|
موقفُ المتنبي (2-2)
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 3894 - 2012 / 10 / 28 - 09:18
المحور:
الادب والفن
تتوافرُ كل صفاتِ المناضلِ الشاعر المقاتل في المتنبي، لكن من دونِ رؤيته. أعطتُهُ الدعوةُ النبويةُ الزائفة وهي شكلٌ مغامرٌ مقاتلٌ للتغيير، وجذورُهُ الفِرقية الإمامية، ورحلاتُهُ الكثيفةُ في أجواءِ الصحارى الضارية، ورفقتُهُ للذئاب والنسور والوحوش في الليالي الموحشة، ومشاركته في المعارك الملحمية العربية الحلبية، كل إمكانيات الرهافة البيانية والحسِّ الفلسفي الدقيق في كشفِ شعيرات الحِكم، لكن من أجلِ هدفٍ غيرٍ نبيل، ولغايةٍ فردية جوفاء وسماء خُلبيةٍ ببروق مروعةٍ وبلا أمطار خصبةٍ تحيي الأرضَ والإنسان. كل الحكمةِ موجهةٌ لهذه الفرديةِ الطموح الجبارة التي تعبرُ جبالَ النار: إذا غامَرتَ في شرَف مَرومٍ فلا تقنعْ بما دون النجومِ فطعمُ الموتِ في أمرٍ صغيرٍ كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ مثل هذه الأبياتِ المدوية المتفجرة عبر التاريخ تقتطعُ مشهديةَ النضالِ النبيل وتفصلُها عن سيرورة اللوحة، إن تفاصيلَ المعاناة وصور المغامرات والحرب الضارية خاصة الحرب ذات الهدف الوطني السامي، تندمجُ بأقوالِ الحكمةِ الفاصلة القاطعة لكلِ ثرثرة، والمغامرةُ هنا مقطوعةُ السياق عن الهدف، فأي هدف يستحق كل هاتين الشجاعة والتضحية؟ أهو نضالٌ في سبيلِ وطنٍ وشرفِ قضيةٍ كبرى لشعب؟ أم هو ركض نحو سلطة وجاه؟ أهي تضحياتٌ تُبذلُ من أجل أن يصلَ المرءُ الى حكمٍ يوزعُ فيها الغنائمَ على بقيةِ فريقهِ ويقطعَ رقابَ أعدائه؟ وما هي طبيعةُ العالم الاجتماعي البشري الذي تراه عدستا المتنبي المُغبرتان؟ ما هذا العالم المدعو لتغييره بتضحيةٍ جسيمة؟ يصفُ هذا العالم: أذملا إلى هذا الزمان أهيلَهُ فأعلمهم فَدمٌ وأحزمهم وغدُ وأكرمهم كلبٌ وأبصرُهُم عمٍ وأسهدهم فهدٌ وأشجعهم قردُ ومن نكدِ الدُنيا على الحُر أن يرى عدوا له ما من صداقتهِ بدلا إن هذه التعميمات الإطلاقية تكشفُ المنهجيةَ اللاجدلية، بخلاف منهجيةِ أبي العلاء المعري، فالمتنبي بتضخمهِ يلغي التنوعات البشرية، وظروف التغيير وأدواته البشرية البسيطة المُحَتقرة في نفسه، لهذا فهو مترحلٌ في بضعة شخوص كأنه قبيلة عسكرية للغزو ولكنها بلا عدةٍ وعدد، وليس سوى قائد هذه القبيلةِ اليمانية المنتقل من شعر البداوة للحضر، ومن لغة الألفاظ المجلجلة الأعرابية، إلى رهافة اللغة المدنية المتفلسفة، تتوجه عيناهُ للعروش لكي يجثمَ فيها وحولها، وما العامة سوى مثل هذا الفَدم وهو العييّ من الحجةِ والفهم، وهو كذلك الغليظُ السمين الأحمق، والمتنبي هنا يرتكزُ على اللغةِ البدويةِ الشعرية الصارخة، كقولِ أبي خراش الهذلي: ولا بطلا إذا الكماةُ تزينوا لدى غَمراتِ الموتِ بالحالكِ الفَدمِ (للفَدمِ معنى الحُمرة كذلك). وإذا كان جمهورُ الناس هم هؤلاء الوحوش فأي غاية للمغامرة السياسية؟ إذا كان المناضلُ بلا جمهور فليس له سوى الانضمام إلى علية القوم. إن نظرته غير جدلية فهو يفصل بين التغيير والجمهور، بين نهضة المسلمين النضالية الشعبية العامة وهيمنة الأشراف الشمولية، بين النبوةِ كفعلٍ نضالي ديمقراطي والنبوةِ كمغامرةٍ احتيالية. ولهذا فإن الموقعَ الحلبي الجهادي الثقافي المتنورَ الذي قاربَ فيه الملحمةَ الشعريةَ ولم يصنعها بسببيةِ الفردية التي تغدو تصويرا عاما لا ينقلهُ فنيا نقلة نوعية، فلا يدخلُ في شخوصيةِ الأبطال والمواقف، ولهذا تغدو فلسفةُ أرسطو لديه حكما مستقاة ومبثوثة في شعره ولا يقتربُ من الإلياذة الملحمة، وكيف له ذلك وهو فوق المسرح والبشر تحته بين كلبٍ وقرد؟ اصطدامُهُ مع كافور الاخشيدي يعري آخرَ ورقةِ توت عليه. كافور شخصيةٌ مضادةٌ كليا للمتنبي، فكان كافور عبدا حبشيا، دميما قبيح الشكل، مشوه القدمين، لكن هذا الكائنَ المضاد للأرستقراطية العربية البدوية المتعاليةِ المحتقرةِ للسود والعبيد، وهو الكائن المسحوق، الذي يتخلص من خدمةِ السادة والأشغال الحقيرة يتعلمُ ويتثقف ويغدو معلما ويرتفع إلى الطبقة العليا ويغدو حاكما لمصر، ويعدلُ بين أهلها ويطور معيشتها! وينظرُ للمتنبي كمتطفلٍ شعري، يعطيهِ مالا ويرفض أن يقدم له ولاية لأنه مغامر خطر على الناس. المفارقةُ كانت قاتلة للمتنبي فطفحَ الكيلُ الشعري ذو الرغوة والفاشل في الوصول الى جذور الواقع والناس والتاريخ. هذه المفارقةُ التاريخيةُ تجعل المتنبي وقد حقرَ نفسَهُ يكشفُ عن عصبيته الطبقية ويقدمُ صورة غير حقيقية ومضللة عن حكم كافور نتيجة لتلك الذات المتضخمة، ويتوجه لحتفه لأسبابٍ تافهة، وليس مثل موت البطلين سيف الدولة الحمداني وكافور، النبيلين المضحيين، وسط عصر مضطرب انعدم فيه الحكامُ العقلانيون مثلهما. لهذا يغدو تصويره لكافور خاصة شكليا يكشف قصور رؤيته الفكرية الفنية، فيرصدُ الظاهرَ سخرية أو مدحا، ولا يتغلغلُ في سيرة هذه الشخصية العجيبة التي ترتفع من غمار العبودية والخدمات الذليلة لتكون قيادية.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موقف المتنبي (1-2)
-
الوعي الفكري عند ماوتسي تونغ (2-2)
-
الوعي الفكري عند ماوتسي تونغ (1-2)
-
الفرديةُ الحرةُ المفقودة
-
المحور الإيراني - السوري يطحن بعنف
-
الماوية وولاية الفقيهِ (2-2)
-
الماويةُ وولايةُ الفقيهِ (1-2)
-
قوى توحيديةٌ بين المعسكرين
-
تجاوزُ التطرفِ المحافظ
-
الأزماتُ والتحولاتُ
-
التوحيدُ والتطورُ السياسي (2- 2)
-
التوحيدُ والتطورُ السياسي
-
سذاجةٌ سياسيةٌ
-
البيروقراطية والديمقراطية
-
انتهى زمنُ العمالِ الآليين
-
كيف تلاشتْ النصوصُ الحكيمة؟
-
صراعٌ طائفيٌّ متخلفٌ
-
الإخوانُ والرأسمالية الحرة
-
الطائفية وتدهور الثقافة
-
صراعٌ طائفي إقليمي
المزيد.....
-
صناع أفلام عالميين -أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم-
-
كلاكيت: جعفر علي.. أربعة أفلام لا غير
-
أصيلة: شهادات عن محمد بن عيسى.. المُعلم والمُلهم
-
السعودية ترحب باختيارها لاستضافة مؤتمر اليونسكو العالمي للسي
...
-
فيلم من إنتاج -الجزيرة 360- يتوج بمهرجان عنابة
-
-تاريخ العطش-.. أبو شايب يشيد ملحمة غنائية للحب ويحتفي بفلسط
...
-
-لا بغداد قرب حياتي-.. علي حبش يكتب خرائط المنفى
-
فيلم -معركة تلو الأخرى-.. دي كابريو وأندرسون يسخران من جنون
...
-
لولا يونغ تلغي حفلاتها بعد أيام من انهيارها على المسرح
-
مستوحى من ثقافة الأنمي.. مساعد رقمي ثلاثي الأبعاد للمحادثة
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|