أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - نافذ الشاعر - في سيناء (سيرة ذاتية)















المزيد.....

في سيناء (سيرة ذاتية)


نافذ الشاعر

الحوار المتمدن-العدد: 4026 - 2013 / 3 / 9 - 18:08
المحور: سيرة ذاتية
    


اتصل ابن عمي صباحا ليقول إن عمتي التي تسكن في سيناء، توفيت إلى رحمة الله، وعلينا أن نذهب إلى سيناء قبل موعد دفنها لتشييع جنازتها، فأسرعت بارتداء ملابسي، وخرجت إلى المكان الذي تواعدنا لنلتقي فيه، ومن هناك انطلقنا إلى الحدود المصرية لنصل سيناء قبل أن ينتصف النهار.
وصلنا إلى المنطقة الحدودية ولم يكن هناك منازل سكنية، إنما هي أكشاك متناثرة على أرض ترابية، تثير غبارا ناعما عند أقل خطوة عليها، فتزكم الأنوف، وتصبغ الأقدام والوجوه والثياب بلون أبيض مغبر..
وكان هناك بعض أفراد الشرطة ينظمون حركة الدخول والخروج للأنفاق وقد علتهم همة ونشاط، فتوجهنا إلى مبنى التنسيق، وهو عبارة عن فناء فيه عدة غرف يفترض أنها مكاتب، ويجلس فيها أشخاص يفترض أنهم موظفون، ويُصدرون أوراقا مختومة يفترض أنها تصاريح لمن يريد أن يعبر إلى سيناء عبر أنفاق التهريب..
والأنفاق أنواع، فهناك أنفاق دخول البضائع وهي كثيرة، وهناك أنفاق دخول السيارات المسروقة أو المهربة وهي قليلة، وهناك أنفاق دخول المشاة..
أما أنفاق دخول المشاة فهي درجات، فمنها أنفاق درجة أولى وهي مريحة وواسعة والسير فيها يكون لمسافة قصيرة، ولا يحتاج السائر فيها إلى كثير نزول أو صعود، لكنها مرتفعة الثمن يبلغ سعر تذكرة دخول الشخص ما يعادل 350 جنيها. وهناك أنفاق درجة ثانية فيها نزول في بئر عميق عبر مصعد كهربائي مصنوع بشكل يدوي وهي واسعة نوعا ما، ويبلغ سعر الدخول منها للشخص حوالي 250 جنيها.
وهناك أنفاق درجة ثالثة، وهي أسوأها جميعا، وهي للبضائع وليست للمشاة، وهي التي اخترناها للدخول توفيرا للنقود، ولقربها من بيت المرحومة عمتي، حيث كان النفق لأحد أقربائي فتم إدخالنا منه مجانا، ولم يطلب منا نقودا في غمرة تأثره وانفعاله بحادثة الوفاة..!
ويبدأ دخولنا من النفق بالنزول في بئر عميقة يبلغ عمقها أكثر 40 مترا، (علما أنه لا يوجد ماء في البئر)!
نزل قبلي ابن عمي الصغير المتعود على العمل في الأنفاق، فتدلى في قاع البئر كما تفعل القرود في الغابات. فلما جاء دوري في النزول أحسست بشيء من الرهبة والخوف بسبب عمق البئر واهتراء الحبل، واحتمال انفلاته في أي لحظة لأنه غير مثبت بشكل آمن، أو هكذا تخيلته.!
وطاف في مخيلتي مآسي ومصائب أشخاص أعرف بعضهم، لقوا حتفهم في الأنفاق بسبب هذه الأمور التافهة، أو بسبب قصف النفق بطائرات أف 16 الإسرائيلية أثناء عبور الناس، على غير توقع منهم وانتظار. لكن لم يكن هناك متسع للتفكير أو الاختيار، والأعمار بيد الله..!
ويتم النزول في البئر، بأن يربط الشخص نفسه بأنشوطة تشبه المرجيحة أو المشنقة معقودة في طرف حبل طويل، ويتصل هذا الحبل ببكرة حديدية، مثبته في أعمدة خشبية مغروسة على حافة البئر، ويقوم المسئول أو العامل بإنزال الشخص رويدا رويدا حتى تصل أقدامه إلى أرض البئر بسلام.
ولما وصلت إلى الأرض نظرت فإذا بممر ضيق باتجاه سيناء، فانطلقنا فيه، وكان النفق مظلما يبلغ ارتفاعه حوالي مترين إلا قليلا عند بدايته، ويبلغ عرضه حوالي مترا ونصف المتر. وسرنا في هذا الممر الضيق ونحن نتحسس الأرض كالعميان، ونحاذر أن نصطدم بشيء على الأرض أو في السقف، وكلما قطعنا عدة أمتار وجدنا لمبة كهربائية خافتة لا تكاد تبدد شيئا من ظلام النفق الحالك، وحبونا على أرجلنا وأيدينا عدة مرات، وغطست أقدامنا في حفر مائية صغيرة، وربما لم تكن حفر ماء إنما شيئا آخر، وتصبب العرق منا غزيرا ونحن نتطلع إلى النور الذي سينبثق من نهاية النفق بعد قليل، فلم نجد شيئا في هذا النفق الحلزوني الطويل الذي كان يبلغ طوله حوالي 600 مترا، كما قيل لنا.
وأخيرا انبلج من بعيد ضوء النهار، الذي يشبه ضوء الفجر عندما ينبلج من الأفق الشرقي معلنا طلوع الصباح. وبدا الطريق الذي نسير فيه يرتفع قليلا قليلا، وبدأ الهواء يهب منعشا وطازجا، فعرفنا أننا وصلنا النهاية أو اقتربنا من الوصول، وخرجنا من باطن الأرض إلى ظهرها.. وهناك سمعنا صوتا خافتا يقول:
-الحمد لله على سلامتكم..
وكان القائل يلف رأسه بشملة صعيدية فإذا هو ابن عمتي الذي يعمل ناطورا على هذا النفق، فأخذنا بالأحضان ورحب بنا وقادنا إلى حنفية قريبة لنغسل وجوهنا وأيدينا، ونمسح ما نستطيع من ملابسنا لنميط ما علق بها من الأوحال.
وقادنا بعد ذلك إلى منزل عمتي القريب، فاستقبلنا أبناؤها فسلموا علينا وجلسنا بجانب الحائط نتذاكر أسباب الوفاة. فقد كانت عمتي تبلغ من العمر سبعين حولا أو يزيد، وأصيبت بنزيف في الدماغ لم يمهلها سوى يومين وبضع ساعات.
وعند الساعة الحادية عشرة نادوا علينا لنلقي نظرة أخيرة على الفقيدة ونقبلها قبلة الوداع، فدخلنا، نحن أبناء أخيها واحدا تلو الآخر إلى الغرفة التي كان جسدها مسجى في وسطها في طمأنينة وادعة، وكان يقف حولها عدد من النسوة يولولن باكيات صادقات أو غير صادقات، وشعرت بالحرج من وجود تلك النسوة وهن يرقبن كل واحد منا وهو يطبع قبلته الأخيرة على جبين عمته، فيصدرن حكما مفاده: هل هي قبلة حب أو قبلة نفاق؟
وخرجنا واحد تلو الآخر كما دخلنا. ثم حملنا النعش وذهبنا به إلى المسجد القريب فصلينا على الجنازة وأخذناها إلى المقبرة وواريناها الثرى هناك، ثم رجعنا ونحن نشعر أنه قد انزاح عن كواهلنا حمل ثقيل.
وبعد دفنها، ذهبنا إلى (المجلس) الخاص بالعائلة وكان عبارة عن مبنى لبيت على الطراز القديم، حيث توجد فيه غرفتان واسعتان أمامهما ممر بعرض مترين محاط بسور قصير يبلغ ارتفاعه حوالي 60 سنتيمتر، وأمام هذا الممر، الذي هو عبارة عن صالة للجلوس، فناء رملي في ركنه الأيمن حمام صغير وحنفية ماء تحتها حوض أبيض لطخته الأوساخ، وفي الركن الأيسر شجرة زيتون هرمة مغبرة الأوراق، انتصبت هناك بصمت وجمود، وقد حط على أغصانها عصفور وانطلق يغرد.
آهٍ لو علمت عصفوري أن صوتك يكون أصفى، وتغريدك يكون أحلى وأشجى لو كان في غير تلك المناسبة..!

وأحضروا طعام الغداء في عدة صوان مغطاة بأوراق الجرائد القديمة، وكان الطعام أرزا انتثرت فوقه قطع من لحم الدجاج، أما الصواني فقد كانت غير متجانسة مما يدل على أن الطعام مطهي في بيوت كثيرة، أو أنه مطهي في بيت واحد واستعيرت الصواني من بيوت كثيرة، لتكفي عدد الناس الذين يملئون مجلس العزاء، وخصوصا عندما يحين وقت الغداء. أما الاختراع الذي اسمه ملاعق فيبدو أنه لم يصلهم بعد..!
كان أهل سيناء يبدو عليهم التأخر عن أهل غزة كثيرا، سواء في طريقة أكلهم أو لبسهم أو عاداتهم أو في طريقة بناء بيوتهم، ولم يكونوا متقدمين إلا في شيء واحد وهو السيارات الفارهة التي عادت عليهم من التهريب عبر الأنفاق. وكانت سيناء وغزة قديما عبارة عن منطقة واحدة لا يفصل بينهما حدود، حتى جاء ما يسمى (بالفصل) الذي يعني رجوع سيناء إلى مصر، وتم وضع الحدود الدولية التي فصلت بين غزة وسيناء.
كنت أنظر إلى أهل سيناء فأجد أن عاداتهم ما زالت كما هي منذ أن وضعت الحدود التي فصلتهم عن غزة قبل أكثر من ثلاثين عاما. وكرت بي الذاكرة لأيام طفولتي التي عشتها في سيناء، حيث كنت أقضي الصيف بأكمله في بيوت عماتي الثلاث اللاتي يسكن في سيناء، وتوفيت اثنتان، وبقيت واحدة منهن، تلك هي التي انتقلت إلى الدار الأخرى صبيحة هذا النهار. مسكينة..!

وكانت هذه المنطقة قبل ثلاثين عاما منطقة قليلة السكان مليئة بكروم الزيتون والبرتقال، وكنا نقضي سحابة نهارنا في الكروم، أنا وأبناء عمتي، في صيد العصافير، أو في تطيير الطائرات الورقية، أو في رعي الأغنام بين أشجار الزيتون، التي تنساب من تحتها جداول الماء في قنوات أسمنتية مبنية على وجه الأرض، وكنا نصنع مراكب ورقية ونضعها في جداول الماء، ونملأها بالأعواد الصغيرة، ثم نتابع سيرها أينما سارت وهي تتهادى على صفحة الماء الرقراق إلى مسافات بعيدة.
وكان في أطراف كروم الزيتون بئر ماء يصب مياهه في بركة واسعة، لازالت رائحة الطحالب التي خضرت حيطانها تملأ أنفي حتى الآن، وطالما سبحنا فيها بمتعة لا تضاهيها أي متعة في الوجود.
وكنا أحيانا نجلس على ربوة عالية، في وقت الظهيرة، تحت أشجار الجميز المعمرة، نرقب في واد أسفل منا، شجرة (سدر) يقال عنها أنها مبروكة، وقد كانت تأتي إليها النساء من أماكن نائية لتقدم لها القرابين والنذور والطعام، وكان يتردد عنها في ذلك الزمان كثير من الخرافات والأساطير..
كنت أتلفت حولي لأتعرف على شيء من معالم طفولتي في هذا المكان، فلا أكاد أعثر على شيء أعرفه.! فأين يا ترى ذهبت كل هذه الذكريات؟
أما شجرة (السدر) المبروكة فقد قُطعت، وبيعت الأرض التي كانت مزروعة فيها، وأصبحت تمتلئ بالبنايات والسكان والسيارات، ونسي الصغار حكاياتها وقصصها التي كانت تروى عنها. ولله الأمر من قبل ومن بعد..!
أما بركة الماء فلا زالت على حالها. وبئر الماء كذلك، لا زال على حاله مغطى بصفائح الزينكو القديمة الصدئة المهترئة.. لكن أشجار الزيتون زحف على معظمها البنيان، وبقيت عدة أشجار متناثرة تتوارى في رعب وهلع تنتظر سكين المنشار، كما تنتظر الأغنام سكين الجزار، بعدما كبر الأولاد واقتسموا الأرض فيما بينهم. كذلك كبر أبناء عمتي الصغار، وتغيرت ملامحهم وانمحت الألفة القديمة التي كانت بيننا، وأصبح لكل امرئ منا شان يغنيه؟
لقد تمنيت أن أتجول في هذا المكان، ولكن لم يبق من معالمه القديمة أشياء كثيرة للذكرى، وأصبح التجول في هذا المكان يثير الريبة والشبهة، لأن تلك المناطق أصبحت تغص بأنفاق التهريب التي يحرسها أشخاص يرتابون في كل شخص غريب يسير في هذا المكان..!
وا أسفي عليك ذكرياتي..! لم يبق منك إلا طيف يعتاد ذاكرتي! لا أثر له على الرمال التي نمشي فوقها الآن..
وبعد العصر رجعنا من سيناء، ولكننا رجعنا من نفق آخر مريح وأكثر سهولة من النفق الذي دخلنا منه، ولكن هذا الدخول المريح تسبب في مشكلة لم تحل إلا بتدخل الشرطة ودفع مزيد من النقود..!



#نافذ_الشاعر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلام العالمي والإسلام
- غموض الشعر بين الحداثة ونظرية ابن خلدون
- أهل الكتاب
- السحر والعلم والشعر في سورة الشعراء
- مفهوم الحسنة والسيئة في الإسلام
- تأثر أحكامنا بالجمال
- الدروز في القرآن
- التشابه بين الثورات القديمة والمعاصرة (2)
- التشابه بين الثورات القديمة والمعاصرة (1)
- العلاقة بين الترجمة والتمثيل
- مفهوم الميثاق في سورة المائدة
- مفهوم الفتح في سورة الفتح
- التعرّف لا التعارف
- دوافع التطرف في العصر الحديث
- البهائية ونشأت العقائد الدينية
- كيف تنشأ العقائد الدينية (الشيعة نموذجا)
- خلق لكم من أنفسكم أزواجا
- في الجنة زواج لا نكاح
- الفرق بين النكاح والزواج في القرآن
- مثنى وثلاث ورباع..


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - نافذ الشاعر - في سيناء (سيرة ذاتية)