أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - عبدالوهاب حميد رشيد - الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. ق2: ف3- ف4















المزيد.....



الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. ق2: ف3- ف4


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 3900 - 2012 / 11 / 3 - 11:28
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
    


ترجمة:عبدالوهاب حميد رشيد
الفصل الثالث- النجاحات والإخفاقات: العمل والبطالة
يصعب الحديث عن نجاحات وإخفاقات الجالية العربية في السويد قبل الإشارة بإيجاز للتفاوت البيئي/ الحضاري الذي يفصل بين هذه الجالية وبين المجتمع السويدي/ الغربي عموماً، والذي سيجد تفصيله في الفصلين التاليين.. يكفي القول هنا أن الحياة السويدية تختلف اختلافاً جذرياً عن مثيلتها في البلدان العربية/ المشرقية، وهذا الاختلاف الشديد يضع المهاجر العربي أمام امتحان شاق جداً من أجل التأقلم مع هذه الحياة، وفي ظل ثقافة حضارية- مجتمعية- شخصية وعائلية- تتباين بشدة مع الثقافة الحضارية السويدية.
الجالية العربية الذي يحمل في داخله جملة قيم وعادات وتقاليد في سياق مجتمع ذكوري وتحت مظلّة عقائدية، مذهبية، طائفية، وعشائرية، علاوة على كم ضخم من الرواسب الدكتاتورية، وفي ظروف التمزق والتنافر في المجتمعات العربية عموماً، تواجه مجتمعاً تجاوز هذه القيم والتقاليد، قائم على النظرة المساواتية والحرية الفردية وقيم وعادات مجتمعية حضارية متطورة، تقوم على الاحترام المتبادل والتكافؤ والتعامل السلمي، رغم أن العلاقات الجنسية (الحرية الجنسية) تُعبر عن واحدة من المعضلات الصعبة التي تُثير وتدفع المهاجرين من البلاد العربية للإحساس والتفكير بأنهم أمام فجوة تشكل برزخاً ضخماً بينهم وبين المجتمع السويدي، مع ملاحظة تعامل الكثيرين من الجالية العربية (والإسلامية) مع هذه المعضلة في إطار الازدواجية التي تُبجل الفاعل وتحتقر المفعول به، كما سيتبين عند التعرض لتحليل هذه المعضلة تفصيلاً عند مناقشة معضلة الجالية في مجال التكيف/ الاندماج (ق2/ ف5).
بالإضافة إلى الاختلافات البيئية، فقد ساهمت عوامل عدة في انتشار البطالة بين فئة المهاجرين العرب إلى السويد، تتراوح بين أسباب اقتصادية، وأسباب يشوبها سوء التخطيط وفشل السياسات المرسومة والتدابير المطبقة لمكافحة البطالة، علاوة على تلك التي تخص العاطلين أنفسهم من عناصر الجالية.
إن الأزمة الاقتصادية العالمية المستمرة التي بدأت منذ العام 1973 إثر حرب البترول العالمية والتي كان من أهم أهدافها إغراق الدول الأوربية في نزيف اقتصادي يخدم الولايات المتحدة التي سيطرت على صناعة النفط بعد فك الاتباط بين الدولار الأمريكي والأرصدة الذهبية، لتجعل الدولار الأمريكي عملة ورقية دون رابط ذهبي، أدت إلى استفادة الولايات المتحدة من زيادة إصدار عملتها الورقية في مجال تجارتها العالمية، رغم تسجيلها ديوناً محلية وعالمية أرهقت ميزانيتها العامة ولتقترب من حافة الأزمة ومعها الاقتصاد العالمي في ظل العولمة المتأزمة. كما أن حرب الخليج الأولى والثانية ساهمت كذلك في فقدان الدول الأوروبية، ومنها السويد للعديد من ميزاتها وأسواقها الاقتصادية. وأخيراً، وليس آخراً، فقد قادت الأزمة الاقتصادية الأخيرة- إنهيار سوق العقارات الأمريكية- إلى استكمال فصول هذه الأزمة التي تحولت في العديد من الدول الصناعية، تتقدمها الولايات المتحدة ذاتها، إلى أزمة خانقة أُغلقت فيها معامل ومصارف عديدة بعد إعلان إفلاسها، وتحول ملايين العاملين إلى عاطلين، من هنا ضاقت فرص العمل أمام القادمين الجدد إليها. وهكذا حينما توقف الازدهار الاقتصادي في الغرب خلال السبعينات من القرن الماضي، بدأت تطرح القيود على هجرة اليد العاملة المهاجرة. لكن هناك باباً واحداً ظلّ مفتوحاً، يتمثل في اللجوء السياسي. وهذا ما دفع الكثير من البولنديين اليهود بالهرب من الأجواء المعادية للسامية، بينما هرب الكثير من اليونانيين من ديكتاتورية "الكولونيلات" خلال الستينات، ومنذ ذلك الوقت بدأت سياسة الهجرة السويدية تشكل "نمطا أشبه بالدائرة للأزمات السياسية"، وفقاً لـ تورستين بيرسون. وذلك ابتداءً من التشيليين القريبين من أليندي خلال السبعينات إلى القوميين الأكراد خلال الثمانينات، ولغاية الصوماليين والبوسنيين خلال التسعينات. ومنذ ذلك الوقت بدأت المرحلة "المفاجئة" والسريعة لظهور السويد المتعددة الإثنيات. وحسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية مُنحتْ نصف تصاريح الإقامة لغرض توحيد العائلات، وهذا يشكل حوالي 400 ألف شخص لأولئك الذين ينتمون إلى بلدان مرت بكوارث سياسية. والكثير من هذه المناطق تقع في العالم الإسلامي. لذلك أصبحت السويد الآن تضم ما بين 200 ألف إلى 400 ألف مسلم وهي أعلى نسبة (بالعلاقة مع السكان الأصليين) مقارنة بالبلدان الأوربية ذات الكثافة الإسلامية العالية. عموماً، تُعاني السويد من القرارات السيئة والتوقيت السيئ. ففي العام 1985 حولت مسئولية دمج المهاجرين من بيروقراطيتها المسئولة عن العمل إلى نظام الضمان الاجتماعي. ثم ما بين عامي 1990 و1994 ونتيجة ضغط قطاع الدولة الواسع من جهة، والمنافسة الدولية المتزايدة على صناعاتها من جهة أخرى، فقد مرّتْ السويد بأسوأ انهيار اقتصادي لم يعرفه أي اقتصاد غربي لعقود. إذ تقلص الدخل القومي الإجمالي بنسبة 65%، بينما بلغت نسبة البطالة 12%. وهذه هي الفترة التي وصلت معها طلبات اللجوء ذروتها (1992) حيث بلغت 84 ألف طلب في السنة الواحدة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه تسعة ملايين نسمة. وتم قبول أكثرية الطلبات، وكان هذا قبل الموافقة على قانون توحيد العائلات. "وتضيف السويد لسكانها نسبة 1% في السنة عن طريق تبينها أكثر الأفراد بؤساً على وجه الأرض(20)".ويلاحظ أن هذه النسبة قد قاربت 0.7% خلال الفترة 1988-1998 (الجدول رقم 13).
وحاولت السويد أن تربط المهاجرين بالوظائف والجاليات حسب الخطوط التي يقترحها يوهانسون، لكن خططا كهذه تعاني من الإحباط بسبب الفيض الهائل من اللاجئين. والبلد يعاني الآن أزمة إسكان القادمين الجدد، بينما كانت السويد تتميز بوفرة كبيرة في المساكن. وسبق للسويد أن واجهت أزمة سكن في الستينات من القرن الماضي لكنها عالجتها عِبر مشروع سمي بـ "برنامج المليون" سكن، رغم أن السويديين يُفضلون مساكن خاصة حالما يصبحون قادرين على شراء البيوت. وحينما بدأ المهاجرون يصلون إلى السويد كانت هناك أمكنة لإسكانهم فيها. وأشار أسار ليندبيك رئيس الاقتصاديين المتخصصين في نظام الضمان الاجتماعي السويدي إلى أن هؤلاء بعثوا إلى مناطق فيها شقق فارغة والتي هي "بالتعريف منطقة ذات بطالة عالية(21)."
إن الإحباط الذي واجهه العديد ممن حصلوا على اللجوء إثر مواجهة الواقع المعاشي في هذه البلاد والذي يتعارض مع أحلامهم الوردية عن أرض الفردوس- السويد، ناجم بطبيعة الحال عن الفارق الهائل بين الواقع والخيال. وهذا الفارق يعبر عن نتيجة طبيعية انعكست على المهاجر ليجد أن السويد- الفردوس المفقود- أرض واسعة أغلقت في وجهه فرصة العمل لتحقيق أحلامه في بناء مستقبله، ولينتهي بعضهم إلى العيادات النفسية. كما أن قوانين الملاحقة التي تطالهم بإجبارهم البحث عن العمل وشعورهم بالاضطهاد زادهم يأساً وقنوطاً.
يُضاف إلى ذلك، أن سوء التخطيط الإداري في غياب خطط منطقية في السنوات الأخيرة، مدروسة دراسة وافية، مع فتح أبواب قبول طلبات اللجوء إلى السويد بدخول قرابة نصف مليون لاجيء إليها خلال أقل من عشرة أعوام (الجدول رقم13)، فرض حالة من الفوضى لدى أجهزة الدولة في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية التي واجهتها ولا زالت آثارها مستمرة بالعلاقة مع ارتفاع عدد العاطلين. وحسب كريستوفر كالدويل، نيويورك تايمز، "تعاني السويد من القرارات السيئة والتوقيت السيئ... (22)"
وهذه الفوضى مع انعدام الرصيد المالي المناسب من أجل تأهيل الوافدين الجدد بشكل كاف، ساهم في فرض حالة من البطالة الواضحة، بخاصة، بالعلاقة مع سياسة الدولة القائمة على إخفاء ظاهرة البطالة وتحويلها إلى بطالة مستترة عبر استحداث دورات تعليمية لم تصل إلى مستوى النجاح في تأهيل الوافدين الجدد، بل وتدفع الدارسين، في الغالب، إلى الشعور بالملل من هذه البرامج التي اعتمدت على شراء دورات تدريبية غير متخصصة لتعليم الأجانب، كما أنها لم تتعامل بشكل حرفي ومهني، وبما يُساعد على جذب اهتمام الوافدين الجدد للإقبال عليها وهضمها، علاوة على أن المستويات المتدنية في تعليم اللغة السويدية، شكلت عاملاً بيّناً في نفور الوافدين من دروس تعلم اللغة السويدية التي تتطلب أساليب وجهود علمية غير تجارية بغية إيصال جمالية اللغة السويدية إلى الدارسين، كما أن انغلاق المجتمع السويدي في الكثير من الحالات شكّل عاملاً فاعلاً في ضعف استقبال اللغة السويدية الجميلة. ذلك أن تعلم اللغة، بعامة، تحتاج إلى المحادثة مع مواطنيها (السويديين)، وفي ظروف انغلاق المجتمع السويدي، وصعوبة الاختلاط، يبقى الدارس، رغم توفر العديد من الطلاب (الطالبات) السويدين، بعيداً عن فرصته في تطبيق هذه الممارسة (المحادثة) الضرورية والأساسية لفهم المهاجر وتعلمه اللغة السويدية السليمة.
ارتفاع عدد المهاجرين مع ضيق فرص العمل، يعني تصاعد أعداد العاطلين بين الجالية، وأيضاَ تصاعد مشاكلهم الحياتية من عائلية وصحية ومجتمية.. ولقد ساهم الإعلام المضلل، وسوق التهريب والإتجار بالبشر في إطلاق إشاعات في بلدان العالم المتخلف عن أن الدول الاسكندينافية هي الأرض الموعودة، وهذه الإشاعات أمتلأت بها، في صورة إعلانات، مكاتب تجارة تهريب الناس إلى الغرب. وفي البلدان المتخلفة سرعان ماتنمو الإشاعات. ساعد في انتشار تلك الشائعات أن السويد بلد صناعي متطور جداً، إلا أن هذا التطور والذي بُني بالجهود والسواعد السويدية، طعام غير قابل للهضم من قبل مجموعات حالمة. ذلك أن السويد بلد يحترم السواعد التي تعمل، والعقول التي تُفكر. ولقد أساءت تلك الإشاعات لهؤلاء المخدوعين، بخاصة ممن حلموا بالنوم الهادئ في ظل الكسل والمعونة الاجتماعية، عليه استمروا عاطلين، وليستمر تدفق شلال أصحاب الطموح ومعه زيادة أشكال الفواجع من فئات واسعة فاشلة في مهجرها الجديد. ولعلّ أكثر أنواع الفشل الصارخ هنا تجسّد في الدخول إلى عالم الضياع- عالم المخدرات بأنواعها وأشكالها المختلفة..
من جهة أخرى، أن وصول أعداد كبيرة من المهاجرين حملة الشهادات العالية، رغم القلة النسبية لعددهم إلى مجموع الجالية، والذين لم يستطيعوا في غالبيتهم الولوج إلى السوق السويدي وفق اختصاصاتهم، عوامل قادتهم إلى الابتعاد عن واقع الحياة الاجتماعية في ظروف عدم حصولهم على دورات تأهيلية خاصة بما يناسب اختصاصاتهم وسوق العمل السويدي، بل حتى أصحاب المهن الحرفية بحاجة إلى مثل هذه الدورات التأهيلية. ذلك أن مَن كان يعمل نجاراً أو مزارعاً أو بناءً أو كناساً (الكناس مهنة محترمة جداً في السويد لا تقل عن أية مهنة أخرى، وتتطلب التدريب والتأهيل) في الدول العربية لايصلح أبداً أن يمارس نفس مهنته في السويد في غياب التطوير والتأهيل، حيث دخلت الآلة والمكننة وبشكل واسع في سوق العمل المهني في السويد، وشمل التخصص جزئيات العمل الحرفي في البلاد. إن مهنة القصابة مثلاً تحتاج في السويد إلى دراسة في معهد خاص للقصابة، يتعلم فيها الطالب أنواع الحيوانات، ومنشئوها، التشريح الكامل للذبائح قطعة قطعة وكأنه طبيب جراح، وتصنيف تلك القطع. وعلى الدارس لهذه المهنة أن يعتاد ويفهم بشكل حرفي كيفية اجتزاء هذه القطع المتنوعة وتباين أسعارها.. هذا في الوقت الذي مازالت فيه القصابة في عموم البلدان العربية يتولاها أصحاب محلات تعلموا بالوراثة أو بالتمرين على يد قصاب ( معلم) يبيعون اللحوم باختلاف أجزائها بنفس السعر، وهذا المثال ينطبق على المهن الاخرى.
وهناك فئأت من العاطلين عن العمل تفوق أعمارهم الأربعين عاماً، أي أنها أعمار يصعب معها التأهيل والتطوير، بل ويصعب جداً دخولهم سوق العمل إلا في حدود ضيقة وأعمال بسيطة. وهناك فئة لا بأس بعددها انضمت إلى قوافل العاطلين عن العمل، ممن لايفيد معهم التطوير أو التعليم، ولا همّ لهم سوى النوم المريح بعد وصولهم إلى السويد. شكّل هؤلاء مادة حية للتندر لدى جانب من وسائل الإعلام وبعض الأحزاب السويدية، وصارت هذه الفئة مضرب مثل في انهيار قيم العمل لديها، وشموله للجالية العربية برمتها.
شكّل الأجانب فئة جديدة في المجتمع السويدي، وقادت مشكلة ضعف اللغة والتنافر بين الثقافتين إلى التقوقع في أماكن محددة في السويد، ما لبثت أن تمددت هذه الأماكن لتتحول إلى مناطق واسعة وكاملة يعيش فيها اللاجئون الجدد، وصار التندر عن فقدان العنصر السويدي من أحياء كاملة في السويد أمراً عادياً، وأصبحت هذه الأحياء أقرب ما تكون لـ "الغيتو" منه إلى الأحياء السكنية السويدية. ومع هذا العزل والامتداد المكاني، فقد باتت قدرة الكومونات على دفع عجلة التكيف/ الاندماج الاجتماعي عديمة الجدوى، وأُطلقت على تلك الأماكن أسماء بعض الدول أو العواصم تندراً: اسطنبول، بغداد، اريتريا، الصومال، والضفة الغربية.. وهذا العزل ساهم وإلى حد كبير في سيادة لغة وثقافة الساكنين في تلك المناطق وعلى حساب اللغة والثقافة السويدية، ومع سيادة واستخدام الثقافة العربية وغيرها في غياب اللغة السويدية، فالنتيجة الطبيعية هي المزيد من العزلة والبطالة وصعوبة الدخول إلى سوق العمل السويدي.
لم تفلح الجهود التي بذلتها الحكومات المتعاقبة من اشتراكيين ومحافظين في كبح جماح الزيادة المتصاعدة في أرقام البطالة، ويعود ذلك إلى الفقر المدقع بالمعلومات عن أسبابها، وفقر الدراسات الحكومية للتعمق في حل مشاكل الجاليات الجديدة الوافدة إلى السويد. فقد فشلت الخطط التعليمية في تعليم ورفع المستوى اللغوي للوافدين، ولم توضع خططاً بديلة تُراعي اختلاف المستويات التعليمية للمهاجرين، بل ساوت مدارس تعليم اللغة السويدية بين المراهقين وبين كبار السن.. بين حملة الشهادات العليا وبين من لا يعرف القراءة والكتابة.. ولهذا فقد كانت النتيجة فشلاً غير معترف به من الحكومات التي عاملت الجميع بالمثل. وكان على إدارات تلك المدارس أن تميز وتبتكر طرقاً تعليمية تتناسب وتباين المستويات التعليمية. ذلك أن تعليم الفئة المثقفة أو أصحاب الشهادات العليا، تختلف عن تلك الفئات ممن لم يدخلوا المدرسة أصلاً. يُضاف إلى ذلك فقر تلك المدارس من الاختصاصيين. كما ويلاحظ أيضاً غياب مدرسي اللغة السويدية من الجالية العربية ممن اتقنوا هذه اللغة في تلك المدارس التعليمية. علاوة على أن برامج التعليم نفسها لم تصل إلى مراحل متطورة من قبل متخصصين، إذ ساهم هذا النقص، بشكل ما، في تبذير الأموال بلا طائل. والغريب أن مدارس محو الامية اعتمدت مناهج تعليمية تقليدية عمرها عشرات السنين، وهي مدارس خاصة لايهمها سوى الكسب المادي .
كما وأن عزل وانعزال الجاليات الجديدة في أحياء منفصلة خلق سبباً آخر لاستمرارها بعيداً عن سوق العمل والتكيف مع المجتمع السويدي، وبدت سياسة التكيف/ الاندماج وكأن هدفها هو الدمج الكُلي بدلاً من الثقافي والقائم على احترام خصوصية الآخر، في حين لم تصل مدارس تعليم الكبار إلى مرحلة تخريج دفعات مؤهلة حرفياً.
لقد ساهمت سياسة التقشف التي مارستها الحكومات المتعاقبة في إغلاق العديد من مدارس التاهيل المهني، كما ولم يتم فتح معاهد مؤقتة في المدن الكبرى من أجل استغلال التطور العلمي والمهني في السويد وإيصاله إلى المهاجرين- السويديون الجدد، كما أن صعوبة افتتاح معاهد جديدة وجامعة تختص بتطوير وتأهيل هذه الفئات الجديدة وفق أسس حديثة زاد من إمكانات فشل الخطط التنموية للمهاجرين.
وهذا الفشل عزز كثيراً إشاعات مفادها أن الحكومات السويدية نفسها غير جادة في تحسين وتطوير مستويات القادمين الجدد. فلا يُعقل أبداً أن تتطور الحياة الاجتماعية والثقافية في السويد لتنافس الأمم الأخرى، ولا تُشاهد العجز الكبير في وضع الخطط المناسبة بقصد رفع مستوى الجاليات الجديدة القادمة. إن افتتاح عشر معاهد متخصصة، مثلاً، وعلى مستوى المدن الكبيرة لن يكون له تأثير كبير في زيادة الإنفاق العام، مقابل منافعه المتوقعة، على أن يُراعى في تلك المعاهد إدخال اللغة العربية إلى جانب اللغة السويدية لأن اللغة العربية هي من أكثر اللغات استخداما بعد اللغة السويدية في السويد، بينما تعتبر لغة عالمية معترف بها في الأمم المتحدة.
هناك عشرات المهن التي لم يدخلها العنصر العربي في السويد ومنها القطاع الزراعي، علما بأن اليد العاملة العربية تتسم بأنها نشطة في مجال الزراعة، رغم حاجتها إلى العون الاقتصادي والمعرفي. كما أن إنشاء قرى زراعية جديدة بهدف تنمية القدرات الزراعية وتطويرها، قد تساهم كثيراً في تشغيل عشرات آلاف الأيدي العاملة. كذلك الأمر في قطاعات الأخشاب والورق وتربية الأسماك وصيدها والدواجن والأبقار والمناجم..
شهدت الجالية العربية نجاحات نسبية عديدة في إطار التعايش الاجتماعي وخاصة على المستوى المهني في السويد بصعود عدد من رجال الأعمال في مجال النشاط الاقتصادي والتجارة، كما في حالة رجل الأعمال المصري رفعت السيد الذي نال أوسمة عديدة وألقاباً فخرية سويدية، "مواطن من الدرجة الاولى". هذا قبل الحكم عليه بالخروج على القوانين السويدية ودخوله السجن. كما وبرزت فئة متعلمة من أصحاب الشهادات العليا في مجالات الطب، الهندسة، والتعليم، إذ استوعبت السويد أعداداً بيّنة من هؤلاء أصحاب الخبرة والكفاءات. وسجلت مدارس عديدة تواجداً ملحوظاً للمعلمين العرب، بينما استقبلت المستشفيات والمستوصفات السويدية أعداداً من الأطباء والخبرات الصحية العربية. ولقد نال طلاب المدارس من أصول عربية وإسلامية مديح وزارات عديدة باعتبارهم الأقل تعاطياً للتدخين والكحول والمخدرات، وتشهد مستشفيات الدولة ندرة الأمراض السارية بين صفوفهم، كما وتسجل أقل نسب الانتحار بين الجالية العربية والمسلمة، وكذلك الحال بالنسبة للجرائم والسرقات على مستوى السويد.
وهناك عدد لا بأس به من المستثمرين العرب، وأصحاب الشركات والمحلات. وفي المجال المهني، فقد انتشر أعداد من الجالية في العديد من المهن الخدمية: النقل، البقالة، السوبر ماركت، ومطاعم البيتزا. ومن المهن التي برع فيها العرب والمسلمون مهنة بائع متجوّل وبشكل كبير وملفت للنظر إلى درجة أنّ العديد من الباعة المتجولّين من العرب والمسلمين أصبحوا علامات مميزّة في الساحات العموميّة السويديّة. وقد تخصصّ هؤلاء، ومنهم المتعلم والأميّ، في بيع الزهور والورود، الخضروات والفواكه، الثيّاب المستوردة، ومحفظات النقود المستوردة من العالم العربي والإسلامي. وهناك من يبيع شطائر النقانق- المعروفة في السويد بـ: الكورف– للمارة والمشاة، من خلال ملكيتهم عربة صغيرة يتوفّر فيها طبّاخ صغير وعدّة بسيطة للعمل. والظاهرة الملفتة للنظر هي ازدهار مطاعم الفلافل الصغيرة بين أبناء الجالية(23).
ورغم حرية ممارسة السياسة بتأسيس أحزاب جديدة أو الانتماء إلى أحزاب قائمة في سياق المساواة في حقوق وواجبات المواطنة في السويد، ورغم غياب تأسيس الأحزاب من قبل الجالية العربية، فهناك مشاركة ضئيلة في مساهمتهم بالأحزاب القائمة، كمثل حال المقيمين الأجانب عموماً، ومن ثم فإن دورهم غائب في دوائر القرار السياسي والمؤسسات الحاكمة المهندسة والمنفذة للقرارات المجتمعية. من هنا تشهد الأحزاب السويدية إقبالاً متواضعاً من قبل المهاجرين العرب وغيرهم من الأجانب في الإنضمام إليها، رغم انتماء أعداد قليلة للأحزاب السويدية بخاصة الحزب الاشتراكي الديموقراطي- صاحب الأغلبية (التاريخية)- وحزب اليسار وحزب المحافظين. عليه، يضم البرلمان السويدي عموماً أعداداً ضئيلة من الأجيال التالية للمهاجرين، رغم أن هناك بعض الأسماء العربية التي نجحت في دخول البرلمان السويدي عن طريق أحزابها.. وهنا يُشار إلى النائبة المصرية ماجدة أيّوب التي وصلت إلى السويد العام العام 1970. وبعد ثلاثين عاماً من استقرارها في بلد المهجر أصبحت عضوة في البرلمان السويدي من خلال ترشيح حزبها- الحزب الديموقراطي المسيحي، والذي يُصنّف في المرتبة الرابعة تقريبا من بين الأحزاب السويدية التي لها حضور دائم في البرلمان السويدي(24). ولقد استمر هذا الحزب في نفس المرتبة بعد انتخابات العام 2010 (جدول رقم2).
ومن أسباب ضآلة دور الجالية العربية في الساحة السياسية، علاوة على التنافر والانقسامات، أنّ نسبة قليلة من الجالية تنتمي إلى فئة المثقفين وحملة الشهادات العليا، مقابل أغلبية طاغية بدون مستوى تعليمي أو أنهم حاصلون على مراحل تعليمية أولية هاجروا إلى السويد لأسباب اقتصادية- سياسية، ولعلّ هذا ما جعل الحركة السياسية العربية في السويد ودول الشمال الأوربي بطيئة للغاية. كما أنّ إنتشار البطالة بين العرب والمسلمين أثّر سلباً على حركتهم الاجتماعية بعد أن وجد عشرات الآلاف أنفسهم ضمن قوافل العاطّلين في ظروف معاناة البلاد من أزمة البطالة. وقد شارك في هذه الظاهرة المتعلمون حملة الشهادات العليّا مع غيرهم من الذين لم تطأ أقدامهم المدرسة في بلادهم. ولعلّ محنة حملة الشهادات العليا من العرب والمسلمين أشدّ من محنة غير المتعلمّين باعتبار أنّ الفئة الثانيّة تقبل أيّ عمل يُعرض عليها من قبيل التنظيفات وغسل الأواني وغير ذلك من الأعمال التي قد لا ينسجم معها حملة الشهادات العليّا(25).
وفي مقابل ضعف الحركة السياسية للجالية العربية، سواء بالنسبة لتدني انخراطهم في الأحزاب السياسية السويدية أو والأهم قصورهم في تأسيس أحزاب سياسية، بخاصة إنشاء منظمة جامعة شاملة تدفعهم إلى الاتحاد والتوحد مع أذرع إعلامية مكتوبة (صحف ومجلات) ومسموعة (محطة/ محطات إذاعة وتلفزيون) تجعلهم قادرين على تأكيد وجودهم سياسياً (في البرلمان المركزي السويدي والهيئات التشريعية والتنفيذية في المحافظات/ الكومونات التي يتركزون فيها)، فقد نجحوا في تأسيس مدارس عربية إسلامية صارت منتشرة، بخاصة في المحافظات المتواجدين فيها: استوكهلم، مالموا، أُوبسالا، غوتنبورغ، وغيرها، مع حصولها على معونات مالية سنوية من الحكومة وبملايين الكرونات السويدية، علاوة على إنشاء العديد من الجمعيات التي تدير دور العبادة "الإسلامية" في الكثير من المحافظات، وتحصل كذلك على المساعدات المالية السنوية من الحكومة السويدية، رغم أن هذه الجمعيات التعليمية والدينية، تُعاني، كما في بلدانها الأصلية، من نفس الأمراض الطائفية- المذهبية القائمة على التفرقة والتنبابذ بدلاً من أن تكون مؤسسات تعليمية/ عقائدية جامعة، علاوة على الاحتكار الفئوي لإداراتها.
وفي ظروف البطالة المنتشرة بين الجالية العربية وفي البلاد عموماً، علاوة على أسباب مادية، ومحاولة الحصول على المزيد من الدخل حتى في ظروف خرق القوانين السويدية، فقد انتشر العمل الأسود بين الجاليات المهاجرة، بعامة، والعربية، بخاصة.
لم يخطر ببال سمير محمد الجباري، مهندس (35 عام)، وهو يفكر بالهجرة إلى السويد من العراق، إنه سيُضطر أن يعمل في مطعم للبـيتزا، لمدة 12 ساعة من العمل الشاق المتواصل يوميا، مقابل 100 كرونة سويدية في اليوم الواحد، وبحدود 10 دولارات أمريكية(26).
يقول: "بالطبع العمل ليس عيباً، وأنا على رغم أنني مهندس لا أستنكف غسل الصحون وتنظيف التواليتات، وتحضير مواد البيتزا، لكن ما يؤلمني حقا، هو قبول أستغلال رب العمل لي بفضاعة، أشبه ما تكون بالعبودية في بلاد الحرية!!" ويضيف: "وصلت السويد قبل ثلاث سنوات، ولم أتمكن من الحصول على أقامة في هذا البلد، الأمر الذي حرّمني من العمل بطريقة رسمية، ورغم أنني أتقاضى من دائرة الهجرة مساعدات مالية بسيطة، إلا أنها بالتاكيد ليست كافية، خاصة وقد أنفقت كل ماكنت أملكه للوصول إلى هذا البلد، وأعطيته إلى عصابات التهريب، لذلك لم يكن هناك خيار آخر أمامي غير " العمل الأسود" في مطعم للبيتزا، عند رب عمل شرقي". أغلب أصحاب مطاعم البيتزا هم من المهاجرين الشرقيين. يتحدث الجباري بمرارة عن الإهانات التي يسكت عنها من صاحب العمل، الذي يدفع له مبلغا يقل كثيراً عما يُفترض أن يدفعه له كأجر، بحسب القوانين السويدية، لو تعاقد معه للعمل رسمياً. قصة الجباري، هي مثال لمئات بل آلاف المهاجرين ممن يضطرون للعمل الأسود خصوصا في قطاعات الخدمات والمطاعم والفنادق، تهربا من دفع الضرائب، وتوفير مبالغ بدون علم الجهات الرسمية وأستغلال المساعدات الأجتماعية وضمان عدم قطعها، إضافة إلى أسباب كثيرة أخرى(27).
وفق إحصاءات مصلحة الضرائب السويدية في تقريرها الذي أصدرته شهر نيسان (إبريل) العام 2009، فالشباب أكثر تحمساً لأخفاء قسم من دخولهم عن المصلحة، وأن الرجال أكثر في ذلك من النساء. كن بيتر رودين- مسؤول مشروع " الحملة من أجل العمل الأبيض" الذي تموله مصلحة الضرائب السويدية- ذكر لصحيفة "أخبار اليوم" السويدية الواسعة الأنتشار، بأن "الفرد يخدع نفسه عندما يعتقد أنه يربح أكثر من خلال العمل الأسود". ويضيف: " فمثلا إن حدثت مشكلة بين رب العمل والعامل، فالأخير لاحق له للدفاع عن نفسه وحقوقه. كذلك فإن فترة عمله لا تُحسب له كخدمة، ولن يحصل على شهادة لأستخدامها في أعمال أخرى، ولن يتمكن من الحصول على إجازات صيفية ولا مرضية، إضافة إلى أنه لن يحصل على الأجر المضاعف في حال أدائه عملا مضافاً، ومن الوارد جداً أن يتم طرده من العمل في أية لحظة. وأستنادا إلى أرقام دائرة سوق العمل فإن 17 % من الشباب بين سن العشرين والرابعة والعشرين يُعانون من البطالة، ولايملكون شهادة الثانوية(28)!
ويسعى المسئولون في دائرة سوق العمل إلى خفض هذه النسبة بسبب حاجة سوق العمل لأيدي الشباب العاملة في السنوات القادمة، خصوصا أن جيلاً من العمال يتقاعد كل سنة. وفي التاسع من كانون الأول 2009، قدمت وزيرة الشباب السويدي لينا هالغرين، في ندوة نظمها مكتب الإحصاء المركزي في العاصمة السويدية استوكهولم، موقف الحكومة ورؤيتها فيما يتعلق بتحسين فرص العمل للشباب. أكدت الوزيرة على أهمية المرحلة الثانوية وتشجيع مراكز القيادة للشباب في الكومونات (البلديات)، حيث يدخل الشباب العاطلين عن العمل في ورش تساعدهم على إيجاد فرص مناسبة لهم.
هناك الكثير من الأسباب التي تدفع البعض إلى العمل غير الرسمي، تختلف بأختلاف وضع الشخص وظروفه وموقفه القانوني. فاللاجئ غير المقيم في البلد، يرى فترة بقائه في السويد بأنها فرصة لجني ما يستطيع من مبالغ يعوّض فيها ما دفعه إلى المهربين أو يُرسلها كمساعدات إلى عائلته. في حين يجد المقيم العاطل عن العمل والذي يتلقى المساعدات الأجتماعية من الكوميون، في العمل الأسود فرصة لأقتناص مبالغ إضافية دون علم السلطات التي بالتاكيد ستقطع عنه المعونة المالية لو علمت بعمله !والعمل الأسود يتخذه البعض وسيلة للثراء السريع رغم تعرضه في أغلب الأحيان، إلى أقسى أنواع الاستغلال من رب العمل، لنقص خبرته، وعدم إلمامه بالعمل. بينما هناك من هو مضطر لدخول سوق العمل غير القانوني بخاصة المشردين ممن لا يحق لهم العمل القانوني (تصاريح العمل للمقيمين فقط)، ولا يتلقون معونة مالية من السلطات السويدية بسبب رفض طلبات لجوئهم وإدراجهم ضمن المطلوبين تسفيرهم إلى بلادهم.
وهكذا يضطر الكثير من العمال غير القانونيين أن يقبلوا بـ 8 كرونات – مثلا- كأجر للساعة الواحدة، وأن كان لعدة أشهر، في حين أن المالوف في سوق العمل الرسمي أن يدفع صاحب العمل ما لا يقل عن 70 كرونة للساعة الواحدة!! وكثيرون يؤكدون أنهم عملوا لعدة أشهر مجاناً دون أي أجر، بذريعة أنهم لايمتهنون الصنعة! حتى أن بعض أرباب العمل يعتبرون قبولهم للعامل العمل في مطعمهم مجاناً من باب الخدمة والأنسانية، ويضعونها في أطار "الصَدَقّة" في حين أن الحقيقة هي عكس ذلك تماما(29).
أن يجد اللاجئون عملاً في السويد، ليس بالأمر السهل، حتى وإن كانوا يحملون أوراق الإقامة الشرعية وحق العمل. اللغة تشكل عائقا أساسياً لدى شريحة كبرى منهم، ولدى البعض الآخر مجرد جنسيتهم قد تكون العائق. أوبن سوسايتي انستيتوت- منظمة غير حكومية يمولها رجل الأعمال المليونير جورج سورس وتصدر تقارير دورية عن قضايا مختلفة داخل بلدان الاتحاد الاوروبي، أصدرت تقريرا العام الماضي (2009) عن أحوال المسلمين في السويد، علماً بأن المسلمين يشكلون العدد الأكبر من اللاجئين القادمين من بلدان خارج الاتحاد الأوروبي. وتقول المنظمة في تقريرها استنادا إلى إحصاءات جمعتها من أطراف مختلفة، بأن "الأشخاص الذين لديهم خلفية أجنبية، وخصوصاً أُولئك الذين يعيشون في أماكن أكثر فقراً، يواجهون احتمال البقاء عاطلين عن العمل أكثر من بقية السكان." وزير الاندماج والمساواة بين الجنسين السويدي نيامكو سابوني، يقول: "عدد غير مقبول من المهاجرين، مستبعدون في مجتمعنا. البطالة والدخل المنخفض والاعتماد على الرعاية الاجتماعية، كلها تؤدي إلى العزلة..." ورغم أن الحكومة بدأت بتنفيذ خطة لدمج اللاجئين في المجتمع، إلا أنها تبدو بعيدة عن تحقيق هذا الهدف حتى الآن. وبانتظار ذلك، يقضي عدد كبير من سكانها، بخاصة المهاجرين وقتهم بـ "الاندماج" مع بعضهم البعض، بمعنى زيادة عزلتهم عن المجتمع السويدي(30).
لم يتمكّن هذا العددّ الهائل من العرب والمسلمين الإنخراط في أسواق العمل الغربية التي ضاقت ذرعاً حتى بالمواطنين الأصليين والذين باتوا يُعانون من حالة بطالة قاتلة لم تتمكّن المنظومة السياسية الغربية من وضع حدّ لها. وصار هؤلاء في الغرب يعيشون على الهامش، أي مواطنون من الدرجة الثانية بتعبير باحث سويدي اعتبر أنّ المهاجرين العرب والمسلمين يعيشون عالة على الضرائب التي يدفعها الغربيون لمصلحة الضرائب والتي تُدفع لهؤلاء من العرب والمسلمين على شكل مساعدات اجتماعية.
و عدم إنخراط أعداد كبيرة من الجالية العربية في سوق العمل السويدي يعود إلى أسباب عديدة تتقدمها ضعف اللغة، وضعف خبراتهم ومهاراتهم مقارنة بقوة العمل السويدية (الخبرة والمهارة)، من هنا يفضل رب العمل السويدي وبخاصة في المجالات التي تتحكم بها هذه المواصفات، تفضيل السويدي على الأجنبي عموماً، ومنهم العرب والمسلمون. وإذا كان رب العمل، بعامة، يفضل العاملين من بلده، وإذا كان هذا الميل يُحتسب ضمن لائحة التعصب والعنصرية، فالمسألة المعروفة أن رأس المال لا يعرف وطناً غير الربح، وبالنتيجة فمسألة اللغة والإنتاجية تتحكم بالدرجة الأولى في قرار رب العمل منح أولويته لتشغيل العاملين لديه.
يضطر المهاجر المثقف أن يقضي سنوات عديدة وفق مستواه التعليمي في تعلّم اللغة السويدية (وكذا الحال بخاصة في بقية الدول الاسكندنافية) بغية إعادة تأهيل نفسه، ليبدأ بعدها كفاحه للحصول على عمل مناسب، لكن العمل الذي ينتظره قد لا ينسجم مع إختصاصه. أمّا فيما يخص الطبقة المهاجرة الأمية فوضعها أخطر بكثير حيث الضياع المطلق. وبالنتيجة، قد يلتقي صاحب الدكتوراه والأمي القادمان من البلاد العربية في مطعم ويتشاركان نفس الوظيفة، كما في غسل الصحون مثلاً (31)!!
تعيش 40% من العائلات على المساعدات الاجتماعية التي يوفرها نظام الضمان الاجتماعي بشكل كامل، بينما أغلبية الباقين يحصلون على مساعدات الضمان الاجتماعي ضمن أشكال مختلفة أخرى، فيما يشتغل أقل من نصف السكان.. في حين تصل نسبة البطالة بين الجاليات الأجنبية في السويد إلى 65%.. هذا في ظروف غياب الدراسات العلمية عن أرقامها الدقيقة ، أسبابها وكيفية معالجتها(32).
توقع مكتب العمل أن تتزايد معاناة الشبيبة من البطالة عامي 2009 و 2010. ووفقاً لتلك التوقعات فإن ثلث الشبيبة ما بين 18-24 سنة سيعانون من البطالة في العام 2010. وفي ظل مثل هذه التوقعات تصف يني ـ ليه أوستبري التي أنهت الدراسة الثانوية، مشاعرها بالقول: من الجميل أكمال الدراسة الثانوية، وفي ذات الوقت هناك قلق من عدم الحصول على عمل. ثمة تلقص في التعيينات، وبالنتيجة شحة في فرص العمل التي يمكن البحث عنها.
يرى تورد ستانافوش- مدير قسم التنبؤات في مكتب العمل- حتى في حال أستبعاد الأرقام المتوقعة للبطالة فسوف لن يقل مستواها عن تلك التي سادت إبان الأزمة الأقتصادية الماضية في أوئل التسعينات. لكنه يعود ليشير إلى أن سوق العمل سيعاني شحة في الأيدي العاملة العام 2015. ويرتبط ذلك أن جزءأ كبيراً من الشبيبة في الوقت الحاضر لن يكملوا دراستهم، إذ يتسرب حالياً ربع الشبيبة دون أن يكملوا دراستهم. وهذا ما تتخوف منه أنغيلاس بيرموتس سفانكفيست المدير العام لمكتب وساطة العمل، وترى بأنه: يتعين أعادة النظر في منظومة التعليم العادية، فليس من المقبول أن ينهي 23% بالمائة من تلاميذ المرحلة الأساسية تعليمهم دون درجات دراسية جيدة.. هذا مستقبل قوة العمل.
ومن وجهة نظر وزير سوق العمل- سفين أوتو ليتورين: يتعين عدم الأستسلام. هناك جانبين مفرحين، أولهما تواجد أعداد أضافية من فرص العمل الشاغرة والمبلغ عنها إلى مكتب سوق العمل مقارنة مع التسعينات. وثانيهما تم رصد المزيد من المال اللازم لمكتب العمل ومنظومة التعليم، وإذا كانت هناك من إمكانية لشخص ما لمواصلة الدراسة، فهذا هو الوقت المناسب للقيام بذلك. ويتابع قائلاً: سنوات قليلة وتنزاح الأزمة ويتدفق جيل جديد إلى سوق العمل.. فضل فكرة حالياً هي مواصلة الدراسة.
لكن خالد الخليلي الناشط السابق في منظمة SSU للشبيبة التابعة للحزب الأشتراكي الديمقراطي، يرى أن الحكومة لا تُقَدِّر خطورة البطالة التي تتهدد الشبيبة، وأن الأمر أكثر صعوبة بين الشبيبة الذين ينحدرون من أصول مهاجرة. كما ويحذر من سقوط أعداد كبيرة من الشبيبة في مهاوي الانحراف والجريمة، معبراً عن قناعته بأن الحكومة لا تقدم الدعم الكافي لأدماج الشبيبة في الحياة العملية، وأن الأجراءات المتخذة في هذا المجال غير ذات فاعلية، مطالبا بفتح أبواب التشغيل للشباب في القطاع العام في مرافق مثل أنشاء الطرق والمباني وغيرها لتحريك عجلة الأقتصاد. هذا علاوة على ضرورة زيادة المقاعد الدراسية في الجامعات، وزيادة دورات ومقاعد الدراسة في مجال التأهيل المهني.
إحصاءات مكتب وساطة العمل، ورغم أنها ليست بالمفاجأة الكبرى في هذه الفترة التي يشهد فيها الإقتصاد السويدي انكماشا لم يسبق له مثيل، إلا أن التوقعات ألقت بضلال الكآبة على مستقبل سوق العمل وخاصة بالنسبة للشباب. يقول أوسكار موسباري الذي كان بصدد البحث عن فرصة عمل بأحد مكاتب العمل في ستوكهولم بأنه غير متفائل وأن المستقبل لا يبدو زاهياً الآن، هم يقومون بكل ما في وسعهم هنا في آربيتسفورميدلينغ لمساعدتي، لكنني أفكر الآن، وفي هكذا ظرف إقتصادي صعب، التوجه إلى الدراسة. سأبدأ الدراسة في فصل الخريف المقبل، لكن يجب عليّ توفير مصدر لإعالة نفسي لغاية ذلك الوقت. أوسكار موسباري ليس وحيداً في حالته وفي شعوره بالإحباط تجاه المستقبل، إذ أن توقعات مكتب وساطة العمل تبين أن فئة الشباب هي الأكثر تضرراً من تفاقم ظاهرة البطالة وأن فئة الرجال ستتضرر أكثر من فئة النساء. بينما تصف أنغيلاس بيرميداز سفانكفيست- المديرة العامة لمكتب وساطة العمل- الوضعية الحالية لسوق العمل في البلاد بالخطيرة وتضيف أن مكتب العمل لم يجر تدقيقا في تكهناته بخصوص البطالة منذ العام 1999، إذ أن التكهنات والإحصاءات تبين مدى خطورة الوضع.
وتوقع مكتب وساطة العمل ارتفاع ظاهرة البطالة خلال العام 2009، كما أن أرقام آربيتسفور ميدلينغ تؤكد الإحصاءات التي كشف عنها وزير المالية أندرش بوري والتي تتكهن بوصول نسبة البطالة العام 2010 إلى 11%.. وتتوقع أن يتغير مجرى الوضع الإقتصادي بحلول العام 2012 (مقارنة بتوقعات تورد ستانافوش 2015) ، ورغم تفاقم نسبة البطالة في الظرف الحالي لا تعتقد المديرة العامة لمكتب وساطة العمل أن الأمر يتطلب تدخلا من طرف الحكومة بإصدار إجراءات جديدة، بل على العكس من ذلك ترى بوجوب توخي الحذر وعدم التسرع في المطالبة بإجراءات ووسائل طارئة، حيث تقول أنه من الجيد مراجعة الإحصاءات طالما لم يمض سوى ثلاثة أشهر من إعلان الحكومة عن تخصيص حزمة إجراءات لإنعاش سوق العمل، وعليه يجب التمعن في مدى فاعلية هذه الإجراءات ودراسة كيفية تطبيقها بأحسن الطرق(33).
جدير بالذكر، بقيت البطالة في السويد خلال السبعينيات والثمانيات بحدود1%-3%، تصاعدت هذه النسبة حتى وصلت إلى أرقام قياسية تجاوزت ما يسمى الخط الأحمر- أكثر من 10%، وليس هناك الكثير من الأمل بخفض هذه النسبة، بخاصة بين فئات الوافدين في السويد، وآخر الأرقام لمكتب العمل تقول أن نسبة البطالة ستقف عند 9.3% العام الحالي (2010)، ومن المتوقع انخفاضها إلى 9.0% العام 2011(34). ويلاحظ من الجدول رقم ( 14) أن نسبة البطالة للشهر الأول من العام 2009 بلغت 8.6%.
تولِّد البطالة الظروف الأسوأ والتأثير السلبي الأقوى على الإيرادات المالية والدخل الوطني بعامة. من هنا تصبح مهمة تحمل دفع المعونات الاجتماعية وتعويضات البطالة عبئأً كبيراً على أية حكومة سواء في السويد أو في غيرها من الدول، لأن دفع المعونات وتعويضات البطالة تشكل واحدة من أهم المؤثرات اقتصادياً على مصاريف الدولة والتزاماتها في ظروف الاقتصاد العالمي المتأزم، ويشكل عبئاً كبيراً على الميزانية العامة(35).
وهذه المعضلة تتطلب دراسة العوامل الموضوعية والذاتية للانتشار الواسع للبطالة وإيجاد الحلول المستمرة لمواجهتها، ليس لأسباب تتعلق بالدخل فقط، بل لأن البطالة لها آثار اجتماعية خطيرة تصل إلى فتح أبواب مختلف أشكال الجرائم المجتمعية. ولعلّ من أولويات إجراء مثل هذه الدراسات تتمثل في توفر الإحصاءات الدقيقة لأعداد العاملين وأعداد العاطلين، ليس على مستوى السويد، فحسب، وهي متاحة أصلاً، بل على مستوى الجاليات المتواجدة في السويد، ومنها الجالية العربية (وأيضاً الجالية الإسلامية)، لأن مثل هذه الإحصاءات تشكل المقياس الأكثر إلحاحاً في بحث حركة أعداد العاملين والعاطلين في القطاعات الاقتصادية والخدمية المختلفة. ويظهر أن مثل هذه الإحصاءات على مستوى الجاليات تعتبر من وجهة نظر الحكومة السويدية مؤشراً على قياس التمييز والتعصب (ف1/ق2)، وحيث أن السلطات السويدية حساسة جداً تجاه هذه المعضلة، عليه تعمل على تجنبها في سياق مكافحتها لها، وهذا أمر غير مقنع من وجهة نظر حاجة البحوث العلمية إليها بغية تحليلها ودراسة مشاكلها على مستوى كل جالية، تمهيداً لاقتراح الحلول الناجعة لمعالجتها. يُضاف إلى ذلك تحسين وتطوير أسالب تدريس اللغة السويدية وجهود التأهيل المبذولة لتمكين عناصر الجالية الدخول إلى سوق العمل.

الفصل الرابع- الصعوبات والمشاكل: التنافر البيئي
دوافع الأغتراب في المملكة السويدية، مختلفة ومتنوعة ومتباينة، رغم أنها لا تخرج عن الجوانب الاجتماعية السياسية- الاقتصادية: منهم من قصدها، بعد أن وجد نفسه محاصراَ ومهدداَ، ومن جميع المنافذ، فكانت السويد بالنسبة له المنقذ والأمل الأخير في التخلص من مكابدة الجور والطغيان، والانتقال إلى ساحة جديدة تمكنه من استمرار قدرته على الصمود والتصدي والمواجهة. ومنهم من فضّل الأغتراب فيها، نتيجة الأحباط واليأس من إمكانية المواجهة والتغيير، فأختار الهروب إلى المجهول وبلغ السويد. ومنهم من جاءها، بعد أن أكتوى بنار الصراعات والحروب والكوارث التي ليس لها طائل، فقصد السويد بهدف العيش الآمن. ومنهم من وصلها، بهدف تحسين أوضاعه المعيشية، ومنهم من شد الرحال إليها متأثراً بالدعايات الإعلامية الغربية التي صورت له الجنة في الغرب. ومنهم من إبتغاها ترفاً وطمعاً بالملذات الدنيوية والغير متيسرة، بالقدر المشبع، في موطنه الأصلي، والبعض القليل، من اللاجئين السياسيين العرب عامة والعراقيين خاصة، ممن دفعت بهم الأقدار إلى المملكة السويدية، أستثمر هامش وجوده في ملاذه الآمن الجديد هذا، في توظيفه بمواصلة ممارسة أنشطته وحراكه، النابع من رؤيته الفكرية والسياسية والدينية، دون أنقطاع. بينما الأغلبية من نفس الشريحة، رغبت بالتقاعد عن أنشطتها النضالية السابقة، في ظل الحياة المريحة التي وجدتها في المملكة وأسترخت لها، مما دفعتها للتفرغ والأنغماس في شئونها الحياتية الخاصة في التكسب والأنشغال بالحياة الأسرية والأستمتاع بملذات الحياة السهلة التي وفرتها لهم ظروف المعيشة المستقرة في المجتمع الجديد(36).
وفي دراسة ميدانية في سياق تصميم استمارة تضم مجموعة من الأسئلة، قام بها الدكتور عبدالسلام الطائي في السويد خلال الفترة أيلول/ سبتمبر 2007 لغاية نهاية العام، لعينة من العراقيين (50 مبحوثاً) من ذوي التحصيل العلمي العالي (الجامعي فما فوق، وعلماء وقادة)، فقد تمثلت خلاصة نتائج الدراسة في(37):
+ تراجع عملية الضبط الاجتماعي للاسرة العراقية على الأبناء بسبب الانتقال المفاجئ من "السلطة الأبوية إلى الزعامة الأمومية" وانقلاب الهرم الأسري بسبب القوانيين السويدية الحاضنة لزعامة الأم كـ "مجتمع نسوي." إضافة إلى الفارق التقني والإعماري حضارياً. مع ملاحظة أن هذا المجتمع في واقعه يقوم على المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، بعيداً عن الزعامات حتى في أعلى مراكز السلطات. والأكثر دقة هنا التفاوت الحضاري ورفض الرجل الشرقي التخلي عن علاقات الزعامة لصالح العلاقات المتكافئة القائمة على الاحترام المتبادل في المجتمع السويدي!
+ ضعف التضامن الأسري وارتفاع ملحوظ في معدلات الطلاق جراء الصدمة الحضارية.
+ ضعف إقبال الأبناء على الدراسة.
+ شعور معظمهم بالخجل من واقعهم الحالي كـ: لاجئين- ومعاناتهم من الخوف على المستقبل المجهول!
+ أكثر من ثلثهم (35%) مصابون بـ (الفوبيا) الاجتماعية وبدرجات متفاوته. بينما توصلت مجلة أطباء بلا حدود السويدية إلى نسب أعلى.
+ غالبيتهم يعانون من الإفراط في التدخين وتعاطي...! بسبب القلق على الوطن والأهل بالعراق!
+ استعدادهم للعودة للوطن بعد زوال الاحتلال وإرهاب الميليشيات والأحزاب الطائفية.
+ الغالبية المطلقة مصابون بالذهول والصدمة الحضارية للسلوك اللاحضاري لأميركا لتعمدها بعدم إعادة ما دمرته منذ العام 1990 كالكهرباء، على سبيل المثال لا الحصر، وتنصيبها للأحزاب العصبية الدينية والعرقية.! كما أُصيبوا بالصدمة النفسية عندما رأوا (الصهاينة) يحققون معهم في السجون، ويتجولون في شوارع بغداد.
الصورة والمظهر الذي ظهر، ويظهر به الوافدون العرب، في دولة المهجر الآمنة، قاتمة، بعامة، ولا تبشر بخير. تصرفات مسيئة، عادات وتقاليد موروثة، معيبة، مشينة، ومخجلة.. ودون أستثناء لجنسية عربية بعينها، من الأقطار العربية جمعاء. وهذه الصورة الشديدة القتامة تجسد وتلخص، جانب كبير من مساحة المشاهد المشوهة، للجالية العربية في المملكة. عدد كبير منهم، يعاني من سرطان الأمية، بمعنى غياب فقه الحياة وكرامتها. وهذه الأمية والجهل والتخلف المركب والمزدوج، يدفع بسقوط هذه الشريحة وأبناءها، إلى الهاوية، ونعت البقية بسوء الصيت. إنهم يتصرفون وكأن السويد، التي توطنوا فيها، جاءتهم هدية لتحقيق نزواتهم وملذاتهم وجنونهم وشذوذهم المكبوتة دون وازع ضمير أو مسحة كرامة. وليسرحوا فيها ويمرحوا، دون جهد وأجتهاد، ودون قطرة عرق يتيمة(38).
وهنا يتحدث تقرير سويدي عن أن أفشل و أكسل جالية في السويد هي الجالية العربية. يكفي القول أن الأغلبية يقدمون شتى الأعذار لمكتب العمل ومؤسسة الضمان والمؤسسة الاجتماعية حتى يُعفون من الدراسة ومن ثم مزاولة مختلف الأعمال في السوق السوداء، ليحصلوا، بالإضافة إلى دخول عملهم الأسود، كذلك على راتب المؤسسة الاجتماعية آخر الشهر(39). ربما هم محقون!؟ فما الضرورة لأستنزاف عرق الجبين، ما دامت هناك جهات تتكفل بكل شيء. بدءاً بإيجار شقته، ومروراَ بفاتورة: الكهرباء، الرعاية الصحية، الحضانة/ الروضة، وسائط النقل من وإلى المدرسة، الطعام والشراب، سواء عن طريق الشئون الاجتماعية (المعونة) أو التأمينات ضد البطالة. والنوع الثالث والأسوأ من هذه العاهات، تتمثل في تحايلهم على نظام الرعاية الصحية وصندوق التأمينات الصحية في المملكة بزعمهم، كذباً وتلفيقاً، إصابتهم بأمراض عضوية ونفسية مستديمة ومزمنة- نصب وأحتيال- بغية الحصول على التقاعد المرضي المبكر. وبسبب من كثرة هذه الحالات، وخصوصاً بين الوافدين العرب، أضطرت الحكومة من خلال برلمانها إلى تغيير قوانينها وتشديد قواعد ولوائح الضمان الصحي الجديدة، محاولة منها، للحد من أستغلال وأستنزاف تلك القوانيين. وبات الحصول على التقاعد المَرَضي المبكر أكثر صعوبة. والنوع الآخر من العاهات المستديمة الوافدة، والمتسلحلة بأحدث أبتكارات ومهارات وأساليب الأحتيال والنصب، وتهرباً من ألزامية تعلم لغة دولة المهجر المجانية (اللغة السويدية)، تتجسّد في تقاطر العديد منهم على المراكز الصحية بهدف الحصول على أجازات مرضية تتيح لهم الأعفاء من الجلوس على المقاعد الدراسية، لتعلم اللغة الألزامي. بهدف التفرغ كلياً للتسكع المريح، أو بدافع الحصول على مصدر دخل أضافي غير شرعي (عمل أسود)، بعيداً عن متابعة سلطة الضرائب، أو بغرض السفر الطويل للوطن الأم- زيارة وتجارة. وهناك نوع آخر من هذه العاهات، أبتكر وسائل جديدة لزيادة مداخيله، وذلك بأستغلال وأستثمار قوانيين تأمين الوالدين والطفولة، ليصطاد ثلاثة عصافير وبضربة واحدة. من خلال أنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال وبشكل متواتر، ليضمن أولاً الحصول على نقدية شهرية ثابتة للطفل، وليضمن ثانياً نقدية الوالدين التي يتفاوت حجمها، حسب عمل الأم والأب قبل الحمل، ففي حالة وجود عمل سابق للأم أو الأب قبل الولادة، حيث يحصل أحدهما على أجازة الوالدين مع مرتب شهري قدره 80% من آخر دخل لعمله. وإن لم يكن لهما عمل سابق قبل الولادة فيحصل أحدهما على أجازة ومرتب شهري يصل إلى حوالي 600 دولار على مدار ثلاثة عشر شهراً(40).
ومن أساليب النصب والأحتيال المبتكرة الأخرى لهذه العاهات/ الممارسات. أبتكار طريقة الطلاق الصوري (أي طلاق رسمي مصدق من المحاكم الرسمية الأبتدائية، وليس من سلطة شرعية دينية). بمعنى أن الزوجين يعلنان الطلاق لأستحالة الحياة بينهما(مجرد أدعاء). والهدف من وراء هذه الممارسة، هو أولاً للحصول على نقدية النفقة الشهرية والتي تصل الى حوالي 500 دولار شهريا، وتدفع للتي تدعي بطلاقها (المطلقة) من خزائن بيت المال (الضرائب). وثانياَ لكي يحصل الطليق (مايسمى بالزوج)، على شقة سكنية خاصة به، ولكي يقوم بتأجيرها باطنيا (سراَ) إلى معارفه، وبذلك يكون قد ضرب عصفورين (نقدية النفقة الشهرية والشقة الخاصة به) بحجر الطلاق الواحد (الحلال والغير محرّم حسب فقهه وشرعه). ومن المفارقات الغريبة أن معظم هؤلاء الذين يسلكون هذا النوع من النصب والأحتيال، هم من أكثر الناس تشدداً وتمكساً وتعصباً للدين، كما يزعمون أو يتظاهرون. وهذه بالذات منتشرة بين الجالية العربية(41).
تكرار هذه الحالات من النصب والأحتيال على القوانين (في موضوعة وظاهرة الطلاق الصوري)، والكشف عن حالات تلبس عديدة من قبل سلطات الشئون الأجتماعية في المملكة، دفع بهذه السلطات، الضغط على (البعض) من المحاكم الأبتدائية المدنية السويدية، بضرورة مطالبتها بوثيقة مصدقة يتقدم بها الراغب في الطلاق ومن جهة شرعية معتمدة، على أن تتضمن تطليقاَ شرعياً من هذه المؤسسات الدينية المعنيّة، بهدف الحد من هذا التلاعب بالقوانين. ومع ذلك بلغ التحايل والنصب، مبلغه في بعض أفراد هذه المؤسسات الدينية، حيث أخذوا بإصدار وثائق طلاق لقاء عطايا أو أجر. فباتت ظاهرة الطلاق (الكاذب) منتشرة بين الجالية العربية وعلى تنوع وأختلاف دياناتها. وهناك حالات أخرى (من النصب والأحتيال)، بهدف الكسب اللامشروع (والاأخلاقي).
بالأضافة إلى نسب الطلاق (الورقي)، وأرتفاع معدلاتها التصاعدية، سجلت حالات الطلاق (الحقيقي) أرتفاعاً مماثلاً بين أبناء الجالية العربية الوافدة إلى المملكة. سواء منها تلك التي (أنقلبت على ساحرها) حين بدأت بصورة طلاق (ورقي)، ونتيجة المغريات الحياتية والأمتيازات المؤقتة، تحولت إلى طلاق (فعلي)، على الورق وفي الواقع!. أو تلك الزيجات التي كانت أصلاً، رخوة في وشائجها وروابطها، وقبل أن يحط المقام بها بالمملكة. وفي ظل قوانين الحرية والرعاية المكفولة للطفل أولاً والمرأة ثانياً. هذه الأسباب وغيرها الكثير، أدت وتؤدي إلى أرتفاع معدلات ونسب الطلاق (الفعلي) بين أبناء الجالية العربية الوافدة إلى المملكة(42).
الاتجار والتعاطي والترويج، للمخدرات على أختلاف أنواعها: منشطات، مهدئأت، مسكرات.. والمثيرة للنشوة والهلوسة، والإدمان عليها، تُعد وبحق من أخطر أمراض وآفات العصر الفتاكة والمنتشرة وبشكل خاص بين الشباب. وهذا الوباء السرطاني المدمر للطاقات البشرية يتنامى وبنسب متصاعدة، تنذر بمخاطر أجتماعية وأقتصادية جمّة، تعاني من تداعياتها المملكة، كسائر دول العالم الملوثة بهذا الوباء المعدي. ومما يؤسف له، أن أعداداً غير قليلة من أبناء الجالية العربية الوافدة إلى المملكة، ومن شبابها، تتعامل مع هذه السموم، سواء بالترويج والأتجار بها، أو بأستهلاكها- تعاطيها وإدمانها على تلك السموم الكارثية. وكلنا مدركون للفعل والتأثير الذي يخلفه هذا الوباء، والذي يدفع بالمدمنين المصابين إلى فقدان أتزانهم ووازعهم الأخلاقي والاجتماعي. فيهملون أنفسهم، وينتفي طموحهم ويتعطل أو يتوقف دورهم، ويتراجع تعليمهم العلمي والثقافي، مما يجعلهم أُميين اجتماعياً وثقافياً، وتتبدد عنهم ثقة المحيطين بهم، فيتحولون إلى كائنات هامشية ومهمشة، ليس لها طموح في العيش والمستقبل سوى البحث عن القليل من: المنشطات، المهدئأت، والمسكرات، المثيرة لنشوتهم وهلوستهم، وبأي ثمن كان. وهذا مايقودهم في نهاية المطاف إلى الانحراف وارتكاب الجرائم بأنواعها المختلفة، بل وإقدام بعضهم فعلاً على الانتحار(43).
كما ويلجأ العديد منهم إلى أرتكاب أعمال مشينة وخارجة عن العرف الأجتماعي والقانوني، كالسطو والسرقة و الإختلاس والتجاوز على ممتلكات الآخرين والمجون والبغاء، وتبلغ بهم الأعراض الجنونية المكتسبة، مبلغها، إذ يكونوا مستعدين لبيع أنفسهم وعائلاتهم ومن يحيط، بهم بما فيه أوطانهم، عند ضغوط الحاجة الإدمانية، والثمن حفنة من (المنشطات، المهدئأت، والمسكرات، المثيرة لنشوتهم وهلوستهم المصطنعة، ومهما كان الثمن).
وتتحدث الصحف السويدية عن أن معظم الأشخاص الذين يقومون بجرائم الشرف ينحدرون من أصول شرق أوسطية أو الشرق الأدنى. وتشير المحكمة الإدارية السويدية في دراسة لها إلى إلحاق الضرر المباشر بـ 1500 شابة سنوياً في السويد بالجرائم المرتكبة بأسم الشرف(44).
المناطق التي يقطنها العرب والمسلمون في السويد يكثر فيها تعاطي المخدرات إلى درجة أنّ العديد من الشباب من جنسيّات عربيّة ماتوا جرّاء تعاطيهم جرعات مركزة من المخدرات، وتحاول السلطات السويدية جاهدة وضع حدّ لهذه الظاهرة. والمأساة الكبيرة أنّ بعض العرب والمسلمين بنوا ثروات هائلة جرّاء بيعهم هذه السموم للأطفال السويديين والعرب والمسلمين، ولا تخلو الصحف السويدية من أخبار أجانب تخصصوا في بيع المخدرات.
في غوتنبرغ، ثاني أكبر مدن السويد بعد العاصمة استوكهولم، يشكل اللاجئون نحو 20 في المائة من السكان الذين يبلغ عددهم نحو 500 ألف نسمة، والعراقيون هم الأكثر عدداً. ويتمركز اللاجئون وحملة الجنسية السويدية من المولودين في الخارج، في الضواحي الشمالية الشرقية للمدينة، وتحديدا في يلبو- مقاطعة انغرد. هنا يعيش أكثر من سبعة آلاف نسمة، منهم 90% لاجئون، جزء كبير من هؤلاء من العرب، وخصوصاً العراقيين. سكان هذه المنطقة وكأنهم يعيشون في دولة مستقلة عن السويد لا يختلطون بالسكان السويديين.. أخبار الجرائم يومية في انغرد. وفي كل يوم أو يومين، على الأكثر، هناك خبر عن اعتداء أو جريمة قتل أو محاولة قتل. نسبة الجرائم مرتفعة بين اللاجئين(45).
ذكر تقرير أن هناك نفور من المجتمع السويدي تجاه اللاجئين، ولكن ليس النفور من الأجانب، بعامة، بل النفور من المناطق أو التجمعات التي تحتوي على وجود كامل للأجانب، حيث تكثر الحوادث والمشاجرات والمعارك والجرائم. وللشهادة: المجتمع السويدي ليس مجتمعاً عنصرياً، بعامة، رغم وجود بعض الحالات التي لا تمثل عموم الشعب السويدي المسالم- الكريم، مع ملاحظة أن طريقة تعامل السويديين اجتماعياً حتى فيما بينهم تتسم بالكثير من الرسمية التي يمكن أن تُفسّر عند العرب والمسلمين عموماً بشيء من الأنفة والكبرياء، بل وقدر من العنصرية، رغم أنها قيم تربوية. وهذه المشاكل والمشاجرات تحصل بسبب قلة فرص العمل الموجودة على أرض السويد (و/أو التهرب من الدخول إلى سوق العمل الرسمي، طالما أن المؤسسات الرسمية توفر الحياة اللائقة للاجئ، وفي نفس الوقت يمكنه من ممارسة العمل الأسود والحصول على دخل إضافي). وهناك من يرمي باللائمة على القانون السويدي المرن لمعالجة الجريمة، وعلى قوانين معاملة الأطفال وطريقة تربيتهم بمنع استخدام العنف ضدهم.. ويلاحظ على مرونة القانون السويدي تجاه الجريمة- القائم على المساواة بالعلاقة مع المهاجرين- تتمثل في النظرة الاجتماعية للجريمة/ الانحراف بتحمل المجتمع جانباً من مسئولية وقوعها أصلاً، ومن ثم تبنّي مبدأ الإصلاح والتأهيل بدلاً من العقاب والتنكيل في معالجة الجريمة والمجرم.. بينما في حالة حماية الطفل من العنف، فإنها مبررة بمسئولية المجتمع: أولياء الأمور، الروضة، المدرسة، ولغاية سن الرشد، معاملة الطفل بطريقة سلمية وتوجيهه وتعويده قبول القيم والعادات وأساليب الحياة المطبقة في المجتمع السويدي الحضاري.. من هنا لا يمكن اعتبار مرونة القانون أو حماية الطفل عاملاً في انتشار الجريمة وفشل الأطفال بين الجالية العربية، بدليل تدني نسبة الجريمة بين السويديين، ونجاح الطفل السويدي منذ بلوغه سن الرشد الاعتماد على نفسه والقيام بأداء واجبه- احترام القانون وتقديس العمل- وبناء مستقبله(46)!
وهكذا تنتشر أمراض اجتماعية عديدة بين الجالية العربية: جرائم الشرف/ غسل العار.. ممارسة العنف داخل العائلة.. التحايل/ الكذب على المؤسسات الرسمية ومحاولة الحصول على أكبر قدر مما يُعتقد بأنه حقوق، مع إهمال الواجبات.. الطلاق المزيف.. العمل الأسود.. انتشار ظاهرة عدم القراءة والدراسة وإهمال تعلم اللغة السويدية أصلاً.. انتشار تعاطي المخدرات والإتجار بها وما يصاحبها من سرقات واعتداءات ومختلف الجرائم.. الصراعات، الطائفية، المذهبية، القبلية، والفكرية، القائمة في البلدان العربية المنقولة من قبل الجالية والمغروسة في قيمهم ومعتقداتهم.. تناقضات سياسية/ حزبية حتى في إطار الطائفة المذهبية الواحدة.. الانعزالية بتفضيل تجمعات سكنية ذات الأغلبية المهاجرة، ونفور السويديين منها تحاشياً لأساليب العنف والجرائم المستمرة التي تولدها.. التعامل مع نفس الأفكار، المناهج، العادات، الوسائل، والذهنيات، العصبيات، القبليات، الطروحات، الحزبيات، المذهبيات، والخلافات الجهوية والقطرية المنتشرة في العالم العربي.. إنهيارات أسرية وانتشار الطلاق الحقيقي والمزيف وآثارها العائلية، بخاصة بين الأطفال.. فشل كثير من الأطفال في الدراسة (حصل أبناء الجالية على أدنى نسبة نجاح، بلغت في بريطانيا 34%، بل إن تقريرا رسميا بريطانيا أشار إلى أن 97% من أطفال الجالية فشلوا في التعليم)، كما انتشر بين العديد منهم الجريمة وتعاطي المخدرات، وبينهم العديد من النزلاء في السجون ومستشفيات الأمراض النفسية.
يأتي اللاجئ إلى بلاد الغربة قاطعاً آلاف الأميال وهارباً من سلطة عنيفة وسط قيم اجتماعية متخلفة تغلفها الفقر والعوز، ومع ذلك فإنه يحمل على ظهره هذه القيم لإنه لا يستطيع الفكاك منها رغم هروبه هذه المسافات الطويلة، لكونها تعيش في دمائه، ويحتاج إلى فترة ليست قصيرة للخلاص منها تدريجياً وتعويضها بالقيم الإنسانية لمجتمعه الجديد المتحضر.. وعموماً فإن بناء حياة جديدة للاجئ متوافقة مع القيم الحضارية المتقدمة لمجتمعه الجديد يمكن أن يطول إلى الجيل القادم أو الأجيال القادمة.. وبالنتيجة تكون مثل هذه المشاكل متوقعة، وهي تدعو للمعالجة، ليس فقط من قبل المؤسسات القانونية ومؤسسات الرعاية الرسمية في المجتمع الجديد، بل كذلك المنظمات الاجتماعية ذات العلاقة، وبناء مؤسسات رعاية من قبل الدول المهاجر منها للمساعدة على إفهام وتثقيف المغترب في سياق تعامله الملائم مع المجتمع الجديد، وتواصل اللاجئ مع وطنه، علاوة على رعايته والتخفيف من مشاكله، على طريق بناء مستقبله.
عاش اللاجئ قبل رحيله في ظل نظام سياسي متخلف يتصف بالعنف والممارسات المتدلسة.. الأنظمة الملكية العربية تتراوح بين كونها أنظمة مطلقة وشبه مطلقة. بمعنى أن الملك العربي لا زال يحكم على طريقة ملوك القرون الوسطى. يمتلك كافة السلطات حتى وإن تنازل عن جزء منها إسميا في شكل دستور وانتخابات. لأن ما يتنازل عنه يمتلك القوة على سحبه أو تعديله. مقابل ذلك فهو لا يخضع لاية مساءلة باعتباره "ظل الله في الأرض"، يستمد شرعية حكمه من المصدر التقليدي المستند إلى الدين والنسب العائلي- القبلي مدعمة بما يحشده من أسباب القهر والبطش.
والأنظمة الجمهورية لا تختلف عن تلك الملكية إلا في الشكل، وفي ظروف تنامي الخوف وعدم الثقة وإصرار الحاكم على احتكار السلطة، عندئذ بدأت تتشكل ظاهرة جديدة هي ظهور أُسر ملكية جديدة في أغلفة جمهورية بوضع الأقارب في المراكز الستراتيجية والحساسة من السلطة واعتماد الحكم بشكل متصاعد على أبناء العائلة والعشيرة. بل وفرض الأبناء لوراثة الحكم.
الأنظمة العربية ليست منفصلة عن القيم المجتمعية، بل متأثرة بها إن لم تكن وليدة هذه القيم.. وفي السطور التالية متابعة لجانب من قيم التراث الاجتماعي للفترة المظلمة التي طغت عليها قيم البداوة، وما تضمنتها من مظالم اجتماعية سادت المجتمعات العربية عموماً على مدى قرون عديدة واستمرت بقاياها مؤثرة في أفكار وتصرفات الناس، بل وانتقلت- بهذا القدر أو ذاك- إلى الساحة السياسية في سياق استمرار ضعف الوعي الاجتماعي ووقوع المواطن في براثن ازدواج الشخصية في حياته وممارساته (47).
الاولى: البداوة والغزو والانتصارات (تبجيل العنف)- العنف وسيلة قسرية لفرض رأي أو حل أو موقف أوحد. ويُجسّد التطرف الفكري والمثالية العقائدية من منطلق "الاعتقاد الجازم" لكل طرف أنه صاحب "الحق المطلق". وهو بهذا المعنى يقوم على إلغاء حق الغير و/أو وجوده. ويتراوح في مداه بين التعذيب النفسي، بما في ذلك الوعيد والتهديد واستخدام لغة الشتيمة وتحقير الغير، وبين التعذيب الجسدي بدءاً بالضرب ولغاية القتل بأشكاله. ويقترن العنف بالتخلف والاستبداد وسيادة عقلية الغزو والانتصار.
ولكن لماذا يستخدم الإنسان العنف وهو المتميز عن الحيوان بصفته الاجتماعية؟ المعروف في علم الاجتماع أن التنازع صفة طبيعية ملازمة للبشرية إلى جانب صفة التعاون الملازمة لها. أي أن التنازع والتعاون صفتان في الإنسان لا ينفصلان. وتعتمد درجة الميل نحو التنازع أو التعاون في المجتمع على مدى تطوره الحضاري. بمعنى أن صفة الاختلاف/التنازع وصفة التآلف/ التعاون قائمتان لدى كل فرد، وأن غلبة إحداهما على الأخرى في تعامل الفرد مع طرف آخر تتعلق بدرجة تحضرهما وطبيعة التعامل بينهما ومستوى فهم واستيعاب كل منهما للآخر وللظروف الموضوعية محل الاختلاف وتقديرهما لحصيلة النزاع أو التعاون. وهذا ينطبق على مستوى المجتمعات والدول في تعاملها مع بعضها. من هنا كان ضروريا وضع هذه الاختلافات في المكونات الشخصية محل اعتبار في التعاملات الاجتماعية، بالإضافة إلى أهمية دراسة شخصية الفرد(المجتمع) لخلق فهم أوسع من أجل تسهيل التعامل معه وإيجاد نقاط التقاء مشتركة لحل التنازع سلمياً.
وتجد صفة التنازع البشري (وكذلك التعاون) منطقها في ثلاثة أمور: الحاجات البشرية اللانهائية.. الموارد البشرية المحدودة.. اختلاف العوامل الوراثية والبيئية المكونة لشخصية الفرد. من هنا يواجه الإنسان باستمرار الخلاف مع غيره في الحياة اليومية. وهو أمام أحد خيارين لحسم هذا النزاع: أما استخدام العنف من منطلق إلغاء حق و/أو وجود الآخر أو التعاون في محاولة لإيجاد نقطة وسطية مشتركة تلتقي عندها المصالح المتنافرة للأطراف المعنية، أي القبول بمنطق التآلف والمصالحة بدلاً من منطق الانتصار والهزيمة. وإذا كانت الحالة الأولى طريقاً جهنمياً لفتح باب مغارة العنف بمختلف أشكاله، فالحالة الثانية تشكل البديل الوحيد الممكن لبناء العلاقات الإنسانية والمجتمع الحضاري المتطور. وبين الحالتين مسافة ليست قصيرة من التربية الحضارية.
إن مواجهة ظاهرة العنف هذه التي نشأ عليها الفرد وتعمقت في دمائه واستفحلت في الساحة العربية لا تقف عند الحلول الآنية بالتطوير النوعي للعملية التعليمية والثقافية والإعلامية فحسب، بل تتطلب أيضا معالجات جذرية طويلة الأمد لتمتد إلى إعادة بناء أصول التنشئة والتربية المنزلية كنقطة بداية للتربية الاجتماعية.
الثانية: البداوة والحرية الفطرية (عداء السلطة الحكومية)- تقوم حياة البداوة على الحرية الفطرية. لذلك فهي تنفر من سلطة النظام والقانون، وتنظر إلى الحكومة نظرة شك وعداء. تعززت هذه النظرة في ظل الحكم العثماني الذي اتصف بشدة ظلمه للناس وعدم اهتمامه بحقوقهم وتركيز وجوده على جانب الواجبات (الضرائب والتجنيد الإجباري). من هنا انتشرت ظاهرة الخوف والعداء والكراهية للسلطة الحكومية. ولعلّ هذا يفسر اندفاع البعض نحو نهب وتخريب المؤسسات العامة في حالات ضعف السلطة الحكومية.
الثالثة: العصبية والنسب (غياب مبدأ الفردية)- تقوم الحضارة الحديثة على مبدأ الفردية في التعامل الاجتماعي، أي تقيِّيم الفرد على أساس أفكاره وممارساته، وبالتالي مسئولية المواطن عن أفعاله أمام القانون والمجتمع دون أن يتحمل جريرة أفعال غيره. بينما القيم البدوية تقدر الشخص ليس بأفعاله فحسب، بل كذلك بأفعال أهله وأقربائه وعشيرته والموقع الاجتماعي لعائلته. ويرتبط بذلك الاهتمام المفرط بالأنساب بما يوقعه في حالات كثيرة من الظلم الاجتماعي نتيجة احترام الشخص أو احتقاره بسبب نسبه. إذ لا زالت الألقاب تلعب دورها في الحياة الاجتماعية- السياسية العربية. واستمرت علاقاتنا في تقييم الفرد تنطلق من اعتبارات العصبية والقرابة والصداقة والفضل والجيرة وما يماثلها. وهنا يلاحظ أن هذه القيم والممارسات اتسعت وامتدت من مجالها الاجتماعي، بما في ذلك اختيار المراكز والوظائف، إلى المجال السياسي بحيث أصبح الفرد يحاسب على فعل غيره من أصدقائه وأقربائه وأهله وعشيرته. يُضاف إلى ذلك أن هذه الظاهرة المتفشية في مجتمعاتنا العربية/ الإسلامية يمكن الوقوف عندها أيضا حتى في شتائمنا العامية. فالشتيمة لا تقتصر على الفرد، بل يمكن أن تمتد إلى عائلته ولغاية عشيرته.
الرابعة: القبلية والسلطة الأبوية ( النظرة الشخصية للحاكم)- من المبادىء الأساسية الأخرى في الحضارة الحديثة والتي تخص إدارة المجتمع السياسي هي النظرة الوظيفية للمسئولية، والفصل بين شخص الحاكم وبين المسئولية الوظيفية. هذا المبدأ يتناقض مع منطق القبيلة الذي يقوم على السلطة الأبوية وينطلق من النظرة الشخصية لشيخ العشيرة. وسواء أدركنا أم لا، فما زالت نظرتنا محصورة بشخص الحاكم دون نظام الحكم. ولا زالت لا تختلف عن نظرة البدوي إلى شيخ القبيلة. بمعنى أنها لا زالت نظرة شخصية تقوم على الإقرار الضمني بأن الحاكم هو الأب الراعي لأبناء العائلة- العشيرة. ويحاول الحاكم نفسه تعزيز هذه النظرة.
من هنا تركزت مناقشاتنا على الحاكم شخصيا في المدح والقدح. نجعله زعيماً أوحداً ورئيساً مؤمناً وقائداً تاريخياً، ونصفه بكل ما يعظم شأنه، بل ونرفعه إلى السماء لنجعل منه شبه آلهة إذا رضينا عنه. وننعته بأردأ الوصفات، بل ونمحقه إلى أسفل الدركات عندما لا نرضى عنه. ننسب إليه كل ما يتحقق من إنجازات وإخفاقات. متناسين أننا بذلك نمحق ذاتنا وغير واعين بأننا غارقون في الاتكالية والتهرب من المسئولية والتمسك بتلاليب القيم البدوية. وبالنتيجة يكون تركيزنا على تغيير الحكام في سياق إهمالنا أو عجزنا عن الاتفاق على عقد اجتماعي يوفر أولا اسس بناء نظام اجتماعي- سياسي مقبول من الأغلبية.
الخامسة: العصبية والغلبة والمغالبة (النظرة المتدنية للعمل/الواجب)- تقوم البداوة على كسب الرزق بحد السيف. لذلك فهي تحط من قيمة العمل، خاصة الحرف اليدوية. من هنا شاعت النظرة المتدنية إلى العديد من الحرف اليدوية- العمال- أصحاب الياخات الزرقاء لصالح الموظفين/ الأفندية- أصحاب الياخات البيضاء. وهناك عامل اجتماعي آخر وراء الحط من قيمة الحرف اليدوية، وهو عامل طبقي نجم عن النظرة المزدرية للفئات الغنية إلى تلك الفقيرة والحرف التي يمارسونها. هذا الموقف الاجتماعي من الحرف اليدوية كان وراء الزخم الشديد للناس التوجه نحو الوظائف الحكومية. وهنا يذكر عالم الاجتماع العراقي- المرحوم الدكتور علي الوردي- وصاحب نظرية ازدواجية الشخصية العراقية (والعربية/ المشرقية عموماً) حادثة طريفة شهدها العام 1958 وراء السدة الشرقية ببغداد التي كانت تسكنها جماعات من المهاجرين الريفيين: بائع خضار متجول ينادي عليها بين البيوت.. يخاطبه رجل آخر من المنطقة (فراش) شاتما إياه بقوله- إنك صرت بقالاً فمن ذا الذي يتزوج بناتك.. أجاب البائع- البقال أفضل من الفراش.. رد الأخير- الفراش حكومة أما البقال فهو حقير! الجدير بالذكر، ففي منطقة الجبايش العراقية جنوباً- منطقة الأهوار- لا زالت عادة السرقة ليلاً، تشكل معلماً للجرأة والبطولة واكتمال الرجولة!
كما أن نظرة المفاخرة للغزو والنهب والسلب والغلبة والمغالبة تركت آثارها في الممارسات غير النزيهة في التعامل الاجتماعي- التجاري والمالي. بما في ذلك المفاخرة بابتلاع حقوق الآخرين كالديون مثلاً، ومحاولة البائع أو الحرفي غش المشتري من حيث الأسعار أو النوعية أو الكمية (منطق الغلبة والانتصار!). كذلك ترسخت القناعة بنظرة المغالبة لدى الناس من خلال المطالبة بحقوقهم أولا دون إعارة نفس الاهتمام للواجبات. وهذه المسألة ظاهرة أيضا في التعامل والعمل في مجال الإدارات والأعمال الحكومية.
من جهة أخرى، فإِن نظرة المغالبة التي تفتخر بالغالب/ المنتصر، عززت عوامل دفع النزاعات غير التناحرية في الساحة السياسية نحو العنف والتناحر. هذا في بيئة مشجعة للأفكار والمواقف المثالية الصلبة، والنظرة المطلقة للحقوق والأمور الدنيوية النسبية، وتجاوز/ حرق المراحل في الدعوة إلى تبني الأهداف والشعارات المعلنة. بينما حطت باستمرار من الأفكار والممارسات الوسطية السلمية القائمة على الواقعية المبدئية رغم أنها تشكل أحد مبادىء الحضارة الحديثة.
السادسة: البداوة والرجولة (مأزق المرأة)- قبل الحديث عن مأزق المرأة علينا أن نتدارك أن الغرض هنا ليس الدعوة للحرية الجنسية وتجاوز القيم الاجتماعية، بل محاولة إثارة مناقشة موضوعية من أجل خلق درجة من المرونة والنظرة الحضارية في التعامل مع هذه المعضلة الاجتماعية، بعيداً عن الخنجر- العنف و"غسل العار" وما صاحبتها من مآسي لم تقتصر أحداثها على داخل الوطن العربي بل تعدتها إلى مواطني البلاد العربية عموماً في المنافي ومنها بلاد الغرب.
من المعروف أن استمرار الوجود البشري يعتمد على أربعة مصادر رئيسة: الهواء، الماء، الغذاء، الجنس. ويُفترض خضوع هذه المصادر لممارسات الإنسان الطبيعية. فهو يتنفس ويشرب ويأكل كما يفعل الحيوان مع فارق نسبي. بقيت هذه المصادر الثلاثة بعيدة عن الخضوع للقيود الاجتماعية لأِنها حاجات آنية لحفظ حياته. أما المصدر الرابع (الجنس) فرغم أنه كذلك نزعة حياتية، إلا أنه خضع للطقوس والنواميس الاجتماعية متضمنة أشكالا متعددة من القيود باختلاف الزمان والمكان. وذلك لأن الجنس حاجة آجلة وتخص حفظ الوجود البشري ككل.
ويرتبط بذلك القيم القبلية المتخلفة المتوارثة التي اخضعت المرأة لمختلف أشكال القيود. زادتها تزمتا، بصفة خاصة، مرحلة الفترة المظلمة وسيطرتها على سلوكية المجتمع. هذه السلوكية التي قامت على الحط من قيمة المرأة في سياق قيم وممارسات تجلّت في: نظرة الاحتقار إلى الحرف اليدوية بما في ذلك عمل المرأة في المنزل.. النظرة المتدنية إلى الضعف البدني وازدراء فئة غير المقاتلين في القبيلة.. تعظيم "الرجولة" متمثلة في القوة والمنزلة الرفيعة لمقاتلي القبيلة.. تقدير واحترام الشخص اذا كان غالباً منتصراً، وباختصار تبجيله إذا كان"فاعلا" في حياته الاجتماعية حتى الجنسية واحتقاره إذا كان "مفعولاً به".
من هنا جسّدت المرأة في التراث القديم سلعة غير مرغوب في وجودها. وشاع المثل الخاطىء "المرأة ناقصة عقل...". وتحولت في زواجها إلى سلعة تباع وتشترى. وحُصرت واجباتها في الخدمة المنزلية وإنجاب الأطفال.
ورغم أن هذه القيم البدوية أخذت بالاضمحلال، إلا أن الشعور بالعار تجاه المرأة ما زال قائماً. ويمكن الاستدلال على هذه الظاهرة حتى بين الجالية العربية في المهجر، رغم استقرارهم لسنوات عديدة في المجتمعات الحضارية الجديدة. يضاف إلى ذلك أن الشتائم العامية لا توجه إلى الفرد إذا كان "فاعلا" بل توجه إليه اذا كان "مفعولا به". ومرة أخرى يلاحظ على هذه الشتائم أنها تعبر عن طبيعة القيم الاجتماعية المتخلفة المتواجدة حتى الوقت الحاضر في سلوكية الناس، وتكشف الأبعاد الواسعة لاحتقار المرأة (الجنس) والتي شكلت الخلفية لتبرير وضعها تحت هذا الكم الهائل والقاسي من القيود الظالمة.
ويرتبط بذلك تباين مفهوم "الشرف" ومعناه الحقيقي بين المجتمعات التقليدية- القبلية وبين المجتمعات الحضارية.. ففي حين أن الرجل الشرقي ينظر إلى هذا المفهوم بأن يقبع مباشرة بين فُخذي نساء عائلته، ويتصدى لكل ما يُسيْ لهذا المفهوم من واقع شعوره بمسئوليته، للحفاظ على مكانته اجتماعياً.. يُلاحظ على المجتمع الحضاري أن شرف المواطن يتركز في عمله، سلوكه الاجتماعي- القانوني بالعلاقة مع مجتمعه، ونظرته الإنسانية، وفي سياق استقلال المرأة ومسئوليتها عن ممارساتها باعتبارها مواطنة لها نفس الحقوق وعليها نفس الواجبات.. من هنا يمكن ملاحظة واحدة من نتائج اجتماعية هامّة عديدة من الاختلاف بين النظرتين الحضارية والقبلية.. تقديس العمل والسلوكية الإنسانية الاجتماعية في الأولى مقابل اهمال هذه المواصفات في الثانية..
وفوق ذلك تكشف ممارسات الرجل مع المرأة عن الازدواجية في شخصيته تجاهها. فهو يرغب في معاملتها كما يعامل الرجل الغربي للمرأة بالعلاقة مع الجنس، بخاصة. أما في حالة اتخاذه قرار الزواج فهو يبحث عندئذ عن إمرأة اخرى تنطبق عليها المواصفات والقيم الاجتماعية السائدة. وحتى في تراثنا الديني والأدبي وممارساتنا العملية فالرجل- الفاعل- هو الذي يبادر ويدعو ويقوم بمهمة "النكاح"! وهكذا ارتبط الجنس بالمرأة فقط في سياق نظرة أُحادية الجانب. ولما كانت المرأة في المفهوم القبلي تقع في خانة "المفعول به"، لذلك خضعت ومعها الجنس إلى أشد القيود والمظالم الاجتماعية، بحيث أصبحت حقوق المرأة تثير من الحساسيات وردود الفعل الشديدة إلى حدود تتجاوز حتى حساسيات الدين والكفر والزندقة.
السابعة: العصبية والتفاخر والحماسة (غياب النقد والموضوعية)- الموضوعية objectivity هي البحث في مسألة ما دون التأثر بأي من الدوافع الذاتية سواء كانت عاطفية أو مصلحية أو عقائدية وما شابه. بل تركيز الجهد على استكشاف سرائر الموضوع محل البحث كما هو في واقعه. بمعنى أن يكون الشخص/الباحث محايداً غير متحيز في نظرته للموضوع (المشكلة) ويعمل على إظهار ما ينطوي عليه من إيجابيات وسلبيات بالاستناد إلى أدلة محايدة وملموسة، وهذا ما تحتاجه حتى مناقشاتنا الاجتماعية العامة. ومثل هذا المنهج العلمي في البحث لا يمنع، بل ويتطلب، أن يكون للشخص/الباحث موقفه الفكري (النقد الموضوعي) في الحكم على معطيات الموضوع للخروج بالنتائج وتقديم المقترحات المناسبة.
يمكن القول أنه لا مكانة لمثل هذا المنهج الموضوعي في قيم التراث القديم التي تقوم على العصبية والولاء المقدس للجماعة، والاعتقاد بالصواب المطلق لأفكارها وممارساتها. وهذا ما عبّر عنه الشعر البدوي الذي يقوم على التحدي، المفاخرة، والحماسة للعشيرة من جهة والقدح والذم لأعدائها من جهة أخرى.
الثامنة: البداوة والشهامة والنخوة (الولاء على حساب الكفاءة)- يقوم منطق البداوة على الشهامة والنخوة والدخالة ومبدأ الخطية واحترام الجيرة والفضل والملح والزاد والصداقة والقرابة وعلاقات النسب- الدم والألقاب وما يماثلها. وهي قيم لها مزاياها في ظل السلطة الأبوية والعلاقات الشخصية التي تنظم المجتمع البدوي. لكنها لا تتفق مع العلاقات الحضارية الحديثة التي تقوم على مبدأ الفردية والنظرة الوظيفية للمسئولية والتزام مبدأ الكفاءة والخبرة في إدارة شئون المجتمع.
إن بقايا آثار هذه القيم البدوية في مجتمعاتنا المعاصرة تجلّت، على الأقل، في مجالين: أولهما اعتماد الوساطة والرشاوى للحصول على الوظائف والمراكز الحكومية وتمشية الأمور المعلقة بين الأشخاص وبين مؤسسات الدولة (العقود والمناقصات مثلاً). فالحالة الأولى تقود إلى الإخلال بأحد المبادىء الرئيسة للعدل الاجتماعي ألا وهو مبدأ تكافؤ الفرص، بالإضافة إلى الإخلال بمبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. أما الحالة الثانية فهي تساعد أولئك الأفراد على ابتلاع حقوق الدولة- المجتمع وغض الطرف عن الواجبات الملقاة على عاتقهم والإخلال بحقوق الآخرين.. وثانيهما أن آثار هذه القيم البدوية قد تطورت في السياسة المجتمعية إلى قلب أحد أهم مبادىء الإدارة الحديثة، ألا وهو تطبيق مبدأ الولاء قبل الكفاءة.
التاسعة: العصبية والتعصب (غلبة المثالية/الطوباوية والتطرف)- يقوم منطق العصبية على ولاء الفرد المطلق إلى جماعته والإيمان بأحقية الجماعة- أفكاراً وممارسة- إلى درجة العقيدة التي ينشأ في ظلّ بيئتها منذ طفولته. مقابل النظر إلى الجماعات الأخرى نظرة رافضة- متدنية و/ أو عدائية. وتقترن العصبية بالمثالية والأحكام المطلقة والعنف في سياق عدم الاعتراف بحق و/ أو وجود الطرف الآخر.
من المعروف أن العصبية للعشيرة- القبيلة كانت قائمة قبل ظهور الإسلام. ومع أن الدين الجديد دعا إلى إلغاء العصبية القبلية وتحريمها، إلا أنه لم يلغ العصبية في حد ذاتها. بمعنى أن الإسلام اتجه من الناحية العملية إلى تحويل العصبية القبلية لصالح العصبية للدين الجديد، مع ملاحظة أن العصبية الدينية (المعتقدية) مسألة ترتبط بالعالم الآخر. وفي ظروف غلبة الأفكار السلفية وإصرارها على اعتبار الدين نظاماً اجتماعياً شاملاً، من هنا عاشت العصبيتان جنباً إلى جنب وبقوة نسبية متفاوتة. ذلك أن الدين بطبيعته يقوم على الأفكار العقائدية المثالية المطلقة. حيث شهدت مراحل الحضارة العربية الإسلامية أشكالا من التعصب الديني والمذهبي والطائفي، والدعوة أحياناً، بل وتطبيق استخدام العنف وتصفية الآخرين بتهمة الكفر والزندقة.
تعمقت العصبية في الفترة المظلمة مع زحف البداوة على المدينة. وتعددت أشكالها لتمتد من العصبية القبلية والدينية والمذهبية والطائفية إلى العصبية للمدينة والمحلة. وظلّت آثارها تطبع سلوك الناس حتى بعد نشوء دولهم المعاصرة. بل أنها تطورت لتزحف على الساحة السياسية. فظهرت أحزاب سياسية تفتخر بالإدعاء على أنها أحزاب "عقائدية" دون أن تدرك أنها تكون وفق هذا الإدعاء قد تحولت من كونها منظمات سياسية- اجتماعية، تقوم على العقلانية في أفكارها وممارساتها الدنيوية، إلى هيئات دينية تقوم على المثالية والأحكام المطلقة والموعظة الخطابية في غياب وتحريم النقد والموضوعية والنظرة النسبية إلى الحياة الدنيوية.
تقترن العصبية بأفكار المنهج الارسطي القديم وجمهورية افلاطون والمدينة الفاضلة لـ فارابي والأفكار المثالية- الطوباوية غير القابلة للتطبيق في الحياة الدنيوية. إذ كان هذا المنهج يصطنع مثلاً عليا للإنسان- المجتمع ويدعو الناس من خلال الموعظة الخطابية إلى تبنّيها وتحقيقها في غياب القدرة على تنفيذها لارتباطها باحكام مطلقة تخص العالم الآخر، وهذا مستمر لغاية الوقت الحاضر. مثال ذلك اقتراح اختيار الحاكم العادل لبناء المجتمع الفاضل الذي يسوده الحق والعدل، دون إدراك غياب مثل هذه الشخصية المثالية في الحياة الدنيوية، لأن شخصية كل إنسان تضم بطبيعته الشيء ونقيضه بنسب متفاوتة. من هنا أهمية وضرورة المسئولية والمساءلة..
كما أن النظرة التقديسية للأفكار المثالية- الطوباوية وما تتضمنها من الأحكام المطلقة والتطرف والعنف وعدم الاعتراف بالطرف الآخر، خلقت بيئة طاردة للنظرة الواقعية والحلول الوسطية في مواجهة مسألة التنازع والتعاون المتجسدة في شخصية الفرد- المجتمع. بل وخلطت بشكل مخلّ بين مبدأ الواقعية الذي يقوم على العمل بالممكن للصالح العام في إطار الهدف المرسوم، أي الواقعية المبدئية، وبين صفة الانتهازية التي وإن كانت تقوم أيضاً على العمل بالممكن إلا أنها تعمل في غياب نظرة مبدئية وبغية تحقيق المصلحة الذاتية.
كذلك تتسم العصبية بتصنيف أمور الحياة الدنيوية وفق نظرة أُحادية مطلقة: خير أو شر، حق أو باطل، وطني أو خائن.. وهذه النظرة المثالية تهمل بشكل تعسفي نسبية الحياة الدنيوية. لأِن في حكمها لصالح أحد طرفي الثنائية، تتناسى ما بينهما من حالات وسطية (بدائل) واسعة لا نهائية.
العاشرة: صراع البداوة والحضارة (تناقضات فردية واجتماعية/ الازدواجية)- عندما تبدأ ولادة حضارة جديدة في مجتمع حقق درجة مناسبة من النضوج والتطور عندئذ تأخذ عملية النمو والتحديث في صورتها العامة التوازن والشمولية على مستوى المجتمع، بالإضافة إلى السرعة المناسبة في حسم الصراع بين القديم والجديد، بحيث يقود نمو الجديد إلى ضمور القديم أما بالتخلي عنه نهائيا أو تكيفه واندماجه ليكون جزءاً من الجديد. ولكن عندما تكون الحضارة "مستوردة"، أي عندما تزحف وسائل الحضارة الجديدة بأفكارها وقيمها ومخترعاتها إلى مجتمع راكد عندئذ تتصف عملية زحفها بعدم التوازن والشمولية، خاصة في مراحلها الأولى، علاوة على امتداد فترة الصراع وحِدته بين القديم والجديد. وهكذا يبقى القديم إلى جانب الجديد في صراع مستمر يخضع أمر حسمه بسرعة ونجاح إلى مدى سرعة واستمرارية ونمطية نمو المجتمع واستقراره، بما في ذلك سرعة ونوعية العملية التعليمية والثقافية، ودرجة قوة الجماعات الإصلاحية، ودور الدولة في بناء مؤسسات قادرة على توليد عناصر الحضارة الجديدة وامتصاصها. هذا التعايش المضطرب يولد- على الأقل- ثلاث تناقضات:
أولها: تناقضات في أفكار الفرد وممارساته- وتعود إلى نموه في طفولته ومن ثم نضوجه تحت سقفين حضاريين متغايرين. إذ ينشأ في طفولته على قيم التراث القديم (العصبية، الغزو، الانتصار، الشقاوة، الشهامة..). ويتشبع الفرد بهذه القيم لتعيش في دمائه بمنزلة العقيدة. أما في شبابه فهو يعيش أفكاراً جديدة مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن أفكاره الجديدة هذه تنكر عليه- بحق- أفكاره القديمة. وبالمقابل تمنعه معتقداته القديمة من الخروج عن قوقعة الطقوس الاجتماعية، خاصة في بداية التحديث، حيث لا زال صوت القديم جهوراً ومسموعاً في المجتمع.
وهكذا يعيش الفرد في صراع داخلي قاس بين منطقه العقلي المتجه نحو التحديث وبين عواطفه ومشاعره المتشربة بالقيم المعتقدية القديمة. وهذا الصراع الداخلي يجد ترجمته في ممارساته الاجتماعية المتناقضة سواء في مجال العمل أو العائلة أو الدين. فهو يدعو مثلاً إلى محاربة الوساطة ويجد نفسه مجبراً على ممارستها من منطق القرابة والصداقة والجيرة والنخوة والشهامة. ويدعو إلى حقوق المرأة، وقد يمارس الحرية الجنسية بشكل ما، لكنه عند الزواج يختار أخرى، بل وربما يقدم على "غسل العار" إذا مارستها واحدة من عائلته، كما سبقت المناقشة. وليس منظراً نادراً ملاحظة عناصر من "الفئة المتنورة"، قاضياً كان أم مدرساً أم محامياً، وهم يمارسون شعائر محرّم وعاشوراء بالمشاركة في"اللطمية" والممارسات العنيفة الأخرى المماثلة القائمة على تعذيب الذات. وهذه التناقضات تقود إلى الفصل التعسفي بين أقوال الفرد وأفعاله، بما يعنيه من ضعف الوعي الاجتماعي و"ازدواجية الشخصية".
وثانيها: تناقضات في افكار المجتمع وممارساته- وتظهر هذه التناقضات على مستوى السلوكية الاجتماعية نتيجة الصراع بين الجديد والقديم، أو ما قد يمكن تسميته بـ "الازدواجية الاجتماعية". وهنا يسود في المجتمع خطابين: أحدهما قديم يقوم على الوعظ بدعوة الناس إلى التمسك بالقيم المثالية المعقتدية المطلقة القديمة.. وثانيهما حديث يقوم على العقلانية في سياق الاهتمام بحياة الناس الدنيوية وممارساتهم الفعلية.
وثالثها: وهم الجمع بين القديم والحديث- ففي سياق زحف الجديد على القديم في هذا التبلور الحضاري، يدعو البعض من أهل الفكر القديم إلى الجمع بين مزايا الحضارتين. وهذه الدعوة يمكن أن تُستخدم عادة لمحاربة القادم الجديد. وقد تُعبر عن ضعف إدراك مفهوم الحضارة و/ أو ضمان مصالح ثابتة. لأن الحضارة ظاهرة كلية لا يمكن تجزئتها. وهنا يلجأ أهل الفكر القديم إلى الدين واستمالة الهيئات الاجتماعية المحافظة النافذة للوصول إلى سلطة الدولة بغية استخدام وسائل قسرية لإيقاف أو إبطاء حركة التطور والتحديث، وهو ما يزيد من حدة التناقضات المجتمعية.
تتصف الحضارة البشرية بالتواصل، أي أنها ليست مقطوعة الجذور، بل هي حصيلة تراكمات حضارية بشرية سابقة. لذلك تشترك الحضارات البشرية كافة بمجموعة قيم إنسانية عامة مثل الحق والعدل والخير والمساواة.. وهي قيم وردت بهذا القدر أو ذاك في مختلف الأديان والعهود، إلا أن الفرق بين الحضارتين القديمة والحديثة هي في كيفية التعامل مع هذه القيم المثالية. فالحضارة القديمة تنظر اليها باعتبارها أهدافا إنسانية وحلولاً اجتماعية. وتدعو الناس من خلال الوعظ الخطابي المعتقدي إلى بلوغها. بينما الحضارة الحديثة تنظر اليها باعتبارها قيماً فلسفية وتتعامل معها بطريقة عقلانية على أنها مظلة اجتماعية عامة بقيمها المطلقة. وتتركها للفرد دون تدخل السلطة في سياق مبدأ العلمانية والحياد الديني وعدم اتخاذها موقفا متمايزاً تجاه الأديان المختلفة في المجتمع.
بمعنى أن الحضارة الحديثة تقوم على الواقعية والنظرة النسبية وتُقدم وسائل جديدة من أفكار وقيم وسياسيات وبرامج تستهدف دراسة الإنسان- المجتمع واكتشاف طرق جديدة ومخترعات حديثة لمساعدته على تحقيق التطور المتصاعد في حياته المعيشية- الاجتماعية. من هنا فالحضارة الحديثة لا تبرر الفقر مثلاً ولا تدعو إلى السكوت على الظلم الاجتماعي بوعود دخول الجنة في العالم الآخر، بل تقوم أصلا على منطق بناء الإنسان- المجتمع جنته في الأرض!



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الظروف الاجتماعية للجالية العربية في السويد- ق2- ف1-ف2
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- ق1.. ف7- ف8
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- ق1.. ف5، ف6
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد: ق2/ ف3- ف4
- الشرطة المصرية تقتل 34، وتُعذب 88 في المئوية الأولى لحكم مرس ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد:ق1/ ف1-ف2
- العراق يُسجل ارتفاعاً كبيراً في التشوهات الخلقية للولادات
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد ق1/ف1
- القرار الغامض لتدمير الأنفاق
- حضارة وادي الرافدين- الفصل العاشر- المؤسسة الدينية
- حضارة وادي الرافدين،ميزوبوتاميا9،- العقيدة الدينية.. الحياة ...
- حضارة وادي الرافدين- ميزوبوتاميا، 8- العقيدة الدينية.. الحيا ...
- ميزوبوتاميا 7،- العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الأفكا ...
- ميزوبوتاميا،- العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الأفكار ...
- ميزوبوتاميا4: -العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الأفكار ...
- ميزوبوتاميا 3،- العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الأفكا ...
- الكشف عن فضائح الفساد في العراق قد يُجسّد ظاهرة سياسية دموية ...
- أوباما يفوز جولة في سعيه لحبس الأمريكيين دون محاكمة
- ميزوبوتاميا2، -العقيدة الدينية.. الحياة الاجتماعية.. الأفكار ...
- مرحبا بكم في معسكرات العمل الأمريكية: استخدام قوانين الالتزا ...


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية / هاشم نعمة
- من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية / مرزوق الحلالي
- الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها ... / علي الجلولي
- السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق ... / رشيد غويلب
- المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور ... / كاظم حبيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟ / هوازن خداج
- حتما ستشرق الشمس / عيد الماجد
- تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017 / الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
- كارل ماركس: حول الهجرة / ديفد إل. ويلسون


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة - عبدالوهاب حميد رشيد - الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. ق2: ف3- ف4