أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - في بناء الحزب العمالي الثوري (منظمة الى الامام) ( وجهة نظر )















المزيد.....



في بناء الحزب العمالي الثوري (منظمة الى الامام) ( وجهة نظر )


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 3841 - 2012 / 9 / 5 - 04:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



بحلول 20 غشت 2012 تكون قد مرت اثنتا وأربعين سنة عن تأسيس منظمة الى الامام بصفة رسمية بعد خروج مناضليها عن حزب التحرر والاشتراكية . ان السؤال الذي يتوجب طرحه في هذا المضمار : ماذا بعد ؟ . وللإحاطة فان ما دفعني الى المساهمة في هذا الموضوع كمهتم بالظاهرة ، خروج مجموعة من ( رفاق ) الجيل الثاني بما يشبه النداء تحت عنوان : " آن الاوان لتأسيس تيار ماركسي لينين " ، ونحن كما غيرنا يتساءل عن المغزى والهدف من اثارة مثل هذا النداء وفي هذا الوقت بالضبط. بطبيعة الحال ليس المقصود من هذا الدراسة الرجوع الى الاسباب التي ادت الى خروج المنظمة الى الوجود وقبلها منظمة 23 مارس وبعدها مجموعة التكتليين التي ستعرف بلنخدم الشعب ، لان هذا اطال فيه العديد من المهتمين من خلال كتابات بعضها كان محايدا وبعضها كان منحازا وبعضها حاول التوفيق بين الاتجاهين الى درجة لم يعد اعتبار الكتابة في موضوع من هذا الشأن بمثابة طابو كان يسبب لصاحبه في سبعينات القرن مشاكل هو في غنى عنها . عندما خرجت منظمة الى الامام عن حزب التحرر والاشتراكية ، كان اول شيء استراتيجي طرحته كخطة طريق للتغيير الجذري هو بناء الحزب الماركسي اللينيني ، اي حزب الطبقة العاملة ، منبهرة بتجربة الحزب الشيوعي السوفيتي ، خاصة دوره في ثورة 1905 التي ادت الى ثورة 1917 ، وهو ما يعني ان اصحاب المشروع الاول حاولوا اسقاط تجربة على واقع تحكمه خصوصيات ترفض الاسقاطات التي لا تأخذ بعين الاعتبار التكيف المرحلي مع الخصوصية التي ترفض الاجسام الخارجية . والخصوصية لا نعني بها فقط النظام الملكي المعروف بطقوسه الثيوقراطية المستمدة من التاريخ ، بل نقصد بها الشعب المغربي الذي يتكون من اثنيات تسيطر عليها الغيبية والأنماط التقليدانية والخوف من المجهول . ان المغربي يفضل ان يعيش على راس ابرة او راس منجل طيلة عمره من ان يوارى التراب ، وهو ما يعني التمسك بالحياة بكل السبل والطرق . لذا فان هذا الواقع لم يكن له من تفسير غير ان المغرب كان ولا يزال في واد وأصحاب مشروع بناء الحزب العمالي الفلاحي في آخر ، وهو ما زكته نتيجة الانتخابات التشريعية الاخيرة التي مكنت التخلف والارتداد من ولوج الحكومة ، وفرضت على اليساريين بجميع تواجهاتهم واختياراتهم العزلة والهامش الذي ترجم بالسؤال او التساؤل الصادر عن بعضهم : " آن الاوان لتأسيس تيار ماركسي لينيني " .
بداية يجب الاشارة الى ان هذا النداء هو تخلف ورجوع الى الوراء وليس محاولة لتدارك ما ضاع . انه دليل عن التخبط والتيه الذي يعيش فيه اصحابه . وبلغة السياسة انه ارتداد حتى عن الادبيات السياسية الاستراتيجية التي رفعتها منظمة الى الامام منذ صيف 1970 ، وأهمها بناء الحزب الماركسي اللينيني . واذا كان هذا الحلم قد ظل يستغرق جميع انشطة التيارات اليسراوية والى الآن ، فان ما يؤسف له هو الوضعية البئيسة والصادمة التي وصل اليها اصحاب المشروع . لقد تفرق ( الرفاق ) الى شعوب وقبائل ، منها من اندثر ومنها من غاب ومنها من لا زال يكابد متوسلا من وزارة الداخلية الترخيص له بالحركة ( كاوتسكيو وغورباتشيو النهج الديمقراطي ) ومنهم من لا يزال يكرر نفس تجربة السبعينات التي مرت بها منظمة الى الامام ( النهج الديمقراطي القاعدي ومن يدور في فلكه من الجماعات القاعدية بعناوين لا تتعدى مجرد اسماء سمّيتموها من قبل ) . ويجب التذكير انه حتى في احلك الظروف التي مرت بها منظمة الى الامام ، ظلت المجموعة الجذرية ترفع دائما – نوعا من التحدي – شعار الحزب البلشفي ، وهو ما جسدته الصرخة الشديدة التي اعتبرها اليمينيون في التنظيم انتحارا لا يتجاوز الطاقة والذات : " لنبني الحزب الماركسي اللينيني تحت نيران العدو " وهو ما ادى الى اجتهادات بخصوص موضوع السرية التي كانت في جزء كبير منها مقتبسة من تجربة الحزب الشيوعي البلشفي . فماذا تبدل بين الامس واليوم حتى يتم التراجع – القطع – مع هذا المطلب الاستراتيجي ( الحزب ) وليرفع بدله مطلب ( التيار ) . هل هو الفشل ، اليأس ، الاحباط ام هو شيء آخر ابعد من ذلك ؟
قبل ان تخرج مجموعة منظمة الى الامام عن حزب التقدم والاشتراكية ، كانت تكون داخله تيارا معارضا راديكاليا ، وهو نفس التيار الذي يدعو البعض الآن الى احياءه . فهل فشل التيار الاول قبل التأسيس العملي والرسمي لمنظمة الى الامام بقوانينها الداخلية وبهيكلتها وقيادييها وكوادرها ومؤتمراتها التي عقدتها خارج المغرب وبالأخص في فرنسا ،ويريدون الآن بهذا النداء اصلاحه ؟ ان نفس الشيء يلاحظ بالنسبة لمنظمة 23 ، فهي كانت تيارا داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، قبل ان تنفصل وتؤسس لمنظمة كانت معروفة باجهزتها وتركيبتها مثل منظمة الى الامام . ثم الم يكن " التكتليون " مجرد تيار ماوي انتحاري صغير قبل ان ينفصل كتيار وليس كتنظيم عن منظمة 23 ماركس الستالينية ؟ ، وهو ما يطرح السؤال الآن من جدوى رفع شعار التيار وليس الحزب . واذا كان التيار يتصف بالجرف عندما يصل بعض الدرجات المتقدمة من القوة ، فماذا سيجرف هذا التيار في طريقه ؟ هل الدولة العلوية ؟ وهذا شيء لن يتأتى له لأنه من قبيل المستحيلات ، و لأنه يخرج عن نطاق طاقته وقوته . ام انه سيجرف الحركات الرجعية الظلامية من اخوان مسلمين ( حزب الللاّعدالة واللاّتنمية ) ام سيجرف ( جماعة اللاّعدل واللاّحسان ) ام انه سيجرف ( السلفيون المكبوتون ) ؟ وهو امر سيكون بالغ الصعوبة بسبب الاختلاف في القوة بين هؤلاء الفاشيين الذين يتربصون شرا بالدولة وبالمغرب ،وبين الماركسين الذين يعيشون خارج تطور التاريخ ولا يتعدى وجودهم رؤوس الاصابع ؟
وأمام اختلاط المفاهيم ، وبالرجوع دائما الى الادبيات الماركسية للتيارات اليسراوية بمختلف تلاوينها وعناوينها ، وخاصة في مسالة ممارسة العنف الثوري . هل عنف ( الرفاق ) سيكون منصبا فقط على عنف الدولة الزجرية ، وهو عنف لم يعد له من اهمية قصوى كما كان ذلك في السبعينات ، خاصة بعد ظهور الافكار الارهابية التي تتحدث باسم الاسلام ( العنف يولّد العنف ) ام ان عنف ( الرفاق ) سيطال العنف الاكثر خطرا ليس فقط على الدولة ، بل يشكل خطرا حتى على اليسار الراديكالي واليسار الجذري ، والذي وصل حد الاغتيالات التي تعرض لها العديد من منتسبي اليسار بدعوى التكفير ؟ . والسؤال بوضوح من يشكل اليوم بالمفهوم الماركسي المتلاشي عدوا رئيسيا وعدوا ثانويا . هل الدولة التي تقبل بالجميع ،ام الجماعات الاسلاموية المتطرفة التي تتربص الشر بالجميع ؟
واذا كان اصحاب ( التيار ) يختلفون عن اصحاب ( الحزب البلشفي ) ، فانه بالنسبة للأخيرين كيف سيكون بناء هذا الحزب ؟ هل سيكون نسخة طبق الاصل لحزب لينين قبل 1917 ، او انه سيكون شبيها لحزب ماوتسيتونغ قبل 1949 ؟ ام انه سيكون حزبا مستوحيا للخصوصية المحلية التي كانت عائقا وحاجزا ،بل سدا منيعا لمختلف الاصدارات التي حاولت التأسيس لدكتاتورية النخبة ، وليس لدكتاتورية العمال غير الموجودين في المغرب بالمفهوم الماركسي لتعريف البروليتارية الاوربية ؟
ان عملية خلق ( تيار ماركسي ) بدل انشاء ( الحزب الماركسي ) تعتبر رجوعا الى الوراء ، لأنها ستتخطى التقنية المضبوطة لصالح الفوضى الخلاقة . ان مسالة التيار غير مضمونة ، لأنها حتما ستسفر عن خلق تيارات بأسماء متعددة وهكذا الى حين الاندثار بالنسبة للبعض ، والتقزيم بالنسبة للبعض الآخر كما هو الحال اليوم ، وهو ما يعني تكرار اخطاء التجربة التي كانت تيارا وبقيت تيارا ، ولم تصل الى مرحلة بناء الحزب الثوري الذي تم التنظير له منذ مطلع السبعينات .
اما عن الاقلية القليلة من اليسراويين المنضوين تحت لواء التيار القاعدي بمختلف تلاوينه ، والتي تردد مقولة الحزب الممثل لدكتاتورية الطبقة العاملة ، فان ما يعيبها هو انها مثل الببغاء تردد مقولات متهالكة من التراث الماركسي لم تكن صالحة للتطبيق حتى في البلاد التي عرفت تغييرات باسم العمال الذين ظلوا بعيدين عن الممارسة السياسية التي كانت تمارسها زمرة المكتب السياسي للحزب البرجوازي ، وهو ما عمق المشاكل التي افضت الى سقوط ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي السابق . واذا كانت الطبقة العاملة الاوربية قد فقدت حسها الثوري المزيف ، ولم تعد كذلك طبقة عمالية بفعل نمط الاستهلاك والعيش الغربيين ، بل اضحت تماثل البرجوازية في مستوى عيشها الرغيد ، فكيف سيكون الامر بالنسبة للحالة المغربية التي لا توجد فيها طبقة عمالية بالمفهوم الماركسي الضيق ؟ . عن اي دكتاتورية يتحدث هؤلاء في ظل وضع تحكمه خصوصيات صلبة لا تقبل التنازل ولا الهوادة ؟ وفي غياب وجود طبقة عمالية حقيقية ، فان الدكتاتورية التي يردد هؤلاء المشتغلون بالفكر والعقل ، ولا يشتغلون بالمنوال والمنجل والمطرقة ، ستكون دكتاتورية النخبة المتعلمة ودكتاتورية الانتلجانسيا الثورية التي مصالحها نقيض لمصالح الفئات المهمشة التي لا يجرؤون بالتحدث باسمها وفي غيبتها ومن دون ان يفوض لهم احد ذلك . وهو ما يعني تسجيل المواجهة الحتمية بين هؤلاء المثقفين ربما العضويين وبين العمال الذين يحملون هموما خاصة بهم . وفي هذه الحالة فان البرجوازيين سوف لن يترددوا في استعمال العنف لقمع احتجاجات ( العمال والفلاحين ) الذين يستبدلونهم كطبقة استبدادية متسلطة . لقد كانت هذه هي وضعية الاحزاب الشيوعية بأوربة الغربية وبالاتحاد السوفيتي السابق ، ما عجل بالسقوط المدوي في اول فرصة اتيحت للمقموعين المحكومين ، بالتعبير عن حقوقهم والمطالبة بحرياتهم . ومن جهة اخرى ان التنظير ومن داخل الاقبية لدكتاتورية الطبقة العاملة ( لنفرض هذا تجاوزا ) سيخلق دكتاتورية استبدادية متسلطة على رقاب باقي الطبقات الغير منتمية الى ( طبقة ) فئة العمال والفلاحين ، وهو الامر الذي يفسر بتفسير واحد ، هو سيادة الدكتاتورية وانعدام الديمقراطية . اذن ما هو السبيل للوصول الى تأسيس الحزب الماركسي الثوري ضمن جدلية التطور الجماعي الوطني ، ودون إفرازات الحلقية والشوفينية والوصاية الضيقة . اي كيف يمكن الولوج الى النظام الديمقراطي بتضافر جهود الجميع ، وليس بفعل سحر ساحر فقط . من هنا قررت كمثقف من مثقفي العالم الثالث المهتم بالظاهرة ، الدلو بهذه الورقة كملاحظ ، وليس كمنتمي ، لأنني لا انتمي الى اي حزب ، اي المشاركة من باب الثقافة السياسية ، وليس الايديولوجية التي تبقى حكرا على المنتمين . وقبل الشروع في ذلك لا بد من الرجوع الى التاريخ ، لأنه بدون تاريخ لا يمكن ان نقيّم الحاضر كما لا يمكن ان ونقوّم المستقبل ، كما لا يمكن ان ننظر للمستقبل من اسس علمية تجانب الاخطاء التي سببت فيها الدغماتيكية والانفعالية بسبب السيطرة اليسراوية .
ان مبدأ تنظيم الحزب العمالي الثوري – على اساس قومي او متعدد القوميات ؟ -- هو احدى اعقد المشاكل التي تعترض تقليدا مسيرة بناءه في كل دولة تضم اكثر من قومية واحدة ، ضمن حدود سلطتها المركزية المتمحورة حول عاصمتها ، وفي نطاق التواصل الجيو- بوليتيكي والجيو غرافي . والغاية من هذه الدقة في التعرف لهو استثناء الحالات التي تخضع لدولة المتروبول التي تنفصل عنها جغرافيا ، اي ترابيا ، كما كان حال الجزائر بالنسبة لفرنسا ، او كما لا تزال حال ايرلندة الشمالية بالنسبة لبريطانيا . ان في مثل هاتين الحالتين ، نكاد اليوم داخل الحركات اليسارية الماركسية ، لا نجد من ينكر ضرورة بناء تنظيم ثوري منفصل عن البلد الخاضع . تنظيم تشده الى التنظيم الثوري في المتروبول اواصر التضامن والتعاون الوثيق الأممين ، لكنه مستقل عنه حيث ان هدفه الاستراتيجي الاول ، هو تحقيق الاستقلال القومي الذي يمكن بلوغه والوصول اليه بدون ان يتطابق بالضرورة مع الهدف الاستراتيجي الاول لحزب المتروبول الذي هو اطاحة الحكومة البرجوازية في بلاده .
في الحالات التي تهمنا ، حالات التواصل الجغرافي والقمعي -- كما هي مثلا ، حال بلاد الباسك التي تتقاسم السيطرة عليها الدولتان الاسبانية والفرنسية -- ، وطبعا حالات الاختلاط الجغرافي الكامل ، -- كما هي حالة السود بالولايات المتحدة الامريكية ازاء الاغلبية البيضاء العنصرية على سبيل المثال – في هذه الحالات وتلك ، تلد المشكلة من ان التواصل او الاختلاط يحتمان على الاقليات القومية المقهورة معبرا ضروريا الى تحررها القومي ، وهو تضافر نضالها مع نضال المقهورين اجتماعيا داخل الاكثرية القومية ( ونضال سائر الاقليات المقهورة ، اذا وجدت )، من اجل الاطاحة بحكومة القهر الاجتماعي والقومي . ان هذه الحالات التي سنتناولها في هذه الورقة ، هي التي تهمنا بوجه خاص ، لأننا نواجه مثلها في منطقتنا العربية : انها حالة كردستان التي تتقاسم السيطرة على ارضها وشعبها دولتان عربيتان هما العراق وسورية ، اضافة الى تركيا وإيران ، وهي حالة الاقليات غير المعربة في جنوب السودان قبل الانفصال وموريتانيا وليبيا والجزائر والمغرب ( مع الفارق الواضح في طابع وحدّة المشكلة في كل حالة ) . وهي حالة العرب الخاضعين مباشرة لسيطرة الدولة الصهيونية ، سواء ضمن حدود يونيو 1967 او اراضي 1947 . كما تطرح مشكلة مماثلة ، وان لم تكن ذات طابع قومي ، هي مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في الاردن ، لبنان ، سورية .
هذا وليست غايتنا من هذه الورقة ان نتناول هذه الحالات العينية الخاصة بمنطقتنا ، بل ان نستعرض بالخطوط العريضة تراث الماركسية الثورية ازاء مشاكل مشابهة ، ما دمنا نساهم في معالجة اشكالية الحزب والتيار من وجهة نظر ماركسية لا غيرها . والحال ان مسار بناء الحزب العمالي الثوري ( " الاشتراكي الديمقراطي " حسب مدلول هذا التعبير قبل سنة 1917 ) في الامبراطورية الروسية ، الذي يشكل اهم مرجع كلاسيكي في شؤون التنظيم الثوري ولبّ ما يسمى باللينينية . ان ذاك المسار قد واجه عدة مشاكل من طينة التي عددناها ، واشهرها مشكلة بولندة التي كانت روسيا تسيطر على قسمها الاكبر ، وتتقاسم الباقي المانيا ، النمسا والمجر . ومشكلة اليهود المنتشرين في شتى منطق الشطر الغربي من الامبراطورية القيصرية .
1 ---) حزب متعدد القوميات ام اتحاد ام احزاب قومية ؟ - التجربة الروسية - : ان النقاش الحاد الذي دار حول مفهوم التنظيم العمالي في صفوف الحركة الاشتراكية في الامبراطورية الروسية في اوائل القرن الماضي ، والذي ادى الى عدة انقسامات في تلك الحركة ، قد تمحور حول خطين فاصلين لا تطابق بينهما :
الخط الفاصل الاول ميّز " الاتحاديين " دعاة اتحاد المنظمات القومية ، عن " المركزيين " دعاة الحزب المركزي متعدد القوميات
اما الفاصل الثاني ، فقد ميّز البلاشفة ، دعاة الحزب " النخبوي " صاحب الانضباط الصارم ( تأثرت به منظمة الى الامام ) ، عن المناشفة وسواهم ، دعاة الحزب مائع الحدود والبنية
وما يؤكد الاختلاف النوعي الكامل بين الانقسامين ، ان اقطاب الجدال حول مركزية التنظيم وطبيعة عضويته – لينين ، روزا لكسنبورج وليون تروتسكي – كانوا جميعا على اتفاق حول مبدأ الحزب المركزي متعدد القوميات ، اي حزب الطبقة وليس حزب القومية . لا بل يمكن القول ان اكثر اعداء المفهوم القومي للحزب حماسا لم يكن لينين ، منظّر المركزية الصارمة ، بل خصومه الثلاثة ، انصار الفهم التقليدي ( في ذلك الحين ) لحزب واسع عريض . فكما تقول روزا لكسمبرورج ذاتها في نقدها الشهير لتصورات لينين حول " مسائل تنظيم الاشتراكية الديمقراطية الروسية " ( 1904 ) : " لا يمكن ان نشك في انه ، بوجه عام ، يلازم الاشتراكية الديمقراطية ميل قوي الى المركزة . ذالك ان الاشتراكية الديمقراطية ، قد نمت على الارض الاقتصادية الخاصة بالرأسمالية ، التي هي ممركزة بجوهرها . ولكونها تناضل ضمن الاطر السياسية للمدينة البرجوازية الكبيرة والمركّزة . الاشتراكية الديمقراطية ، اذن هي معادية بشدة لكل مظاهر الاقليمية او الاتحادية القومية . وبما ان مهمتها تكمن في ان تمثل ، ضمن حدود دولة ما ، المصالح المشتركة للبروليتاريا بوصفها طبقة ، وان تواجه بهذه المصالح العامة جميع المصالح الخاصة او الفئوية ، فإن لذا الاشتراكية الديمقراطية ميل طبيعي الى توحيد جميع تجمعات العمال في حزب واحد ، مهما كانت الفروقات من النمط القومي او الديني او المهني بين اعضاء الطبقة ذاتها هؤلاء . و لا تحيد الاشتراكية الديمقراطية عن هذا المبدأ وتنقاد للاتحادية إلا في شروط خارقة للعادة بشكل استثنائي ، كما هي مثلا حال مملكة النمسا – المجر . من وجهة نظر هذه ، لا يمكن ان يكون ثمة اي شك في انه ينبغي على الاشتراكية الديمقراطية الروسية ألا تشكل تكتلا اتحاديا للقوميات والاقليميات المحلية الي لا تحصى ، بل ان تشكل حزبا واحدا لعموم الامبراطورية . لكن المسالة المطروحة جد مختلفة ، وهي مسالة درجة المركزية المناسبة ، بأخذ الشروط الراهنة في الحسبان ، داخل الاشتراكية الديمقراطية الروسية ، الموحدة الواحدة " .
مشكلة التنظيم البولندي قبل عام 1903 : مما يجب الاشارة والتأكيد عليه ان روزا لكسمبرج في بداية حياتها النضالية ، كانت قد ساهمت في تأسيس حزب على اساس قومي ، هو " الحزب الاشتراكي البولندي " ، الذي تأسس سنة 1892 كحزب لعموم بولندة التاريخية بأقسامها الثلاثة ، يدعو الى استقلالها وتوحيدها . لكن ما لبثت روزا ان انشقت عن ذاك الحزب ، مشمئزّة من النزعة القومية التي وجدتها لدى قادته ، ولتؤسس سنة 1894 " الاشتراكية الديمقراطية في مملكة بولندا " التاريخية الخاضعة للإمبراطورية الروسية ، و تعتبر نفسها محطة قطرية على طريق بناء حزب اشتراكي عمالي لعموم روسيا ، تنتظر تأسيسه كي تلحق به ، وتدعو الاشتراكيين البولنديين في المنطقتين الخاضعتين لألمانيا والنمسا الى الالتحاق كذلك بالاشتراكية الديمقراطية في كلتا الامبراطورتين .
يمكن ان يرى بعض المحللين الماركسيين في موقف روزا هذا نوعا من " تقديس " الحدود الدولية القائمة ، لا سيما وانه توجد في كتاباتها احيانا مغالاة في هذا الاتجاه . بيد ان حقيقة الامر غير ذلك ، حيث ان فكر روزا كان اعمق من ان ترى في بناء حزب العمال وفق حدود الدولة القائمة ، مبدآ مطلقا . لذا فان الاساس الحقيقي لتصورها بالنسبة لبولندا ، كان قناعتها الراسخة بالاستحالة الاستراتيجية ، في الظروف الراهنة آنذاك ، لتحرير بولندا من النير القومي بمعزل عن انقلاب عام للوضع في الامبراطوريات الثلاثة ، او في روسيا على الاقل . اي ان دعوة روزا الى ان يلتحق العمال البولنديون بالحزب الاشتراكي الديمقراطي في كل من روسيا وألمانيا والنمسا ، لم تكن’تمتّ بأي صلة الى " القانون الدولي " ، بل كانت نابعة من فهم طبقي للإستراتيجية الثورية التي شرحتها في سنة 1896 في مقال حول " المسالة البولندية " ، كتبته قبيل انعقاد مؤتمر الاممية الثانية في لندن : " في وجه الحكومات الثلاثة التي تهيمن على بولندة ، وفي وجه بورجوازية مملكة بولندا التي تمتدح عرش سان – بطرسبورغ ( اي العرش القيصري ) وتعتبر كل فكرة تتعلق بقيام بولندا من جديد كأنها جريمة وتعدّي على ممتلكاتها ، وأيضا في وجه الملاك العقاريين الكبار في غالبسيا ( قسم بولندا الواقع تحت سيطرة النمسا ) الذين يمثلهم شخص بادني ، رئيس الحكومة ، والذين ينوون المحافظة على وحدة المملكة النمساوية ، اي على تقسيم بولندة . وأخيرا في وجه الملاك الكبار البولنديين – البروسيين الذين يصوّتون لصالح الموازنة العسكرية ، اي لصالح الاكثار من الحرب التي تضمن ضمّ بولندة -- ماذا يمكن البروليتاريا ان تفعل في مثل تلك الظروف ؟ . فاذا انتفضت سيجري قمعها دمويا ، لكن بدون انتفاضة لن يحصل شيء .
ذلك ان استقلال بولندة لا يمكن الحصول عليه طبعا بغير انتفاضة مسلحة . ولن ترضى اية دولة من الدول الثلاث ، بان تتخلى طوعا عن قطر تهيمن عليه منذ مائة عام . والحال انه ، في الظروف الراهنة ، لا يمكن ان تؤدي الانتفاضة سوى الى سحق البروليتاريا " .
من هنا اصرار روزا على ضرورة التحام نضال البروليتارية البولندية بنضال سائر القوميات في اطار كل من الامبراطوريات الثلاث . من هنا اصرارها على ضرورة التحاق الماركسيين البولنديين ، او التحاق منظماتهم ، بالحزب الاشتراكي لكل من روسيا وألمانيا والنمسا ، بدل تشكيل " حزب بولندي " عبر حدود الدول الثلاث . اما مصدر خطأ روزا في تفهم المسالة القومية ، كما اتضح في المناقشة التي دارت لاحقا بينها ولينين في ذلك الصدد ، فهي تكمن في انها استنتجت بشكل " ميكانيكي " من استحالة انتصار البروليتارية البولندية بقواها الذاتية منعزلة --- وهي فكرة صحيحة كليا في مثل تلك الظروف ( لا حظوا ان الظروف ’ذكرت مرتين في الاستشهاد الوارد اعلاه ) --- استنتجت ان التحرر القومي مرهون بانتصار الثورة الاشتراكية ، وليس بانقلاب الظروف الاستراتيجية وحسب ، وان المطلب القومي الاساسي الذي هو مطلب تقرير المصير بما فيه حق الانفصال ، من شأنه فقط بالتالي ان يكون سلاحا برجوازيا ضد الثورة البروليتارية القادمة . وقد كانت روزا بذلك في تناقض مع الحيثيات الواردة اعلاه ، والتي تشير الى رفض الطبقات الحاكمة البولندية فكرة استقلال بولندة . فقد اغفلت روزا انه ، وفي تلك الظروف ، بإمكان البروليتارية البولندية ان تجعل من فكرة الاستقلال القومي ، اذا احسنت استعمالها ، سلاحا حادا بأيديها ضد تلك الطبقات ، وضد شقيقاتها الروسية والألمانية والنمساوية ، وان تقطع بالتالي الطريق امام استعمال تلك الفكرة ضدها . وعلى اي حال ، هذا يبقى موضوعا آخرا خارج سياق هذه الورقة ، كما يبقى متميزا ومختلفا عن موضوع التصور الأممي للحزب العمالي الثوري ، الذي لم يختلف عليه قد لينين وروزا .
مشكلة التنظيم اليهودي ( البوند ) قبل عام 1903 : كانت مشكلة تنظيم اليهود داخل الامبراطورية الروسية مختلفة نوعيا عن مشكلة التنظيم البولندي ، بحكم الفارق النوعي بين ظروف " إقامة القوميتين ". ان هذا الفارق يكمن في ان السكان اليهود في اطار الدولة الروسية ، كما في المانيا والنمسا وجميع الدول الاخرى ، لم تكن لهم ارض خاصة بهم يتمركزون عليها ، بل كانوا مشتّتين في ارجاء الشطر الغربي من الامبراطورية ، يقطنون وسط مناطق قومياتها المختلفة ( بولندة ، ليتوانيا ، ليتونيا ، أكرانيا ، روسيا ...الخ ) . فإذا كان ثمة مجال للنقاش حول الاستراتيجية الثورية بالنسبة لبولندة ، وهل يمكن تحرر بولندة القومي بقواها الذاتية منفردة ام لا ، فان المجال بالنسبة لهذا النقاش بالنسبة للقضية اليهودية كان معدوما اصلا ، ما عدا حالة واحدة ووحيدة هي في حالى تبني الفكرة الصهيونية الداعية الى تجميع اليهود وتركيزهم في بقعة واحدة ، في فلسطين مثلا ، علما بان الحركة الصهيونية ابعد ما تكون عن انها حققت اهدافها بقواها الذاتية . والحال ان " الاتحاد العام للعمال اليهود في ليتوانيا وبولندة و روسيا " الذي تأسس سنة 1897 والذي اشتهر باسم ( البوند ) ، كان صارما في عداءه للصهيونية ، يدينها بوصفها حركة رجعية وعنصرية خطيرة . وكان البوند يطالب بمنح اليهود " ادارة ذاتية قومية ثقافية " ، تلك الصيغة العرجاء التي اثارت جدالا واسعا في روسيا ، وحاربها لينين وتروتسكي ومارتوف والكثيرون غيرهم ، والتي كان البوند يقصد بها منح يهود الامبراطورية الروسية ، حيث ’وجدوا " ادارة ذاتية " في الشؤون التعليمية والثقافية . و إنه لمن البديهي بالنسبة لمن يتبنى مثل هذا الهدف البرنامجي ، أن يقرّ باستحالة تحقيقه بقوى السكان اليهود الذاتية ، وان يسعى بالتالي وراء نسج علاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين الذين لا بد من كسب دعمهم ، بل ابعد من ذلك الحصول على مشاركتهم الفعالة في رفع نير الاضطهاد القومي عن اليهود . ان هؤلاء الحلفاء كانوا في ظروف روسيا القيصرية ، يتمثّلون في المقام الاول بالحركة العمالية لشتى القوميات ، لا سيما القومية المسيطرة . اي انه كان لا مناص للبوند من ان يرتبط بحركة عمال عموم روسيا في حلف بدونه ، فان النضال القومي الديمقراطي الذي ندر البوند نفسه لأجله --- ناهيكم بالنضال الطبقي ، حيث ان البوند اتحاد عمال اشتراكي ---يبدو يائسا لا آفاق له .
ان فهما عماليا حقيقيا لهذه الاعتبارات كان يقتضي ان ينشط الاشتراكيون اليهود مباشرة في اطار حزب لعموم قوميات روسيا . حزب يتولّى بالطبع مهمة الدفاع عن الحقوق القومية والديمقراطية لجميع المقهورين والمضطهدين في الامبراطورية . وبالأصل ، فأن العديدين من ابرز قادة ومناضلِ الاشتراكية الديمقراطية في روسيا بجناحيها ، كما تبلور ابتدءا من عام 1903 ، كانوا من اصول يهودية . اي ان النشاط في اطار البوند ، بوصفه تنظيما خاصا بالاشتراكيين اليهود ، لم يكن قط الخيار الوحيد امام هؤلاء . بل ان تشكيل البوند كان بذاته خيارا ذا طبيعة قومية وليست اممية . طبيعة هي واضحة اصلا في اسمه حيث انه يحدد الصفة القومية لأعضائه بشكل هو اوضح مما لدى " الحزب الاشتراكي البولندي " . والحال ان البوند ، لو اراد بناء نفسه على اساس جيو- غرافي وليس قوميا ، لما ’وجد ، بل لتطابق اساسا مع الحزب العمالي لعموم روسيا . وسوف يحاول البوند منذ تأسيسه ، وحتى انحلاله بعد الثورة البلشفية ، ان يوفق بين نزعته القومية الاصلية ، وخصوصية شروط النضال الذي حدده مهمة لنفسه ، مضافا اليهما التوجه العمالي المذكور ايضا في اسمه . هكذا سوف يشارك سنة 1898 في مؤتمر تأسيس " الحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في روسيا " ( لاحظوا غياب الصفة القومية في الاسم : " في روسيا " وليس " الروسي " ) . في ذلك المؤتمر الذي كانت له قيمة رمزية ليس إلا --- إذ جرى اعتقال المندوبين التسعة الذين حضروه ، بعد انتهائه للتّو ، فبقي " الحزب " الجديد بدون اطر مركزية حتى مؤتمره الثاني ، بعد خمس سنوات --- في ذلك المؤتمر اذن ، انتسب البوند الى الحزب على اساس قرار ’مبهم ينصص على ان البوند ينتسب الى الحزب بوصفه " منظمة ’تدار ذاتيا ، مستقلة فقط في المسائل التي تتعلق بالبروليتارية اليهودية بصورة خاصة " . ان هذا القرار كان يثير من الاشكالات اكثر مما يحلّ ، كما ان الحزب ظل بدون هيكلة حتى عام 1903 ، وهو ما يعني ان هذا القرار ظل حبرا على ورق ولم يجري تطبقه قط .
ومع ذلك ، فان صيغة القرار المذكور كانت على ابهامها وغموضها غير كافية لتثير جدالا واسعا في صفوف البوند وخارجه ، حول طبيعة العلاقات التنظيمية التي لابد من ان ينشأ على اساسها حزب عمالي روسي . لذلك رأت قيادة البوند بغالبيتها انها ، إذا " اكتفت " بالإدارة الذاتية " الثقافية " كمطلب برنامجي ، فأنها لا تستطيع ان تكتفي بالإدارة الذاتية التنظيمية في الشؤون الخاصة بالعمال اليهود دون سواها ، وفي اطار حزب مركزي متعدد القوميات . لذا ارتد البوند عن قرار عام 1898 ، واخذ يطالب منذ عام بعد ذلك بتحويل الحزب الى " جمعية اتحادية من الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية لجميع الامم داخل حدود الدولة الروسية " . هذا وقد ادى تثبيت منحى البوند القومي وتبنيه فكرة اتحاد الاحزاب القومية ، بدل الحزب المتعدد القوميات ،ادّيا الى انسلاخ بعض مناضليه عنه ، ابرزهم مارتوف الذي ، بعد ان ساهم في تأسيس البوند ، تخلى عن فكرة التنظيم المنفصل الخاص باليهود ، وتعاون مع لينين وبلخانوف وغيرهما في اطار مجموعة " الآيسكر " التي ستبادر الى تأسيس الحزب من جديد بالدعوة الى عقد مؤتمره الثاني سنة 1903 .
المركزية مع ادارة ذاتية ضد الاتحادية – مؤتمر 1903 -- : ان التناقض في صيغة قرار 1898 يكمن في اعترافه بالبوند كمنظمة مميّزة وتدار ذاتيا ، مع حصره هذه الادارة الذاتية في الشؤون الخاصة بالعمال اليهود ، الامر الذي يعني منطقيا خضوع البوند لمركزية الحزب في شتى الامور الاخرى . وقد جاء البوند الى المؤتمر الثاني " للحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في روسيا " ، مطالبا بحسم ذلك التناقض عبر تحويل الحزب الى اتحاد احزاب قومية يكون البوند احدها .
اما الآيسكريون ، فقد جاؤوا بتصورات تحسم التناقض في الاتجاه المعاكس ، اتجاه الحزب المركزي متعدد القوميات ، بحيث ينصهر اعضاء الحزب في جميع المناطق بصرف النظر عن هوياتهم القومية او غيرها ، وبالتالي يزول البوند بوصفه منظمة مميّزة ذات مركزية خاصة بها . اي منظمة موازية للحزب لأنها منتشرة في شتى مناطق روسيا ، مع التأكيد على مبدأ الادارة الذاتية الذي يعني بالنسبة للاشتراكيين اليهود ادارة ذاتية محلية في تطبيق سياسة الحزب المركزية ، ويعني بالنسبة لاشتراكيي سائر القوميات ادارة ذاتية اقليمية او ( قطرية ) في تطبيق السياسة المركزية ذاتها .
لقد رفض البوند موقف الآيسكريين رفضا باتا ، ولم يكن هذا الرفض نابعا من تمايز سياسي يحرص البونديون على صيانته . فلو انصهروا في " الحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في روسيا " لشكّلوا اغلبيته بكل سهولة ، إذ ان عدد اعضاء البوند كان يفوق عدد اعضاء مجموع سائر التنظيمات التي شاركت في مؤتمر 1903 . بل كان رفض البونديين للانصهار في الحزب نابعا من حرص قومي صرف على عدم " تذويب " تنظيم العمال اليهود في بوثقة حزب متعدد القوميات ، لا بد عاجلا ام آجلا من ان يضمّ غالبية من غير اليهود ، وكان لينين يرد على هذا " التخوف " عندما كتب في 15 فبراير 1903 :
" ان " الادارة الذاتية " الواردة في النظام الداخلي لعام 1898 ، تضمن للحركة العمالية اليهودية كل ما يمكن ان تحتاج اليه : الدعاوة والتحريض ، منشورات ومؤتمرات ، تقديم مطالب خاصة في تطوير البرنامج الاشتراكي الديمقراطي الواحد المشترك وتلبية الحاجات المحلية والمطالب المحلية الناجمة عن خصائص طريقة العيش الاسرائيلي ( اي اليهود بالمعنى الديني ) . اما في كل ما تبقى ، فان الانصهار الكامل والأوثق مع البروليتارية الروسية لهو ضروري ، ولا غنى عنه لمصلحة نضال مجموع بروليتاريا روسيا . وأما بالنسبة لجوهر الامور ، فلا داعي اطلاقا للتخوف من ان يؤدي هذا الانصهار الى " غلبة اكثرية " ايا تكن ، إذ ان الادارة الذاتية تشكل بالضبط ضمانة ضد تدخل الاكثرية في الشؤون الخاصة بالحركة اليهودية ، في حين ، انه في مسائل النضال ضد الحكم الفردي ، مسائل النضال ضد عموم برجوازية عموم روسيا ، يتوجب علينا ان نعمل كمنظمة كفاح موحّدة وممركزة ، ينبغي ان تستند الى مجموع البروليتارية ، دون تمييز في اللغة او القومية . مجموع بروليتارية ملتحمة في جهد مشترك وثابت لحل المسائل النظرية والعملية والتكتيكية والتنظيمية ، وليس ان نخلق منظمات تسير كل واحدة على حدة ، كل واحدة في دربها ، ليس ان نضعف قوى هجومنا بتجزئتها الى عدة احزاب سياسية ... " .
هذا وقد كانت حصيلة مشاركة البوند في مؤتمر عام 1903 ، أن انسحب منه قبل انتهائه منشقا بذلك عن الحزب ، بعد ان رفض سائر اعضاء المؤتمر بالإجماع اقتراحا قدمه البونديون ، ينصص على الاعتراف بالبوند كممثل وحيد للبروليتارية اليهودية ، وبالتالي التنظيم الوحيد المخوّل بالنشاط الاشتراكي الديمقراطي في صفوف العمال اليهود . لقد كان ذاك الاقتراح في جوهره تلخيصا لتصورات البوند القومية والاتحادية ، يفضي ليس الى منع الحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في روسيا من تمثيل كافة عمال روسيا ، بمن فيهم العمال اليهود وحسب ، بل ايضا نزع اي صفة تمثيلية عن اعضاء الحزب اليهود غير البونديين .
اما " الاشتراكية الديمقراطية في مملكة بولندة وفي ليتوانيا " ، فقد حضر مندوبها ايضا مؤتمر الحزب الثاني ، انسجاما مع دفاع المنظمة الحار عن مبدآ الحزب العمالي متعدد القوميات لعموم الامبراطورية الروسية . إلا ان اولئك المندوبين انسحبوا هم ايضا من المؤتمر ، لكن لاعتبارات غير تلك انسحب بسببها البونديون . ان سبب الخلاف حول الشؤون التنظيمية بين الاشتراكية الديمقراطية في مملكة بولندة وفي ليتوانيا كان جد ضيق ، لان مبدأ الادارة الذاتية الذي اقره الحزب العمالي كان كفيلا بإرضاء قيادة الاشتراكية الديمقراطية وإزالة اي تخوفات لديها ، وقد زاد من تسهيل التقليل من الاختلافات ان مجموعة بولندة وليتوانيا وبخلاف البوند ، كانت منظمة اقليمية ، بما يسمح لها بالاحتفاظ ببنيتها التنظيمية ، رغم التحاقها بحزب عموم روسيا ، كما ’سمح لها بممارسة " ادارة ذاتية " واسعة بوصفها منظمة الحزب المميّزة في اقليمي بولندا وليتوانيا
بيد ان الذي اثار سخط مجموعة بولندا وليتوانيا وانسحاب مندوبيها من مؤتمر 1903 صدور مقالة للينين في جريدة " الآيسكرا " في 15 يوليو 1913 ورد فيه ان برنامج الاشتراكية الديمقراطية الروسية " لا يمنع ابدا ان تتبنى البروليتاريا البولندية شعار جمهورية بولندة حرة مستقلة ، حتى ولو كان احتمال تحقيقه قبل قيام الاشتراكية ضئيلا جدا " . لقد استاءت من هذه المقالة قيادة الاشتراكية الديمقراطية ( بولندا – ليتوانيا ) ، بالرغم من قسمه الاكبر كان مكرسا لنقد خصم الاشتراكية الديمقراطية " الحزب الاشتراكي البولندي " ، فطالبت على ضوء المقال بضرورة تعديل مشروع برنامج الحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في روسيا ، بحيث تحذف منه فكرة حق الامم المقهورة في الانفصال . وطبعا رفض الطلب ، فقررت قيادة بولندا عدم الانتساب الى الحزب . هكذا ، فبينما انشق البوند بسبب نزعته القومية ، انسحبت الاشتراكية الديمقراطية (بولندا – ليتوانيا )بسبب عداءها المتطرف للقومية
مؤتمر التوحيد – 1906 -- : كان لثورة 1905 تأثير متميز وكبير على الحركة العمالية الثورية في روسيا ، دفع معظم التنظيمات القومية في تلك الحركة الى توحيد قواها . فباستثناء بعض الجماعات القومية اكثر منها اشتراكية – بينها تنظيم اوكراني وآخر ارميني – اندمجت شتى المنظمات العمالية في اطار الحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي . وقد تكرس ذلك الاندماج بقرار من المؤتمر الرابع للحزب المنعقد في عام 1906 والمعروف باسم مؤتمر التوحيد
كانت اطراف التوحيد الاساسية تتكون من الاعضاء الاصليين للحزب العمالي بجناحيه المنشفي والبلشفي ، الاشتراكية الديمقراطية ، الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ليتوانيا ، وحتى البوند الذي واجهت قيادته ضغطا قاعديا قويا من اجل الاشتراك في التوحيد . ان اهمية ذلك الحدث تتجلى عند الاضطلاع على احجام المنظمات المشاركة ، وحسب الارقام التي اوردها لينين : 31 الف عضو في الحزب العمالي ، 14 الف عضو في الحزب الليتوني ، 26 الف عضو من الاشتراكية الديمقراطية ( بولندا – ليتوانيا ) و 33 الف عضو في البوند .
ان قرار التوحيد الذي تبناه مؤتمر 1906 ، قد استند على ارضية اقترحها الجناح البلشفي ، وقد صاغها لينين . ومما جاء فيها بصدد الموقف ازاء الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية القومية :
" 1 – لابد من اتخاذ انشط الاجراءات من اجل الوصول بأسرع ما يمكن الى انصهار جميع احزب روسيا الاشتراكية الديمقراطية القومية في حزب واحد هو ، الحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في روسيا
2 – يجب ان يكون اساس التوحيد هو الانصهار الكامل لجميع التنظيمات الاشتراكية الديمقراطية في كل محلّة
3 – يتوجب على الحزب ان يضمن فعلا تلبية جميع المصالح الحزبية وجميع حاجات البروليتارية الاشتراكية الديمقراطية من كل قومية ، و لا سيما بأخذ خصائص طريقة عيشها وثقافتها بالحسبان . ان وسائل تامين تلك الضمانات يمكن ان تكون التالية : تنظيم كونفرنسات خاصة للاشتراكيين الديمقراطيين من كل قومية ، وتمثيل الاقليات القومية في مؤسسات الحزب المحلية والإقليمية والمركزية ، مع خلق مجموعات خاصة للإنتاج الادبي والنشر والتحريض ... الخ " .
لقد تضمن اساس التوحيد هذا نوعا من المقايضة من التنظيمات القاعدية على اساس جيو-غرافي صهرا كاملا . مثلا : ( دمج المناضلين البولنديين واليهود والروس القاطنين في مدينة واحدة ، في تنظيم محلي واحد ) . ومقابل ذلك منح الاقليات القومية ضمانات خاصة بتمثيلها في هيئات الحزب القيادية على جميع المستويات ، من المحلي الى المركزي . وقد ’خصّص بالفعل مقعدان للبوند ، ومقعد للاشتراكية الديمقراطية ( بولندا )ومقعد واحد للحزب الليتوني في اللجنة المركزية للحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي . ولم يكن في تلك المقايضة اي مشكل بالنسبة لمنظمة بولندا – ليتوانيا ومنظمة ليتونيا ، علما بان درجة امتثالها لمركزية الحزب كانت متفاوتة جدا في السنوات اللاّحقة .
اما بالنسبة للبوند ، فالإشكال كان عظيما ، إذ ان تطبيق مبدأ صهر التنظيمات القاعدية ، كان يعني في حالته تذويب نفسه بوصفه منظمة ذات هيئات مركزية ، كما سبق وشرحنا اعلاه . والحال ان البوند ما لبث ان تخلى صراحة عن مبدأ الانصهار ، الذي لم يقتنع به اصلا في يوم من الايام ، فحافظ على معظم بنيته ( قسم منها قرر الانصهار محليا ) بوصفه منظمة مستقلة موازية للحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في روسيا ، وان اشترك في بعض المناورات التكتيكية مع المساهمة في النقاش المستفيض في السنوات اللاحقة .
2 --- ) التصور الأممي الثوري لبناء الحزب البروليتاري : بعض الاستعراض التاريخي الذي كان لابد منه ، لأنه بدون استقراء التاريخ ، لا يمكن فهم الحاضر ولا المستقبل الذي قد يرتد نحو منزلقات لم تكن مقروءة ، سنحاول الآن ان نلخص من وجهة نظر ماركسية ، مبادئ التصور الأممي الثوري لبناء الحزب البروليتاري . ونقول هنا " الأممي الثوري " عمدا ، إذ اننا شرحنا اعلاه ، وبما فيه الكفاية ، ان التصور المذكور لم يكن خاصا بالبلاشفة ، بل كان مشتركا بينهم وبين المناشفة ورزا لكسمبرج ورفاقها ، مع غيرهم من غير اللينينيين .
ا ) حزب الطبقة العاملة : جميع الماركسيين على اختلاف مشاربهم يجزمون ان الماركسية سلاح البروليتارية النظري في نضالها الطبقي ضد الرأسمالية وفي سبيل الاشتراكية . ان هذه الحقيقة البديهية في الفكر الماركسي وعند الماركسيين ، تعني أن النضال القومي ، وإن تبنّاه الماركسيون حيث اعتبروه تقدميا ، فهو لا يعدو ان يكون في نظرهم نضالا عرضيا ، يخضع في كافة الحالات لاعتبارهم الاسمى ، ألا وهو مصلحة نضال البروليتارية الطبقي . اذن من هنا فان الماركسية تتناقض تناقضا تاما مع المبدأ القومي في تنظيم العمال . اي مبدأ فرزهم حسب انتماءاتهم القومية ، وهي بالتالي متناقضة مع مبدأ الاتحادية القومية في بناء الحزب العمالي .
إن تنظيم العمال على اساس الماركسية الحقيقية لا يمكن ان يكون قوميا إلا بشكله فقط ، اي بتنظيم العمال على صعيد الدولة كإطار يجمع بينهم في جمعية اممية تجسد نضال البروليتارية العالمي . في هذا الخصوص يقول البيان الشيوعي ، ذلك النص المؤسس للماركسية بالشكل ، وليس ابدا بالمضمون " يتخذ نضال البروليتارية ضد البرجوازية بادئ ذي بدء طابعا قوميا طبعا ، فعلى بروليتاريا كل بلد ان تتخلص قبل كل شيء من برجوازيتها الخاصة بها .. " . هذا وان اول الشرطين اللذين يميزان الشيوعيين عن سائر الاحزاب العمالية ، حسب البيان الشيوعي ، لهو انهم " في مختلف نضالات البروليتاريين القومية ، يضعون في المقدمة ويشرحون المصالح المشتركة للبروليتارية برمّتها ، دون اعتبار القومية فقط ... " . ان تنظيم العمال على اساس القومية ، في منطقة واحدة ، يتعارض مع مهمة الماركسيين الاساسية ، التي هي تنمية الطبقي وتجذيره . ان هذه الحقيقة الاكيدة التي اغفلها اصحاب ( آن الاوان لتأسيس تيار ماركسي لينيني ) ادركها جوزيف ستالين مبكرا ، حين واجه المشكلة القومية بكل ابعادها وتعقيداتها ، من خلال ممارسته السياسية في منطقته ، فكتب في سنة 1913 في كرّاسه الشهير " الماركسية والمسالة القومية " وبأسلوبه التبسيطي البسيط :
" ان العمال بانتفاضتهم على اساس القومية ، يحبسون انفسهم في قوقعاتهم القومية ، منعزلين عن بعضهم البعض بحواجز تنظيمية . فما ’يسطّر عند ذاك ، ليس ما هم مشترك بين العمال ، بل ما يميّز بعضهم عن بعضهم الآخر . فيصبح العامل هنا قبل كل شيء عضو امته : يهودي ، بولندي ، ليتواني ...الخ . و لا عجب اطلاقا اذا كانت الاتحادية القومية في التنظيم تنمّي عند العمال روح الانعزال القومي " .
ب ) حزب الثورة البوليتارية : ان الهدف الاساسي لكل حزب ماركسي لهو اطاحة البرجوازية وإقامة دكتاتورية البروليتارية . وحيث ان قوة البروليتارية في وحدتها ، بينما قوة البرجوازية تتجسد في دولتها الممركزة ، فان تنظيم البروليتارية في حزب واحد ، وضمن حدود دولة ما ، ومهما كانت الفروقات من النمط القومي او الديني او المهني بين اعضاء الطبقة ذاتها لهو ميل طبيعي في الماركسية .
ان برجوازية دولة ما هي العدو الطبقي لجميع عمال هذه الدولة ، لكنها ليست في معظم الاحيان " العدو القومي " لجميع عمال دولتها . و كذلك فغالبا ما تضم البرجوازية في دولة ما اعضاء من القومية المقهورة الى جانب اعضاء القومية المسيطرة . هكذا فان تنظيم العمال على اساس القومية ليس من شانه تقسيم صفوف البروليتارية كما تقول روزا ، وبالتالي اضعافها فحسب ، بل يتضمن ايضا ميلا طبيعيا الى ان يرى العمال في كل برجوازي عضو امة ، قد تكون امتهم ، بدلا من عضو طبقة هي ، في جميع الاحوال ، غير طبقتهم . و هكذا فكما تقول روزا في المقال اعلاه : " بدل برامج سياسية مطابقة للمصالح الطبقية ، ستصاغ برامج قومية ، وان تخريب الكفاح السياسي الموحّد الذي تخوضه البروليتارية في كل دولة ، سيكرّس في مبدئه بسلسلة نضالات قومية عقيمة " .
اما الماركسيون ، فيرون في مركزة البروليتارية على صعيد الدولة ، برفض اي تقسيمات عمودية لصفوفها ، لأنه السلاح الانجع لمحاربة سلطة البرجوازية المتجسدة بجهاز دولتها المركزي ، والإطاحة بها .
ج ) حزب الثورة الدائمة : اليس ما سبق متناقضا مع صياغة تروتسكي لنظرية الثورة الدائمة ، التي تقول ان دكتاتورية البروليتاريا في البلدان المتأخرة تحل في " المقام الاول " ، المهام الديمقراطية ومهام التحرر القومي ، وإنها من اجل ذلك " تتزعم الامة المقهورة " ؟ . او اليس ما سبق تكريسا لوجهة نظر روزا لكسمبرج التي ترفض تبنّي حزب البروليتاريا للأماني القومية ، بحجة ان الثورة الاشتراكية ستزيل اسباب وجودها ؟ بكلام آخر . اليس كل ما سبق متناقضا مع دفاع لينين عن حق الامم في تقرير مصيرها ؟ . كيف يمكن الدفاع عن مبدأ الاتحاد بين الامم ورفض مبدأ الاتحاد القومي في تنظيم العمال ؟ . انها اسئلة وحجج ’طرحت ولا تزال ’تطرح ، فلابد من معالجتها من اجل الوضوح .
ان اول ما يجب دحضه في هذا الصدد هو المنطق القائل ان الاداة – التنظيم ، يلزم ان تكون صورة عن الهدف – المجتمع الذي يناضل من اجله التنظيم . ان هذا المنطق هو عينه الذي يقود الفوضويين الى رفض مركزية التنظيم الثوري ، بحجة ان الشيوعيين يناضلون في سبيل مجتمع بلا دولة ، اي بلا سلطة مركزية .ان هذا المنطق مبني على سفسطة جلية ، لأنه يفترض ان التنظيم الثوري جنين المجتمع الشيوعي ، الذي ينمو في احشاء المجتمع الرأسمالي حتى يحين موعد ولادته . اي ان التنظيم حسب هذا المنطق ، تجسيد للمشروع ، وليس مجرد اداة لتحقيقه . ومقابل هذا التطور المثالي ، ترى الماركسية ، بوصفها نظرية مادية علمية ، ان التنظيم لا يعدو كونه اداة لقيادة الثورة ، اداة لقيادة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية ، اداة للتغيير وليس نموذجا للهدف النهائي . اذن من هنا ، فان صلاحية الاداة وفعاليتها تقاس قبل كل شيء بقدرتها على التغيير . اي بالنسبة للتنظيم الثوري قدرته على قيادة الطبقة العاملة الى تحطيم الدولة البرجوازية . و لا يحتاج المرء لان يكون دكتورا في الدياليكتيك حتى يفهم ان مهمة التحطيم هذه تتطلب مركزة لقوى البروليتاريا ، مثلما يتطلب الانتقال الى الاشتراكية ، أن تفرض البروليتاريا دكتاتوريتها الانتقالية . وهنا لابد من الرجوع الى ما قاله ليون تروتسكي في مؤلفه الكبير حول " تاريخ الثورة الروسية " – فصّل ( المسالة القومية ) : " ليس التنظيم الثوري مثال دولة المستقبل ، بل هو فقط اداة لخلقها . والأداة يجب ان تكون ملائمة لصنع المنتوج ، لكنه لا يجب ان تتماثل معه . ان تنظيما مركزيا هو وحده الذي يستطيع ان يضمن نجاح النضال الثوري – حتى عندما تكون الغاية تحطيم الاضطهاد المركزي المسلّط على الامم " .
فهل يعود ذلك الى القول ، على غرار روزا بالنسبة لبولندا ، أن الاضطهاد القومي لا يمكن ان يزول بأقل من الثورة الاشتراكية ؟ وهل يؤوّل كما فسره قوميو الحزب الاشتراكي البولندي ديماغوجيا ، الى القول انه يتعين على الامة المقهورة ان تنتظر بصبر قيام الثورة الاجتماعية لدا الامة القاهرة ؟ .
لقد رد لينين على هؤلاء الضيّقي التحليل ، بعد انسحاب مجموعة بولندة من مؤتمر الحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي الثاني : " اننا لا ننفي بالمطلق ( بخلاف روزا ) احتمال انسلاخ بولندة عن الامبراطورية الروسية ، قبل انتصار الثورة الاشتراكية في هذه الاخيرة ، مع اننا نعتقد ان ذلك الاحتمال ضعيف جدا . لكن المطروح ، في جميع الاحوال ، ليس ان تتخلى البروليتاريا البولندية عن النضال ضد النير القومي المسلط عليها ، في سبيل النضال الى جانب البروليتاريا الروسية ضد النير والقهر الاجتماعي ، بل ان تتحد البروليتاريا ، بجميع القوميات التي تتألف منها ، في نضال واسع جبار ضد جميع اشكال القهر ، بما فيها طبعا القهر القومي . فحتى لو كان الهدف المباشر يقتصر على تفتيت روسيا ، فان الطريق الى تحقيقه لا يمر عبر تفتيت قوى البروليتاريا ، بل على العكس عبر توحيدها ومركزتها . إذ ان قوى البروليتاريا متحدة هي وحدها القادرة على شل قوة الدولة القيصرية ، وهو الشرط الادنى المطلق الذي بدونه يبقى استقلال بولندة حلما وهذيانا " .
لاحظوا ان لينين ، في ذلك الرد ، لم يهتم فقط بالتنديد بالانفصالية التي لم يرى فيها يوما " الشر المطلق " ، بخلاف اولئك الشوفينيين الذين ينتحلون صفة " اللينينية " ، بل ناقش " الحزب الاشتراكي البولندي " من وجهة نظر التحليل الملموس لشروط النضال الملموسة ، ليبيّن ان مصلحة البروليتاريا البولندية العليا ، وحتى ولو تبنّت الدعوة الانفصالية ، تكمن في صهر قوتها في قوى بروليتاريا سائر قوميات روسيا . اي ان لينين ، على غرار روزا ، وبوضوح اكبر بكثير ( راجعوا الشرح اعلاه ) ، لا يدافع عن فكرة الحزب المركزي المتعدد القوميات على صعيد الدولة ، بالاستناد الى ان هذه الفكرة " مبدأ مقدس " ، بل استنادا الى اعتبارات خاصة بالإستراتيجية الثورية التي يشكل الحزب الثوري اداتها حسب التعريف .
ان طرح مشكلة بهذا الشكل ، من زاوية الاستراتيجية الثورية الملموسة ، يحتم ادخال استثناءات على مبدأ الحزب الواحد للدولة الواحدة ( نذكر بأننا نتناول فقط حالة الدول المتواصلة جغرافيا ) . ففي حال ان ميزان القوى بين دولة القهر والقومية المقهورة هو بصورة دائمة او حتى ظرفية ، بحيث تستطيع هذه الأخيرة موضوعيا نيل استقلالها بقواها الذاتية ، فان تأسيس حزب منفصل عند منطلقاتها يكون ممكنا ومشروعا من وجهة نظر بروليتارية ، حزب يكون اداة استراتيجية ثورية مميّزة خاصة بتلك المنطقة ، على ان يبقى تجنيد واستقطاب المناضلين الى الحزب ، في جميع الاحوال ، تجنيدا على اساس جغرافي وليس قومي . وقد قلنا ان هذا الاحتمال فقط يغدو ممكنا ومشروعا ، ولم نقل ضروريا وحتميا ، إذ ان الاعتبار الحاسم في التعيين الاخير ، يبقى التحليل الملموس لمجرى الصراع الفعلي من وجهة نظر المصلحة الشاملة للبروليتارية بجميع قومياتها . هذا وثمة حالتان نموذجيتان يمكن ان يصبح فيهما الاحتمال المذكور هو الانسب :
1 ))) في حال كانت الجماهير الكادحة في القومية القاهرة في وضع مزر عميق ، او متخلّفة سياسيا تتضامن شوفينيا مع برجوازيتها ، بينما تكون الظروف قد سمحت لتعبئة جماهير القومية المقهورة نحو انتزاع تحررها القومي ، في ظل ميزان قوى يسمح لها موضوعيا بتحقيق هذا الهدف بقواها الذاتية ( وهو الشرط الذي انطلقنا منه اصلا ) .
2 ))) في حال نشأت ظروف كحرب او انتفاضة ، ادت الى شل قوة الدولة القاهرة شلا طويل الامد ، بحيث اصبح بمقدور جماهير القومية المقهورة نزع استقلالها القومي على ارضها ، بينما ليست الشروط الذاتية لبروليتاريا عموم الدولة مهيأة حتى تستولي على السلطة المركزية . ففي كلا الحالتين ، قد يصبح تأسيس حزب بروليتاري منفصل على اساس النضال الانفصالي ، شرطا لا بد منه لقطع الطريق امام برجوازية القومية المقهورة التي لن تتردد في محاولة استغلال الظروف لصالحها . علاوة على ذلك ، فان اضفاء طابع طبقي ، اشتراكي على نضال جماهير القومية المقهورة الانفصالي ، هو الشرط الضروري لكسب عطف بروليتاريا القومية القاهرة ، وإنضاج حركتها ، بدل ان تتمكن بوجوازيتها من تعبئتها شوفينيا ضد الانفصاليين .
د ) الادارة الذاتية في اطار المركزية : إذا تأكد بالملموس ان شروطا خاصة وحدها يمكن ان تبرر تأسيس حزب منفصل لبروليتاريا منطقة القومية المقهورة ضمن حدود الدولة الواحدة ، فان هذا لا يعني البتة ، انه عند القاعدة العامة ، اي الحزب المركزي متعدد القوميات ، تنتفي اوتوماتيكيا خصوصيات نضال شتى القوميات ، ومن هنا يتضح لنا ان المقصود بالإدارة الذاتية ليس مسالة تقنية وحسب ، كالمسالة اللغوية ، بل تشمل الادارة الذاتية اساسا مهمة تكييف سياسة الحزب مع شتى انواع الخصائص المحلية والإقليمية . يقول لينين : " ان النقطة الواحدة ذاتها في البرنامج تطبق بشكل مختلف حسب فروقات شروط العيش والثقافة والعلاقة بين القوى الاجتماعية في مختلف مناطق البلاد ..الخ . ويجري التحريض حول المطلب الواحد ذاته في البرنامج حسب اساليب مختلفة وبلغات مختلفة ، مع اخذ جميع تلك الفروقات بعين الاعتبار . هكذا اذن ، فيما يتعلق بشكل خاص ببروليتاريا عرق معيّن او امة معينة او اقليم معين ، فان الادارة الذاتية تعني ان صياغة المطالب الخاصة التي تقدم بموجب البرنامج المشترك ، واختيار اساليب التحريض يتبعان القرار المستقل للمنظمة المعنية . ان الحزب بمجمله وهيئاته المركزية تضع المبادئ الاساسية العامة للبرنامج والتكتيك . اما مختلف اساليب تطبيق هذه المبادئ في الممارسة والتحريض ، فتحددها منظمات الحزب المختلفة الخاضعة للمركز " ( لينين . جريدة الآيسكرا . 22 اكتوبر 1903 ) .
وقد حرص لينين على منح جميع القوميات اقصى الضمانات حتى داخل الحزب ، الامر الذي دخل طي النسيان لتناقضه مع اسطورة المركزية " العسكرية " في الحزب البلشفي قبل ثورة 1917 ، تلك الاسطورة التي كرّستها الستالينية لأنها تتلاءم مع اساليبها التنظيمية الدكتاتورية ، بيد انها ’ولدت قبل الستالينية ، بل ساهم لينين ذاته في خلقها عندما اضطر الى التشديد على المركزية دون سواها خلال اولى سنوات الثورة البلشفية ، سنوات الحرب والحصار . وقد اوردنا اعلاه الضمانات التي اقترحها لينين على سبيل المثال لا الحصر في مؤتمر عام 1906 " تنظيم كونفرنسات خاصة للاشتراكيين الديمقراطيين من كل قومية ، مع تمثيل الاقليات القومية في مؤسسات الحزب المحلية والإقليمية والمركزية .
طبعا فمقابل الضمانات ، هناك الشرط الذي يجسد الفارق النوعي بين الاتحادية القومية والمركزية متعددة القوميات . انه رفض المبدأ القومي في تشكيل المنظمات القاعدية رفضا باتا ، واعتماد وحدة المكان ( الجماعة الترابية او الاقليم ) دون سواها اساسا لتنظيم الحزب . ان اساس تجمعات الحزب ، مثل خلاياه ، في منطقة واحدة ، لا يجوز قط ان يكون انتماء المناضلين القومي ( بالطبع هنا اذا كان جميع مناضلي المنطقة ينتمون الى قومية واحدة ، فالمشكلة غير واردة اصلا ) ، بل فقد الاعتبارات المتعلقة بالنشاط الاجتماعي – المهني او بدائرة السكن . ان مبدأ التنظيم هذا كان هم مقياس نجاح " توحيد " عام 1906 وسبب فشله هو البوند اليهودي . وقد اعاد لينين التأكيد عليه بعد سنة 1912 ، التي شهدت تكريس الانشقاق داخل الحزب العمالي الاشتراكي الديمقراطي في روسيا ، وظهور الجناح البلشفي كحزب منفصل ثوري ومتطرف .
" هكذا فان مجمل الشروط الاقتصادية والسياسية في روسيا يقتضي من الاشتراكية الديمقراطية ان تمارس بلا شرط انصهار عمال جميع القوميات ضمن جميع المنظمات البروليتارية بلا استثناء ( السياسية والنقابية و التعاونية والتربوية ..لخ ) فلا اتحادية في بنية الحزب ، لا تشكيل لتجمعات اشتراكية ديمقراطية قومية بل وحدة بروليتاريي جميع الامم في منطقة معينة ، دعاوة وتحريضا بجميع لغات بروليتاريا المنطقة . نضال مشترك لعمال جميع الامم ضد جميع الامتيازات القومية ، مهما كانت ، ادارة ذاتية لمنظمات الحزب المحلية والإقليمية " . ( لينين . اطروحات حول المسالة القومية . يونيو 1913 ) .
ه ) " المنظمة الزنجية " : استثناء وليس قاعدة : بقي ان ننظر في امر " المنظمة الزنجية " التي دعا الى تشكيلها " حزب العمال الاشتراكي " سنة 1939 في الولايات المتحدة الامريكية . لقد ايد تلك الدعوة ليون تروتسكي نفسه وذاك في مناقشات دارت بينه وبين قيادة الحزب المذكور – الذي كان احد اركان تأسيس الاممية الرابعة -- في ابريل من السنة ذاتها . فللوهلة الاولى يبدو مشروع " منظمة زنجية " متناقضا تناقضا تاما مع مبدآ الحزب المتعدد القوميات الذي دافع عنه تروتسكي بحرارة في سنوات النضال ضد القيصرية في روسيا .
والحال ان تروتسكي لم يتخلّ قط عن ذاك المبدأ ، إلا انه اعتبر المشروع المذكور ، كما اعتبره رفاقه الامريكيون ، خرقا استثنائيا لمبدأ تعدد القوميات ، تبرره شروط استثنائية ، ويرمي الى تدعيم المبدأ في نهاية المطاف . وللخروج من مأزق التأويل اعتبر تروتسكي والتروتسكيون الامريكيون " المنظمة الزنجية " منظمة جماهيرية وليست حزبا ثوريا ، عضوا في الاممية ، على غرار " حزب العمال الاشتراكي " الذي ضم في صفوفه مناضلين من جميع القوميات والأعراق . كما انها منظمة فرض وجودها الوضع الخاص للشعب الاسود في الولايات المتحدة الامريكية ، كمعْبر الى بناء الحزب العمالي الثوري المتعدد القوميات والأعراق ، الذي يبقى هو الغاية الاستراتيجية والأساسية .
ففي مناقشة سياسية وتنظيمية في ابريل 1939 ، يصف تروتسكي المشروع بأنه " مدرسة تمهيدية للسياسة " . ويتساءل عن الاسباب التي تحدد ضرورته ، فيجيب : " امران اساسيان : ان جماهير الزنوج العريضة متأخرة ومقهورة ، وهذا القهر قوي الى حد انها مضطرة الى الشعور به في كل لحظة ، وأنها تشعر به بصفته زنجية " . ويجد التصور الذي شرحناه وصفا دقيقا له في القرار حول " النشاط الزنجي " الذي تبناه " حزب العمال الاشتراكي " في يوليو 1939 ، والذي جاء فيه : " ... ان الزنجي الامريكي لأسباب يسهل فهمها ، حذر حذرا عميقا من جميع البيض ، وقد عمقت احداث مؤخرا هذا الحذر " .
هذا وقد استشهدنا بهذه الفكرة هنا ، فكرة المنظمة الزنجية كما طرحها حزب العمال الاشتراكي ، وأيدها تروتسكي سنة 1939 ، ليس لكونها نموذجا يحتدا به – والحال ان الممارسة التاريخية لم تثبت نجاحها بالشكل التي طرحت فيه حتى يومنا هذا -- ، بل تأكيدا على انها كانت ، في جميع الاحوال ، في نظر تروتسكي ورفاقه الامريكيين آنذاك ، صيغة استثنائية تنبع ضرورتها من شروط استثنائية ، يحددها عمق الاضطهاد العنصري في الولايات المتحدة الامريكية في تلك الفترة من التاريخ ( سنة 1939 ) ، وسبيلا استثنائيا لخلق شروط التحاق جماهير الكادحين السود بالصيغة الماركسية " الكلاسيكية " ، اي بحزب عمالي ثوري متعدد القوميات .انه الاستثناء الذي يؤكد القاعدة التي شرحنا في هذه الورقة . اما بعد ، فان المطلوب هو تطبيق القاعدة وفق خصوصيات كل حالة .
ما هو الهدف المبتغى من طرح هذه الورقة ؟ : نشير في البداية ان هذه الورقة ليست في مضمونها مشروعا ايديولوجيا عاما ، وليست خارطة طريق جديدة لتنير السبيل للإجابة عن الاسئلة الحرجة ، كما انها ليست برنامجا انتقاليا او مرحليا لابد منه قبل الوصول الى الهدف . وبالرغم من اننا عالجنا الموضوع من زاوية ماركسية بحتة ، لان المخاطب من المفروض فيه ، انه ليس هاويا ، بل متفرغا للعمل السياسي والإيديولوجي ... فانه رغم ذلك فان اصل الورقة هو مجرد الخيال المقتبس من الواقع ، مادام ان الجميع هذه الايام ، يتخيل ، وربما يحلم بحتمية نجاح مع عانقه منذ اثنتي وأربعين سنة خلت . ان هذه الورقة لن تعرف ابدا طريقها الى التنفيذ ، مثلما ان جميع الاوراق التي ’قدمت في مناسبات عدة ، احترقت وتم الرمي بها جانبا في سلة المهملات ، ومثلما ان جميع المشاريع الايديولوجية التي تم التنظير لها قد تبخرت مثل بخار الماء في الهواء . ولوا فترضنا جدلا ان هذه الورقة ستصغي لها بعض الآذان ، فأنها مثل المشاريع السابقة ، سيكون مآلها الفشل ، بل الافلاس التام . ان ما اثار الانتباه حتى تم تحرير هذه الورقة او المسودة ، ما تناقله العديد من الصحافة الالكترونية وعلى رأسها الحوار المتمدن من اخبار حول " اليسار الجديد " او " اليسار الماركسي اللينيني " بعنوان " آن الأوان لتأسيس تيار ماركسي لينيني " . ومربض الغرابة هنا ، انه بعد اثنتي وأربعين سنة خلت من انشاء منظمة الى الامام ومنظمة 23 مارس وحركة لنخذم الشعب ، هاهم من جديد يرفعون شعار التأسيس لتيار وليس لحزب سياسي . والسؤال هنا ، اذا كانوا لا يريدون بيع الوهم للناس وللسذج ، اين كنتم منذ اثنتي وأربعين سنة ؟ الم يكن الوقت مهيئا للتأسيس لتيار ماركسي لينيني ، فحان وقت التأسيس فقط الآن ، علما ان منظمات الحركة الماركسية كانت عبارة عن تيارات اكثر منها تنظيمات ، وهو ما تجسد في التيارات التي كانت تنشط في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب منذ فترة التحضير للمؤتمر الوطني السادس عشر . وهي التيارات التي تناسلت كالفطر ، منها من اندثر ومنها من تقوقع ومنها من اصبح عبارة عن اطلال يذكي في بعضهم الحنين الى تلك السنوات الخوالي التي اصبحت سنوات عجاف ما دام اطل على الساحة الآن من وجد الأوان قد حان للتأسيس لتيار ماركسي لينيني . فعندما خرجت منظمة الى الامام عن حزب التحرر والاشتراكية ، كان من ابرز المسائل الاستراتيجية التي رفعتها ، هي تأسيس حزب ماركسي لينيني ، يؤسس لدولة العمال والفلاحين بعنوان " الجمهورية الديمقراطية الشعبية " ، وقد آمنت الى الامام ايمان العجائز بالحزب اداة العنف الثوري كجواب عن عنف الدولة ، ولقيادة الثورة التي ستقلب الاوضاع رأسها على عقب ، بل ان منظمة الى الامام تمسكت بمطلب الحزب الاستراتيجي حتى في اشد الفترات التي مرت بها ، وذلك حين رفع متشدّدوها ، بعد مراجعة الكاوتسكيين لمواقفهم منذ 1979 ، شعار " لنبني الحزب الثوري تحت نيران العدو " . وإذا كان الكاوتسكيون قد اعترفوا بالدولة العلوية التي كانوا يخططون للقضاء عليها ، حين استعطفوها بالترخيص لهم بالعمل ، فالسؤال ما القيمة المضافة التي اضافها هذا الترخيص لليسار الماركسي ؟ لا شيء لأنه ، لا يشكل حتى نقطة ماء في بحر هائج . وهنا ما القيمة المضافة التي سيضيفها اصحاب الدعوة الى انشاء تيار ماركسي الى العائلة الماركسية ؟ الجواب طبعا لا شيء . وهذا يترجم اما بالإحباط او الملل ، او ان اصحابه يعيشون في واد والواقع في آخر ، او انهم ليسوا فقط على هامش الهامش بل غير موجودين اصلا اللهم ، بالبيانات والبلاغات النارية التي يعتقدون انها تشكل فكعات خوف للنظام ، الملم بالأشياء ، والمتحكم في العملية التطورية بالشكل الذي يريده هو ، لا كما يريد خصومه .
واذا كان المقصود بالتيار انه جارف . فماذا سيجرف تيار تكوّنه اشخاص تعدادها على رؤوس الاصابع ؟ هل سيجرف النظام ، وهذا من اكبر المستحيلات ، لان النظام وصل من القوة ما لم يصله في اية فترة من فترات تاريخه ،حيث الكل يسبح به ويستمد منه القوة والعون . اما اذا كان التيار سيجرف اعداء الماركسسين من اسلامويين متعددين ، فهذه المهمة مثل الاولى تبقى كذلك من ضروب المستحيل . ويكفي النظر الى من يسيطر على الساحة . اليست التنظيمات الاسلاموية من حزب العدالة والتنمية ، الى جماعة العدل والإحسان ، الى التيارات السلفية المتزمتة ؟ وهنا الم تتعرّ عورة اليسار الماركسي ( النهج الكاوتسكي ) حين تزاوج زواجا غير طبيعي مع العدل والإحسان ، وكيف تحسّر مع كثرة الدموع التي سكبها بعد ان طلقته ، وطلقت غيره من الحزب الاشتراكي الموحد الى حزب الطليعة ، وظهروا كالأيتام في مأدبة اللئام . من يسيطر على الساحة في مصر ، ليبيا ، سوريا ، اليمن ، الجزائر وتونس ؟ اليست الحركة الرجعية الاخوانية والفاشية السلفية ؟ من يسيطر على الشارع والحكم في بغداد ؟ هل هم المراكسيون او اعداءهم من شيعة وسنة مسيطرة على الارض ؟ .
ان على اليسار ان يراجع قواعده اذا اراد ان يحقق بعض التقدم في الساحة . اما اذا ظل رهين القوالب الماركسية الدغماتيكية خاصة في موضوع التراث والموروث الايديولوجي للعامة وللدولة ، فان عزلته ستزداد وسط الساحة ولن يتمكن ابدا من بلوغ ما بلغته الحركة الاسلاموية في المغرب وبالعالم العربي والإسلامي .
كل ماركسي متشدد عند قراءته لهذه الورقة سيعتبر انها رجعية او يمينية ، لكن الذي يجهله هؤلاء ، انه بعد افلاس جميع المشاريع التي نظروا لها ، وتحولهم الى شتات وجماعات ’صغيّرة ، وبعد افول ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي السابق ، وتفكك انظمة البرجوازية في اوربة الشرقية ، وتحول الصين من الماوية الى دولة امبريالية متوحشة تسيطر على الاسواق العالمية .. ماذا تبقى من الماركسية واللينينية والستالينية والماوية ؟ لا شيء .
واذا كانت الحركات الاسلاموية قد وصلت الى ما وصلت اليه اليوم من قوة وحسن تنظيم ، بفعل المثابرة والعمل الدءوب المتواصل ليل نهار منذ ما يقارب الاربعين سنة ، وبالضبط منذ 1970 ، فان على اليسراوية ان تتعلم من هذا التطور الذي لم يكن مفاجئا ، بل كان مخططا له بذكاء وحنكة مستغلين الضبابية والأمية التي تعشش وسط الجماهير متواصلين بخطاب تبسيطي وبسيط يدخل الاسماع من دون طرح السؤال عن ضخامة المصطلحات كما يستعمل الماركسيون التي خطاباتهم في واد والشعب الامي في آخر ، وهو ما يعني انه امام اليسار لكي يتمكن من الاقتراب من قوة الاسلاموين ، عليه الاجتهاد لأربعين سنة قادمة ، حيث تذهب اجيال وتأتي اخرى ، وهو ما يتعارض مع طموح ( الرفاق ) الآني للتعويض عن سنوات العجاف . لكن هيهات وهيهات ، لأنه من المستحيل اعادة عقرب الساعة الى الوراء .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطائفية الورم الخبيث بالوطن العربي
- ازمة منظمة ( التحرير ) الفلسطينية -- دراسة تحليلية ونقدية لم ...
- البومديانية وتجربة التنمية الجزائرية المعاقة
- المثقفون والصراع ( الطبقي )
- (الايديولوجية العربية المعاصرة )
- انقلابيو فتح وراء مقتل ياسر عرفات
- انصاف الحلول : الارث الاتحادي الراديكالي ( 5/5)
- انصاف الحلول : الارث الاتحادي الراديكالي ( 4/5 )
- انصاف الحلول : المؤتمر الاستثنائي ( 3/5 )
- انصاف الحلول 2/5
- انصاف الحلول 1 / 5
- يونيو شهر النكبات والنكسات المصرية
- الانتظاريون ليسوا بمرجئة
- ملف - المتغيرات في تركيبة الطبقة العاملة ودورها ،والعلاقات م ...
- المثقف
- العراق بين مخاطر التقسيم والانقلاب العسكري واللّبننة ( 2 )
- العراق بين مخاطر التقسيم والانقلاب العسكري واللّبننة ( 1 )
- الشبيبة
- ملف المراة : آفاق المراة والحركة النسوية بعد الثورات العربية
- حقوق الانسان المفترى عليها في الخطاات الحكومية وغير الحكومية


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - في بناء الحزب العمالي الثوري (منظمة الى الامام) ( وجهة نظر )