أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - عبد جاسم الساعدي - الإضراب















المزيد.....


الإضراب


عبد جاسم الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 3902 - 2012 / 11 / 5 - 14:55
المحور: الحركة العمالية والنقابية
    


تحل اليوم في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر العام 1968، الذكرى الرابعة والأربعون لإضراب عمال شركة الزيوت النباتية في بغداد.
ولم يزل بعض قادة الأحزاب على قيد الحياة، يتذاكرون ساعات الإعداد والتنظيم والإحاطة بكل مستلزمات الإضراب وشروطه العمالية، في الوقت الذي يعود "حزب البعث" الى السلطة بانقلاب عسكري وتواطؤ مع دول أجنبية وبخاصة "اميركا" ومخابرات عربية وإقليمية لردع الحركة الثورية التي اجتاحت العراق وتأثرت بما يجري في العالم، فكان المزاج ثورياً وبخاصة لدى حركة الكفاح المسلح في جنوب العراق.
ويأخذ الإضراب دلالاته التاريخية والعمالية لا بوصفه حركة منظمة خرجت على التقاليد السياسية والحزبية فحسب، وتعامل العمال المضربون مع "القيادات" الجديدة للبعث بذاكرة وهاجس الخوف والشك من العودة الى فاشية الانقلابيين في 8 شباط الأسود العام 1963، ولم يصدقوا بالوعود الجديدة التي أطلقوها عند انقلابهم الثاني في تموز العام 1968، وكانوا يسمونه "الانقلاب الأبيض".
فالذاكرة واحياء الإضراب إنما تعني إيقاظ الشعور التاريخي والإنساني والانتماء لفائدة الإنسان والعمال في الدفاع عن وجودهم وتجديد معاني النضال والدفاع بأساليب عصرية تناسب حركة الاشتغال نحو حركة عمالية جديدة تنمي سبل الحوار واللقاء وتنقي الشوائب وظاهرة الغثيان والانتظار... التي علقت طوال عقود طويلة بالحركة العمالية والنقابية...
فإعلان الإضراب، كان يعتبر تحديا وامتحانا لكل تلك "الإعلانات" السياسية ومحاولات التواصل معها وبناء علاقات ثقة وشكل "إحراجاً" لقوى سياسية تواطأت مع الحزب "الحاكم" قبل انقلابه وبعده.
والإضراب من جهة ثانية، كان يمثل الحركة العمالية و النقابية في العراق، من حيث الوعي والتنظيم والإدارة والالتزام بقانون العمل، فهو ليس إجراءً مؤقتاً او تعبيرا عن لحظة غضب استثنائية، لأنه استكمل الإجراءات القانونية وخطوات الإعداد والتحضير.
خلق الإضراب طوال مدة الاشتغال به فضاء جميلا للمحبة والوعي والحوار والمناقشات، فكنا نفاجأ في لجنة الإضراب، بحماسة العمال واستعدادهم للانضمام إلى اللجان الداخلية للإضراب.
أخذت لجنة "لحم الأبواب" على عاتقها إعداد مستلزمات الغلق في الوجبة المسائية من دون صعوبات تذكر، اذ كنا ندرك احتمالات الهجوم على العمال المضربين من خلال الأبواب المتوزعة حول الشركة...
ولجنة "صيانة الشركة" وحمايتها من الأعمال التخريبية لان معامل شركة الزيوت النباتية قابلة للاشتعال بخاصة "قسم الهدرجة والمخازن" و "بالات" القطن...
طلبت تلك اللجنة من العمال والموظفين البعثيين مغادرة الشركة على الفور حفاظا على سلامة الشركة وسلامتهم أيضا...
أغلق العمال الباب الرئيس المواجه لشركة الرافدين لصناعة المنظفات... هتفوا بحياة الطبقة العاملة وتاريخها المجيد وكتبوا مطالبهم على لوحات خشبية، كانت تنص على ما جاء في مذكرة الإضراب، بتنفيذ حصة العمال من قانون توزيع الأرباح ومطالب نقابية وعمالية.
بعد حوالي عشرين دقيقة على لحظة إعلان الإضراب، استخدم عدد من العمال البعثيين منهم "مبدر سطام" السلاح على العمال المضربين من جهة الباب الرئيس، واستمر إطلاق الرصاص من دون رد عليهم، لان العمال المضربين كانوا مسالمين، يعتمدون على نص قانوني...
أضاف العمال مطالب جديدة على مطالبهم السابقة في لوحات خشبية منها: إحالة المجرمين بأسمائهم إلى القضاء.
ازداد انتشار قوات الشرطة والأمن والاستخبارات وقوات عسكرية يقودها آمر معسكر الرشيد "فهد جواد الميرة" فصار العمال تحت قبضة الجيش والشرطة فحوصرت الشركة من كل مداخلها وأبوابها...
وكان صوت "صلاح عمر العلي" يلعلع في سيارة البيبسي كولا، ويهدد ويتوعد العمال المضربين، مما قاله:" إن القائمة العمالية الاشتراكية تؤيد مطالبكم، لكنها تحذركم من العناصر التخريبية بين صفوفكم...
وقف مع زمرته المتوترة جدا، وبصحبته ممثل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وآخرون...
- نريد التفاهم والحوار...
- نحن أيضا نريد حل قضيتنا...
- افتحوا لنا الباب لنتفاوض معكم في داخل الشركة...
- اكتبوا وثيقة توقعها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بالاعتراف بحقنا أولا مع مدة زمنية للتنفيذ.
- كيف نتفاوض ونحن خارج الشركة ... فهد جواد الميرة
- مذكرة الإضراب واضحة وقانونية...
- لا، ليست قانونية... ممثل وزارة العمل.
- تستطيع ان تضع هذا القانون الذي بين يديك، تحت إبطك الآن!!
- أنا معروف بمواقفي "اليسارية" اسألوا رفاقكم عني كم قضيت في السجون والمعتقلات من أجلكم، ثم بسط راحة يده الممتلئة للدلالة على "نزاهته"!!
جاء العامل "علي عبو" يشكو من اعتداءات جرت عليهم من جهة الباب الجنوبي للشركة جانب "النهر". تزداد كثافة الحضور العسكري والحكومي والزمر البعثية خارج الشركة، يبقى "صلاح عمر العلي" بحسب مكانته في الدولة والحزب ومسؤوليته في التنظيم العمالي صاحب الرأي الأخير في التعامل مع الإضراب...
بدت الأزمة تميل نحو استخدام "العنف" على العمال المضربين كنت استمع الى أحاديثهم وتعليقاتهم، خلف الباب...
قالوا: نريد ان نتحدث الى "عبد جاسم " و "غضبان احمد"...
- نحن العمال نمثل الجميع، كانوا يردون عليهم...اقتربت من الباب الرئيس وجها لوجه مع "صلاح عمر العلي" وزمرته، كان الى جانبه "فهد جواد الميرة".
- هل تعرفني أنا "صائب" زميلك في المتوسطة النظامية، لماذا الإضراب؟ دعنا نتفاهم إلى حل الإضراب وعودة العمال الى أعمالهم.
أدركت ان زميلي "صائب" يتحدث باسم "امن بغداد"!! لا ترى خلف جدار الشركة غير "طوابير" من المسلحين وقوات الشرطة والجيش وسيارات إسعاف وسيارات النجدة، وعددا من "الدبابات" كانت تستطلع موقع الإضراب في ساعته الأولى.


الهجوم المسلح
بدأت لحظة إطلاق الرصاص على العمال في الواحدة الا عشرين دقيقة ظهرا. شاهدت بنفسي مشاهد الجريمة، اذ وقف العامل البعثي "مبدر سطام" الذي أطلق الرصاص على العمال في الساعة الأولى من الإضراب، يكرر جريمته مرة ثانية بوقوفه على "مرتفع" عند الباب الرئيس للشركة ويصوب الرصاص بصورة عشوائية، كان الى جانبه صلاح عمر العلي وفهد جواد الميرة وآخرون من "أزلام" الحزب والسلطة!!
سقط العامل النقابي "جبار لفتة" شهيدا أمامي رافقت إطلاق الرصاص حملة الهجوم على العمال من جهة "النهر" بدخول زمر من "البعثيين" وقوات الشرطة والأمن، واجه العمال عصابات العنف والاعتداءات بالزجاج وأسلاك الحديد والطابوق...
الا ان قوة البطش، أعادت للذاكرة، الصفحات السوداء من تاريخ العراق الحديث في 8 شباط 1963.
اعتقلت قوات الأمن والاستخبارات عشرات العمال وزجتهم في مركز شرطة "المسبح" وامن بغداد، كان منهم العمال:
غضبان احمد، شنشل عبد الله، فاضل حبيب، شاكر حلو، هاشم حسن، حسين كاطع، كرم مشجل، مجيد مؤمن ، علي عبو، حسين جخير، محمد عبد، هاشم حمدي، خلف محمد.
يذكر ان حملات اعتقال أخرى جرت مباشرة على العمال المضربين في مداهمة بيوتهم ممن لم يعتقلوا بعد الهجوم المسلح على العمال، استخدموا أساليبهم الوحشية في الاعتداء على عوائلهم وإدخال الرعب عليهم، كان منها ان فقد العامل النقابي "فاضل حبيب" ابنه "نعمان" الذي لم يكمل عامه الاول عند العبث بفراش نومه.
تركزت إجراءات التحقيق في اتهام "عبد جاسم" بأنه هو الذي قتل العامل النقابي "جبار لفتة" او في اضعف الاحتمالات بأنه كان يحمل مسدسا وقت الإضراب!!
ان القصص التي يسجلها العمال المعتقلون وبخاصة "غضبان احمد" والعامل النقابي "شنشل عبد الله" وآخرون، تعبر عن الوحشية التي كانوا يمارسونها على العمال لانتزاع اعترافات كاذبة، مفادها ان العامل "عبد جاسم" هو الذي قتل النقابي "جبار لفتة".

صيدلية الشركة... الملاذ الآمن ...
إنها مصادفة لا غير، اذ طلبت في وقت مبكر من صباح الإضراب من احد العاملين في " الصيدلية" مغادرة الشركة لعدم الاطمئنان اليه، فوضعت مفتاحها في "جيبي".
تفرق العمال، بعد انتشار الرعب وسقوط عدد من الجرحى واستشهاد العامل النقابي "جبار لفتة" فآثر قسم منهم السلامة بالخروج من الشركة، واعتقل آخرون...
وضعني المشهد العمالي بكل تفاصيله، ان ابقى شعوريا في الشركة وإلا خرج منها لحظة الهجوم المسلح، ولا بعده، على الرغم من إلحاح زملائي بالخروج معهم، لإنقاذ نفسي من الآتي!!
أخرجت المفتاح من "جيبي" دخلت غرفة الصيدلية الصغيرة جدا، لا تتسع حتى لسرير واحد.
أسدلت الستارة الكثيفة بالتمام، وأغلقت الباب، جلست على "الكرسي" الوحيد فيها عند الباب، من دون صرير او حركة.
عليك ان تحافظ على الهدوء والاتزان، دع عنك الخوف والقلق!
مشهد تمثيلي لا محال من الاستغراق في تفاصيله والنهايات مفتوحة على كل الاحتمالات.
تأتيك أصوات رعب، سيارات إسعاف، نجدة، سحب أقسام أسلحة، حركة جند، شرطة...
- قف، لا تتحرك!
- انه هنا في الصيدلية...
- اخرج منها لك الأمان...
- مضت ثلاث ساعات على وجودي، اضطرابي، الساعة الرابعة مساءً.
- بدأ العد التنازلي في البحث عن مخرج، الى متى سأبقى في الصيدلية.
- لماذا لم يقتحموا الصيدلية اذا كانوا مقتنعين بوجودي فيها! إنهم لا يريدون ارتكاب حماقة جديدة، كانوا يتصورون بأنني احمل سلاحا! تقع غرفة الصيدلية في جهة منعزلة عن معامل الشركة والإدارة، لكنها بالقرب من مغاسل الشركة.
- ماذا يجري لو خرجت من "الصيدلية" الى عمال الوجبة المسائية وحصلت على بذلة عمل، ألبسها لحين الخروج من الشركة...
بلغت الساعة الخامسة مساءً.
- كل العمال طيبون، سيوفرونها ويبحثون عن مخرج لي من الأزمة...
هدأت الأصوات خارج الصيدلية، بدأت تختفي، لا يحتمل البقاء في هذا المكان أكثر من أربع ساعات، مزقت كل الأوراق أتلفتها، عن الإضراب واللجان، وما يتعلق بأسماء المشاركين وقصاصات أخرى...


لحظة القبض عليه...
وضعت خطواتي الأولى بحذر شديد، خارج الصيدلية. صرخ احد الموظفين البعثيين: "هذا...".
سحبوا أقسام أسلحتهم، واخذوا حال الانبطاح. واجهت شرطيا ممددا، كان يعاني من النهوض؛ لان "كرشه" لا يساعده على الحركة.
- لا سلاح معه... قال احدهم.
وجدت نفسي بين ثلة من الشرطة والنجدة والانضباط العسكري، تعالت أصوات الاتصال:
- نعم سيدي، القينا القبض على المجرم الأول.
وضعوا القيد في معصمي منذ لحظة الاعتقال. بدت الشركة حزينة، شاحبة، تحولت الى ثكنة عسكرية. تحركت سيارات النجدة مع عدد من سيارات الشرطة والانضباط العسكري الى مركز شرطة "المسبح".
يشهد المكان حركة من الفوضى والإضطراب، تأتيك أصوات التعذيب والرعب.
- من قتل العامل "جبار لفتة"؟
- اين الأسلحة التي كانت معكم في الشركة؟
- لا سلاح معنا، نحن عمال مسالمون، وإضرابنا قانوني في كل مراحله.
- الأدلة التي بين أيدينا تؤكد بأنك أنت الذي قتلت العامل "جبار لفتة".
- انه من أعضاء اللجنة النقابية ولجنة الإضراب...
- انتقلنا جميعا من التحقيقات الأولية في مركز شرطة المسبح الى معتقل امن بغداد.
- كن مطمئناً، نحن محققون مهنيون، غير حزبيين...
- ينادي ضابط التحقيق على العمال المعتقلين، واحداً واحداً.
كنت مقيدا في سلسلة خلف المحقق.
- هل شاهدت "عبد جاسم" يحمل مسدسا او يطلق الرصاص؟
- لا، لم أشاهده.
- كنت اشعر بفرح غامر، عند متابعتي التحقيق مع العمال وابعث إليهم إشارات محبة واعتزاز لموافقهم وصمودهم.
تكرر السؤال على عامل، ضعيف بصره، يعمل في مخازن القطن.
- هل شاهدته؟
- لا،لا سيدي،انا لا اعرفه سيدي انه سبب المشاكل كلها...
- هل تعرفه، اذا عرضته عليك؟
- لا،لا اعرفه، ولكنني اسمع به كثيرا.
وضعت في غرفة "انفرادية" صغيرة جدا، في ما كان يسمى الموقف "الصغير" ووضعوا زملائي العمال في الموقف "الكبير".
زجوا أصدقاءنا من قيادة الحركة الاشتراكية العربية في اليوم الثاني من الإضراب في غرفة ضيقة، لبيان الاحتجاج والاستنكار المملوء غضبا وتضامنا مع إضراب عمال الزيوت النباتية، فكانت له الريادة والوضوح في إدانة الهجوم الوحشي المسلح على إضراب سلمي، الى جانب بيان الحزب الشيوعي العراقي/ القيادة المركزية.
زارني في غرفة التوقيف "الانفرادي" زميلي في متوسطة "النظامية" ضابط الأمن "صائب" للمساعدة في أخبار عائلتي بالاعتقال والسلامة. نادى على رئيس العرفاء "جبر" بمراعاتي بخلاف آمر معسكر الرشيد "فهد جواد الميرة"، الذي قال: "اعتقلت أفراد الانضباط العسكري لأنهم لم يقبضوا عليك، وقعت بيد شرطة النجدة، أنت محظوظ!
وقال آخر: "أختر الطريقة التي تناسبك في الموت"!


المعتقل
أمضيت عاما في معتقل مديرية الأمن العامة في بغداد، اشعر بالحيوية والثقة بالعمال والناس والحياة، في خضم حركة وحضور وانتماء اجتماعي. نجوت من الموت في لحظة اطلاق الرصاص علينا، كنت الى جانب رفيقنا الراحل "جبار لفتة"، بقيت واقفا، كأنها لحظة غضب على وحشية الهجوم.
كان الخياط "سلامة" اللبناني الجنسية "مختار" المعتقل، يسأله المعتقلون الجدد، يقدم إليهم المساعدات. اتهم بأنه سرب معلومات عن انقلاب عسكري ينظمه البعثيون على الحكم العارفي، لان محله كان يرتاده عدد من العسكريين القوميين.
وقف ذات يوم أمام غرفتي الانفرادية، وبسؤال استفزازي، قال:
- الا فكرت يوما بأنهم سيقتادونك الى الإعدام؟
كان الموقوفون في معظمهم يتجنبون الوقوف والكلام معي، خشية العيون التي تترصدهم. كنت أتسلى بجهاز الراديو الصغير وقراءة صحف الحكومة.
لكن شابا يهوديا لم يبلغ العشرين من عمره، كان يقضي ساعات معي، يحكي قصة اعتقاله وأفراد أسرته، لوجود نيه في مغادرة العراق. انه من الطلاب الأوائل في الثانوية وجامعة "الحكمة". كانت العائلة تضع برامج شهرية للقراءة والحوار والمناقشات لمعالجة أزمة العزلة. أدهشني الشاب لمعلوماته العامة في التاريخ والجغرافية، يضع خارطة العالم بكل تفاصيله في ذهنه.
كان الموقف يكتظ بالقادمين اليه، من السياسيين والمعارضين وما يسمون بالجناح السوري لحزب البعث، ورجال الدين والعشائر والخارجين على البعث نفسه او الذين تعاونوا عليه مع النظام العارفي... انهم خليط غريب من المجتمع، يمكن ان تجد المهربين وتجار "الحشيش" و"المقاولين" الذين لم يخضعوا كما يجب لفروض "الإتاوة" ومن رجال الاستخبارات العربية والدولية...
كانت موجات الاعتقال تجري على الجبهات كلها، ولعل من أهمها في ذلك الحين، مطاردة الجناح السوري لحزب البعث في العراق وحملات الاعتقال على طلبة المدارس الدينية في النجف.
يحتج البعثي الشقي "قيس الجندي" على الاكتظاظ، يهز باب المعتقل بعنف مع شتائم وألفاظ قاسية على جماعته. تصل المعتقل بعد ساعة زمرة شابة مسلحة من ثلاثة أشخاص، تلوي يديه على ظهره وتقوده خارج المعتقل من دون ان يتفوه بكلمة واحدة، عاد الجميع بصمت موحش الى أماكنهم.
كان "ناظم ﮔزاز" رجل البعث في الشارع لملاحقة الجناح الآخر، يعرفهم فردا فردا. ولعل حادثة اغتيال العقيد "عبد الكريم مصطفى نصرة" من العمليات الاولى في التصفيات الجسدية.
كان الجندي (س) يعذب يومياً بوصفه مرافقا للعقيد، ليردد كلمات في التلفزيون العراقي، لا يقوى على اتهام نفسه بها، بأنه قتل "العقيد" ليسرق ماله وسيارته ويتجه بها نحو الحدود مع السعودية!!
كان العدد كبيرا من الشباب البعثيين/ جناح سورية، تآلفوا مع المعتقلين جميعا من دون أزمات، تلقفوا أغنية "فاضل عواد " الجديدة "لا خبر.. لا جفية.. لا حامض حلو.. لا شربت.." يرددونها بين حين وآخر، خلقوا أجواء مرح في المعتقل. شعروا بالإحراج من التهمة الأخلاقية التي وجهها البعث الحاكم الى العقيد ومرافقه للتنكيل به وتصفيته جسدياً واخلاقياً.

تصل بين الحين والآخر أعداد من قيادات الحزب الشيوعي العراقي/ القيادة المركزية، بعد انهيارات "عزيز الحاج" العلنية واعترافاته، خطفهم جلادو النظام وغاب بعضهم في التعذيب، الا ان قصة اعتقال إحدى اللجان التنظيمية المهمة في قيادة الحزب الشيوعي العراقي، كانت ذات شأن خاص، كان منهم: مهدي عبد الكريم وحسين سلطان و "ابو شلال"، روج البعثيون عند التحقيق معهم تهمة دنيئة وخبيثة للسخرية بهم، بأنهم كانوا يظنون بان المنزل التي داهموها كانت دار بغاء في مدينة "الثورة"، أطلقوهم بعد ايام، وابقوا "مهدي عبد الكريم" لأيام أخرى، ثم أطلقوه بكفالة مالية لحيازته مسدسا!


الإضراب عن الطعام
أضربت عن الطعام في غرفتي الانفرادية لمدة خمسة عشر يوما. طالبت بإجراء تحقيق عادل وتقديمنا الى المحكمة، والسماح بالزيارات وفتح باب المعتقل الانفرادي، الذي دام اعتقالي فيه حوالي أربعة اشهر، غضبت إدارة الأمن العامة، واستخدم "المدير" بنفسه أساليب من التعذيب في مكتبه.
كان الطبيب يعاودني بين الحين والآخر، حتى تحققت مطالبنا فكانت الزيارة الأولى لعائلتي واندمجت مع المعتقلين.


إبراهيم زاير...
دخل المعتقل شاب طويل القامة، أفصح في الحال عن اسمه ومهنته، انه الصحافي في جريدة الجمهورية "إبراهيم زاير"، قرأت له وسمعت عنه فاستقبلته بما يليق به، وكان صديقنا الكاتب "جمعة اللامي" البداية الأولى في الحديث عن الكتابة والصحافة وبناء علاقة ومودة مع القادم الجديد.
كان مضطربا، قلقا، وجدت نفسي قريبا منه، تحدث عن عموده الصحافي في الجريدة والأسباب التي ساقته إلى المعتقل، انتقد الصحافيين الذين يبالغون في المديح من دون فائدة او ترو، فإقامة المعارض الفنية في خارج العراق لابد ان تعتمد على الكفاءات الفنية، لا على العلاقات الشخصية، لكنهم "قادرون على إدخال الجمل في خرم الإبرة..."، ذهب المثل في تفسيرات أخلاقية، كان يراد بها الإشارة إلى وجود علاقات شخصية بين وزيرالخارجية"عبدالكريم الشيخلي"والفنانة التشكيلية"....".

بقي الفنان والكاتب "إبراهيم زاير" في المعتقل حتى عودة الوزير إلى العراق، فكان يستدعى بين مديرية الأمن العامة والقصر الجمهوري، ليوضح مقصده من إدخال الجمل في خرم الإبرة!!
تعمقت العلاقة بيني وبين "إبراهيم" في المعتقل، أطلعته على كلمة الدفاع التي أعددتها أمام المحكمة الكبرى., كان يشطب على كل كلمة يرد بها "سيدي الحاكم" أو سادتي، فوافقت في الحال وشطبت "السادة" جميعا.
كان "إبراهيم" حيويا ولعله حال استثنائية في الرسم والكتابة والنقد والحضور، متمردا، تكمن في داخله قدرات هائلة للتعبير عن قهر تاريخي وظلم اجتماعي، يشعر برغبة جامحة في هدم الأشكال التقليدية القديمة، لعل ثورة 14 تموز العام 1958، كانت احد العوامل التي فجرت طاقاته في الإبداع والتمرد. كانت شخصيته جذابة ومؤثرة في أبعادها الفنية والنقدية ومتابعاته للحركة المسرحية، كان الفنان "يوسف العاني" يستأنس به ويدعوه إلى مشاهدة المراحل الأولى للعروض المسرحية. ويمكن قراءة شخصيته في رواية "الأنهار" للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي. تبدأ الرواية به وتنتهي كذلك، لصعوبة "ترويضه" كان انتحاره في بيروت في أوائل السبعينيات، يمثل الانسحاب إلى روحه، بعد أن تساقطت الأحلام الكبيرة؟

جبار ﮔردي...
عرفته شوارع بغداد، مثلما عرفت أخاه "ستار كردي"، وبخاصة منطقة "الفضل"، في أوائل الستينيات، شابا ممتلئاً بالعنف والقوة إلى جانب أشخاص آخرين يشاركونه "العنفوان" والتحدي نفسه، وكأنهم يمثلون الامتداد التاريخي لما كان يعرف بـ "شقاوات" بغداد في العهد الملكي. لهؤلاء الجماعات قيم وعادات اجتماعية محلية وعلاقات فيما بينهم.
انقسموا بعد ثورة الرابع عشر من تموز العام 1958 إلى قسمين اثنين، يناصر احدهما الثورة ومنجزاتها، وكانت لهم علاقات ودية مع شيوعيين وتقدميين ويساريين في السجون أبان العهد الملكي، فمنهم "خليل أبو الهوب" الذي اغتيل في بغداد في خضم الصراعات السياسية بين البعثيين والشيوعيين. و "فوزي عباس" "شقي" من منطقة "الكريمات" دخل صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وصار يتحدث عن الحوار والتنظيم والوطن والوحدة الوطنية، وقاد "المقاومة" في بغداد في 8 شباط 1963.
أما "جبار كردي" وفاضل جلعوط وقيس الجندي ومحيي مرهون وناظم ﮔراز وآخرون، وجدوا أنفسهم في الصراعات الدموية، لتنفيذ حملات الاغتيال والتصفيات الجسدية وتنظيم فرق التهديد على الأشخاص والنقابات والانتخابات والمنظمات، كانوا أداة حزب "البعث" في العراق وخارجه وخاصة في البلدان المجاورة ومنها سورية ولبنان، يستخدمهم "الحزب" لتفريق تظاهرات جماهيرية سلمية بقوة "الرصاص"، كما حدث مرات بعد ثورة تموز 1958.
واستلموا مهمة التحقيق والتعذيب في "قصر النهاية" السيئ الصيت والمقار الأخرى في باب المعظم "محكمة الشعب" وباب الشيخ والفضل والاعظمية في "النادي الرياضي" واتحاد نقابات العمال ...
شاهدت "جبار كردي" في معتقل شرطة "الفضل" مع "ناظم كزاز" وآخرين في شباط 1963، يمارسون هوايتهم في التعذيب وإطلاق الرصاص على المعتقلين وهم "مخمورون".
وظهر في معتقل مديرية الأمن العامة بعد حادثة السباع في 7/11/1968، للحفاظ على حياته بعد المجزرة البشعة التي ارتكبها على المتظاهرين في ذكرى ثورة أكتوبر الروسية.
كان يجوب المعتقلين: الكبير والصغير في "دشداشة" بيضاء وبيده "مسبحة" من الطراز الأول، وفرت إدارة الأمن له ولزوجته غرفة خاصة.
ساقتني الأيام أن ينضم معصمي إلى معصمه في قيد واحد الى المحكمة "العسكرية" في معسكر الرشيد، جاءت التوصية من رئيس عرفاء شرطة إلى ضابطه، لان القيادة المركزية/ الحزب الشيوعي العراقي، كما بلغه قررت اغتياله، فالجمع بيننا في سلسلة واحدة تحول دون التنفيذ... وربطوا معهم زميلي غضبان احمد مع "شرطي" بلباس مدني.




عبد جاسم الساعدي
نقابي سابق



#عبد_جاسم_الساعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جمعة اللامي... حزمة عراقية ممتلئة
- -الحلم-
- الى الرأي العام العراقي / منظمات وأفراداً
- الحركة العمالية والنقابية في العراق / قراءة في امكانات التغي ...
- الطريق الى الاربعاء نيثراثن
- الطريق الى الشورجة
- 8 شباط في بنية السرد العراقي
- ((آخر الملائكة)) لفاضل العزاوي
- تشكيل الصورة في قصص -خريف البلدة-*
- كواغد عراقية
- الطريق إلى الباوية!
- الانتماء للشوارع والبيوت الواطئة !
- حرائق
- ملتقى الخميس يحتفي بالمبدع الدكتور عبد جاسم الساعدي
- ملتقى الخميس الابداعي يحتفي بالمبدع الدكتور عبد جاسم الساعدي
- التعليم في العراق : التحديات والآفاق*
- قاعة فؤاد التكرلي الثقافية في عامها الخامس
- منظمات المجتمع المدني : الواقع والآفاق
- البلدان العربية بحاجة الى آليات عمل جديدة خارج اطر الجمود وا ...
- اضراب عمال الزيوت النباتية في ذكراه الثالثة والاربعين


المزيد.....




- إجازات العيد.. عدد أيام عطلة عيد الفطر 2024 للموظفين والعامل ...
- متظاهرون يغلقون مدخل وزارة التجارة وسط لندن احتجاجا على حرب ...
- “Renouvelez-le maintenant“ تجديد منحة البطالة في الجزائر 202 ...
- 100,000 دينار عراقي .. حقيقة زيادة رواتب المتقاعدين في العرا ...
- عاجل | مرتب شهر كامل.. صرف منحة عيد الفطر 2024 لجميع العاملي ...
- الحكومة المغربية تستأنف “الحوار الاجتماعي” مع النقابات العما ...
- هتصرف قبل العيد؟!.. تحديد موعد صرف مرتبات شهر أبريل 2024 بال ...
- منحة البطالة الجزائر 2024 .. تعرف على الشروط وخطوات التسجيل ...
- 3.5 مليارات دولار تدفقات الاستثمار الأجنبي للسعودية والبطالة ...
- البطالة في السعودية تسجل أدنى مستوى منذ 1999


المزيد.....

- تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات / جيلاني الهمامي
- دليل العمل النقابي / مارية شرف
- الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا ... / خميس بن محمد عرفاوي
- مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها / جهاد عقل
- نظرية الطبقة في عصرنا / دلير زنكنة
- ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟ / محمد الحنفي
- نضالات مناجم جبل عوام في أواخر القرن العشرين / عذري مازغ
- نهاية الطبقة العاملة؟ / دلير زنكنة
- الكلمة الافتتاحية للأمين العام للاتحاد الدولي للنقابات جورج ... / جورج مافريكوس


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - عبد جاسم الساعدي - الإضراب