أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - الطائفية الورم الخبيث بالوطن العربي















المزيد.....



الطائفية الورم الخبيث بالوطن العربي


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 3835 - 2012 / 8 / 30 - 22:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمة :
لا تخلو بلاد او دولة عربية من مخاطر الطائفية الورم الخبيث الذي هدد الكيانات بالتشرذم والانفصال ، وهو ما يخدم اجندات اعداء الامة وعلى رأسها ، اضعافها عن طريق اغراقها في مستنقع الحروب الاهلية ، بحجة الدفاع عن حقوق الاقليات مرّة ، ومرّة باسم الدفاع عن المبادئ الديمقراطية غير الموجودة عند الغرب اللاّاخلاقي ، ومرّة باسم التحكم من قبل حزب او جماعة في المسرح السياسي ، وتهميش غيره من الاحزاب ، او الجماعات التي تنافسه الفعل السياسي .وإن نحن القيانا نظرة عن واقع الحال الذي تعيشه الامة بفعل هذا التهديد الذي يرتكز على حجج اريد بها باطل ، فإننا سنجد ان الخريطة العربية للدول العربية كلها ملغومة بهذا الورم الذي يهدد بالانفجار في كل مرة معبدا الطريق لسايكسبيكو جديد بالمنطقة . في مصر تبدو الطائفية المشكل المفتعل بين الاقباط وبين المسلمين . في لبنان تزيد الاوضاع استفحالا حيث الانتماء للطائفة وليس للوطن فتجد السنة وفيهم تيارات ، الشيعة وفيهم فرق ، المسيحيين وفيهم قبائل ، العلويين ، الأرمينيين ، ما يجعل البلد مخترقا باسم الحماية من قبل قوى خارجية لا يهمها من لبنان غير المصالح المتضاربة ( السعودية عراب سنة الحريري ، ايران عراب الشيعة ، فرنسا عراب المسيحيين وهكذا ) . في العراق هناك الشيعة والسنة والأكراد الذين يؤسسون لدولة مستقلة عن بغداد . في سورية هناك العلويون والسنة والمسيحيون والأرمن والأشوريون . في الجزائر هناك العروبيون والبرابرة . اما في المغرب فهناك العروبيون ( قبائل بني هلال وبني سليم الوافدة من مصر الفاطمية في القرن الحادي عشر ، وأصلهم من الطائف بالمملكة العربية السعودية ) هناك ( آل الفاسي ) هناك الزنوج القادمون من افريقيا بسبب المجاعة والجفاف ، وهنا البرابرة الذين ينقسمون الى ثلاث اعراق : عرق جاء من اليمن وهم السوسيون الذين يسمون بالشلوح ، ويتكلمون تشلحيت ، ويستوطنون جنوب المغرب ، وعرق يسمى بالريفيين الذين يتكلمون لهجة ترفيت ويسكنون شمال المغرب ، وهناك عرق الامازيغيون سكان الاطلس المتوسط الذين يتكلمون تمزيغت ، هذا دون نسيان سكان الجبال العربية المعروفين بجبالة ، وهي اعراق عربية اصيلة استوطنت المغرب منذ آلاف السنين مثل الريفيين والامازيغيين .
وإذا كان النزاع الطائفي الذي غدّته الدوائر الاستعمارية التي تبحث عن سايكس بيكو جديد بالمنطقة العربية ، قد تمكن من فصل السودان عن جنوبه مستغلة الدين في توظيف وتأجيج الصراع ، ومستغلة اخطاء استراتيجية من قبل الدكتاتور عمر البشير ، ومن قبله الرئيس السابق جعفر النميري بتطبيق الشريعة الاسلامية على المسيحيين . وإذا كانت الطائفية قد تمكنت من العراق حيث اضحى اقليم كردستان العراق بمثابة دولة مفصولة عمليا عن بغداد ، ويلاحظ هذا من زيارة وزير الخارجية التركي للإقليم دون المرور من بغداد ، كما يظهر في ابرام الشركة الفرنسية طوطال لعقود توريد واستثمار البترول دون المرور من بغداد ، كما يقضي بذلك الدستور العراقي الذي اضحى متجاوزا . وإذا كانت الطائفية قد قلصت نفوذ الدولة المركزية اللبنانية من حيث القوة حيث يغلب الانتماء الى اللّْبْننة المبنية على الطائفية وليس الى الدولة ، فان خطر الطائفية لا يزال يهدد اكثر من بلاد عربي ، مرورا بمصر التي يستغل الغرب فيها مشكلة الاقباط المفتعلة لبث سموم الانشقاق في المجتمع المصري ، او في الجزائر الذي تطالب جمعيات معروفة بارتباطاتها الصهيونية والفرنسية ، بالاستقلال عن الجزائر العاصمة ، او بالمغرب الذي تطالب به جمعيات عنصرية محسوبة على اهل سوس بالحكم الذاتي الذي سيتحول مع مرور الوقت الى استقلال حقيقي ، رغم ان جذورهم الاصلية هي من اليمن ، وليس من شمال افريقيا ، ونفس الشيء يلاحظ بالنسبة لبعض الجمعيات في الريف . يلاحظ انه رغم تطرفية هذه الدعوات ، فان تأثيرها يظل محدودا لعدة اعتبارات اهمها ، ان القاعدة الواسعة للسكان موّحدة بسبب الدين الاسلامي والمذهب المالكي ، ومن جهة بسبب ضعف هذه الجمعيات الذي اثر في حصر اشعاعها بين اعضاءها دون ان يتسرب ذلك الى غيرها .
اجمالا فان النتيجة التي يمكن الوصول اليها ، هي وقوف الاستعمار القديم والاستعمار الجديد وراء تدعيم الطائفية البلاء البلية المهدّد لوحدة الدولة والأمة . لذا فعندما دخلت فرنسا الى المغرب في سنة 1912 ، وبعد دخول المقاومة المسلحة للقبائل ( النفق المسدود ) وهو ما عبر عنه علال الفاسي " نشوء جيل جديد متشبع بروح المقاومة السلمية التي لا تعطي السلاح المقام الاول في كل معركة ..." ( الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ص 127 ) ، لم تجد الادارة الكلونيالية الفرنسية من وسيلة لبث الفرقة والتفرقة ، غير الظهير الذي اصدرته باسم ( البربري 16 ماي 1930 ) لفصل البرابرة عن العروبيين وفصل الجبال ( البرابرة ) عن المدن ( العروبيون )وفصلهم عن البادية التي كانت بربرية عروبية ، ومن ثم الشروع في تمسيح وتنصير البربر ، وخلق محاكم وإدارات ومدارس خاصة بهم ، كمشروع يستهدف وحدة المغرب ووحدة الامة ، وهو المشروع الذي جوبه بمقاومة شرسة من قبل البرابرة انفسهم كما قبل العروبيين . وهنا لابد من الانتباه ، انه وبخلاف الشرق العربي الذي استعملت فيه العروبة كتناقض رئيسي في مواجهة المحتل العثماني المتخلف ، ومواجهة الاحتلال البريطاني ، فان الفصائل المتقدمة داخل الحركة الوطنية بالمغرب ، ومنها المقاومة وجيش التحرير ، ركزا على الدين الاسلامي في مواجهة الادارة الكلونيالية ، حيث كانت المظاهرات تخرج من المساجد التي كان يقرا بها اللطيف .
1 – الاطار العام للطائفية : مما يتبين اعلاه ان ظهور النظام الطائفي في البلاد العربية يكون دائما مزاوجا وملازما لاحتلال الاجنبي لكل بلاد عربي . لذا وللإحاطة اكثر بالموضوع لا ينبغي حصر مناقشته في حدود الفترة الحاضرة المكشوفة عند الجميع وتجاهل خلفيته التاريخية ، بل لا بد من العودة الى التاريخ والماضي البعيد لتلمس اصول المشكلة والتي ، وكما قلت اعلاه لا تخص بلدا دون غيره ، بل انها تخص كل البلاد العربية المهددة بهذا الطاعون الذي تجندت له الدوائر الامبريالية والصهيونية المتحرشة بالمنطقة العربية . لذا فإننا نرى انه من الضروري التأكيد على بعض الحقائق الاساسية ، اولها ان النظام الطائفي ، هو نظام سياسي من طبيعته انه يؤمن للحاكمين والمحتلين وسيلة لتفريق المحكومين واستخدام اقلية مميزة لقهر اكثرية ’مضطهدة . وقد اقترن ظهور هذا النظام بصورة خاصة بالمجتمعات الاقطاعية والاستبدادية التي تقوم على تجزئة السلطة السياسية ، اكثر منها في المجتمعات الشديدة المركزية . ولهذا السبب فان جذور الطائفية والاضطهاد الديني والقومي في اوربة الغربية ، والمجتمعات الاقطاعية الاسيوية ( العثمانيين والسلاجقة الاتراك مثلا ) كانت اشد قوة وامتدادا منها في المجتمعات الموحّدة التي قامت في ظل الدولة المركزية والحياة المدنية المتطورة . فليس بخاف على المطّلعين على التاريخ الاوربي ملاحظة حِدّة الحروب الطائفية فيه ، ووحشية القمع العنصري و الديني الذي مارسته بعض الانظمة الحاكمة الاوربية ، كمحاكم التفتيش والإبادة الجماعية النازية الهتلرية ، وما تتعرض له اليوم الاقليات العربية والإفريقية الموجودة فوق الاراضي الاوربية .
ان هذا لا يعني بالطبع خلو المجتمعات الاسلامية من مقومات الاضطهاد الديني والتمييزي والطائفي ( اضطهاد الشيعة في المملكة العربية السعودية والبحرين ، اضطهاد السنة في ايران والعراق ، اضطهاد السنة في سورية ). إلا اننا نلاحظ وجود الوزراء والأطباء والمعماريين المجوس ، والمسيحيين واليهود في قصور الخلفاء المسلمين ، العباسيين والأندلسيين والفاطميين . وهذه ظاهرة قلّما ’وجدت في الانظمة السياسية الاوربية قبل العصر الحديث ، إلا في تلك التي تأثرت بالأنظمة الاسلامية كحكم النّورمان في صقلية ، الذي استخدم العلماء والموظفين المسلمين في ادارة اجهزة الدولة المسيحية ، ولم يتردد في استعمال اللغة العربية كلغة علمية . ومن المعلوم ن البابا قد كفّر بعض ملوك الّنورمان لتعاملهم مع المسلمين
ويجب عدم الظن ان الانظمة الطائفية القائمة في البلاد العربية هي وليدة التركة العثمانية التي لم تصل الى المغرب و’حوصرت بالحدود الجزائرية ، وإنما جاءت ايضا ، والى درجة اكبر نتيجة الاحتلال الكلونيالي الاوربي خلال الحرب العالمية الاولى . فمن المعلوم ان النظام الطائفي العثماني قد بدأ بالضعف في اواخر الدولة العثمانية ، سيّما بعد نجاح الثورة الدستورية عام 1908 التي ترافقت مع دستور 1908 المغربي ، وإطلاق بعض الحريات السياسية ، وإلغاء قسم من الامتيازات الطائفية القديمة . لكن اكثر ما يلفت الاهتمام ان الدول الاوربية التي جاءت لإرث التركة العثمانية ، الرجل المريض ، اندفعت في هذه الفترة بالذات لإحياء الطائفية ، واستخدامها كأساس للأنظمة العميلة التي كانت تخطط لإقامتها في الاقاليم العثمانية
ترجع الفروق بين الانظمة الطائفية القائمة في المجتمعات الاسلامية والأوربية الى اختلاف التشكيلات الاجتماعية الموروثة من الماضي في كل من الحالتين . ان هذا التفسير لا يعني القول بأطروحة " الاستبداد الشرقي " ولا بفكرة " نمط الانتاج الاسيوي " ، لان هذه المقولات لا تقوم على اسس تاريخية ، وإنما ظهرت نتيجة التعصب الاوربي ، وقلّة المعرفة بتاريخ المجتمعات الاسيوية القديمة ، ثم تسربت فيما بعد الى التراث الماركسي كما هو معروف في التاريخ الحديث
ان ما يميز المجتمعات الاوربية السابقة للرأسمالية ، اعتمادها على الزراعة الديميّة ( الامطار ) التي وفرّت الاسس لقيام كيانات انتاجية صغيرة منعزلة عن بعضها البعض ، حتى اصبحت الاسرة الواحدة تشكل نظاما اقتصاديا متكاملا تقريبا . اما المنطقة الاسلامية والعديد من نواحي آسيا وإفريقيا ، فقد تطورت كيانات اجتماعية ممركزة ، وظهرت منذ فترة سحيقة في القدم دولة مركزية التكوين واسعة الامتداد . ونتيجة لهذا التمايز في البنية الاجتماعية ، برز النظام الطائفي بشكل اكثر حدّة في المجتمعات المنعزلة الضيقة التكوين ، منها في الدول المركزية القوية . وليس من قبيل الصدفة ان اوربة استعارت جميع اديانها الكبرى من الشرق ، لأنها كانت بحكم تشرذمها الاجتماعي ، غير قادرة على تطوير فكر ديني – توحيدي يفترض وجود عناصر اقتصاد موحّد وبيروقراطية ممركزة
لم تكن الدول الامبريالية الغربية الحديثة جاهلة بالمزايا التخريبية للنظام الطائفي ، بل كانت تغترف من تراث اوربي طائفي غزير اغنته الحروب الصليبية في القرون الوسطى ، ومهّدت له الطريق البعثات التبشيرية ، والدبلوماسية الاوربية . فما هو اذن النظام الطائفي ؟
ان النظام الطائفي اداة للقهر والسيطرة السياسية ، اوجده حكم الاستبداد المطلق والقهر السياسي والقومي ، وهو لم يظهر في التاريخ إلا كوسيلة بيد المحتلّين والطغاة لشق صفوف المحكومين ، والحيلولة دون اتّحادهم ضد العدو المشترك ( نسوق هنا الحالة اللبنانية ، الحالة العراقية والحالة المغربية عند صدور الظهير الفرنسي المسمى ظلما بالظهير البربري ). فعندما نتكلم عن النظام الطائفي فإننا لا نقصد العداء بين المنتسبين للأديان المختلفة ، ولا تفضيل الافراد لهذه الجماعة المذهبية او تلك ، و لا ممارسة شعائر دينية معينة . فتلك قضايا تتعلق بالإفراد اكثر مما تتعلق بتكوين انظمة الحكم السياسية . انما نعني بالنظام الطائفي ، نظاما معينا للحكم ، يقوم على هيمنة اقلية دينية او طائفية على السلطة السياسية ، واحتكارها للامتيازات الاقتصادية والمكانة الاجتماعية المتأتّية من السيطرة على مقاليد السلطة ( الطائفة المسيحية والسنية في لبنان ، طائفة آل الفاسي بالمغرب ، العلويون والمسيحيون بسورية ، الشيعة بالعراق وايران ، الوهابية السعودية ، السنة في البحرين .. )
وغالبا ما تكون سلطة الاقلية الطائفية بحاجة الى دعم خارجي ، كقوة احتلال او نفوذ امبريالي ، بحكم كونها مهدّدة داخليا ، فتلتمس المساندة الخارجية ، الامر الذي يوفر الاسس لقيام مصلحة مشتركة بين القوة الخارجية وبين الاقلية الحاكمة لكبت المحكومين ، والاستئثار بالسلطة السياسية والثروات الاقتصادية لوحدها دون غيرها من الإثنيات الوطنية الاخرى . لذلك يقترن النظام الطائفي في اكثر الاحيان بالاحتلال الاجنبي والهيمنة الخارجية ، حتى اذا كان المحتلّون لا يشاركون الحكام المحليين المعتقد الديني او المذهبي . فالاشتراك في الدين والمعتقد بينهما ليس ضروريا لقيام نظام طائفي . والمثال على ذلك تبني الامبريالية البريطانية للطائفة اليهودية ، واختلاقها فكرة " الوطن القومي لليهود "، رغم الاختلاف الديني بينهما . وبطبيعة الحال فان الانتماء الديني او المذهبي المشترك يعزز من الترابط ، و يوفر ارضية واسعة لاستغلال الطائفية لإغراض التوسع الامبريالي ، كما يظهر من تبني الامبريالية الفرنسية للأقلية المارونية في لبنان والبربرية في المغرب والجزائر ، ثم ادعاء القيصرية الروسية فيما سبق بحماية الأرتدكس في فلسطين المحتلة .
وقد تقتضي المصالح الامبريالية استقدام اقليات قومية من خارج البلاد المحتلة ، لاستخدامها كقاعدة اجتماعية لحكم احتلال البلاد ، كما حدث في محاولة بريطانيا تشجيع الهجرة الهندية الى العراق قبل ثورة العشرين ، او محاولة نظام البعث السابق في العراق استقدام المهاجرين الى العراق من البلاد العربية والأجنبية لمواجهة المقاومة الكردية ومواجهة المد الشيعي الرافض لمشاريع صدام حسين خاصة الحرب مع ايران والاحتلال للكويت .
ومن جانب آخر فان فوائد النظام الطائفي للمحتلين لا تقتصر على ربط الاقلية الحاكمة بهم ، بل يشجع ايضا على خلق الطائفية المعاكسة بين المحكومين الذين يجدون انفسهم ’يضطهدون بسبب انتماءاتهم الدينية والمذهبية ، اضافة الى اسباب اخرى . لذلك تثار النقمة الطائفية ، ويتسع الانقسام بين الشعب ، وتتكتل كل طائفة حول من يدعي حمايتها والدفاع عنها ، فيتعذر توحيد الجماهير في حركة موحدة ضد المحتلين والحاكمين ، ويتهيأ لهؤلاء تعزيز قبضتهم على البلاد وخيراتها . ثم ان مثل هذا الوضع يوفر للمحتلين والحاكمين فرصة للظهور بمظهر حكم ( محايد ) يتوسط بين الطوائف المتصارعة كما جرى في الهند ويجري الآن بفلسطين المحتلة وبلبنان
ان النظام الطائفي يوفر مزايا عديدة للمستعمرين والمحتلين والحاكمين كثيرا ما يجدون انفسهم عاجزين عن كبت الشعوب المحتلة وإكراهها على الطاعة والخضوع . فهو يتميز عن النظام العنصري بكون الحاكمين والمحكومين في النظام الطائفي ينتمون ظاهريا الى امة واحدة ، وبلد واحد لا تفرقهم سمات خارجية ، كاللون والملامح الجسدية ، او الانتماء القومي . لذلك يتمتع النظام الطائفي بقابلية كبيرة على التمويه والتورية ، فقلما يمارس هذا النظام علنا او يتعرض للكشف والفضيحة ، إلا في حالات غير معتادة ، او نتيجة التمحيص بانتساب الحاكمين وعلاقاتهم القبلية والطائفية ، وهو امر لا يتهيأ لأكثر الناس
وقد يحدث احيانا ان يرغب الحاكمون ابراز السمات الخارجية التي تميز الحاكمين عن المحكومين ، فيكرهون الطوائف المحكومة على تمييز انفسهم باللباس ، او بعلامات ظاهرة للعيان ، كما فعل الخليفة المتوكل بأهل الذمة ، فاجبرهم على لبس الزنانير ، وتطويل الزلوف ، ورسم صور الشياطين على ابواب دورهم ومنازلهم ..لخ
اما في ظل حكم البعث سابقا في العراق ، فان الاتجاه العام للنظام كان هو العمل ما امكن ، لإخفاء حقيقة طائفية الحاكمين بمختلف الوسائل والأساليب ، منها مثلا تحريم استخدام الالقاب لإخفاء الانتماء العشائري والمذهبي للحاكمين مثل فلان التكريتي او الموصلي او البغدادي او الأنبا ري
يؤدي النظام الطائفي من ناحية اخرى الى اضعاف مقاومة المحكومين ، رغم انه يدفعهم للتكتل ضد الطوائف الاخرى . اذ ان الالتفاف السياسي في هذه الحالة لا يكون وفق اسس طبقية بحتة تتجاوز الحدود الطائفية التي تجمع المستغلين وتوحّد المحكومين على اختلاف مذاهبهم ضد الحاكمين ، و انما يجد اكثر المسحوقين انفسهم مضطرين للالتفاف حول مؤسسة طائفية تقليدية تجد مصلحتها في تأجيج الصراع المذهبي الذي تستمد منه مقومات وجودها . وقد شهد تاريخ النظام الطائفي في العراق مثل مفارقات غريبة مثل موقف البويهيين الشيعة من الخلافة العباسية . يذكر ’عرْيب القرطبي في كتابه ( صلة تاريخ الطبري 11:354) ان معز الدولة البويهي حين احتل بغداد عام 334هجري ، اراد عزل الخليفة العباسي المستكفي وتوليّة احد اعيان الشيعة محله ، فمنعه وزيره الصيرمي وقال له " اذا بايعته استنفر عليك اهل خرسان وعوام البلدان ، وأطاعه الديلم ، ورفضوك وقبلوا امره فيك ، وبنو العباس قوم منصورون ،تختل دولتهم مرة وتصح مرارا .. لأن اصلها ثابت وبنيانها راسخ . " . فعدل معز الدولة عن رأيه وولّى المطيع العباسي محل المستكفي بعد ان سمل عينيه . يتضح من هذه الرواية ان الانتماء الطائفي المختلف لم يمنع قيام مصلحة مشتركة بين المحتلين الديلم الشيعة وبين الخلافة العباسية السنية ، ما دام الامر يتعلق بتعزيز السلطة الحاكمة وقهر المحكومين المستضعفين والاستئثار بالاقتصاد
وتظهر من خلال استعراض تطور النظام الطائفي ظاهرة اخرى جديرة بالملاحظة ، وهي ان الانقسام الطائفي لا يلغي الانقسام الطبقي داخل كل طائفة من الطوائف . فالطائفة المعينة قد تجد نفسها نتيجة الظروف الخارجية مكرهة على التضامن والوحدة ازاء الطوائف الاخرى ، لكن الصراع الطبقي داخل الطائفة ذاتها لا يختفي ولا يزول ، وإنما يظهر بأشكال جديدة قد تتخذ انقسامات مذهبية او سياسية في صفوف الطائفة الواحدة او الطوائف جميعا ، الامر الذي يقود الى اعادة اصطفاف الطوائف وظهور تكتلات جديدة تختلف عن سابقاتها . شأن ما حدث مع الامراء الحمْدانيين مع القرامطة ، وتذبذب رؤساء الامارة الزيدية الشيعية في الحلّة بين الخلافتين العباسية والفاطمية . و يقودنا هذا الى الاشارة الى خطأ اعتبار الطوائف كيانات متجانسة داخليا او انها تعمل ككتل سياسية موحّدة ، اذ لا بد ان تظهر المصالح الطبقية ضمن الانقسام الطائفي الامر الذي يدفع العناصر المستنفدة ، والفئات المالكة في الطوائف المتحاربة ، للمصالحة ، والعمل المشترك ضد الطبقات المسحوقة ، والعكس بالعكس ايضا . ان العلاقة المعقدة بين الطوائف والطبقات لا تظهر بصورة محدّدة إلا عبر استعراض تاريخي لتطور الطوائف في الاسلام
2 – تطور الطوائف في الاسلام : فسّر ظهور الطوائف في الاسلام تفسيرات شتى تتباين بالتحيز والموضوعية تبعا لميول المؤرخ واتجاه الكاتب . ولعل اشهر التفسيرات وأكثرها انتشارا بين الاوساط الطائفية والشوفينية نظرية ابن حزم الاندلسي ، وهي كنظرية عنصرية شوفينية لم يكن من الغريب ان تشيع بين المستشرقين الغربيين ، ومن تأثر بهم من دعاة الفكر القومي في البلاد العربية . يقول ابن حزم الاندلسي : " والأصل في اكثر خروج الطوائف عن ديانة الاسلام ، أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الامم وجلالة الخطير في انفسهم حتى انهم كانوا يسمّون انفسهم الاحرار و الابناء وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدا لهم فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على ايدي العرب وكانت العرب اقل الامم عند الفرس خطرا تعاظمهم الامر وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الاسلام بالمحاربة في اوقات شتى ففي كل ذلك يظهر الله سبحانه وتعالى الحق ، فرأوا كيده على الحيلة انجع فاظهر قوم منهم الاسلام واستمالوا اهل التشيّع بإظهار محبة اهل بيت رسول الله (ص) واِستشناع ظلم علي (ر) ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى اخرجوهم عن الاسلام ... وقد سلك هذا المسلك ايضا عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي فانه لعنه الله اظهر الاسلام لكيد اهله فهو اصل اثارة الناس على عثمان (ر) واحرق على بن ابي طالب (ر) منهم طوائف اعتصموا بالإلهية ومن هذه الاصول الملعونة حدثت الاسماعيلية والقرامطة وهما مجاهرتان بترك الاسلام جملة ، قائلتان بالمجوسية المحضة ثم مذهب مزدك الموبذ الذي كان على انو شروان بن تيماد ملك الفرس ، وكان يقول بوجوب تأسي الناس في النساء والأموال . " ( الفصل في الملل والأهواء والنحل 115 : 2 )
لم يكن ابن حزم اول من رد ظهور المذاهب في الاسلام الى " ابن سبأ " الذي نسب اليه قابليات خارقة لم تتوفر للأنبياء ، كقدرته السحرية لاستمالة الناس وتوجيههم كيفما شاء وأراد ، وكأنهم قطيع من الاغنام . لكن الوقائع التاريخية ’تكذّب هذا التفسير الساذج لظهور الطوائف المذهبية في الاسلام ، لأن الخلاف الديني السياسي ظهر اول ما ظهر بين المسلمين الاوائل انفسهم قبل ان ينتقل الى اهل الاقاليم المفتوحة والمستعمرة والأقوام المقهورة كالفرس مثلا
ولقد شاعت اسطورة " السبئيّة " بين مؤرخي الاسلام من غير الشيعة حتى اخذ بها كتّاب مرموقون عرفوا بالنزاهة والتجرد عن الافتراء الذي نسبه ابن حزم الى الاسماعيلية والقرامطة والمزدكية والشيعة عموما . فقد اورد الطبري ، وهو صاحب مدرسة عقلانية محايدة ، روايات يستشف منها ميله الى ارجاع الخلاف المذهبي الى مساعي عبدالله بن سبأ ( انظر تاريخ الطبري 4 : 330 ، 341 ، 346 ..الخ ) ، لكن الطبري يورد ايضا خلافا لغيره من المؤخرين ، روايات اخرى اكثر صلة بالظروف الاجتماعية التي ظهرت فيها المدارس المذهبية ، فأشار الى عوامل تكوينها مثل تراكم الغنائم الحربية بأيدي قلة متنفّذة من المسئولين ، وحرمان اكثرية المهاجرين الجدد الى الامصار الاسلامية من المستلزمات البسيطة للحياة . وهذه التفسيرات اقرب للقبول وأكثر انسجاما مع التكوين التاريخي للمجتمع الاسلامي
ومن الجانب الاخر ، فقد طرحت المدارس الامامية تفسيرا آخر لأصول الانقسام المذهبي وظهور الطوائف في الاسلام ، ردّته الى انكار مكانة الامام علي بن ابي طالب وغصبه حقه الوراثي في خلافة الرسول ، باعتباره افضل المؤهلين لهذا المقام ، واقرب المرشحين رحما بالنبي ، فأوردت تبريرات شهيرة لدعم رأيها هذا ، منها وجود النص على امامة علي في خطبة غدير خم ّ ، ومنها ايضا ترجيح مذهب الوراثة في الملك والإمامة
لكن هذا الرأي لم يحض بموافقة مدارس اخرى ، انكرت مبدأ الوراثة السياسية وقالت ، ان المبدأ الذي نص عليه القرآن في امامة المسلمين هو مذهب الشورى . وقد احتج ابو بكر بهذا المبدأ عندما رفض تسليم ارض ( فدك )الى ورثة النبي ، حيث استند الى حديث نبوي يقول : " نحن معاشر الانبياء لا نورث .. " ( انظر البلاذري ، فتوح البلدان ، ص 44 ، ياقوت معجم البلدان . مادة فدك ) . وقال اصحاب هذه المدارس ان الخلافة بالبيعة لمن ’يجمع عليه اهل الحل والعقد من المسلمين ، ويوردون حججا لترجيح قولهم هذا ، منها قبول الامام علي بيعة الخلفاء الثلاثة من قبله ، ومنها حجج اخرى يطول سردها . فلسنا في معرض مناقشة التبريرات النظرية والفقهية لإمامة الفاضل او المفضول ، ولا الدفاع عن مدرسة مذهبية ضد اخرى ، وان ما يعنينا هنا تحديد المغزى الاجتماعي للصراع المذهبي ، فنرى ان ظهور المذاهب في الاسلام ونشوء الطوائف المذهبية بعود الى حقيقتين اساسيتين :
اولا -- الصراع بين المدينة والدولة : اتخذ الصراع الطبقي في الاسلام اشكال معقدة غير مألوفة يتعين توضيحها قبل تناول تطور الطوائف الاسلامية . فقد ’ولدت مع ظهور الاسلام تناقضات اساسية استمدت جذورها من التكوينات الاجتماعية السابقة للإسلام ، و تطورت في اطار الامصار الجديدة ، واتخذت هذه التناقضات شكل صدام بين ( المدينة ) كوحدة اجتماعية سياسية ، وبين ( الدولة ) المركزية ألكبرى التي اصبحت فيما بعد القوة المحركة للمجتمع الاسلامي الاول
برزت هذه الظاهرة جليا في الآي القرآني ، حيث يرد ذكر " القرى " و " القرية " باعتبارها الكيان السياسي الحضري المعروف قبل الاسلام . فمكة تميزت بكونها " ام القرى " . وقد اشير الى مكة والطائف باصطلاح " القريتين " . و لا بد من الاشارة هنا الى ان معنى " القرية " في المفهوم اللغوي القديم هو غير المفهوم الدارج في الوقت الحاضر . فقد كانت تعني " المدينة – الدولة " مثل الحضر وتدمر والبتراء ومكة والطائف ويثرب وغيرها . فكانت هذا المدن يمثل كل منها دولة صغيرة مستقلة ، لها حكومتها وأرضها الزراعية المحيطة بها والمناطق التابعة لها . ولم يستعمل اصطلاح القرية قديما بمعنى البادية او الريف ، وإنما ’حرّف هذا في العصر الحاضر ، فيرد في لسان العرب مثلا : القرية ، اي المدينة ،فيقال اهل القرية ، اي اهل المدينة تمييزا لهم عن اهل البادية المعروفون بالبدو
وأمام هذا التكوين " القروي المديني " بالمعنى القديم للمجتمع الجاهلي ، ظهر الاسلام يدعو الى الوحدة السياسية المطلقة بتلبية الناس لدعوة النبي وطاعتهم لرسالته السماوية . فالإسلام كما هو معروف يعني الطاعة ، بمعنى تنازل الكيانات السياسية المستقلة ( القرى والقبائل )وانصهارها جميعا بالكيان المركزي الاسلامي الجديد
وقد دام التناقض بين الكيان القروي ( كيان المدينة – الدولة ) وبين الدولة المركزية الاسلامية ذات الابعاد العالمية بضعة قرون ، انعكس على عملية التنقّل الدائم للعواصم الاسلامية طيلة القرون الثلاث الاولى للإسلام – مكة والمدينة والكوفة وبغداد وسامراء كأمثلة بارزة على ذلك . وفي اطار هذا التناقض ظهرت الطوائف في الاسلام كانعكاس لصراع اهل الكوفة وغيرها من الامصار الاسلامية ضد مركز الدولة الاسلامية كما سنبين فيما بعد .
ان التكوين التوحيدي للإسلام الاول لم يتسع لظهور نظام طائفي ، بل تعارض معه تمام المعارضة ، لان المجتمع الاسلامي الاول كان يحمل بعض تقاليد المجتمع الجاهلي الذي ’ولد فيه بما في ذلك نظام القرى الحرة . فقد دم ّ القرآن التكوين الطائفي للمجتمع ، وحرّم تقسيم الناس طوائف وشيع مختلفة ، وأدان الانظمة المركزية القديمة معتبرا كياناتها الطائفية دليلا على الظلم والجبروت : ( ان فرعون علا في الارض وجعل اهلها شيعا ) – القصص : 4 – وجاء ايضا : ( ان الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) – الانعام : 159 ) .
ولم يكن نظام الطوائف مجهولا عند المسلمين الاوائل فاصطلاح " الطوائف " بمعناه السياسي ظهر اول ما ظهر في اللغة العربية اشارة الى نظام ملوك الطوائف الذين ورثوا دولة الإسكندر المقدوني ، فيقول السهيلي : " وكانت ملوك الطوائف متعادين يغير بعضهم على بعض ، وقد تحصّن كل واحد منهم في حصن ،وتحوّر الى حيّز ، منهم عرب ، ومنهم اشغانيون فرس ... وكان الذي فرّقهم وشتّت شملهم ، وادخل بعضهم بين بعض – لئلا يستوثق بهم ملك ، و لا يقوم لهم سلطان – الاسكندر بين فيلبش اليوناني ... " ( الروض الانف 1:31) .
وفي رواية اخرى ، أن ارسطوطاليس هو الذي اشار على الاسكندر اقامة نظام الطوائف فقال له : فرّق كلمتهم بان تجعل لكل طائفة منهم ملكا , فلا يؤدي بعضهم الى بعض طاعة ، ويلجأ كل فريق بان منهم اليك ، فملّك الاسكندر ملوك الطوائف " ( الاسكافي – لطف التدبير ص 16 )
ويفسر الاسكافي ظهور المسيحية في الدولة الرومانية بدوافع طائفية ، إذ يقول إن الروم اجتمعت على خلع قسطنطين ، فشاور مستشاريه فقالوا له : " لا طاقة لك بقومك وقد اجتمعت كلمتهم على خلعك ، وهم على غير دين يفهمونه . هذا والروم لا تعرف النصرانية ، وهي تعبد الاوثان على جاهليتها . قال فما الحيلة ؟ قالوا له : تستأذن لتحجّ الى بيت المقدس ، ثم تطلب دينا من اديان الانبياء فتدعوهم اليه وتحملهم عليه ، فإنهم يفترقون فرقتين . فرقة تصير معك ، وأخرى تشدّ عنك ، فتقاتل من عصاك بمن أطاعك ، فانك تظهر عليهم ، لأن كل قوم قاتلوا على دين فهم الغالبون ." ( المصدر السابق ص 48 )
يظهر جليا اذن ان المسلمين القدماء كانوا يفهمون مغزى النظام الطائفي بكل دقة ، وكانوا يرون في الاسلام الاول ضمانا لعدم تطور مثل هذا النظام التقسيمي الباغي والظالم . والحقيقة فان الفترة الاسلامية الاولى لم تشهد نظاما طائفيا بين المسلمين انفسهم ، وإنما كان الانقسام الطائفي يقوم بين اهل الاسلام وبين اهل الذمة . ولكن مجرى التاريخ قد اظهر النظام الطائفي كنتيجة منطقية لتطور الدولة المركزية القائمة على القهر والتوسع والاحتلال ، لا سيّما تلك الدول الاستعمارية القديمة ، والملكيات المركزية الكبرى التي سيطرت على مناطق شاسعة من العالم . ولم يظهر النظام الطائفي في الاسلام إلا عندما ابتعدت الدولة الاسلامية عن اصولها ( المدنية – القروية ) القديمة ، واستخدمت العسكريين المماليك خصوصا بعد فترة البويهيين والسلاجقة الاتراك الهمج
ثانيا -- الحاكمون والمحكومون : انعكس التناقض بين الدولة الاسلامية المركزية وبين الكيانات المدنية ( القروية ) وتقاليدها التي استمرت بعد الاسلام في صراع اجتماعي آخر سرعان ما اندمج فيه ، ليكوّنا تيارا سياسيا يعارض السلطة المركزية للخلافة . اعتمد الاسلام في نظريته السياسية على وحدة السلطة السياسية – الاقتصادية التي اتخذت شكلا محددا بعد تطور نظام الخراج ، وذلك في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب . فقد اعتبر الاراضي الزراعية للأقاليم (المفتوحة ) المستعمرة عنوة ملكا للأمة الاسلامية ، اي ملكا للدولة الاسلامية التي اوكلت بدورها زراعة هذه الاراضي للفلاحين لقاء ضريبة معيّنة تسمى الخراج . ولما كان عائد الخراج يرجع من الناحية الشرعية على الاقل لمجموعة الامة ، فقد قيّد هذا النظام من دور الحاكمين في التلاعب بالأراضي الخراجية . لكنه دفعهم من جانب آخر نحو تجميع الملكيات الخاصة ، وإقامة المصانع والمؤسسات الانتاجية الكبرى
وقد اقترن بنظام الخراج بتطور ديواوينية ( بيروقراطية ) واسعة النفوذ تتمتع بثقافة عالية ميّزتها عن العامة المسحوقة الجاهلة . فكان من المنطقي ان يسير المجتمع الاسلامي بعجلة تطورٍ افضت الى انقسامه الى معسكرين كبيرين – الحاكمين والمحكومين -- ، او ما يسمى في الادب القديم – الخاصة والعامة -- . هكذا نرى ان التركيبة السياسية – الاقتصادية للمجتمع الاسلامي قد حدّدت الطبقات الاجتماعية ، وكيّفت طبيعة الصراع الطبقي ، و اوجدت الاسس الاجتماعية لظهور الانقسام الطائفي في فترات لاحقة باعتبار ان الطوائف تمثل معينا من اشكال التكوينات الطبقية .
ان هذه التشكيلة السياسية – الاقتصادية المعقّدة ، تجعل من المتعذّر فهم المدارس المذهبية في الاسلام ، بالاقتصار على الاقاويل الفقهية والنظرية دون النظر الى الدلالات الاجتماعية التي تعبر عنها تلك المدارس ، والى الظروف التاريخية الخاصة التي احاطت بظهور كل فئة من الفئات المذهبية ، ومدى علاقاتها بالدولة من ناحية ، وبالفئات المحكومة من ناحية اخرى .
وفي اطار هذا المنظور تبرز ظاهرة هامة في تاريخ الدولة العربية قلّما نجد لها مثيلا في المجتمعات الاوربية . انها حقيقة التمايز بين دين الحاكمين ودين المحكومين ، واختلاف المذاهب الرسمية عن المذاهب الشعبية والجماهيرية ، حتى انعكست القاعدة القديمة القائلة : " الناس على دين ملوكهم " الى نقيضها ، فكان سكان سورية مثلا ( اغالبية سنية ) على غير دين رؤسائهم في كثير من العصور . كما ان دين سكان البحرين ليس هو دين ملوكه ، وهكذا .
فإذا تفحصنا تاريخ العديد من البلاد العربية والإسلامية من جهة اخرى ، فانه ستبرز للعيان ظاهرة اساسية ، وهي ان تقلب الاديان والمذاهب فيها كان يجري تبعا لتقلب الانظمة الحاكمة او الاسرة المالكة ( في المغرب وقبل مجيء العرب الذين جاؤوا بالإسلام كانت الديانة التي يتبعها البرابرة هي اليهودية وبعدها اعتنقوا المسيحية ) ، في حين نجد ان التقلبات السياسية قادت الى نتائج معاكسة في ظروف مغايرة ( الاطاحة بنظام شاه بهلوي في ايران ادى الى تشييع الدولة التي تعتبر اول دولة شيعية في العصر الحديث ). واذا شملنا المجتمعات الاوربية بهذه المقارنة التاريخية ، فإننا سنجد ان انتشار المسيحية مثلا كان نتيجة قرار سياسي اتخذه بعض ملوك الروم لاعتناق دين المسيح ، وكذلك الامر بالنسبة لحركات الاصلاح الديني الاوربي في العصر الوسيط .
ان هذه الظواهر غير المعتادة التي برزت على مرّ القرون تدل بلا شك ان الصراع الطائفي كان دائما تعبيرا عن صراع اجتماعي ، وانعكاسا لمقاومة شعبية ضد تسلط اجنبي او استبداد محلي بأشكال دينية او مذهبية تنسجم مع الاحوال السائدة في المجتمع والتقاليد الجارية بين الناس . وانه بالنظر الى المخاطر المحدقة بالوطن العربي من قبل المتربصين به ، اضحى النظام الطائفي المنتشر في البلاد العربية احدى الدعامات الاساسية لتكرار سايكسبيكو جديد بالمنطقة . ان اصل الصراع الآن بسورية وليبيا التي هدد بها سكان بنغازي بتمييزهم عن سكان ليبيا حين طالبوا بالاستقلال الذاتي ، وما يختمر من صراعات مرة علنية ومرة خفية بين المسلمين وبين الاقباط ، وما يجري بمنطقة المغرب العربي بين الجمعيات الشوفينية البربرية رغم محدوديتها والعروبيين ... لا يخرج عما اصاب السودان من انقسام حين ساند الغرب برئاسة فرنسا والولايات المتحدة المسيحيين بالجنوب ، ولا يختلف عما يمر به لبنان الغارق في الطائفية حيث الولاء للطائفة وليس للوطن . والسؤال الذي نطرح ، لماذا تثار الطائفية فقط بالبلاد العربية ولا تتعدى ذلك الى القارة الاوربية والولايات المتحدة الامريكية التي تتواجد بها طوائف كثر وتعيش التمييز العنصري بشتى انواعه اشكاله ؟



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ازمة منظمة ( التحرير ) الفلسطينية -- دراسة تحليلية ونقدية لم ...
- البومديانية وتجربة التنمية الجزائرية المعاقة
- المثقفون والصراع ( الطبقي )
- (الايديولوجية العربية المعاصرة )
- انقلابيو فتح وراء مقتل ياسر عرفات
- انصاف الحلول : الارث الاتحادي الراديكالي ( 5/5)
- انصاف الحلول : الارث الاتحادي الراديكالي ( 4/5 )
- انصاف الحلول : المؤتمر الاستثنائي ( 3/5 )
- انصاف الحلول 2/5
- انصاف الحلول 1 / 5
- يونيو شهر النكبات والنكسات المصرية
- الانتظاريون ليسوا بمرجئة
- ملف - المتغيرات في تركيبة الطبقة العاملة ودورها ،والعلاقات م ...
- المثقف
- العراق بين مخاطر التقسيم والانقلاب العسكري واللّبننة ( 2 )
- العراق بين مخاطر التقسيم والانقلاب العسكري واللّبننة ( 1 )
- الشبيبة
- ملف المراة : آفاق المراة والحركة النسوية بعد الثورات العربية
- حقوق الانسان المفترى عليها في الخطاات الحكومية وغير الحكومية
- اغلاق خمارة ( اسكار) بالدارالبيضاء


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - الطائفية الورم الخبيث بالوطن العربي