أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - ميكانيزمات التحكم في القرار السياسي بالبلاد العربية















المزيد.....



ميكانيزمات التحكم في القرار السياسي بالبلاد العربية


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 3847 - 2012 / 9 / 11 - 21:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في الوطن العربي يكاد يجمع ويتفق جميع الباحثين والمحللين السياسيين وأساتذة القانون الدستوري وعلم السياسية وعلم الاجتماع السياسي على قناعة راسخة بفعل التجربة والممارسة هي وحدة ميكانيزمات ادارة الشأن العام مع وجود بعض الاختلاف البسيط بسبب الخصوصية التي تميز بين الانظمة السياسية العربية . وبالرجوع الى خارطة الانظمة السياسية العربية سنجدها تتكون من انظمة جمهورية وراثية وصلت الى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية ،وهذا حال سورية ، مصر ، الجزائر ، السودان ، اليمن . وهناك انظمة عبثية نجدها في نظام العقيد معمر القدافي الذي الغى الدولة لصالح الجماهيرية التي لم تكن بالفعل سوى دولة للعقيد لا دولة للشعب الذي تحكمه الطوائف والعشائر والقبائل . وهنا جمهورية لبنان التي تشكل استثناء في الحكم ، حيث بسبب الانتساب للطائفة وليس للوطن نجد ان لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي تضم فيه الحكومة جميع اطياف اللون السياسي ، اي ان الحكومة تجمع الموالاة والمعارضة . ثم هناك الانظمة الملكية وهي تتوزع بين ملكيات عشائرية قروسطوية تحكم فيها العائلة وليس المؤسسات ، وكمثال هنا نأخذ قطر والمملكة الوهابية حيث لا توجد فيهما لا احزاب ولا نقابات ولا جمعيات وليس بهما دستور ولا برلمان ولا مؤسسات لتمثيل المجتمع . الى جانب هذه الملكيات العشائرية الطوطمية ، هناك ملكيتان تختلفان عن الملكيات العشائرية ، هما الملكية المغربية والملكية الاردنية . ان هاتين الملكيتين يشبهان في الممارسة السياسية النظام الرئاسي بالولايات المتحدة الامريكية ، وبعد التعديل الذي ’أدخل على الدستور المغربي مؤخرا ( ليس دستور الاستاذ الطوزي ) انتقلت الملكية المغربية من النظام الرئاسي ( الامريكي ) الى نظام شبه رئاسي مثل النظام السياسي الفرنسي . بطبيعة الحال ان هذا الوضع قد دفع بالمعارضين للأنظمة الملكية على اطلاق وصف الانظمة المطلقة على هاتين الملكيتين ، وهو وصف المراد منه التقديح والتقريع ، اي اشارة الى نفي صفة الديمقراطية على هاذين النموذجين من نماذج الحكم . ومربض الغرابة فان هؤلاء الذين ينفون عن هاتين الملكيات صفة الديمقراطية ، يصفون النظام السياسي الامريكي ( النظام الرئاسي ) والنظام السياسي الفرنسي ( شبه الرئاسي ) بالأنظمة الديمقراطية . بل ان مربض الفرس هو حين يدعوا هؤلاء الى الانقلاب على الملكية في المغرب بحجة انتفاء الديمقراطية ، لكنهم في مطالبهم لا يؤسسون لنظام ديمقراطي كما تقضي بذلك الاعراف والممارسة الديمقراطية ، بل نراهم وعلنا يدعون الى انظمة توتاليتارية من قبيل الجمهورية الديمقراطية الشعبية او من قبيل الجمهورية البرلمانية على طريقة الجمهوريات العربية ، ولو كان ما يدفعهم الى المعارضة من اجل المعارضة المغلفة بمطلب الديمقراطية المفترى عليها في خطاباتهم الدكتاتورية ، لقبلوا بالديمقراطية تحت اية مظلة كانت جمهورية ام ملكية ، ما دام ان المضمون المنشود هي الديمقراطية وليس التوتاليتارية . ان هذه الحالة هي السائدة في اوربة حيث توجد الملكيات كما توجد الجمهوريات . ان نفس الشيء يلاحظ من انتقاد الجماعات الاسلاموية للملكية بالمغرب وبالأردن . ان برنامج هؤلاء هو التأسيس لأنظمة فاشية قروسطوية تستغل الاساليب الديمقراطية ، حتى اذا وصلت الى الحكم انقلبت على الديمقراطية وأسست لأنظمة رجعية عيوبها اكثر من الدكتاتورية الماركسية . اذن مادام الحال على هذا المنوال حكاما ومعارضة ، فان المعالجة سوف لن تقتصر على نظام دون غيره ، انها لن تستثني اي شيء مادام ان الجميع ( الانظمة السياسية العربية ) تشترك في نفس ميكانيزمات التحكّم في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالدولة ، وما دامت المعارضة العربية بمختلف تلاوينها ( ماركسية او اسلاموية ) هي بعيدة عن الديمقراطية ، وإنها ان وصلت الى الحكم بالحرب الشعبية الطويلة الامد ، او بالثورة الشعبية القاعدية ، او وصلت من خلال انقلاب من فوق او من تحت ، وآيا كان النظام السياسي الذي يشتغلون لتطبيقه ( جمهورية ماركسية ام جمهورية اسلاموية ) فأنهم لن يترددوا في تطبيق نفس الميكانيزمات التي تطبقها الانظمة للحفاظ على السلطة والحكم . اي ان المرمى والمبتغى في نهاية المطاف يبقى الدكتاتورية والفاشية .
تقدم المجتمعات المتخلفة صورة جديدة للدولة المتخلفة تتسم في اغلب الاحيان بصفات خاصة مثل التقلبات الشديدة ، وبأس الاجهزة ، والتقسيم الميكانيكي للسلطة ، وسطحية العلاقة مع المجتمع ، وسيطرة العنف في العلاقات السياسية ، وغياب آلية تبدل السلطات وانتقالها وتحديد الصلاحيات وضبط الاصول وانتظامها ، حتى تبدو كما لو كانت مؤسسة غريبة عن البيئة التي تعيش فيها ، مستلبة ايضا في ذاتها وغير قادرة على تحقيق الوظائف التي تتعلق بها هذه الدولة المتخلفة .
ويترافق القمع الاقتصادي المباشر على صعيد دائرة الانتاج بالقمع السياسي على صعيد الدولة . وتحل علاقة العنف داخلها وفي تعاملها مع المجتمع محل علاقة الشرعية . وينعكس ذلك على وظيفتها وعلى بنيتها في الوقت ذاته . وكل ذلك يجعلها عاجزة عن حيازة موقع مستقل لها ولنشاطها المتميز تجاه الفئات او التشكيلات السياسية والقوى الاجتماعية الاخرى .
وعجزها هذا عن الاستقلال عن الفئة الاجتماعية التي تتحكم بها او عن المصالح التي يعبر عنها النظام يجعلها في الوقت ذاته بعيدة عن المجتمع ككل وغريبة عنه . فهي لم تعد وسيلة بلورة لإجماع قومي ، بل اداة من ادوات بناء العصبية الحاكمة ومن ثم قاعدة لتفكك عقد القومية . اما السلطة السياسية التي تنبع منها ، فإنها تنحلّ بفقدانها لعناصر تكوينها الاجتماعية القانونية والمناقبية ، الى قوة محضة تؤكد ذاتها بالغلبة ، وتمكن فريق اجتماعي من فريق آخر ، ولا تنطوي على اي عنصر من العناصر المادية والمعنوية التي تبرر وجودها ( وتجاوزاتها ) كأداة توازن وتنسيق وتنظيم ، وكصلاحية ادارية . انها توظف ما تحظى به من الاجماع في الصراع الاجتماعي لتكوين المراتب والطبقات اكثر مما تهتم بحل المشاكل التقنية والسياسية والإدارية المتعلقة بسير المجتمع ككل وبالعمل والإنتاج . ومن هنا فان تقدم تكوين الطبقة او النخبة التي ترتبط بالدولة كطبقة مسيطرة ومالكة ، يقابله بشكل دائم ضعف متزايد في التنظيم ، وانهيار الانتاجية والتحكم بالتقنيات . و هكذا كلما تفاقم تماثل الدولة مع النخبة السائدة ، زادت فوضى الانتاج ، وفقد المجتمع عنصر تنظيمه الاساسي .
و لابد في هذه الحالة من ان تتطابق الدولة كمؤسسة عامة وكسلسلة من الاجراءات والأصول والقواعد المنظمة ، مع الحكومة وما تمثله من اشخاص وسياسات ظرفية محددة . وينتفي التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي ، فيختلط العام بالخاص ، وتختلط الغلبة بالإجماع ، والقوة بالانصياع ، فتدور الصراعات الاجتماعية متجردة عن اية قواعد او مبادئ منظمة . ومن هنا تفقد الدولة شرعيتها كمصدر لسلطة نابعة من المجتمع ، اي خاضعة في النهاية له ، وقائمة فوقه ، اي مستقلة نسبيا عن كل فريق فيه ، ولا تأخذ شرعيتها المؤقتة والمحدودة إلا من شرعية الفريق الممسك بها وانفتاح او انغلاق سياساته الاجتماعية . ان الدولة هنا لم تعد موجودة بشكل مستقل عن الجماعة الحاكمة .
ان هذه العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع ، وبين الدولة والجماعة الحاكمة ، تقدم شروطا ملائمة لنمو سياسة ارادية لا تأخذ بالاعتبار التوازنات الاجتماعية الفعلية ، بل تقوم على ضرب هذه التوازنات وتحطيم المعارضات المختلفة . ان استمرار هذه السياسة يدعو هو ذاته الى بروز سلطة شخصية او اصطناعها ، سلطة قادرة على تحمل مسؤولية القرار من جهة ، وضمان وحدة السلطة او الغلبة داخل الدولة من جهة ثانية . ولا بد لتبرير خضوع مجموع الجماعة الحاكمة اولا لهذه السلطة ثم خضوع المجتمع ككل للجماعة الحاكمة ثانيا ، من جعل السلطة الشخصية المسيطرة سلطة مقدسة . وهذا يتطلب تطوير ايديولوجية عبادة الشخصية من جهة ، وتحطيم كل الشخصيات او القوى والمنظمات التي يمكن ان تنافس في شرعيتها وفي علاقتها مع الجمهور او مع الجماعة الحاكمة ، المكانة المتميزة والمتفوقة للشخص الاول . وهذه العلاقة هي مصدر الحكم الرئاسي الذي يسميه بعضهم بالحكم المطلق ، فهو حلال بالولايات المتحدة الامريكية وحرام بالنسبة لغيرها . ان الحاكم الرئاسي هنا ليس ثمرة ارادة شخصية مسيطرة بقدر ما هو وسيلة تصطنعها الجماعة الحاكمة لتأمين خضوع المجموع لها من جهة ، وكبديل عن ذوبان آليات ووظائف الدولة المؤسساتية من جهة ثانية .
ان عملية تكوين هذه السلطة تخضع هي ذاتها الى تطور انحلال التشكيلة الاجتماعية المحلية الذي ينجم عن دخول نمط انتاج جديد ، وهو هنا نمط الانتاج الرأسمالي ، وما يجره من اعادة ترتيب لمواقع الطبقات او النخب والفئات ، والمراتب الاجتماعية ووظائف النخب المختلفة ، وما ينطوي عليه ذلك من تحول في توزيع الثروة وسريان المعارف والأحباب والأسر .

ان التّمكن من نمط انتاجي جديد ، يفترض تكوين طبقات او فئات اجتماعية لم تكن موجودة من قبل ، او تقوية مواقعها اذا كانت موجودة ، تجاه طبقات اخرى ، كما يفترض تعديلا في مراكز النخبة ومهامها . وكل ذلك لا يمكن ان يحصل دون اعادة توزيع الثروة والمعرفة . وحتى تحقق هذه العملية لا بد من تعليق " الدستور " ، اي من طرف يسمح بتجاوز كل القواعد والأصول المتفق عليها عند اعداد الدستور والتي كانت متبعة من قبل ، أكان ذلك باسم مبادئ جديدة ، او باسم سوء الفهم ، ام باسم تدارك ما فات ، ام باسم الظروف الجديدة التي افلتت من الازمة التي ( هددت ) البعض ، ام بدون ذلك سيان لان ميزان القوى يفرض هذا النوع من السلوك . اذن هناك حقبة من اللاّتحديد ومن الحرية المطلقة المقتبسة من ضعف الاخر التي تشبه اللاّانضباط والخروج عن المألوف ، هي التي تتيح تغييرا اساسيا في المواقع والمراتب والمسؤوليات وممارسة السلطة الفعلية عن الطريق امتلاك القرار .
ان الحكم الشمولي الرئاسي هو الذي يخفي بمظهره السياسي التحكمي ما يحدث على صعيد المجتمع ، صعيد انتقال الثروة والمعرفة ، من انفلات كامل من كل قانون ومن تنافس وتزاحم لا حد لهما . والعناصر والقوى التي تستفيد من هذه الحقبة وتسيطر عليها ، هي تلك التي تسلك سلوك الحاكم المطلق على صعيد المجتمع ، وتتجرد من كل شريعة او قانون او اخلاقية . اما القوى الاخرى التي بقيت متمسكة لاستفادتها من النظام السابق او لخوفها من نتائج السباق القائم ، بالقيم والعادات والأخلاق والمبادئ ، اي بقاعدة للفعل والسلوك ، فإنها تجد نفسها تفقد اكثر فأكثر مواقعها وتنهار مصالحها .
ان الحكم المطلق الحديث في العالم الثالث لا يعبر عن تعاظم قوة وهيبة الدولة وقانونها ، بل هو يعكس ضعف الدولة المتعاظم وزوال دورها وفعاليتها الاجتماعية ، وبالتالي بروز قانون واحد للممارسة الاجتماعية هو العنف المجرد من كل قانون . وعندئذ كل دراسة للسياسة على صعيد الدولة لا معنى لها إلا بقدر ما هي وسيلة لتحليل تقنين العنف وإدارته .
وآليات العنف تختلف حسب الميدان الذي يتحقق فيه انتقال المراكز والمناصب وصكوك الملكية والقوى الشرائية ..لخ . فهو ليس القتل دائما وبالضرورة ، وهو لا يصل الى هذا السلوك الحدي إلا عندما تبدأ الفئات التي تتعرض له بالمقاومة وترفض الاستسلام له . والعنف يمكن ايضا ان يكون فكريا كما يمكن ان يكون سياسيا او اقتصاديا . انه حرمان فئة او طبقة او جماعة من التعبير بشكل او آخر عن نفسها ومصالحها وشخصيتها ، او فرض تعبير ايديولوجي اجباري عليها ، او اكراهها على التعبير عن نفسها من خلال شكل ايديولوجي لغوي او فكري معين ، وهو ايضا حرمانها من حق التعبير السياسي المنظم او المستقل وإجبارها على الانخراط في تنظيم او العمل بدون اي تنظيم . وهو كذلك نزع الملكية بالطرق الاحتيالية المغلفة بالمشروعية القانونية ، او فرض شروط جديدة على التمتع بها ، او التلاعب بالآليات المصرفية من قروض واعتمادات لدعم فئة ضد اخرى ، او فرض القوة او الضريبة التي تتيح لفئات اخرى تحسين موقعها على حساب غيرها ، او التحكم بسياسة الرواتب والأجور والمكافئات والمنح السخية والإكراميات والمهمات المغشوشة لشراء الذمم وتكوين اللوبيات المسيطرة على المنافع والخيرات .
ومن ذلك نفهم ان وظيفة العنف الاجتماعي هي دائما تغيير الموقع والمراتب والأدوار الاجتماعية لمختلف القوى المكونة للمجتمع . وقد يؤدي هذا التغيير الى تكوين فئات جديدة مرتزقة ، وقد يكون مجرد اعادة اقتسام للثروة والمعرفة . فهو مبدأ الثورات العدلية كما هو مبدأ تكوين الطبقات الجديدة .
ولفهم حدود هذا العنف وغاياته لا بد من تحليل سيرورة التحول القائمة اليوم في العالم الثالث ، وهي في نظرنا سيرورة تاريخية مرتبطة بتوسع نمط الانتاج الرأسمالي ، وبما يقتضيه هذا التوسع من تكوين طبقة اجتماعية تضمن نمو العلاقات الجديدة ، وتحملها في فعاليتها الاجتماعية كطبقة رأسمالية ، اي مرتبطة بعملية تراكم واستثمار ودورة رأس المال . لكن هذه الوظيفة لها خصائص متميزة هنا عمّا كان لها في بداية تكون النظام الرأسمالي ، اذ ليس من المطلوب ان تعيد الطبقة الرأسمالية في المجتمعات النامية تراكم راس المال كما حدث لسابقتها الغربية ، بل تحقيق استهلاك هذا الرأسمال وتصريفه ، اي على شكل استهلاك مباشر ( شراء منتجات تلبي الرغبات المادية او حاجان الأبّهة ) او غير مباشر ( شراء آلات ومعدات ومصانع تلبي حاجة الرأسمال في المركز الى التراكم ، لا حاجة المجتمع الفعلية حيث تقام هذه المنشئات ) .
وان تطور نمط هذا الاستهلاك يطور معه باستمرار آليات اعادة التوزيع الجديدة ، ويتطلب تركيزا متزايدا للثروة والمعرفة في ايدي الاقلية الاجتماعية المندمجة اكثر بدورة الرأسمال العالمي ، بينما يخلق من الجهة الاخرى اغلبية اجتماعية مستبعدة تدريجيا وكليا عن دورة الثروة والمعرفة . ويمكن القول ان تفتّت الدولة والقانون ، واستفحال العنف وسيطرته على كل مناحي الحياة الاجتماعية ، يرتبطان بالدرجة الاولى بأشكال تطور هذا الاستهلاك ، وأنماط التوزيع غير المتكافئ المتزايد . والطبقة المسيطرة تتطابق وتتماثل مع الدولة بقدر انهيار القاعدة القانونية لهذه الدولة ، وبقدر سيادة آليات العنف . وهذا التطابق ينطوي هو نفسه على تحول الطبقة المسيطرة من طبقة متميزة متعددة الاطراف ومختلفة التكوين ، اي منقسمة على نفسها ، الى طبقة – نخبة يقرّب فيما بينها تطابق المصالح ، ويدعم وحدتها عداء المجتمع بأغلبيته لها .
ففي المرحلة الاولى من توسع النمط الرأسمالي في التشكيلات الاجتماعية التقليدية يؤدي التناقض بين مصالح النخب القديمة والجديدة ، الى خلق ميزان قوى يعمل نسبيا لصالح الاغلبية الاجتماعية ، ويمنع اتحاد جميع اطراف النخبة ضد المجتمع . ويقتضي حلّ هذا التناقض الحفاظ على حد ادنى من الدولة ، اي من صعيد اجتماعي قانوني وأخلاقي تخضع له كارهة او بإرادتها جميع الاطراف . وتتراكب في هذه المرحلة الاشكال القديمة للإجماع الايديولوجي ، والاعتراف المتبادل السياسي والتسوية الاقتصادية مع الاشكال الحديثة ، وتفضي الى قيام تراتب مقلق للطبقات والسلطات الاجتماعية . إن المرتبية الاجتماعية تفقد هنا ولا شك مصدر نموها وإعادة تكوينها ، لكنها تظل تفعل مع ذلك وتنظم تحويل الثروة والمعرفة بشكل تدريجي الى الطبقات الجديدة .
لكن ما ان تضعف النخبة التقليدية وتفقد وزنها الحاسم في الساحة السياسية ، حتى يصبح من الممكن تحطيم القشرة القانونية التي بقيت تعيق حتى الآن الانتقال السريع والكامل للثروة والسلطة والمعرفة الى النخبة الجديدة . ان هذه القشرة هي بالضبط الدولة القانونية التي تتخلى عن مكانها لصالح دولة هي اولا وأخيرا ادارة لوسائل العنف الشامل .
ويمكن القول ان الدولة التابعة تتسم في مرحلتها الاولى بالهيمنة النسبية للفئات التقليدية ، وذلك على الصعيد السياسي ، في حين ان عملية خلق النخبة الجديدة تنزع سابقاتها شيئا فشيئا كل المواقع الاقتصادية . وفي هذه الحالة يتخذ العنف شكلا سياسيا ايديولوجيا بالدرجة الاولى ، في حين إن تحول الثروة والسلطة يبقى محصورا ضمن ما يسمح به ميزان القوى ، ولا يأخذ الاغتصاب والنهب شكلا سافرا وعاما . ان الدولة تظل هنا ساحة لصراع مجموعات ضغط مختلفة ، لكنها لم تصبح بعد طبقة/دولة . ان نمو البيروقراطية العسكرية فيها ينمّ عن صعوبة الوصول الى تسوية بين مجموعات الضغط هذه ، وبداية تفكّك آلياتها كمؤسسة عامة .
وبقدر ما تصبح المكانة التي تحتلها طبقة او فئة اجتماعيا معيّنة في الدولة هي التي تحدد وضعيتها الاجتماعية ، وغالبا ايضا ، وضعيتها الاقتصادية ، فان الصراع على السلطة يصبح العامل الذي يشترط ويتحكم بكل فعالية اجتماعية فكرية كانت ام مادية . وتبدو الدولة عندئذ كمجرد رافعة للطبقات وللنخب المتجددة . وهذا ما يفسر الهشاشة الكبيرة للحياة السياسية في البلاد العربية من جهة ، وسيطرة هذه الحياة المفرطة على كل نواحي النشاط الفردي والاجتماعي . وليست الاحزاب السياسية هنا إلا طفرات سياسية تعيش على هامش الحزب الاساسي والرئيسي الذي هو الدولة ذاتها ، وليس لهذه الاحزاب خارج اطار تعايشها او تنافسها مع الدولة اي حياة ثقافية او اجتماعية مستقلة وخاصة . إن الجدل الاجتماعي يظل هنا بالدرجة الاولى جدلا سياسيا ، مما يفقر المجتمع من الابداعات النظرية والعلمية والتقنية ، ويعطي لصراع الطبقات والبرامج الاجتماعية شكل الصراع بين الدولة والشعب ، وهذا الحال يمنع من الوصول الى اي تركيب او تسوية . ان الاستثمار السريع لميزان القوى ، وتوظيف اقل المكاسب في تحسين المواقع الاقتصادية لإفراد وفئات النخبة ، لا تعكس هذا الجدل الاجتماعي المسدود فقط ، ولكنها تبين ايضا المنطق الداخلي للنظام ككل : منطق الكسب والصعود السريع . ان وتيرة البحث عن التحقيق السريع والمردود الفوري هذه تجعل النظام العربي يعيش بأكمله بمنطق ما قبل – تاريخ المجتمع .
وينعكس ذوبان الدولة في تزايد انعدام الاجماع والعجز عن انجاب قيم مشتركة موجّهة ، هي معيار كل نزاع ومبدأ وضع حدّ له في الوقت ذاته . وينعكس كذلك في تحلل السلطة من ضوابطها القانونية والمعنوية وفي تحولها الى قوة خالصة تترجم فورا الى منافع في الحياة اليومية او الى مكاسب معنوية . فالمسئول لا يكتفي بالحصول على المسؤولية ، ولكنه مدفوع الى إذلال الآخرين والتنكيل بهم ليحقق سلطته في شكلها الاكثر فجاجة ، وصاحب الثروة لا يقبل إلا بالتظاهر بها وتحويلها الى استهلاك مباشر . ان دولة العنف هي ايضا دولة التّميز والمظهرية والاستعراض . اما حل الصراعات الاجتماعية ، فلا تخضع هنا لا لتسوية سياسية كحصول ارادة واحدة علمية ، ولا لإجماع شرعي ، ولكنه يتحقق بالتصفية البسيطة السياسية او حتى الجسدية للفئات والقوى والعناصر الاضعف . وتقترب هذه التصفية في احسن حالاتها من الصور القانونية القديمة للاستبعاد الذي وسم في الماضي المجتمع العبودي . ان الشكل الاكثر قوة ونجاعة للاستبعاد ، هو حرمان الآخر من الحقوق الثقافية منها والاقتصادية او السياسية . وهذا الحرمان يمكن ان يأخذ صورا مختلفة اليوم لا تنفي الايديولوجية الانسانية الشائعة حول المساواة ولا تجابهها مباشرة . وأول هذه الصور هي تثبيت الامتيازات الخاصة بقوانين او بقرارات .
ان ظهور الدولة/الطبقة غالبا ما يرتبط بنوعية تمفصل النظام المراتبي الحديث ( الطبقات ) بالنظام المراتبي التقليدي ، او القديم الايديولوجي او العشائري . ومن الممكن للطبقة الجديدة ان تلبس ثوب العشيرة دون ان تفقد منطق عملها كطبقة او ان تتخلى عن نمط عصبيتها وتضامنها كعشيرة . ويساعد على ذلك تحرر الدولة ككل من كل القيم والمبادئ ذات الطابع الكوني والإنساني ، فتصبح الطبقة مجموعة مصالح مشخّصة وملموسة . اما العشائر فتتحول الى لحمة عصبية تمكن الطبقة من العمل كوحدة اكثر انسجاما وفاعلية في حربها ضد بقية المجتمع ، ومن الصعب ان يجري هذا الطابق بين الطبقة والعشيرة خارج اطار السلطة ، وبدون وساطة الدولة ، إذ بهذا الوسيط وحده يمكن قسر المصالح ، وتقريب المواقع السياسية الايديولوجية من الاوضاع الاقتصادية . وعندئذ يستطيع الرئيس او الحاكم المطلق ان يكون في الوقت ذاته " ملكا او شيخ عشيرة " ( القدافي الملك ، بشار شيخ عشيرة العلويين ) ، رئيسا للدولة وزعيما لعصبية متطابقة مع عصبية الدولة . وفي هذه الحالة تصبح الدولة مركز تلاقي وتطابق ثلاثة انظمة مرتبية اجتماعية : نظام التراتب الجماعي ( بادية ، مدينة ، اقاليم غنية وفقيرة ) ، ونظام الطبقات ونظام الطوائف او المراتب الثابتة الذي نجد عليه مثالا حدّيّا في لبنان وفي الطوائف الهندية .
ان هذا التلاقي بين اقليم وطبقة وطائفة في ’حجر الدولة يحل التناقض الجوهري بين الانظمة الثلاثة وما ينجم عنه من تهديد لوحدة السلطة ولسيرورة توليد سلطة مستقلة سياسية . فإذا انعدم هذا الالتحام او التقمص الثنائي او الثلاثي ،في ظروف مجتمع يتميز بدورة استهلاكية ، ولا يؤمن إذن اعادة الانتاج المتساوي للعصب او الطوائف في شكل طبقات حديثة ، كانت للسلطة منابع مختلفة ومتعارضة تفضي بالضرورة الى استمرار الصراع وتمنع من تكوين طبقة سائدة ومن تحررها الكامل وسيطرتها على الدورة الاستهلاكية . والنظام الدولي يسعى الى تنظيم هذه الدورة وتوحيد وكلاءه في جميع البلاد العربية ، بحيث يصبح من السهل التعامل وتحقيق دورة راس المال . ثم ان آلية العنف لا يمكن ان تكتمل بدون الغاء او ازالة المصادر المتعددة للسلطة . ان منطق النظام الاجتماعي يفرض هنا بالضرورة اندماج السلطة واختلاط مصادر تكوينها الايديولوجية والسياسية والاقتصادية . وهكذا تصبح الدولة والحزب والعصبية الحاكمة شيئا واحدا .
وتكاد الاختلافات في اشكال الدولة التي تحددها في نظر بعض الباحثين العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية تختفي تماما . فليس لتطور هذه الدولة التابعة اية علاقة بتطور الرأسمالية من دولة مطلقة في مرحلتها الانتقالية الاولى الى دولة ليبرالية في عصر الرأسمالية الاحتكارية . ان ما يبدو هنا باستمرار كخط عام ، هو انحطاط السلطة ذاتها بأشكالها المختلفة التنفيذية والتشريعية والقضائية ، وبطرق تآلف عناصرها ، الى ضرورة قوة خالصة . وهذا الانحطاط الذي يعني ايضا ذوبان الدولة وتلاشيها يسير بشكل مواز في تقدمه لتقدم الانفجارات والتمرّدات الجماعية الشعبية . ان المثل السائد هنا هو تحول الديكتاتورية الكلاسيكية الى طغيان فردي ، وهذا شيء خطير يعجل باقتراب الساعة التي لا ريب فيها اذا لم توضع القاطرة في سكتها الحقيقية .
كل ذلك يفسر تدهور دور الاحزاب السياسية ومكانتها في البلاد العربية ، ونشوء الفصائل المسلحة والانتحارية ، وبالمقابل المليشيات المتعددة المهام التابعة للدولة . وهي جيوش حقيقية موازية بكل معنى الكلمة ، من جهة ، وجماعات العنف والإرهاب الشعبية ، في مواجهتها من جهة اخرى . وكلما تطابقت الدولة مع الفئة التي تتحكم بها وتحولت الى اجهزة قمعية محضة ، انهار اطار الشرعية والعمل السياسي ، وظهر الصراع الاجتماعي صراعا شاملا لا وجهة محددة له إلا تدمير رموز المقاومة الشعبية ومرتكزاتها بالنسبة للدولة ، وتحطيم كل ما يرمز لسيطرة او للحكم من عناصر مدنية او سياسية او عسكرية بالنسبة للطر الثاني . ان التدمير المتبادل هو النتيجة الطبيعية والمنطقية لحرب ليس لدا اي فريق امكانية حسمها او ايقافها دون تحمل تضحيات جسيمة لا يمكنه قبولها . ان الوصول الى هذا التصعيد المتزايد للعنف لا يصدر عن الغاء السياسة وحسب ، ولكنه يعيش ايضا على الاعتقاد الخاطئ بان سد قنوات العمل السياسي يمكن ان يزيل قاعدة نمو القوى المعارضة والمناقضة . والحال ان الغاء السياسة كنشاط اجتماعي هو الخطوة الاولى نحو فتح باب الحرب الاجتماعية المدنية في الدولة .
ان العنف غير القانوني لا يشكل خطرا على النظام السياسي العربي لما يحمله من امكانات تنمية -- للمعارضة الراديكالية والجذرية ، بل ربما يساهم في ابعاد جزء كبير من الجمهور عنها – ولكنه يخيفه ، لأنه يهدد قاعدة شرعيته المستندة الى القوة والعنف ، كما لو ان تحدّي قانون لا شرعي يصبح بحد ذاته مصدرا لشرعية القانون الجديد . ان العنف التحتي يطمح على ما يبدو الى حرمان عنف الدولة من يتأصل كعنف شرعي ومقبول . وما لم يطرأ تغير ملحوظ على بنية المجتمع ذاته وعلى بنية الدولة في علاقاتها بالجماعة التي تتحكم بها فليس من الممكن الخروج من حلقة العنف هذه ، بل الوضع سيزيد اكثر استفحالا وخطورة .
وقد اشار باحثون كثيرون الى عدم الاستقرار الذي تعيشه الدول العربية وهشاشة مؤسساتها التي لا يقاس عليها لأنها ملغومة ، و ذلك ليس نتيجة لعمق الصراع الطبقي او الفئوي فيها ، ولكن بالعكس ، لان النزاعات تأخذ فيها شكل نزاعات مباشرة على السلطة ومنافسة مستمرة على المناصب . وتبقى التغيرات لهذا السبب سطحية تمس الممسكين بالسلطة والحكم دون ان تمس البنيات الفعلية للدولة وللسياسة . ان الدولة العربية تحمل في ذاتها عناصر تمرد مستمر ، لكن ليس عناصر ثورة ( مصر ، اليمن ، سورية ، ليبيا ) . ومع ذلك ، فان الاستقرار الذي تعيشه العديد من الانظمة العربية منذ اكثر من عقد من الزمن ، هو دليل ومؤشر على عمق التناقضات التي تعمل في هذه البلاد وتشقها شقا عموديا بين مجتمعين لا لقاء بينهما . وهو استقرار لم يلغ التنافس على المناصب ، ولكنه عممه على جميع الاصعدة في الوقت الذي سمح فيه لكل صاحب منصب ان يجعل من نفسه مخلوقا على شاكلة السلطان وصورته . ان تحول الدولة الى عشيرة يعمل هو ذاته على تحويل الصراع الاجتماعي الى صراع عشائري ، ويجعل من الثورة تمردا وانتفاضات دائمة ، لأنه يمنع الوصول السريع الى تسوية . فمبدأ الحرب العشائرية هو الغزو ومبدأ الصراع الاجتماعي هو تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية .
ولاشك ان هناك فرقا بين الدولة التابعة في المرحلة الاولى لتطور النظام الرأسمالي في بلدان المحيط وبنيتها في المرحلة الثانية . ففي المرحلة الاولى الزراعية التجارية تبقى الدولة مرتبطة بوظيفتين اساسيتين لا تفترضان تغير كل النظام السياسي القديم وهما توريد المواد الاولية للمركز وفتح السوق المحلية لبضائع والرساميل الاجنبية الباحثة عن منافذ لها ، او عن معدلات ربح كبير . وفي هذا التطور ، يمكن ان يحصل نوع من التركيب بين نظام المراتب التقليدي ونظام المراتب الحديث ، فتقوم الطبقة العقارية ذاتها من خلال الدولة بوظائف الرأسمالية ، وتتكفل بادارة اعمالها كحليف خارجي . وفي هذه الحالة لا تلعب الدولة الحديثة إلا دور التأليف بين العصبيات المختلفة والمتولدة عمليا خارجها مما يسمح بتطعيم الدولة ب " برلمان " يسمح لكل طرف من اطراف النخبة التقليدية المرتبطة بأقاليمها او طوائفها بالحفاظ على تميزه وصوته الخاص من جهة ، وبحل النزاعات داخل صفوفها كفئة حاكمة من جهة ثانية .
وفي التطور الثاني الذي يواكب الاستقلال وينعش الامل بالتقدم الصناعي وبالتصنيع ، تنجح الدولة والبيروقراطية المتزايدة التأثير الى الاستقلال عن النخبة القديمة وخلق سلطة سياسية خاصة بها . وتبدو هذه السلطة في فترتها الاولى مستقلة وقائمة في استقلالها على معاداتها لتنافس العصب والعشائر والأقاليم والوجاهات ، اي طامحة الى ان تصبح سلطة واحدة وموحدة . ومن هذه السلطة يبدأ التركيز على الايديولوجية الجديدة المستلهمة لأفكار الوطنية والوطن . ويرتبط ذلك بظهور نظام تعليم رسمي وجيش وطني مستند الى الخدمة العسكرية الالزامية ( تم الغاءها في المغرب ) مما يؤكد السعي نحو الاندماج الوطني والإثني ضد الفصام العصبوي .
وهذه الدولة هي من كل الوجوه اكثر قوة وانتشارا وهيمنة من الدولة السابقة . فهي تتدخل في جميع مناحي الحياة الاجتماعية . وعندما تتحول من جديد الى اداة تخدم مصالح فئة اجتماعية محددة ، او تصبح هي ذاتها اطارا لتنظيم هذه المصالح وتوسيعها حسب منطق دورة راس المال الدولي ، فإنها تبدو بحق من اعظم ما انتجه التاريخ من الدول التعسفية ، فتجمع القهر الفكري الى القهر السياسي ، وتدمر السلطات الخاصة والمستقلة ، وتجعل من سلطتها الذاتية ومصالحها سلطة/وطنية/ومصالح/عامة/ . فيصبح على الشعب ان يخدم هذه المصالح ويدافع عنها ويخضع لها ويكرس نفسه وإمكاناته لتطويرها . وهنا يجب ان نلاحظ كيف تتظافر آثار المرحلة الاستعمارية مع آثار المرحلة اللاحقة . فبعد تدمير مصادر السلطات القديمة في المرحلة الاولى وحرمانها من التطور والتكيف مع النظام الحديث او الجديد ، عجزت المرحلة الثانية عن القيام بالتغييرات الضرورية التي يمكن ان تجعل من التّراتب الاجتماعي الجديد ، بعيدا عن الانقسام الأقوامي والعصبوي ، وبقوة كافية ، المنبع الوحيد للنشاط السياسي الحديث .
إذن بدل ان تستبدل الدولة الحديثة الجديدة السلطات التقليدية الخاصة بسلطة وطنية واحدة اصبحت هي ذاتها مصدر تراتب اجتماعي جديد وسلطة خاصة . ومن هنا تتراكب الصراعات الطبقية والفئوية مع الصراعات العصبوية ، وتفقد الدولة آلية تميزها واستقلالها عن النزاعات المحلية . فيأخذ الصراع طابعا مزدوجا : طابع الصراع الطبقي الفئوي الاجتماعي ، وطابع الصراع العشائري . وإنّ تكوين الدولة المركزية لا يعني هنا تجاوز الانقسامات التي ينطوي عليها المجتمع ، ولكنه يفيد في دعم الفئة الاجتماعية او العشيرة التي تنجح في الهيمنة على الدولة .
إنّ نضال النخبة الجديدة/الحديثة او قسم منها في سبيل دولة حديثة مركزية لا يتناقض مع بناء دولة عشائرية ، بل هو الاداة الرئيسية لتحويل العشيرة الى دولة حاكمة او لبناء عشيرة الدولة . وسبب ذلك هو : ان المشاركة في السلطة هي التي تعطي فرصة السيطرة على الاقتصاد هنا وليس العكس . ومن هذا المنظور تشبه الدولة الوطنية الناشئة من بعض وجوهها الدولة التقليدية ، إذ ان الموقع في جهاز الدولة هو الذي ما زال يحدد المكانة الاجتماعية وشكل العلاقة مع الاقتصاد والقدرة المادية . ومن الطبيعي ان تزداد هذه العملية قوة مع ازدياد مصادر التمويل الخارجي ، حيث تتحول الدولة الى اداة لتوزيع الريع او المعونات الخارجية . في حين ان الاعتماد المتزايد على مصادر الاستغلال الذاتية او الداخلية يجعل النخبة الحاكمة حساسة الى حفظ علاقات اكثر ايجابية مع الطبقات المنتجة .
ان فئة قليلة من المجتمع النامي او التابع قادرة على الدخول في دورة راس المال الدولي ، وهي تتناقض بتزايد تركيز راس المال العالمي وتطور انماط الاستهلاك العليا . ان استمرار سير هذه الدورة لصالح المركز العالمي يقتضي تأمين مرور الاموال بأقل ما يمكن من التكاليف ، ومن مخاطر التوزيع في البلاد التابعة . وإضافة الى ذلك ، يجرّ تيار الدورة هذه الأذى والخراب على كل النظام الاجتماعي المحلي بما يحطم فيه من علاقات ’توازن بين الارباح والاجور وتكاليف الانتاج والأسعار وغير ذلك . فهو في ذات الوقت يخلق نخبة تعيش في العصر النفطي ومجتمعا يرتد في نمط حياته الى العصر الحجري . وليس من الممكن الحفاظ على العلاقة القائمة هذه بدون تحويل الدولة والسلطة الى جيش احتلال بمعنى الكلمة . ولهذا غالبا ما يأخذ النضال ضد الاوضاع هنا شكل النضال ضد الدولة ذاتها وليس ضد الحكم القائم فقط ( برنامج اليسار الجذري واليسار الراديكالي وحركات الاسلام السياسي ) . في الكثير من البلاد العربية يخيم على المجتمع مناخ العصيان الدائم والمستمر .
ان ما نعيشه الآن بالوطن العربي الجريح هو سيرورة انهيار الدولة القائمة رغم او بسبب ما وصلت اليه من قوة وصلابة وتماسك جعلها اداة لاستعباد المجتمع لا قاعدة لتنظيم حرياته وأمنه ونشاطاته الاقتصادية . وعلى طبيعة القوى الاجتماعية الصاعدة ونوعية صلاتها بالمجتمع وتحررها من دورة راس المال الدولي ، يتوقف نجاحها في اعادة الاعتبار لهذه المؤسسة العامة او زوال الدولة نهائيا والانتقال الى حقبة وسيطية جديدة ، وإقطاعية حديثة .( حال مصر ، ليبيا ، اليمن ، تونس بعد الانتفاضة و سورية في الطريق ).



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في بناء الحزب العمالي الثوري (منظمة الى الامام) ( وجهة نظر )
- الطائفية الورم الخبيث بالوطن العربي
- ازمة منظمة ( التحرير ) الفلسطينية -- دراسة تحليلية ونقدية لم ...
- البومديانية وتجربة التنمية الجزائرية المعاقة
- المثقفون والصراع ( الطبقي )
- (الايديولوجية العربية المعاصرة )
- انقلابيو فتح وراء مقتل ياسر عرفات
- انصاف الحلول : الارث الاتحادي الراديكالي ( 5/5)
- انصاف الحلول : الارث الاتحادي الراديكالي ( 4/5 )
- انصاف الحلول : المؤتمر الاستثنائي ( 3/5 )
- انصاف الحلول 2/5
- انصاف الحلول 1 / 5
- يونيو شهر النكبات والنكسات المصرية
- الانتظاريون ليسوا بمرجئة
- ملف - المتغيرات في تركيبة الطبقة العاملة ودورها ،والعلاقات م ...
- المثقف
- العراق بين مخاطر التقسيم والانقلاب العسكري واللّبننة ( 2 )
- العراق بين مخاطر التقسيم والانقلاب العسكري واللّبننة ( 1 )
- الشبيبة
- ملف المراة : آفاق المراة والحركة النسوية بعد الثورات العربية


المزيد.....




- صدمة في الولايات المتحدة.. رجل يضرم النار في جسده أمام محكمة ...
- صلاح السعدني .. رحيل -عمدة الفن المصري-
- وفاة مراسل حربي في دونيتسك متعاون مع وكالة -سبوتنيك- الروسية ...
- -بلومبيرغ-: ألمانيا تعتزم شراء 4 منظومات باتريوت إضافية مقاب ...
- قناة ABC الأمريكية تتحدث عن استهداف إسرائيل منشأة نووية إيرا ...
- بالفيديو.. مدافع -د-30- الروسية تدمر منظومة حرب إلكترونية في ...
- وزير خارجية إيران: المسيرات الإسرائيلية لم تسبب خسائر مادية ...
- هيئة رقابة بريطانية: بوريس جونسون ينتهك قواعد الحكومة
- غزيون يصفون الهجمات الإسرائيلية الإيرانية المتبادلة بأنها ضر ...
- أسطول الحرية يستعد للإبحار من تركيا إلى غزة


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - ميكانيزمات التحكم في القرار السياسي بالبلاد العربية