أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مرزوق الحلبي - في الردّ على الفيلم السيئ المُسيء:















المزيد.....


في الردّ على الفيلم السيئ المُسيء:


مرزوق الحلبي

الحوار المتمدن-العدد: 3872 - 2012 / 10 / 6 - 00:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في الردّ على الفيلم السيئ المُسيء
جذر العطب في الثقافة الإسلامية وليس في الفيلم عنها!

ما الذي يجعل ملايين الناس يخرجون في تظاهرات بعضها عنيف احتجاجا على مقاطع فيلم رديء ينتقد دينهم ونبيّهم أخرجه شخص نكرة؟ ما الذي يجعل الناس نفسها تخرج في مسيرات غاضبة هادرة لمجرّد أن صحيفة هامشية جدا في حي هامشي في أوسلو أو باريس تنشر كاريكاتيرا لنبيّها؟ وهو السؤال عينه الذي سألناه عن معنى أن تُصدر دولة إقليمية كإيران فتوى بهدر دم كاتب لأنه سخر من دين مجتمعه؟
هناك رابط بين هذه الأسئلة وسواها من النوع ذاته وقد تحصّلت من مشاهد متتابعة في السنوات الأخيرة وبين ما أنتجته "القاعدة" من صور محفورة في وعي ما بعد الحداثة لا سيما تفجيرات 11 أيلول 2001. إنه الردّ التكفيري من المركز الإسلامي الصاعد على المركزية الأوروبية الغازية لا سيما بشقها القديم الذي اعتبر كل ما ليس مسيحيا فهو كافر. إنها ردّ فعل إسلامي على فعل التاريخ كما أحدثه المركز الغربي مرة عبر المسيحية الأوروبية المستعمرة ومرة عبر المركز الأمريكي الذي يكمّل التاريخ الأوروبي ويأخذه شوطا جديدا لا يقلّ عدوانيةً متعددة الأشكال. استعلاء غربي مُستدام مصحوب بتفوّق تكنولوجي وعسكري تحول في كثير من الأحيان إلى احتلالات وقهر وإذلال للشعوب المستضعفة ومن بينها وأبرزها الشعوب العربية أو التي تدين بالإسلام، يقابله صدامية إسلامية شيعية وسنية متنافستان على وصول أعلى درجات العنف كأعلى تمثيلات الهوية الإسلامية وأسمى معانيها (الشهادة). بمعنى ما، يواجه فائض القوة الغربي منذ بضع عقود فائض تديّن إسلامي. وقد برز المطلق "الديني" في مواجهة المطلق "الاقتصادي" وتحول الدين والتدين شكلا من أشكال الاحتجاج وأداة مواجهة أساسية. فالتدين هنا انضواء في تخوم الهوية وتشرنق فيها كحصن يحتمى الإنسان فيه أو ينطلق منه في ردود فعله و"هجماته"!
هذا في السيرورة العامة التي تتضمن الفعل وردّ الفعل في دورة مغلقة. فإذا افترضنا أن تفجيرات 11 سبتمبر ردّ فعل باسم الإسلام على الهيمنة الغربية، أو هجمة للإرهاب الدولي على العولمة الكاسحة فإن ما نراه من تعبيرات مرئية في الهوامش الغربية نقدا للإسلام دينا ومسلكيات وإيمانا هو بمثابة ردّ فعل على ردّ الفعل العنيف باسم الإسلام على سياسات الغرب الاقتصادية والثقافية والعسكرية. فالفيلم الجديد الناقد للمسلمين ومعتقدهم ونشر الكاريكاتيرات في مجلة فرنسية مغمورة جاءا ليُضافا إلى ردود فعل غربية سابقة على حضور الإسلام والمسلمين بكل ما يمثلانه في مخيلة الغرب في قلب الغرب وثقافته. وهي تعبيرات رافضة لهذا الحضور مستثمرة ما يصدر من قوى عنفية وإرهابية باسم الإسلام! أما المقابلات التي نشرت مع المخرج الهولندي المغدور فان جوخ الذي كان أخرج فيلما ناقدا بشدة للأفكار التدين الشعبوية في المجتمعات الإسلامية فتثبت في فحواها أن هناك نزعة ولو هامشية في الغرب اليميني أو الفوضوي لتحويل الإسلامافوبيا إلى فعل ضد الإسلام دينا وثقافة وتمثيلات. وهي مستفيدة إلى أبعد الحدود من التمثيلات المنتشرة للإسلام والمسلمين بسبب من نشاط ميليشيات وتنظيمات إرهابية أو عنيفة باسم الإسلام أو بسبب مواقف مخزية ومسيئة للإنسان وقيمه تتخذها رموز باسم الإسلام!
هذا من حيث العلاقة بين إسلام مقهور يُمارس الإخافة بقصد أو غير قصد وبين غرب مهيمن مسكون بالخوف من هذا المدّ. أو هي تباريح العلاقة بين ثقافة مهزومة تقوم على التدين وبين ثقافة منتصرة خرجت من أسر التدين وإن كان لا يزال حاضرا في اللاوعي الجماعي موروثا استعماريا استشراقيا يقول مضمرا وعلانية بتفوق الغرب المسيحي على الشرق المتدين والغيبي. فقد احتكر رينان للغرب العقل وترك للشرق العربي وغير العربي اللاعقلانية والغيبيات. والعلاقة بين قاهر ومقهور فيها من عذابات النفس ووسوساتها. فالغرب المهيمن يسعى إلى تكريس هيمنته بكل ما أوتي من وسائل وأدوات لا سيما زرع الخوف من إرهاب إسلامي حقيقي أو متخيّل، فعلي أو رمزي لتبرير غزواته وتدخلاته في هذه البقعة أو تلك من العالم. وعلى المستوى ذاته تعيش قوى سياسية واسعة في الغرب حيثما هو على كراهية الأجانب لا سيمل كراهية المسلمين والتحشيد في مواجهتهم باعتبارهم منافسا على أماكن العمل وخطرا على الديمقراطية الأوروبية. وليس صدفة أن تنتشر في أوروبا مثلا مقولة فشل مشروع التعددية الثقافية الأوروبي التي تتضمن إشارة واضحة إلى رفض المجتمعات الإسلامية في أوروبا للفكرة ومآثرها لصالح الانغلاق وتهديد طابع المجتمعات ومأثورها الثقافي الذي يدين بالحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان ومبادئ سلطة القانون.
لو أن الجابري حاضر بيننا لاستأذنّاه في تفسير ما يحصل في الشرق على طريقته بالقول أنه بسبب ما يتركه الغرب في هذا الشرق من أذى يطال كل شيء، بسبب ما اعتمده هذا الغرب من سياسات ضاربة للشرق وثقافته ودينه عبر قرون! سنقرّ للجابري بجدوى كلامه وأطروحته لكننا سنواجهه أيضا بجزمنا أنها غير كافية لتفسير المشهد المرسوم الآن. حشود تنتصر لدينها بإحداث موجة عنف وإنتاج التمثيلات ذاتها لإسلام عنيف ومسلمين لا يقيمون وزنا لمبادئ مثل حرية التعبير والنقد. حشود من الناس تخرج دون أن ترى الفيلم أو مشهدا منه لتجسّد تصورات الآخر الغربي وتحقق له مبتغاه في إثبات النظريات التي تقوم على استعلاء وعنصرية واستشراق مقيت. فيشير العنصريون الغربيون إلى ردود الفعل في الأقطار الإسلامية توكيدا لنظرياتهم ومعتقداتهم عن الشرق المسلم وعن المسلمين ودينهم! وأكثر فإننا على مرأى من مشهد يُضطر فيه غالبية المسلمين إلى الصمت حيال العنف المؤجج باسمهم وباسم دينهم علما بأنهم غير موافقين البتة على ما يرونه. أو أنهم يقعون في فخ الدفاع عن مشاهد العنف باسم الدين ومعتقداته لأنه يحصل في مساحة الصراع مع الغرب. فينتج عندنا خطاب فاقد لمعناه. أصوات تنتقد الثقافة الإسلامية من داخلها لكنها تدافع عنها وعن صورتها المرسومة بالعنف والإرهاب في السجال مع الغرب! أو أنها ثقافة تبرر كل عجزها أو عنفها أو تخريبها للسياسة وللدولة باسم ضحويتها أو ممانعتها لصد الغزو الغربي. ومن هنا انقضاض الغرب وأوساط سياسية فيه على هذا النسق الإسلامي والعربي فتستثمره بدورها في الردّ على الردّ أو الصمت. وهو ما ييسر لها عملية الإدانة للثقافة الإسلامية التي تنتج العنف في رأيها ولا تجد فيها مَن يقف بحزم ضد هذا العنف بل يجتهد في التبرير والتسويغ اعتمادا على النص في شقيه القرآني والحديثي. ولنفترض أن المسلمين في هذه المرة ضحايا إساءة لهم ولنبيهم والقرآن، فهل يحق للضحية أن تردّ بكل شكل تراه أو هل كل ردّ منها مبرر بذريعة الإساءة التي حصلت؟ وأكثر هل الضحية محررة من السؤال الأخلاقي في ردّها أم أنها محكومة هي كذلك إلى ضوابط، على الأقل إلى قاعدة أن ردّ الفعل ينبغي أن يكون بحجم الإساءة لا أكبر! وما ارتسم أمامنا من احتجاج هو مشهد تحوّل فيه المسلمون خاصة العرب منهم إلى الفيلم الحقيقي ـ كما يقول الكاتب إلياس خوري! فكم عدد الذين قتلوا أو أصيبوا في معرض الاحتجاج على الفيلم المسيء؟ هذا هو السؤال الفيلم!
حتى لو سلّمنا أن الفيلم الآن يأتي في إطار نشاط اليمين الأمريكي والغربي عموما للتخريب على فرص أوباما للوصول مرة أخرى للبيت الأبيض، وحتى لو سلّمنا أن ما يحصل من إساءة للإسلام دينا ونبيا يحصل بتوجيه موجّه ولقصد محدد، فهل في هذا ما يبرّر ما نشاهده من قتل وتخريب باسم نصرة النبي وردّ الأذى الإعلامي واالفظي والمرئي عن الإسلام؟
إذا ما حلّلنا من داخل اللاهوت نفسه فإننا سنسأل كما سأل المناطقة الذي أسكتهم أهل الحديث من قبل، هل النبي بهذا الضعف كي يحتاج إلى نصرته؟ أو قد نسأل، هل يهتزّ الإسلام الذي يدين به نحو 1.6 مليار إنسان لمجرّد أن يبث أحدهم مقاطع من فيلم مُسيء قصده التشكيك والازدراء؟ هل سبب الفيلم أو الكاريكاتير في ارتداد أحد من المسلمين عن دينه؟ وهل يُبرر إقدام إنسان نكرة أو فئة يمينية أو مجموعة أو صحيفة على الإساءة للدين الإسلامي هجمات عنيفة وإرهابية على مصالح غربية وممثليات تشكّل أهدافا سهلةً؟
محاولة الإجابة على الأسئلة أصعب من حيث الخوض في الحسّاس والخطير. إذا افترضنا أن الإجابات كلها بـ "لا" وأن الدين الإسلامي في منعة كالنبي إذن، لا حاجة إلى هذا العنف باسم الدفاع عن الدين/النفس. أما إذا كانت الإجابة هي أنه لا يجوز تصغير الخد وعدم الردّ على إساءات كهذه مهما يكن الثمن، فذلك يعني إقرارا فعليا بما يُقال عن أصولية وصِدامية إسلامية جذرية هي العائق أمام حوار الأديان وتوافقها وهي المسبب الأساس لفشل نظرية التعددية الثقافية كما صاغها المشروع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية. وهو المشروع الذي يرى إلى اسلوك العنيف باسم الإسلام بنوع من الكرم الزائف وتقسيم الأدوار. فهو ملتزم بمبدأ الحريات لا سيما حرية التعبير. لكنه في الجوهر هو مشروع حداثي يقوم على العقل في تجلياته العولمية وفي نقده سلطة الله والأنبياء والأديان. أو إذا شئنا الدقة هو المشروع القائم على "قتل" الله وإلغائه كضرورة من ضرورات الدولة الحداثية أو ما بعد الحداثية. ومن هنا فهو لا يعتمد موقفا مزدوجا كما يرى بعض الكتبة العرب بل يدين أساسا ويقوم أساسا على نقد الدين والتدين ونقضه وفصل شؤونه عن شؤون الدولة. ومن هنا فلن نسمع من زعيم غربي ساءه الفيلم أو أغضبه الكاريكاتير كلاما ضد حرية التعبير والنقد بما فيه نقد أديان الآخرين. فالمشروع الذي يقدس الحرية من الدين كما يحترم حرية الأديان لن يتورّط في موقف مزدوج ولن يقربه. بل سيسعى إلى الدمج بين احترامه حرية الاعتقاد وحرية نقض الاعتقاد في الوقت نفسه.
مهما يكن الموقف الغربي (وهناك في الحقيقة مواقف غربية متعددة) من الفيلم المذكور وكاركاتيرات المجلة الفرنسية فإن ما يدعو إلى وقفة تفكيكية هو ردود الفعل في العالم الإسلامي عليهما ولو لكون هذه الردود في طبيعتها ودلالاتها ومؤدّاها أخطر بما لا يُقاس من فيلم سيّء ومسيء ومن كاريكاتير رديء في مجلة هامشية. أشكال الردّ التي ارتسمت أمامنا في البيئة الإسلامية تشير إلى ظاهرة "الإنسان الديني" في تجلياته العربية أو الإسلامية، الإنسان الذي يعتقد أن "إيمانه" يخوّله كل شيء وأن "قربه" من الله والنبيين يشفع له بل يسوّغ له القيام بما يرتئيه فيما يعتقده دفاع عن الدين أو فيما يخاله نُصرة للخالق. يكون الإنسان ضمن هذه الحالة مخلوقا دينيا فحسب كل أولياته الدفاعية ونفسيته الحية مجبولة بمادة دينية شديدة الفاعلية تطغى على حواسه وإرادته وتحشد في تخومها كل طاقاته القابلة للتفجر بإيعاز من "الشيخ" أو "المرجعية" التي تحتكر لنفسها الكون باسم الله وقانونه. المغالاة في الشيء معروفة في عواقبها ونتائجها, وكذلك المغالاة في الدين على طريقة الأصولية الإسلامية وإلغاء العقل أمام النص فإنها تقود إلى الكوارث كما رأينا ونرى. والمشكلة هو أن المتدين الذي يتعامل مع نصه ـ وقد تكون فتوى خرقاء ـ على أنه أيديولوجية شمولية مُطلقة يعتقد في الوقت نفسه أنه خير البشر أجمعين وأن الله اصطفاه كما اصطفى من قبله وأنه يشتغل في المقدس الأمر الذي يجعل من عمله مقدسا حتى لو كان الجريمة النكراء من اغتصاب وتقتيل وتنكيل بالجثث! في مثل هذه الحالة من العصاب الفردي والجماعي تبدو الأمور مرشحة للتصعيد من فيلم مسيء إلى آخر ومن مرئية ساخرة من الدين إلى رسم كاريكاتيري!
وتأكيدا على ما ذهبنا إليه نشير إلى استعداد الإنسان الديني نفسه والجماهير ذاتها لتقبل أطنان من القهر والاستغلال والتمييز والتقتيل من أنظمتها السياسية ومن قياداتها المتحدرة من صلبها دون أن تخرج إلى ثورتها أو هيجانها أو مهاجمة مؤسسات النظام أو ممثلياته بينما تخرج شاهرة سيفها لمجرّد مرئية كاريكاتورية لم يروا منها شيئا؟ معروف في علم النفس أن الأذى الخارجي يستفزّ بشكل أسرع الذات المستنفرة أصلا خاصة إذا كان هناك حسابات تاريخ للصراع وعصبيات ونزعات دفينة بين المجموعتين المتصارعتين. لكن هل يُمكن مقارنة مثلا أذى فيلم أو مقاطع فيلم بتقتيل 20 ألف مواطن في حماة بأيدي نظامهم السياسي أو مقتل 23 ألف سوري بنار جنود النظام وشبيحته؟ استحالة المقارنة في مثل هذه الحالة تشي بوعي ديني زائف أو كاذب أو عبثي نوعا ما! فكيف يحدث أن تضج الجماهير المتدينة لنصرة مَن لا يحتاج أو إغاثة من لا يطلب ـ النبي أو الله ـ والتخلف عن إغاثة شعب يُقتل أو يُهان وهو الأحق بالمساندة والإغاثة! ربما كان مثل هذا اللاهوت/التدين محصورا في الذات الإلهية ورسلها وليس له أي صلة من أي نوع كان بالإنسان وحقوقه وحياته! أو أنه لاهوت انتقائي أو مزاجي يتحرك متى يشاء ويختفي متى يشاء. في مثل هذه الحالة سيظهر هذا اللاهوت أمامنا مليئا بالثقوب كالجبنة الصفراء! ومن هنا فهو لا يثير الاحترام لا في حدوده ـ خطابه ونقاط ارتكازه ـ ولا خارج حدوده وفق مفاهيم الحداثة وما بعدها.
قد تكون أنظمة القمع ذاتها وراء إنتاج هذا المخلوق الديني وإبقائه محصورا في تخوم هذه الهوية البدئية التي يُمكن توجيه غضبها نحو الغرب أو هوامشه أو ضبطها من خلال آليات الضبط الدينية نفسها ولو إلى حين. أو أن هذه الجماهير المحرومة من كل حرية سياسية تستثمر تدينها كمظاهر احتجاج أو كملاذ من القمع الواقعي من خلال الانزياح في تحديد العنوان. فإذا عجزت عن مواجهة القهر الداخلي وقبضة الأنظمة الدنيوية فإنها تحتج مواربة من خلال إشهار غضبها نحو الخارج. تديّن شعبوي تعبوي يشكل هروبا للناس من النار (جهنّم الحمراء) التي أنتجتها الأنظمة هنا والآن بالتطلع إلى الجنة في الآتي وخوض حروب جهاد وهمية ضد الغرب الكافر والمسيء للإسلام والمسلمين! وإذ ذاك يتحول دينها إلى أفيونها تعيش فيه وتقاتل فيه وتموت فيه كما يحصل في غير موقع وواقعة.
الإنسان الديني ينبني في تجربته وذهنيته وعواطفه على الرموز الدينية، النص الديني والأنبياء والرسل والموروث. والنتيجة أن كل خطر يُحدق بهذه الرموز أو كل ما يوصف كخطر أو مسّ يستنفر الإنسان الديني ويدفعه إلى دفاع مستميت عن هويته/وجوده. ويصير الأمر أكثر حدة في حال تم التعامل مع الرموز ومع الدين كأنه حاصل الآن وأن النبي هناك في ضيعة قريبة وأن الخلفاء والصحابة هنا وهناك في الهضاب والوهاد وأن الدين يحصل الآن وأن حروب الدين واقعة الآن ولا بدّ من الإسهام فيها من منطلق إثبات نصرة الأخوة في الدين والنبي وصحبه! وهذا ضرب من استحضار الماضي والعيش فيه أو هو عودة من حاضر قاس ومستحيل وجوديا إلى ماض هو الذروة والعيش هناك في الزمن المضى. وفي الحالتين، تنفتح هوة سحيقة بين الإنسان المعني وبين واقعه وزمنه فيكون سلوكه ضربا من الجنون أو الهوس. وهو ما نابنا في الأيام الأخيرة ضمن ما اعتُبر احتجاجا على فيلم سيء مُسيء وكاريكاتير رديء.

نحن على اعتقاد بأن أبعادا في هذه القضية تكمن خارج اللاهوت، أيضا، في حيز الهويات القاتلة. فالمتتبع لخطاب الدعويين والحركيين الإسلاميين لا بدّ أن يكتشف وجود مدى كبير من الشعور بالنقص يُعبّر عنه بأشكال مختلفة. فمرة يهبون في وجه مرئية تنقد الدين أو تستأنف عليه ولو مجازا كما في شعر محمود درويش وغناء مرسيل خليفة أو في رواية حيدر حيدر (حالتان جعل منها الأصوليون الإسلاميون مهرجانات حض على الاقتصاص وقمع الحريات والإبداع). ومنها مثلا الهتاف ترحيبا بكل غير مسلم يصير مسلما فعليا أو بالإشاعة، ممثل، مغني، نجم كرة قدم! وقد يُعبّر عنها بذاك الدفاع المستميت عن كل ما هو مسلم حتى ما لا يتماشى منه مع المنطق البسيط أو مع الحداثة الغربية أو العدل أو مبادئ المساواة ـ قضية المرأة مثلا أو قضية إرهاب أو تفجير شاحنة محملة بالكيماويات في قرية عراقية. ويظهر ذلك جليا في تحويل النقائص إلى مزايا حميدة ـ الزواج من أربع مثلا، أو في التدليس والدجل الديني الوافد على متن فتاوي من كل غريب مستطرف أو مثل اعتبار الشورى أرقى أنواع الديمقراطية أو الادعاء بأن الإسلام أفضل الأديان وأرقاها وأنه يتضمن كل المعارف وكل العلوم ويزيد!
قد يكون الحراك الإسلامي بأشكاله المختلفة تعبيرا عن إحياء للموروث وعودة إلى الهوية لأغراض تحقيق التمكين والنهوض في وجه غرب لا يرحم. لكنه في جزء كبير تنحصر حركته في العودة إلى ما مضى، إلى الموروث بكل تفاصيله والمكوث هناك دون امتلاك أي قدرة على التحرك منه نحو الأفق بحاضره ومستقبله. ربما لأن الماضي المسكون بحنين يتضمن إغراءً يحول دون مواصلة المشوار من التراث إلى الحاضر والمستقبل. بل تتعمق حالة الغرق في الماضي إلى جمود عقائدي وانغلاق ونبذ كل ما تطور من نقطة الماضي هذه إلى الآن. وهي حالة قطيعة مع التراث نفسه ومع الحاضر ومع المستقبل ومع الواقع. فهو يتحوّل إلى تدين متشدّد يتجاوز الواقع الفعلي بجنة متخيّلة والبقية معروفة! إلا أن نتيجته الفعلية هي معاداة الواقع حتى الإسلامي منه بأشكاله المعتدلة أو الواقعية! فأداء السلفيين في تونس الآن شكل من أشكال هذا التشدّد وهذا العداء والعنف! وكذلك الأمر مع سلفيي أفغانستان والصومال ونيجيريا. ومن هنا يقصر الطريق إلى حالة تقمص القدسية بنزعها من المقدس نفسه، من الدين أو النبي أو الحديث، وإكسابها للمشتغل بالمقدس، أمير سلفي أو شيخ متشدد أو مريد درويش. ينتقل مركز التقديس من المقدس المفترض إلى الذي يُقدّس فيصير المرجعية الأولى والأخيرة قبل النص القرآني أو الحديثي أو قبل النبي مثلا والأهم، بديل لها كلها مجتمعة. يلغي الفاعلون في هذه الحالات اللاهوت كما عرفناه ويُنتجون لاهوتهم. ومن هنا ترتسم المشاهد المروّعة بحق المريدين وبحق المجتمع والحيز العام والآخر.
درجة قصوى من درجات الإنسان كمخلوق ديني! يصعب معها التحدث بلغة السياسة وما أنتجته في عصر الحداثة من لغة ومفردات تتصل بالحريات أو الاستقلالية الذاتية للإنسان والأهم مبدأ فصل الدين عن الدولة ومفهوم الدولة. لأن الدين بمفهومه الضيق في هذه الحالة يلغي كل مفهوم آخر فهو سابق للدولة ولاحق لها، ينسفها ويرثها ويشطب بفتوى حضارة الدولة والمبادئ والأسس التي قامت عليها وطورتها لا سيما حرية التعبير ونقد الأديان والتحرر من إسارها.
يقول جورج طرابيشي أن السؤال هو ليس فيما تؤمن بل كيف تؤمن. وها نحن أمام صورة محددة قاتلة للإيمان بالإسلام ونبيه. وهو أمر لا نكتب عنه من خارجه ولا ننظر له بأدوات علم نفس الجماهير أو علم نفس التدين أو العلوم السياسية والحقوقية بل كمن نشأ في ثقافة عربية معطوبة في قوميتها وتدينها وأنساقها وعقائدها لأنها في نهاية المطاف علقت في منعطف النص وانحرفت عنده عن مسار التاريخ. تاريخ كامل من قرون مرّ والثقافة العربية أسيرة النص والمروية الحديثية التي تضخمت إلى حدود الخرافة والهلوسة. ومّن كان أسير نص تقادم قرونا وموروث محنّط أو متخشّب لابُدّ أن يأتي بهذه المشاهد المروّعة التي تقوّض الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بهذا العنف وهذه الطاقة التخريبية. عنف وتخريب ذاتيان واغتيال للعقل مُمنهج على مدار قرون. وهو ما يُقلق وليس الفيلم المُدبلج على اليوتيوب. ما حصل تدليل على أن عطب الثقافة العربية والإسلامية في خشبها وعودها وأنساقها وليس من خارجها، في أفلام واقعية تُنتجها هي وتُخرجها وتصدم العقل بها وليس في فيلم سيء أخرجه أحد ما ينظر إليها من خارجها.



#مرزوق_الحلبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر مرزوق الحلبي*:تبدأ القصيدة عندي ضبابا أو إيقاعا أو رت ...
- تدريب يومي على الحقيقة
- إقصاء المرأة خلف الحجاب والجلباب...
- مساهمة في النقاش حول آفاق الحركة النسوية العربية!
- ثلاثيات من ممالك النمل!
- حين يبدو الاحتلال الإسرائيلي مجرّد نزهة!
- تسميات أخرى للحاصل في سورية!
- إجابة مطوّلة على جملة من الأسئلة الراهنة!
- للأقليات احتياجات ..وكرامات، أيضا!
- الثورات العربية والنصّ الجديد!
- الشبّيحة
- أبو مازن في الأمم المتحدة: نحوُ جديد للمسألة الفلسطينية!
- عن سورية: الدوغما بعض شيوعيي بلادنا نموذجا!
- عن الحق الفلسطيني المطلق في عدل نسبي!
- عن الذين عرفوا وحرفوا!
- من وحي الثورات وأسئلة طرابيشي
- وسورية التي هنا!
- سورية التي هنا!
- وجوب تعديل ميثاق المحكمة الجنائية الدولية!
- الثورات العربية: فصل الخاتمة لنسق -النقدية المثقوبة-!


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مرزوق الحلبي - في الردّ على الفيلم السيئ المُسيء: