه مئات الملايين من الناس في أقطار آسيا وأماكن أخرى التي شهدت تنمية اقتصادية سريعة في الفترة الأخيرة. وأخيراً، فإن الانتقال من الاستهلاك القائم على إشباع الاحتياجات الأساسية المعقولة (تأمين السكن والغذاء والكساء) إلى النمط الاستهلاكي (المبالغة بتحقيق مستويات أعلى من الاستهلاك، بما في ذلك مقدار كبير من الاستهلاك المظهري من السلع التي تدل على الوجاهة والمنزلة الاجتماعية) يبدو واضحاً أكثر كلما باتت المجتمعات أكثر غنى. وعليه، فإن إعادة فحص هذا الجانب من الرأسمالية الناضجة هو في محله تماماً. وفي الواقع، فإن البيئة الحالية للغنى الواسع والمتزايد يمكن أن تكون ملائمة بشكل خاص للأشكال المعتدلة من البساطة الإرادية.
سيجري هذا الفحص، أولاً، بوصف فكرة البساطة الإرادية، وإبراز مظاهرها المختلفة، وعلاقتها بالتنافس كلما جرى كبح الحاجة والدافع لكسب مستويات أعلى من الدخل. ثم يتم النظر فيما إذا كانت الدخول الأعلى، والاستهلاك الأكبر الذي تسمح به، تخلق رضا وقناعة أكثر contentment. وهذه قضية حاسمة لأنها تخلق عالماً من الاختلاف بالنسبة لمتانة فكرة البساطة الإرادية إذا فُهمت كحرمان يتولد (عن تخفيض الاستهلاك) وبالتالي تتطلب أسباباً قوية للإيمان بها حتى تنتشر وتتعزز، أو إذا كان النمط الاستهلاكي يُفهم كشيء يبعث القلق والهواجس وبالتالي يمكن أن يصبح بمثابة عادة وإدمان- وهي الحالة التي تكون فيها البساطة الإرادية عملاً تحريرياً وبالتالي يمكن أن يستمر ويتعزز ذاتياً. إن تطبيق نظرية عالم الاجتماع البارز أبراهام ماسلو عن الدوافع الإنسانية لها أهمية خاصة هنا في الإجابة على السؤال وفي تحديد مستقبل فكرة البساطة الإرادية كعامل ثقافي كبير. وهذه النظرية يعززها فحص "الاستهلاك" من السلع الفرعية التي لا يتحدد عرضها والطلب عليها بظروف الندرة في الحقبة ما بعد الحديثة. وينتهي الفصل بمناقشة للنتائج المجتمعية للبساطة الإرادية.
ثمة شكل معتدل للبساطة الإرادية يمارسه أفراد أثرياء، يتخلون بإرادتهم عن بعض السلع الاستهلاكية التي بوسعهم حالاً الحصول عليها لو أرادوا، ولكن يحافظون أساساً على النمط الذي يفضلونه هم للاستهلاك. فمثلاً، هم "يرتدون ملابس متواضعة" بصورة أو بأخرى أو يقودون سيارات قديمة.
وهذه الاتجاهات تنعكس في عودة نمط التسعينات إلى التصميم الكلاسيكي، "البسيط"، والأشكال الطبيعية، التي غالباً ما تكّلف الكثير أيضاً، رغم أنها تبدو أبسط. وكما كتبَ بيلار فيلادس: "في المعمار والتصميم اليوم، القليل كثير مرة أخرى. فالبيوت والغرف والأثاث اليوم أقل زخرفةً، وأقل تعقيداً، وأقل مظهريةً مما كانت عليه قبل عشر سنوات مضت. فبدلاً من وضع نقودهم في المعارض، يبدو أن الناس يستثمرونها في صنف أهدأ من الأشياء الكمالية، تبعاً للراحة والنوعية(13)."
وهذا الاتجاه، الذي يُشار إليه كاتجاه واقعي downshifting، متواضع في نطاقه، وربما لأنه متواضع، فهو غير مقتصر على الأثرياء جداً. ويعمد بعض المهنيين وأفراد من الطبقة الوسطى إلى استبدال حفلات العشاء الفاخرة بوجبات طعام بسيطة، أو تناول ما هو موجود في البيت من طعام pot-luck dinner، أو شراء طعام من محل ما وتناوله في البيت take-out food، أو مناسبات اجتماعية لا يُقدَم فيها غير الحلوى أو الفاكهة. ويُقال بأن بعض المحامين قد خفضوا من سعيهم ونشاطهم المهني مما حملَ بعض زملائهم على العمل ساعات أكثر في اليوم وفي عطلة نهاية الأسبوع للحصول على دخل أكثر ومكافأة أعلى في نهاية السنة ولنيل رضا المنشآت التي يعملون فيها(14). وقد شجعت بعض المنشآت درجات محدودة من البساطة الإرادية. فمثلاً، سمحتْ أماكن عمل كثيرة بارتداء "أي رداء" أيام الجمعة casual dress Fridays؛ وفي بعض الأماكن، وبخاصة في الساحل الغربي West coast، يمكن للعاملين ارتداء ملابس بسيطة في أي يوم عمل.
وهناك تقدير بأنه "بحلول العام 2000، فإن حوالي 15 % من الأمريكان سوف يراجعون نمط حياتهم بطريقة أو بأخرى(15)." وإن التغيرات الأخيرة الأكثر شيوعاً تتضمن تخفيض ساعات العمل، والتحول نحو أعمال ضئيلة الأجر، وترك العمل للبقاء في البيت(16)، وهي تغيرات قد ترتبط بالاتجاه الواقعي downshifting، ولكن ليس بالضرورة. وفي الواقع، وكما تبينَ من انتخابات العام 1996، فإن 48 % من الأمريكان قد قاموا بواحدٍ، على الأقل، مما يلي (بين العامين 1991 و 1996): تخفيض ساعات عملهم، تخفيض توقعاتهم لما يطلبون من الحياة، تخفيض تعهداتهم أو الانتقال لمجتمع يحيا حياة أقل قلقاً(17)." وفي تقرير آخر، ذكرَ "واحد من ثلاثة بالغين بأنه يفضل أجراً أقل مقابل الحصول على نمط حياة أبسط(18)."
وإضافة إلى ذلك، هناك أفراد تخلوا عن أعمال عالية- الأجر وكثيرة- الضغط والتوتر وقبلوا العيش بدخل أقل- وغالباً بدخل أقل بكثير. وفي حالة معينة، تخلى زوجان عن عملهما كمديريْن بمرتب عالٍ في صناعة الاتصالات، وهما يعيشان الآن على مدخراتهما وينفقان 25,000 دولار سنوياً، مكرسين وقتهما للكتابة والأعمال التطوعية(19).
إن الأفكار المرتبطة بالبساطة الإرادية يجري اعتناقها على نطاق واسع، ولو أن ذلك لا ينعكس بالضرورة على التصرفات الفعلية. وفي عام 1989، اعتبرت غالبيةٌ من الأمريكيين العاملين "الحياة العائلية السعيدة" مؤشراً مهماً للنجاح أكثر من "كسب المال الكثير"- حيث نال المؤشران ما نسبته 62 % و 10 % على التوالي(20).
وعلاوة على ذلك، فالكثير من النساء وبعض الرجال يفضلون الأعمال التي تمتد لأقل من يوم العمل part-time jobs أو الأعمال التي يمكن إنجازها وهم في البيت، حتى إذا كان بوسعهم الحصول على أعمال كاملة وبمرتب أفضل لأنهم يريدون الانسجام مع أنفسهم والقبول بدخل أقل في سبيل تخصيص وقت أكثر لأطفالهم والتواجد في البيت حينما يكون الأطفال هناك(21). كما يندرج ضمن هذه الفئة أيضاً، الأفراد الذي ينتقلون لأعمال أخرى لها معنى أكثر بالنسبة لهم، مع أن مردودها المالي أقل. فمثلاً، أُشير في العام 1997 إلى "إن موجات متزايدة من المهندسين، وضباط الجيش، والمحامين، ورجال الأعمال، ينتقلون لأعمال جديدة ويصبحون معلمين(22)." وهؤلاء الذين يغّيرون أعمالهم قد أعادوا تعريف مواقفهم من العمل بصورة لها مغزى. وهم يسألون أنفسهم، كما صاغها عالم النفس باري شاورتز، السؤال الحاسم التالي: "لماذا سمحَ كثيرون منا لأنفسهم أن نكون في موقع أنفقنا فيه نصف عمرنا نعمل ما لا نحب عمله في مكان لا نحب أن نكون فيه؟(23)."
إن الأفراد الذين يخفضون، طوعاً وبدرجة كبيرة، من دخولهم يميلون إلى أن يكونوا متبسِّطين أقوى من أولئك الذين يعدّلون فقط نمط حياتهم لأن التخفيض الكبير في الدخل غالباً ما يقود إلى "تبسيط" شامل لنمط الحياة أكثر مما يفعل الاتجاه الواقعي الانتقائي. ففي حين يمكن للفرد الغني أن يتوقف نهائياً عن العمل ويبقى، مع ذلك، يعيش على نمط حياة الأغنياء، ولفرد أخر لا يخفض دخله أو دخلها لكي يخفض استهلاكه بصورة مثيرة، فالمتوقع من الأفراد الذين يخفضون دخولهم بدرجة كبيرة أن يتبسّطوا أكثر من الأفراد الذين يعدلون فقط من استهلاكهم. فحالما يخفض الأفراد من دخولهم، يترتب عليهم تعديل استهلاكهم، ما لم تكن لديهم مدخرات كبيرة أو أرث جديد أو دخل من نوع ما لا يرتبط بالعمل.
الأفراد الذين يعدلون نمط حياتهم فقط أو بشكل رئيسي بسبب الضغوط الاقتصادية (كفقدان عملهم الرئيسي أو الثاني، أو لأي سبب آخر) لا يصلحون كمتبسطين إراديين لأن تحولهم لم يكن اختيارياً. قد يُقال بأن بعض الفقراء يختارون بحريّتهم أن لا يكسبوا الكثير ويُبقون استهلاكهم ضئيلاً. ومع ذلك، فإن كثيراً من المدافعين عن البساطة الإرادية يعانون عند تمييز هذا النمط من الحياة عن الفقر، ويؤكدون على أن الفقر هو حياة الضعفاء في حين أن البساطة الإرادية تعني التأهيل empowering. وكما يقول الغن، فإن: "الفقر ليس اختياراً، بينما البساطة اختيار واعٍ. الفقر كابح بينما البساطة عمل تحريري liberating. الفقر يولد معنى الضعف، والسلبية، واليأس، في حين أن البساطة ترّبي التأهيل الشخصي personal empowerment، والإبداع، ومعنى الفرصة المتاحة على الدوام(24)."
ومع ذلك، فالمناقشة هنا تدور عن الأفراد الذين يمتلكون نمطاً ثرياً ويختارون التخلي عنه لأسباب ستتضح عند نهاية هذه المناقشة.
أخيراً، فإن المتبسطين القديسين يعدلون كل أنماط حياتهم وفقاً لمعايير البساطة الإرادية. غالباً ما ينتقل كثيرون من الضواحي الغنية أو الأحياء الأرستقراطية من المدن الكبرى إلى مدن أصغر، الريف، الحقول، وأجزاء من البلد أقل ثراءً أو أقل تحضراً- الغرب الشمالي الباسيفيكي معروف بشكل خاص- مع هدف صريح وهو مباشرة حياة "أبسط"، رغم أن أنصار فلسفة البساطة الإرادية يسارعون للتأكيد على أن هذه الفلسفة هي استراتيجية حية قابلة للتطبيق في أي بيئة. ثمة حركة اجتماعية صغيرة، مترابطة بصور رخوة، تسمى أحياناً "حركة الحياة البسيطة"، قد تطورت- تماماً مع كتبها الخاصة وبرامجها متعددة الخطى وكُتابها، مع أن الكثيرين باشروا حياة البساطة الإرادية بصورة مستقلة، وأن بعض التقارير تشير إلى أن الكثيرين ممن "يجربون بساطة الحياة قالوا بأنهم لم يعتبروا أنفسهم جزءاً من حركة اجتماعية(25)."
إن المتبسطين الحقيقيين simplifiers true يختلفون عن الواقعيين downshifters وحتى عن المتبسطين الأقوياء strong simplifiers ليس فقط في حجم التغير في سلوكهم، بل أيضاً في أن فلسفة مترابطة بشكل متماسك تحركّهم. إن كتاب الغن: Voluntary Simplicity، 1981(الذي يقوم على تقاليد مجتمع الصحابة Quakers، والبيوريتانيين Puritans، والروحيين transcendentalists مثل رالف والدو امرسن Ralph Waldo Emerson وهنري دافيد ثورو Henry David Thoreau، ومختلف الأديان العالمية، لتقديم أساس فلسفي لكي يحيا المرء حياة بسيطة) ما يزال يشكل المصدر الأكبر للإلهام لدى أنصار البساطة الإرادية(26). وفي الواقع، فإن كثيرين يعتقدون بأن حركة البساطة ككل تدين للكثير من ديانات العالم الكبرى والتقاليد الفلسفية. وكما لاحظ المؤرخ الاجتماعي دافيد شي:
إن كبار المعلمين الروحيين للشرق- زارادشت، بودا، لاو- تسي وكونفوشيوس- أكدوا كلهم على أن السيطرة الذاتية المادية كانت أساسية بالنسبة للحياة الصالحة… ومع ذلك، ولحد الآن، فإن التأثير التاريخي الأهم على فلسفة البساطة الأمريكية كان هو الإرث المشترك للحضارة الإغريقية- الرومانية والأخلاق اليهودية-المسيحية. وقد شدّدَ معظم فلاسفة الإغريق والرومان على إطراء الحياة البسيطة، كما كان شأن أنبياء اليهود والمسيح(27).
إن هذه الفلسفات ذات التوجه للبساطة هي، في الغالب، معادية للنمط الاستهلاكي بشكل صريح. فالغن، مثلاً، يدعو إلى "تغيرات مثيرة في كل مستويات وأنماط الاستهلاك في البلدان المتطورة"، مضيفاً بأن "ذلك سوف يتطلب تغيرات مثيرة في رسائل النمط الاستهلاكي التي نقدمها لأنفسنا عبر وسائل الإعلام(28)." وفي عام 1997، قدمت هيئة الإذاعة العامة برنامجاً خاصاً اسمه Affluenza وقد ذُكر بأن فلسفة البساطة الإرادية تقدم معالجة لـ "وباء" أعراضه هي: "حمى التسوق، وطفح الدين الشخصي، والتوتر المزمن، والإجهاد واستنزاف الموارد الطبيعية". وقد وعدَ البرنامج بالقيام بمتابعة "حياة أفضل بتكلفة أقل". وقد نشرَ مركز الحلم الأمريكي الجديد تقريراً دورياً حول نفس القضايا اسمه، ببساطة، Enough (كفى). والرسالة القائلة بأن تخفيض الممارسات الاستهلاكية الضارة أمر جوهري قد رددّتها مستويات عالمية كما تشهد على ذلك التأكيدات التالية التي صدرت عن مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة، العام 1992، في ريو Rio: "لتحقيق التنمية المستديمة ونوعية أرفع للحياة لكل الأفراد، ينبغي على الدول تخفيض وإلغاء الأنماط غير المتينة للإنتاج والاستهلاك(29)."
ومع أن المرء يمكنه حالاً كتابة نبذة عن الأنواع المختلفة من المتبسطين، فليست هناك قياسات يُعتمد عليها لإثبات عدد كل واحد من الأنواع الثلاثة من المتبسطين وتحديد ما إذا كانت أعدادهم في تزايد. ومع ذلك، فهناك دراسة أخيرة تقّدر بأن حوالي واحد من كل أربعة أمريكان بالغين، الذين يبلغ عددهم 44 مليون نسمة، هو "مبدع حضاري" Cultural Creative يثّمن فلسفة البساطة الإرادية عالياً ضمن قيمه أو قيمها(30).

المضامين الاجتماعية للبساطة الإرادية
إن مسألة ما إذا كانت فلسفة البساطة الإرادية قادرة بقوة على أن توّسع مداها تعتمد، إلى حد بعيد، على ما إذا كانت هذه الفلسفة تشكل تضحية ما بحيث يترتب على الناس أن يكونوا متحفزين motivated (بمعنى أن يكون لديهم حافز أو دافع) على الدوام لتقديمها أو أنها هي نفسها مصدر هائل للإشباع وبالتالي فهي تحفز نفسها بنفسها self-motivating.
النمط الاستهلاكي تبرره أساساً الفكرة القائلة بأنه كلما استهلك الفرد سلع وخدمات أكثر، زادَ إشباعه. وقد تصورَ الاقتصاديون الأوائل بأن المرء لديه مجموعة ثابتة من الاحتياجات، وكان يقلقهم الدافع الذي يمكن أن يدفع الأفراد للعمل والادخار إذا كان دخلهم يسمح لهم بتلبية تلك الاحتياجات. وعلى أي حال، وكنتيجة لذلك، كان هناك اتفاق واسع على أن الاحتياجات يمكن زيادتها بصورة اصطناعية من خلال الدعاية والضغوط الاجتماعية. وعليه، قيل بأن الاحتياجات الاستهلاكية للأفراد إن لم تكن غير محدودة، فهي قابلة جداً للزيادة، على الأقل.
وبخلاف ذلك، يشير النقاد إلى أن عبادة السلع الاستهلاكية (الأشياء) تَحوْل بين الأفراد والقناعة contentment، وتمنع الأفراد من تجريب التعبيرات المؤكدة للعاطفة وتقدير الآخرين. الثقافة الشائعة في الغرب تزخر بالقصص عن الآباء (في العهود الأولى)، والأمهات أيضاً في الفترة الأخيرة، الذين كانوا يكدحون لجلب السلعة الاستهلاكية للبيت- ولكنهم، بعد أن خذلهم أطفالهم وأزواجهم، وجدوا بعد فوات الأوان في الغالب، أن وضع العائلات كان سيتحسن لو أن كاسبي الرزق أنفقوا وقتاً أكثر معها وأظهروا لها العاطفة والتقدير (أو التعبير عن مشاعرهم بصورة مباشرة من خلال الاهتمام والملازمة، والعناق والربت على الكتف، بدلاً من التعبير عن ذلك بشيء آخر بواسطة العمل الجهيد والطويل بغية شراء الأشياء). ويعتبر عمل الكاتب المسرحي أرثر ميلر: Death of a Salesman مثالاً معبراً عن هذا النوع. وما يزال عمل ميلر عملاً هاماً، كما يشهد على ذلك الإقبال الشعبي على عمل نيل سيمون Proposals، كتجديد لعمله.
يبدو أن مكتشفات العلم الاجتماعي (التي تتضمن، على نحو لا يمكن إنكاره، نواقص معروفة كثيرة ولا ترتبط كلها بهذا الموضوع) تدعم كلياً in toto الفكرة القائلة بأن الدخل لا يؤثر كثيراً على القناعة، مع الاستثناء الهام المتعلق بالفقراء. فمثلاً، وجدَ فرانك أ. أندريس وستيفن ب. وتي بأن المنزلة الاجتماعية-الاقتصادية للمرء لها أثر ضئيل على "شعوره بالرفاهية" وليس لها أي أثر هام على "رضاه بالحياة عموماً(31)." كما اكتشف جوناثان فريدمان أن مستويات السعادة المسجَّلة لم تتغير بقوة بين أفراد من طبقات اقتصادية مختلفة، مع استثناء الفقراء جداً، الذين يميلون لأن يكونوا أقل سعادة من الآخرين(32).
وقد وجدَ الباحثان دافيد جي. ميرز وإد دينر بأنه بين الفقراء في البلدان الفقيرة- أي التي لا تستطيع أن تحصل على الأشياء الضرورية للحياة- فإن الإشباع بواسطة الدخل هو "مؤشر متواضع" للرفاهية الذاتية(33). ومع ذلك، يذكران بأنه "بمجرد أن يصبح الأفراد قادرين على الحصول على الأشياء الضرورية للحياة، فإن تزايد مستويات الغنى تؤثر قليلاً، وهو استنتاج مفاجئ(34)." كما وجد داينر ور. ج. لارسن أن "هناك مجرد ارتباط ضئيل بين الدخل والسعادة قدره + .12"، وكشفا عن عدم وجود تأثير طويل الأمد لزيادة أو انخفاض الدخل على السعادة(35).
وقد كشفَ مسح الأفراد الذي قامت به مؤسسة Forbes لقائمة أغنى الناس في أمريكا بأن هؤلاء الأفراد لم يكونوا أكثر سعادة من بقية الأمريكان بشكل حقيقي؛ وفي الواقع، فإن 37 % منهم ذكروا بأنهم أقل سعادة من الفرد الأمريكي المتوسط، وهو رقم يشير إليه أيضاً ميرز وداينر(36). وحتى مع زيادة الدخل الشخصي في الولايات المتحدة من 4000 دولار تقريباً (بدولارات عام 1990) عام 1930 إلى 16000 دولار تقريباً (بدولارات العام 1990) في أوائل التسعينات، فإن نسبة الأفراد الذين يصفون أنفسهم "سعداء جداً" عموماً تتأرجح بين 30-35 % (37).
ويشير الباحث أنغوس كامبل إلى أن مسحاً يغطي 20 سنة كشف بأن "نسبة الأفراد ‘السعداء جداً’ تزداد كلما انتقلنا من مستويات الدخل الواطئة إلى العالية"، ولكنه كان حريصاً على الإشارة إلى أن هذه هي علاقة مستقرة جداً، ولكنها ليست استثنائية قط. فحتى بين أكثر الناس غنى، هناك غالبية كبيرة من الأفراد ممن يصفون أنفسهم أقل سعادة من السعداء جداً، وهناك غالبية هامة من الأفراد الأقل غنى يؤكدون بأنهم سعداء جداً(38)." وكما يلخص هو، "فالسعادة أبعد من أن تقتصر على الأغنياء فقط(39)."
إن دراسة غنى البلاد تشير إلى أن النمو الاقتصادي لا يؤثر على السعادة بصورة ملموسة (رغم أن الأفراد في البلدان الفقيرة، في أي وقت محدد، أقل سعادة من الأفراد في البلدان الغنية على العموم). وكما يذكر الباحث في معهد المتابعة العالمي، الان دورننغ،" فإن الناس في التسعينات أغنى في المتوسط بمقدار أربعة مرات ونصف من أجدادهم عند بداية هذا القرن، ولكنهم ليسو أكثر سعادة منهم بمقدار أربع مرات ونصف. وتشير الأدلة النفسية إلى أن العلاقة بين الاستهلاك والسعادة الشخصية ضعيفة(40)." وإضافة إلى ذلك، فقد ذُكر بأن متوسط الدخل الشخصي القابل للتصرف (بعد الضريبة)، المحسوب بالدولارات المعدَّلة بسبب التضخم، قد تضاعفَ مرتين بالضبط تقريباً بين العامين 1960 و 1990؛ ومع ذلك، فإن 32 % من الأمريكيين كانوا، كما قُيل، ‘سعداء جداً’ العام 1993، وهي النسبة نفسها تقريباً العام 1957 ( 34%). ورغم أن النمو الاقتصادي قد تباطأ منذ منتصف السبعينات، فإن سعادة الأمريكيين ظلت على حالها بشكل ملحوظ (بين - 30 35تقريباً على الدوام) في كل من فترتي النمو العالي والنمو المنخفض. وعلاوة على ذلك، ففي الفترة نفسها، من أواخر الخمسينات إلى بداية التسعينات، فإن معدلات الانكماش، وجرائم العنف، والطلاق، والانتحار، كلها قد زادت بشكل مثير(41).
بل أن الدراسات النفسية الأخيرة تطرح تأكيدات أقوى: كلما زاد قلق الأفراد على ثرائهم المالي، قلتْ سعادتهم. وقد وجدت مجموعة من الباحثين بأن "الطموحات المركزية العالية للنجاح المالي… كانت ترتبط بتحقيق أقل للذات less self-actualization، وبحيوية أقل، وكآبة أكثر، وقلق أكثر(42)."
وقد أشار باحث آخر، روبرت لان، إلى:
تتفق معظم الدراسات على أن الحياة العائلية المرضية هي المساهمة الأهم بالنسبة للثراء… وأن بهجة الصداقة تأتي بالمرتبة الثانية، في الغالب. وفي الواقع، وفقاً لإحدى الدراسات، فإن عدد أصدقاء المرء هو مؤشر أفضل من حجم دخله بالنسبة للثراء. إن العمل المرضي ووقت الفراغ غالباً ما تأتي كعامل ثالث أو رابع، ولكن ليس لأي منهما ارتباط قوي بالدخل الفعلي، لغرابة الأمر(43).
إن الزيادات في الدخل الفردي تزيد السعادة قليلاً، ولكن السعادة الإضافية يتعذر دوامها لأن مستوى الدخل الأعلى يصبح هو الأساس الذي يقيس الناس إنجازاتهم المستقبلية وفقاً له(44).
إن هذه المكتشفات، وغيرها، تثير السؤال التالي: إذا كانت المستويات الأعلى للدخل لا تجلب السعادة، فلماذا يعمل الأفراد كثيراً لكسب دخول أعلى؟ الجواب معقد. إن الدخل العالي في المجتمعات الرأسمالية القائمة على الاستهلاك "يشتري" buys المنزلة؛ وإن الناس الآخرين يجدون هدفاً ومعنى ورضا في العمل المنتِّج للدخل بحد ذاته. ومع ذلك، فهناك أيضاً سبب جيد للقول بأن الخليط من الخلق الاصطناعي للاحتياجات والضغوط الثقافية الأخرى، والذي يتجلى في وسائل كصناعة التسويق الأمريكية الهجومية، يُبقي الأفراد في أدوار المستهلكين حينما لا تكون هذه الأدوار مقبولة بشكل حقيقي أو عميق. وكما قال المؤرخ الاجتماعي روبرت بيلاه، "كون السعادة ينبغي الحصول عليها من خلال الأشياء المادية غير المحدودة هو أمر تنكره كل الأديان والفلسفات التي يعرفها المرء، ولكن التلفزيونات الأمريكية تبشر به دون توقف(45)."
إن فكرة البساطة الإرادية تعمل لأن الاستهلاك الأقل، حالما تتم تلبية الاحتياجات الأساسية التي تجعل الحياة مريحة، لا يتسّبب في أي حرمان إذا تحررَ المرء من ثقافة النمط الاستهلاكي وما يتضمنه من "احتياجات" مفتعلة. البساطة الإرادية تمثل ثقافة جديدة، ثقافة تحترم العمل (حتى إذا كانت لا تخلق سوى دخل ضئيل أو متواضع)، وتثمن الحشمة والتواضع بدلاً من الاستهلاك المظهري أو المسرف، ولكنها لا تدافع عن حياة التضحية أو الخدمة (وبهذا المعنى، فهي تختلف عن ترتيبات الزهد الدينية أو بعض التعبيرات الاشتراكية، كما في الكيبوتزات (kibbutzim. البساطة الإرادية تفترض أن الإشباع الحدي يتناقص كلما تواصلت الزيادة في مستويات الاستهلاك. وهي تعِّين مصادر الإشباع في الامتناع الواعي والإرادي للمرء عن السعي لتحقيق مستويات أكثر من الثروة والاستهلاك، وأن يجعل من تحقيق الأغراض الأخرى مشروعه الشخصي والاجتماعي. والأغراض الأخرى هذه غير معرَّفة على نحو محدد باستثناء كونها غير مادية. وفي الواقع، فبمجرد أن يجد بعض الناس إشباعهم في العمل والتوفير، وليس في القوة الشرائية، فإن بعض أنصار البساطة الإرادية يجدون الإشباع في نفس واقعة قيامهم باختيار (لا أن يُجبروا على اختيار) نمط حياة أبسط وبأنهم فخورن بهذا الاختيار. وعلاوة على ذلك، ونظراً لأنهم يتعلمون الاهتمام بالأغراض الأخرى، فإن المتبسطين يحققون المزيد من الإشباع من خلال التعلم طوال الحياة، والاهتمام بالشأن العام، والعمل التطوعي، والمشاركة في النشاطات الاجتماعية، والرياضة، والنشاطات الثقافية، وتأمل الطبيعة أو التعايش معها.
وفي كل واحدة من هذه المناطق، يتراجع بعض المتبسطين نحو النمط الاستهلاكي بتأثير أنصار السوق الحرة marketeers. وهكذا، فإن المهتمين بالرياضة يمكن أن يشعروا بأنهم "يحتاجون" مجموعة كبيرة من الملابس والمعدات الغالية، والمتغيرة على الدوام، والتي تجاري المودة، للاستمتاع برياضة الاختيار لديهم. ولكن عدداً هاماً من أعضاء الطبقات الثرية في المجتمعات الثرية- وبخاصة المجتمعات التي كانت غنية لفترة من الزمن، كما يبدو- يجدون بأن في وسعهم إبقاء النمط الاستهلاكي تحت السيطرة، وأنهم يتعلمون بشكل حقيقي الاهتمام بالمصادر قليلة- التكلفة للقناعة والمعنى. فهم يستمتعون بلعبة كرة القدم، وارتداء زوج جيد من الأحذية، وإنجاز أعمال التصليح المنزلي والطبخ، أو التنزه بسيارتهم القديمة والمهَشمة.
إن الطابع الباعث للهواجس لبعض النمط الاستهلاكي يتجلى بوضوح في أن الأفراد الذين يحاولون كبحه غالباً ما يجدون صعوبة في عمل ذلك. إذ يشتري أفراد كثر أشياء معينة ثم يكتشفون فيما بعد أنهم لا يحتاجونها ولا يرغبون بها، أو أنهم لا يتوقفون عن الشراء إلاّ بعد استنفاد كل مصادرهم الائتمانية. (الإشارة هنا ليس للفقراء، بل لمن يمتلكون عدة بطاقات ائتمانية ويسحبون أقصى ما يُسمح لهم بواسطتها). وباختصار، إن التحول للبساطة الإرادية من قبل عدد كبير من الأفراد يستلزم الأخذ بالاعتبار حقيقة أن الاستهلاك الدائم لا يمكن إيقافه ببساطة، وبأن المساعدة المؤقتة قد تكون ضرورية، وبأن التحول يتحقق بأحسن صورة حينما يتم استبدال النمط الاستهلاكي بالمصادر الأخرى للقناعة والهدف.

أبراهام ماسلو
المالكون- والمحرومون والبساطة الإرادية
رأينا أن هناك سبباً للافتراض بأن الاستثمار النفسي المستمر في تحقيق مستويات متزايدة دوماً من الاستهلاك هو بمثابة إدمان وعادة غير سارة. فالأفراد يحاولون شراء وتكديس سلع أكثر بغض النظر عما إذا كانوا يحتاجونها (بأي معنى لهذا المصطلح) أم لا. وهذا يعني بأن البساطة الإرادية، التي هي أبعد من أن تسبّب الإجهاد والتوتر stress، هي مصدر لإشباع أكثر عمقاً. وهذه النقطة يعززها أكثر فحص مضامين نظرية ماسلو من هذه النواحي.
إن ظهور فكرة البساطة الإرادية في المراحل المتقدمة من الرأسمالية، وللأعضاء الموسرين من هذه المجتمعات، يمكن تقييمها في ضوء النظرية النفسية لأبراهام ماسلو التي ظهرت بتفاصيلها، بشكل خاص، في عمله: Toward Psychology of Being a. يكتب ماسلو هناك: "إن الدوافع الأساسية تقدم هرمية جاهزة من القيم التي ترتبط بعضها ببعض كاحتياجات عليا واحتياجات دنيا، أقوى وأضعف، حيوية وزائدة"، وهي مرتَّبة "على شكل هرم متكامل.. أي تقوم كل واحدة على الأخرى(46)." في قاعدة الهرم، توجد الاحتياجات الأساسية كالحاجة للغذاء، والإيواء، والكساء. وفي مكان أعلى، الحاجة للحب والاحترام. إلى أن يتوج التعبيرُ عن الذات self-expression هذا الهرم. ورغم وجود بعض الصلات، فإن هذه الاحتياجات لا ترتبط بمفهوم فرويد الكلاسيكي عن "الدوافع" instincts.
ويشير ماسلو إلى أن الأفراد يحاولون تلبية الاحتياجات الأدنى قبل الالتفات لحاجاتهم الأعلى، وإن: الناس الأصحاء قد أشبعوا بشكل كافٍ حاجتهم للأمان، والانتساب، والحب، والاحترام، وإجلال الذات بحيث أن ما يحفزهم أساساً هو اتجاهات تحقيق الذات self-actualization (معرَّفاّ كتحقيق متواصل للأشياء الكامنة، والقابليات والمواهب، كإنجاز لرسالة [أو نداء، مصير، هدف، أو نداء باطني]، كمعرفة أكمل للطبيعة الداخلية للمرء نفسه والقبول بها، كتوجه لا نهاية له نحو الوحدة، التكامل أو الالتحام في داخل الفرد)(47),
ومع ذلك، فإن نظرية ماسلو لا تفترض بأن الحاجات الأساسية قد حلّت محلها حاجات أعلى عليا. يقول ماسلو: "فالنمو هو ليس فقط إشباع متواصل للحاجات الأساسية إلى أن "تختفي،" بل أيضاً، وبالتحديد، دوافع نامية إضافةً إلى هذه الحاجات الأساسية… وبذلك، نتلقى مساعدة لإدراك أن الحاجات الأساسية وتحقيق الذات لا يناقض أحدهما الآخر بأكثر ما تناقض الطفولةُ مرحلةَ النضوج(48)." القضية الأساسية، الهامة هنا، هي ما إذا كان الناس يواصلون استثمار أنفسهم بقوة في طلب "وسائل الراحة" حتى بعد أن أصبح لديهم الكثير من هذه الأشياء، وحتى إذا جرى، في سياق العملية، إهمال أو التقليل من شأن حاجات أخرى كتبادل العواطف أو العناية بالآخرين.
وتنسجم موضوعة ماسلو مع الإيحاء القائل بأن فكرة البساطة الإرادية تناشد الناس بعد أن تكون حاجاتهم الأساسية قد أُشبعت. فبمجرد أن يطمئنوا إلى أن هذه الحاجات سوف تُضمَن في المستقبل، فأنهم يصبحون جاهزين موضوعياً للتركيز على حاجاتهم الأعلى- أي "تحقيق ذواتهم"- حتى إذا أعمتهم ميولهم للنمط الاستهلاكي عن رؤية حقيقة أنهم أصبحوا جاهزين للانتقال للأعلى، إذا صح القول. وهكذا، فالبساطة الإرادية هي خيار المحامين الناجحين في شركة أعمال، وليس خيار المتشردين، خيار سنغافورة وليس رواندا. وفي الواقع، فإن حث الناس الفقراء أو أشباه الفقراء على انتزاع الإشباع من الاستهلاك الأقل هو بمثابة إهمال للصلة العميقة بين التسلسل الهرمي للحاجات الإنسانية والاستهلاك. فالاستهلاك يستحوذ على نحو ما يتعذر قهره إلاّ بعد إشباع الحاجات الأساسية.
النمط الاستهلاكي يمتلك جانباً بارزاً له أهمية خاصة هنا. النمط الاستهلاكي يعزز ويديم نفسه لأنه مرئي، جزئياً. فالأفراد ‘الناجحون’ بمعايير الرأسمالية التقليدية يَلزمهم إرسال إشارة عن إنجازاتهم بطرق ملموسة بالنسبة للآخرين لنيل تقديرهم، واستحسانهم، واحترامهم. وهم يحققون ذلك بواسطة إظهار دخلهم من خلال شراء السلع الغالية التي تدل على المنزلة والوجاهة، كما أثبتَ ذلك الناقد الاجتماعي فانس باكارد منذ عدة عقود خلت(49).
الناس المندمجين جيداً داخل النظام الرأسمالي غالباً ما يعتقدون بأنهم يحتاجون الدخل لشراء الأشياء التي "يحتاجونها" (أو أنهم "لا يستطيعون تحقيق أهدافهم" دون دخل إضافي). ولكن فحص مشتريات الأفراد الذين هم ليسو فقراء أو أشباه فقراء يبين أنهم يشترون مواد كثيرة غير ضرورية للبقاء ولكنها ضرورية لتلبية متطلبات المنزلة والوجاهة. وهذا هو الدور السوسيولوجي لزوج من أحذية نايك Nike، أو السترة الجلدية، والكساء الفرو، والمجوهرات، والساعات الفاخرة، والسيارات الغالية، وسلع كثيرة أخرى، وكل المواد المرئية بشكل ملموس جداً من قبل الناس الذين هم ليسوا أعضاءً في مجتمع الفرد المعني وبالتالي لا يعرفونه شخصياً. فهذه السلع تسمح للأفراد بإظهار حجم دخلهم وثروتهم دون حاجة لوضع قوائم دخلهم المحاسبية على رقعة مكتوبة.
في هذه الثقافة، حينما يختار الناس عملاً أو نمطاً معيناً لعمل من النوع الذي لا يحقق أعلى دخل ولكنه عمل بسيط إرادياً، فليس لدى الناس وسائل مجرَّبة لإرسال إشارة بأنهم يختارون هذا العمل، وأنهم غير مكرهين عليه، وأنهم لم يسمحوا لأخلاق المجتمع الرأسمالي أن تخذلهم. فليست هناك رقعة مكتوبة تفيد: "كان بوسعي، ولكني فضلتُ غير ذلك". البساطة الإرادية تستجيب لهذه الحاجة إلى التمييز في المنزلة دون استهلاك مظهري غالٍ وذلك باختيار سلع استهلاكية ذات تكلفةٍ أقل ولكنها مرئية بحيث تمكّن المرء من إرسال إشارة تفيد بأن المرء قد اختار نمطاً للحياة أقل ثراءً، وإنه لم يُكره عليه.
البساطة الإرادية تحقّق ذلك باستعمال سلع استهلاكية مختارة، ترتبط بوضوح بنمط حياة أبسط، وهي مرئية بقدر ما يتعذر عرض رموز المنزلة التقليدية andlor من قبل أولئك الذين خفضوا استهلاكهم لتدني دخلهم فقط. إن تحديد المواد الاستهلاكية المعينة التي ترمز للبساطة الإرادية مقابل البساطة القسرية هو موضوع يتغير خلال الزمن ويختلف من ثقافة إلى أخرى. ويسّمي البعض هذه الممارسة بـ "عدم الاستهلاك المظهري" conspicuous non-consumption(50). وبهذا الشكل، فإن المتبسطين الإراديين يمكنهم إشباع ما يعتبره ماسلو حاجةً إنسانية أساسية أخرى، ألا وهي نيل تقدير الناس الآخرين، دون استعمال مستوى استهلاك عالٍ- ومتزايد دوماً- باعتباره وسيلتهم الرئيسية لكسب الانتقاد الإيجابي.
وهذه الفكرة لها أهمية كبيرة عند تناول البساطة الإرادية ليس كمجرد ظاهرة تجريبية، كنمط يستعمله العلم الاجتماعي للملاحظة والتحليل، بل أيضاً كمجوعة قيم لها مدافعين ويمكن محاكمتها من خلال الموائمة الأخلاقية لتلك القيم. وكما أرى، فإن المدافعين عن فكرة البساطة الإرادية يخاطبون مَن هم في الأقسام الأعلى من الدخل، أولئك الموسرين، ولكن الثابتين عند المستوى الأساسي المحقِّق لوسائل الراحة creature-comfort level؛ فهذه الفكرة قد تساعدهم على تحرير أنفسهم من الزيادة المفتعلة لهذه الاحتياجات الأساسية وتُعيْنهم على الانتقال لمستويات أعلى من الإشباع. ونفس الدفاع، الموجَه للفقراء وأشباه الفقراء (أو المجموعات المحرومة من الميزة disadvantaged groups أو البلدان ‘المحرومة’ countries‘ have-not’)، قد يُنظر إليه بحق كمحاولة للتنكر لحقها في إشباع الحاجات الإنسانية الأساسية. إن النمط الاستهلاكي، وليس الاستهلاك، هو هدف البساطة الإرادية.
ومن الغريب، فإن التطور الهائل الناجم عن الابتكارات التكنولوجية يتيح إمكانيةً أكبر لتوسع البساطة الإرادية، وفرصةً للفئات الأقل ثراءً والمحرومة أن تغنم شيئاً من هذه العملية. وعند درس هذا التطور، سوف أركز أولاً على طبيعة الأشياء غير النادرة، ومن ثم انتقل لمضامينها بالنسبة لإعادة تخصيص الثروة.

البساطة الإرادية في عصر الاتصالات الإلكترونية
لقد جرت المحاجة لعقود بأن المجتمعات المتطورة تنتقل من الاقتصاديات التي تعتمد بقوة على القطاع الصناعي إلى اقتصاديات تعتمد بشكل متزايد على صناعة المعلومات(51). إن نطاق هذا الانتقال ومضامينه غالباً ما تُقارن بتلك المجتمعات التي جرّبتْ الانتقال من الزراعة إلى الصناعة. تنبغي ملاحظة أن هناك الكثير من المبالغة الخطابية في هذه التعميمات. فالحاسوبات، مثلاً، تُصنف كمادة كبرى في صناعة المعرفة المتزايدة أكثر مما هي صناعة تقليدية. ومع ذلك، فحالما تتم برمجة وتصميم حاسوب محدد، وبعد أن يتم تجريب النموذج وإزالة نواقصه، فإن الروتين المتبع بحزم ملايين الألواح الخشبية في ملايين من الصناديق لصنع الحاسوبات الشخصية لا تختلف كثيراً عن صناعة الشاويات الكهربائية، مثلاً. وبينما يجري الآن في الغالب تصنيف ناشري الكتب كجزء من صناعة المعرفة، وأن الحاسوبات تستعمل على نطاق واسع لصنع الكتب، فإن الكتب ما تزال كأشياء يتم عملها وشحنها وبيعها كغيرها من المنتجات الصناعية غير المعرفية. إن طرح هذه الأمثلة عن المبالغة في المطالبات ليس المقصود منه إنكار حصول تحول كبير، بل القول فقط بأن نموه ونطاقه أبطأ وأقل إثارة مما كان متوقعاً أصلاً. وفي الواقع، وعلى فرض معدل التغير الأبطأ هذا، فإن المجتمعات قادرة على مواجهة التشعب على نحو نظامي أكثر.
إن الأهمية الرئيسية لظهور عصر الاتصالات الإلكترونية هي أن التقلص الناتج في الندرة يعزز إمكانية توسع فكرة البساطة الإرادية. وهذه النقطة الهامة يندر أن تطرح، وهو أمر مثير للاستغراب. وبخلاف الأشياء الاستهلاكية التي هيمّنت في العصر الصناعي- كالسيارات، والغسالات، والتلفزيونات، والبيوت (والحاسوبات)- فإن الكثير من "مواد" المعرفة يمكن استهلاكها، ومعالجتها، ومع ذلك يبقى يمتلكها آخرون كثر- أي يتقاسمونها- بأقل نسبة ضياع أو تكلفة. ولذلك، وبهذا المعنى، فإن المعرفة تتحدى الندرة، وبالتالي تحّد من الندرة، كعامل كبير محرِّك للاقتصاديات الرأسمالية الصناعية. قارن، مثلا، سيارة بورش Porsche بسمفونية بتهوفن التاسعة (أو سيارة شعبية بأغنية شعبية). فإذا أشترى مواطن ثري سيارة Porsche محددة (أو أيٍ وحدة أخرى من بلايين مواد الاستهلاك التقليدية)، فإن هذه السيارة (والموارد التي أُنفقت في صنعها) لا تكون متاحة للآخرين (إذا استبعدنا الأصدقاء والعائلة). وحالما يتم "استهلاك" السيارة، فلا يتبقى من قيمتها غير القليل. أما السمفونية التاسعة (وعدد متزايد من مواد المعرفة الأخرى) فيمكن استنساخ الملايين منها، ويستمتع بها الملايين معاً في وقت واحد، وتبقى بهالتها الأصلية، رغم ذلك.
ربما هناك شيء من المبالغة في تفضيل السمفونية التاسعة على السيارة. ولكن القضية ليست هنا: إذ توجد نفس الميزة حينما يقارن المرء أغنية نقد فاحشة بسيارة الفولكس واجن الصغيرة، أو صورة إباحية على شبكة Internet بمشروع إسكان لذوي الدخل المحدود. فالمعيار المعتمَد هو الفرق بين الموارد المنفَقة على صنع كل مادة ومدى إمكانية استنساخها، واستهلاكها، وبقائها رغم ذلك "ممتلَكة" ويجري تقاسمها بين الأفراد.
صحيح أنه حتى الموارد المرتبطة بالمعرفة تتطلب حداً أدنى من التكلفة لأنها تحتاج لناقل غير معرفي؛ فهي تحتاج أرضية مادية محدودة، طاولة، أشرطة، أو ورق، ومعظمها بحاجة لبعض الأدوات لربطها كالراديو، مثلاً. ومع ذلك، فإن تكلفة هذه العناصر المادية قليلة عادةً عند مقارنتها بتلك التي تخص معظم السلع المادية. ففي حين أن كثيراً من السلع القابلة للاستنفاد (المواد الاستهلاكية كالطعام أو البنزين) تكّلف الواحدة منها القليل جداً، فإن المرء يحتاج إلى شراء الكثير منها بصورة متكررة لكي يستمر باستهلاكها. وبخلاف ذلك، فإن مواد "المعرفة" كالأشرطة، ورقائق الليزر، يمكن الاستمتاع بها مرات عديدة دون أن "تُستهَلك" (تُستنفد، إذا جاز التعبير). وبذلك المعنى، فإن مواد المعرفة تحمل طابع المعجزة التي أبصرها موسى في جبل سيناء: احترقت ولكن لم تُستهلك.
وما قلناه عن الموسيقى يسري أيضاً على الكتب والفن. فـ شكسبير في طبعته الورقية ليس أقل من شكسبير في الطبعة المجلَّدة الغالية؛ فقبل كل شيء، يمكن للملايين قراءة شكسبير: إذ أن كتاباته ما تزال متوفرة، ولم تنقص، لملايين من الناس الآخرين. كما يمكن لملايين الطلاب قراءة قصص كافكا Kafka القصيرة، وحل الألغاز الجغرافية، ودراسة افلاطون، دون أي نقصان في المواد. بمعنى أن مصادر الإشباع هذه محكومة بقوانين هي النقيض تماماً لقوانين الاقتصاد التي تحكم النفط، والحديد، والمواد الاستهلاكية التقليدية الأخرى، من الهاتف الخلوي إلى الليزر.
ثمة لُعب كثيرة (ولو ليس كلها) تقوم على أشكال رمزية، وبالتالي فإن هذه اللعب، كمواد المعرفة، يتم تعلمها بأقل تكاليف دون أن تُستهلك. ويلعب الأطفال الشطرنج (ولعُب أخرى غيرها) بسدادات القناني المَرْمية. والشطرنج يلعبها نزلاء السجون باستعمال قطع يعملونها من الخبز اليابس دون أن تكون أقل متعةً من لعبةٍ بقطع نادرة، عاجية، يدوية الصنع. (يمكن للمرء تحقيق إشباع ثانوي من الجمال الفني أو الإنفاق على طقم معين. ولكن هذه الأنواع من الإشباع لا شأن لها بلعبة الشطرنج بذاتها).
وبالمثل، فإن التماسك، والحب، والعلاقات الحميمة، والصداقة، والقناعة، والتعايش مع الطبيعة، وأشكال محدودة من التمرينات الرياضية (اليوغو yoga، مثلاً، بالمقارنة مع التمرينات البدنية aerobics)، يمكنها كلها أن تحرر المرء، إلى حد بعيد، من القوانين الأساسية للاقتصاديات الرأسمالية. وفي الواقع، فإن هذه المصادر للإشباع المستمد من العلاقات أهم، من هذه الزاوية، من مواد المعرفة لأن هذا النوع من العلاقات المذكورة تواً يسمح للمرء، حينما يعطي أكثر، أن يأخذ أكثر، بحيث "يتعزز" وضع كلا الطرفين (أو كل الأطراف، في كيانات اجتماعية أكبر كالمجتمع،) بواسطة نفس "المعاملات". وهكذا، فحينما يسعى فردان للتعرف أحدهما الآخر ويشرعان بــ "الاستثمار" في أحدهما الآخر خلال فترة التعارف، فكلاهما يصبحان أكثر غنى في أكثر الأحوال. (وهذه النقطة غالباً ما يجري إهمالها من قبل أولئك الذين صاغوا مصطلح "رأس المال الاجتماعي" للزعم بأن العلاقات مماثلة للمعاملات). وبالمثل، فإن الآباء المنسجمين أكثر مع أبنائهم غالباً ما يجدون (ولو ليس دائماً) أن أبنائهم منسجمين أكثر معهم، وإن الطرفين يستمتعان بهذه العلاقة. أما الإفراط فمعروف، وهو يحدث، مثلاً، حينما يحاول بعض الآباء انتزاع إشباع أكثر من أبنائهم، أو بناء علاقة غير متوازنة يستغل فيها أحد الطرفين إخلاص أو محبة الطرف الآخر. ومع ذلك، فإن الشائع أكثر هو "الاغتناء" المتبادل.
إن المصادر المختلفة للإشباع غير المادي، المذكورة هنا، قد جرى تأكيدها من قبل الحركات ذات الثقافة المضادة. ومع ذلك، فإن البساطة الإرادية تختلف عن هذه الحركات في أنها، وحتى من قبل أشد المخلصين لها، تحاول الجمع بين المستوى المعقول من العمل والاستهلاك لتأمين الاحتياجات الأساسية وبين الإشباع المستمد من المصادر الأعلى. إن الحركات ذات الثقافة المضادة في الماضي قد حاولت تقليل العمل والاستهلاك إلى الحد الأدنى، ولم تهتم بالاحتياجات الأساسية، ولذلك لم يكن بوسعها الاستمرار. وبعبارة أخرى أكثر تعاطفاً، قدمت هذه الحركات رؤية متشددة ومتوهجة للإيديولوجيا اللاحقة للبساطة الإرادية. فرغم أن البساط الإرادية أكثر تواضعاً من نمط الحياة الذي تطرحه الثقافة المضادة، فإن منهجها يقلل من الحاجة للعمل والتسوق لأنه يهتم بالإشباع من المعرفة أكثر من اهتمامه بالإشباع من مواد الاستهلاك. وبالنتيجة، فإن منهج البساطة الإرادية يحرر الوقت والموارد النادرة الأخرى للاهتمام بالمصادر غير المادية للإشباع، كالموسيقى والمتاحف والاستمتاع بالطبيعة وقراءة كتب التحدي أو مشاهدة الأفلام الكلاسيكية.
إن أياً من المصادر المحددة للإشباع غير المادي ليست بالضرورة جزءً من البساطة الإرادية. فبوسع المرء أن يحيا حياة بسيطة بإرادته دون أن يهتم بالموسيقى أو الطبيعة، أو أن يكون شخصاً رقيقاً أو لاعب شطرنج أو مواظب على شبكة Internet أو ممارسة لعبة الدومينو. ومع ذلك، فإن البساطة الإرادية تنشد بالفعل بعض مصادر الإشباع غير استهلاك السلع والخدمات. ويقوم هذا التأكيد على الفرضية الأولية القائلة بأن الأفراد يفضلون مستويات الإشباع الأعلى على الأدنى منها؛ وبالتالي، فإذا تعذرَ الحصول على إشباع أكثر من مستويات الاستهلاك المتزايدة دوما، فإن طلب الأفراد "الزائد" excess الذي لا يتم استثماره في الفقرات غير الضرورية من الاحتياجات الأساسية، يتجه للاستثمار في مكان آخر. وهذا يعني أنه في حين أن الأنشطة المحددة، التي تخدم كمصادر للإشباع غير المادي، سوف تتغير ، فلابد من الاهتمام ببعض هذه المصادر أو أن فكرة البساطة الإرادية قد لا تكون متينة.

مجتمع البساطة الإرادية
إن التحول للبساطة الإرادية له نتائج هامة بالنسبة للمجتمع على العموم وليس فقط لحياة الأفراد المعنيين. وهناك طريقة واعدة للتفكير بهذه النتائج وهي أن نسأل عن ماهية النتائج التي يمكن أن تتحقق لو أن عدداً متزايداً من أفراد المجتمع، بل ربما غالبيته الساحقة، انخرطت بنوع واحد أو أكثر من البساطة الإرادية. إن هذه النتائج واضحة جداً في قضايا البيئة؛ ولكنها أقل وضوحاً بالنسبة للعدالة الاجتماعية مما يبرر المزيد من الاهتمام.
تتجسد البساطة الإرادية الأعظم كنمط حياة يمارسه سكان معينون، كلما كبرت الإمكانية الكامنة لتحقيق عنصر أساسي من العدالة الاجتماعية أي المساواة الاقتصادية- الاجتماعية الأساسية. وقبل أن يكون هذا المطلب مبرراً، ثمة حاجة لبعض كلمات حول معنى مصطلح "المساواة"، وهي فكرة معقدة ويدور حولها جدل واسع.
ففي حين يميل المحافظون لدعم المساواة المحدودة في الحقول القانونية والسياسية، فإن أولئك الذين هم أكثر يسارية ولبرالية سياسياً يفضلون درجات مختلفة من إعادة توزيع الثروة بطرق من شأنها تعزيز المساواة الاقتصادية- الاجتماعية. إن أعضاء المعسكر اليساري- اللبرالي يختلفون كثيراً في مدى المساواة التي ينشدون. فبعضهم يفضل درجة واسعة جداً، وإنْ ليس كاملة، من المساواة الاقتصادية- الاجتماعية التي يتقاسم فيها الأفراد ما يتوفر من أصول، ودخل، واستهلاك- وهذا هو موقف حركات الكيبوتز المبكرة. أما الآخرون، فينشدون مساواة بدرجة محددة وهي ضمان المساواة لجميع أعضاء المجتمع في الحاجات الأساسية، على الأقل- وهذا هو موقف الكثير من اللبراليين. وتركز المناقشة التالية على مطلب المساواة الاقتصادية- الاجتماعية هذا، وليس فقط على مجرد المساواة القانونية والسياسية، مركزين على المساواة في الحاجات الأساسية أكثر مما على العدالة الشاملة. (الجدل حول ما إذا كانت المساواة الكلية holistic equality محبذة أم لا، وفيما إذا كانت تتطلب الحد من الحرية ومستوى الأداء الاقتصادي الذي تعتمد عليه تلبية الاحتياجات الأساسية، هو موضوع هام. ومع ذلك، فليس من داعٍ لتناوله قبل تحقيق المساواة الاقتصادية-الاجتماعية الأساسية، الذي تبينَ، لحد الآن، أنه هدف صعب المنال).
فإذا نشدَ المرءُ المساواةَ الاقتصادية- الاجتماعية الأساسية، فينبغي عليه تحديد الموارد اللازمة لتحقيق التغير المنشود. إن مكتشفات العلم الاجتماعي والخبرة التاريخية الأخيرة لا تترك سوى قليل من الشك بأن الحجج الإيديولوجية (كالإشارة إلى عدم عدالة المساواة، خطيئة التحشيد fanning guilt، زج مختلف الحجج الاشتراكية واللبرالية الأخرى التي تؤيد تحقيق عدالة اقتصادية أكبر)، تنظيم نقابات العمل والأحزاب السياسية ذات التوجه اليساري، إدخال مختلف مواد التشريع (كضرائب الأملاك وضريبة الدخل التصاعدية) لم تؤثر كثيراً على النتيجة المنشودة- أي إعادة توزيع الثروة الكبيرة- في المجتمعات الديمقراطية. إن معظم ما يمكن قوله لصالحهم هو أنهم قد حالوا دون توسع حالة عدم المساواة(52). وإضافة إلى ذلك، في السنوات الأخيرة، فإن الكثير من الإجراءات، والحجج، والمنظمات، التي ناصرت هذه الجهود المحدودة، وغير المؤثرة نوعاً ما لتحسين المساواة، لم تكن ذات فاعلية أو أنها لم تنجح إلاّ بعد أن جرى تخفيضها بدرجة كبيرة(53). وعلاوة على ذلك، فلهذه الأسباب، وغيرها مما يتعذر ذكرها هنا، يبدو أن حالات عدم المساواة الاقتصادية قد زادت في أجزاء كثيرة من العالم. إن البلدان الشيوعية السابقة، بما فيها الاتحاد السوفيتي، حيث اجتمعتْ ذات يوم حريات قليلة مع حد أدنى، ولكنه حد يعتمد عليه عادةً، من وسائل الكفاف، قد انتقلتْ إلى نظام اقتصادي- اجتماعي يحتمل، بل ينطوي في أساسه على، مستوى أعلى من التفاوت، نظام لم يكن يتيح للملايين مصدراً يُعتمد عليه للحاجات الأساسية. والبلدان الكثيرة الأخرى التي كانت لديها برامج وسياسات اجتماعية، كالهند والمكسيك، كانت تتحول في نفس الاتجاه. وفي الكثير من البلدان الغربية، فإن شبكات الضمان الاجتماعي تتعرض للهجوم، حيث يجري تقليصها في بعض البلدان في حين أنها قليلة أصلاً في بلدان أخرى. والآن، بعد أن قيل وعُمل كل شيء، فمن الواضح بأنه إذا أريد تحسين العدالة الاقتصادية-الاجتماعية بشكل جوهري، فالأمر يستلزم قوة إضافية جديدة.
إن البساطة الإرادية، عند تبنيها على نطاق أوسع، يمكن أن تكون الطريق الأفضل الجديد لرعاية الظروف المجتمعية التي في ظلها يمكن لإعادة التوزيع المحدودة للثروة، المطلوبة لتأمين الاحتياجات الأساسية للجميع، أن تصبح ممكنة سياسياً. والسبب أساسي وبسيط بقدر ما هو جوهري: فإلى المدى الذي يجد فيه الموسرون (أي ذوي الحاجات الأساسية المشبَعة جيداً والذين ينغمسون في الاستهلاك المظهري) قيمة، ومعنى، وإشباعاً في الطرق الأخرى، الطرق التي هي ليست كثيفة عملاً أو رأسمالاً، فيمكن أن يُتوقع منهم أن يتخلوا عن بعض السلع الاستهلاكية وبعض الدخل. وهذه الموارد "المحرَّرة"، بدورها، يمكن تحويلها لأولئك الذين لم تُشبع حاجاتهم الأساسية بعد، دون مقاومة سياسية مفرطة أو ارتداد عنيف.
إن تعزيز المساواة الأساسية في مجتمع تنتشر فيه البساطة الإرادية يختلف نوعا ما عن عمل ذلك في مجتمع تتحقق فيه نفس القضية بطرق قسرية. فالموسرون، أولاً، هم في السلطة في غالب الأحوال، وممن يحوزون على الكفاءات السياسية، أو بوسعه شراء الدعم. ولذلك، فإن الضغط عليهم لكي يعطوا أجزاء هامة من ثروتهم قد ثبت بأنه غير عملي على الأكثر، بغض النظر عما إذا كان ذلك عادلاً أو صحيحاً نظرياً أم لا. ثانياً، حتى إذا كان من الممكن دفع الموسرين للتخلي عن جزء هام من ثروتهم، فإن هذه التنازلات القسرية تترك ورائها مشاعر قوية من الحقد، التي قادت الموسرين في الغالب إلى إبطال أو التحايل على ضرائب الدخل التصاعدية أو ضرائب الميراث، أو دعم الأحزاب أو الأنظمة السياسية التي تعارض إعادة تخصيص الثروة.
أخيراً، تبين الأحداث بأنه حينما يكون لدى الناس قيم غير استهلاكية كحوافز قوية وإيجابية، فإنهم يكونون أقل ميلاً لتجاوز احتياجاتهم الاستهلاكية الأساسية وتكون لديهم رغبة أكثر لتقاسم الثروة "الزائدة" مع الآخرين. البساطة الإرادية تقّدم تعبيرات عصرية ثقافياً لهذه الميول وتعمل على تقويتها، كما تهيأ نمط حياة مستحسن ومدعوم اجتماعياً، وهو متين ومنسجم نفسياً مع المساواة الاقتصادية- الاجتماعية الأساسية.
وقد جرى أخيراً تقديم مجموعة من السياسات العامة في هولندا، وكذلك في فرنسا وألمانيا، لتحويل بعض الثروة والدخل من الموسرين إلى مَنْ تعوزهم الموارد لتلبية احتياجاتهم الأساسية. إن قسماً هاماً من هذه السياسات يتعلق بتوزيع العمل، وبخاصة في البلدان التي فيها بطالة واسعة، وذلك بالحد من العمل الإضافي، وتقصير أسبوع العمل، والأخذ أكثر بالعمل الجزئي part-time work.
ويحاول قسم آخر من السياسات تمكين كل أعضاء المجتمع من الحصول على دخل كافٍ لتلبية قسم من الحاجات الأساسية، على الأقل، وذلك بإتباع طريقة الدخل وليس طريقة العمل. وهذا يشمل وضع حد أدنى للأجر، والعمل بنظام دعم الدخول المكتسبة earned income tax credit، كما تجري محاولات لوضع تأمين صحي شامل، وإعانات سكنية لمن يستحقها من الفقراء.
وباختصار، فعند اعتناق البساطة الإرادية بشكل موسع أكثر وأكثر كنتيجة مركبة من التغيرات في الثقافة والسياسات العامة من قبل أولئك الذين أُشبعت حاجاتهم الأساسية، فإنها يمكن أن توفر الأسس لمجتمع يدعم المساواة الاقتصادية- الاجتماعية الأساسية باستعداد أكبر من المجتمعات التي ينتشر فيها الاستهلاك المظهري.
ممممممممممممممممممممممممممممـ
 يشير نظام دعم الدخول المكتسبة EITC إلى إعادة مبلغ من المال للآباء العاملين ممن لا يكسبون دخلاً كافياً لتلبية الاحتياجات الأساسية لعائلاتهم. ويُموَل هذا المبلغ من عوائد الضرائب المفروضة على الأجور. وهو نظام معمول به في معظم الدول الغربية بغية التشجيع على العمل.


هوامش
أنا مدين لنتاليا كلين Natalie Klein، وراشل ميرز Rachel MearsK، وبربارا فوسكو Barbara Fusco، لما قدموه من مساعدة عند كتابة هذه النسخة من هذا الفصل.
(1).See Frank Musgrove, Ecstasy and Holiness: Counter Culture and the Open Society (Bloomington: Indiana University Press, 1974), 17-18, 40-41, 198.
ويلاحظ موسغروف بأنه رغم إن الثقافة المضادة "تتميز بالتوفير والاستهلاك الضئيل"، فإنها تبرز في المجتمعات الغنية بشكل خاص: 17.
(2)United Nations Environment Programme, Global Environmental Outlook-1: Chapter 2: Regional Perspectives. Http://unep.unep.org/unep/eia/geo1/ch/ch2_12.htm
(3)Duane Swank, Modernization and Postmodernization: Cultural, Economic, and Political Change in 43 Societies, Comparative Political Studies (April 1998): 247.
(4)Ibid
(5)Paul R. Abramson and Ronald Inglehart, Value Change in Global Perspective (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1995): 19.. وقد حدثت تحولات مماثلة في معظم البلدان النامية: 12-15.
(6)Ibid, 12-15.
(7)Public Agenda, Consumer Debt Rising in Recent Years, 1998. . متوفر على شبكة Internet: http://www.publicagenda.org:80/CGI/getdoc…168994x0y64&pg=economy_factfiles13.html.
(8)U.S. Bureau of the Census, Statistical Abstract of the United States, 1996 (116th ed.) (Washington, D. C.: Bureau of the Census, 1996), table 695.
(9)U.S. Bureau of the Census, Statistical Abstract of the United States, 1994 (116th ed.) (Washington, D. C.: Bureau of the Census, 1996), table 695.
(10)Alan Durning, How Much is Enough? The Consumer Society and the Future of the Earth (New York: Worldwatch Institute, 1992), 33.
(11)Duane Elgin, Voluntary Simplicity: Toward a Way of Life that is Outwardly Simple , Inwardly Rich (New York: William Morrow, 1981).
(12) أنظر، مثلاً: Charles Handy, The Hungry Spirit: Beyond Capitalism: A Quest for Purpose in the Modern World (New York: Broadway Books, 1998).
(13) Pilar Viladas, Inconspicuous Consumption, New York Times Magazine, April 13, 1997, 25.
(14) Rita Henley Jensen, Recycling the American Dream, ABA Journal (April 1996): 68-72.
(15) Trends Research Institute، المذكور لدى ستيفان زيمرمان Stephanie Zimmerman: Living Frugal and Free, Chicago Sun-Times, April 20, 1997, 6.
(16) Choosing the Joys of a Simplified Life, New York Times, September 21, 1995, C1; Merck Family Fund, Yearning for a Balance: Views of Americans on Consumption and Materialism, and the Environment , Executive Summary (The Harwood Group, 1995).
(17)John Martellaro, More People Opting for a Simpler Lifestyle, The Plain Dealer (Kansas City), February 10, 1996, 1E.
(18) Boomers Would Pay to Simplify, USA Today, November 7, 1997, 1A.’’
(19) Voluntary Simplicity, NPR Morning Edition, February 26, 1997.’’
(20) Is Greed Dead? Fortune, August 14, 1989, 41.
(21) More Mothers Staying at Home, Boston Globe, December 18, 1994, NW1.’’
(22) More Career-Switchers Declare, Those Who Can, Teach, Wall Street Journal, April 8, 1997, B1.
(23)Barry Schwartz, The Costs of Living: How Market Freedom Erodes the Best Things in Life (New York: W. W. Norton and Company, 1994), 235-36.
(24)Elgin, Voluntary Simplicity, 34.
(25) Ibid, 51.
(26) Ibid., esp. 27-28.
(27)David E. Shi, The Simple Life: Plain Living and High Thinking in American Culture (New York: Oxford University Press, 1985), 4.
(28) Duane Elgin, Voluntary Simplicity, 201.
(29) United Nations, The Rio Declaration on Environment and Development, 1992, Principle 8.
(30) Paul H. Ray, The Emerging Culture, American Demographics (February 1997): 29, 31.
(31)Frank M. Andrews and Stephen B Withey, Social Indicators of Well-Being: Americans Perceptions of Life Quality (New York: Plenum Press, 1976), 254-55.
(32)Jonathan Freedman, Happy People: What Happiness Is, Who Has It , and Why (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1978).
(33) David G. Myers and Ed Diener, Who Is Happy?" Psychological Science 6 (1995): 13.
(34) Ibid
(35) Ed Diener and R. J. Larsen, The Experience of Emotional Well-Being, in M. Lewis and J. M. Haviland, eds., Handbook of Emotion (New York: Guilford Press, 1993): 404-415, Cited in Myers and Diener, Who Is Happy?, .
(36) Myers and Diener, Who Is Happy?, 13.
(37) بيانات مختارة من قبل Myers and Diener ، المصدر السابق، من مصادر مختلفة.
(38)Angus Campbell, The Sense of Well-Being in America: Recent Patterns and Trends (New York: McGraw-Hill, 1981), 56-57.
(39) Ibid
(40) Durning, ‘’How Much is Enough?’’, 23.
(41)Myers and Diener, Who Is Happy?, 12-13; See also Ed Diener, E. Sandvik, L. Seidlitz, and M. Diener, The Relationship between Income and Subjective Well-Being: Relative or Absolute? Social Indicators Research 28 (1993): 208.
(42)Tim Kasser and Richrd M. Ryan, A Dark Side of the American Dream: Correlates of Financial Success as a Central Life Aspiration, Journal of Personality and Social Psychology 65 (1993): 420
(43) Robert E. Lane, Does Money Buy Happiness? Public Interest, (Fall 1993): 58.
(44) Ibid., 56-65.
(45)Robert Bellah, The Broken Covenant: American Civil Religion in Time of Trial (New York: Seabury Press, 1975), 134.
(46) Abraham H. Maslow, Toward a Psychology of Being (Princeton: Von Nostrand, 1968), 172.
(47) Ibid., 25.
(48) Ibid., 26-27
(49)Vance Packard, The Status Seekers: An Exploration of Class Behavior in American and the Hidden Barriers that Affect You, Your Future (New York: D. McKay Co., 1959).
(50) David Brooks, The Liberal Gentry, The Weekly Standard, December 30, 1996, January 6, 1997, 25.
(51) Alvin Toffler, Future Shock (New York: Random House, 1970). Daniel Bell, The Coming of Post-Industrial Society: A Venture in Social Forecasting (New York: Basic Books, 1973).
(52) Joseph A. Pechman, Federal Tax Policy (Washington, D. C. : The Brookings Institution, 1987), 6.
(53) مثلاً، لاحظْ التغيرات في حزب العمل في المملكة المتحدة والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة في أواسط التسعينات.



































الجزء الثاني
النماذج الناشئة للمنشأة

الفصل السادس
المنشأة في عصر المعلومات
ستين ثور، المعهد العالي للتكنولوجيا، لشبونة/ البرتغال
Sten A. Thore, Instituto Superior Tecnico, Lisbon, Portugal

أدرك الاقتصاديون لبعض الوقت أن العديد من قوانين اقتصاد السوق أعيدت كتابتها كنتيجة لتزايد الاعتماد على البرمجة والمنتجات القائمة على المعرفة. ومع الاقتراب من القرن العشرين، فإن نوعاً جديداً من المنتجات والخدمات برز في السوق حاملاً إمكانية تثوير آليات النظام الرأسمالي بكامله. وهذه هي منتجات الديجيتال digital products- اتصالات، وتعليم، وتسلية، على شكل ديجيتال. يمثل ظهور اقتصاد الديجيتال digital economy العلامة البارزة الحالية على هذا التطور للاقتصاد القائم على المعرفة، معرفة تتجلى على شكل ديجيتال (أو رموز).
في النص اللاحق، أحاول إثبات وجود حاجة لنوع جديد من التحليل الاقتصادي لدرس الاقتصاد القائم على المعرفة. وعليه، سوف أقدم مخططاً تمهيدياً لنموذج جديد يتابع آثار التحول السريع لاقتصاد السوق في عصر المعلومات.
يستند النموذج الجديد إلى إقرار النقاط الأربعة التالية:
1. دورات حياة منتجات المعرفة تكون قصيرة في الغالب بسبب شدة تطور المنتجات. فمع تدفق المنتجات الجديدة والمتطورة على السوق، فإن الأجيال السابقة تصبح قديمة ومهجورة. إن الجيل الجديد يمثل، عادةً، ليس فقط مواصفات تكنولوجية وتسويقية متطورة، بل أيضاً مجموعة أوسع من الصفات الممِّيزة. وعند تعريف منتَج ما بحسب مقدار الخدمات التي يقدمها، فإن حجم هذا المقدار يزداد على الدوام. والمنتجات تصبح معقدة أكثر.
2. إن تلك المنشآت التي تسّوق وتبيع بنجاح المنتجات الأكثر تطوراً في أي وقت سوف تحقق معدلات نمو مثيرة- ما يسمى بالنمو المفرط hyper-growth. وقد تأخر الاقتصاديون في إدراك هذه الظاهرة، المميزِّة جداً لاقتصاد المعرفة. وعلى النقيض، فإن الشركات التي تتصف ببطء إنتاجها يمكن أن تواجه انهيار أسواقها بين ليلة وضحاها، مع نتائج كارثية. الاقتصاد القائم على المعرفة يمكن أن يتجه للاستقطاب في صورة معسكرين: أسراب من الشركات المبتدئة الصغيرة التي تتزايد بمعدل سريع مقابل الشركات العملاقة المتعثرة.
3. تمضي الشركات ذات التقنية العالية، عادةً، على مسار ديناميكي بعيداً عن التوازن طوال الوقت. والمسار هذا غير خطي. وهو يتضمن إمكانية حصول فوضى.
4. وفي الإطار الناشئ للاضطراب الصناعي industrial turmil، سينبثق تطور تقني سريع. وسيتحقق نوع من التوازن بين إبداع أشياء وهجران أشياء أخرى، وبين تصريف commercialization المنتجات الجديدة وانطلاق الشركات المبتدئة الجديدة، وعمليات الدمج والاكتساب، وعمليات الإفلاس.
وفي حين أن الاقتصاد التقليدي يفترض السلوك الأمثل، والتوازن، واستقرار التوازن، فإن النمط السائد لعمل الشركات الجديدة القائمة على المعرفة يتسم بالسلوك المثالي الجزئي وعدم التوازن. وسوف أعتمد على دراسة تجريبية مكثفة لصناعة الحاسوب الأمريكية.
ينتهي الفصل ببعض الملاحظات عن الآفاق طويلة الأمد للاقتصاد الأمريكي. وخلال العقدين الماضيين، شكلت صناعة المعرفة محِّركاً هاماً للاقتصاد الأمريكي عموماً. ويبدو أن الدور المحوري للمنشآت الأمريكية القائمة على المعرفة يتجه للاستمرار في القرن القادم لأنها توسّع الآن أسواقها عالمياً. فشركات مثل Disney و Time Warner تغدو الآن مصدر تأثير ديجيتال عالمي، وتتمتع ليس فقط بوفورات حجم محلية، بل وبوفورات حجم عالمية أيضاً.



اقتصاد الديجيتال
مع الاقتراب من نهاية القرن العشرين، بزغ نوع جديد من السلع والخدمات يتصف بقدرته على تغيير طبيعة كامل النظام الاقتصادي. منتَج الديجيتال digital product عبارة عن معلومات، وتسلية، أو تعليم، يتم إرسالها على شكل رموز، وغالباً عبر مسافات طويلة. يتم الاتصال بالرموز digital communication عندما تتحول الموجات الصوتية أو الموجات الضوئية إلى رموز (ثنائية)، وتنتقل، وأخيراً يُعاد تحويلها إلى صوت أو صور. الأمثلة المبكرة على الاتصال بواسطة الرموز هي المعالِج word processor، وقرص CD، والأسلاك البصرية- الليفية fiber-optic cables. في هذه الأسلاك، فإن الصوت أو الصور، المحوَّلة إلى رموز تلغرافية ثنائية، يتم نقلها بواسطة إشعاعات تردد من خلال شعيرة زجاجية. وفيما يلي بعض الأمثلة عن منتجات الديجيتال التي هي متوفرة الآن بالفعل أو التي ستتوفر قريباً.
• خدمات الاتصال الشخصي (PCS) ستكون أشبه بأجهزة اتصال بين رحلات فضائية يمكن وضعها في جيب المعطف أو حقيبة صغيرة. فهي هواتف لاسلكية صغيرة (هواتف محمولة) ومزودة بخدمات الحاسوب والفاكس والفيديو.
• التجارة الإلكترونية على الانترنت Internet حيث يمكن للمستهلكين استعراض السلع التي تهمهم وشرائها.
• التعليم عن بعد، إذ يمكن أن تكون طالباً في صف فعلي وتؤدي واجباتك البيتية التي يصححها أساتذة مشهورون في جامعة هارفارد أو MIT.
• الصحافة والراديو والأفلام التي يمكن الوصول إليها عبر الانترنت Internet.
• الاتصال عن بعد حيث يقوم مستخدموا شركة ما بعملهم في محطة عمل- حاسوب من منازلهم، وهم على صلة بمكتب الشركة الرئيسي من خلال الاجتماعات المنقولة بالفيديو.

تلخيص زمني للأحداث
دعوني أعود للبدايات. وكنقطة بداية ملائمة، أختار تاريخ الأول من كانون الثاني 1984 عندما باتت شركة التلفون والتلغراف الأمريكية تخضع لتوجيه حكومي أقل وانشطرت. مُنحت الشركات السبعة الصغيرة seven Baby Bells Ameritech, Bell Atlantic, Bellsouth, Nynex, Pacific Telesis, Southwestern Bell, and U.S. West)) حق احتكار خطوطها المحلية. وقد فتحتْ سياسة الحد من التوجيه deregulation البابَ أمام الابتكارات الإنتاجية الهائلة والمنافسة التي لا ترحم؛ وذلك أولاً بالنسبة للأسواق البعيدة باستعمال أسلاك بصرية ليفية لتحسين نوعية الصوت بشكل مثير، ولكن حالاً أيضاً بالنسبة لخدمة الهاتف الخلوي. وهكذا توجبَ على شركة AT & T أن تقاتل ليس فقط الشركات الخاصة للأسواق البعيدة كشركتيْ MCI و Sprint، بل أيضاً الصناعة المتنامية للهواتف الخلوية. وبغية إيقاف انقضاض شركات الاتصالات الخلوية، تولت شركتا Baby Bells و AT&T خدماتها الخلوية الخاصة بها. وفي العام 1993، قامت شركة AT&T بشراء أكبر هذه الشركات وهي شركة McCaw Cellular.
المنتَج الرائد في صناعة الأسلاك كان Ted Turner، وهو عبارة عن تلفزيون ناجح صُنع ذاتياً؛ بدأ عام 1976 بإرسال إشارات من قاعدته ‘Superstation’ في Atlanta إلى قمر يحوم على ارتفاع 22000 ميل فوق الأرض. وقد بات ممكناً تسلم الإشارات العائدة للأرض بواسطة التلفزيون السلكي الجديد الذي يغطي كل سوق أمريكا الشمالية وما بعدها. وبعد سنتين، تحولت شركة Ted Turner لفكرتها الجديدة: برنامج أخباري بالكامل اسمه Cable News Network (CNN) يبث للعالم كله. وهو يتضمن: التلفزيون، والأقمار الصناعية، والاتصالات cable، والعمليات المتعلقة بالأخبار العالمية.
وُلد الحاسوب Apple Computer العام 1976 أيضاً، مع قيام كل من ستيفن جوبز Steven Jobs وستيفن وزنياك Stephen Wozniak بالعمل في غرفة نوم أخت جوبز، حيث جمعّوا أول خمسين جهاز حاسوب. وبعد أربع سنوات، بات الحاسوب Apple في متناول عامة الناس. وقد زاد سعر سهمه بسرعة شديدة بحيث أن ولاية ماساشيوستس Massachusetts أوقفت شرائه بصورة مؤقتة. وفي نهاية ذلك اليوم، كانت الشركة قد بلغت قائمة مجلة Fortune لأغنى 500 شخص. وقد وضعَ سوق الأوراق المالية قيمة تداول شركة Apple عند 1,7 بليون دولار، التي كانت حينذاك أكبر من قيمة شركة فورد للسيارات. وقد تصدرت هذه الشركة صناعةَ الحاسوب الشخصية PC من حيث بعض المواصفات البارزة، بما في ذلك الماوس mouse والبرامج الشبيهة بوندوز windowslike software.
Ted Turner و Steven Jobs كانا النموذجين الأصليين لجيل جديد من المنظِّمين الذين أنتجوا أولى منتجات الديجيتال الاستهلاكية. والآخرون هم Craig O. McGraw (الذي يملك شركة McGaw Cellular) و Seymour Cray (الذي يملك شركة Cray Research). والكثير من الشركات المبتدئة، التي أسسها الجيل الأول من منظِّميّ الديجتال، زادت بصورة انفجارية. وهي تمثل الحالات الأولى لظاهرةٍ يمكننا أن نسميها النمو المفرط- حيث تزداد الإيرادات الكلية لمنشأة ما بمعدل سنوي قدره 50 % أو أكثر، سنة بعد أخرى. إن صناعة كهذه لم تُشاهد من قبل قط.
ولكي تحافظ على نموها، اعتمدت هذه الشركات على عدة مصادر تمويل جديدة. وقام جيل جديد من الرأسماليين المغامرين بالاستثمار في الشركات المبتدئة Silicon Valley. وقد دخلت سوقَ Wall Street موجاتُ جديدة من العروض العامة الأولى Initial public offerings (IPOs). وبغية جمع التمويل اللازم، اتجهت العديد من هذه الشركات نحو أداة دين جديدة، ما يُسمى بسند جونك Junk bond (عبارة عن سندات تصدرها شركات الأعمال دون مستوى الاستثمار). وفي حينه، مكّنت الإصدارات من سهم جونك الشركات Compaq, Silicon, Gray Research، وشركات أخرى، من البقاء أمام الانهيارات الصناعية الخطيرة. تم إنقاذ صناعة الأقراص الصلبة الأمريكية بواسطة سند جونك، بما في ذلك 250 مليون دولار لشركة Seagate Technology. وبالمثل، حصلت شركتا McGaw و Turner على المساعدة، في أيامهما الأولى، من مايكل ميلكن Michael Milken (ملك سند Junk bond) صاحب شركة Drexel, Burnham Lambert Inc. وإذ أبصرتْ حلول اقتصاد المعلومات الجديد قبل غيرها من الشركات، قامت شركة ميلكن بتمويل مجموعات مباني information superhighway"" جديدة.
وصلت موجة جديدة من منتجات الديجيتال في وقت مبكر من التسعينات مع تطوير تقنية شبكة الحاسوب.
قادت هذا التطور، مبكراً، شركة Sun Microsystems، التي تأسست العام 1982 كشركة مبتدئة لجامعة Stanford University، متصدرةً الشبكات المحلية لمحطات تشغيل الحاسوب. إن ما يسمى بشبكات المنطقة المحلية (LANS) معروفة لدى وسط الأعمال هذه الأيام، وهي تقود إلى زيادة انفجارية في الطلب على مواد البرمجيات software والمعدات hardware (التي تصّنعها منشأة سيسكو Cisco Corporation وغيرها). ومع نمو الشبكة المحلية، فإنها تتحول إلى ما يسمى بالشبكة الداخلية intranet، أي شبكة اتصالات لمجتمع أعمال شامل، تجمع كل مستخدمي شركة ما، وتمكّنهم من تبادل الوثائق، وتنظيمها في أضابير، واستردادها، والعمل عليها.
انبثقت الشبكة العالمية للمعلومات Internet من شبكة قديمة لحواسيب الجامعة الأمريكية، تُدعى NSFNET والتي تأسست العام 1984. صُنعت وفق نمط تصميم مؤسسة Rand Corporation لبناء شبكة غير مركزية للحاسبات الآلية قادرة على مقاومة الهجمات الذرية. بدأ الاستخدام التجاري للشبكة العالمية للمعلومات Internet في كانون الثاني 1990، ومنذ ذلك الحين نمت الشبكة بمعدلات فلكية. وتتشكل الشبكة حالياً من عشرات آلاف المفاصل من الحواسيب وتضم عدة ملايين من الصفحات المنزلية pages home. أصبح المستهلكون قادرين، بصورة متزايدة، على الدخول للانترنت من خلال NCs ("شبكة الحاسبات الآلية" network computers) أو حتى من خلال موجات الأجهزة المنظمة للتلفزيون التي يمتلكونها. تحققَ بناء أول جيل لـ NCs حالياً من قبل الشركات Sun, Oracle Computer, and Netscape Communications..
نوع آخر لشبكة محطة ديجيتال سيوضع موضع التطبيق في أواخر التسعينات: شبكات اتصال عبر الأقمار الصناعية، تدور حول الكرة الأرضية على ارتفاع 400- 700 ميل فيما يسمى بمسار الأرض الواطئ LEO))، وتبث خدمات التلفزيون، والفاكس والهاتف، على أساس ديجيتال، وكذلك نقل البيانات. الشبكة الأولى ستكون هي شبكة Iridium، التي ستطلقها شركة Motorola وتتألف من 66 قمراً صناعياً. وشبكات الاتصال الأخرى عبر الأقمار الصناعية التي هي على طاولة الرسم الآن تتضمن النجم العالمي Globalstar الذي يفترض إطلاقه من قبل شركتيْ Lockheed Martin و Qualcomm (ويضم 48 قمراً صناعياً)، وكذلك شبكة الاتصال المزمعة التي تحلم بها شركة Bill gates وتتألف من 840 قمراً صناعياً.
ولحد الآن، قمتُ بشكل رئيسي بمناقشة تقنية الديجتال كوسيلة اتصال. ولكن هذه التقنية تتضمن أكثر من ذلك. فهي "محتوى" content، أيضاً، أي الرسالة (أو المعلومات) التي يتم تداولها عبر الاتصالات. وهذه الرسالة تمتد من مكتبات الديجيتال إلى التسلية والتعليم في شكل ديجيتال. وفي أوائل التسعينات، ظهرَ على السطح اتجاه هام من "مجهِّزي المعلومات" content providers الذين يشترون المصالح القوية في صناعة الاتصالات الديجيتالية؛ والمثال البارز هو شراء شركة Warner Communications من قبل شركة Time العام 1990، وقيام شركة Time Warner بشراء شركة Turner Broadcasting بعد ست سنوات من ذلك، خالقةً أضخم شركة إعلامية عالمية. وبالمثل، قامت شركة Disney بشراء شركة Capital Cities/ABC Television العام 1995. وفي نفس العام، أعلنت NBC و Microsoft عن خطط لإطلاق قناة إخبارية يومية على مدى 24 ساعة مع مواصفات تسمح بالتداول المتواصل للمعلومات بين القناة (أو الحاسوب) والمشاهد. شركات التسلية والاتصالات العملاقة هذه ستسيطر على عملية تدفق المعلومات من مصدرها (استوديو التسجيل أو استوديو الأفلام) في سياق عملية إرسال تنتهي عند المستهلك (شاشة التلفزيون). وفي هذه السلسة العمودية، يُنظر إلى مجّهز المعلومات content provider بصورة متزايدة باعتباره المولد الرئيسي للربح، في حين تصبح خدمات الاتصالات، على نحو متزايد، مجرد "سلعة" نمطية standardized commodity.
ورغم ذلك، سيبقى هناك مجال لصناعة التسلية في الاستوديوهات الصغيرة والمستقلة المفعمة بالحيوية أو تلك التي لها تأثيرات خاصة. ليس ثمة تناقض بين أن تجد في الصناعة في وقت واحد كلاً من عملية الانحلال disintegration (انشطار شركات كبيرة إلى شركات أصغر مثل انقسام شركة AT&T إلى ثلاث شركات مستقلة، وعلى شكل تعاقد من الباطن) وعملية الدمج integration (على شكل استحواذات عمودية vertical acquisitions).

مدخل للمنتجات القائمة على المعرفة
في جو التسعينات التنافسي جداً، ينبغي على كل منشأة أن تجلب للسوق تدفقاً مستمراً من التصميمات الجديدة للسلع، والتي يكون كل جيل منها أرفع من سابقه. تأملْ تقنية الاجتماعات المنقولة بالفيديو video-conference equipment، والحاسوب، أو الكاميرات الإلكترونية. والتصميمات الجديدة تتدفق على السوق كل شهر. ولكن التغير من كل "ماركة" vintage إلى الماركة القادمة قصير جداً في الغالب.
كل جيل أو ماركة من منتَج ما يمر بدورة حياة مميِّزة life cycle، تبدأ بتطوير المنتَج وعملية تصريفه اللاحقة. وإذا كان المنتَج ناجحاً، فإنه سيمر بمرحلة نمو تكون سريعة جداً في البداية، ثم تتباطأ حينما يكسب المنتج حصته من السوق. وأخيراً، تحّلُ مرحلة هبوط المبيعات وزوالها النهائي، حينما يُدخل المنافسون منتجات جديدة وأرفع نوعيةً ذات تقنية أكثر تقدماً.
يشكل تقديم وتسويق سلعة اقتصادية ما مثالاً على عملية انتشار معينة diffusion process. تبدأ عملية الانتشار القياسية بالظهور والنمو بمعدل أسي، ولكنها أخيراً تتسطح لتقترب من مستوى النضوج. منحنى الانتشار يأخذ شكل حرف S المميِّز. يوضح الشكل 6 -1 منحنى الانتشار لسلسلة أجيال متعاقبة من سلعة استهلاكية معطاة. دورات حياة هذه الأجيال الفردية من المنتَج جرت الإشارة إليها بخطوط منقطة. أثناء طور الصعود من منحنى الانتشار، تدخل للسوق بسرعة دورات المنتَج الجديد. وفي مرحلة النضوج، تصل الدورات هذه عند سرعة أبطأ.
أثناء طور الصعود من دورة حياة كل منتَج، ينتشر نمط جديد وأرفع من الطلب بين جمهور المشترين. فصفوف المشترين "المبتكرين" الأوائل الذين يقبلون المنتَج برغبتهم الذاتية يَنظْم إليهم المشترون "المقلدون"، أي الأفراد الذين يتأثرون بالآخرين عند اتخاذ قراراتهم بشراء السلع الجديدة،. وتتضخم مشتريات كلتا الفئتين تحت تأثير الدعاية والترغيب وتخفيض السعر.
وتحلْ مرحلة الانكماش في دورة حياة المنتَج حينما لا يعود قادراً على اللحاق بمواصفات المنتجات المنافسِة له. والمستهلكون، الذين يبحثون دون توقف عن البدائل الاستهلاكية الأرفع، يتحولون إلى تصميمات أكثر تطوراً للمنتَج. الولاء لماركة معينة شيء متقلب. ومع عزوف المشترين عن المنتَج وانخفاض مبيعاته، تتلاشى دورة حياته. كلما كانت التقنية أرفع، كانت دورة الحياة أقصر.
العناء والشقاء لتطوير سلسلة لا تنتهي أبداً من المنتجات التقنية الأكثر تطوراً بات محل اهتمام وتركيز جهود صناعة شبه الموصلات الأمريكية semiconductor industry. قدمت شركة Intel Corporation المعالج الجزئي 486 microprocessor العام 1989؛ وذلك في وقت كان فيه المنتَج هذا من أكثر القطع المتاحة فعاليةً. ولكن خلف شركة Intel كان هناك صف من المنافسين بقيادة شركة Advanced Micro Devices (AMD). وبعد ثلاث سنوات، أعلنت الأخيرة بنجاح استنساخ 486 microprocessor. الجيل التالي من المعالجِات الجزئية كان هو المعالِج 586، الذي حملَ اسم Pentium، وأُدخل للسوق أواخر العام 1993. العمر الاقتصادي لكل موجة تقنية في صناعة شبه الموصلات هو ثلاث سنوات تقريباً. وذلك يضاهي دورة حياة من 8 إلى 9 سنوات من بدء البحث ولغاية دخول المنتَج للسوق. من المتوقع بلوغ إنتاج Pentium ذروته العام 2000. وهذا ليس نهاية المطاف. Pentium هو معالِج 64-bit، وهذا معناه أنه يغطي 2 64 موقع ذاكرة. والبحث هو الآن في أقصاه لتطوير جيل المعالِج 256- bit. وفي الوقت نفسه، تتواصل الجهود لإنتاج أنواع جديدة تماماً من المعالجِات بطاقات هائلة أكثر(1).


شكل 1-6 منحنى الانتشار النمطي stylized ودورات حياة المنتَج

وللسيطرة على هذه العمليات الديناميكية المعقدة، لابد من نوع جديد من الإدارة: إدارة دورة حياة المنتَج product-cycle management. تحتاج الشركة إلى تطوير دفق مستمر من التصميمات الجديدة للمنتَج، كل تصميم "أفضل" من سابقه بمعنى ما، وذلك لمجرد البقاء على قيد الحياة. يجب أن يكون هناك جيل ثانٍ وثالث من النماذج القائمة قيد التطوير. بعض هذه المنتجات ستواجه الفشل؛ وقلة منها تستطيع البقاء في السوق. وتلك التي تنجح في البقاء لا تملك غير حياة قصيرة ولابد من استبدالها بنماذج أرقى. مشكلة الجدولة تكمن في تحديد موعد إدخال كل ماركة للسوق (مسألة تصريفها commercialization) وموعد سحبها (مسألة زوالها التقني أو الاقتصادي).
إن مفاهيم مثل "التقنية"، و "التقدم"، و "النمو الاقتصادي" ترتبط بشكل مباشر بتنوع أو تباين السلع والخدمات الاقتصادية. ويدرك المديرون الفرق بين قائمة المزايا التي يمكن للتكنولوجيا القائمة أن تقدمها وبين قائمة المزايا التي تركن في عالم الاحتمالات. وهذا الفرق هو الذي يَحثُ الجهود الحالية لتطوير المنتَج وتصريفه من جديد. وفي التحليل الأخير، فهذا الفرق هو الذي يقود عملية التقدم. فما يحرّك التقدم هو عدم التوازن: القفز المفاجئ بين ما هو كائن وما كان ممكناً.

التطور التكنولوجي
لقد تم تطوير الرياضيات للأجيال المتعاقبة من الأنواع species على يد عالم الرياضات الإيطالي فيتو فولتيره Vito Volterra في الثلاثينات. عنوان بحثه الكلاسيكي هو Lecons sur la Theori Mathematique de la Lutte pour la Vie الذي يُترجم إلى: دروس حول النظرية الرياضية للصراع من أجل الحياة. هنا يجد المرء أصل النظرية الرياضية الحديثة غير الخطية للتطور. ولكن فولتيره كان عليه إنجاز بحثه الرائد في ظل عقبة شديدة: فلم يكن لديه حاسوب الكتروني. ولم يدرك قط الإمكانات الرقمية المذهلة التي أتحولُ إليها الآن.
في العام 1975، كان عالم الرياضيات جي. يورك يعمل دون اكتراث مع معادلة انتشار diffusion equation من النوع الذي سبق لفولتيره دراسته، متتبعاً مساره الزمني (مسار ذلك النوع) بمساعدة حاسوب. وباستعمال قيم مَعْلمات (أو ثوابت) ملائمة suitable parameter values، وجدَ يورك بأن المسار الزمني لعملية الانتشار كان في الواقع دورة دقيقة بالنسبة للزمن. ولكن عند تغيير قيم المَعْلمات، وجدَ يورك بأن المسار يصبح أحياناً شديد التوتر وينقسم إلى شعبتين، أو ينشطر إلى شطرين(2).
الشكل البياني 6- 2 يرسم النتائج المستخلصة من تجربة باستخدام حاسوب بسيط computer simulation، مفترضاً أن هناك ثلاثة دورات متعاقبة للمنتَج(3). مبيعات الجيل الأول من المنتَج تنطلق حالاً تقريباً وتصل ذروتها في الشهر العاشر عند مستوى 0.117، ثم تهبط ببطء بعد ذلك. وفي الشهر 23، تكون مبيعات الجيل الأول من المنتَج قد تلاشت عملياً. ثم يدخل الجيل الثاني على الخط بعد وقت قصير ويصل إلى الذروة 0.309 في الشهر الثاني عشر. وأخيراً، في الشهر الخامس، تظهر مبيعات منتَج الجيل الثالث وتتجه نحو النمو بثبات في البداية لتصل إلى 0.403 في الشهر الثامن عشر. وعندئذ يحصل شيء غير متوقع: تبدأ إحصاءات المبيعات الشهرية تسير وفق خط متعرج ينفلق إلى طريقين مختلفين: أحدهما الاتجاه نحو الأعلى والآخر الاتجاه نحو الأسفل. وبكلمات أخرى، يتفرع منحنى المبيعات إلى شعبتين.
وثمة حالة أكثر بروزاً يوضحها الجدول 6 - 3(4). في هذه المرة، تم تغيير المَعْلمات الرقمية قليلا، ولكن إلى حدٍ كافٍ لقلب ديناميكا النظام إلى فوضى كاملة. سارت مبيعات الجيلين الأولين وفق نفس نمط دورات حياتها كما في السابق، مع حجم مبيعات كلية أقل قليلاً. تبدأ مبيعات الجيل الثالث بكسب المزيد من فرص البيع في الشهر الخامس؛ ومنذ هذه النقطة فصاعداً، تبدأ المبيعات بالنمو سريعاً لتصل إلى 0.558 في الشهر الثاني عشر. ولكن الإحصاءات اللاحقة لابد أن تشكل كابوساً لأي محلِّل سوقي. ففي شهر واحد تحصل طفرة هائلة في المبيعات upturn glorious؛ لتهبط إلى القاع pits في شهر آخر. لاحظْ الهدوء خلال الشهور ما بين الشهر العشرين والشهر الخامس والعشرين. ولكن يبدو أن هذه الفترة من الاستقرار هي مجرد الهدوء الذي يسبق العاصفة.
هل الفوضى والعشوائية شيء واحد؟ في التجربة باستخدام الحاسوب computer simulation ترد الفوضى من بعض المعادلات الرياضية (غير الخطية) البسيطة. في الشكل 6 - 3، المبيعات محددَّة، نقطة بعد أخرى، بصيغة رياضية دقيقة. وبحسب مصطلحات علم الإحصاء الرياضي، فهي مسألة حتمية deterministic. ومن الناحية الأخرى، فإن العشوائية randomness هي نتيجة للسحوبات الاحتمالية، كما في رمي النرد أو الحركة الدائرية لعجلة الروليت. وهكذا فإن الفوضى تبدو عشوائية، ولكن هناك نظام يختفي خلف التقلبات الظاهرة.



شكل 2-6 تجربة باستعمال الحاسوب computer simulation: إمكانية التفرع (أو التشعب)

إحدى صفات التقنية الرفيعة هي كونها معقدة. كل الأنظمة الحية معقدة. الاقتصاد، أيضاً، نظام حي، مع كل عفوية وتعقيد علم الأحياء الجزيئي. DNA أو التصميم الجيني هو بمثابة حاسوب ذو حجم جزئي يبين كيف أن الخلية تبني وتصلح نفسها وتتفاعل مع العالم الخارجي. وبالمثل، فإن التقنيات هي تصميمات لإنتاج السلع والخدمات الاقتصادية. فالتقنية يمكن تصورها كنوع من حاسوب يوجه المنشأة نحو نشاط إنتاجي أو تسويقي معين. إنها تتضمن تعليمات كيف أن التقنية يمكن أن تتفاعل مع التقنيات الأخرى، وكيف يمكن إدارتها، وكيف يمكن أن تتطور في ظل رعاية مختلف الشركات القائمة. وبكلمات أخرى، كيف يمكن أن تتطور.
وبطريقة ما، فإن المفهوم المعاصر للتطور ما يزال هو مفهوم دارون. فمفهوم البقاء للأصلح the survival of the fittest ما يزال يعتبر كآلية دافعة. ولكن هناك أكثر. فالسنوات الثلاثين الأخيرة شهدت تقارب كيان واسع من المعرفة حول تطور النظم الديناميكية عموماً. ومن حيث الجوهر، فهذه نظرية رياضية، تتعامل مع سلوك النظم غير الخطية، كما في حالة تدفق الماء من صنبور أو ظهور الضباب في الصباح.
المقدمة المنطقية الأساسية لنظرية الفوضى هي الاتجاه الكوني للاضطراب، والانحلال، والتفسخ. صعود وهبوط الشركات، وإفلاسها، وموتها. عمليات الدمج والاكتساب ما بين الشركات، وانقضاضها، وجشعها. فهذه كلها جزء من آلية، ونظام عضوي حي، ومنشأة ما: وللحظة ما قصيرة، فالحياة هي انتصار على الموت. ولكن الانتصار سريع الزوال أبداً. وتتطلب الحياة التجديد في كل ثانية.


شكل 3-6 تجربة باستعمال الحاسوب computer simulation:: فوضى


تضم النظم المعقدة في داخلها عدداً كبيراً من "الوكلاء" كالجزيئات أو الأعصاب أو الأنواع. وفي النظم الاقتصادية، الوكلاء هم المديرون والشركات. ولمكافحة الميل الحتمي للكون نحو الاضطراب disorder، يعمد الوكلاء بشكل ثابت لتنظيم وإعادة تنظيم أنفسهم في بنى أكبر من خلال التصادم بين التسهيلات المتبادلة والتنافس المتبادل. الجزيئات تشكل الخلايا، والأعصاب تشكل الأدمغة، والأنواع species تشكل النظم البيئية ecosystems، والمنشآت تشكل الصناعات. وفي كل مستوى، تظهر خصائص جديدة تماماً properties. وإن قوانين ومفاهيم وتعميمات جديدة تصبح ضرورية في كل مرحلة. كل نظام ينطوي على عدة فرص ملائمة niches. وإن الفعل ذاته لشغل كل فرصة niche يفتتح فرصاً أكثر. النظام مكشوف للعيان دائماً، وفي حالة انتقال على الدوام. التقنيات الجديدة والمنشآت المبتدئة، التي تمثل طرقاً جديدة لعمل الأشياء، تنحي جانباً إلى الأبد حافات الوضع القائم، وحتى طرق الإنتاج القديمة الأكثر قوة عليها أخيراً أن تخلي الطريق.
التقنيات الناشئة هي تلك التي تتصدر أفق الجدوى التكنولوجية والتجارية. فغالباً ما يكون هناك سباق تنافسي بين عدة شركات تسعى لاستغلال تقنية جديدة، كالسباق بين شركات الحاسوب قبل سنتين لتطوير تقنية الحاسوب المحمول أو السباق الحالي لتطوير التلفزيون ذي التقنية العالية. البنى الصناعية الناشئة هي طرق جديدة لتنظيم البحث والتطوير (R&D)، والإنتاج، والتوزيع، و/ أو التسويق. فالتقنيات الجديدة غالباً ما تَحثُ التغيرات المثيرة للمنظَّمة الصناعية، كما يحدث حينما تتيح التحسينات في الاتصالات عن بعد إمكانية التواصل بين العاملين.
قد تكون المخاطرة المتأصلة وعدم التأكد أهم صفة مميِّزة للتقنيات الناشئة- المخاطرة risk بأن التقنية قد لا تكون فعالة، وعدم التأكد uncertainty من كيفية توافق مكونات التقنية الجديدة. تأملْ تعدد وسائل الإعلام multimedia- التزاوج بين حاسبات آلية، وفيديو، وتلفزيون، وأجهزة صوتية audio. من الواضح أنها ستتحقق. من الواضح أنها سوف تطلق ثورة إلكترونية. وبلايين الدولارات سيتم كسبها. ولكن كيف سيكون منظر هذا الاختراع الجديد بالضبط؟ هل سيعتمد على النقل بواسطة شبكة أسلاك بصرية ليفية أم نشر إذاعي من خلال موجات هوائية؟ وما هي الشركات التي ستستفيد من ذلك: شركات الأسلاك أم هوليود؟ شركات البرمجة مثل Microsoft أم صانعي الصناديق "الذكية" التي توضع على قمة أجهزة التلفزيون في البلاد كلها؟ سيبزغ هيكل صناعي جديد. وعند مقارنته بالماضي وتأمله، فليس من شك بأن هذا الهيكل يبدو قوياً، ومنظَّماً، ومنطقياً على نحو كامل.
لفهم طبيعة الوضع الصناعي الناشئ، تأملْ شركات الحاسوب اللامعة في الثمانينات التي أذلّت شركة IBM، القوية ذات يوم. فكلها كانت شركات مبتدئة مثل: Apple, Sun Microsystems, Compaq, Silicon Graphics, and Dell. إن محطات التشغيل والحواسيب الشخصية، التي تَصْدّرتها هذه الشركات، لم تكن مجرد منتجات حاسوب جديدة أعادتْ تنظيم تشكيلة منتجات صناعة الحاسوب؛ فالمنتجات الجديدة هذه أدخلتْ تغيرات أساسية في اقتصاد وبنية صناعة الحاسوب. وقد حافظت هذه الشركات على نفقات عامة متدنية، وأمنّت العديد من مكِّوناتها من شركات أخرى وذلك لتوفير نفقات البحث والتطوير R&D. والشركات الأصغر، مثل Cyrix, MIPS and Tseng Labs، يمكن النظر إليها كبيوت تصميم أو محلات تصميم لإنتاج المنتجات الصناعية للشركات الأخرى.
ماذا سيجلب لنا هذا البحث، الذي لا ينتهي قط، عن الإبتكار التكنولوجي؟ الجواب المدهش للرياضيات الحديثة غير الخطية هو أن الاتجاهين نحو النظام والفوضى- البناء والتدمير، اختراع الجديد ونبذ القديم- يمكن نوعاً ما أن يحفظ أحدهما الآخر في توازن، وأن لا يبلغا نمطاً ثابتاً أبداً، ولا أن يتحولا قط إلى اضطراب تتعذر السيطرة عليه. يسمى ذلك التوازن "حافة الفوضى" the edge of chaos. فعلى الحافة، يمتلك النظام استقراراً كافياً لحفظ نفسه وإبداعاً كافياً للتطور(5).
وعلاوة على ذلك، فعلى تلك الحافة ثمة تنظيم ذاتي، وهو جانب من التطور لم يفهمه حتى دارون. إنه يتجاوز مبدأ البقاء للأصلح. ومع تزايد سرعة عاصفة ما، ربما تتطور إلى إعصار. ويتجه الإعصار على طول طريق ما، من باهاما باتجاه فلوريدا. ولكن الإعصار يتلاشى أخيراً. كما أن الطيور المهاجرة تطّور مقدرتها على إيجاد طريقها باتجاه نصف العالم. الحيوانات المستقرة في أراضيها تطّور أعضاء كالرئة. وتتطور شركة General Dynamics إلى واحدة من أكبر الشركات المتعاقدة في مجال دفاع الولايات المتحدة، ولكن أخيراً، العام 1992، يُتخذ قرار ببيع معظم أقسامها وإعادة توزيع العائد النقدي من ذلك على حاملي الأسهم. فالهياكل تتشكل عفوياً كما ينازع النظامُ الفوضى.
التطور لا يجري بسرعة واحدة قط وبصورة يمكن التنبؤ بها. فهناك إبداع متفجر، ولكن مع فترات خمول طويلة أو حتى انهيار. الثورة الصناعية هي أحد انفجارات الإبداع التقني الذي حدثَ في بداية القرن التاسع عشر. وباستخدام مصطلحات النظرية الديناميكية، فإنها مثّلت مرحلة انتقال a phase transition (أو انتقال/ تحول مرحلي).
فهل نحن الآن، في بداية التسعينات، نتجه صوب مثل هذا التحول الاقتصادي، صوب تحول مرحلي إلى عصر الاتصالات الفورية instant communications، والإنسان الآلي، والتقنية الحيوية؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن الوضع الانتقالي سيتميز بالنظام والفوضى مقترناً بحركة تغير مستمرة في هياكل شركات زائلة. وأخيراً، يبرز وضع رأسمالي جديد من وسط هذه التغيرات المستمرة والهامة shakeout.

تحليل تجريبي لصناعة الحاسوب الأمريكية
بيانات الإنتاجية للشركات التي تنتج وتوزع منتجات الديجيتال تعكس الاضطراب الصناعي. فبعض الشركات تتمتع بنمو في الإنتاجية أسرع مما في سواها. وكما سنرى، قد لا يتواجد اتجاه في بيانات صناعة الديجيتال بحيث يمكنها أن تتجمع حول قيم مركزية كالمتوسطات. وبدلاً من ذلك، سيركز هذا التحليل على تخم التقنية (أو حد أو جيب أو صدر التقنية) technology frontier or envelope ، محدَّداً بأفضل الشركات أداءً في الصناعة. يتحقق التقدم التكنولوجي كلما اندفع الحد للأمام.
التخم (أو الحد) يمكن أن يتقرر بطريقة رياضية تسمى تحليل محفظة البيانات data envelopment analysis، اُكتشفت في أواخر السبعينات من قبل أ. جارنس A. Charness ودبليو. دبليو. كوبر W. W. Cooper. فالشركة الواقعة على الحد التكنولوجي هي شركة فعالة في تكاليفها cost effective، بمعنى أنها تنتج نواتجها بأقل نفقة على المدخلات. أي أنها تتمتع بـ "الكفاءة". منذ أيام آدم سمث وألفرد مارشال، كان الاقتصاد علم سلوك "الرجل الاقتصادي"، وهو فرد رشيد خيالي (أو متصوَر)، يزن كل أشكال السلوك الممكنة لتحقيق أعظم منفعة أو ربح ممكن، أو أي شيء مماثل. وهناك تعريف مستخدم على نطاق واسع يشير إلى أن الاقتصاد هو علم تخصيص الموارد المعطاة لتحقيق مجموعة من الأهداف المرغوبة.
ولكن الشركات المثالية الجزئية ليست جيدة تماماً عند حل مشكلة الأمثلية تلك optimizing problem. ومع ذلك، فهي جزء من الحقيقة التي ينبغي على الاقتصاديين التعامل معها. هذه الشركات ليست جيدة تماماً لتعظيم الربح. ومهندسوها قد لا يروا أو يفهموا الفرص التكنولوجية. وقد يكون مديروها قليلي الخبرة ببساطة. وبغية فهم العالم الحقيقي، نحتاج إلى نظرية إدارة تعمل عند الحد التكنولوجي الأكثر تطوراً cutting edge of technology، كما نحتاج أيضاً نظرية إدارة تعمل خلف ذلك الحد falling behind.
إن احتمال وجود "رجل غير اقتصادي"، وشركات تعمل خلف الحد التكنولوجي، أُمكن، طبعاً، تمييزه من وقت لآخر. فقد قدّرَ هربرت سيمون Herbert Simon، الحائز على جائزة نوبل، أن هناك شركات كثيرة قد لا تخفض تكاليفها لأدنى مستوى، ولكنها تختار، بدلاً من ذلك، تبني "السلوك المقبول" نوعاً ما satisficing behavior، أي السلوك الهادف لتحقيق الأرباح "المقبولة" وليس الأرباح القصوى. ومع ذلك، فقد حققت طريقة تحليل محفظة البيانات data envelopment analysis ثورة في علم الاقتصاد. إذ يتمكن الاقتصاديون، لأول مرة، من قياس هذه الأمور بصورة تجريبية. فالشركات الواقعة على الحد التكنولوجي تُقدَر كفاءتها بقيمة 1، والشركات الواقعة خلف الخد التكنولوجي تكون كفاءتها أقل من الواحد(6). ولغرض التوضيح، سنلقي نظرة سريعة على بعض النتائج التي تم تحصيلها من صناعة الحاسب الآلي في الولايات المتحدة خلال الفترة 1980-1991. تقوم حسابات محفظة البيانات envelopment calculations على بيانات مالية قياسية من حسابات الإيرادات والميزانيات العمومية ل 120 شركة تجارية. يقيس برنامج الحاسوب الأداء النسبي لسهم كل شركة حاسوب(7).
أولاً، تم اختيار عدد من مؤشرات الأداء (النواتج) كالمبيعات الكلية، والإيرادات، ورسملة السهم (القيمة السوقية للأسهم البارزة التي تعود للشركة). مؤشرات أخرى تقيس مدخلات العملية الإنتاجية، كالعاملين، ومصروفات البيع والإدارة، واستثمارات رأسمالية، ونفقات البحث والتطوير. ورغم أن هذا التحليل يبدو وكأنه قائمة طويلة، فهو، مع ذلك، لا يمثل سوى اختزال أولي للمشكلة.
تبين نتائج حسابات محفظة البيانات أن بضع شركات حققت بصورة نظامية إنجازات قصوى من ناحية كفاءتها الإنتاجية. ومن بين الشركات ألـ 11 هذه، تبرز الشركات seagate Technology Apple Computer,Compaq Computer, . كان موقع شركة Apple على التخم في كل سنة عدا سنة 1989. قلة من الشركات الرابحة (مثل شركة Dell المدرّجة في قائمة Wall Street منذ سنة 1989) هي شركات مبتدئة حديثاً ولديها سجل أقصر.
ولكن هذه كانت استثناءات. فالغالبية العظمى من الشركات ألـ 120 محل البحث كانت دون مستوى الكفاءة inefficient، أي أنها كانت خلف الحد التكنولوجي معظم الوقت. وهي لم تستخدم أفضل سياسة متاحة. فهي تمثل الإدارة المثالية الجزئية. وتتضمن القائمة أسماء معروفة في صناعة الحاسوب مثل Amdahl Corp., Data General Corp., Digital Equipment, Hewlett Packard, Sun Microsystems, Unisys, and Wang. IBM كانت على الحد التكنولوجي في بداية الثمانينات، ولكنها تراجعت إلى الخلف بحلول العام 1984.
كانت شركة Sun Microsystems، التي تأسست العام 1982، واحدة من أبرز نجوم شركات الحاسب الآلي. بعد إدراجها في قائمة Wall Street العام 1985، تضاعفت مبيعات هذه الشركة أكثر من 20 مرة خلال السنوات الخمسة التالية. ومع ذلك، كانت الشركة دون مستوى الكفاءة في كل سنة، قابعةً بشكل ثابت خلف حد التكلفة الفعالة cost-effectiveness frontier. كيف يمكن أن يحصل هذا؟ الجواب هو أن إدارة شركة Sun ضحّت بشكل واعٍ بفعالية التكلفة في الأجل القصير لتحقيق نمو سريع في الأجل الطويل. وكانت Sun تنعم وتستفيد من خطها لمحطات تشغيل الحاسوب، الناجح جداً، الذي تم بناءه حول برمجية UNIX (الذي طورّته شركة AT&T أصلاً).
التاريخ الحديث للحواسيب هو تاريخ بضع شركات ناجحة جداً، مثل Apple, Cray, Microsoft and Sun، التي نمت بمعدلات لا تُصدَق خلال المراحل الأولى من دورات حياتها. وهذه المعدلات كانت عمليات عدم توازن متشعبة (أو متباعدة) divergent بشكل جامح. إذ ثوّرت هذه الشركات صناعتها. ومع ذلك، وحتى أثناء مرحلة انفجارها، لم تستطع بلوغ الحد الستاتيكي. إن ثورات التكنولوجيا العظيمة تكون متمردة، وتتجاوز بخيلاء وتباهٍ المفهوم المحاسبي الضيق للتكاليف الفعالة!

الجدول 1-6شركات الحاسوب ذات الفعالية القصوى خلال سلسلة زمنية طويلة في الفترة 1980-1991
Apple Computer Dell Computer Corp. Quantum Corp.
Atari Corp. Floating Point Systems Seagate Technology
Compaq Computer Corp. National Computer Silicon Graphics
Conner Peripherals Systems Stratus Corp.
ملاحظة: على أي منشأة، لكي يتم شمولها بهذا الجدول، أن لا تكون درجة كفايتها أقل من 1 إلاّ لمرة واحدة.

إذاً، من يقود التقدم نحو المجهول التكنولوجي؟ أليست هي تلك الشركات التي تقع عند حد التكلفة الفعالة، أم تلك الواقفة على الخط الثاني والجاهزة للانقضاض، تنطلق وتندفع لتصل إلى المقدمة؟ وكما سيدرك القارئ، فإن ديناميكا المعركة معقدة. ليس هناك قائد أعلى ميداني، حاملاً بيده عصا الجنرالات، وممتطياً جواده الأبيض، ومشيراً لجنوده نحو خط الهجوم. فكل واحد هو مدير تنفيذي رئيسي لنفسه. ليس هناك سوى أمر مؤكد واحد: مَنْ يقبعون بعيداً في الخلف، سيترنحون.
مع إهمال المفاهيم النمطية للتوازن، فإن الاقتصاديين العاملين في معهد Santa Fe Institute طوّروا نوعاً جديداً من النظام الاقتصادي مع "انتقادات إيجابية"، كازدهار سوق العقارات وانهيارات سوق الأسهم. وما أن تبدأ هذه الأنظمة بالعمل، فأنها تتضاعف مغذيةً نفسها بنفسها، إلى درجة معينة. ويبرز النقد الإيجابي في اقتصاد ما حينما تكون هناك عوائد متزايدة بالنسبة للحجم. عند هبوط متوسط تكاليف الإنتاج لبعض المنشآت مع تزايد الناتج، سيجد مديرو تلك المنشآت أن من المربح توسيع حجم عملياتهم. النواتج وحصص المنشآت الفردية من السوق سوف تدفع باتجاه مسار ديناميكي للنمو إلى حد ما(8).
إن الدوران السريع لدورات السلعة يقوّي نفسه بنفسه بمعنى أنه يميل لزيادة معدل تطوير السلعة أكثر. وإذ يراقب المديرون منافسيهم وهم يغرقون السوق بسلع ذات تصميمات جديدة ومتطورة، فإنهم يدركون بأن ماركاتهم هم brands سيتم هجرانها حتى على نحو أسرع مما كان متوقعاً أصلاً. ولكي يحافظوا على حصتهم من السوق، فسيترتب على كل منافس أن ينفق المزيد من الموارد على البحث والتطوير وأن يسّرع بمشروعاته المختلفة التي هي تحت التطوير أصلاً.
تُقدم طريقة تحليل محفظة البيانات envelopment analysis، الموصوفة سابقاً، فرصةً لتحديد الإمكانية الكامنة لتزايد العوائد بالنسبة للحجم. إذ يتبين بأن العوائد بالنسبة للحجم تميل للتغير بصورة نظامية مع دورة حياة تقنية ما. ففي بداية الدورة، تكون هناك عادةً عوائد كبيرة بالنسبة للحجم. الشركات المبتدئة، الشابة والمتوسعة، تنعم بعوائد متزايدة. ولكن مع نضوج تلك التقنية، لابد من استبدالها حالاً بجيل أحدث. وإذا تخلفت الشركة عن تحديث تقنيتها، ستجد نفسها في وضع تتدنى فيه عوائدها بالنسبة للحجم. وفي تلك اللحظة، فإن الخيار هو التراجع أو عمل كل جهد ممكن لاستعادة المبادرة التقنية.
العوائد المتزايدة هي الحالة العادية تماماً في بداية دورة حياة الشركة، وتأتي حالاً بعد إدخالها في قائمة Wall Street. كانت هناك 33 شركة حاسوب في قاعدة البيانات database العام 1980؛ ومن بين الشركات ألـ 87 الباقية التي دخلت قاعدة البيانات العام 1981 أو بعد ذلك، أظهرتْ 29 شركة عوائد متزايدة بالنسبة للحجم عند الدخول في السوق، وأظهرتْ 44 شركة عوائد ثابتة تماماً بالنسبة للحجم. وفي أي من الحالتين، دخلت هذه الشركات قاعدة البيانات بطريقة النمو المحتمل. إن تناقص العوائد بالنسبة للحجم في وقت العروض العامة الأولى IPOs قد ينطوي على تناقض؛ فهو ليس أمراً عادياً.
وكنتيجة طبيعية، يمكن أن نلاحظ بأن الشركات التي تحقق عوائد متزايدة قليلة تماماً. الشركة الأكبر التي حققت عوائد متزايدة العام 1991 كانت شركة CMS Enhancements التي كانت مبيعاتها 130مليون دولار. العديد من هذه الشركات حققت مبيعات أقل من 10 مليون دولار.
تحقق شركات عديدة عوائد متزايدة لفترات مطولة، كما هي موصوفة في الجدول 6-2. لاحظْ بصفة خاصة شركة Symbol Technologies. وإذ حققّت، عند انطلاقها، عوائد متزايدة لسنوات عدة (مع نمو المبيعات من 2.4 مليون دولار العام 1980 إلى 8.7 مليون دولار العام 1987)، فقد دخلت هذه الشركة مرحلة الكفاءة والنمو السريع (حيث زادت مبيعاتها من 13.9 مليون دولار العام 1985 إلى 319.4 العام 1991).

جدول 6 -2 السنوات التي شهدت وفورات متزايدة بالنسبة للحجم
ممثَلة في العينة منذ السنوات التي تحققتْ فيها العوائد المتزايدة بالنسبة للحجم
Astro-Med 1980 1984-88
Datasouth Computer 1983 1984-88
Genisco Technology 1980 1980-81, 1985, 1987-91
IX Systems 1987 1987-91
PCPI 1984 1985-90
Scan Graphhics 1987 1987-91
Symbol Technologies 1980 1981-84
Tridex 1984 1985-91
Vertex Industries 1987 1987-91
ملاحظة: يتضمن الجدول الشركات التي حققت عوائد متزايدة بالنسبة للحجم لخمس سنوات متتالية، على الأقل.

النموذج الأصلي لدورة حياة ناجحة لشركة تنتج منتَجاً واحداً يأخذ النمط التالي، كما يبدو: دخول السوق بعوائد حجم متزايدة، يتبعها مسار نمو مستقر مع عوائد ثابتة بالنسبة للحجم.
عند توصيف النتائج التجريبية بإيجاز، ترد كلمة واحدة: الاستقطاب. وبعيداً عن الشركات الأعلى كفاءةً- أي الشركات الواقعة عند حد الكفاءة efficiency envelope- تنقسم الصناعة إلى معسكرين متميزين: الشركات التي تحقق عوائد حجم متزايدة بالنسبة للحجم والشركات التي تحقق عوائد حجم متناقصة بالنسبة للحجم. المعسكر الأول يتألف من الشركات الصغيرة والشابة والتي تأسست حديثاً وتقع في بداية دورات حياتها. ونظراً لوجود عوائد متزايدة بالنسبة للحجم في هذه الشركات، فإنها تمتلك الحافز المالي للنمو. (تَذَكّرْ بأن متغيرات الناتج مالية كلها)
أثناء الفترة المعنية، بدأ عدد كبير من شركات الحاسوب الجديدة نشاطه. فمن بين الـ 102 شركة التي مُثلت في العينة العام 1991، فإن 28 شركة فقط كانت موجودة العام 1980. (خمس شركات إضافية كانت موجودة العام 1980 ولكنها انهارت أخيراً). وكما رأينا، أغلبية الشركات المبتدئة أظهرتْ، على الأقل في بداية دورة نشاطها، عوائد غير متناقصة بالنسبة للحجم. والكثير من الشركات المبتدئة كانت قادرة على البقاء في مرحلة النمو تلك خلال الفترة محل البحث. فمثلاً، دخلت شركة IX Systems قاعدة البيانات database العام 1987 واستمرت تحقق حصيلة منخفضة جداً في السنوات التالية. والشركات المبتدئة الأخرى التي أظهرت عوائد غير متناقصة بالنسبة للحجم في كل سنة هي: Alpharel, Datasouth Computer, Masstor Systems, Mylex, Scan Graphics, Science Accessories, Sulcus Computer, and Vertex Industries .
تركز الشركات المبتدئة نشاطاتها على منتَج واحد أو بضع منتجات فقط؛ ويُحتمل أن تمر مبيعات كل واحدة من هذه الشركات بمنحنى انتشار متميز، وهي تتجاوز أخيراً المرحلةَ الابتدائية هذه وتدخل مرحلةَ النمو والنضوج اللاحق. وبينما تفعل الشركات ذلك، فإن تحقيق المزيد من النمو يعتمد على قدرة الشركة على أن تُطلق، في التوقيت المناسب، أجيالاً ناجحة جديدة من المنتَج الأصلي. أي، أن العامل الاستراتيجي الذي يقرر النجاح أو الفشل هو إدارة دورة المنتَج. فإذا لم تكن الشركة قادرة على توليد سلسلة متواصلة من المنتَج الجديد على أساس التكلفة الفعالة في مجال تقنيتها، تقبع عندئذ خلف منافسيها. وسيهبط معدل كفاءتها، وسوف تظهر الآن وفورات متناقصة بالنسبة للحجم- أي أن الشركة قد نمت بسرعة شديدة وبالغت جداً في توسعها.
يتضمن المعسكر الآخر للصناعة شركات مستقرة وناضجة، بلغت، عادةً، حجماً معتبراً، وهي تصّنع وتسّوق مجموعة واسعة من المنتجات. وتحقق هذه الشركات عوائد متناقصة بالنسبة للحجم، أي أنها نظرياً ينبغي أن تكون قادرة على بلوغ الوضع الأمثل وفق النظرية الكلاسيكية الجديدة. ولكن مع تحقيق معدل كفاءة دون الوحدة، فالتحليل يبين لنا أنها فشلت في بلوغ ذلك الوضع، وتُظهر العديد منها علامات تدل على الخطر الشديد (هبوط المبيعات والخسارة).
تواجه الشركات المعمرة مهمة ضخمة: فإذ تسوّق مجموعةً واسعة من المنتجات، فينبغي عليها ترقية أو تجديد عدد كبير من المواد في خط إنتاجها سنوياً. وتشير الشواهد إلى إن معظم الشركات الكبيرة تواجه صعوبات في المحافظة على التكلفة الفعالة، رغم أنها تقوم بإنجاز برامج واسعة لقاعدتها في مجال البحث والتطوير. وبالمعنى الضيق، قد تكون هناك وفورات حجم من عملية بحث وتطوير أكبر وليس من عملية بحث وتطوير أصغر (استخدام أفضل للباحثين، وتوزيع المخاطرة بين عدد كبير من مشروعات التطوير)، ولكن الشركات الصغيرة التي تشغل مواضع تكنولوجية عالية التخصص غالباً ما تتمكن، رغم ذلك، من التنافس مع الشركات العملاقة والتفوق عليها. أحد الأسباب قد يكمن في وجود وفورات قوية من التخصص في البحث والتطوير. والسبب الآخر، طبعاً، هو أن الشركات ذات الموضع الملائم التي لا تحقق النجاح تخرج من السوق بسرعة بحيث لا تبقى فيه سوى الشركات الناجحة. وفي دراستنا، فإن 13 شركة حاسوب قد خرجت من العينة العام 1991؛ ولم تكن من هذه الشركات سوى اثنتان العام 1980.
والاستنتاج هو: إن الشركات من معسكر عوائد الحجم المتناقصة قد تراجعت وتفوقت عليها أسراب الشركات المبتدئة الصغيرة.
المشاهدات التي قمنا تواً بتوثيقها تناقض النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، التقليدية. فليس هناك "توازن" واضح في هذه الصناعة. من بين 120 شركة، بقيت شركتان فقط في تخم التوازن النظري خلال تلك السنوات (Apple and Cray Research). الصناعة تتصف بالاضطراب turbulence. ونؤكد بأن أساس هذا الاضطراب هو مواجهة بين المنتجات الفردية والتقنيات القائمة في مختلف دورات حياتها. وعلى نحو غير مباشر، إنها مواجهة بين شركات فردية بات بعضها أكثر فعالية من الشركات الأخرى في إدارة دورة منتَجها: بعض الشركات تقع في مرحلة الصعود (أو الازدهار) من دوراتها upswing، بينما تكابد الشركات الأخرى لأن منتجاتها بلغت مرحلة النضوج والزوال النهائي.

مستقبل الاقتصاد القائم على المعرفة
إذ يتابع مراقبون كثيرون كيف أن اقتصاديات العالم المتطورة أصبحت مدفوعة الآن بنمو لا مثيل له برأسمال المعرفة knowledge capital، فإن كثيراً منهم يسألون أنفسهم عما إذا كان هذا النمو سيستمر أم لا. هل أن الألفية الجديدة تبشّر بعصر النمو العنيف، ولكن المستديم، أم أنها ستشهد، أخيراً، انهياراً عظيماً من نوع كساد الثلاثينات؟ وكما لاحظنا، عندما تكون الآليات المدعَّمة ذاتياً في حالة عمل، فليس هناك سوى سبب ضئيل لتوقع أن يكون المسار الناشئ للنمو منظَّماً orderly وخطياً. وحتى لو ضمنا بأن تحولاً مرحلياً كبيراً هو في الطريق الآن، فما هو هذا التحول القادم: أهو ازدهار أم انهيار؟ هل يمكن لأسواق الأسهم في العالم الاستمرار بتسلق ارتفاعات شامخة أبداً، مدفوعةً بثورة الديجيتال، أم أن تراجعاً ضخماً يقبع في الانتظار؟
هناك وجهتا نظر متطرفتان ومتعاكستان. لغاية الوقت الحاضر، اعتمدت اقتصاديات الولايات المتحدة والاقتصاديات الغربية الأخرى على إمدادات ضخمة من الموارد كالفحم، والغاز الطبيعي، والحديد والمعادن الأخرى، والطاقة الهيدروكهربائية، والأراضي الصالحة للزراعة والغابات الملائمة لقطع الأخشاب. ولأن هذه الموارد محدودة، فإن أسعارها يمكن أن ترتفع عند تسارع نمو الاقتصاد، مما يؤدي إلى حركات دورية في أسعار الموارد وبالتالي إحداث انهيار بالنسبة للمعدل الممكن لنمو الاقتصاد الكلي. ومع ذلك، فما دام رأسمال المعرفة قد بات المحرِّك الأكبر للاقتصاد الحديث، ولأنه لا توجد حدود واضحة على تكوين رأسمال المعرفة الجديد، فمن السهل القول بأن الكثير من القيود المفروضة على الاقتصاد الصناعي السابق قد زالت الآن. إن الإنتاجية الحدية لرأسمال المعرفة يمكن أن تكون متزايدة بالفعل، وليست متناقصة. وعليه، ومن حيث المبدأ، يجب أن يكون ممكناً دعم مسار نمو كل الاقتصاد بزيادة كل من رأسمال المعرفة وناتج المعرفة (أي ذلك القسم من الناتج القومي الإجمالي الذي يمكن رده لرأسمال المعرفة) معاً in tandem، دون أن تكون هناك أي حدود على ذلك في الأفق المنظور.
يشير الرأي الآخر إلى الطبيعة غير المنظَّمة disorderly لاقتصاد المعرفة. يمكن لاقتصادٍ غير خطي أن يمتلك حلولاً متعددة، أي مسارات مستقبلية متعددة على شكل بدائل. قد يكون هناك مرشحون كثيرون لحالة التعزيز الذاتي طويلة الأمد؛ وأن تراكم الأحداث العشوائية الصغيرة يمكن أن يدفع النظام نحو مسارٍ باتجاه الانهيار النهائي. وكما أن المنتجات الفردية تدخل أخيراً في مسار تدني الإقبال عليها وتراجعها، فإن النظام ككل يمكنه أيضاً أن يندفع نحو مسار التراجع المتزامن. وهذا ما حدثَ مع صناعة شبه الموصلات semiconductor industry في عامي 1984-1985، حينما توسعت طاقاتها الإنتاجية بشكل مفرط على مستوى عالمي. ولا يتطلب الأمر خيالاً واسعاً لتصور إمكانية الانهيار المتزامن لكل صناعات الديجيتال في وقت واحد، من صناعة الاتصال إلى صناعة الحاسوب.
وعند تأمل هذه القضايا، فإن "الاستثمار المفرط" overinvestment هو أحد الأمور التي ينبغي الاهتمام بها. هل يمكن أن يكون هناك استثمار مفرط في رأسمال المعرفة، أي فيض في رأسمال المعرفة يقود أخيراً إلى كساد السوق؟ للإجابة على هذا السؤال، دعوني أولاً أن استعرض الجوانب المعروفة من الاستثمار المفرط في رأس المال "الصلب"، المألوف، hard capital كالاستثمار في صناعة الحديد، والبواخر، والبناء. الاستثمار المفرط يحدث لأنه يأخذ وقتاً لبناء وتشييد رأس المال الصلب (كبناء أحواض السفن والسفن) كاستجابة لزيادة الطلب. وحينما يكتمل أخيراً رأس المال المفرط ويدخل السوق، تنهار الأسعار ويظهر الفائض في العرض (تكون السفن عندئذ قد تراكمت). إن كلاً من التغيرات في الطلب والتغيرات في السعر تميل للتصاعد، كلما اتجهنا نحو الأعلى من سلسلة الإنتاج العمودي: فالتغييرات الصغيرة في أسواق السلع الاستهلاكية تميل لخلق تغيرات كبيرة في أسواق رأس المال. والزيادات الصغيرة في الطلب الاستهلاكي تقود نحو الإفراط في تكوين رأس المال، وتعمل بذلك عل تحضير المسرح للفائض النهائي في السوق.
إن هذه الآليات الكلاسيكية ما تزال إلى حد ما، كما يبدو، تسري على صناعة الديجيتال ؛ تأملْ المثال السابق عن صناعة شبه الموصلات. ومن السهل إيراد أمثلة أخرى. فالزيادة في مبيعات "الفيديو عند الطلب" (أسلاك مشتركة تبث نحو الفيديو عبر شبكة متداخلة)، مثلا، يمكن أن تقود إلى إنتاج مفرط من الأفلام، وتشييد استوديوهات جديدة للأفلام في هوليود ربما لا تكون قابلة للحياة في المدى الطويل. إن الزيادة في الطلب على برامج التعليم بواسطة Internet ربما تؤدي إلى زيادة مفرطة في إقامة المكتبات الإلكترونية. مثال ساطع آخر يمكن ملاحظته في حقل التقنية الحيوية. ففي بداية التسعينات، قاد الطلب على المنتجات الصيدلية التي تمت هندستها جينياً إلى انهيار الشركات المبتدئة للتقنية الحيوية الجديدة في الولايات المتحدة. فالعديد من العروض العامة الأولى الجديدة لم تتوقع حصول مبيعات وإيرادات عاجلة، بل كانت مجرد شركات بحوث. فقد كان في السوق عرض مفرط من رأس المال في حقل بحوث التقنية الحيوية biotech. ولكن النتيجة كانت واضحة في الحال: انخفاض أسعار الأسهم في كل صناعة التقنية الحيوية.
وأخيراً، فإن الطلب هو المحِّرك لتكوين رأسمال المعرفة: الطلب على المعلومات، على التعليم، وعلى التسلية. وإن انفجار الطلب على منتجات المعرفة هو الذي يحرك انفجار صناعة المعرفة. فهل يمكن لهذا الطلب الانفجاري أن يدوم، أم ستكون هناك، أخيراً، تخمة وركود؟
وإلى حد بعيد، فهذه مشكلة إدارية، مسألة توجيه جهود تطوير الإنتاج والتسويق على نحو يستجيب لرغبات المستهلك. وإن بقاء الأعمال في صناعة مضطربة أمر ممكن، ولكنه يتطلب نوعاً جديداً من الإدارة، أكثر تفهماً للسوق، وإمكاناته الكامنة، وحدوده.
الكثير من المنتجات ذات التقنية العالية تعتبر "كمالية" بمعنى أنها تمتلك مرونات دخل عالية. ولكن من المدهش أن عدداً من منتجات المعرفة تبدو، على العكس، من قبيل الأشياء الضرورية بحيث يقبل على شرائها حتى المستهلكون ذوو الدخول الضئيلة: أجهزة التلفزيون، ألعاب CD، آلات VCR، أجهزة الفيديو. كما يمكنني أن أفترض بأن مرونات انجل Engel elasticities لمنتجات المعرفة، مثل CD-ROMs والألعاب الالكترونية، تهبط بسرعة. والنتيجة ستكون حصول زيادة في الطلب على هذه المنتجات.
الجزء الأعظم من الطلب الكامن على صناعة المعرفة يقع عبر البحار. الولايات المتحدة هي القائد العالمي في تطوير برامج الحاسوب، والاتصالات عن بعد، وديجتيال التسلية. العالم بكامله هو سوق لمنتجات المعرفة الأمريكية. ولذلك، وبمعنى واقعي جداً،، فإن الطلب الذي يواجه شركات المعرفة الأمريكية هو طلب لا نهائي. يظهر أن هناك طلباً عالمياً نهماً على الأخبار، والأفلام، والتلفزيون، والبرامج التعليمية للولايات المتحدة.
يمكن التكهن بأن سبب القيادة الأمريكية للعالم في حقل صناعة المعرفة يعود، إلى حد ما، إلى تفاؤل الأمريكان وقدرتهم على اتخاذ الموقف. فليس بوسع أي بلد آخر أن يجاري تكاثر الشركات الصغيرة المبتدئة في الولايات المتحدة. وعلى أي حال، فمن الواضح أن الولايات المتحدة تتمتع "بمزايا نسبية" قوية comparative advantages في تكوين ونشر رأسمال المعرفة، بمعنى المذهب الكلاسيكي للميزة النسبية. وإذا كانت هذه الميزة لها جذور في الخصائص الوطنية الأساسية، فهناك إذاً سبب للاعتقاد بأن هذه الميزة العالمية ستستمر طويلاً في القرن الحادي والعشرين، بحسب رأيي.
من السهل تصور سيناريو للمستقبل تكون فيه الولايات المتحدة قائدة هائجة للتقدم التكنولوجي العالمي وعاملةً على نشر رأسمال المعرفة في ربوع العالم. من الواضح أن هذه الصورة لا تمنع التطور السريع لإنتاج رأسمال المعرفة في البلدان الأخرى (كالتقدم السريع للاتصالات عن بعد في فرنسا، مثلاً) وفق نموذج: مركز قائد وتطورات تابعة في الأطراف. ومع ذلك، ومع نمو قطاع المعرفة، وطنياً وعالمياً، فإن نموذج عدم التوازن سيكون المفتاح لفهم أحداث المستقبل.
هوامش
يعتمد هذا الفصل على محاضرة قدمّها الكاتب في معهد Institute Superior Tecnico, Lisbon في 18 آذار 1997، والتي دشّنَ بها كرسي الأستاذية، الجديد، في مادة التسيير التجاري للعلم والتكنولوجيا التي منحتها رابطة Luso-American Development Foundation.
(1) J. Yorke and T. Y. Li, ‘Period Three Implies Chaos,’ American Mathematical Monthly 82 (1975): 985-992.
السلاسل التجريبية لدورات الحياة، كتلك الموضحة في الجدول 6-1، يمكن إيجادها لدى: J. A. Norton and F. M. Bass, A Diffusion Theory Model of Adoption and Substitution for Successive Generations of High Technology Products, Management Science (September 1987): 1069-1086 (for computer chips), and in J. A. Norton and F. M. Bass, Evolution of Technological Generations: The Law of Capture, Sloan Management Review (winter 1992): 66-77 (disk drives, recording media, beta blockers).
(2) التجربة المعمولة باستخدام الحاسوب computer simulation ، الموضحة في الشكل 6.2، كانت وفق الآتي:
دع X ترمز إلى مبيعات الجيل الأول، Y مبيعات الجيل الثاني، Z مبيعات الجيل الثالث من المنتَج. القيم الأولية وُضعت كما يلي:
X= 0.001, Y= 0.0001, Z= 0.00001. وعلاوة على ذلك، أُفترض بأن المبيعات في أي شهر تالٍ (الرمز + 1 ) ترتبط بمبيعات الشهر السابق من خلال المعادلات X+1= 2X(1-X-Y-Z)-0.1X, Y+1= 3Y(1-X-Y-Z)-0.25Y, Z+1= 3.75Z(1-X-Y-Z)-0.4Z
لمزيد من التفصيل،أنظر S. Thore, The Diversity, Complexity, and Evolution of High Tech Capitalism (Boston: Kluwer Academic Publishers, 1995), Chapter 7.
(3) الفرضيات الرقمية للشكل 6-3 هي نفسها في الشكل 6-2، فيما عدا إن مبيعات الجيل الثالث من المنتَج أخذت الصيغة التالية:
Z+1= 4.35(1-X-Y-Z)-0.4Z.
(4) حول مفهوم "حافة الفوضى"، أنظر M. M. Waldrop, Complexity: The Emerging Science at the Edge of Order and Chaos (New York: Simon and Schuster, 1993), and R. Lewin, Complexity: Life at the Edge of Chaos (New York: Macmillan, 1993).
(5) للإطلاع على مسح حديث لطريقة تحليل محفظة البيانات data envelopment analysis، أنظر الفصل التمهيدي من:
A. Charnes, W. W. Cooper, A. Y. Lewin and L. M. Seiford, eds., Data Envelopment Analysis: Theory, Methodology and Applications (Boston: Kluwer Academic Publishers, 1994).
(6) دراسة صناعة الحاسوب الأمريكية، المذكورة في متن الكتاب، تم وصفها في:
S. Thore, G. Kozmetsky, and F. Philips, DEA of Financial Statements Data: The U.S. Computer Industry, Journal of Productivity Analysis 5 (1994): 229-248, and S. Thore , T. W. Ruefli, and P. Yue, DEA and the Management of the Product Cycle: The U.S. Computer Industry, Computers and Operations Research 23 (1996): 92-99.
(7)See W. B. Arther, Competing Technologies, Increasing Returns, and Lock -in by Historical Events, Economic Journal (March 1989) and "Positive Feedbacks in the Economy, Scientific American (February 1990): 92-99.
(8) فيما يخص النتائج المتعلقة بوفورات الحجم في صناعة الحاسوب الأمريكية، فإنها مبيَّنة في:
S. Thore, ‘Economies of Scale in the U.S. Computer Industry: An Empirical Investigation Using Data Envelopment Analysis, Journal of Evolutionary Economics 6 (1996): 199-216.
البيانات في الجدول 6 -2، وفي متن الكتاب، كلها منقولة من هذا العمل.
















الفصل السابع
المنظَّمات الشبكية- الخلوية
ريموند مايلز، جامعة كاليفورنيا Raymond Miles, University of California، جارلس سي. سنو، جامعة بنسلفانيا الحكومية Charles C. Snow, Pennsylvania State University، جون أ. ماثيوس، جامعة ويلز الجنوبية John A. Matthews, University of South Wales، غرانت مايلز، جامعة تكساس الشمالية Grant Miles, University of North Texas

منذ فترة الثورة الصناعية، تحركَ الاقتصاد الأمريكي من عصر الآلة إلى عصر المعلومات، ليقف الآن على عتبة عصر المعرفة. وفي سياق هذه العملية، فإن نماذج المنشأة قد تحولت من الصناعات الكثيفة رأسمالاً capital-intensive industries، كالصلب والسيارات، إلى الصناعات الكثيفة بالمعلومات information-intensive industries، كالخدمات المالية واللوجستية، وهي تتجه الآن نحو الصناعات التي يحركها الابتكار، كصناعات برامج الحاسوب والتقنية الحيوية، حيث تكمن الميزة التنافسية في الاستخدام الفعال للموارد البشرية، على الأغلب.
لقد تمت تقوية وتسهيل هذا التطور في وقت متزامن من خلال ابتكار سلسلة أشكال تنظيمية جديدة- أي أساليب جديدة لمراكمة وتطبيق المعرفة الفنية على الموارد الأساسية في وقتنا الحاضر. فكل شكل تنظيمي جديد سمحَ للمنشآت باستعمال معرفتها الفنية المتسعة للتكيف مع طلبات وفرص السوق، وذلك، أولاً، بالنسبة للسلع والخدمات النمطية standardized، ومن ثم لمستويات متزايدة من السلع والخدمات المعدَّلة customization، واليوم بالنسبة لتوقع الابتكار المستمر.
نعتقد بأن اتجاهات محددة تتجلى بوضوح الآن في مجال التطور المشترك coevolution للأسواق والمنشآت- اتجاهات تجعل من الممكن توقع شكل وعمل منظَّمة القرن الحادي والعشرين. وعلاوة على ذلك، نعتقد أن عدداً من المنشآت الرائدة تبين بالفعل الخصائص التنظيمية المميِّزة التي توحي بها هذه الاتجاهات، وبخاصة تزايد الاعتماد على الطاقة التنظيمية enterpreneurship، والتنظيم الذاتي self-organization، وملكية الأعضاء لأصول المنشأة ومواردها member ownership.
تطور الأشكال التنظيمية
من الناحية النظرية، الشكل التنظيمي هو عبارة عن منطق شامل يشكل ويضم استراتيجية المنشأة، وبنيتها، وعملياتها الإدارية، في كيان واحد فعال. في كل عصر تاريخي، "تسحب" pull forth قوى السوق أشكالاً تنظيمية جديدة حين ينشد المديرون طرقاً جديدة لترتيب الأصول والموارد لإنتاج السلع والخدمات التي يطلبها ويتوقعها الجمهور. وفي الوقت نفسه، في كل عصر، تراكم بعض الشركات معرفة فنية know-how أكثر مما يسمح باستعماله منطق عملها الجاري. وهذه القدرات الزائدة "تدفع" push المديرين لاختبار ترتيبات تنظيمية جديدة تحفز، بدورها، على البحث عن أسواق جديدة و/ أو سلع وخدمات جديدة. وكما سنبين، فإن التفاعل المستمر بين قوى الدفع- السحب هذه push-pull forces كانت واضحة في العصور الرئيسة التي ميّزت الاقتصاد الأمريكي على مدى السنوات المائة الأخيرة. (أنظر الجدول-7 1)
عصر النمطية Standardization
أبصر عصر النمطية أشكالاً هرمية للمنظمة اعتادت على تطبيق المعرفة الفنية أساساً على الأصول المادية كالمواد الأولية، والمعدات الرأسمالية، والتسهيلات الموجودة في المصنع، وغيرها. في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تعلمت الشركات الرائدة بشكل كفء أن تنتج على نطاق واسع السلع (كالحديد والسيارات) والخدمات (كالنقل والاتصالات) النمطية standardized(1). وقد استعمل الشكل التنظيمي السائد في تلك الفترة، المنظمة الوظيفية functional organization، بنيةً منسقة مركزياً، ومتكاملة عمودياً، لإدارة العاملين في أعمال عالية التخصص. ومن خلال التركيز على خطوط محدودة للسلع والخدمات، تحركت الشركات أسفل منحنى التعلم learning curve، مستخدمةً معرفتها الفنية المتراكمة لتحقيق التوفير في الوقت والتكلفة الذي أضاف باستمرار قيمة للموارد المستخدمة وسمحَ للولايات المتحدة بقوة أن تشق طريقها نحو القوة الاقتصادية العالمية.
التعديل المبكر Customization
كما يبين الشكل-7 1، فإن عصر التعديل بدأ فعلاً في فترة مبكرة من الإنتاج النمطي. أي أنه في منتصف القرن العشرين (وحتى قبل ذلك في صناعاتٍ كالسيارات والتجزئة)، أخذت الأسواق عموماً تتطلب متطلبات أكثر، وأن بعض المنشآت راكمتْ معرفة فنية لم تستطع أن تستخدمها كلياً في إنتاجها القائم من السلع والخدمات. وهكذا، "سحبت" الأسواقُ الشركاتَ لكي تنوع عروضها، وأن المعرفة الفنية والموارد غير المستخدمة "دفعتها" نحو أسواق جديدة حيث كان التوسع ممكناً(2). وقد تضافرت تلك القوى على ابتكار شكل تنظيمي جديد: القسم the divisional الذي مكّنَ الشركات من خدمة الأسواق المعنية بسلع وخدمات متمايزة differentiated goods and services. وفي هذا الشكل: القسم، فإن المعرفة الفنية المتراكمة في سوق معينة يمكن استعمالها في قسم جديد وشبه مستقل لإنتاج سلع وخدمات لأسواق أخرى، ولكن ذات صلة. وقد نشدت المستويات التنفيذية في قطاع الأعمال فرصاً سوقية جديدة لخلق أقسام جديدة واستعملت تدفقات الإيراد الجاري لاستثمار المعرفة الفنية والموارد في هذه الحقول الجديدة. ورغم أن كل قسم أنتجَ، عادةً، سلعة نمطية معينة (كالسيارات في شركة General Motors)، فإن الشكل التنظيمي هذا، القسم، مكنَ الشركات من تحقيق مقادير محدودة من التعديل customization (تقسيم السوق).
الجدول 1 -7التطور التنظيمي
العصر التاريخي النمطية التعديل الابتكار
الشكل التنظيمي السائد تسلسل هرمي شبكة خلية
الأصل الأساسي سلع رأسمالية معلومات معرفة
المدير المؤثر المدير التنفيذي الرئيسي مدير المعلومات الرئيسي مدير المعرفة الرئيسي
المقدرة الأساسية التخصص والتقسيم المرونة والاستجابة التصميم كعمل إبداعي
استمرَ الانتقال من النمطية إلى التعديل حتى وقت متأخر من الستينات والسبعينات كلما تبنت المنشآت أشكالاً تنظيمية مختلطة، كالمصفوفة، أتاحت التركيز المزدوج على كل من القسمْين الثابت والناشئ من السوق والزبائن(3). فمثلاً، باستخدام تنظيم المصفوفة، تمكنت منشأة أرضية- فضائية مثل TRW من إنتاج سلع متمايزة، ولكن نمطية، للأسواق المدنية والحربية في قسم واحد أو عدة أقسام divisions في حين تحوّل، في نفس الوقت، بعض الموارد من تلك الوحدات إلى مجموعات المشروع الذي صمّم وشيّد منتجات نموذجية أصلية لاستكشاف الفضاء. لقد زوّدَ تنظيم المصفوفة الشركات بآلية أكثر دقة لاستغلال معرفتها الفنية عبر حدود واسعة للسلع والخدمات النمطية والمعدلة معاً.
تعديل كامل وكفء
بحلول الثمانينات، تشددَ "السحب" باتجاه التعديل customization حينما استعمل عدد متزايد من المنشآت في العالم كله معرفتها الفنية لدخول سوق عالمي بات يخضع لتوجيه حكومي أقل بدرجة متزايدة(4). وقد تنافسَ القادمون الجدد، لجذب انتباه المستهلك، على الأسعار الأقل، والنوعية والتوزيع الأفضل، والاختيار بين نماذج وموضات لا نهاية لها، كما يبدو. ومع ذلك، في البداية، وجدت العديد من الشركات القائمة صعوبةً في إطلاق قدراتها ومعرفتها الفنية لتلبية الفرص والضغوط الجديدة في السوق. وكانت التنظيمات على شكل قسم ومصفوفة، التي صُممّت لأسواق أقل تحدياً واضطراباً، ملائمة لتلبية احتياجات التنسيق الداخلي أكثر مما للغزوات السريعة للأسواق الجديدة. ومرة أخرى، كان الشكل التنظيمي الجديد ضرورياً لمساعدة المنشآت على استعمال وتوسيع قدراتها. والنموذج الذي تطورَ، منذ أواخر السبعينات وحتى التسعينات، كان هو المنظَّمة الشبكية(5) network organization.
المساهمة الأساسية للشكل الشبكي لم تتمثل فقط بقدرته على الاستجابة السريعة لما يطلبه السوق من سلع وخدمات متمايزة differentiated، بل أيضاً في أنه يفعل ذلك بصورة فعالة بواسطة توسيع عملية التعديل customization إلى الأمام وإلى الخلف على طول سلسلة القيمة كلها في الصناعة: من المواد الأولية، إلى أجزاء ومكونات الإنتاج، وإلى التصنيع والتجميع، والتوزيع، وحتى البيع النهائي. وفي بحثها عن المرونة والاستجابة responsiveness، شرعت معظم الشركات التقليدية بتقليص حجمها، وفيما بعد، إعادة التركيز على تلك المناطق التي تكون فيها لأصولها ومعرفتها الفنية قيمة اقتصادية أعظم. ومع تقلص العمالة في الشركات وإعادة هندستها، فإنها بدأت بمنح عملياتها غير الأساسية لمنشآت "شريكة"، بعيدة وقريبة، أكملتْ قدراتها قدرات الشركات نفسها. ومع انتشار الشبكات التي تتألف من عدة منشآت، بدأ عدد كبير من الشركاء المحتملين في العالم بتولي نقاط على طول سلاسل القيمة الصناعية، عارضين مرونة شاملة أكثر وبالتالي فرصاً أكبر للتعديل. وقد حافظَ العدد المتزايد من المنشآت المقتدرة على كبح الأسعار، وتحسين نوعية السلع والخدمات، والضغط على كل المنشآت لتبني تقنيات معلومات وإنتاج أفضل.
ومن الزاوية التنظيمية، فالأهم هو أن الشركات بدأت تدرك بأن النجاح في عصر التعديل الكفء كان يتطلب، مرة أخرى، مستوى من المعرفة الفنية واستخدام الموارد أعلى مما كانت تسمح به العمليات الإدارية الداخلية القائمة. اتجهت الشركات، بدرجة متزايدة، نحو بنى شبكية ذات فرق مؤهلة، تولتْ ليس فقط عملياتها الداخلية، بل أيضاً بناء علاقات خارجية مع شركاء بعيدين وقريبين. وفي شبكات كثيرة في التسعينات، أصبح من الصعب تقرير أين تنتهي منشأة ما وأين تبدأ أخرى، وذلك مع قيام فرق من عدة منشآت بمعالجة المسائل البينية المشتركة، وكذلك دعوة ممثلين عن الزبائن المهمين للمشاركة في عمليات تطوير المنتجات الجديدة، إضافة إلى تمكين المجهّزين من الدخول والإطلاع على جداول وعمليات المحاسبة للمنشآت الكبيرة من خلال أنظمة تبادل البيانات الالكترونية.
خلاصة
على مدى قرن تقريباً، فإن سحب قوى السوق، ودفع المعرفة الفنية غير المستخدمة للشركات، قد حملت الاقتصاد الأمريكي من عصر النمطية الواسعة إلى عصر التعديل الكفء. وخلال هذه الفترة، واجهت المنشآت بشكل متزايد سوقاً وبيئات تقنية معقدة. وفي سياق استجابتها، باتت المنشآت ذاتها أكثر تعقيداً من خلال إنشاء وسائل تنظيمية جديدة لإضافة قيمة اقتصادية.
المنشآت الوظيفية functional، وكما هو مبين في الجدول 7 - 2، استعملت أساساً معرفتها الفنية التشغيلية المتزايدة operating know-how لإضافة القيمة الاقتصادية، مستخدمةً كبار المديرين للتنسيق والتوجيه التنظيمي فقط. أما الشكل القْسمي divisional form، فقد استعمل المعرفة التشغيلية، ولكنه أيضاً طوّرَ وطبّقَ المعرفة المتعلقة بكيفية استثمار النقود والأفراد والأنظمة في الأسواق المرتبطة- أي ما يسمى بالمعرفة الفنية التنويعية diversification know-how. وفي سياق هذه العملية، فإن المنشآت القْسمية divisional firms قامت ليس فقط باستخدام مديريّ شركات أعمال، بل أيضاً مجموعة موسعة من مديريّ الأقسام وزجتهم بعمليات تنظيمية وصنع قرارات الأعمال.
شكل 1-7 التنظيم الخلوي لشركة TCG


صُممت منظمات المصفوفة matrix organizations لإضافة القيمة ليس فقط من خلال تطبيق المعرفة الفنية التشغيلية والاستثمارية investment know-how، بل أيضاً من خلال قدراتها في مجال التكييف- فغالباً ما يتم إعادة توزيع الأصول غير المستخدمة على احتياجات المشروعات المؤقتة والفرص الجديدة في السوق. وفي تلك المنشآت، فإن كبار المديرين، ومديريّ الأقسام، ومديريّ المشروعات، كلهم كانوا يشاركون بدور المنظِّم والقرارات التنظيمية.
الجدول 7 - 2 موقع المعرفة الفنية الإدارية في الأشكال التنظيمية البديلة
المعرفة الفنية التشغيلية المعرفة الفنية الاستثمارية المعرفة الفنية التكييفية
الوظيفية أعلى، وسط، أدنى أعلى أعلى
القسمية أعلى، وسط، أدنى أعلى، وسط أعلى
المصفوفة أعلى، وسط، أدنى أعلى، وسط أعلى، وسط
الشبكة أعلى، وسط، أدنى أعلى، وسط أعلى، وسط، أدنى
الخلوية أعلى، وسط، أدنى أعلى، وسط، أدنى أعلى، وسط، أدنى
أتاح الشكل الشبكي زيادة القيمة ليس فقط في داخل المنشآت، بل فيما بينها أيضاً على طول سلسلة القيمة، جامعاً بذلك المعرفة الفنية التشغيلية والاستثمارية والتكييفية للمنشآت الفردية، ومحققاً مستويات أعلى من استخدام الطاقات المتاحة من خلال حرية المنشآت بالارتباط بسرعة مع شركاء كثيرين، قريبين وبعيدين. إن اعتماد المنشأة الشبكية على فرق صنع القرارات، داخل المنشآت وفيما بينها معاً، قد زاد بصورة مثيرة من المشاركة بالقرارات التنظيمية وقرارات المنظِّمين في كل المنشآت والمستويات.
وباختصار، عبر هذه الفترة الكاملة من التطور التنظيمي، ثمة اتجاهات محددة وواضحة. أولاً، إن ظهور كل شكل تنظيمي جديد قد حملَ التوقع بأن أكثر وأكثر من المنشآت الأعضاء سوف تطوّر المقدرة على التنظيم الذاتي في مهام التشغيل والسوق والشراكة. ثانياً، إن كل شكل جديد زاد نسبة الأعضاء ممن كان يتوقع منهم أداء مهام المنظِّم- تشخيص حاجات الزبائن ومن ثم إيجاد الموارد وتركيزها على تلك الحاجات. ثالثاً، كل شكل تنظيمي جديد زاد من فرص الأعضاء لممارسة وتعلم التملك النفسي لزبائن معينين، والأسواق، والمنتجات والخدمات المعدَّلة، وما شابه. ولأن قياس الأداء، أيضاً، يتم الآن عند نقاط ومستويات تنظيمية أكثر، فقد ازدادت فرصة أنظمة المكافأة لتشجيع الملكية المالية، على شكل علاوات وخطط شراء الأسهم على الأكثر. إن هذه الاتجاهات الأساسية يمكن استعمالها، كما نعتقد، للتنبؤ بالخصائص الرئيسية للأشكال التنظيمية في القرن الحادي والعشرين.
القرن الحادي والعشرين: عصر الابتكار
في عالم الأعمال المقبل، يستمر تجهيز بعض الأسواق بالسلع والخدمات النمطية standard، بينما ستطلب الأسواق الأخرى كمية كبيرة من السلع والخدمات المعدَّلة customization. ومع ذلك، فإن السحب المستمر لقوى السوق، ودفع المعرفة الفنية المتزايدة دوماً، المعزْزة بالشراكة الشبكية، يحرك بالفعل بعض الصناعات والشركات نحو ما يرقى إلى عملية مستمرة من الابتكار. وإضافة إلى تعديل التصميمات القائمة، فقد أصبح ابتكار السلع والخدمات الحلقة الأهم من النشاط الذي يضيف القيمة في عدد متزايد من المنشآت. إن ما يسمى بمشروعات أعمال المعرفة، كخدمات التصميم والهندسة، والإلكترونيات المتقدمة والتقنية الحيوية، وتصميم برامج الحاسوب، والرعاية الصحية، والاستشارة، ليس فقط تغذي عملية الابتكار، بل تغذيها في صورة دورة مستمرة بحيث تخلق أسواقاً وبيئات أكثر- وأكثر تعقيداً(6). وفي الواقع، فبالنسبة للشركات في هذه المجالات من الأعمال، وسواء باختيارها أو كنتيجة لاختياراتها، فإن المدخلات والمخرجات التنظيمية تصبح غير قابلة للتوقع بدرجة عالية.
فمثلاً، بحسب المدير التنفيذي الرئيسي لمنشأة متخصصة بالتقنية الحيوية، فإن المدخلات الكامنة للمنشأة تنتشر عبر مئات، وحتى آلاف، العلماء في العالم. وتحيط كل باحث بارز مجموعةُ من الزملاء، التي هي خليط غني بالمواهب، وتربطها مجموعة من الآليات بما في ذلك الاهتمامات المشتركة، وأنظمة المراسلة الإلكترونية، والمؤتمرات الفنية، وما شابه. ولا تقوم إجراءات التنسيق على أساس خطة، بل تترتب من تلقاء نفسها نوعاً ما، عاكسةً الحاجة للمعرفة وفرص المشاركة في البيانات كما ينظمها أعضاء المجموعات المختلفة. إن التحدي الكلي أمام المنشأة العاملة في مجال التقنية الحيوية هو الحفاظ، قدر الإمكان، على علاقة قوية مع حقل المعرفة المتطور هذا باستمرار. وهناك نمط معقد بشكل مماثل يمكن ملاحظته عند السطح البيني لإنتاج المنشأة، حينما تتشكل التحالفات والشراكات الكثيرة للمساهمة بجزء من المنتجات المتطورة (والمنتجات العرضية) في مراحل التصميم النهائي، وعمل الاختبارات، والتسويق. ومن الواضح أن المنشأة العاملة في حقل التقنية الحيوية والتي تتسم ببنية جامدة لن تكون قادرةً على توفير المرونة الداخلية الضرورية لمجاراة التعقد في بيئتها.


شكل تنظيمي جديد لعصر اقتصادي جديد

وهناك عناصر مماثلة من التعقيد واضحة في عدد متزايد من الصناعات. ففي برامج الحاسوب، مثلاً، ثمة حدود قليلة على الإمكانات المربحة لتصميم المنتجات، وأن هناك طابوراً ضخماً من المصمِّمين المستقلين ممن يتحركون حول شركات البرمجة من مختلف الأحجام. وهكذا، فأمام المنشآت خيارات واسعة ومتبدلة باستمرار بالنسبة للحصول على المدخلات والمخرجات في حقول عملها. في مواجهتها لهذه الفرص، ووضع الخطوط العريضة للاتجاهات التطورية، كما نوقشت قبل قليل، يمكن للمرء أن يتوقع من المنشأة في القرن الحادي والعشرين أن تعتمد كثيراً على مجموعات من العناصر المنظَّمة ذاتياً التي تستثمر بصورة تعاونية المعرفة الفنية للمشروع في سلع وخدمات مبتكرة للأسواق التي ساعدوا هم في نشوئها وتطويرها.
إن أفضل وصف لهذه المنشآت، في رأينا، هي أنها منشآت خلوية cellular(7). والخلوية وصف مجازي يوحي بمنشأة حية وقادرة على التكيف. فالخلايا في الكائنات الحية تمتلك وظائف حياتية أساسية، ويمكنها أن تقوم وحدها بإشباع حاجة محددة. ومع ذلك، ومن خلال عملها معاً، يمكن للخلايا أن تؤدي وظائف أكثر تعقيداً. إن تطوير الإمكانات، أو "التعلم"، إذا شاركتْ به كل الخلايا، يمكن أن يخلق كائناً حياً أرقى. وبالمثل، فإن المنشأة الخلوية تتكون من خلايا (فرق مدارة ذاتياً، أو وحدات أعمال مستقلة، وما شابه) تستطيع أن تعمل لوحدها، ولكنها يمكن أن تخلق آلية أعمال فعالة ومقتدرة أكثر حينما تتفاعل مع خلايا أخرى. إن هذا الخليط من الاستقلال والتفاعل هو الذي يمكّن الشكل التنظيمي الخلوي من خلق المعرفة الفنية والتشارك بها مما ينتج الابتكار المستمر.
الأسس الرئيسية للشكل الخلوي
سوف تحقق المنشآت الخلوية الكاملة، في المستقبل كما نعتقد، مستوى من المعرفة الفنية يتجاوز مستوى الأشكال التنظيمية السابقة، وذلك بجمع طاقات المنظِّمين enterpreneurship، والتنظيم الذاتي self-organization، والملكية المشتركة للأعضاء member ownership، على نحو ما بحيث تساهم كلها بتقوية بعضها بعضاً.
لدى كل خلية (أو فريق، وحدة أعمال استراتيجية، منشأة) مسئولية تنظيمية أمام المنظمة الأكبر. إن زبائن خلية معينة يمكن أن يكونوا زبائن خارجيين، أو أنهم يمكن أن يكونوا الخلايا الأخرى في المنظمة. في أي من الحالتين، فإن الغرض هو نشر العقلية التنظيمية في المنظمة بحيث تهتم كل خلية بإجراء التحسينات والنمو. وفي الواقع، فإن منح كل خلية مسئوليتها التنظيمية هو أمر جوهري لتحقيق الاستعمال الكامل للمعرفة الفنية المتزايدة دوماً لدى المنشأة. وبطبيعة الحال، فعلى كل خلية أيضاً أن تمتلك المهارات التنظيمية اللازمة لخلق الأعمال لها وللمنظمة ككل.
على كل خلية أن تكون قادرة على إعادة تنظيم نفسها باستمرار لكي تنجح في تقديم مساهمتها المنتظرة للمنظمة ككل. ومما له أهمية خاصة هنا هو المهارات التكنيكية المطلوبة لإنجاز وظائفها، والمهارات التعاونية الضرورية لتكوين الصلات الملائمة مع الوحدات التنظيمية الأخرى والمنشآت الشريكة الخارجية، ومهارات التوجيه والإشراف المطلوبة لإدارة نشاطاتها الخاصة بها. إن تطبيق المبدأ الخلوي هذا قد يتطلب من الشركة تسريح معظم جهازها الإداري القائم واستبداله بمهام وقواعد عمل معرَّفة بشكل مشترك لتوجيه التعاون الداخلي والخارجي. ومن الضروري مكافأة كل خلية على عملها تنظيمياً وبطرق مؤسسات الأعمال. وإذا كانت الوحدات الخلوية تتكون من فرق أو وحدات أعمال استراتيجية، وليس منشآت كاملة، فإن الملكية النفسية يمكن تحقيقها بتنظيم الخلايا كمراكز ربحية والسماح لها بالمشاركة بخطط الشركة لشراء الأسهم، وما شابه. ومع ذلك، فإن الحل الخلوي النهائي ربما يكمن في ملكية الأعضاء الفعلية لكل أصول وموارد الخلية، التي خلقوها والتي قاموا طوعاً باستثمارها في المنشأة على أمل تحقيق العائد المشترك.
نحو المنظمة الخلوية
لا توجد سوى أمثلة نادرة على المنظمات الخلوية التي تتجسد فيها الأسس الخلوية المختلفة وارتباطها المتبادل. لقد حاولنا تعريف ومتابعة تلك الشركات التي تبدو على الحد الأكثر تطوراً من الناحية التنظيمية. إن مقابلاتنا ومشاهداتنا لحد اليوم بينّت وجود مثال واحد عن منشأة خلوية كاملة: Technical and Computer Graphics of Sydney, Australia. كما أن Acer Group، وهي شركة حاسوب تنمو بسرعة، تستعمل الأسس الخلوية بصورة جادة على مستوى عالمي. وقد برزت مؤخراً أمثلةُ كثيرة في أرجاء العالم عن الشركات التي تستعمل الشكل الخلوي بصورة جزئية، وهي تعتمد على واحد أو أكثر من أسسه الرئيسية لتحقيق قدرات الابتكار الملهمة.
شركة TCG : منشأة خلوية كاملة
Technical and Computer Graphics (TCG) ، التي هي شركة خاصة لتقنية المعلومات، ربما هي أفضل مثال على الأسلوب الخلوي للتنظيم. تطّور شركة TCG مجموعة واسعة من السلع والخدمات، بما في ذلك الحاسوب المحمول، ونظم الحاسوب للرسم البياني، ونظم الرموز المانعة، ونظم تبادل البيانات الالكترونية، وسلع وخدمات أخرى من تكنولوجيا المعلومات IT. المنشآت الصغيرة الثلاثة عشرة في شركة TCG هي بؤرة النظام الخلوي. وكما هو شأن أي خلية في كائن حي أكبر، فإن كل منشأة لها هدفها وقدرتها على الأداء بصورة مستقلة، ولكنها تشترك في السمات والغرض العام مع بقية شقيقاتها. وتتخصص بعض المنشآت الأعضاء في شركة TCG بسلعة واحدة أو أكثر، بينما تتخصص المنشآت الأخرى بإنتاج البرمجيات والمعدات.
دخلت مختلف منشآت شركة TCG لهذه لمجموعة وهي تتمتع بقدرات عالية في حقل التقنية والأعمال. ومع ذلك، فإن الاتفاق الساري في شركة TCG يؤمن استمرار نمو الكفاءة في هذا النظام. وتسمى هذه العملية بـ "التثليث" triagulation، وهي تمثل الوسيلة التي من خلالها تطّور الشركةُ السلعَ والخدمات الجديدة(8). يقوم مفهوم التثليث على مشاركة ثلاثية بين 1) واحدة أو أكثر من منشآت شركة TCG، 2) شريك خارجي في مشروع أعمال (مثل Hitachi) حيث يقوم هذا الشريك، أيضاً، بتجهيز رأس المال للمشروع 3) زبون رئيسي (مثل Telstra، شركة الهاتف الأسترالية) الذي يكسب حقوق التعاقد بفضل طلبه المسبق الواسع، إضافة إلى توفير سيولة نقدية للمشروع المشترك. (أنظر الشكل 7 - 2).
يتُوقع من كل منشأة في TCG أن تبحث بشكل مستمر عن فرص لسلع وخدمات جديدة. وحينما يلوح مشروع محدد وواعد، فإن المنشأة المبادِرة تتصرف كقائد للمشروع بالنسبة لبقية المساهمين فيه. الخطوة الأولى في عملية التثليث هي تشخيص شريك للمشروع المشترك والتعاون معه، وهو منشأة لها خبرة في التقنية المقترحة. تتسلم TCG تمويلاً جزئياً للمشروع من الشريك في المشروع المشترك، كما تحصل أيضاً على حق الإطلاع على الأفكار التكنيكية وقنوات التوزيع. في الخطوة التالية، تعمل المنشأة القائدة للمشروع على تشخيص زبون أولي كبير للمنتَج الجديد. كما تتعاون TCG مع الزبون بمعنى أنها تعطي موافقتها على تصميم المنتَج الملائم لذلك الزبون. ومن خلال العمل المشترك مع الشريك في المشروع المشترك والزبون الرئيسي، فإن TCG تصبح قادرة على تطوير المنتَج الأكثر تطوراً وفق مواصفات الزبون الرئيسي.
وبحسب أسس الإشراف والتوجيه التي تحكم عمل TCG، يُتوقع أيضاً من المنشأة القائدة للمشروع أن تبحث عن شركاء إضافيين من بين منشآت TCG الأخرى- ليس فقط لوجود حاجة لمساهمتها الفنية، بل أيضاً لأن تعاونها بحد ذاته يعزز، كما هو متوقع، من المعرفة الفنية التنظيمية الشاملة. وهكذا تخدم عملية التثليث "الداخلية" هدفاً مزدوجاً. فهي توفر مدخلات مباشرة للمشروع، وتساعد على نشر الكفاءة في حقول معينة كتطوير حركة الأعمال، والمشاركة، وإدارة المشروع.
إن الأسس الثلاثة للتنظيم الخلوي مرتبطة بقوة في شركة TCG، وهي تعزز بعضهاً بعضاً بصورة متبادلة وتخلق منظمة قوية وشاملة. أولاً، إن الموافقة على تحمل المسئولية التنظيمية ضرورية للقبول ضمن المجموعة، وهي تتقوى باستمرار بعملية التثليث. ثانياً، يقدم التنظيم الذاتي للمنشأة الفردية كلاً من القدرة والحرية للبحث عميقاً في معرفتها الفنية وذلك للاستجابة للاحتياجات المتطورة باستمرار لكل من الزبون والشريك. ثالثاً، إن مسئولية كل منشأة عن الربح، إضافة إلى فرصتها في تملك الأسهم في بقية منشآت TCG، توفر حافزاً متواصلاً لنمو المعرفة الفنية وتطبيقها.
وإلى هذا الحد، فقد طرحت TCG نسختها من الأسلوب الخلوي للتنظيم إلى حجم متواضع (200 من العاملين في 13 منشأة صغيرة). وفيما إذا كان أسلوب TCG الخاص يمكن استخدامه لدفع نموها إلى الحجم المتوسط أو الكبير، فهذا موضوع غير معروف بعد. وقد تكون هناك حاجة لبعض التعديل لطريقتها في التنظيم الذاتي أو نظام المكافأة.






شكل 2-7 التطور المشترك للعصر الاقتصادي والشكل التنظيمي

Acer : شركة خلوية عالمية
إن محاولة بناء منظمة خلوية كبيرة الحجم واضحة لدى مجموعة Acer Group، حيث قدّمَ مؤسسها المشارك ستان شه Stan Shih رؤيته لشركة عالمية للحاسوب الشخصي(9). وكما في شركة TCG، دعا Shih إلى تكوين فيدرالية بين منشآت مدارة ذاتياً وذلك على أساس المصلحة المشتركة وليس السيطرة الهرمية. شعار Shih الأساسي هو "21 في 21 "- أي فيدرالية تتكون من 21 منشأة مستقلة، على الأقل، وتنتشر في أنحاء العالم في القرن الحادي والعشرين، وتعمل كل واحدة منها وفق ما دعاه Shih طريقة "الزبون- الخادم" client-server mode. أي أن كل منشأة هي أما زبون أو خادم للمنشآت الأخرى في الفيدرالية وذلك اعتماداً على طبيعة المعاملة المعنية. بعض المنشآت، المعروفة باسم وحدات أعمال إقليمية Regional Business Units (RBUs)، تعمل أساساً كمنشآت تسويق- دعاية، وبيع، وخدمة الحواسيب، تبعاً للاحتياجات الوطنية والإقليمية المحددة. أما المنشآت الأخرى، المعروفة باسم وحدات أعمال استراتيجية Strategic Business Units (SBUs)، فهي أساساً وحدات بحث وتطوير R&D، وتصنيع، وتوزيع. وعلى الأغلب الأعم، فإن وحدات الأعمال الإقليمية (RBUs) هي زبائن يستلمون المنتجات من الخدم، أي وحدات الأعمال الاستراتيجية (SBUs). ومع ذلك، فإن وحدات الأعمال الإقليمية (RBUs) مطلوبة لتقدم بصورة مستمرة تنبؤات قصيرة، ومتوسطة، وطويلة- الأجل عن الاحتياجات من المنتجات. وبهذا الشكل، فإن وحدات الأعمال الاستراتيجية هي زبائن لوحدات الأعمال الإقليمية- وذلك اعتماداً على معرفة كل وحدة من هذه الوحدات الإقليمية بسوقها المحلي لتوفير المعلومات اللازمة لتطوير المنتجات والتصنيع.
ومع أن كل منشأة تقوم بمهمة أساسية، إلاّ أن مفاهيم المنتَج الجديد يمكن أن تتكون، وهي تتكون بالفعل، في كل مكان من الفيدرالية. فالمنشأة Acer America، مثلاً ( وهي وحدة أعمال إقليمية RBU) أرادت الحصول على حاسوب حديث، ولكن بسعر معقول، لسوق أمريكا الشمالية. فتعاقدت مع Frog، وهي منشأة خارجية للتصميم الصناعي، لمساعدتها في تطوير الحاسوب ذي التقنية العالية Acer Aspire. تصنيع الحاسوب قامت به وحدات Acer الاستراتيجية Acer SBUs، أما حملة التسويق، فقامت بها بشكل مشترك Acer America و Acer International، وهي وحدة أعمال إقليمية أخرى قائمة في سنغافورة. منشآت Acer الأخرى لها الحرية باستعارة التصميم Aspire أو وضع تصميمات فريدة تلائم أسواقها. وكل مقترح لمنتَج جديد، يتم تقييمه كمشروع أعمال من قبل المنشآت الأخرى الشريكة في الفيدرالية.
ومع ذلك، يبدو أن رؤية Shih لفدرالية Acer بين الشركات قد تخطت رؤية TCG بخطوة واحدة بالنسبة لتعزيز مسئولية الشركة الفردية عن مصيرها، ومسئولية كل الشركات عن نجاح المنظمة ككل في الأجل الطويل.
في شركة TCG، يتم حساب قيمة كل واحدة من المنشآت الأعضاء من خلال سوق أسهم داخلي، وأن هذه المنشآت حرة بترك المجموعة إن أرادت ذلك. أما في شركة Acer، فكل منشأة تكون مملوكة بشكل مشترك من قبل إدارتها والمستثمرين المحليين، مع أقلية تسيطر (عادةً) على الملكية، وتتمثل بالمنشأة الأصلية Acer, Inc. يعتزم Shih وضع منشآت Acer في العالم كله على قائمة أسواق الأسهم المحلية، وأن تكون لها الحرية في البحث عن رأس المال اللازم لتوسعها. فهو يعتقد بأن الملكية المحلية تطلق الحافز لتسيير الأعمال بحصافة.
مع تمتع كافة منشآت Acer بحرية العمل والتوسع معاً، فإن قيمة عضويتها في الفيدرالية تكمن في قدرة "الخلايا" على الاستمرار بخدمة بعضها بعضاً في سوق عالمي متنافس بدرجة متزايدة. قامت شركة Acer بتطوير قدرتها لإنتاج كل منتجاتها بكفاءة لتجميعها في وقتها وتوزيعها. فأحدث النماذج متوفرة في كل وقت في كل مراكز البيع، مع مخازن ليس فيها غير القليل.
وإلى الآن، فإن قواعد العمل في شركة Acer ليست جاهزة لنشر المعرفة الفنية بوضوح كما هي حالة شركة TCG. ومع ذلك، فإن نموذج Acer في تسيير الأعمال يهيأ الفرصة لكل منشأة بالاعتماد على الشركاء في الفيدرالية كمجهِّزين أو زبائن مفضلين. وفي الوقت الحاضر، فإن برامج التدريب العالمية الواسعة لشركة Acer تُستعمل لترجمة رؤية Shih العالمية إلى برامج عمل على مستوى المنشأة المحلية.
الاستعمالات الجزئية للأسلوب الخلوي
حتى تلك المنشآت التي لم تتحرك بعد نحو نموذج خلوي كامل تحقق، كما يبدو، منافع من استعمال واحد أو أكثر من أسسه الرئيسة. فشركة Kyocera، مثلاً، تعتمد كثيراً على مبدأ التنظيم الذاتي لتحسين عملياتها الصناعية. ففي كل خلية من تلك الشركة، هناك مجموعة صغيرة من الماكنات وفريق من العاملين ذي تدريب رفيع ممن يتعاونون لإنتاج مجموعة محددة جيداً من المنتجات لصالح مجموعة محددة من الزبائن. وبخلاف المنظمة الوظيفية للتصنيع، حيث يتم تجميع الماكنات بحسب المهمة التي ينبغي القيام بها، ويتم إنتاج المنتجات أو أجزاء منها من خلال طرق متخصصة، فإن الأسلوب الخلوي يقسم الإنتاج إلى تدفقات متوازية، مانحاً أعضاء كل خلية مسئولية تخطيط عملياتها، وضامناً أن تلبي منتجاتهم معايير محددة من ناحية النوعية، ومتعاملاً بصورة ملائمة مع الزبائن والمجهِّزين، ومستجيباً للظروف غير الاعتيادية(10).
وبدلاً من ذلك، فإن شركة Oticom الدانماركية التي تقوم بتصنيع الأجهزة السمعية، قامت بإعادة هندسة منشأتها بعمق وذلك باستعمال طرق تشبه الأسس الخلوية من حيث التنظيم الذاتي والاعتماد على المنظِّمين. أولاً، أزالت Oticom بصورة مثيرة ونظامية الكثير من الحواجز البيروقراطية التي كانت تكبح أعضاء المنشأة. فقد ألغت القواعد والتقارير والصيغ، خالقةً بذلك مكتب عمل دون أوراق. كما أنها قلّلت من الحاجة للتخطيط والإشراف وذلك بسماحها للعاملين باختيار فرق المشروعات التي يعملون عليها. وقد شجعت هذه الطريقةُ الاختيارية الطاقات التنظيمية لأن المشروعات الأكثر نجاحاً كانت تلك التي تُعد على نطاق واسع كأفكار قوية(11). وهكذا، فإن الفرق المدارة ذاتياً الآن تتحمل المسئولية عن كل من تشخيص وتنظيم مشروعات الأعمال الجديدة.
وفي شركة Semco البرازيلية التي تنتج المعدات الصناعية، فإن الإدارة تؤكد بقوة على مبدأيْ ملكية الأعضاء والاعتماد على طاقات المنظِّمين. وعلى سبيل المثال، فإن فرق العمل في كل مصانع Semco لديها دعوة قائمة بأخذ عملياتها إلى خارج الشركة وتشكيل منشآت أعمال خاصة بها. وستقوم الشركة بتأجير معداتها للمنشأة الجديدة الخارجية بأسعار ملائمة جداً. وإذا أنتجت المنشأة الجديدة السلعة أو الخدمة التي تطلبها Semco، فيمكنها الدخول في علاقات أعمال business مع صاحب عملها السابق. وحتى إذا شاءت المنشأة الجديدة، فيما بعد، الانضمام مجدداً إلى Semco، فلها أن تقترح ذلك، وإن القرار سيُعامل كأي مقترح أعمال آخر. وكل هذه هي إجراءات مشجعة لأن ريكاردو سيملت Ricardo Semlet، المدير التنفيذي الرئيسي السابق لشركة Semco، يؤمن بأن ملكية العاملين هي أفضل وسيلة لتحقيق قطاع أعمال تنافسي competitive business. ورغم أنها شركة خاصة، فإن Semco تقتسم ربع أرباحها تقريباً مع المديرين والعاملين فيها(12).
زيادة القيمة باستعمال الشكل الخلوي
إن الفحص الدقيق للمنشآت ذات البنية الخلوية مثل TCG و Acer يبين بأنها، أيضاً، تشترك في بعض السمات مع الأشكال السابقة للمنشأة. وفي الواقع، فإن كل شكل جديد، كما أشرنا سابقاً، يجّسد ما كان للأشكال السابقة من سمات كبرى وهي كونها تزيد القيمة، وأن الشكل الجديد يضيف قدرات جديدة إليها. وهكذا، فإن الشكل الخلوي يتضمن الطاقات التنظيمية المنوَّعة التي يتيحها القسم، كشكل تنظيمي؛ والاستجابة للزبائن التي يوفرها شكل المصفوفة؛ والتنظيم الذاتي للمعرفة والمشاركة بتملك الأصول التي يقدمها الشكل الشبكي.
ومع ذلك، نحن نعتقد بأن الشكل الخلوي للمنشأة يمتلك إمكانية كامنة لإضافة القيمة حتى بمعزل عن المشاركة بالمعرفة الفنية والأصول. ففي حالتها الكاملة من التطور، نتخيل بأن المنشأة الخلوية تكون قادرة على إضافة القيمة من خلال قدرتها الفردية على خلق المعرفة واستعمالها. فمثلاً، المشاركة بالمعرفة تحدث في الشبكات، ولكن كناتج عرضي للمشاركة بتملك الأصول وليس كبؤرة محددة لهذا النشاط. وبالمثل، فإن منشآت المصفوفة والقسم تبصر القيمة التي يمكنها أن تضيفها حينما تتشارك المشروعات أو الأقسام بالمعرفة، ولكن ينبغي عليها خلق آليات محددة الغرض (قوى لإنجاز عمل معين، مثلاً) لتوليد معرفة جديدة والتشارك بها.
وعلى سبيل المقارنة، وكما أوضحنا في حالة شركة TCG، فإن الشكل الخلوي يتماشى ليس فقط مع المشاركة بالمعرفة الفنية الواضحة explicit التي راكمتها وفصلتها الخلايا، بل أيضاً المعرفة الفنية الضمنية tacit التي تنشأ حينما تتضافر الخلايا لتصميم حلول جديدة وفريدة للزبائن(13). والتعلم هذا يركز ليس على ناتج عملية الابتكار، بل على عملية الابتكار نفسها- فهي المعرفة الفنية التي يمكن أن تتحقق ويتم التشارك بها من خلال عمل الأشياء فقط.
وإضافة إلى خلق المعرفة والمشاركة بها، فإن الشكل الخلوي يمتلك إمكانية إضافة القيمة من خلال قدرته المترابطة على استثمار أصول المعرفة الكلية للمنشأة بدرجة أكمل مما تفعل الأشكال التنظيمية الأخرى. فلأن كل خلية لديها مسئولية تنظيمية، ومخولة للاعتماد على أصول المنشآت الأخرى حينما تلوح أي فرصة جديدة للأعمال، فلابد من توقع مستويات عالية من استخدام المعرفة بين الخلايا. المنشآت الشبكية تطمح للاستخدام العالي من المعرفة الفنية والأصول، ولكن المنشآت الأمامية upstream firms تعتمد أخيراً على الشركاء الخلفيين downstream partners للحصول على استعمالات للمنتَج أو الخدمة الجديدة. أما في المنشأة الخلوية، فإن عملية ابتكار المنتَج/الخدمة هي عملية مستمرة ويتم التشارك بها كلياً.
تحقيق المنشأة الخلوية
ربما تشهد السنوات القادمة ظهور تغييرات تنظيمية عديدة باستعمال بعض أو كل الأسس الخلوية(14). ومع ذلك، ورغم أن اتجاه التطور واضح، فإن الشركات التي تحاول تحقيق الشكل الخلوي الكامل تواجه تحديات هامة كثيرة. ومن المؤكد أن المنشآت ذات البنية الخلوية لن تحدث من تلقاء ذاتها. وقد بينّت مقابلاتنا مع قادة المنشآت الخلوية بأن هذه المنشآت هي ثمرة لرؤية إدارية جريئة، ولفلسفة إدارية فريدة بدرجة أهم(15). فالقدرة على تصور وبناء أسس المنشآت الخلوية: طاقات المنظِّمين، والتنظيم الذاتي، والملكية، لابد أن تتماشى مع فلسفة تؤكد على الاستثمار في الطاقات البشرية و الرغبة بتحمل المخاطرة الكبيرة من أجل تعظيم استخدام هذه الطاقات.
المتطلب الأول هو الرغبة بالاستثمار في الطاقة البشرية التي تتجاوز مجرد توفير التعليم والتدريب القائمين. إن مفهوم الاستثمار يستلزم النفقات لبناء الطاقات الضرورية للاستجابة للمطالب التي ستواجه المنشأة في المستقبل، وحتى تلك التي يتعذر التنبؤ بها بسهولة. فالتدريب الهادف لتلبية الاحتياجات الجارية ليس استثماراً لأن المطلب واضح، ولأن تكاليفه وعوائده يمكن حسابها بسهولة. أما بناء الطاقات لمواجهة احتياجات المستقبل فهو استثمار لأنه يتضمن عنصر المخاطرة- فليس كل عائد يمكن التنبؤ به، وعلاوة على ذلك، ليس كل عنصر ماهر سيبقى في المنشأة.
فمثلاً، تقوم شركات مثل Chaparral Steel باستثمارات ثقيلة في بناء المعرفة الفنية، مع أنه يتعذر قياس كل العوائد بسهولة. تستثمر هذه الشركة لغاية ثلث وقت كل عضو سنوياً، بشكل أو بأخر، في مجال التعليم والتطوير بصورة مستمرة. تنظر الشركة إلى نمو المعرفة الفنية باعتباره المصدر الأساسي لمقدرة العضو على إضافة قيمة اقتصادية في صناعة تنافسية بدرجة عالية(16). إن القدرات الواضحة في منشآت مثل Kyocera, Oticon, Semco, Acer, and TCG هي ثمرة لاستثمارات مماثلة.
وتجدر الملاحظة بأن المفهوم الأساسي لتحقيق الميزة التنافسية من خلال الناس ليس جديداً. ففي أواخر الخمسينات، ركزت ادث بينروز Edith Penrose على الكفاءة الإدارية بوصفها المحرك الرئيسي لتطور المنشأة؛ وفي الستينات، دافعَ رنسز ليكرت Rensis Likert عن الاهتمام الكبير بالاستثمارات في الموارد البشرية وتكاليف الإجراءات الإدارية التي قد تستنزفها. وقد حملت التسعينات الإدراك المتجدد، بين المديرين وعلماء الإدارة، بأن بناء المعرفة الفنية هو الوسيلة الأساسية التي تخلق بها المنشآتُ القيمةَ الاقتصادية(17). ومع ذلك، فالفرق اليوم هو أن الاستثمار في تطوير كفاءة أعضاء المنشأة لم يعد مجرد خيار، بل أنه فرض اقتصادي(18).
يتضمن مفهوم الاستثمار عنصر المخاطرة على الدوام. وعلاوة على ذلك، فالمخاطرة تتناسب عادةً مع مستوى العائد الممكن. ولذلك، فالتحدي الأكبر أمام معظم المنشآت التي تفكر باستعمال الشكل الخلوي ليس هو الاستثمار المطلوب لبناء الكفاءات الأساسية بالذات، بل هو الرغبة بالسماح بمستويات الإشراف الذاتي الضرورية لاستعمال تلك الكفاءة كلياً. فمثلاً، تقوم شركة Oticon بما تعتبره منشآتُ كثيرةُ مخاطرةً استثنائية بسماحها للمنشآت الأعضاء باختيار مهماتهم في المشروعات حيث يمكن استخدام قدراتهم بأعلى فعالية ممكنة. آخرون يمكن أن يعتبروا استقلال المنشأة (الخلية)، المسموح به في شركة TCG وشركة Acer، كأمر ينطوي حتى على مخاطر أكبر ما دام التنسيق اختيارياً أساساً، وإن قواعد العمل المتفق عليها والمسئوليات هي التي تسري بدلاً من السيطرة الهرمية.
ومع ذلك، فالتحدي الأكبر من عمل الاستثمارات وتحمل المخاطر ربما هو المطلب طويل الأمد القاضي بمشاركة أعضاء المنشآت بالعوائد الناجمة عن استعمال معرفتهم. أي إذا كان على أعضاء المنشآت قبول المستويات المهنية من المسئولية، فإن المخططات التقليدية للمكافأة كخطط العلاوات ربما لا تكفي. إن بنية المشاركة بالعوائد مستقبلاً ربما تتبع فلسفات Stan Shih و Ricardo Semler القائلة بأن السعي طويل الأمد من أجل منشأة كفء بشكل متزايد قد يتطلب آليات ابتكار تؤمن الملكية الحقيقية والمشاركة بالربح- آليات تعطي رأس المال الفكري للأعضاء نفس الحقوق التي يتيحها رأس المال المالي لحاملي الأسهم.
وعلى فرض المستويات المطلوبة من الاستثمار، وتحمل المخاطر، وملكية الأعضاء، فإن الكثير من الشركات لن تسعى بالكامل- ولن تحتاج- للشكل الخلوي للمنشأة. فمثلاً، أن المنشآت التي تنتج سلع وخدمات نمطية بحسب التوقعات أو الطلبات المسبقة ربما تكون الأكثر إنتاجية إذا تم ترتيبها بطريقة أدنى من السيطرة الهرمية، على الأقل. قد يتم ربط مجموعات من هذه المنشآت بشبكات عمل لتحقيق سرعة وتعديل customization أعظم. فالدفع نحو الأساليب الخلوية، كما لوحظ سابقاً، يتجلى أولاً في المنشآت التي تركز على ابتكار منتَج أو خدمة سريعة- العروض الفريدة و/ أو التي تستخدم الطرق الأكثر تطوراً. ومع ذلك، فرغم أن المنشآت الخلوية ترتبط بأقصى سهولة مع الصناعات الأحدث والمتطورة بسرعة، فإن هذا الشكل يتوافق مع المنشآت ذات المبادرة في مجال التصميم في كل فرع صناعي عملياً. فمثلاً، ضمن شبكة عمل من الشركات في قطاع أعمال ناضج mature business، فإن المنشآت ذات البنية الخلوية قد تكون هي القائدة في إنتاج سلع وخدمات جديدة.
الاستنتاج
عبر الاقتصاديات الوطنية والإقليمية، فإن العصور المتداخلة من النمطية standardization، والتعديل customization، والابتكار، سوف تستمر بالتطور، وإن تغييرات جديدة من الأشكال التنظيمية الهرمية والشبكية والخلوية سوف تستمر بالنشوء والظهور. إن عقوداً من التجربة قد شحذت الشكل الوظيفي functional، والقسم كشكل تنظيمي division، وشكل المصفوفة matrix، والشكل الشبكي network، وبينّت منطق عملها، وألقت الضوء على تكاليفها وعوائدها. ومن الممكن توقع حدوث نمط مماثل مع الشكل الخلوي cellular.
وعبر عملية تطور الشكل التنظيمي، فأحد الثوابت كان هو البحث عن الفعالية والكفاءة المتزايدتيْن دوماً في المقدرة على التطبيق الكامل للمعرفة الفنية know-how على استعمال الموارد. والمنشآت الراغبة بتحمل مخاطر قيادة هذا البحث كانت، وستبقى، أنجح المنشآت.



هوامش
يعكس هذا الفصل المناقشات المستمرة لمؤلفيه مع المديرين في المنشآت الأكثر تطوراً في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا واستراليا. ونعبر عن شكرنا لهؤلاء المديرين لآرائهم السديدة في مجال بناء المنظمات الخلوية. كما نود أن نعبر عن عظيم امتناننا لتمويل البحث من قبل Carnegie Bosch Institute for Applied Studies in International Management. وقد قدّم البروفسور هنري ج. كوليمان Henry J. Coleman من كلية Mary s College of California مساهمات قيّمة لفهمنا لعمليات إدارة المعرفة.

(1) للإطلاع على تقارير ممتازة لتطور الأشكال التنظيمية خلال هذه الفترة، : أنظر A. D. Chandler, Jr., Strategy and Structure: Chapters in the History of the American Industrial Enterprise (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1962); and P. R. Lawrence and D. Dyer, Renewing American Industry (New York: Free Press, 1983).
(2) ثمة مناقشة "للطاقة الإدارية الفائضة" بوصفها المِّحرك لنمو قطاع شركات الأعمال في: E. T. Penrose, The Theory of the Growth of the Firm (Oxford: Basil Blackwell, 1959). . طبعة جديدة من هذا الكتاب، مع مقدمة كتبها البروفيسور بنروز، العام 1995.
(3) لمناقشة منظَّمات المصفوفة، أنظر S. M. Davis and P. R. Lawrence, Matrix (Reading, Mass.: Addison-Wesley, 1977).
(4) لمناقشة عملية العولمة، أنظر M. E. Porter, ed., Competition in Global Industries (Boston, Mass.: Harvard University Press, 1986).
(5) المنظمة الشبكية التي تضم العديد من المنشآت تم تعريفها ووصفها، لأول مرة، من قبل R. E. Miles and C. C. Snow, Fit, Failure and the Hall of Fame, California Management Review 26, no. 3 (1984): 10-28.. وبالنسبة لأوصاف الأنواع الكبرى للمنظمات الشبكية المطبقة اليوم، أنظر: R. E. Miles and C. C. Snow, Fit, Failure, and the Hall of Fame: How Companies Succeed or Fail (New York: Free Press, 1995).
(6) S. Kauffman, At Home in the Universe (New York: Oxford University Press, 1995).
(7) نحن لم نبتدع هذا المصطلح. فمفهوم الهياكل الخلوية كان مستخدماً منذ الستينات، على الأقل. لاستعراض ذلك، أنظر J. A. Mathews, ‘Holonic Organizational Architectures,’ Human System Management 15 (1996): 1-29.
(8)J. A. Mathews, TCG R&D Networks: The Triangulation Strategy, Journal of Industrial Studies 1 (1993): 65-74.
(9)J. A. Mathews and C. C. Snow, The Expansionary Dynamics of the Latecomer Multinational Firm: The of The Acer Group, Asia Pacific Journal of Management, In Press.
(10)M. Zeleny, ‘Amoebae: The New Generation of Self-Managing Human Systems, Human Systems Management 9 (1990): 57-59.
(11) L. Kolind, ‘Creativity at Oticon, Fast Company vol. 18, no. 3 (1996): 5-9.
(12) R. Semler, Maverick (New York: Time Warner Books, 1993).
(13)I. Nonaka and H. Takeuchi, The Knowledge-Creating Company: How Japanese Companies Create the Dynamics of Innovation (New York: Oxford University Press, 1995).
(14) العديد من هذه التجارب ستتضمن أشكالاً مختلفة من التحالفات الاستراتيجية و/أو المشاريع المشتركة. أنظر A. C. Inkpen, ‘Creating Knowledge Through Collaboration, California Management Review 39 (1996): 123-140.
(15)J. A. Mathews and C. C. Snow, A Conversation with Stan Shih on Global Strategy and Management, under review.
(16)G. E. Forward, D. E. Beach, D. A. Gray, and J. C. Quick, Mentofacturing: A Vision for American Industrial Excellence,’ Academy of Management Executive 5 (1991): 32-44.
(17)Penrose, History of the Growth of the Firm, 3d ed. (New York: Oxford University Press, 1995). R. Likert, The Human Organization (New York: McGraw-Hill, 1967); and J. Pfeffer, Competitive Advantage Through People (Boston: Harvard Business School Press, 1994).
(18)للإطلاع على مثال لمنشأة حاولت بشكل جدي وخلاق حساب قيمة رأس المال الذكي والموجودات الأخرى غير المادية، أنظر
L. Edvinsson and M. S. Malone, Intellectual Capital: Realizing Your Company’s True Time by Finding Its Hidden Brainpower (New York: HarperBusiness, 1997).





الفصل الثامن
اقتصاد السوق الداخلي
رُسل ل. أكوف، جامعة بنسلفانيا
Rusell L. Ackoff, Professor Emeritus, University of Pennsylvania,

إن حالة الممارسة الإدارية اليوم تكشفها حقيقة أن هناك حلولاً (أو معالجات) أكثر من المشاكل. تخفيض حجم العمالة، إعادة الهيكلة، إدارة النوعية الكاملة total quality management (TQM)، القياس benchmarking، التزود بالمستلزمات من خارج فروع الشركة المعنية outsourcing، تخطيط مشاهد scenario planning، وغيرها، لا تمثل سوى قائمة جزئية للحلول المتداولة في هذه اللحظة. ومع ذلك، هناك أدب متزايد حول فشلها. الدراسات المعروفة التي قام بها آرثر د. ليتل Arthur D. Little وارنست Ernst ويونغ Young حول المنشآت أظهرتْ أن جهود حوالي ثلثي الإدارة النوعية الكاملة TQM كانت مخيبة(1). وتبين دراسات أخرى أن معظم جهود سياسة تخفيض الحجم تؤدي إلى زيادة التكاليف أخيراً(2).
الحاجة للنظر إلى المنشآت كأنظمة
المعالجات تفشل لأنها غير شاملة antisystemic. النظام هو كيان كامل لا يمكن تقسيمه إلى أجزاء مستقلة. وصفاته الجوهرية (التي تعّرفه) يتم اشتقاقها من تفاعل أجزائه، ولا تؤخذ أفعال هذه الأجزاء بصورة منفصلة. إذا ما تم تفكيك أي عربة، مثلاً، فإنها تفقد كافة صفاتها الجوهرية حتى وإن تم حفظ كافة أجزائها في مكان واحد. فالعربة المفككة إلى أجزاء لم تعد عربة لأن هذه الأجزاء المفككة لا تستطيع العمل كعربة.
كافة المعالجات تتعامل مع أجزاء أو جوانب نظام ما مأخوذةً بشكل منفصل. ويتبين، حينما نحسّن أجزاء نظام ما مأخوذةً بشكل منفصل، بأن أداء النظام ككل لا يتحسن إلاّ نادراً. وهذا يمكن إثباته بشكل صارم في علم النظام system scienc، ولكن ذلك غير ضروري. يمكن لمثال واحد أن يفعل ذلك.
افترض أننا نجمع في مكان واحد عربة من كل نوع من الأنواع المتاحة في الولايات المتحدة. ثم نأتي بمجموعة من أفضل مهندسي العربات ليحددوا العربة ذات الماكنة الأفضل، والناقل الأفضل، والموزع الأفضل، وهكذا إلى حين تحديد الجزء الأفضل بالنسبة لبقية الأجزاء الجوهرية من العربة. ثم افترض أننا نقوم بفصل هذه الأجزاء عن عرباتها الأصلية ونجرب تجميعها في عربة واحدة تضم أفضل الأجزاء المتاحة. لن نحصل حتى على أي عربة، دعْ عنك أفضل عربة، لأن الأجزاء المجمَّعة لا تتوافق.
ماذا نستطيع أن نستنتج؟ يعتمد أداء نظام ما على كيفية تفاعل أجزائه، وليس على الأداء المنفرد للأجزاء. ومع ذلك، فالمعالجات المطبقة في الوقت الحاضر تركز على تحسين الأجزاء التي تؤخذ بمعزل عن النظام، التي هي جزء منه. وهذا العمل قد يحّسن أداء الجزء، ولكنه نادراً ما يحسّن أداء النظام ككل.
المشكلة الأساسية الأخرى تكمن في التمييز الذي استنبطه بيتر دروكر Peter Drucker بين عمل الأشياء بصورة صحيحة وعمل الشيء الصحيح. أداء الشيء الصحيح بصورة خاطئة أفضل من أداء الشيء الخاطئ بصورة صحيحة. كلما عملنا الشيء الخاطئ بصحة أكبر، فإنه يصبح أكثر خطأ. مثلاً، نحن نستمر بصرف مبالغ أكثر وأكثر على أساليب مهجورة للتعليم والرعاية الصحية ولا ننجح إلاّ في جعلها أكثر سوءً. ولكن إذا فعلنا الشيء الصحيح بصورة خاطئة، عندئذ تكون لدينا فرصة التعلم من خلال اعترافنا بالخطأ وتصحيحه في المرة القادمة.
هناك أمثلة أخرى كثيرة على عمل الشيء الخاطئ بصورة صحيحة، كما في زيادة الكفاءة ونحن نتابع أهدافاً خاطئة. ومن الواضح، مثلاً، أن العربة هي حل مختل وظيفياً لمشكلة النقل في المناطق الحضرية. إن زيارة أكبر المدن الرئيسة- مكسيكو سيتي، سانتياغو، كاراكاس، أو نيويورك، مثلاً- تكشف السبب. عانت مكسيكو سيتي مؤخراً من ازدحام المرور على نحو عطّلَ آلاف السيارات لساعات، مات خلالها عدد من الأشخاص لعدم القدرة على تقديم الرعاية الصحية لهم. أطفال المكسيك غالباً ما يتم إبقائهم في البيت، وعدم إرسالهم للمدرسة، لأن تلوث الهواء يجعل المشي خطراً عليهم خارج المنزل. ماتت الأشجار في منطقة Avenida de Reforma الجميلة بسبب التلوث ذاته.
تعمل العربة تدريجياً على تدمير نوعية الحياة الحضرية حول العالم. السيارات صُممَّت لنقل 4-6 أشخاص لكنها تنقل 1.2 في المتوسط. صُممَّت على أساس سرعة تزيد على 100 ميل في الساعة لكنها تسير في المدن بمعدل حوالي 17 ميل في الساعة. الركاب يجلسون في الأمام في حين أن سلامتهم تكون أكبر عند جلوسهم في الخلف. ومع ذلك، نستمر بتحسين العربات كما هي قائمة حالياً، وهكذا نستمر بأداء العمل الخاطئ على نحو أصح.
تهتم كافة المعالجات بإحداث تغييرات في النظام القائم، أي الإصلاح reform. وعلى النقيض، أريد التحدث عن التغيير في طبيعة النظام ذاتها- التحويل transformation. هناك اختلاف جوهري بين إصلاح نظام قائم وبين تحويله. الإصلاح لا يُنتج سوى صورة معَّدلة للنظام القائم. أما التحويل، فيُنتج نظاماً مختلفاً من حيث شكله ووظيفته.
نظرة شاملة لاقتصاديات قطاع الأعمال
تواجه المنشآت عدداً من المشاكل لا يمكن التعامل معها من خلال معالجة واحدة أو مجموعة من المعالجات، ولكن يمكن معالجتها بشكل فعال من خلال تحويل المنشأة إلى منشأة ذات اقتصاد سوق داخلي. الحاجة الواضحة لتخفيض حجم العمالة downsizing والقياس benchmarking لا وجود لها في هذا الاقتصاد. إنه يلغي الحاجة إلى استخدام الإدارة النوعية الكاملة TQM لتحسين النوعية، والحاجة إلى عملية إعادة الهندسة لزيادة الإنتاجية. إزالة هذه الاحتياجات أفضل كثيراً من محاولة معالجة المشاكل التي تخلقها.
إن الكثير من المشاكل، التي تتصدى لها المعالجات، تأتي من حقيقة أن معظم الوحدات في إطار المنشآت لا تحصل على دخلها ممن تخدمهم، بل أنها تأخذ إعانات مالية من فوق. فمثلاً، المِلاك الوظيفي، والتمويل، ووحدات معالجة البيانات، هي أمثلة على الوحدات التي لا تقبض مباشرة من الجهات التي تخدمها. بل يتم دفع ميزانيتها من فوق، من الأرصدة التي تم تحصيلها في شكل ضرائب على الجهات التي خدمتها، وكأنها وكالات حكومية. هناك نتيجتان رئيستان. أولاً، الوحدات العاملة لا تستجيب بحماس للجهات التي تخدمها قدر استجابتها لتلك التي تقدم إليها المنحة. ثانياً لأنها احتكارات تتلقى مساعدات، فهي تميل للعمل البيروقراطي. والأجهزة البيروقراطية تنمو دون حدود لأنها تعتقد بأن ذلك يوفر لها حماية قصوى ضد سياسة تخفيض الحجم. ومع ذلك، فالحقيقة هي أنهم يعظمون الحاجة إلى هذا التخفيض لأن طريقتهم الرئيسية في النمو هي العمل المصطنع make-work، العمل الذي يخلو من الفائدة.
الحاجة إلى تخفيض الحجم يمكن إلغائها عملياً بتحطيم الاحتكارات البيروقراطية الداخلية، وهذا يمكن تحقيقه بتحويل الاقتصاد الداخلي للمشروع من اقتصاد مخطط ومسيطَّر عليه مركزياً إلى اقتصاد سوق. على المستوى الوطني (الاقتصاد الكلي)، نحرص على السعي نحو اقتصاد سوق، كما تمت صياغته أصلاً من قبل آدم سمث في كتابه ثروة الأمم. ولكننا على مستوى المشروع (الاقتصاد الجزئي)، نستخدم عادة نفس النوع من النظام الاقتصادي الذي استخدمته الاتحاد السوفيتي قبل تحولها- نظام مخطط ومسيطَّر عليه مركزياً.
وغالباً ما يجري تسويغ عدم الانسجام الداخلي هذا باللجوء إلى الفرق في الحجم بين الدولة الوطنية وبين حتى منشأة ما كبيرة. ولكن هذا هراء. وكالةAssociated Press شخّصت مؤخراً الاقتصاديات ألـ 20 الأكبر في العالم، 6 منها كانت منشآت. شركة AT&T لها اقتصاد أكبر من اقتصاديات أكثر من 100 دولة. لا علاقة للحجم بهذا الأمر. السبب الحقيقي لعدم الانسجام الداخلي هذا هو أن المديرين التنفيذيين لمؤسساتنا ومشروعاتنا الخاصة والعامة لا يرغبون بالتنازل عن قوتهم للغير. ولسوء الحظ، فقد تَعلْمنا أنه كلما كان المرءوسون أكثر تعلماً، كان التسلط power-over أقل تأثيراً كوسيلة لحملهم على فعل ما نريد. إن ممارسة التسلط power-over هي استخدام الأوامر والسيطرة؛ ولكن ممارسة التفاعل power-to هي أن تقود.
اقتصاد السوق الداخلي يتطلب التقليل من تسلط التنفيذيين executive power-over، وزيادة التفاعل power-to، وأن ذلك يمكّن التنفيذيين من الإدارة بشكل شامل systemically، أي إدارة التفاعلات بين الوحدات بدلاً من إدارة أفعالها مأخوذةً بشكل منفصل. وبدون هذه التغييرات، فإن من الصعب أكثر وأكثر على المشروعات أن تتنافس بفعالية في الاقتصاد العالمي التنافسي والمضطرب بصورة متزايدة.
اقتصاد السوق الداخلي
ما هي ملامح المنشأة التي تحولت من اقتصاد مخطَّط ومسيطَّر عليه مركزياً إلى آخر يقوم على سوق حرة؟
أولاً، كل وحدة تقريباً، بما في ذلك المكتب التنفيذي، تصبح مركزاً ربحياً a profit center. الاستثناء هي تلك الوحدات التي لا يمكن، لسبب أو آخر، السماح لها بخدمة الزبائن الخارجيين؛ كسكرتارية الشركة وقسم التخطيط في الشركة. تُعامل هذه الوحدات كمراكز تكلفة، ولكنها محسوبة على مراكز ربحية.
إن مطلب أن تكون معظم الوحدات مراكز ربحية لا يعني أنها يجب أن تكون مربحة. شركة Corning، مثلاً، احتفظت بشركة Steuben Glass رغم القناعة بانخفاض ربحيتها وذلك لأنها تجلب التقدير الكبير للشركة. جامعة معينة قامت باستخدام اقتصاد السوق الداخلي وأبقت على قسم اللغة رغم حقيقة أن تكاليف خريجيه هي الأكثر في الجامعة. والسبب يعود إلى أن هذا القسم هو أحد أكثر الأقسام هيبةً في العالم. ومن جهة أخرى، تم فصل الأقسام التي كانت مربحة لأن نوعياتها هابطة. ورغم أن الربحية ليست مطلوبة بالضرورة من كل جزء من المشروع، فإن ربحية كل جزء أخذت في الحسبان عند تقييم أدائه وفي تقرير كيفية التعامل معه.
ثانياً، لكل مركز ربح الحرية في بيع إنتاجه لمن يشاء، داخلياً أو خارجياً، وبأي سعر يريد، ولكن هذا يخضع لقيد معين سوف نبينه. وإضافة إلى ذلك، للمركز أن يشتري ما يريد من أي مصدر داخلي أو خارجي. فمثلاً، عند حاجة الوحدة إلى خدمات محاسبية، لها أن تشتريها من مجهِّز داخلي أو خارجي أو أن توفرها بنفسها. ويسري الأمر نفسه على معالجة البيانات، والخدمات الأخرى، وشراء الأجزاء لتجميعها، بل وحتى المنتجات.
ثالثاً، تخضع هذه القواعد لبضع قيود خفيفة. أحد هذه القيود قانوني، ويهدف إلى حماية قدرة المشروع التنافسية. فمثلاً، أثناء الحرب الباردة، منعت حكومة الولايات المتحدة شركة IBM من بيع الحواسيب الكبيرة الفعالة mainframe computers للاتحاد السوفيتي. الشركة التي يمتلك منتَجها طريقة عمل سرية، مثل Coca Cola، لا يُحتمل أن تسمح لأي منتج خارجي بصنعه.
النوع الآخر للقيد محدد أكثر مما هو عام. المسئول التنفيذي لشركة ما يمكن أن يتجاوز قراراً محدداً، لجهة أخرى أقل من مستواه، في مجال شراء أو بيع منتَج أو خدمة من أو إلى مصدر خارجي. ومع ذلك، فعندما يؤدي هذا التجاوز إلى زيادة التكلفة أو تخفيض الربحية للصفقة، فالمسئول التنفيذي الذي اتخذ قرار التجاوز يجب أن يعوض الوحدة المتأثرة عن هذه الخسارة. إنه قرار المسئول التنفيذي ويجب عليه (أو عليها) تعويض الوحدة. وبما أن مكاتب المسئولين التنفيذيين هي مراكز ربحية أيضاً، فعلى هذه المراكز موازنة تكلفة تجاوزاتها مع المنفعة التي حصلت عليها وحدتهم التي هي جزء من المنظمة. وفي الواقع، فإن ممارسة التجاوز override هو إدارة التفاعلات بين وحدات الشركة، وليست أفعالها المنفصلة.
عندما تريد وحدة داخلية شراء شيء ما من مصدر خارجي رغم وجود المجهِّز الداخلي، يُمنح المجهِّز الداخلي فرصة الدخول في المناقصة وتقديم عطائه. ومع ذلك، للوحدة الاستهلاكية حرية اختيار الوحدة الخارجية حتى وإن عرضَ المجهز الداخلي سعراً أقل. فالسعر ليس السبب الوحيد لاختيار المجهز؛ الأسباب الأخرى هي وقت التسليم، والموثوقية، والنوعية، وما شابه.
إن طلب الأسعار من المجهزين الخارجيين يمكن أن يخلق مشكلة معينة، يمكن وينبغي تجنبها. فإذا تكررَ سؤالهم بتقديم عرض معين للسعر لعطاءاتهم، دون الشراء منهم قط، فهذا قد يثير الشك لديهم بعدم وجود إمكانية للبيع مما يحملهم على رفع أسعار عروضهم بشكل مقصود. ولتجنب هذا الأمر، يفضل إعطاء بعض الأعمال لبعض من هؤلاء، على الأقل، ممن طُلبت أسعارهم.
رابعاً، أحد أبرز الاختلافات بين المنشأة التقليدية وتلك التي تستخدم اقتصاد السوق الداخلي يتمثل في أن كل وحدة في الأخيرة يجب أن تدفع عن كل الخدمات والتجهيزات التي تتسلمها، كإيجار الموقع الذي تشغله، والأهم، الفائدة على رأس المال الذي تستخدمه سواء لأغراض نشاطها الجاري أو الاستثمار. الإدارة العليا تعمل كبنك استثماري لوحدات بمستوى أقل. إنها توفر رأس المال ولكن بتكلفة. إن دفع كافة التكاليف يمكّن كل وحدة من أن تُقيَم باستعمال عائدها من رأس المال المستخدم. الدفع قد يكون على شكل فائدة إذا ما عومل رأس المال المقدَّم كقرض، أو كحصص dividends عند التعامل مع رأس المال المقدَّم كملكية من الأسهم.
خامساً، السماح للوحدات لتُراكم ربحها لغاية حد معين. وضع هذا الحد على أساس تقدير المبلغ الذي تستطيع الوحدة استثماره بحيث يكون العائد مساوياً، أو أكبر، من ذاك المستوى الذي تستطيع الوحدة الأعلى الحصول عليه. ولغاية ذاك الحد، تستطيع الوحدات استخدام النقود المتراكمة بأي شكل تراها مناسبة ما دامت لا تؤثر على أية وحدة، أما إذا أثرت على وحدة أخرى، فالوحدة المتأثرة يجب أن توافق على الاستخدام؛ وإذا لم تفعل، فإن كافة الوحدات المتأثرة يجب أن تذهب بمجموعها إلى أدنى مستوى إداري حيث تتقارب من حل الاختلاف- وهذا، مرة أخرى، إدارة تفاعلات.
النقود التي تراكمت فوق الحد تذهب إلى المستوى التالي الأعلى للإدارة، الذي يدفع الفائدة عليها للوحدة التي جاءت منها هذه النقود. وهذا المطلب يرفع من منزلة الوحدات المربحة cash cows التي تجهز المشروع برأس المال المطلوب من أجل التطوير والنمو.
المكتب التنفيذي كمركز ربح
كما لوحظ سابقاً، فإن المكتب التنفيذي الرئيسي والمكتب التنفيذي لأي وحدة أعمال يعملان كمراكز ربحية. فهي تتحمل تكاليف المِلاك الوظيفي، والخدمات، والتجهيزات، ورأس المال الذي تم تدبيره عن طريق الاقتراض أو الاستثمار، وتكاليف قرارات التجاوز التي أقدمت عليها overriding decisions. إنها تحقق الدخل من الخدمات ورأس المال الذي توفره للوحدات أو الحصص المدفوعة من قبلها dividends. الضرائب الحكومية على ربح الشركات توزع على الوحدات التي تعمل كمراكز ربح على نحو متناسب مع مساهماتها في ذلك الربح.
ولأن المكتب التنفيذي أيضاً يجب أن يعمل كمركز ربح، فإن تكاليفه تميل للانخفاض بشكل مثير في ظل هذا التحول. فمثلاً، عندما أُخذ باقتصاد سوق داخلي في شركةClark Equipment ، انخفضت نفقات الشركة بحدة لانخفاض عدد العاملين في إدارتها الرئيسة من 450 إلى حدود 50. وقد تم إعادة توزيع أولئك الأفراد المزاحين على فعاليات منتجة في الوحدات التابعة للشركة.
المطلب بأن يعمل المكتب التنفيذي كمركز ربح يساعد على ضمان أن ينظر المكتب إلى نفسه كجهة تضيف قيمة value- adding function. إنه يجعل المديرين التنفيذيين واعين لنوعية ومسئولية قراراتهم والخدمات التي يقدمون. وإضافة إلى ذلك، فإن اعتمادهم على أداء الوحدات التابعة أصبح مسألة واضحة وقابلة للقياس.
أمثلة
قام عدد متزايد من الشركات بتنفيذ فكرة الأسواق الداخلية بصورة ناجحة. وسوف أصف بعض أكثر الحالات المثيرة لتوضيح قوة المفهوم.
شركة نفط كبيرة
تملك هذه الشركة أحد أضخم تسهيلات الحاسب الآلي في الولايات المتحدة. أظهرت حسابات التكلفة لديها بأن الشركة ستقوم خلال سنوات قليلة جداً بالإنفاق على الحاسبات الآلية أكثر من إنفاقها على الناس. لم يعلم المدير التنفيذي الرئيسي الجديد CEOفيما إذا كان هذا الأمر جيد أم سيئ. وقد سأل مجموعتي عما إذا كنا قادرين على أن نقرر إن كانت النقود التي تم صرفها على خدمات الحاسب الآلي مسألة مبررة. قلنا، ببساطة، نظن أننا قادرون.
وجدنا أن الحاسبات الآلية استُخدمت بدرجة رئيسة لتحضير جداول للمصافي ونقلها بسفن شحن النفط من الشرق الأوسط إلى المصافي. قمنا بتصميم تقييم عملي وذهبنا لمناقشته مع مديريّ المصافي. وقد أوضحنا بأن بعض هؤلاء المديرين، الذين اختيروا بطريقة عشوائية، سيُطلب منهم تحضير الجداول باليد manually في حين يستخدم الآخرون الجداول التي يعدها الحاسب الآلي. أخبرونا بأن الطلب الأخير غير ممكن لأنهم لم يستخدموا أبداً الجداول التي يعدها الحاسب الآلي بدون تعديل. وقالوا بأن النموذج الذي يستخدمه الحاسب الآلي ترك بعض المتغيرات النوعية الهامة التي كان عليهم أخذها في الاعتبار. لذلك، يقومون دائماً بتعديل الجداول المعطاة لهم والتي يعدها الحاسب الآلي. قلنا لهم إذا حصلنا على سجل بهذه التغييرات، فربما نقدر على الاستمرار بعملنا كما هو مخطط. فأخبرونا بأن التغييرات التي يجرونها تتم يومياً أو خلال يوم وأنهم لم يحتفظوا بسجل لها. وقد واجهنا نفس الحالة عندما تحدثنا مع أولئك المسئولين عن جدولة السفن. بعد عدة شهور من الإحباط الكامل، وجدنا أن من المستحيل تقييم نتائج الحسابات.
ذات يوم، وبسبب الإحباط، لجأنا إلى مبدأ هج Hitch principle. Charley Hitch كان باحث عمليات متميز في شركة RAND خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، والذي أخيراً خُفضت درجته إلى رئيس لجامعة كاليفورنيا. قال Hitch ذات مرة: "إذا لم تستطيعوا حل المشكلة التي تواجهونها، فلابد أنكم تواجهون المشكلة الخطأ." فبدأنا بالبحث عن صياغة مختلفة للمشكلة.
وحينما تأملنا ما كنا نفعله، وجدنا، بكل تأكيد، بأننا كنا نحاول تقييم شيء ما استعمله شخص آخر. فمن الواضح أنهم كانوا أقدر منا على التقييم. وهذا قاد إلى صياغة مختلفة للمشكلة واقتراح حل آخر. سألنا المديرَ التنفيذي الرئيسي CEO: "لماذا لا تجعل من قسم الحاسب الآلي في الشركة مركزاً ربحياً؟ دعه يفرض الثمن الذي يريد على مستخدمي خدماته. لكنه يجب أن يكون حراً في اجتذاب الزبائن خارجياً وداخلياً. ومن جهة أخرى، أن يكون مستخدمو خدماته من الداخل أحراراً في الحصول على هذه الخدمات من الخارج عند رغبتهم." حبّذ المدير التنفيذي الرئيسي CEO المقترح وعملَ به.
في الشهور الستة التالية، قام مركز الحاسب الآلي بتخفيض عدد حاسباته إلى النصف. ومع ذلك، فقد استمر المركز بإنجاز كافة الأعمال الداخلية تقريباً لأن الطلب الداخلي انخفض بشدة بعد أن صار على مستخدمي الحاسب الدفع مباشرة عن العمل الذي كانوا يطلبونه. وأصبح للمركز المزيد من الوقت لبيع خدماته إلى الراغبين الخارجيين. ومع مرور الوقت، حقق القسم أعمالاً مربحة من عملية معالجة البيانات، مع تحسين النوعية وتقليل تكاليف خدماته. وهذا التحسين والتخفيض كان ضرورياً لجذب الزبائن والاحتفاظ بهم. المسئول التنفيذي، الذي كانت لديه مسئولية المراقبة بواسطة الحاسب الآلي، لم يعد يقلق على قياس الخدمات المقَّدمة benchmarking؛ إذ أصبحت لديه طريقة تقويم أفضل كثيراً.
مصنع معدات كهربائية
المثال الجيد جداً على قوة فكرة اقتصاد السوق الداخلي، حتى ولو مطبقاً على جزء فقط من شركة معينة، يقدمه مصنع كبير للمعدات الكهربائية والإلكترونية. كانت إحدى وحدات ذلك المصنع تشكل معملاً كبيراً لإنتاج المحركات الصغيرة التي تستعمل كأدوات منزلية كبيرة، على الأكثر. بضع مصانع كبيرة لهذه الأدوات كانت تشتري معظم إنتاجها. وكانت هناك وحدة أخرى تجهّز تجار الجملة للمواد الكهربائية بالأدوات الاحتياطية المستعملة في إنتاج المعدات أساساً. وكان ذلك محركات كهربائية صغيرة. طلبَ المديرون التنفيذيون للشركة من وحدة إنتاج المحركات تجهيز الوحدة الأخرى، ومن الوحدة الأخرى أن لا تستعمل غير إنتاج الوحدة الأولى. ولأن كلاً من الوحدتين كانتا مراكز ربح، فقد تم وضع سعر تحويل بين تلك المحركات. وكانت الحصيلة انهيار ودمار.
وحدة تجهيز تجار الجملة كانت كثيراً ما تحتاج محركات كهربائية، عندما كانت وحدة الإنتاج تعمل بطاقتها، وهي تفضل تجهيز زبائنها الكبار الذين دفعوا سعراً للمحركات أعلى من سعر التحويل. وعليه، فالاستجابة لتوجيهات الشركة كانت تتطلب التضحية بالربح.
ومن جهة أخرى، فإن وحدة تجهيز تجار الجملة غالباً ما كانت تتلقى العروض لمحركات مماثلة من المصانع الخارجية بأقل من سعر التحويل. ولكنها لم تستطع شرائها، مما جعلَ تكاليفها أكثر وأرباحها أقل.
فليس من الغريب أن كل وحدة كرهت الأخرى. وقاد تزايد الكراهية إلى حدوث خلاف صريح اربكَ فعالية الشركة وقدم مثالاً سيئاً لبقية الوحدات. سألنا المديرُ التنفيذي الرئيسي CEO عما إذا كان بإمكاننا إيجاد طريقة للحد من هذا الخلاف بتعديل سعر التحويل. أخبرناه بعدم وجود شيء من قبيل سعر تحويل مناسب fair بشكل ثابت، وبأن أي سعر تحويل من شأنه عاجلاً أم آجلاً أن يخلق مشاكل. واقترحنا عليه أن يسمح لكل وحدة بالشراء والبيع كما تشاء، مع منح المدير التنفيذي الذي ترتبط به كلتا الوحدتان سلطة تجاوز قراراتهما. ولكن يترتب عليه أن يدفع عن زيادة التكلفة أو الربح الضائع بسبب تجاوزاته. وقد وافق المدير على ذلك.
في السنة الأولى، لاحظ مدير المراقبة التنفيذي بأن الوحدتين المقيدَّتين مدينتان بثلاثة ملايين دولار. اجتمع المكتب التنفيذي للشركة، في نهاية العام، لتقييم هذا الإنفاق ووجدَ أنه لم يكن مبرراً؛ وأنه لم يتحقق أي نجاح. تمت إزالة القيود في السنة التالية. وارتفعت ربحية الوحدتين والشركة، وزال الخلاف بين الوحدتين، وأصبحتا متعاونتين تماماً.
جامعة نظرية
طبقت جامعة رئيسة فكرة اقتصاد السوق الداخلي على أقسامها، كما جرت الإشارة إلى ذلك سابقاً. وبالنتيجة، تم إيقاف وحدتين غير مربحتين ودون المستوى العالي، ولكن جرى الاحتفاظ بوحدة أخرى غير مربحة لسمعتها. ومع ذلك، كان لهذا التحول تأثير ضخم على سلوك بقية الأقسام. في السابق، كان النمو هدفاً رئيساً لكافة الأقسام تقريباً لأنها رأت بأن الاستقرار يرتبط إيجابياً بحجم القسم. ولكن حالياً، ولأول مرة، كان عليها أن تقلق بشأن تأثير الحجم على ربحيتها. وقد تبينَ لها بأن النمو غير المقَّيد لم يعد وسيلة فعالة لتحقيق أهدافها.
عومل أعضاء أحد أقسام الكلية كمراكز ربح. تم ربط دخولهم بعدد الطلاب ممن يقدمون أجور دراستهم وكمية البحوث الموثّقة التي يقومون بها. لا يستطيع عضو الكلية ممن لم ينهِ برنامجه السنوي الحصول على زيادة في راتبه. اندهش الأساتذة عندما علموا بحجم برنامج التدريس الذي يجب تقديمه سنوياً، وهو أكبر بكثير مما اعتادوا عليه. فمثلاً، على كل أستاذ، في كل سنة جامعية، أن يدّرس خمسة موضوعات courses أمام 37 طالب لإنهاء سنته الدراسية. قبل تطبيق فكرة الاقتصاد الجديد، كان معظم الأساتذة يقدمون حلقتين دراستين seminars أمام 8 طلاب لكل حلقة. لقد تغيرَ توجههم نحو التدريس والبحث بصورة حادة.
أصبح على الأساتذة الآن تدريس الفصول الكثيرة للسنة الأولى لكسب ما يكفي لتمكينهم من تنفيذ حلقاتهم الدراسية المتقدمة دون التضحية بالدخل المستقبلي. لم يعد يُنظر إلى البحوث التعاقدية كدعارة جامعية. زادت المنافسة على المنح والعقود بشكل مثير، وأصبحت المشاركة في البحث أكثر سهولة.
الأسواق الداخلية في القطاع العام
إن تطبيق فكرة اقتصاد السوق الداخلي لم تعد محصورة بالمنشآت الخاصة الهادفة لتحقيق الربح. بل يمكن استعمالها بشكل فعال، وقد استعملت بالفعل، في القطاع العام من قبل الحكومة. فمثلاً، أن استعمال إيصالات التعليم، التي اقترحها كريستوفر جنك Christopher Jenk من جامعة هارفارد ونشرها ميلتون فريدمان Milton Friedman، يتضمن التحول لاقتصاد السوق. تتسلم المدارس، في هذا النظام، دخلها من صرف الإيصالات المستلمة من الطلاب ممن لديهم الخيار في دخول المدارس العامة. تم إصدار الإيصالات من قبل الحكومة. يمكن استخدام هذه الإيصالات أيضاً لدفع كل أو جزء من رسوم التعليم المطلوبة من قبل المدارس الخاصة غير الدينية. يتطلب هذا النظام من المدارس الدخول في منافسة من أجل البقاء على الحياة، وهذا بدوره، يتطلب أن تكون هذه المدارس ذات قدرة على الاستجابة لأهداف مَنْ تقوم بخدمتهم.
في نظام الإيصال، يجب على كل مدرسة عامة قبول كافة مقدمي الطلبات في المنطقة المسئولة عنها. الطلاب ممن قبلوا ويدخلون المدارس في مختلف المناطق يجب تعويضهم عن تكاليف نقلهم من قبل مدارسهم في المناطق التي يعيشون فيها. في هذا النظام، إذا كان على المدارس أن تختار عشوائياً من بين مقدمي الطلبات الذين يعيشون خارج مناطقها، فإن مسألة العزل segregation تصبح قليلة أو عديمة الأهمية.
عند أخذ مثال آخر، مكتب مركزي كبير للتراخيص في مكسيكو سيتي لديه سجل فظيع في تدني مستوى كفاءته وخدماته الهزيلة. تم تقسيمه إلى عدد من المكاتب الصغيرة ووضع كل منها في قاطع من المدينة. عوضت هذه المكاتب عن كل ترخيص أصدرته، وليس لها مصدر دخل آخر. وهؤلاء ممن يريدون الحصول على ترخيص يمكنهم اختيار أي من هذه المكاتب. على خلاف الاحتكار البيروقراطي المركزي الذي حلت محله، يمكن للمكاتب الصغيرة هذه البقاء والاستمرار فقط بتوفير خدمة جيدة بثمن معقول. وهنا تم تخفيض وقت الخدمة، وتحسنتْ نوعية الخدمة، واختفى عملياً الفساد الذي اخترق الخدمة سابقاً.
من المفيد ملاحظة أن خصخصة خدمة عامة معينة لا يحولها بالضرورة إلى اقتصاد سوق. فالخصخصة يمكن أن تحافظَ على احتكار ما، مما يتعارض مع مُثل اقتصاد السوق الذي تكون فيه المنافسة أمراً جوهرياً.
الاعتراضات على اقتصاد السوق الداخلي.
تواجه المقترحات الداعية لإدخال اقتصاد السوق الداخلي، عادة، أربعة أنواع من الاعتراض.
أولاًً، يشير المشكِّكون إلى أن الكمية الإضافية المطلوبة من الحسابات يمكن أن تكون رهيبة. وهذا ليس صحيحاً! إذ أن كمية الحسابات المطلوبة قد انخفضت بالفعل. معظم الحسابات المطلوبة حالياً لوحدات المنظمة تتم لتسهيل رقابة وحدات المنظمة في المستويات العليا. ومع ذلك، فالمطلوب في اقتصاد السوق الداخلي هو فقط تصاريح حسابات الأرباح والخسائر والميزانيات العمومية لتقديمه إلى الوحدات الأخرى في المنظمة. وعلى هذه الوحدات أن تدفع عن أية معلومات إضافية تطلبها. وهذا الدفع يفرض اتجاهاً قوياً لإنقاص الكمية غير الضرورية من المعلومات الحسابية التي تتدفق داخل المنظمات، وبخاصة إلى الأعلى.
ثانياً، يشير البعض إلى أن اقتصاد السوق الداخلي سوف يزيد الخلاف والتنافس بين أجزاء المنظمة. وهذا ليس صحيحاً، مرة أخرى. فسعر التحويل، الذي هو البديل لسعر السوق في الاقتصاد المخطَّط والمسيطَّر عليه مركزياً، يخلق خلافاً داخلياً حاداً وتنافساً. ذات مرة، لاحظ بيتر دروكر Peter Drucker أن هناك منافسة داخل المنشآت أكبر من المنافسة فيما بينها، وهي منافسة غير أخلاقية إلى حد بعيد.
لدى معظم وحدات المنظمة علاقات مع المجهِّزين الخارجيين الذين تختارهم أفضل من علاقاتها بالمجهزين الداخليين ممن لا تستطيع اختيارهم. إن المنافسة، التي يقّويها اقتصاد السوق الداخلي، هي بين المجهزين الخارجيين والداخليين لنفس السلع أو الخدمات، وليس بين الوحدات الداخلية المجهِّزة والمجهَّزة. وعلاوة على ذلك، فالمجهزين الداخليين، الذين ينبغي عليهم الدخول في منافسة مع المجهزين الخارجيين على زبائن داخليين، هم أكثر استجابة لحاجات زبائنهم من المجهزين الداخليين المحتكرين.
تأملْ حالة منتج كبير للغذاء لديه وحدة أساسية لبحوث السوق، وهي مجهِّز احتكاري مدعوم يقدم خدماته لبقية وحدات المنظمة. مستعملو هذه الوحدة قلّلوا من منزلتها لأنها اعتبرت ضعيفة الاستجابة، وعلى مستوى أقل من منظمات البحث في السوق الخارجية. قامت إدارة الشركة بتحويلها إلى مركز ربح، وسمحت لها بتسويق خدماتها خارجياً، كما سمحت لمستعملي خدماتها الداخليين بالحصول على هذه الخدمات من الخارج. على الوحدات المستعِّملة دفع ثمن الخدمات التي تتلقاها من أي مصدر كان. كافة المستعملين الداخليين تحركوا أولاً نحو الخارج، مجبرين المجهِّز الداخلي على البحث عن عمل خارجي. وأخيراً نجحت الوحدة، ولكن فقط بعد تحسين نوعية خدماتها. وقد أصبحت وحدة أعمال مزدهرة. الوحدات الداخلية بدأت تعجب من سبب نجاحها، واختبرتها. فوجدتها، هذه المرة، سريعة الاستجابة ومؤهلة. ارتفع الطلب الداخلي على خدمات هذه الوحدة كثيراً إلى درجة اضطرت معها رفض بعض الأعمال المعروضة عليها من قبل المنظمات الخارجية.
الحجة الثالثة هي أن اقتصاد السوق الداخلي لا يمكن تطبيقه على جزء واحد فقط من المنظمة، بل يتطلب تطبيقه بشكل كلي. اقتصاد السوق الداخلي الجزئي ربما يكون، كما يُدعى، صعباً جداً، إنْ لم يكن مستحيلاً. صعباً، نعم، ولكن ليس مستحيلاً! قبل ثلاث سنوات تقريباً، كانت هناك شركة من قسمين؛ القسم الذي ينتج أجهزة استنساخ، وآلات تصوير، وأشعة أكس ومعدات طبية أخرى، تم تحويله إلى اقتصاد سوق داخلي. الشركة التي تضم هذا القسم لم تكن راغبة بتطبيق نفس النمط الاقتصادي. وعليه، كان على القسم المعني أن يقوم بنشاطه كوحدة ذات توجه سوقي market-oriented unit في إطار اقتصاد مخطط ومسيطر عليه مركزياً.
استمرت الشركة بتحميل القسم ثمن كافة الخدمات التي تقدمها له من خلال تخصيص النفقات العامة overhead allocation. لم يستطع القسم تقسيم هذه النفقات إلى نفقات مقابل خدمات تسلمها القسمُ بالفعل ونفقات لم يحصل مقابلها على شيء. وعليه، قامت الوحدة بتطوير تكاليف بديلة للخدمات التي تسلمتها واعتبرت النفقات الأخرى التي لم تحصل على خدمات من الشركة في مقابلها كضريبة. واصلتْ الوحدة إرسال تقاريرها للشركة بالطريقة المعتادة لكنها قامت بنشاطها على أساس نوعين من السجلات الحسابية.
بعد سنة واحدة من تحوله، ارتفعت فعالية القسم بدرجة عالية أدهشت الشركة وبقية أقسامها التي أخذت تتساءل عما يجري. عندما فهمت الشركة حقيقة ما جرى للقسم، لم تتحول إلى نظام مماثل لكنها قامت بتغيير المعلومات المطلوبة ووفرتها للقسم. وقد قاد هذا التغيير إلى تمكين القسم من ممارسة نشاطه بسهولة أكثر في إطار اقتصاده السوقي الداخلي. وقد لحقت الوحدات الأخرى بالقسم فيما بعد.
وحدثت حالة مماثلة مع وحدة البحث والتطوير R&D في شركة Esso Petroleum Canada. إذ تم تحويل هذه الوحدة أيضاً إلى اقتصاد سوق داخلي في إطار اقتصاد مخطَّط ومسيطَّر عليه مركزياً. ولكن في هذه الحالة حاولت الشركة الأصلية تسهيل مهمة التحول على أمل أن يؤدي ذلك إلى تحول مماثل لبقية الوحدات، واحتمال تحول الشركة برمتها.
السبب الرابع لعدم الاهتمام الجدي بفكرة اقتصاد السوق الداخلي هو أن وظائف معينة من الخدمة الداخلية لا يتُوقع أن تجتذب "بشكل معقول" الزبائن الخارجيين. والأمثلة التي كثيراً ما يُستشهد بها هي قسميْ الحسابات والعاملين (أو الذاتية) accounting and human-resource departments. قامت إحدى الشركات، ومقرها الرئيس في الغرب الأوسط Midwest بتحويل كلا القسمين إلى وحدتي- ربح. العديد من فروع الأعمال المحلية، الصغيرة والمتوسطة الحجم، التي لم يكن بوسعها أن تؤمن داخلياً خدمات الحسابات والعاملين بنوعية عالية، رحبت بإمكانية توفير هذه الخدمات.
شركة أخرى، كانت تشغل عدداً من البنايات في ريف مدينة رئيسة، قامت بتحويل قسم المرافق والخدمات لديها (بنايات، أراضي، ومنافع عامة) إلى مركز ربح يعمل في إطار اقتصاد سوق داخلي. تحولَ كافة مستخدمي خدماته في الداخل نحو المجهِّزين الخارجيين، حيث حصلوا منهم على خدمات أفضل وبتكاليف أقل. وبالنتيجة، انكمش قسم المرافق والخدمات في الشركة وأقصيَّ أخيراً مع تحقيق وفر هام للشركة.

منافع اقتصاد السوق الداخلي
سبق وأن تم بالفعل تحديد عدد من مزايا اقتصاد السوق، وبخاصة سرعة الاستجابة للمجِّهزين في الداخل، والنوعية الأفضل، وتخفيض تكلفة الخدمات والمنتجات المعروضة داخلياً، والسعي الدائم للحجم المناسب continuous right-sizing، وتقليل الأعمال المكتبية، وما شابه. وهناك بضع مزايا أخرى تستحق الذكر.
أولاً، لأن كل وحدة في الشركة، تقريباً، تمارس نشاطها في إطار اقتصاد سوق داخلي فإنها تصبح مركز ربح، ويمكن تطبيق نفس مؤشرات الأداء عليها جميعاً. وهذا يسمح بمقارنة أداء الوحدات التي لم تكن قابلة للمقارنة سابقاً، كالتصنيع والحسابات.
ثانياً، يعمل مديرو مراكز الربح في اقتصاد السوق الداخلي، بالضرورة، كمديرين عامين لوحدات أعمال شبه مستقلة. وهذا يوفر لهم فرص اكتساب، وتحسين نوعية، وعرض مهاراتهم الإدارية العامة. ولذلك، فإن المديرين التنفيذيين هم في موقع أفضل لتقييم القابلية الإدارية العامة للعاملين التابعين لهم.
ثالثاً، عندما تتحول الوحدات إلى مراكز ربح وتحصل على الاستقلال الملائم لهذا النظام، يكون المديرون في موقع أفضل كثيراً للحصول على المعلومات التي يطلبونها لإدارة نشاطهم بشكل جيد. إذ يصبح المديرون أكثر اهتماماً بتزويد أنفسهم بالمعلومات التي يحتاجونها مقارنة بتزويد رؤسائهم بالمعلومات التي يريدونها.
استنتاج
من الواضح أن التحول لاقتصاد السوق الداخلي يثير عدداً من المسائل. ولذلك، فهذه قضية لا يمكن أن تؤخذ بسهولة؛ ولا تروق للضعيف المتردد. فهذا التحول يتطلب مديرين جريئين، قادة تحويليين. ومع ذلك، فإن النجاح المحتمل يشكل زيادة كبيرة في الفعالية.. إن تحول الشركات نحو اقتصاديات سوق داخلي، وإعادة بناء قطاع الأعمال corporate perestroika، هي قضية مهمة لبلدنا على مستوى الاقتصاد الجزئي بقدر ما كانت قضية مهمة للاتحاد السوفيتي على مستوى الاقتصاد الكلي.
هوامش
راسيل اسكوف Russell Ackoff يحمل لقب أستاذ، في جامعة بنسلفانيا، وأحد عمداء الفكر الإداري الحديث. شارك Ackoff في تأسيس البرنامج الجامعي الأمريكي الأول في بحوث العمليات في معهد Case Institute of Technology and Social Systems Sciences Program- University of Pennsylvania. وهو الرئيس السابق لجمعيتيْ Operations Research Society and the Society for General Systems Research. نشرَ الدكتور Ackoff عشرين كتاباً ومئات المقالات، وقدمَ استشاراته لأكثر من 400 شركة وحكومة. أحدث كتاب له هو: The Democratic Corporation (NY: Oxford University Press, 1994).
(1)See: Arthur D. Little, “Companies Continue to Embrace Quality Programs, but T&M has Generated More Enthusiasm Than Results,” Press Release, March 1992., Ernest & Young and American Quality Foundation, “Best Practices Report,” Preliminary Report (may 14, 1992)., and Final Report (October 1, 1992)., and Fuchberg, Gillbert, “Quality Programs Show Shoddy Results,” Wall Street Journal, 14, 1992, B1 and B7.
(2) American Management Association, “1994 AMA Survey on Downsizing,” research report, July 20, 1995.,
Andeara Knox, “Most Cuts in Jobs Don t’ Help Forms, Survey Indicators,” Philadelphia Inquirer, March 9, 1992., D1, J. pourdehnad, W. E. Halal, and E. Rausch, “From Downsizing to Rightsizing to self- sizing,” Total Quality Review, July- August 1995, 43-50., Ted J. Raksis, “The Downsizing Myth,” Kiwanis, April 1994, 46ff., and Bernand Wysocki Jt., “Some Companies Cut Costs Too Far, Suffer, Corporate Anorexia,” Wall Street Journal July 5, 1995.









الفصل التاسع
النشاط الاقتصادي والبيئة:
اقتصاد نشاط الأعمال النظيف
بول اِكنز، جامعة كيل/ إنجلترا
Paul Ekins, Keele University, England

مقدمة
الهدف من نشاط قطاع الأعمال هو خلق الثروة. وهذا يُفسر أحياناً كزيادة في قيمة الأسهم المملوكة. ومع ذلك، فالتراكم الخاص هذا لا يكون مبرراً من منظور اجتماعي أوسع إلاّ إذا أدخلَ في بنية تكاليفه وأسعاره أي تأثيرات اجتماعية وبيئية تنتج عن نشاط الأعمال.
هناك إدراك واسع بأن نشاط الأعمال ككل يولد تكاليف بيئية لا تنعكس على أسعار السوق، وبالتالي فإن هذه التكاليف هي مصدر لعدم الكفاءة الاقتصادية، يقود إلى خسارة في الرفاهية البشرية. وهكذا، فإن تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، في الفصل المتعلق بالصناعة، يشير إلى: "من الواضح أنه لابد من تعزيز الإجراءات اللازمة للحد من التلوث الصناعي، والسيطرة عليه، والوقاية منه. وإذا لم يتحقق ذلك، فإن خطر التلوث على صحة الإنسان قد يتعذر تحمله في مدن معينة، ويتزايد تهديد الرفاهية… وإذا أريد للتنمية المستديمة أن تكون مستديمة على المدى الطويل، فلابد من تغيير جذري في نوعية تلك التنمية(1)."
هناك الآن إجماع مثير للإعجاب بأن حجم وشدة التحدي البيئي قد بلغا حداً يجعل، كما هو معتاد، استجابة النشاط الاقتصادي غير كافية، وربما مأساوية. ولذلك، فإن معهد الموارد العالمية WRI، بالتعاون مع كل من برامج التنمية والبيئة التابعة للأمم المتحدة، قد توصلَ إلى استنتاج، على أساس واحدة من أوسع قواعد البيانات البيئية في العالم، مفاده: إن "العالم لا يمضي نحو مستقبل مأمون حالياً، على العكس، فهو يمضي نحو مجموعة من الكوارث الإنسانية والبيئية المحتملة(2)."
في تصريح غير مسبوق للجمعية الملكية البريطانية United Kingdom Royal Society، بالاشتراك مع الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة U.S. National Academy of Sciences، في رسالتها لقمة ريو العام 1992 Rio Summit، قد استنتجت: "إن الاستهلاك غير المقَّيد للموارد لغرض الطاقة والأغراض الأخرى .. يمكن أن يقود إلى نتائج كارثية على البيئة العالمية. فبعض التغييرات البيئية يمكن أن تتسبّب في دمار غير قابل للإصلاح بالنسبة لقدرة الأرض على حفظ الحياة. إن مستقبل كوكبنا على المحك(3)."
إن شرطاً هاماً، بل شرطاً لا غنى عنه في الواقع، لمواجهة التحدي البيئي بنجاح هو تحويل طريقة إنتاج السلع والخدمات، تحويل نشاط الأعمال إلى "نشاط نظيف" clean business. وقد وصف تقرير Brundtland Report، وصفاً واسعاً، ذلك التحول باعتباره تطور الصناعات والعمليات الصناعية "التي هي أكثر كفاءة من ناحية استعمال الموارد، وتخلق أقل تلوث وضياع، وتعتمد على استعمال الموارد المتجددة، وليس غير المتجددة، وتقلّل إلى أدنى حد ممكن الآثار السلبية، التي يتعذر إصلاحها، على صحة الإنسان والبيئة(4)." ويقّدم هذا الفصل بعض الأفكار التي تبين كيف يمكن لقطاع الأعمال، وإلى أي حد ينبغي على قطاع الأعمال، أن يتحرك بهذا الاتجاه.
أبدأ بتقديم نموذج لخلق الثروة، قابل للتطبيق في قطاع الأعمال أو الاقتصاد الكلي بنفس الدرجة، وذلك لفهم حجم المساهمات التي تقدمها البيئة لنشاط الأعمال وللاقتصاد. ثم أضع هذه المساهمة في سياق مفهوم المحافظة على البيئة (أو الاستدامة البيئية) environmental sustainability، الناشئ، الذي بات مبدأ هاماً لتنظيم السياسة البيئية. ثم أبين كيف تشرع شركات الأعمال بمراقبة، وقياس، وتقرير، وتفسير الآثار المترتبة على البيئة، وهذا شرط مسبق للقدرة على معالجة هذه الآثار. ثم أناقش نطاق الجدوى المالية حالياً لتحرك قطاع الأعمال باتجاه المحافظة على البيئة، وأطرح نتائج بعض الدراسات التطبيقية التي تشير إلى إمكانية تحقيق تقدم كبير حقاً. وأخيراً، أطرح بعض التغييرات التي لا بد من إجرائها في المسار الحالي لشركات الأعمال بغية تشجيع المزيد من الشركات على السير بهذا الطريق وذلك من خلال التأكيد على أن شركات الأعمال التي تحافظ على البيئية هي الشركات الأكثر ربحية.
إن تحويل الإنتاج الصناعي إلى "نشاط اقتصادي نظيف"، وهي العملية التي تسمى "التحديث البيئي" ecological modernization، أحياناً، ليس عملاً سهلاً. وكما لاحظ مجلس النشاط الاقتصادي للتنمية المستديمة: "إن الحاجة للنمو الاقتصادي النظيف والمتكافئ تبقى هي الصعوبة الكبرى الوحيدة مع التحدي الأكبر للتنمية المستديمة. ومن المؤكد أن إثبات إمكانية هذا النمو هو أعظم اختبار بالنسبة لنشاط الأعمال والصناعة(5)." وهذا الفصل يبين كيف يمكن تحقيق هذا الاختبار بطريقة تستخلص أعظم فائدة من الفرص السانحة، كما أنه يشير إلى المشاكل أيضاً.

فهم خلق الثروة
تُوصف عملية خلق الثروة، على الأغلب الأعم، كعملية يتم فيها وضع الأنواع المختلفة من الأصول، أو رأس المال، معاً لإنتاج السلع والخدمات. ومن الواضح أن الطبيعة هي مصدر أحد أهم أنواع رأس المال، وهو النوع المعروف هنا برأس المال الايكولوجي أو رأس المال الطبيعي ecological or natural capital. والنموذج التالي يؤكد على دور هذا النوع من رأس المال بحيث يمكن بشكل أفضل فهم مكانة ومساهمة البيئة الطبيعية في نشاط الأعمال والاقتصاد.
يبين الشكل 9-1 أربعة أنواع من رأس المال: رأس المال الايكولوجي (أو الطبيعي)، ورأس المال البشري، ورأس المال الاجتماعي والتنظيمي، ورأس المال الصناعي. ينتج كل واحد من هذه الأنواع تدفقاً من "الخدمات" من البيئة (E)، ومن رأس المال البشري (L)، ومن رأس المال الاجتماعي/ التنظيمي (S)، ورأس المال المادي (K). وهذه الخدمات هي مدخلات inputs في العملية الإنتاجية، سويةً مع "المدخلات الوسيطة" intermediate inputs (M)، التي هي نواتج اقتصادية outputs تستعمل كمدخلات في عملية لاحقة.
يشكل رأس المال الصناعي السلعَ المادية- الأدوات، والآلات، والمباني، والبنية التحتية- التي تساهم في عملية الإنتاج، ولكنها لا تتجسد في الناتج، كما أنها " تُستهلك" عادةً في فترة أطول من سنة. وبخلاف ذلك، فإن السلع الوسيطة أما تتجسد في السلع المنتَجة (كالمعادن، والبلاستك، والمكونات) أو تستهلك حالاً في عملية الإنتاج (كالوقود). يشمل رأس المال البشري كل قدرات الأفراد على العمل؛ بينما يشكل رأس المال الاجتماعي والتنظيمي كل الشبكات والتنظيمات التي تُعبئ وتنسق مساهمات الأفراد.

رأس المال الايكولوجي نوع معقد يؤدي ثلاثة أنواع متميزة من الوظيفة البيئية، اثنان منهما على صلة مباشرة بعملية الإنتاج(6). النوع الأول هو تجهيز الموارد للإنتاج (E)، أي المواد الأولية التي تتحول إلى غذاء، وطاقة، ومعادن، وأخشاب، وما شابه. والنوع الثاني هو امتصاص فضلات الإنتاج wastes (W)، من كل عملية الإنتاج ومن التصرف بمواد الاستهلاك. وحينما تضيف هذه الفضلات إلى رصيد (أو مخزون stock) رأس المال الايكولوجي أو تحسّنه (من خلال إعادة استعمالها recycling أو تخصيب التربة بواسطة الحيوانات والدواجن، مثلاً)، فيمكن معاملتها كاستثمار في رأس المال هذا. ولكن الأكثر شيوعاً، حينما تقوم هذه الفضلات بتدمير التربة أو تلويثها أو تعريتها، مع الآثار السلبية على رأس المال الايكولوجي أو البشري أو الصناعي، فيمكن اعتبارها كعوامل للاستثمار السالب، أو الاندثار، أو اهتلاك رأس المال. وفي الحالتين، تساهم الفضلات في رأس المال على شكل آثار التغذية العكسية feedback effects، المبيَّنة في الشكل 9-1.
النوع الثالث من الوظيفة البيئية لا يساهم بعملية الإنتاج بصورة مباشرة، ولكنه يمثل أهم نوع بأشكال عدة لأنه يقدم السياق والشروط التي في إطارها تتحقق عملية الإنتاج أصلاً. إنه يشكل الخدمات البيئية الأساسية (ES)، بما في ذلك الخدمات الضرورية لدوام الحياة كتلك التي تخلق استقرار المناخ والنظام الايكولوجي ecosystem، والوقاية من الإشعاع فوق البنفسجي من طبقة الأزون، والخدمات المريحة كجمال البرية وبقية المناطق الطبيعية. هذه الخدمات تُنتج بشكل مباشر من قبل رأس المال الايكولوجي بمعزل عن نشاط الإنسان، ولكن النشاط الإنساني يمكنه بالتأكيد أن يؤثر (سلباً، في الغالب) على رأس المال الذي ينتجها وبالتالي على الخدمات التي يقدمها من خلال آثار التغذية العكسية على رأس المال، المذكورة قبل قليل.
يمكن تصنيف منتجات العملية الاقتصادية، في المقام الأول، كمنتجات "جيدة" Goods و "سيئة" Bads. الجيدة هي المنتجات المستهدفة من عملية الإنتاج، إضافة إلى أي وفورات خارجية إيجابية (الآثار العرضية) قد ترتبط بها. والمنتجات الجيدة هذه، بدورها، يمكن تقسيمها إلى سلع استهلاكية، وسلع استثمارية، وسلع وخدمات وسيطة. أما المنتجات السيئة، فهي الآثار السلبية لعملية الإنتاج، بما في ذلك اندثار رأس المال وفضلات التلوث وبقية الوفورات الخارجية السالبة التي تساهم في تدمير البيئة، والتأثيرات السلبية على صحة الإنسان، وما شابه. وما دامت المنتجات السيئة تملك أن تؤثر على رصيد (أو مخزون) رأس المال، فيمكن أن تُعامل كاستثمار سالب.
إن ضرورة توازن المادة/ الطاقة على أي من جانبيْ عملية الإنتاج تعني أن كل المادة والطاقة المستعملة كمدخلات يجب أن تظهر كمنتجات وتتجسد أما في المنتجات الجيدة أو ضمن المنتجات السيئة. ولذلك، في نهاية هذه العملية، فإن كل المدخلات السابقة تعود إلى البيئة، كرصيد من رأس المال الايكولوجي، حيث يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي، أو سلبي، أو محايد.
تتولد الرفاهية البشرية Human welfare، أو المنفعة utility كما يسميها الاقتصاديون، في عدة نقاط من العملية الشاملة لخلق الثروة. فهي تتولد من الاستهلاك (COu) ويمكنها أن تتولد من القيام بالعمل (Pu)؛ ومن البنى الاجتماعية والتنظيمية (SOu)؛ كما أنها دالة لرأس المال البشري نفسه (Hu)؛ والأهم بالنسبة لهذا الفصل، أنها تتأثر بنوعية البيئة الطبيعية (ESu) وبطبيعة ومستوى الفضلات (Wu).


شكل 1-9 الأرصدة، والتدفقات، والرفاهية في عملية الإنتاج

ملاحظة: تشير حروف-رموز الصندوق الأعلى إلى مصدر التدفق، بينما تشير حروف-رموز الصندوق الأسفل إلى الأثر المقصود.

أرصدة رأس المال، C التدفقات من رصيد رأس المال
EC رأس المال الايكولوجي E(الموارد) من EC
HC رأس المال البشري L(العمل) من HC
SOC رأس المال الاجتماعي/التنظيمي
MC رأس المال الصناعي K من MC

التدفقات الأخرى
Ees تدفقات الخدمات البيئية ( ES ) من رأس المال الايكولوجي EC
Ese آثار الخدمات البيئية (كالجو، مثلاً) على رأس المال الايكولوجي EC
M تدفقات السلع الوسيطة إلى عملية الإنتاج، P
Pc آثار الإنتاج P على المكونات المختلفة من رصيد رأس المال، C
Wc آثار الفضلات (التلوث) على رصيد رأس المال، C
Pu آثار عملية الإنتاج P على الرفاهية، U
Wu آثار التلوث على الرفاهية، U
Wes آثار التلوث على الخدمات البيئية، ES
Esu آثار الخدمات البيئية، ES، على الرفاهية، U
Cou آثار الاستهلاك، CO، على الرفاهية، U
Hu, Sou آثار رأس المال البشري ورأس المال الاجتماعي/التنظيمي على الرفاهية، U
Uh, Uso آثار الرفاهية، U، على رأس المال البشري ورأس المال الاجتماعي/التنظيمي

تؤثر الفضلات والتلوث، التي تنجم عن الإنتاج والاستهلاك، على المنفعة بصورة مباشرة (Wu كالقمامة المبعثرة والضوضاء) وبشكل رئيسي من خلال أثرها السلبي negative feedback على رصيد رأس المال البيئي والبشري والصناعي. هذه الآثار السلبية Wc يمكنها أن تخفض إنتاجية الموارد البيئية (من خلال التلوث، مثلاً) وتؤثر على رأس المال الايكولوجي الذي ينتج الخدمات البيئية (من خلال إحداث تغير في المناخ أو إلحاق الضرر بطبقة الأزون، مثلاً)؛ وهي تستطيع أن تدمر رأس المال البشري بالإضرار بالصحة؛ وإتلاف المباني (رأس المال الصناعي). كما يمكنها أيضاً أن تؤثر على الخدمات البيئية بشكل مباشر (Wes بواسطة تخفيض قيمة الجمال الطبيعي، مثلاً).
الشكل 9-1 يؤكد على آثار التغذية العكسية feedback effects. وهناك أثر لم تتم الإشارة إليه بعد، وهو العلاقة المشتركة بين رصيد رأس المال الايكولوجي (EC) والخدمات البيئية (ES) المتولدة منه. ففي ظل نظام ايكولوجي مستقر، تميل (EC) و (ES) نحو التوازن لصالحهما معاً symbiotically.
ومن خلال هذا النموذج، يمكن أن نصف بوضوح أكثر المزايا البيئية "لنشاط الأعمال النظيف" clean business. ومع ذلك، فمن الضروري أولاً أن نستكشف، باختصار، المفهوم الذي أصبح كمبدأ لتنظيم السياسة البيئية، مفهوم المحافظة على البيئة (أو، الاستدامة البيئية) environmental sustainability.

النشاط الاقتصادي والمحافظة على البيئة
يتمثل المعنى الأساسي للمحافظة (أو الاستدامة) في القدرة المتواصلة على الاستمرار إلى هذا الحد أو ذاك في المستقبل. وكما وردَ في المقدمة، من الواضح الآن أن الأنماط الحالية، الشاملة، للحياة لا تمتلك تلك القدرة أما لأنها تدمر الشروط البيئية الضرورية لاستمرارها، أو لأن آثارها البيئية سوف تتسّبب في إحداث تمزق اجتماعي غير مقبول أو تدمير الصحة العامة. والآثار البيئية المقصودة تتضمن تغير المناخ، واستنزاف الأوزون، والتحميض acidification، والتلوث السام، واستنزاف الموارد القابلة للتجدد (كالغابات، والتربة، ومواطن صيد الأسماك، والمياه، مثلاً)، والموارد غير القابلة للتجدد (كالوقود المستخرج من الأرض، مثلاً، fossil fuels) وانقراض الأنواع.
نمط الحياة way of life هو حزمة معقدة من القيم، والأهداف، والمؤسسات، والنشاطات، مع أبعاد أخلاقية، وبيئية، واقتصادية، واجتماعية. ورغم أن القلق الحالي على عدم المحافظة (أو، عدم الاستدامة) unsustainability له أساس ايكولوجي إلى حد بعيد، فمن الواضح أن الأوضاع الإنسانية أو أنماط الحياة يمكن أن لا تكون مستديمة لأسباب اجتماعية واقتصادية. الأسئلة الهامة هي: بالنسبة للبيئة، هل يمكن لمساهمتها في الرفاهية البشرية وفي الاقتصاد أن تكون مستديمة؟ وبالنسبة للاقتصاد، هل يمكن للمستوى الحالي من خلق الثروة أن يكون مستديماً؟ وبالنسبة للمجتمع، هل يمكن للتماسك الاجتماعي والأوضاع الاجتماعية الهامة أن تكون مستديمة؟ وفيما يلي، سنركز عل الأبعاد البيئية- الاقتصادية لموضوع الاستدامة.
الاستدامة الاقتصادية، على الأغلب الأعم، تُفسر كحالة لا تتدنى فيها الرفاهية الاقتصادية في المستقبل. وكما رأينا، فإن الرفاهية الاقتصادية تُشتق ، بين أمور أخرى، من الدخل والبيئة. البيئة تؤدي وظائف مختلفة، يساهم بعضها في الإنتاج، وبالتالي في الدخل، وتساهم الأخرى منها بشكل مباشر في الرفاهية. الدخل يتولد عن رصيد رأس المال، بما في ذلك رأس المال الصناعي والبشري والطبيعي. ويؤدي رأس المال الطبيعي، أيضاً، الوظائف البيئية التي تخلق الرفاهية. وحالة عدم تدني الرفاهية الاقتصادية تتطلب، على فرض بقاء الأشياء الأخرى على حالها، المحافظة على رصيد رأس المال(7).
وثمة قضية هامة هنا: هل أن الرصيد الكلي لرأس المال هو الذي ينبغي المحافظة عليه، مع إمكانية الإحلال substitution فيما بين مكوناته المختلفة؛ أم أن المكونات المحددة لرأس المال، وبخاصة رأس المال الطبيعي، غير قابلة للإحلال unsubstitutable- أي أنها تساهم بالرفاهية بطريقة فريدة بحيث أنها لا يمكن أن تُعوض بمكِّون آخر من رأس المال. شروط الاستدامة البيئية "الضعيفة" تنبع من الفهم بأن الرفاهية لا تعتمد عادةً على شكل محدد لرأس المال، ويمكن المحافظة عليها بواسطة إحلال رأس المال الصناعي محل رأس المال الطبيعي. الاستدامة "القوية" تنبع شروطها من فهم آخر وبمقتضاه تكون إمكانية إحلال رأس المال الصناعي محل رأس المال الطبيعي محدودة جدياً بسبب الخواص البيئية كعدم قابلية التحول irreversibility، وعدم التأكد، والمكِّونات "الحساسة" critical لرأس المال الطبيعي التي تساهم بالرفاهية بصورة فريدة(8). ومَنْ يعتبر رأس المال الطبيعي كمكِّمل لرأس المال الصناعي انما يضفي أهمية أكبر على هذا الأخير(9).
إلى حد ما، من الممكن النظر لعملية التصنيع كتطبيق لرأس المال البشري والاجتماعي على رأس المال الطبيعي لتحويلها إلى رأسمال صناعي man-made capital. ولكن من الواضح الآن أن قابلية الإحلال هذه غير كاملة. فإذا كانت عملية التنمية الحالية غير مستديمة، فلأنها تستنزف بعض المكونات الحساسة، غير القابلة للإحلال، من رصيد رأس المال الذي تعتمد عليه. وللحفاظ على رأس المال الطبيعي الحساس هذا، فلابد من تطبيق الشروط التالية إذا أريد استعمال البيئة على نحو مستديم:
1. لابد من الوقاية من عدم استقرار الأوضاع البيئية العالمية مثل أنماط المناخ وطبقات الأوزون. والأهم، ضمن هذه النقطة، هو المحافظة على التنوع الحيوي (أنظر الشرط الثاني)، والوقاية من تغير مناخ من خلال العمل على استقرار الغلاف الجوي والتركيز على البيوت الزجاجية القائمة على طاقة الغاز، وحماية طبقة الأوزون بإيقاف إطلاق المواد التي تستنزفها.
2. تنبغي حماية النظم الايكولوجية الهامة والخواص الايكولوجية للمحافظة على التنوع الحيوي. والأهمية، في هذا السياق، تأتي من الاعتراف ليس فقط بالقيمة الاستعمالية للأنواع الفردية individual species التي لم تقُدر حق قدرها لحد الآن، بل أيضاً بحقيقة أن التنوع الحيوي يشكل أساس الإنتاجية وسهولة تكيف النظم الايكولوجية.
3. يتوجب تجديد الموارد القابلة للتجديد من خلال صيانة خصوبة التربة، والدورات الكهرومائية، والغطاء النباتي الضروري، والتشديد الصارم على الطرق المستديمة للحصاد. وتتضمن النقطة الأخيرة وضع أساس لمعدلات الحصاد وفق التقديرات الأكثر محافظة للمستوى المتاح من الموارد كالأسماك، وضمان أن تصبح إعادة الغرس جزءً جوهرياً من بعض النشاطات كالغابات، واستعمال تقنيات للاستزراع والحصاد لا تضر النظام الايكولوجي المعني.
4. استنزاف الموارد غير القابلة للتجديد ينبغي أن يسعى للموازنة بين المحافظة على حد أدنى لمتوسط العمر المتوقع minimum life expectancy للمورد المعني مع تطوير البدائل له. وعند الوصول لذلك الحد الأدنى، فإن المحافظة عليه تعني أن استهلاك المورد لابد من ربطه باكتشافات جديدة له. وللمساعدة على تمويل البحث عن البدائل والانتقال الفعلي نحو البدائل المتجددة، فإن كل استنزاف للموارد غير القابلة للتجديد لابد أن يقترن بالمساهمة في إنشاء صندوق للتمويل. إن الخطط اللازمة لتحقيق كفاءة ودوام الموارد يمكن أن تضمن بأن سياسة الإصلاح repair، والتجديد reconditioning، وإعادة الاستعمال reuse، وإعادة المعالجة recycling ("التجديدات الأربعة" the four Rs) تقترب من حدود الكفاءة البيئية لتلك الموارد.
5. لا ينبغي للمواد المنبعثة نحو الهواء، والتربة، والمياه، أن تتجاوز قدرة التحمل القصوى critical load، أي قدرة الهواء والتربة والمياه على تبديد، وامتصاص، وتحييد، وإعادة معالجة recycling تلك المواد، ولا أن تؤدي إلى تركز السموم، المدمِّرة للحياة. إن تضافر وتعاون المواد الملوِّثة قد يصّعب تمييز وتحديد قدرات التحمل critical-loads. وعليه، فحالات عدم اليقين هذه تتطلب استعمال طريقة حذرة لتبني مقاييس السلامة في حدها الأدنى.
6. لابد من وقاية المناظر الطبيعية landscapes ذات الأهمية الإنسانية الخاصة أو الايكولوجية وذلك بسبب ندرتها، ونوعيتها الجمالية، أو دلالاتها الثقافية أو الروحية.
7. مخاطر الحوادث المدمِّرة للحياة بسبب نشاط الإنسان لابد من تقليلها للحد الأدنى. والتقنيات التي تهدد بتدمير النظام الايكولوجي لفترة طويلة ينبغي التخلص منها.
ومن الواضح أن هذه شروط عامة، وأن الشروط المحددة بالنسبة لشركات الأعمال الفردية لا يمكن ببساطة استخلاصها منها. ومع ذلك، تضع تلك الشروط إطاراً معينا يمكن من خلاله تعريف مميّزات النشاط النظيف clean business. فالنشاط يكون نظيفاً إذا كانت:
• المواد المنبعثة منه نحو الهواء والتربة والمياه مقبولة بالنسبة للحدود المحلية للنظام الايكولوجي والضعف الإنساني، وأن النشاط لا يخلق مساهمة غير متوازنة مع الانبعاثات الكلية التي يتخطى أثرها النطاق المحلي.
• أنه لا يستنزف مخزون الموارد التي تغذي عملية الإنتاج وذلك أما لأن الموارد قابلة للتجديد وأنها تتجدد أو لأنه يزيد كفاءة استخدام موارده غير القابلة للتجديد بمعدل أكبر من هبوط مخزون الموارد.
• لأن منتجاته وعملياته لا تستتبع أي مخاطر، حتى بمستوى مخفض جداً، من التأثيرات كبيرة الحجم أو السلبية التي يتعذر ردها عن الناس أو البيئة.
إن هذه الهموم تقع خارج نطاق النظم التقليدية لإدارة الأعمال. وقبل أن تبدأ الشركات بمواجهتها، ينبغي عليها قياس ومراقبة أدائها البيئي كما تفعل مع باقي نشاطاتها الأساسية.

قياس الأداء البيئي لشركات الأعمال
من وجهة نظر بيئية، المهم هو طبيعة وحجم الطاقة والموارد الطبيعية الأخرى التي يستعملها نشاط ما، والمواد المنبعثة منه للهواء والمياه والأرض؛ وما تستعمله منتجاته من طاقة ومواد طوال فترة حياتها النافعة؛ والآثار المترتبة على البيئة (كقابلية إعادة الاستعمال، وقابلية إعادة المعالجة، أو قابلية التفسخ، مثلاً) عند رمي المنتجات في نهاية حياتها. تشير قوانين المقياس الديناميكي للحرارة (حفظ المادة/ الطاقة، وقانون الفوضى entropy) إلى أن كل المادة/ الطاقة التي أخذت من البيئة على شكل "موارد"، تعود إليها أخيراً على شكل فضلات، وإن عملية تحويل الموارد إلى فضلات سوف تزيد بالضرورة من الفوضى الشاملة overall entropy (disorder) في النظام الذي تحدث فيه. الشكل 9.2 يقدم توضيحاً تخطيطياً لتحول المادة/ الطاقة إلى منتجات ومن ثم إلى فضلات. التأثيرات على البيئة ترتبط باستخراج المادة/ الطاقة وانبعاث الفضلات التي تنجم عن كل مرحلة.
من البديهي القول، لغرض معرفة التأثير البيئي للنشاط الاقتصادي، أنه يجب قياس تدفق المادة/ الطاقة الناجم عن فعاليات هذا النشاط. فهناك مطلب قانوني متزايد لقياس التأثيرات التي تم الاعتراف بأنها خطيرة على البيئة. ومع ذلك، فهذا المطلب حالياً هو أقل مما ينبغي على النشاطات الاقتصادية بناءه من موازنات المادة/ الطاقة [أي جداول المدخلات (المواد الأولية والطاقة) والمخرجات (المنتجات)] لعملياتها، وأقل من أن يفسر الآثار البيئية الناجمة عن استعمال منتجات تلك النشاطات ورميها فيما بعد. ومع ذلك، فإذا أردنا أن نفهم ونتعامل بصورة فعالة مع تأثير النشاط الاقتصادي على البيئة، فإن تطوير هكذا نظام للمعلومات لا يمكن تجنبه.
إن الرغبة بقياس العمل البيئي للشركات، فوق ما هو مطلوب قانوناً، قد تم الاعتراف به من قبل عدد هام من الشركات كشرط مسبق ضروري للإدارة البيئية الفعالة، وهو يتجلى الآن في تزايد التقارير التطوعية للشركات في مجال البيئة. فلغاية العام 1993، نشرت أكثر من 100 شركة تقارير بيئية على أساس تطوعي(10). وهذا العدد يتزايد بسرعة وذلك، جزئياً على الأقل، بسبب تشجيع جمعيات الأعمال (بما في ذلك الغرفة العالمية للتجارة واتحاد الصناعة البريطاني)، وشبكات النشاط- البيئة (مثل مجلس النشاط العالمي للتنمية المستديمة)، واللجنة الأوروبية وجهازها التطوعي: الإدارة البيئية ونظام تدقيق الحسابات (EMAS). وبينما كانت التقارير البيئية الأولى للشركات وصفية وسردية، فهناك الآن اتجاه واضح نحو التقدير الكمي للتأثيرات البيئية.
من المهم مقارنة هذه الجهود الجديدة المتمثلة بالتقارير البيئية، والنظر إلى أين تقود هذه الجهود، بالعلاقة مع نظم الحسابات المالية التي طبقتها لإدارة نشاط الأعمال والاقتصاد. حسابات النشاط الاقتصادي مشابهة تماماً للموازنات الكلية. إذ يتم موازنة النقود التي تتدفق للنشاط مع النقود المتدفقة للخارج مع تأشير التغير في قيمة الأصول الجديدة. اقتصادياً، الحسابات الوطنية مبنية بشكل واضح على أساس جداول المدخل-المخرج بحيث يمكن تشخيص التفاعلات بين الصناعات مثلما يمكن تشخيص المنتجين وتركيب الطلب النهائي. وهناك محاولات لبناء حسابات اقتصادية-بيئية متكاملة على المستوى الوطني تستعمل نفس الأساليب بالنسبة للموارد البيئية(11). وإذا كان لابد حقاً من التحرك صوب الاستدامة البيئية، فربما ينبغي على الشركات أن تقدم للمجتمع تقارير مفصلة عن سلوكها في حقل البيئة بنفس الدرجة من الصرامة التي تنظر بها لحاملي أسهمها في تعاملهم مع نقودهم. ومن المؤكد أن هذه كانت وجهة النظر التي عبّرت عنها شركة Deloitte Touche Tohmatsu International التي عرّفت المرحلة الأخيرة في التقرير البيئي لشركات الأعمال بوصفه: "يقوم على الاستخدام الواسع للطرق الكمية كتقديرات دورة الحياة والموازنات الكلية.(12)"
وحالما يتم حساب التدفقات المادية من/ وإلى البيئة، يصبح من الممكن تصور أداء نشاط اقتصادي معين من ناحية الاستدامة. أولاً، المعلومات تمكن النشاط الاقتصادي من وضع أهداف لتحسين البيئة، التي فُهمت كمراحل هامة في تطور التقارير البيئية لشركات الأعمال(13). وأخيراً، إذا كانت الاستدامة هي الهدف، فإن أهداف التحسين يجب أن تتوافق مع معايير الاستدامة. يرى ر. غراي R. Gray و د. والترس D. Walters بأن "المنظمة التي تحرص وتحافظ على البيئة sustainable organization هي تلك التي تترك المحيط الحيوي في نهاية الفترة المحاسبية ليس أسوأ مما كان عليه في بدايتها(14)." ومن المهم إدراك أن معيار التلوث الصفري ليس هو نفسه معيار الانبعاث الصفري بسبب قدرة البيئة على امتصاص وتحييد كمية معينة من الفضلات، ولكنه معيار متطلب وهام، رغم ذلك.
وقد اقترح غراي والكُتاب المشاركون، أيضاً، أن يتم تعريف الإنفاق التقديري، الذي تحتاجه المنشأة لإصلاح أي ضرر بيئي وقعَ أثناء الفترة المحاسبية، والذي يسميه هؤلاء الكُتاب "تكلفة المحافظة على البيئة"sustainable cost، في حسابات الشركة كمقياس لمساهمة المنشأة في اندثار رأس المال الطبيعي، على غرار أرقام الاندثار بالنسبة لبقية أصول الشركة. ومع أن المهمة كبيرة وتبعث على التحدي عملياً، فإن هذا التقدير لـ "تكلفة الترميم والتجديد" restoration cost هو أيضاً الأسلوب الذي توصي به الأمم المتحدة كوسيلة لربط الحسابات المادية والنقدية على المستوى الوطني. فهو يقدم الفرصة الثمينة للتوصل، بطرح تكلفة الترميم والتجديد من الربح التشغيلي، إلى رقم "الربح المستديم"sustainable profit الذي يأخذ بنظر الاعتبار الضرر البيئي الناجم عن نشاطات الشركة.

شكل 2-9 المدخلات من المادة والطاقة في دورة حياة منتَج ما

وإضافة إلى تعريف وحساب تأثيراتها البيئية، فمن المهم بنفس الدرجة أن تعّرف أنشطة الأعمال وتحسب بصورة صحيحة الإنفاق البيئي الفعلي، سواء أكان ذلك للحد من التلوث، أو لتخفيض الموارد المستعملة، أو للمراقبة، أو لمراعاة التعليمات المعنية. فما لم تعرف المنشآت كم تدفع لمنع وقوع الضرر البيئي أو مراقبته، فأنها لن تتحمس للتحرك نحو المنتجات والعمليات الأقل إضراراً بالبيئة- وذلك يمكن أن يوفر لها المال. يدعو د. دتز D. Ditz و ج. رانغاناثان و ر. د. بانكس، في تقريرهما حول دراسة تسع حالات، خمس منها على منشآت كبيرة وأربع على منشآت متوسطة الحجم، لرؤية ما إذا كانت النفقات البيئية لهذه الشركات قد دُونت بصورة صحيحة في حساباتها الإدارية(15). وفي كل حالة، وجدَ الكُتاب أنها لم تكن صحيحة؛ لأن النفقات البيئية صُنفت، أحياناً، تحت عناوين غير بيئية، وأن النفقات البيئية الحقيقية كانت أكثر بكثير مما ظهرت في الحسابات، مبررِّة مالياً إجراءات التحسن البيئي التي لم تظهر سابقاً بشكل اقتصادي مقبول.
هذه الإجراءات المحاسبية المنقَحة سُميت تقييم التكلفة الكلية Total Cost Assessment (TCA)(16). يبين الجدول 9-1 تطبيق إجراءات (TCA) على استثمار لتحويل معدن مُذيب/ ثقيل إلى طبقة مائية/ ثقيلة غير معدنية في شركة للأغطية الورقية. يبين العمود الخاص بتحليل الشركة كيف أن نظام الحسابات التقليدي للشركة كان يقيّم تكاليف وعوائد المشروع. العمود (TCA) يتضمن التكاليف والعوائد التي حُسبت في تحليل الشركة تحت عناوين أخفتْ علاقتها بالمشروع. تضمنت هذه التكاليف والعوائد الخفية، أو غير المباشرة، تكاليف إدارة الفضلات، والمنافع (الطاقة، والماء، والمجاري)، معالجة التلوث/ بمراقبته وتذويبه، وتطبيق التعليمات. ويتضح بأن المشروع في ظل التقييم (TCA) أكثر ربحية مما باستعمال التحليل التقليدي للشركة.
جدول 9-1 البيانات المالية لمشروع معين بحسب مقارنة التحليل التقليدي للشركة بتقييم التكلفة الكلية TCA
تحليل الشركة TCA الفرق
التكاليف الرأسمالية الكلية 623,809 653,809 6 %
الادخار السنوي BIT 118,112 216,874 84 %
القيمة الحالية الصافية، السنوات1-10 (98,829) 232,817 336 %
القيمة الحالية الصافية، السنوات1-15 13,932 428,040 2,972 %
العائد على الاستثمار، السنوات1-10 12 % 24 % 12 %
العائد على الاستثمار، السنوات1-15 16 % 27 % 13 %
فترة الاسترداد البسيطة (سنة) 5.3 3.0 -43 %
المصدر: T. Jackson, ed. , Clean Production Strategies: Developing Management in the industrial Economy (Boca Raton, Fla. : Lewis Publishers, 1993), 203.

تحريك نشاط الأعمال باتجاه المحافظة على البيئة
بالنسبة للشركات التي تطمح للتحرك باتجاه المحافظة على البيئة (أو الاستدامة البيئية) environmental sustainability، فإن المحاسبة والتقارير البيئتين هما وسيلتان فقط من بين عدة مبادرات إدارية ضرورية. والمبادرات الأخرى تتضمن تبني سياسة بيئية للشركات، استراتيجية بيئية وخطة عمل لتنفيذها، وتقرير ملائم حول المحصلة البيئية داخلياً وخارجياً. تتطلب العملية الشاملة لإدارة البيئة أن تكون متكاملة كما في الشكل 9- 3.
قد يحصل تصور بأن تطوير وتنفيذ هذا النظام الإداري للبيئة، الذي ينشد تحقيق أهداف التحسين البيئي بصورة مستمرة، سيكون مكلفاً ومدمراً للمنافسة. قد يكون ذلك صحيحاً. ومع ذلك، هناك أدلة قوية على أن الأمر ليس كذلك بالضرورة.
الموارد الطبيعية التي تستعمل في العمليات الاقتصادية ينبغي شرائها عادةً. والتخلص من الفضلات أثناء أو في نهاية العملية هو بمثابة فشل في استعمال المدخلات المشتراة بصورة منتجِة. الموارد الضائعة هي نقود ضائعة، أيضاً. وعلاوة على ذلك، فإن التخلص من الفضلات يستوجب دفع نقود في الغالب. وفي حين أن تكاليف إدارة الفضلات تكون حيوية عند تكون الفضلات، فهي تمثل أيضاً نقوداً ضائعة بمعنى أنها لا تضيف شيئاً للخدمة التي يقدمها المنتَج المعني. وأخيراً، حينما تكون المنتجات أو العمليات المعنية سامة أو خطيرة، فإنها تخضع لتعليمات وإجراءات قد يتطلب تطبيقها دفع نقود أيضاً. ولذلك، فإن نظم إدارة البيئة يمكن أن تتمخض بالفعل عن مدخرات صافية وتحسنٍ في المنافسة، حينما تقود إلى تغيرات في ممارسات الشركة التي توفر النقود بمقدار أكبر من تكلفة تنفيذ النظم الإدارية.
ويقدم ب. سمارت خمسة أسباب تفسر كيف أن تحرك المنشآت صوب "أكثر من تطبيق التعليمات" beyond compliance في أدائها البيئي يمكن أن يكون مفيداً لها(17).
1. الوقاية من التلوث من البداية يمكن أن توفر النقود في المواد وفي المعالجة للنهاية.
2. العمل الاختياري في الوقت الحاضر يمكن أن يقلل إلى أدنى حد مخاطر ومسئوليات المستقبل، ويغني عن وضع أجزاء جديدة، التي هي عملية مكلفة.
3. الشركات المتصدرة في تنفيذ التعليمات يمكن أن تحصل على موقع تنافسي ملائم بالنسبة للشركات التي تكابد وتتخلف في ذلك.
4. المنتجات والعمليات "الخضراء" الجديدة يمكن أن تزيد من إقبال المستهلكين وتفتح إمكانات جديدة أمام النشاط الاقتصادي.
5. السمعة الجيدة في حقل البيئة يمكن أن تحسن التعبئة العامة recruitment، وخُلق العاملين، ودعم المستثمر، وقبول المجتمع المضيف، وشعور الإدارة باحترام الذات.
ويقدم سمارت عدة أمثلة عن منشآت حققت منافع مالية، لتلك الأسباب، من المبادرات الإدارية البيئية التطوعية:
• بين عامي 1975 و 1992، وفرت شركة 3M أكثر من 530 مليون دولار من كل مشروعاتها في إطار برنامجها 3P (مدفوعات الوقاية من التلوث Pollution Prevention Pays)(18).
• لشعوره بالخطر بسبب كون منشأته تتصدر قائمة المواد السامة التي تصدرها الوكالة الأمريكية لحماية البيئة، فإن المدير التنفيذي الرئيسي لشركة Dupont أشار إلى أن الشركة باشرت برنامجاً طموحاً للتخلص من النفايات. "والنتيجة هي تدني المواد الملوِّثة للهواء بنسبة 80 % في عام واحد. استثمارنا لما يزيد قليلاً عن 250,000 دولار قاد إلى توفير بمقدار 400,000 دولار- وذلك بدلاً من استثمار 2 مليون دولار في شراء جهاز حرق الفضلات incinerator، الذي كان سيكّلف مليون دولار إضافي لصيانته وتشغيله(19).

شكل 3-9 مراحل متابعة العمل من أجل بيئة سليمة

المصدر: R. Gray, J. Bebbington, and D. Walters, Accounting for the Environment (London: Paul Chapman Publishing), 91.

• في ظل برنامجها للصهاريج المتكاملة، قامت شركة Chevron بتبديل كافة صهاريجها تحت الأرض بصهاريج زجاجية ليفية، رغم أن ذلك لم يكن مطلوباً بشكل ملح. ومع ذلك، فقد ذكر نائب رئيس شركة Chevron: "معالجة التلوث الناجم عن التسرب في أحد الصهاريج يمكن أن تكلف الشركة 250,000 أو أكثر. وإذا أمكن تفادي ذلك بإنفاق قدره 25,000- 50,000 دولار، فذلك عمل جدير بالتنفيذ(20)."
• طبقت شركة Pacific Gas and Electric برنامجاً حول كفاءة استعمال المستهلكين للطاقة الذي تضمنَ الاستثمار في المزيد من الاستخدام الكفء للطاقة من قبل المستهلكين والمشاركة في الوفر المالي المتحقق. وبفضل الإجراءات التي اتخذتها العام 1991، في ظل ذلك البرنامج، ت



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثاني عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل العاشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل التاسع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثامن
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السابع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الخامس
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين ج1-ف4
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- ق1/ف3
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- ق1/ف2
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين/ ق1-ف1
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- المقدمة
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. الخاتمة والمل ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. ق2- ف5/ ف6
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. ق2: ف3- ف4
- الظروف الاجتماعية للجالية العربية في السويد- ق2- ف1-ف2
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- ق1.. ف7- ف8
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- ق1.. ف5، ف6
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد: ق2/ ف3- ف4


المزيد.....




- بوتين: الاقتصاد الروسي يعزز تطوره إيجابيا رغم التحديات غير ا ...
- الخزانة الأمريكية تهدد بفرض عقوبات على البنوك الصينية بزعم ت ...
- تقرير: -الاستثمارات العامة السعودي- يدير أصولا بنحو 750 مليا ...
- البنك الدولي: توترات الشرق الأوسط تهدد التقدم العالمي بشأن ا ...
- معضلة الديون في فرنسا.. وكالات التصنيف قلقة ونظرتها سلبية
- أرباح بنك -أبوظبي التجاري- ترتفع 26% في الربع الأول من 2024 ...
- البنك الدولي: توترات المنطقة تهدد التقدم العالمي بشأن التضخم ...
- أسهم -وول ستريت- تهبط بعد نتائج ميتا وبيانات اقتصادية سلبية ...
- الأول في الشرق الأوسط.. صندوق النقد الدولي يفتتح مكتبا إقليم ...
- بلينكن يدعو الصين إلى -منافسة اقتصادية صحية-


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبدالوهاب حميد رشيد - اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثالث عشر