أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - شارع الحبوبي















المزيد.....


شارع الحبوبي


طارق حربي

الحوار المتمدن-العدد: 3883 - 2012 / 10 / 17 - 12:43
المحور: الادب والفن
    



فصل من كتاب (الناصرية .. شخصيات وأمكنة)
كثيرة هي العوامل التي أدت إلى نشوء الحواضر والمدن في التأريخ، فربما قامت على ضفاف الانهار ومجاريها أو في الصحارى قرب منابع المياه العذبة والآبار والواحات، أو على سواحل البحار أو ملتقى طرق تجارية فتنشأ فيها الحضارة نتيجة التراكم المادي وغيرها، وكثيرة أيضا أسباب نشوء الشوارع في المدن وازدهارها، فقد تكون نتيجة اعتياد الناس عليها في البيع والشراء، أو وجود المعابد فيها أو سعتها أو رموزها الفنية والتأريخية والوطنية وضمها لأحد بيوت المشاهير، كذلك التجمع والتظاهر للتعبير عن مطلب جماهيري ما، أو مواكب الاستعراض والكرنفالات والرقص التقليدي المحلي وغيرها كثير، لكن مازاد في عمران الشوارع وتطورها هو وساط النقل منذ مطلع القرن العشرين، وتطور الحياة التجارية في جانبيها حيث المولات الفخمة والمكاتب وغيرها، وأصبحت الشوارع عنوان تطور المدن بما شهدته من حركة الناس ووسائط النقل، وشعشعت فيها من وسائل الدعاية والنيونات والألواح الالكترونية الملونة والدالة وغيرها.
***
قد تتميز المدن بشارع واحد مثل أوسلو فهنالك شارع للمشاة يدعى (gå gate) أو (karljohansgate) ، ثمة مدن كبرى لايلمها شارع واحد مثل طوكيو وإسطنبول والقاهرة ونيويورك ولندن وغيرها، وأخرى تشطرها الانهار مثل الفرات يشطر الناصرية إلى نصفين، لكن لم يشفع لها ذلك في صد عواصف الغبار التي تجتاحها صيفا، نتيجة إهمال نظام صدام الفاشي للمدينة ومناصبتها العداء، وعدم الاهتمام بزراعة حزام أخضر حولها، يقي سكانها - وهم في خصام دائم مع المركز- شر العواصف فأصبحت مدينة الغبار بلامنازع!
***
شارع يمتد طوليا مع أربعة شوارع أخرى منذ تأسيس الناصرية سنة 1869 ، شارع النهر وشارع الجمهورية وشارع التوراة ويسكنه اليهود قبل ترحيلهم إلى اسرائيل بعد 1984 ، وفيه توراتهم قبل أن يستولي عليها رجل الدين محمد باقر الناصري ويقيم عليها جامعه!، وشارع رابع يقع فيه بيت السيد راضي ومدرستي قرطبة، أطلقت على الشارع أسماء عديدة، قبل أن يسميه مؤرخ الناصرية الراحل شاكر الغرباوي في السبعينيات من القرن الماضي (شارع الحبوبي) نسبة إلى الشاعر ورجل الدين والمجاهد محمد سعيد الحبوبي (1849 - 1915)، وقبل ذلك سمي بأسماء مدراء بلدية الناصرية مثل حسين الاغا وياسين المحروث وغيرهما، ولاأعلم لماذا لم يطلق اسم الغرباوي عليه وكان مديرا للبلدية ايضا؟!، وكان الموظفون اطلقوا على الشارع اسم الوصي على العرش الملكي عبد الإله بعد زيارته للناصرية منتصف الاربعينيات، لكن العامة اطلقوا عليه اسم (عكد الهوا أو الهوى) ومازالوا، ويبدو أن قصة اتجاه الرياح الغربية والشرقية (الشرجي) وتحريكها لاشجار السدر والسيسبان والصفصاف، قبل اقتلاعها وترميم الشارع في الستينيات من القرن الماضي، أكبر أثر في اطلاق التسمية، فالرياح الشمالية الغربية باردة وتنذر بالمطر، أما الشرقية فهابة من الاهوار ومشبعة بالرطوبة ويكون معها النوم فوق السطوح صعبا، لاسيما على كبار السن والمرضى المصابين بأمراض الجهاز التنفسي، وبهذا أصبح للشارع وظيفة ثانية هي قراءة الانواء الجوية!
***
شارع تُخرج فيه المنظمات الحزبية أهالي الناصرية بالقوة للتعبير عن مساندة الحزب والثورة وصدام والحكومة!، عطل البعثيون المدارس والدوائر وأخرجوا الطلبة والموظفين في تظاهرات سياسية لاعلاقة لدراستهم بها أو عملهم!، إلا لجهة الاستفادة من زخم الشارع في السياسة، وتوظيف رأي العراقيين بالقوة والترهيب للخروج والتظاهر لصالح النظام، كان المسؤولون البعثيون يتنافسون : من يخرج أكبر عدد من المدارس والدوائر لاثبات الولاء للحزب والثورة!، وربما وثق لذلك في سجلاتهم الحزبية وحصلوا على مكافآت مادية وترقية لدرجة حزبية أعلى!، لكن الناس حولوا التظاهرات إلى مسخرة عبر ترديد شعارات محلية تتهكم على توجهات الحكومة، ولو بصوت واطىء خشية من العيون والآذان، وتبادل أرقام هواتف بين الجنسين!
***
شارع يقطعه القرويون القادمون من جهة النهر بمحاصيلهم الزراعية لبيعها في (الصفاة) وسوق سيد سعد، سلال طافحة بأرزاق سومر : الالبان والزبدة والقشدة والتمور بأنواعها واللحوم وطيور الاهوار الملونة التي تأتي من دول وقارات نائية في هجرات صيفية وشتوية، وتسمع في طرفه الجنوبي أغاني الاعراس (الكيف) حيث يحضر مطربون شعبيون محبوبون، اتذكر الفنان نضال صاحب الصوت الجهوري الذي يفيض شجنا ولوعة، وتخترقه طوابير الطلبة في عيد الكشافة والشجرة، تنظيم عالي ودقة متناهية وألوان زاهية، قبل أن تهجم ثقافة البعث الفاشية وتدمر النسيج الاجتماعي والطبقة الوسطى وتقضي على الثقافة المحلية، شارع شهد أكبر تشييع للمرحوم عباس الخويبراوي أبو الشيخ محمد باقر الناصري سنة 1973 كما أعتقد، جموع غفيرة في الشارع وساحته تطوف بالجنازة وتردد ياأهالي الناصرية ودعوا .. تره ابو الباقر الساجد .. أو شيء من هذا القبيل لاأتذكره جيدا !
***
وتبقى أجمل مظاهر الحياة في الشارع هو اجتياز الطلبة فيه ذهابا وإيابا إلى المدارس، يرفلون بأحلى الحلل البنات بشراط حمر وزرق وثياب بيضاء نظيفة ومكوية وتنانير زرقاء وسوداء اللون، الاولاد الانيقون متحمسون للدراسة قبل مرحلة البعث والاسلام السياسي وانحطاط الثقافة والتعليم، كان مشهد الخروج من المدارس في جانبي الشارع يبعث على المتعة والامل في أجيال عراقية جديدة، لولقيت الاهتمام الكافي في بيئة سلام لاحروب طائشة مع وجود الثروات العظيمة، لنهضت بالبلد من أركانه الاربع وجعلته في مصاف الدول المتقدمة!
***
شارع التعازي الحسينية فيه أكثر من الافراح!، ومساحات ضرب الزنجيل واللطم والقامة أكثر من مساحات التعبير عن السعادة والانشراح!، لاكرنفالات ولارقص مثل الذي يجري في بعض شوارع أمريكا اللاتينية أو جنوب شرق آسيا، ولدت فيه وأمضيت شطرا من طفولتي، كنت أجلس بباب بيتنا وسط عكد الهوى، وكان أبي رحمه الله يعمل سائق تكسي بين مركز المدينة ومحلة الاسكان، عبورا لجسر 14 تموز على نهر الفرات، وكم كان يسر بوجودي بالباب العب مع أولاد الجيران، وكلما مرت ساعة أو ساعتان يتوقف بسيارته شيفروليت رصاصية اللون وينظر إلى ابنه البكر مبتسما، ويشمر لي خمس فلوس التقطها من على (شتايكر) الرصيف وأهرع إلى دكان الحاج كاظم أبو محمد لشراء الحلويات!
***
كان السكان في تلك السنوات البعيدة منتصف الستينيات قليلين في الناصرية، التي عاشت على التقاليد المحلية وعصر ماقبل الهجرات من الريف إلى المدينة، وماطرأ عليها لاحقا من تغييرات ديموغرافية، وعادة ماتأتي بعد الحروب أو فترات الرخاء والانتعاش الاقتصادي، وكان أبناء الارياف التابعة للناصرية، لايأتون إليها إلا لإنجاز بعض المعاملات الرسمية في دائرة الزراعة أو المتصرفية، أولزيارة الاقرباء أو لمراجعة الاطباء الاختصاص، فيفترشون أبواب عياداتهم الخاصة المنتشرة في شارع الحبوبي لاسيما وراء تمثال الحبوبي نفسه، متطلعين بذهول إلى وجوه المارة، وهم يتناولون الكباب ويشربون الشاي ونساؤهم يغطين وجوههن بالشيلة والعبايه!
***
ركضت في شارع الاحزان وراء جنازة جدتي لأبي وأنا ابن سبع سنين (1964)، هلعني خبر رحيلها المفاجىء وكنت بين يديها الطيبتين رحمها الله مدللا، كانت تأريخا في الجنسية العثمانية شهدت حروبا عراقية وفيضانات ومجاعات وظلما بحق النساء والرجال والاطفال والطبيعة، ومثل نساء ذلك الزمان كان وشمها الاخضر في يديها ونحرها وجيدها، خارطة طريق تشير إلى فقر العراق منذ ماقبل اكتشاف النفط!، تسميني (الوالي) ولم افهم المعنى حتى كبرت، ومعلوم دلالة استخدام كلمة الوالي بتأثير الاحتلال العثماني للعراق، ودام نحوا من أربعة قرون تكبد العراق خلالها ماتكبد من ويلات.
***
عدت من مدرستي قرطبة القريبة من بيتنا وكنت في الصف الاول الابتدائي (نجحت الاول على الصف في تلك السنة)، فوجدت الناس متجمهرين بالباب حيث توقفت سيارة عليها جنازة، كنت مذهولا وماإن وصلت حتى انطلقت السيارة فرميت حقيبتي وهرولت وراءها باكيا بكاء مرا، أركض وأبكي أركض وأبكي والناس يصيحون ورائي إرجع إرجع كل احنه نموت!، لكني لم أعد إلى أن تعبت من الجري فقعدت على الرصيف أجهش ببكاء مرّ، لكن بعد قليل جاء من يعيدني إلى البيت!
***
ولحقها بعد عشر سنوات 1974 أبي رحمه الله حيث توفى في مستشفى الجمهوري الواقع في بداية الشارع من جهة حي الادارة المحلية، غير بعيد عن بيتنا في شارع الحبوبي، بعد ثلاثة أيام من الجلطة الدماغية، وكنت أقضي معه ساعات طويلة في المستشفى، كان شجاعا وشهما لايهاب الموت رغم أريحيته وحبه للحياة والسفر، في اليوم الثاني وبالاشارات بعدما فقد قدرته على الكلام طلب مني قلما وورقة وكان مغمض العينين، فذهبت مسرعا إلى أحد المضمدين وأحضرت ماطلب، فكتب بيد مرتعشة وببطىء شديد بالقلم الجاف (دير بالك على اخوانك!)، بعد ثلاثة أيام رحل أبي وكنت أرى وجوه الأهل والاقارب تحيط بي معزية وحاسبة الف حساب للمواجهة المبكرة مع قدري العجيب!، ذلك أنني كنت ابن 16 سنة وسأكون معيلا لثمانية أخوات وإخوة وأمي مايعني ترك الدراسة والتوجه إلى (المسطر)!، ولاأنسى يد ابن عمتي الفنان إياد حامد وهو يربت على كتفي، كان الموت قليلا في تلك الايام يذكرني بقول الشاعر الصديق كامل سواري (عبرنه الشارع مدنكين مامش موت سيارات!)، وحتى السيارات كانت قليلة في شارع الحبوبي، كان قليلا حقا عدا الشهداء الذين كانوا يأتون في الليل والنهار من حرب الجبل حرب الاستنزاف، يكملون مناحات سومر في الناصرية ومنها يحملون إلى مقبرة السلام في مدينة النجف، وفي الحافلة المنتظرة بباب بيتنا في شارع الحبوبي وكانت (فولفو دك النجف) التي تقل المشيعين حيث يوارى أبي الثرى في مدينة النجف لبدت، ولم ينتبه أحد لوجودي بين المقاعد الخلفية إلا بعدما تجاوزت الحافلة العتيقة مدينة الناصرية بعدة كيلومترات، كنت مثل الكثير من الاطفال أريد أن أشبع فضولي وأجد أجوبة شافية لاسئلتي حول طبيعة الموت؟!
ولماذا يخطف الاعزاء وإلى أين يذهبون؟!
وهل ثمة حياة مابعد الموت؟!
ولم أفهم شيئا حتى اليوم وبعدما وقفت على قبر أبي في وادي السلام ودفنته بين عيوني!؟
***
في شهر حزيران سنة 1972وقفت على المراحل الاولى من تشييد ونحت تمثال الشاعر الحبوبي، أول وأكبر تمثال يشاد في الناصرية (طوله 4 امتار يرتكز على قاعدة اسمنيتة بعلو 4 امتار أيضا)، كان الأستاذ النحات عبد الرضا كشيش يجلس على دكة خشبية مربوطة بالحبال تحيط بالتمثال وسط الشارع، ويعمل بهدوء ليلا!
في الواقع كانت الفكرة والاقتراح من مؤرخ الناصرية الكبير الراحل شاكر الغرباوي، الذي اطلع على بورتيرات لدى كشيش وأعجب بها، واقترح نحت أكبر تمثال يقع وسط المدينة وكذلك بتشجيع من رجل الدين محمد باقر الناصري، وفي السنة المذكورة نفذ كشيش أولى التصاميم في مدرسة النضال الابتدائية وكان معلما فيها، ولم تكن أدوات النحت أيامذاك كما يقول كافية، ولم يكن المكان الحالي للتمثال هو المكان المقترح بل قريبا من أحد بيوت الناصرية الكريمة (العضاعضة)، حيث توفي الحبوبي بعد عودته مريضا من معركة الشعيبة ضد الانكليز سنة 1915، وكان قاد إليها عشائر الوسط والجنوب والاكراد.
***
كان لاعبو منتخب الناصرية وهم تقريبا أنفسهم أعضاء فريق نادي الجزائر (أشهر نوادي الناصرية الرياضية بعد الفتيان واللواء) يتبعون تقليدا جميلا كلما فازوا في مباراة كروية على ملعب ثانوية الجمهورية وسط المدينة، وفيما بعد ملعب 17 تموز خارجها، ارتداء بدلات موحدة اللون أبيض مثلا أو كحلي، ويتمشون على الرصيف ويحيون المشجعين الذين يشكرونهم على أدائهم في المباراة الاخيرة ضد الفريق الخصم، أحد المتحمسين مثلا يتقدم من كابتن المنتخب الاستاذ عباس هليل ويقول له (حسنا فعلت ماخليت يطلع علينه كول انت خوش مدافع!)، الثاني يقول للمهاجم صلاح عبيد (والله جان كولك حلو خدعت الكولجي ومزقت الشبكة!) وهكذا، يفرح هليل وعبيد وبقية اللاعبين بأنهم استطاعوا ان يجعلوا أبناء مدينتهم سعداء بالفوز في لعبة كرة القدم، كان احتفالا عفويا من أروع مايكون وأتذكر وجوه اللاعبين جيدا، إضافة إلى هليل وعبيد الذي سيذهب لاحقا إلى بغداد للعب لصالح نادي الطيران، كان هنالك مالك جدوع وشاكر مطره وحميد أبو غيده وعلي العربيد وحمزه وراضي سرحان وسيد نعمان وسيد محمد وصاحب والاخوين رعد وسعدي وكمال جعفر وصبحي الجسار ووحيد علي وصباح حمدي وحماة الهدف حسين أبو علي وعلي وإبن عمتي لطيف الشطري وغيرهم، الرحمة لمن رحل عن عالمنا الصحة والحياة المديدة للباقين من منتخبنا المحبوب، وبيت فترة وأخرى تنتج الناصرية لاعبين أكفاء يهزون شباك الفريق الخصم بأهداف جميلة ويسعدون الجمهور!
***
وبحجة إعادة الشباب الطائش إلى الإسلام والدفاع عن الفضيلة في شوارع العراق!، وغير ذلك مما يدعم البعثيين في حكمهم القره قوشي، فقد أسس المقبور خير الله طلفاح خال المقبور صدام وكان في وقتها محافظا لبغداد مطلع السبعينيات ماسمي حينذاك بـ (شرطة الآداب)، وطاردت الشرطة في حملات مسعورة النساء السافرات واعتدت عليهن، حيث قامت بتمزيق ملابسهن وتلطيخها بالاصباغ واعتقال الكثير منهن في بغداد خاصة، وكان لشارع الحبوبي حينذاك نصيب من الحملة الشاذة فطورد الشباب وكنت أحدهم، كانت الشرطة تطارد بمكائن الحلاقة ومن يقع في قبضتها تقص شعره في الشارع بغرض إذلاله!، ومن يرتدون الملابس الحديثة وكانت لاتتعدى قميص أبو المسطرة والبنسات والجارلس فتمزقه، وربما أحب البعض تعليق قلادة في رقبته عليها صليب المسيح وهي حرية شخصية في كل الاحوال تحت ظلال دستور مؤقت!، كنا نهرب في الشوارع الفرعية على جانبي شارع الحبوبي إلى أن تمر مفارز الشرطة المسعورة، أما من كان حظه سيئا ووقع في قبضتها فقد نال من بركاتها مانال!
ولم تتوقف هذه الحملات إلا بقصيدة من الجواهري (وكان في براغ) أرسلها إلى وزير الداخلية حينذاك صالح مهدي عماش وهو شاعر أيضا، فقام بعزل طلفاح وأمر بوقف الحملات، ومن أبيات القصيدة:
نــبـئــتُ أنك تُوسع الازياء عــتـاً واعـتسافا
وتـقــيــس بــالافـتار أرديـةً بـحــجةِ أن تـنـافـا
ماذا تُنافـي بل وماذا تـم مـن خـلـقٍ يُـنـافـا ؟
حوشيت أنـت أرقُ حاشــــيـةً ولـطفـاً وانعـطافا
أتـرى العفاف مقاس أقمــشةً ؟ ظلمـت إذاً عفـافا
***
شارع تعطل فيه المصالح ويغلق مساء للقرايات الحسينية في أول عشرة أيام من شهر محرم، في الواقع تتصاعد الدراما إلى ذروتها في الشارع منذ اليوم السابع أي يوم مقتل الإمام العباس ويسميه أهالي الناصرية (يوم الديج العالمي) لكثرة ماتنحر فيه الديكة طلبا للثواب والأجر!، لكنه يغلق منذ مساء اليوم الاول حينما يقرأ شيوخ التعزيات الحسينية القادمون من النجف الوائلي والنويني والبحراني ولهم الحضوة ومجالسهم كبيرة ومتميزة، لاسيارة تمر ولابايسكل والناس كأن على رأسهم الطير يصغون إلى شيوخ المنبر وهو يروون قصة الطف بقراءات مختلفة، يرش الشارع بالماء عصرا بباب شركة نقليات (ناصرية - بغداد) لصاحبها المرحوم الحاج لطيف وكان أبي رحمه الله صديقا له ويعمل في شركته، تفرش الارض بالبواري والسجاد ويجلس المئات من الناس وأضعاف العدد وقوفا، وغالبا ماتبدأ القراية بالموعضة وتنتهي ببكاء ونحيب على المأساة، يحتاجه مجتمع الناصرية حينذاك للتنفيس عن جور الحكومات الرجعية المتعاقبة عليه، بما فيها إهمال المدينة وسكانها وكأنهم ليسوا عراقيين!، وعدم تجديد مرافقها الخدمية وغيرها كثير.
***
شارع تسير فيه المواكب الحسينية في موسم عاشوراء، وواقعة الطف تسمع فواجعها عبر مكبرات الصوت من المقاهي والمحال التجارية والبيوت المغلقة حزنا على استشهاد الامام الحسين بن علي (626-680م)، موسم تعطل فيه المدارس والمصالح والمؤسسسات والدوائر كافة إلا المستشفى، يافطات التعزية سوداء اللون تغلق الشارع ويدخل الناس في حزن عميم، انغماس كامل في الطقس المأتمي غصبا واغتصابا، حتى لو كان لك رأي مغاير فهو مرفوض بل مسحوق تحت عجلات تيار اجتماعي جارف متضامن على الفجيعة، مازال يشعر بالذنب بعد أكثر من الف عام على مقتل سيد الشهداء، ويحاول عبثا تكفيره بروح بيوريتانتية بإيذاء النفس كأشد مايكون عليه الإيذاء.
***
تمر مواكب الزنجيل نهرا أسود، يضبط ايقاع سريانه رادود ذو صوت جهوري، يجعل البشر والحجر يخشعون، لكن بعض الرواديد يغنون أيضا في حفلات الاعراس وأشهر رادود في العراق أصبح مطربا في الاذاعة والتلفزيون هو ياس خضر!، تتنافس الفئات الاجتماعية في الناصرية في كسب الثواب، وتتصارع من أجل تبييض الذنوب، عبر تقديم موكب زنجيل على قدر كبير من التنظيم والادارة، أو تقديم الماء والشاي المجاني في سبيل الحسين وآل بيته، أو (التمن والقيمة) في اليوم العاشر، كنت أرى الدماء تسيل من ظهور الرجال صغيرا فيأخذني العجب، لأن معلم الحياتية في مدرسة قرطبة الابتدائية علمنا احترام اجسامنا وتنظيفها والعناية بها وقص الاظافر تحت عنوان عريض هو (النظافة من الايمان)، لكن ضاربي الزنجيل (مكون من سلاسل بطول 20 سنتمتر مربوطة إلى بعضها البعض لتشكل حزمة بوزن كيلوين أو ثلاثة والبعض تطرف فثبت في رؤوس الزناجيل سكاكين صغيرة إمعانا في الاذى والتجريح) المستمتعين بإيذاء أجسامهم، مزقوا دشاديشهم من جهة الظهر مزقتين بحجم الكف يمنة ويسرة، ضربة هنا وأخرى هناك بالزنجيل، فيغدو الجسد أحمر قرمزيا أو مزرقا، ورغم كل هذا الالم تبقى عيون البعض من الضاربين شاخصة أو متعلقة بالنساء الواقفات في جانبي الشارع!
في الكرنفال الدموي الذي لاتعدم له مثيلا في التطرف في الديانتين اليهودية والمسيحية، يقرأ الرادود قصيدة حسينية مناسبة للحدث الجلل ويدخل الشارع في مأتم عام ومفتوح، كان بعض الضاربين لايتأخرون - طلبا لثواب مضاعف - عن المساهمة في لطم شفت الليل، مئات من الاجساد نصف العارية مفتولة العضلات تلطم الصدور المشعرة، بما تخللها من العرق الساخن في أصياف الناصرية المشهودة، يقسم الموكب إلى مجموعة مكونة من عشرات الرجال، أو مجموعتين أو ثلاثة أو أربعة وربما أكثر بحسب حجم المشاركة في تلك السنة، بالإستناد إلى الاحداث السياسية التي تلم بالعراق أو العالم العربي وتجد لها أوسع صدى وتعاطفا في الشارع العراقي، مثل حرب الحكومة والاكراد أو قضية فلسطين واحتلال القدس أو الجهاد ضد اليهود أو حرق بيت المقدس (1969) وغيرها، كل مجموعة تلطم بعد تحميسها بقصيدة ومستهل فجائعي حول حادثة الطف ثم تسكت، لتقوم الاخرى بنفس الدور وهكذا، الرجال والنساء والاطفال في الشارع وأبواب البيوت والنوافذ والشرفات والبلكونات، الكثير من اللطامين المحرومين جنسيا ينسون الطقس المفجع فتعلق عيونهم بالنساء!
***
في اليوم التاسع من محرم يبدأ ماأطلق عليه اسم (المشق) وهو تخدير الرأس وتحضيره لضرب القامة (شج الرأس)، الاكفان وليس الكتان الموصوف في قصائد الغزل السومرية هي ما يرتديه أعضاء الموكب في ليل شارع الحبوبي السرمدي، وينتظمون في طابورين طويلين مثل طوابير الزنجيل واللطم، ويضربون رؤوسهم بماتيسر من القطع الخشبية والعصي والجريد، وعند الفجر تمر في الشارع الرؤوس المدماة والاكفان المجللة بالدماء وكانت تلك من ابشع المشاهد التي شاهدتها في حياتي على الاطلاق، مشاهد إيذاء النفس وإدماء الجسد وشج الرؤوس!، ولعل بعض المرضى النفسيين وقع على رأس ابنه الصغير بالسيف أو السكين طلبا للثواب والاجر، أو رياء ونفاقا!، فيصيح الناس عليه هذا حرام هذا حرام إبنك شنو ذنبه!؟، ويبدو أن هذه العادة السيئة ماتزال موجودة وتوسعت اكثر بعد سقوط نظام صدام الاجرامي والاحتلال وصعود الاسلام السياسي إلى حكم العراق!
16/10/2012



#طارق_حربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مجلس لملوم ذي قار يقاطع المنتوجات الهولندية!
- لماذا نكبة تكريت برقبة المالكي؟!
- غزوة جرافات أمانة العاصمة القندهارية لشارع المتنبي ببغداد!
- ملصق عن الحجاب في جامعة بابل وعار حفلات التكليف في العراق
- ردا على علي الدباغ وطارق حرب : آووا السوريين مثلما آووا العر ...
- سميسم والمالكي : -لقاء حبايب- انهى ازمة سحب الثقة ؟!
- قصر نظر المالكي في علاقات العراق الدولية!
- استطلاع رأي.. البرلماني العراقي في مواجهة التحديات / أجراه ع ...
- الناصرية : افتتاح معرض الفساد الدائم!
- استنساخ المالكي : شطحة أم تخدير !؟
- عمليات بغداد: لماذا لم تعتبر تفجيرات اليوم خرقا نوعيا !؟
- حكومة المالكي تجيز استخدام السلاح لقتل الشعب العراقي!
- إيران والكويت والعلم العراقي !
- الف مبروك ..المحاصصة الحزبية تضع توأما في بلدية الناصرية!
- مكرمة رئيس الوزراء لاهالي الناصرية والديوانية !
- حصتي من النفط
- غدا يوم جديد (دموع امرأة عراقية)
- لماذا يكذب الشهرستاني على العراقيين بخصوص الكهرباء !؟
- لماذا يطالب الدباغ بقمة اسلامية في العراق!؟
- هل ينام الرئيس الطالباني في القمة العربية ببغداد !؟


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - شارع الحبوبي