أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - المثقف















المزيد.....


المثقف


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 3687 - 2012 / 4 / 3 - 00:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



قبل الاسترسال في التحليل لا بد من التفريق بين جمهور المثقفين وهم قلة ، وبين جمهور القراء وهم كثرة . ان المثقف وبخلاف القارئ هو من يبدع وينتج الافكار قصد التأثير في المجتمع . اما جمهور القراء فهم يكتفون باستهلاك ما ينتجه جمهور المثقفين ، وحيث ان جمهور المثقفين على قلته يهدف الى تغيير نمط الحياة ، فان هذا التغيير قد يكون ايجابيا وقد يكون سلبيا . التغيير الايجابي يكون باقتران الافكار المنتجة بالصالح العام . مثلا الى جمهور المثقفين يرجع الفضل في اذكاء روح الثورة ضد الاستعمار المباشر في بداية القرن الماضي . اما جمهور القراء الذي اخد بمنتوج المثقفين فقد اسهب اسهابا ايجابيا في دفع العامة الى تبني الافكار الجديدة بخصوص التحرير والاستقلال . كما قد يكون انتاج المثقف سلبيا اذا هو انساق الى اضفاء الشرعية على جملة تصرفات تشكل مسخا للقيم والأعراف باسم الحداثة المفترى عليها ، او باسم احتكار الماضوية والقروسطوية وتوظيفها في صراع يؤثث للفاشية والإنابة عن المجتمع . ومثل جمهور المثقفين الذين قد يتراوح منتوجهم بين الايجابية وبين السلبية ، فكذلك ينقسم جمهور القراء في تعاطيهم مع منتوج المثقفين الى ايجابيين والى سلبيين . وحيث ان الاقلية هي التي تذهب بعيدا في فهم مضمون ومغزى ما هو مكتوب من مخطوطات ، بل الذهاب الى حد تحليل ما بين السطور بدل الاكتفاء بالقشور والسطح وتنشط في تحريك العامة لما يخطط له جمهور المثقفين ، فان الاغلبية من القراء وحتى لا تتعب مخها ، فإنها قد تكتفي بالقراءة السطحية دون الغوص في المضمون ،او انها قد تقرا بالمقلوب فينتج فهما بالمقلوب كذلك . وبما ان المثقفين يلعبون راس الحرب في التغيير ،وبما ان جمهور القراء الايجابيين الذين يفككون الرموز يلعبون دور الوصل مع العامة ، فانه غالبا وعند حدوث اية ثورة ، يستفيد من التغيير الجبناء والإنتظاريون الانتهازيون الذين كانوا يراقبون فرصة الانقضاض لسرقة التغيير دون المساهمة في احداثه . لهذا صح القول ان الفلاسفة والمثقفون ينظّرون للثورة ، وجمهور القراء من المثقفين الثوريين يخوضونها ، لكن في الاخير تؤول الامور الى الجبناء الذين يحتلون امامية الصفوف عند وقت الرخاء . هذا ما حصل في مصر ويحصل في ليبيا وغدا سيحصل في سورية . واذا كان الاستثناء المغربي لما حصل في الشرق العربي قد اضحى قاعدة منذ تصويت الشعب بالأغلبية المطلقة في مشروع تعديل الدستور ، فان وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكومة ما كان ليحصل لو لم يعرف المغرب حراكه بطريقته الخاصة . والسؤال هنا هل الحكومة الحالية هي حكومة ( اسلامية ) حكومة ( ملتحية ) حكومة ( عبدالاله بنكيران ) ؟ وهو ما يعني ان الاستثناء المغربي لم يقتصر فقط على الحراك ، بل شمل تعيين وزراء الحكومة من (الوزراء ) المتحزبين الى الوزراء غير المتحزبين .
وإذا رجعنا الى التاريخ سنجد ان جمهور المثقفين على قلتهم يؤثرون كثيرا في صنع الرأي العام وفي تغيير العقليات وفي تغيير الاوضاع والتأثير في المراكز . ان جمهور المثقفين يقفون وراء الثورات كما يقفون وراء الحملات الايديولوجية والثقافية التي تؤثر في البنية السياسية للدول والنظم السياسية . هكذا سنجد لكتابات المثقفين امثال ماركس ، انجليز ، الكسندر كولونتاي ، لينين ، ستالين ، تروتسكي ، بلخانوف ، زينوفييف ، اوليانوفسكي ، بوخارين ، لي ذوأن ..لخ خلال القرن التاسع عشر وبداية العشرين دورا في دفع القراء الشغوفين بالقراءة للوقوف وراء الثورات التي عرفتها البشرية في القرن العشرين . فكانت اللينينة في روسيا وكانت الماوية في الصين كما كانت التمايزات في النظم في بولونيا ورومانيا ويوغوسلافيا وألبانيا وفي الكمبودج وهكذا . كما ان كتابات المثقفين في منتصف القرن العشرين من امثال ( ماكس فيبر ، جونبول سارتر ، غرامشي ، ماو ، لوسيان غولدمان ، مارشال شاتز ، هربيت ماركوز ، بنديت كوهين ، ماكسيم رودنسون ..لخ ) كان لها صداها عند جمهور القراء الذي هيجوا المستضعفين الذين قادوا انتفاضة الشبيبة الثورية في ماي 1968 في اوربة وبالولايات المتحدة الامريكية . وكان لكتابات ماوتسي تونغ وهوشيمين ابلغ الاثر في دفع انتفاضة الشباب الى الدخول في معترك رفض الحرب بالهند الصينية واعتبارها حربا امبريالية هدفها الاستعمار القائم على سلطة القتل والذبح . كما كان لكتابات ميشيل عفلق الدور الاساسي في تحفيز القراء العرب في الاقطار العربية التي اسست لحزب العربي الاشتراكي الذي استولى فيها على الحكم في سورية والعراق . و لو لم تكن كتابات المثقفين القوميين والماركسيين العرب ما كان للدكتور جورج حبش ان يؤسس للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ، وما كان للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ان تؤسس على اسس نظرية وتنظيمية ماركسية ، وهي نفس الكتابات اثرت في الشبيبة المغربية التي اسست لمنظمات الحركة الماركسية اللينينة المغربية في سبعينات القرن الماضي .
واذا كان المثقفون على اقليتهم بالمقارنة مع القراء ، اليهم وحدهم يعود الفضل في اذكاء الثورات الشعبية ( الثورة الروسية والثورة الصينية ) وفي خلخلة المجتمع السياسي الراكد ( ثورة الشبيبة في ماي 1968 ) ، فان بزوغ ما يسمى بالربيع العربي قد حصل في غيبة المثقفين الذين فاجأتهم الاحداث بعظمتها التغيرية ، بل ان جمهور المثقفين ظل عاجزا عن مواكبة التغيير الذي عرفه اكثر من قطر عربي ، في حين اندمج جمهور القراء في المخاض العسير دون الرجوع هذه المرة الى افكار وانتاجات المثقفين الذين تكلس عقلهم وجمّد قلمهم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي . ان السبب في بزوغ ما يسمى بالربيع العربي لا يرجع الى ارهاصات ايديولوجية او تنظيمية ، بل يرجع سببه المباشر الى الاستبداد والطغيان والتحكم ، واستحواذ النظام ومن ولاه على خيرات البلاد وتهميش وتفقير الفئات الاجتماعية التي يتكون منها المجتمع .
واذا كان المثقف يبدع وينتج كلما كان مرتبطا بقضية وطنية او سياسية ، فان قطعه الرباط مع القضايا القومية والوطنية والمصيرية يجعل قلمه جافا ومخه عقيما وعقله مكلّسا ، لذا سنجد ان اغلب المثقفين الذين قلبوا المعطف بدون قراءة النتائج ، قد اصبحوا يعانون من العقم الذي اثر على نفسيتهم وعلى مستقبلهم كمثقفين وليس كرسميين ذائبين في معمعان السلطة . بهذا المعنى نقول ان وظيفة المثقف تتعاظم كلما ارتكن الى قضايا المصير وتتهاوى كلما انقلب حيث لا يجيد السباحة ، وبهذا المعنى كذلك تقترب الثقافة او تندمج في سياسة المجتمع والوسائل التي يدار بها ، وهي – اي الثقافة – شأن كل بنية فوقية تنمو على نسق البنية الاقتصادية ، ولكن يلزمها قدر اكبر من هذا الحد الادنى لتترسخ وتتطور . ان المثقف كأي مواطن لا يتخلى عن رسالته اذا انخرط في غمار السياسة ، وإنما يتخلى عنها عندما يترك ثقافته وأخلاقه في غرفة الانتظار . وفضلا عن ذلك فالإنسان المثقف لا يعيش على السياسة وحدها، وكل رجل فكر لا بد له من تأمل ما ينتاب المجتمع من تبدل وبخاصة في فترات الانعطاف التاريخية والمصيرية وما تحمله من تبدل في حياة المجتمع والدولة والناس. وان ما يبقي هذه التبدّلات ويعطيها معنى ومدى هو ان تأخذ ابعادها وأعماقها في عالم الافكار والأعمال على مدار الايام ، وإلا ظلت مجرد احلام طوباوية حبيسة عقول اصحابها . ولئن كان المثقف ابن بيئته في منطلقه الفكري وسعيه العملي ، فمكانه ليس فوق الزقاق او الدرب او الحومة ، بل داخله لان دوره ينتهي عندما يكف عن اي يكون نافعا ، اي عندما يتجافى عن الطلب الاجتماعي الذي تطرحه الحياة ، وعندها يتخلى عن دوره وينغمس في ممارسات يومية ، ويرضى بالواقع الراهن ويفتقد الرؤية والحس النقدي اللذين يجعلان من رجل السياسة الحق ، مزاجا من العالم والفنان . عندها تدب الفرقة بين المذاهب والغايات ولا تعود الوسيلة لديه متضمنة في طبيعة الاهداف الذاتية التي ينشدها او يدعيها .
واذا اردنا ان نركز البحث في المجتمع العربي ومنه المجتمع المغربي الذي نعيش بين ظهرانيه ، سنجد ان الصورة التي قد يتصورها كل مدقق منذ سقوط الاتحاد السوفيتي ، وإفلاس تجربة اليسار الماركسي الذي تحول الى ارخبيل من النسيان ، وبزوغ الكتب الصفراء وفقه الوضوء والطهارة وكيفية الاغتسال من الجنابة وعذاب القبر وكتب تفسير الاحلام وما الى ذلك من الافكار الرجعية المضبّعة ،،، لخ ، تكاد تكون واحدة ، وهي صورة باهتة للثقافة والمثقفين . فزمرة الراضين منهم بالواقع الراهن عن قناعة او غرض لا تزال هي الكثرة الكارثة ، وفي صفوف هذه الزمرة نجد جميع الاشكال والانتماءات . فمنهم المشدود عضويا الى الطبقة الحاكمة ، ومنهم المستقل نسبيا بمقدار ما يمثل قوى هامشية او حقائق اجتماعية عارضة او سائرة في طريق الزوال ، ومنهم من يتلبس لبوس اليمين او الوسط او اليسار ، كما نجد في صفوفهم من الناحية الاخلاقية ، واستشراف المستقبل ، اصنافا وألوانا . ففيهم من يتشوف الى الجديد ويطلبه ، وان كان في وضع من لا يستطيع ادراكه ، وفيهم المتشبث بالقديم او اللحظة الراهنة عن قصور رؤية او غاية شخصية ، وفيهم المثالي الذي يجهر بما يؤمن به من مثل ومبادئ ، وفيهم الانتهازي الذي يوجه بصره او حاسة شمه نحو ما يؤمل جنيه من نفع شخصي نتيجة تقلب الظروف والأنظمة .
واذا نحن وضعنا جانبا المنافقين والمداحين الذين يخْفون ، بخطاباتهم الكاذبة ، نزعات استغلالية مموهة او ملتبسة ثوبا جديدا في ظل واقع تحكمه الشعارات اكثر مما تحكمه الافعال ،، واذا تركنا جانبا الذين يعتبرون تبدلات الحياة مجالا للصيد لا ينتهي ، او الذين يضعون ثقافتهم في ( الخدمة ) مثل العطّار او الذين يلعبون دور محامي القضايا الخاسرة . وان نحن اسقطنا من مجال التقدير الحدين الهامشيين لهذه الزمرة من المثقفين ، المثاليين منهم والمنحرفين عمدا عن قصْد الثقافة وشرفها ، بقيت لدينا كتلة كبيرة تشكل ظاهرة عامة او مأساة فكرية عامة ، لان هؤلاء المثقفين ، في مجتمع متخلف ليس فيه مشاركة جماهيرية واسعة ، يمثلون في قوام السلطة ، كل سلطة ، جزءا هاما من عملية التفاعل بين عنصرين . العنصر الشعبي الذي يحس ولكنه لا يدرك او لا يعلم ، والعنصر الثقافي الذي يعلم ولكنه لا يدرك او لا يحس دائما . وآيا كان الالتزام السياسي لهؤلاء المثقفين ، فقد كانوا ولا يزالون قاعدة لا غنى عنها لكل سلطة سياسية تبعا لدورهم فيما يسمى ب ( المجتمع المدني ) .
وفي مجتمع عربي ساكن يتجمد فيه الانتاج الوسطي وتغيب فيه البرجوازية الوسطى وما فوق المتوسطة او لا يتقدم إلا ببطء ولا يطرأ فيه تبدل في علاقات الانتاج التي تعطي الطبقات والجماعات اشكالها ومقوماتها الجديدة ، يصبح العمل السياسي من خلال السلطة هو الظاهرة التي تتحرك على سطح الحياة السياسية ، فيخالج هذه الزمرة من المثقفين احساس بالتبدل ورضا ذاتيا بمواكبة الحياة . وبما ان العمل في الركود و الخوف من التجديد لا يثير من الانقسام في البنية الاجتماعية إلا بمقدار ما يمكن اصحابه ، بطريقة او اخرى ، من الوصول الى السلطة او المحافظة عليها ، باسم الجماهير وبدونها ،فمن بداهة الامور ان يترك هؤلاء المثقفون انفسهم تحملهم الموجة الصاعدة بين حين وآخر نحو السلطة ، دون ان يتقاضوا انفسهم وعيا معمقا او التزاما فكريا ، بل يكفيهم وعي وضعي والتزام سكوني الاسباب والأبعاد يتضمن فيما يتضمنه استعداد الكثيرين منهم للتنازل عن وجودهم الذاتي اكتفاء ببنية نفسية فكرية تقوم بكاملها على مبدأ السلطة وتجاهل بل السماح في الحرية . وفي هذا الحال يسهم هؤلاء المثقفون في توطيد ايديولوجية غامضة غير واضحة ، وضعية لا موضوعية ، تحملهم على نسيان مهمتهم الرئيسية ، وهي الشجاعة في البحث عن الحقيقة والجهر بها بوعي مطابق للواقع او مقارب له .
ان بلوغ الثقافة الحقة في هذا العصر المعقد هو مطلب صعب ، لان مظاهر التخلف في مجتمعنا ومضامينها تطبع بطوابع اوجه الحياة كافة بما في ذلك الثقافة ، وهو امر لا يخرج مرحليا عن طبائع الامور . ولكن يظل هناك فرق بين موقف وموقف وسعي وآخر ، فبين ان يحاول المثقف النفاذ ، ولو بجهد ومشقة الى القضايا الحساسة التي تطرحها الحياة ، فيتصدى لها بكل مسؤولية ، وبين ان يداري عجزه بالانتماء السياسي للحزب او التقرب من السلطة ، سترا لمعارف ضحلة او قاصرة او لكسل فكري ، بين هذا وذاك فرق كبير . وبما ان النفوذ السياسي يجعل لهؤلاء المثقفين سلطة الخوض في كل مجال ، فقد انبرى الكثيرون منهم لموضوعات ومهام لم يكونوا اكفاء لها ، فتدخلوا في امور لم يكونوا ليعرفوا معطياتها الحقيقية وفرضوها رسميا على انها الجواب الصادق والحل الصحيح ، فإذا النتائج نقيض ما قرروا وزينوا ، وهكذا افضت الامور الى نهايات اهون ما فيها السطحية والفجاجة وتحميل المجتمع مغبتها . ان الرغبة في التسلق والوصول لدا مثقف في بلد متخلف اشد منها لدا امثاله ممن يعيشون في مجتمعات متقدمة ، لأنه لا يقيس نفسه بمقياس الثقافة العالمية ، بل بمقياس التخلف الموروث والسائد في مجتمعه ، فتغدو حاجته الاعتراف ب ( مزاياه ) مبررة في عين نفسه ، فإذا بلغ غايته فغالبا ما يتكشف ويظهر كسياسي او اداري من النوع المتوسط او الرديء يتحدد دوره كداعية او صاحب منصب او مجرد تكنوقراطي محدود
ان بعض هؤلاء المثقفين كانوا ، بلا ريب ، حسني النية مخلصين لأهدافهم ، وقد لا يثار شك في سلامة قصدهم لخدمة التطور والتقدم . ولكن فكرة الوصول الى السلطة السياسية ، او عن طريقها ، قد افسد عليهم نشوءهم وارتقاءهم الطبيعيين ظنا منهم ان مجرد الوصول سيحقق احلامهم وحتى نواياهم الحسنة ، بيد ان سعيهم هذا انتهى بهم الى مواقف فيها المفجع وفيها المضحك ( رسالة صلاح الدين الوديع الى حزب الاصالة والمعاصرة ). وذاك لان اطلاق الشعارات وطرح الافكار العامة ذات المضامين المختلفة من اعلى ، لم تكن تتوافق ، إلا لماما ، مع الواقع الموضوعي والفعلي الذي يكتشفه الناس او يقفون عليه بأنفسهم . وفضلا عن ذلك فهذه الدعوات الكبيرة لم تكن تستنهض مشاركة جماهيرية اذا لم يكن في مجال القناعة والرغبة ، ان تكون الجماهير وسيلتها وغايتها . لهذا اكتشفت الجماهير ان الدعوة للالتزام بموقف سياسي او طبقي او اهداف كبيرة ، كان يخفي تسلق بعض الفئات والجماعات الى مراكز السلطة لتصبح صاحبة امتياز كما كان الامر لسابقيها الذين ناصبوهم العداء ، حتى عندما وصلوا ساروا على نفس الدرب الذي كانوا يعادونه ، وكأن ما كان ينتظرونه هو المنصب المغير للوضع الاجتماعي . ونتيجة لكل ذلك فقد هؤلاء المثقفون الشعور بالانتماء الى تيار ثوري او تقدمي او اصلاحي او اجتماعي تحدوه الارادة والرغبة في التماس ممارسة جديدة تجد اسسها في واقع حياة الناس والمجتمع ضمن افق استشرافي عام ، لان مثل هذه الممارسة اليومية هي التي تمهد للوعي السياسي وتعمقه عند توافره وتعبئ الجماهير لصيانة مكتسباتها واغتناء مضامينها والاستزادة منها . و لأن شيئا من ذلك لم يحدث فقد اصبح ما يسمى ( التوعية ) وعظا يؤخذ مكان انبثاق الوعي الصحيح بالتجارب الذاتية والمعارف النظرية
ان النظرة الاجمالية الشاملة التي تتمثل في العداء للامبريالية والصراع الاجتماعي ، لا تكفي في مواجهة الضرورات التاريخية والمصيرية ، اذا لم تلازمها نظرة مكملة الى التعارض الواقعي في مختلف البنيات والتشكلات الاجتماعية الراسخة الجذور . ويعني ذلك ان يسعى للخروج من حدود النظام القديم ، للأفكار والأشياء ، حتى يمكن بناء مجتمع جديد ، وهو امر هام كان يضع امام المثقفين واجب المشاركة في ايجاد التلاؤم بين العداء للامبريالية والصراع الاجتماعي ، وتكييف البنيات القائمة لتخدم الهدف الكبير بدلا من ان تصبح عائقا في سبيله . ولعله كان من الافضل ان تكتسب الجماهير منعطفاتها الطبقية وردود فعلها ازاء ما يضطهدها ويمنع تقدمها وتحقيق صبوتها ، بنضالها وممارستها ، بدلا من ان تلتقى نقضا في هذا المجال او ذاك او حروفا ميتة وصيغا جاهزة . ولو ان شيئا من ذلك امكن الوصول اليه لما وجدنا هذه القطيعة بين الفكر المجرد الذي يحمله المثقفون ويدعون له ، وما استقر في اذهان الجماهير من افكار وتصورات تجعلها تتخبط في التوترات الناشئة عن عدم التوفيق بين الفكر المجرد والبنية المعنوية لهذه الجماهير .
ان هذه القطيعة جرّت فيما جرّته الى توهم المثقفين انهم بمفردهم حملة القيم الجديدة . ونظرا لقلة عددهم فقد شبه لهم ان التزامهم الدقيق بولاء سياسي يعوض عن هذا الشعور بالقطيعة ويقي افكارهم وأهدافهم من البلبلة ، بدافع من نزعات فردية لا ضابط لها ، ويشيع جوا من التناغم والانسجام تخيلوه كافيا لحمل الجماهير على اتباعهم وترسم خطاهم . ولئن كان في مثل هذا التقدير بعض الحقيقة ونصيب من الصواب ، فان ظاهر السلامة هذا كان يحتمل شيئا خطيرا ، هو تأصيل ما في المجتمع من نواقص وعيوب تستدعي الحرية الفكرية الانتقادية لكشفها ، عن طريق مصارحة الجماهير ومشاركتها ، كما تستدعي كشف ما في النظريات والإيديولوجيات من تعارض مع الواقع في فترات الانعطاف التاريخية ، وان تعطي الاولوية للإدراك الموضوعي ، لا ان تصور هذه الفترات من خلال فكرة فوقية لا علاقة لها بما يختمر في الواقع الاجتماعي للدولة .
ان التنظيم السياسي هم الشق الاكثر واقعية في الواقع لأنه يعين على ادراك ما هو قائم وما تمكن معرفته سعيا لتصور المستقبل . ولكن هذا التنظيم ليس غاية في حد ذاته ، بل وسيلة لتعبئة الجماهير ورفعها الى مستوى التقرير والسلطة لتثبت وجودها وتحسن قولة ( لا ) لأمور كثيرة بما في ذلك مظاهر تخلفها ، ويعني ذلك ان تشعر الجماهير بأنها مالكة السلطة لا مفوضة بها او متنازلة عنها ، يجعلها قادرة على تقبل النقد وممارسة النقد الذاتي . ولكن هؤلاء المثقفين لم يكونوا يملكون الجرأة ولا القدرة على الإيفاء بهذه المهمة الصعبة. وبما ان النفوذ الذي يمارسونه ( خلعة ) عليهم ،فقد صوروا للجماهير ان قضاياها ليست سوى منحة او هبة من هذه السلطة او تلك او هذا النظام او ذاك او هذا الحزب او الاخر او هذا المسئول او سواه . لقد زيّن تخلي هؤلاء المثقفين عن حرية الرأي باسم الانضباط او خوف التفرد ، ولعله الخوف من الجماهير ، زين لهم ان تضامنهم الحرفي او الشكلي مع هذه السلطة او الجماعة او الحزب سيسبغ عليهم منعةْ تريحهم من القلق و المنازعة والمكاشفة او المجابهة ، فالغوا حقهم في الاختيار ، فإذا تدخلت السلطة او الجماعة او الحزب في اختصاصهم وأملت عليهم غض الطرف عما تراه منافيا لرؤيتها طوعوا عقلهم وإرادتهم انصياعا لها ، واعتبروا ذلك الطلب اجراء ضروريا وملزما لسلامة المجتمع او الدولة او الحزب ، وبذلك اصبح همهم المشاركة في ما هو قائم وموجود ، وأصبح ادراك الانسان لديهم ادراكا رسميا مجردا . وانسياقا مع هذا الولاء او هذه التبعية فقد رأوا في كل سيئة امرا عارضا او يؤسف له او انه مرحلي وله مبرراته . وقد تقع مظالم امام اعينهم فتعتبر هي الاخرى عارضة ويريحون انفسهم من ازمة الضمير بالمشاركة في تأويلها وتبريرها ( موقف وزير العدل الرميد من قضية الاغتصاب وتزويج القاصر ) بمظالم عهد سابق . فكأن هؤلاء المثقفين ، لما لزمهم من موجات الطاعة والولاء ، اصبحوا يرون فيها قوام حياتهم ، ولم تعد لجذورهم ارض تضرب فيها غير الارض التي علقت بها .
ان الجماهير العربية المثقلة بأعبائها والطامحة الى خلاصها لم يعد يكفيها ( اساتذة ) في فن الثورة والتقدم والتبديل والتطور لتحس بما تكابده وتسعى لما ترجوه ، ( اساتذة ) يفضلون النظر الى انفسهم في المرآة تاركين للشعب مهمة ( الثورة ) بدل ان يتوجهوا بكليتهم حيث توجد مصالح شعبهم وان يستخلصوا النتائج العملية وحتى ولو لم تكن في مستوى ( الثورة ) التي ينشدونها ، اذ ليس من الثورة في شيء ، ان تحمل احلاما جديدة الى الشعب ، ولا يسار خطوة في تحقيق الاحلام السابقة . ان من حق الجماهير ان تنظر بعين الريبة وعدم الاحترام لمثقفيها ، لأنها بحاجة الى اناس يمارسون العمل والنضال الى جانبها ، ويدعمون ثقتها بقواها ويساعدونها في تحويل طاقتها الثورية الكامنة الى مشاريع سياسية . ان الجماهير تريد من مثقفيها الالتزام والتعبير عن ضمير الامة الذي هو الأنا المشترك ، المانع من ان تصبح السياسة مجرد تجريدات ونظريات وانقلابات عسكرية تصدر عن ذوات فردية او جماعات قليلة محصورة ، وتعتمد بديلا العمل السياسي المتأني والمستمر والصحيح . لهذا لا بد من الانتماء الى قضية جماهيرية ، الى أماني وتطلعات الشعب العربي الذي لا يزال رغم التضحيات المبذولة يستشعر ببعد تحقيقها في الواقع .ان مثل هذا الانتماء يساعد في تقويض الجوانب السلبية في المثقفين ويهيأ لهم مجالات جديدة للاستلهام ويحرك فيهم كوامن الجرأة على التجديد
وبالرجوع الى مختلف التغييرات الجذرية التي حصلت في العالم العربي باسم ( الثورة والثورية ) ومنذ حقبة الرئيس جمال عبد الناصر الى تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في كل من العراق وسورية ، الى التجربة الفريدة في العالم العربي ، التي عرفتها اليمن الجنوبي خاصة ايام الرئيس عبد الفتاح اسماعيل ، ومرورا بتجربة جبهة التحرير الوطني بالجزائر ... نكاد نجزم ان الواقع في تلك البلاد لم تكن له علاقة بالشعارات الثورية التي كانت تردّد وردّدها جمهور المثقفين والقراء الذين خاضوا غمار تلك التجارب من منطلقات مختلفة . ان المثقف الثوري الحقيقي هو الذي يستطيع في الممارسة ان يؤمن للناس مزيدا من التحرر والحرية كشرط لاستعادة الانسان العربي كرامته المسحوقة وحقوقه المهضومة . ان الحركات السياسية التي تدعي الثورية كائنا ما كانت ، حاضرا او مستقبلا ، اذا لم تتوصل الى الجمع والتركيب بين منجزات الليبرالية الديمقراطية والراديكالية الثورية ، فان النتيجة ستكون مفجعة للإنسان العربي والعالم العربي على السواء . فاذا زاغت هذه الحركات عن الخط وتقاعست في ازالة الاسباب الاجتماعية للبؤس والتخلف ، واذا اتاحت للناس ان يكونوا اسعد حالا في حدود التدرج المعقول ، فان اشتراكية ديمقراطية وإنسانية ستكون الحل الاجتماعي المرغوب فيه ، بدل التهديد بالديكتاتورية الطبقية ( دكتاتورية الطبقة العاملة ) والانقلابية المؤدية للجمهورية . وإذا كان هناك من شيء يؤسف له في علمنا العربي هو ان جميع الدعوات التي قامت في هذا الوطن كانت تحمل الاشتراكية ، لكنها تجاهلت المبادئ الانسانية التي تشكل قاعدة الاشتراكية ، فالحق هذا ضررا بالإنسان العربي وبالاشتراكية التي اختزلوها في الدكتاتورية والانقلابية . وما زاد في تعميق الازمة ، ظهور تنظيمات فاشية على الخط تتاجر باسم الدين لبلوغ غايات وأهداف اكثر مأساوية بحقوق الناس والجماعة . فحين تتحرك البرجوازية الصغيرة والمتوسطة و ما فوق المتوسطة من خلال مثقفيها وقراءها الرجعيين للتأصيل لنظم وممارسات غارقة قامعة للديمقراطية و مستوحاة شعاراتها على قاعدة الزجر والتعذيب مثل قطع الرؤوس والرجم حتى الموت وقطع اليدين والأرجل ، وهتك عرض القاصرات باسم العقد المخصص فقط للنكاح ... يكون الخطر الذي يؤسس له جمهور ( المثقفين والقراء الجدد ) لا يختلف حدّة عن القمع التنظيمي والإيديولوجي الذي روج له مثقفو وقراء البرجوازية الصغيرة العربية سواء كمداحين للجمهوريات العربية التي افل نجمها مؤخرا ، او عندما خاض بعضهم معركة التصحيح باسم الثورية والتقدمية التي رفضت دكتاتورية العسكر والطبقة البرجوازية المرتبطة بهم ، لكنهم عوض ان يتقدموا خطوات في الابداع لما يؤصل للديمقراطية ، غرقوا في التنظير لدكتاتوريات اشد بشاعة وظلما من ستالينية وماوية . وعوض ان يقرا هؤلاء المثقفون والقراء الواقع تجاهلوه بالانكفاء على الذات والمتاجرة بالعنوان ( المثقف ) الذي يجعلهم فوق الناس لا معهم .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق بين مخاطر التقسيم والانقلاب العسكري واللّبننة ( 2 )
- العراق بين مخاطر التقسيم والانقلاب العسكري واللّبننة ( 1 )
- الشبيبة
- ملف المراة : آفاق المراة والحركة النسوية بعد الثورات العربية
- حقوق الانسان المفترى عليها في الخطاات الحكومية وغير الحكومية
- اغلاق خمارة ( اسكار) بالدارالبيضاء
- الرجعيون والتقدميون في الاسلام
- القرامطة وافلاطون
- بلشفيك الاسلام . هل هم قادمون ؟
- الديمقراطية بين دعاة الجمهورية ودعاة الخلافة
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 8 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 7 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 6 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 5 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 4 )
- منتصف الطريق فالإجهاض
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 3 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 2 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 1 )
- مقاطعة الانتخابات في المغرب ( الخطر قد يقترب )


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - المثقف