أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - قراءات.. الديمقراطية والتحول الديمقراطي















المزيد.....



قراءات.. الديمقراطية والتحول الديمقراطي


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 3836 - 2012 / 8 / 31 - 23:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المبحث الاول: النظام السياسي

1ـ ماهية النظام السياسي
هناك اتفاق على ان التطور التاريخي لعلم السياسة في صورته المنهجية بدأ لدى فلاسفة اليونان القدماء. وينسب الى ارسطو- الفيلسوف الاغريقي (384-322ق.م) المقولة الشهيرة: ان الانسان حيوان اجتماعي. ورأى ان طبيعة التطور البشري تحتم نوعا من المجتمع المنظم في ظل نظام حكومي. وان غياب الحكومة يعني الفوضىanarchy، لانه يدفع كل فرد البحث عن مصلحته الذاتية دون اعتبار لمصالح الآخرين. وبذلك يسود قانون الغاب law of jungle.(1) وبنفس المعنى قال الزعيم الصيني ماوتسي تونغ: ان الواقع يفرض دائما وجود رؤساء.(2)

يقال ان لكل رابطة انسانية- مجتمعية وجه سياسي معين. ففي احاديثنا نتكلم عن سلطة المدينة او السلطة في ناد او منشأة او نقابة، الخ.. وقد نستمر في وصف هذه السلطة كونها فردية-دكتاتورية او تعددية ديمقراطية. وغالبا ما نسمع بشأن سياسة معينة او العملية السياسية في هذه المنظمات. من هنا لا يوجد في الواقع من لا يتعامل مع شكل من اشكال النظام السياسي، سواء احب الشخص ذلك ام كره. ويرتبط بهذا الواقع ان السياسة حقيقة من حقائق الحياة التي لا يمكن تجنبها. لكن النظام السياسي لا يشكل سوى جانبا واحدا من جوانب الرابطة البشرية. فعندما نقول عن شخص ما انه طبيب فليس معنى ذلك انه طبيب فقط. اي لا توجد على وجه الحصر رابطة بشرية تكون سياسية في كافة جوانبها. اذ ان الناس يمارسون علاقات متعددة مثل الحب والمشاركة في المعتقدات والعمل والتعاون والتعاضد وغيرها من الممارسات الاجتماعية من عائلية وثقافية ودينية واقتصادية.(3)

وبكلمات أخرى، فان السياسة هي وسيلة لادارة المجتمع البشري ومرآة للحياة المجتمعية وروابطها. وبالنتيجة لا يتعامل الناس بالسياسة من اجل السياسة، بل لأنها انعكاس لروابطهم الاجتماعية. بمعنى لا وجود لنظام سياسي بحت، بل ان كل نظام سياسي يقوم على توجه اجتماعي. وربما يسهل هذا الرأي مناقشة تالية لاشكالية ما اذا كانت الديمقراطية سياسية فقط ام سياسية واقتصادية، وما اذا كانت وسيلة ام هدفا قائما بذاته.

والنظام السياسي للدولة يخص شكل وطبيعة نظام الحكم: الوزارة، البرلمان، القضاء. اي شكل وطبيعة الحكومة بسلطاتها الثلاث. التنفيذية والتشريعية والقضائية. وهنا نقول عن هذا النظام السياسي او ذاك انه: فردي او تعددي، استبدادي دكتاتوري او دستوري ديمقراطي، محافظ يميني او تقدمي يساري، ديني او علماني، اشتراكي او ليبرالي، الخ.. عليه تعددت محاولات تحديد مفهوم النظام السياسي من الاطر الضيقة الى تلك الواسعة. فحسب المفهوم الضيق، يعّبر النظام السياسي عن مجموعة من المؤسسات الرسمية الدستورية والقانونية التي تشكل الحكومة. ويرتبط هذا التعريف بالتحليل التقليدي (الكلاسيكي) للنظام السياسي الذي ينصب على القواعد الدستورية والقانونية. وهذه المحاولة افرزت كمية ضخمة من الادبيات الحكومية، خاصة ما يتعلق باللغة التقليدية لعلم السياسة، بالاضافة الى العديد من التصنيفات والتقسيمات الحكومية التي لا زالت قائمة. اما التعريف الواسع لهذا المفهوم فيشمل كافة الاشكال الحقيقية والمفترضة actual and prescribed للممارسات السياسية التي لا تقتصر على النظام القانوني للدولة فحسب، بل كذلك على حقائق الحياة السياسية ايضا. ويقوم هذا المفهوم على التحليل التطبيقي (الامبريقي) empirical analysis للعمليات السياسية ومحاولة تحديد الحقائق الكامنة لاشكال الحكومات. وهذه المحاولة انتجت بدورها كمية ضخمة اخرى من البيانات والمعلومات في سياق الادبيات السياسية الحكومية واساسا لنظرية المقارنة. اما اكثر تعريف واسع بالمقارنة مع المحاولتين السابقتين، فينظر الى النظام السياسي باعتباره مجموعة عمليات متقاطعة intersection process او اعتباره نظاما فرعيا يتفاعل مع بقية الانظمة الفرعية من اقتصادية واجتماعية. وهذا الاتجاه يقود الى اظهار الفعل السياسي، ويؤكد على اهمية دراسة التطور السياسي من جوانبه الاجتماعية المختلفة. وهذه المحاولة الهمت الكثيرين من الباحثين حديثا خارج بلدان الغرب الصناعي، بخاصة، استخدام انواع جديدة من البيانات والمصطلحات والتقسيمات الحديثة في تحليلاتهم.(4)

ومع ملاحظة المحاولات الكثيرة لتعريف وتحديد مفهوم الحكومة، إلا أنها في صورتها العامة تعبر عن منظمة تقوم بإدارة المجتمع السياسي في سياق امتلاكها للسلطة (القوة) واستخدامها من خلال القوانين والمؤسسات التي تشرف عليها وتباشر مهامها من خلالها.(5) وتستخدم لفظة الحكومة بطرق متعددة. ففي المنطوق العام تجسد طريقة منظمة orderly way لإدارة شؤون المجتمع. وهنا من الممكن التفريق بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية (الفرعية). وبطريقة اكثر تحديدا، نتكلم عن الحكومة باعتبارها هيئة تضم مجموعة أشخاص من النخبة القيادية للمجتمع، لها قوة تجعل مواطنيها يتصرفون بطريقة محددة. ولان هذه الهيئة هي حكومة، لذلك فهي تتمتع بامتلاك القوة وبسلطة استخدام هذه القوة. "ولان الحكومة تستمد شرعيتها من وجودها، لذلك تعتبر قوتها مشروعة legitimate ".(6) إلا أن هذا الرأي يمكن أن يثير نقدا وجيها بسبب خلطه بين وجود واستمرار الحكومة وبين شرعيتها، خاصة إذا فهمنا أن شرعية الحكومة تقوم على قناعة ورضاء الناس بغض النظر عن مصدر هذه القناعة، والتي ستكون محل مناقشة الصفحات التالية.

كما تترادف لفظة الحكومة government مع كل من لفظة الولاية والدولة state. ففي الولايات المتحدة الأمريكية فهي تعني حكومة الولاية في نظام الفيدرالية الأمريكية. ويكمن الفرق بين الحكومة والدولة في أن الأولى متحركة- متغيرة، بينما الدولة ثابتة، أي تتصف باستمرارية وجودها رغم حركة تطورها. وحسب التعريف التقليدي (الكلاسيكي) لمفهوم الدولة المستقلة المأخوذ به من قبل منظمة الأمم المتحدة، تشكل الحكومة أحد مكوناتها الأربعة: الشعب، الأرض، الحكومة، السيادة. وهنا من المفيد التنبيه إلى تحاشي الخلط بين الحكومة والوزارة، إذ أن الحكومة هي وعاء لتجمع السلطات الثلاث التي سبق ذكرها (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، بينما الوزارة تجسد واحدة من هذه السلطات، وهي السلطة التنفيذية، أي جزء من الحكومة، رغم أنها اكثر قوة عادة لدورها في التنفيذ وسيطرتها على المؤسسة العسكرية- البوليسية. من هنا قد تعمد السلطة التنفيذية إلى "ابتلاع"جزئي أوكلي لبقية السلطات. وهذا يشكل دافعا رئيسا في الأنظمة الدستورية إيجاد أشكال من الرقابة المؤسسية- الشعبية (البرلمانية- القضائية) لضمان فعل وعلاقات السلطات الثلاث بصورة متكافئة. وهو موضوع سترد مناقشته لاحقا.

كذلك يختلف مفهوم الدولة عن مفهوم الامة. اذ ان وجود الدولة مرتبط بوجود الشعب (علاوة على الارض والحكومة والسيادة) وليس الامة بالضرورة. والفارق بينهما هو ان الشعب احد مكونا ت الدولة، ويتحدد بحدودها السياسية. بينما الامة تكوين اجتماعي تاريخي ذات لغة مشتركة (بالاضافة الى عوامل الشعور والتاريخ والمصالح المشتركة). عليه لا يجوز الخلط بين مفهومي الدولة (الشعب) والامة. اذ ان الامة تكوين اجتماعي سابق على الدولة التي هي تكوين سياسي، وقد لا تكون الامة مرتبطة بنظام سياسي معين.(7) بكلمات اخرى، تكون الامة موجودة سواء وجدت الدولة ام لا، وسواء كانت مكونة من دولة واحدة (امة واحدة) او عدة دول ( امة مجزأة). وتعّبر الحالة الاولى عن قيام الدولة الوطنية (القومية) الموحدة، حيث يتطابق في اطارها مفهومي الامة والشعب. بينما تعبّر الحالة الثانية عن مجموعة شعوب (دول) تنتمي الى امة واحدة، وتجسد عدم تطابق مفهومي الشعب والامة في كل من هذه الدول المجزأة. من هنا لا يصح الادعاء بوجود شعب عربي واحد، رغم وجود امة عربية واحدة. كذلك لا يجوز القول بوجود شعب عربي او شعب كردي في العراق، لان العراق دولة تضم شعبا واحدا. ويرتبط بذلك التسمية الخاطئة الشائعة في بعض البلدان العربية فيما يخص جمعياتها التشريعية، كما في تسمية "مجلس الامة".

ولما كان النظام السياسي يشكل نمطا مستمرا من العلاقات البشرية، فهو يتضمن الى حدود واسعة الرقابة control والسلطة authority او القوة power. بالاضافة الى مسألة التأثير في هذه السلطة او القوة. وهناك عموما حدودا متباينة لدرجة تأثير الافراد (والجماعات) في النظام السياسي نتيجة التباين في امتلاكهم الموارد السياسية political resources، متمثلة في: الثروة والدخل، المنزلة الاجتماعية، العلاقات (بما في ذلك رابطة الدم/النسب: الاسرية، العشائرية، القبلية)، المعلومات، القدرة على الترغيب والترهيب. علاوة على اختلاف امتلاكهم للمهارات والكفاءات التي يستخدم الافراد من خلالها مواردهم السياسية، وتجد جذورها في اختلاف الهبات الطبيعية endowments والفرص الاجتماعية والحوافز والبواعث والمواهب والقدرات على تعلم وممارسة المهارات السياسية. واخيرا، حجم الموارد التي يستخدمها الافراد للاغراض السياسية. وتتوزع الموارد السياسية على نحو متباين في المجتمع نتيجة عوامل تتقدمها:(8)
* اختلافات وراثية، حيث لا يبدأ كل فرد في المجتمع من نفس الفرصة المتاحة للآخرين في الحصول على الموارد السياسية. وهؤلاء الذين يبدأون اولا نتيجة الوراثة يحققون الاسبقية في زيادة مواردهم وقدراتهم وتأثيراتهم. بكلمات اخرى، لا يبدأ افراد المجتمع جميعا من نقطة الصفر او على نحو متماثل بيولوجيا واجتماعيا. وان مواهب عديدة قد تقود الى الثروة، المنزلة الاجتماعية، مستوى التعليم، الخ.. وهي ليست بيولوجية فحسب بل اجتماعية ايضا. وايا كان المصدر، فان الاختلافات في الهبات الطبيعية والمواهب البيولوجية والاجتماعية عند الولادة غالبا ما تؤدي الى مضاعفة الاختلافات في الموارد السياسية بين الافراد (والطبقات الاجتماعية) الى تباين تأثيراتهم السياسية.
* ان الاختلافات البيولوجية والاجتماعية المتوارثة والمكتسبة جنبا الى جنب مع الاختلافات في الخبرات والتجارب والمهارات، تولد كلها اختلافات في الحوافز والرغبات والقدرات والاهداف لمختلف افراد المجتمع. ذلك ان الاختلافات في الدوافع تقود بالنتيجة الى اختلافات في المهارات والموارد. اذ ليس لكل فرد نفس الدوافع والرغبات والقدرات التي لدى الآخرين للاشتغال بالسياسة او ان يكون قائدا سياسيا او ليكتسب موارد تساعده على بلوغ مقاصده السياسية والتأثير في الآخرين. بكلمات اخرى، ان الاختلافات البيولوجية والاجتماعية قد تقود الى اختلاف الرغبات والامكانات، بحيث تشجع الاغنياء على بلوغ المواقع القيادية في المجتمع، وتضغط على الفقراء الاكتفاء بالحصول على لقمة العيش.
*تؤثر طبيعة توزيع الثروة والدخل في المجتمع بالعلاقة مع طبيعة النظام السياسي- الاقتصادي والاجتماعي في ظروف الاقتراب او الابتعاد عن المساواة في توزيع الموارد السياسية ومدى تعاظم او تقلص التكافؤ في الفرص الاجتماعية. وهذه العوامل مع تلك العوامل البيولوجية تشكل مسألة محورية في تقرير طبيعة توزيع الموارد السياسية في المجتمع.
* يتواجد شيء من التخصص الوظيفي على نحو متباين في كل مجتمع. وهذا التخصص يكون شديدا في المجتمعات المتقدمة، ويقود الى الاختلافات في الحصول على الموارد السياسية.
* واخيرا، فان بعض الاختلافات في الحوافز والاهداف عادة ما تكون محل تشجيع المجتمع بغرض اعداد الافراد لمختلف الاختصاصات وفق متطلبا ت المجتمع. فحالما تعتبر وظائف تخصصية اكثر اهمية من غيرها اجتماعيا، فهي تساعد عندئذ على حصول اختلافات في الموارد، رغم ان هذه الاختلافات ترتبط بطبيعة التنمية ومرحلة التطور الاقتصادي- الاجتماعي، وتميل الى التناقص النسبي مع تقدم المجتمع دون ان تزول تماما.

وليس خافيا ان محاولة بلوغ موقع سياسي مؤثر او اعلى مرتبة لا تقوم من اجل الموقع السياسي نفسه، بل بقصد بلوغ غايات معينة. وسواء كانت هذه الغايات فردية او فئوية او شعبية، فان هذه الظاهرة تشير الى صعوبة وجود فرد سوي لا يتطلع بشكل ما الى مثل هذه المرتبة انطلاقا من طموح الانسان بلوغ مستويا ت اعلى ذاتية- اجتماعية.

لوحظت ظاهرة القدرات السياسية المتباينة لأفراد (وطبقات) المجتمع على مدى قرون طويلة. حاول ارسطو شرح وتبرير هذه الاختلافات عندما نسّب حكم الأغنياء (الأقلية) إلى"مجرد الصدفة".(9) وبعد عشرين قرنا، وفي منتصف عصر النهضة الأوربية، شرح روسو هذه الظاهرة في مقالته الشهيرةA Discourse on the inequalities ,1 875 original(مقالة في اصول عدم المساواة)، اذ اقتفى اصول عدم المساواة في القوة (السلطة) السياسية وعزاها الى سوء توزيع الثروة والدخل. وبعد اقل من قرن على روسو، قدّم كل من ماركس وانجلز تفسيرا مماثلا في البيان الشيوعي وسلسلة الاعمال الفلسفية اللاحقة على البيان المذكور.(10)
2- انماط الانظمة السياسية
رغم ان الدولة الوطنية (القومية) الموحدة state - nation بمفهومها التقليدي- الكلاسيكي (الشعب، الارض، الحكومة، السيادة) هي الشكل الاكثر انتشارا في عالمنا المعاصر، الا ان هناك اشكالا اخرى من هذه الانظمة. ومن الممكن التميز بين ثلاثة نماذج منها هي: الانظمة فوق الوطنية والانظمة الوطنية والانظمة شبه الوطنية.(11)

(1) الانظمة السياسية فوق الوطنية
ويمكن الحديث عن اربعة اشكال، على الاقل، من الانظمة السياسية فوق الوطنية: الامبراطوريات والجامعات والاتحادات الكونفدرالية ومنظمة الامم المتحدة. اما الامبراطورياتEmpires فتكونت من شعوب تنتمي الى اقوام وثقافات متباينة، وقامت بصفة جوهرية على القوة والاكراه، واستمرت في حالات عديدة لفترا ت طويلة نسبيا، واستمدت وجودها واستمرارها من فرض القوة و/او الارتكان الى العقيدة الدينية، وجسّدت انظمة حكم اوتوقراطية autocracy regimes (حكومة الفرد الاستبدادية المطلقة)، رغم انجازاتها التي عبّرت عنها اطلال الابنية التاريخية وهياكلها القانونية وتطويرها لانظمة الري والطرق وتهيئة الظروف الداعمة للتطور. وعلى عكس امبراطوريات العالم القديم، فشلت الامبراطوريات الاستعمارية الحديثة تبرير وجودها واستمرارها، لاسباب عديدة تراوحت بين رفض السكان الاصليين لمشاريعها الاستيطانية والمقاومة الوطنية وبين انتشار المذاهب السياسية الحديثة الداعية الى الديمقراطية والحريات العامة بما فيها المساواة وحق تقرير المصير self - determined في مراكز الدول الاستعمارية ذاتها. رغم ان موجة التحرر الوطنية وظهور الدول المستقلة الجديدة لم تمنع من استمرار المضمون الحقيقي للاستعمار العالمي متمثلا في الاستغلال الاقتصادي.
تقوم الجامعة League على شكل تعاقدي charter بين حكومات دول مستقلة لتحقيق اهداف مشتركة في سياق التعاون بينها، مقابل احتفاظ كل منها بشخصيتها المستقلة. جسّدت عصبة الامم League of Nations الحالة القصوى للمنظمة فوق الوطنية في بداية القرن العشرين، وشكلت خلفية انبثاق منظمة الامم المتحدة، وجاءت حصيلة اتفاق الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى بعد التوقيع على ميثاق انشائها عام1919. ولم تنضم اليها الولايات المتحدة الامريكية بسبب "مذهب مونرو"Monroe Doctrine .(12) وعبّرت عن سيطرة الدول الكبرى على قراراتها من خلال احتفاظها باستخدام حق الفيتوVeto.

يشكل الاتحاد الكونفدرالي Confederation رابطة ارادية voluntary تتحقق بين دول مستقلة توافق في حدود معينة على العمل الجماعي لتحقيق اهداف مشتركة، وتنشئ آليات موحدة للتشاور. وتحافظ الدول المشتركة على قواتها المسلحة وشؤونها الخارجية كلا على حدة، وتتمتع بحقوق متساوية وبشخصيتها المستقلة وحق الانسحاب secession من الاتحاد متى شاءت. وعادة ما تفشل الكونفدرالية في توفير سلطة فعالة، كما انها تفتقر الى القابلية على الاستمرار والحياة. كما اثبتت الكونفدرالية تاريخيا انها الخطوة الاولى نحو اقامة الدولة المستقلة (الدولة الوطنية/القومية الموحدة) على شكل اتحاد فيدرالي، وهكذا فان الاتحاد الفيدرالي لسويسرة المعاصرة جاء لاحقا على كونفددرالية الكانتونات السويسرية. كما تعتبر الفيدرالية الامريكية (الولايات المتحدة الامريكية) وريثة الحكومة الكونفدرالية. وفي حالات اخرى حلت الكونفدرالية محل الدول المركزية. مثال ذلك عندما تبدأ الامبراطوريات بالتفسخ والانحلال لتقوم على انقاضها دول وطنية، كما في الكومونويلث البريطاني The British Commonwealth والجماعة الفرنسية French Community. واخيرا ظهرت الكونفدرالية بعد انحلال الاتحاد السوفيتي مع بداية التسعينات من القرن العشرين.

تعتبر منظمة الامم المتحدة The United Nations Organization هيئة دولية فوق الوطنية. وهي كذلك رابطة ارادية، وتضم معظم الدول المستقلة في العالم. ووجدت كذلك باتفاق الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية من خلال مؤتمر سان فرانسيسكو1945 بغرض تحقيق اهداف دولية مشتركة معلنة تتقدمها مهمة حفظ السلام والامن الدوليين وتعزيز التعاون المشترك بين اعضائها. كذلك احتفظت الدول الكبرى بحق استخدام الفيتو، مما خلق صعوبات مستمرة في صنع قرارات ملزمة في ظروف وجود القطبين. وقاد انهيار الاتحاد السوفيتي الى تشديد قبضة الولايات المتحدة الامريكية على هذه المنظمة التي واجهت، بالاضافة الى ذلك، انتقادا ت مستمرة لعجزها عن المساهمة في تضييق فجوة الدخل بين مجموعتي الدول المتقدمة ودول العالم الثالث.

(2) الانظمة السياسية الوطنية (القومية) الموحدة
ان نشوء الدولة الوطنية تحقق وفق اسس وظروف تاريخية متباينة. اذ تأسست دول عديدة ضمّت مجموعات بشرية ذات هوية ثقافية وتاريخية ولغوية مشتركة كما في بريطانيا وفرنسا باعتبارهما الحالة الاولى لظهور الدولة الوطنية الموحدة. وفي حالات اخرى ضمّت مجموعا ت بشرية ذا ت انتماءات ثقافية متعددة مثل سويسرة.

كما قامت الدولة الوطنية على مجموعة مبادئ جعلت من الحكومة المركزية محل الولاء الاسمىsupreme loyalty من قبل شعوبها. وجاء انتصار الفكرة الوطنية في اعقاب حروب القرنين التاسع عشر والعشرين، بدءا بالحروب النابليونية التي ساعدت على انتشار مبادئ الثورة الفرنسية واطلقت الفكرة الوطنية كقوة حاسمة في اوربا، ولغاية الحربين العالميتين اللتين قادتا الى انهيار الامبراطوريات القديمة (مثل الامبراطوريتين العثمانية والنمساوية) والامبراطوريات الحديثة (البريطانية والفرنسية وغيرهما) ولتحملا في اعقابهما المبادئ الوطنية لحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومنحتا الولادة للحركات الاستقلالية في المستعمرات المختلفة. وبذلك اتجهت مسيرة العالم، بعامة، لتنتظم كلية على اساس الدولة الوطنية (القومية) الموحدة.

ان العناصر التي تنفرد بها الدولة الوطنية ذات التوليفات المتباينة تاريخيا والتي تميزها عن الاشكال الاخرى للتنظيمات السياسية والاجتماعية تتمثل في امتلاك الدولة الوطنية قوة مستقلة independent power توفر لها فرض القانون العام في اطار حدودها. بمعنى ان الدولة الوطنية هي رابطة (منظمة) اقليمية territorial association تتوفر لها منظومة اجهزة ومكونات تمكنها من ادعاء السيادة على كافة التنظيمات الاخرى في اراضيها، واحتكارها استخدام القوات المسلّحة، وحق حكومة الدولة ادعاء العمل باسم الشعب والوطن في اطار حدودها.

تعزز مفهوم الدولة الوطنية كبؤرة محورية primary focused لولاء الناس نتيجة عوامل عديدة في مقدمتها الحروب والتهديد بها، بالاضافة الى هموم التنمية والخدمات الاجتماعية وما يماثلها. الا ان الحروب، بصفة خاصة، لعبت دورا مركزيا في تقوية مفهوم الدولة الوطنية. وحتى في العصر الحالي لاحتمالات الحرب الشاملة للدمار والفناء، حيث قلة من الدول قادرة على شنّها، واقل منها تستطيع البقاء على قيد الحياة، فان المواطنين يبحثون عن امنهم لدى الحكومة الوطنية بدلا من المنظمات الدولية او المجتمعات المحلية. من هنا اصبحت الدول الوطنية- من وجهة نظر شعوبها- ملاذا وضمانا لحياتهم ورمزا لكرامتهم ومصدر الهام قيمي واخلاقي لمشاعرهم، لتصل اوجها في تعبير هيجل "واجب الرجال ليس الدفاع عن اي وطن يختارونه، بل الدفاع عن وطنهم هم، ارض الاباء والاجداد.هذا المطلب المركزي- الذي على اساسه تقاس كل التصرفات الاخلاقية للافراد- هو مصدر كافة الواجبات المسلّم بها والمعروفة دائما لكل فرد والاساس الموضوعي الذي تعتمد عليه منزلة كل مواطن. لانه لا مكان في الحياة الحقيقية لفراغ الافكار، مثل فعل الخير من اجل الخير نفسه".(13)

ان احد دروس الفترة المتأخرة للقرن العشرين هو ان السيادة الوطنية national sovereignty كانت من عوامل اخفاق الاتحادات والاشكال الاخرى للهيئات فوق الوطنية. وشكلت عامل تجزئة حتى بالنسبة للدول الوطنية التي تضم تاريخيا جماعات متجانسة نسبيا، كما في بلدان الوطن العربي. كما ان مسألة تفويض devolution سلطة المركز تقلّصت نتيجة تطور سبل الاتصالات والمواصلات، وتحسن امكانات الحكومة المركزية الاتصال المباشر بالمواطنين على مستوى كافة اجزاء الدولة. من جهة اخرى، فان شرعية المستويات الفرعية هي الاخرى استنزفت sapped عندما اخذ الرأي العام التركيز على المشكلات الوطنية. يضاف الى ذلك تطور كفاءة البيروقراطية المركزية التي حلت محل الانظمة القديمة لادارة الاجزاء الفرعية او المحلية للدولة. ومع ذلك، ونتيجة عوامل تراوحت جزئيا بين الضرورات الادارية، وجزئيا بسبب ضغط المصالح داخل الدولة الوطنية، علاوة على مخاطر تركيز السلطة في جهة واحدة، اضطرت كافة الحكومات المركزية تقريبا التنازل في حدود معينة وبدرجات متباينة عن قدر من سلطاتها لصالح وحداتها الفرعية. وهكذا برزت صور متعددة للدولة الوطنية تراوحت بين الدولة الوطنية المركزية (حيث السلطة محصورة في المركز وله استرجاع ما تنازل عنها لصالح فروعها)، والدولة الوطنية اللامركزية (وتتمتع الهيئات الفرعية- قانونيا- بسلطات صنع القوانين الى حدود معينة)، بضمنها الدولة الوطنية الموحدة الفيدرالية.

تتوزع السلطة في الدولة الوطنية القائمة على النظام الفيدرالي federal system بين مجموعتين مستقلتين ذاتيا من الحكومات، احداهما الحكومة المركزية والثانية الحكومات المحلية ( الفرعية)، ولكل منهما سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. وعادة ما يقوم الاتحاد الفيدرالي على اساس دستور اتحادي ينظم توزيع السلطة بين الحكومة المركزية التي تمارس سلطاتها على كافة اجزاء البلاد والحكومات المحلية (الفرعية) حيث تمارس سلطات مستقلة ذاتيا في اطار حدودها الجغرافية. بينما تتراوح هياكل الانظمة الفيدرالية بين درجة عالية من التجانس الثقافي كما في الولايات المتحدة الامريكية وبين درجة عالية من الاختلاف الثقافي التي تعكس تقسيمات اثنية- ثقافية حادة كما في الاتحاد الفيدرالي السويسري الذي يضم اربعة اقوام بلغاتها المختلفة (الالمانية، الفرنسية، الايطالية، والرومانية Roman)، كما يوحد النظام الفيدرالي ستة وعشرين كوميونة مختلفة ثقافيا وتاريخيا تعرف باسم "كانتونات" Cantons او شبه كانتونات Demi Cantons. اذ ان الدستور السويسري لعام1848 بعد تعديله عام1874 حوّل الكونفدرالية التي تشكلت اصلا في القرن الثالث عشر من خلال ثلاث كانتونات كانت معروفة باسم Forest Cantons الى دولة فيدرالية معاصرة تضم السلطة التشريعية بمجلسيه: المجلس الوطني (يتشكل من نواب الشعب السويسري) ومجلس الولايات (الذي يضم ممثلي الكانتونات). اما السلطة التنفيذية Bundesrat فهي تنتخب من الهيئة التشريعية بمجلسيها. بينما تصدر المحكمة العليا قراراتها في الشؤون التي تؤثر في العلاقات الحكومية المحلية او الفرعية (الكانتونات) والحكومة الفيدرالية.

(3) الانظمة السياسية شبه الوطنية
بالاضافة الى حكومة الدولة الوطنية- الشكل السائد للمنظمة السياسية في العالم- تتواجد كذلك اشكال سياسية استثنائية عديدة دون المستوى الوطني، كما في مجتمعات القبلية والريف والمدينة والمقاطعة. فالمنظمة النموذجية typical organization للجنس البشري في بدايات تاريخه كانت المجتمعات القبلية tribal communities، وهي لا زالت الشكل الرئيس للمنظمة البشرية في اجزاء عديدة من العالم، ومؤسسة فعالة وعجلة رئيسة في المعترك السياسي في العديد من دول العالم الثالث، بخاصة. ويقوم منطق القبيلة، في شكلها التقليدي، على علاقات النسب- القرابة. وتتكون فروعها من جماعات حميمة من الافخاذ- العشائر، وقلما تكون قاعدتها الاقليمية محددة. وتكون مؤسساتها غير متباينة indifferent، وهياكلها المتقاطعةntermittent structure مؤطرة في انظمة اجتماعية ذات وظائف شمولية. وفي هذا النظام يتم اختيار زعيم القبيلة من بين الرجال الراشدين. ويتوزع الرجال الاكبر سنا بين رؤساء القبيلة والكهنة (السحرة) shamans واعضاء مجلس القبيلة. ومسؤولية هؤلاء الحفاظ على تقاليد القبيلة وقانونها التقليدي غير المدون، حيث اكتسب هذا القانون العرفي مصادقة وموافقة رجال القبيلة على اساس ديني، رغم انه يخضع لنفس منطق التطور العام الذي تخضع له القبيلة.

تعتبر القرية او المجتمعات الريفية rural communities كينونة سابقة على المدينة من الناحية التاريخية. كما ان المدينة تشكل امتدادا تاريخيا متطورا للقرية. من هنا تقوم بين القرية والمدينة اختلافات تجد جذورها في تباين تطورهما التاريخي. فالقرية مرتبطة بدورة الحياة الزراعية، في حين تعتمد المدينة على التجارة والصناعة والحرف. والقرية رابطة حميمة للعلاقات الانسانية، بينما المدينة هي مكان الكثافة السكانية. كما ان ثقافة القرية بسيطة وتقليدية، بينما المدينة هي مركز العلوم والفنون والثقافة. كذلك تعبّر كل من القرية والمدينة عن تناقض اكثر حدة كمجتمعين سياسيين، فالقرية خضعت لديمقراطية بدائية قوامها المناقشة وجها لوجه في مجلس القرية او مع رئيس القبيلة، اذ تكتسب القرارات دعم الرجال الراشدين في القرية. اما حكومة المدينة فلم تكن ابدا بهذه البساطة، وان اشكال الملكية الاستبدادية والارستقراطية والاوليغاركية قد ازدهرت اصلا في المدينة. وحتى في الدول الوطنية لعالم اليوم، فالتناقضات بين القرية والمدينة كمراكز للنشاط البشري واضحة للعيان. فالحياة في الريف اكثر دفئا intimate، والعلاقات الانسانية تخلو من الرسمية، وهيكل المجتمع اكثر استقرارا او اقل استعدادا للتغيير. هذا على خلاف المدينة، فالفرد مجهول anonymous او كما يقال رقم من الارقام، والاتصالات بين الناس رسمية بدرجة رئيسة والمواقف الفردية والعائلية في المجتمع عرضة للتغيير السريع.

ظهرت المدن cities في اشكال معقدة من التنظيمات السياسية- الاجتماعية في وديان دجلة والفرات والنيل والنهر الاصفر ويانغ (النهر الازرق) ودخلت هذه المدن المبكرة في صراع مثير مع انماط الحياة البدائية والمجتمعات الريفية التي انحدرت منها، بعد ان استبدلت علاقات النسب/القرابة kinship- قاعدة المجتمع الريفي- بحالة اخرى تقررت على اساس الحرفة والطبقة. وتحول رجال القبيلة من السحرة الى كهنة للمعبد يترأسون مؤسسات دينية اكثر تطورا وتعمل بصورة فعالة للسيطرة الاجتماعية social control. كما ان الانظمة المبكرة للحكم بقيادة شيخ القبيلة chieftain والاشكال البسيطة لقيادة الكوميونة فسحت الطريق لظهور الملكية التي جمعت بيدها الوظائف الزمنية والدينية. وحدثت تطورات عديدة اخرى ساهمت في نمو السلطة في هذه الحضارات المدينية city civilization. كذلك استبدلت المقايضة barter بانظمة فعالة للتبادلexchange واخذت الثروة تتدفق من التجارة التي اصبحت هدفا للضريبة واداة للقوة في المدينة. وبرز كذلك التميز الطبقي نتيجة تقسيم العمل والتطور الفني، وانشئ نظام الجيش والجندية الاحترافية professional soldiery، وبدأت التدريبات العسكرية تأخذ طرقا فنية حربية جديدة. وقدمت طبقة العبيد قوة العمل للمشروعات الكبيرة في مجال الري والحصون والمباني الفخمة. ومع استمرار هذه التطورات اصبحت المدينة قادرة على بناء قوتها بدرجة عالية مكّنتها من تطويق الريف وفرض سيطرتها على القرى والمدن الاخرى الواقعة في محيطها، لتصبح اخيرا مركزا للامبراطوريات المبكرة في وادي الرافدين ومصر والصين وفارس.

اما المدن الاغريقية فقد ظهرت في نمط مختلف جدا. فالتطور السياسي للمدينة الاغريقية قام على تناقض ملفت للنظر مع حكم الاستبداد الذي طبع امبراطورية المدينة الشرقية Oriental City Empires. اذ ان المدينة الاغريقية اتسمت بالديمقراطية والانتخابات، رغم انها انحصرت في طبقة الاحرار من الذكور. وربما كان في تواجد اعداد كبيرة نسبيا من الذكور الذين ولدوا احرارا ما ساعد على اكتساب حق ادارة حكومة مدنية من خلال انتخاب موظفيها والمساهمة المباشرة في مجلس المدينة. ورغم ان هذه التطورات واجهت معوقات ظهور حكام الاقلية والطغاة المستبدين، الا ان الفكرة الرئيسة لتطور حكومة المدينة الاغريقية تجسّدت في هياكل مؤسسية سمحت للمواطنين الاحرار ممارسة الديمقراطية المباشرة.

وفي فترة متأخرة من العصور الوسطى Middle Ages ظهرت المدن المستقلة في اوربا. ورغم انها اختلفت عن المدن الاغريقية واصطبغت باشكال المجتمعات الاقطاعيةfeudal societies ، فهي كذلك شددت على مبدأ الرابطة التعاونية. ولاول في تاريخ الحضارة المدنية كانت اغلبية السكان القاطنين من الاحرار. كما ان نمو الاعمال والتجارة وتراكم الثروة حررت المدينة من البنية الاقطاعية، واصبحت النقابات الحرفية guilds للتجارة واصحاب الحرف القاعدة التي عززت نوعا من ديمقراطية المدينة. الا انه مع مرور الوقت تحولت هذه النقابات الى مؤسسات مقفلةclosed corporations شكلت القاعدة لسيطرة الاقلية. كما واجهت هذه المدن الحرة التهديد مع الظهور المتزايد للدولة الوطنية الجديدة واصبحت اهدافا مرغوبة للملوك الطامحين، واضطرت اخيرا الى الاستسلام للسيطرة الملكية. الا ان ما خلفتها من تراث في سياق النظام السياسي كانت ذات قوة تأثيرية بالغة في تطوير الهياكل الدستورية للدولة الديمقراطية الليبرالية المعاصرة .

واخيرا، تضافرت قوى تاريخية وضرورات ادارية في العديد من الانظمة السياسية الوطنية الحديثة لافراز صورة اخرى من المجتمعات شبه الوطنية متمثلة في الاقاليم او المقاطعات regions في مستوى وسط بين المجتمع الوطني والمجتمع المحلي. ففي بعض الحالات، كما في الكانتونة السويدية Swiss Canton والمقاطعة البريطانية England County والاقليم الالماني German Land والولاية الامريكية Amdrican State، تميزت هذه المجتمعات برسوخ مؤسساتها السياسية وممارساتها للوظائف الحكومية. وفي حالات اخرى جاءت حصيلة عوامل اثنية وثقافية ولغوية وفيزيوغرافية (ظواهر طبيعية-جغرافية) او عوامل اقتصادية قادت الى المحافظة على شخصيتها في غياب هياكل سياسية. وكما في حالة الانظمة السياسية شبه الوطنية تستند هذه المجتمعات احيانا الى قاعدة التقليد حتى ولو كان ذلك في شكل اقتفاء آثارها لفترات سابقة على ظهور مفهوم الشعب او الدولة الوطنية. ونتيجة عوامل سياسية وادارية واقتصادية وتقنية، فانها دعت الى استبدال التقسيمات الاقليمية بوحدات اقليمية جديدة. وكانت هذه المحاولات تتم في احيان اخرى دون اعتبار للموقع الجغرافي بهدف مقاومة المشاعر الانفصالية داخل البلاد ومحاولة ترسيخ مفهوم دولة الوحدة الوطنية، كما حصلت في المقاطعات الفرنسية والايطالية .

3- تصنيف الانظمة الحكومية
بذلت محاولات متواصلة لعلماء السياسة من اجل تطوير اشكال ونماذج من الانظمة الحكومية المختلفة وفق اسس تصنيف متنوعة ومتباينة. ورغم عدم شمولية هذه المحاولات الا انها قدمت، كلا على حدة، شيئا من المبادئ التحليلية للانظمة السياسية. ومع ان اسس التصنيف التي قامت عليها فقدت في بعضها اهميتها بالعلاقة مع الاشكال المعاصرة للانظمة السياسية، الا ان هذه المحاولات غالبا ما تركت آثارها البالغة في مسار التطور السياسي.(14)

وتعتبر من بين المحاولات المبكرة البالغة التأثير الجهود المبكرة لكل من افلاطون Plato وارسطو تحديد اشكال الحكومات بالعلاقة مع عدد من بيدهم السلطة السياسية وطبيعة استخدامهم لهذه السلطة. وتقوم فكرة افلاطون على وجود تعاقب طبيعي natural succession لاشكال الحكومات: الحكومة الارستقراطية (الشكل المثالي لحكومة القلة- حيث يكون الحكم بيد قلة من ذوي القيم والحكمة واهل السياسة الطيبة بدرجة عالية). وفي ظروف اساءة استخدامها للسلطة تخلي مكانتها الى حكومة تيموقراطية timocracy (حكومة مبنية على اساس الثروة وحب الشهرة- تتكون من قلة ينصب اهتمامها الاساس على الشرف والامجاد العسكرية). ونتيجة لاطماع هذه الحكومة فهي تتطور الي حكومة اوليغاركيةoligarchy (وهي صيغة منحرفة فاسدة لحكومة القلة) التي تترك بدورها مكانتها الى حكومة ديمقراطية (حكم الاكثرية). وتستمر الدورة لتصل هذه الحكومة، بسبب التزايد المفرط لسكانها، الى ديمقراطية فوضوية (حكومة بدون قانونlawless government)، والتي تقود بدورها الى بروز الحاكم المستبد. وكذلك بنى ارسطو محاولته في تصنيفاته للانظمة الحكومية على عدد من بيدهم السلطة. وميّز بين الاشكال الطيبة وتلك الفاسدة من الحكومات. فعندما تنحرف الحكومة بسبب انانيتها وسوء استخدامها للسلطة فهي تتحول بالتعاقب الى صيغة الاستبداد والاوليغاركية وحكومة الدهماء (حيث السوقة/ الرعاعmobs يمارسون ديمقراطية في غياب القانون).

ومن المحاولات الهامة الاخرى تلك التي جاءت في كتابات ميكافيلي Machiavelli وغيره بشأن التميز بين الحكومات الملكية والجمهورية، الا ان هذه الكتابات فشلت في فرز الانظمة الاستبدادية عن تلك الديمقراطية، واصبحت فائدتها لا تتعدى اهميتها التاريخية. كما طوّر المنظر الايطالي موسكا Moska في بداية القرن العشرين دراسة لاشكال النماذج الحكومية اكدت على اهمية الطبقة الحاكمة، ولاحظ ان كافة اشكال الحكومات هي مجرد واجهات للاوليغاركية او حكم الاقلية من النخبة السياسية التي تركز السلطة في ايديها. بينما شكلت مسألة الشرعية محاولة اخرى لدراسة النماذج الحكومية لدى عالم الاجتماع الالماني ماكس ويبر Max Webber عندما ناقش ثلاثة اشكال من انظمة الحكم بالعلاقة مع شرعيتها، وهي:(15)
الاولى: السلطة التقليدية traditional authority، وتعتمد شرعية الحكم على ايمان راسخ بقدسية تقاليد واعراف قديمة مؤدية الى طاعة الناس للحكام الذين يمارسون السلطة نسبة الى هذه التقاليد. يذكر ويبر ان هذه الحالة شكلت الاغلبية العامة البدائية للسلطة التقليدية .
الثانية: السلطة الملهمة charismatic authority، وتقترن بمؤهلات شخصية استثنائية exceptional personality للحاكم. وتستند الى الادعاء بالاخلاص لقيم ومبادئ واهداف اجتماعية جوهرية وحرمات خاصة استثنائية مثل البطولة او السلوكية النموذجية لشخص الحاكم ومواصفاته.
الثالثة: السلطة القانونية legal authority، وتعتمد شرعية السلطة على الاعتقاد ان وصول الحاكم الى السلطة جاء بطريقة قانونية وانها اصبحت مقبولة في صورة التزام bind لأنها قانونية، ذلك ان ما تحقق بطريقة قانونية يعتبر شرعيا.

وضعت مشروعات التصنيف السابقة على جنب بعد ان تدفقت الدراسات المعاصرة في مجال التحليل السياسي خاصة في السنوات الاخيرة. وهذه الدراسات فتحت المجال لكميات هائلة من تصنيف الانظمة الحكومية دون ان يكون بالامكان تحديد افضلها. ذلك ان اختيار التصنيف الافضل يرتبط بوجهة نظر الباحث وموضوع بحثه. فالعالم الجغرافي قد يميز بين الانظمة السياسية نسبة الى مساحة اراضيها، والديمغرافي بالعلاقة مع سكانها، والاقتصادي بالنظر الى توزيع الثروة والدخل فيما بينها،الخ.. بمعنى وجود اختلافات لا تحصى بين الانظمة الحكومية من تاريخية واقتصادية وتكنولوجية واجتماعية واثنية ودستورية وقانونية. ويرتبط بذلك امكانية تشخيص ستة اسس لاختلاف الانظمة الحكومية.(16)
الاول: الطريق نحو الحاضر the path to the present- لكل نظام سياسي، والى حدود معينة، ماض خاص به unique past. ان هذه المسألة هي اكثر من مجرد نقطة تجريدية abstraction point، لان الحاضر يتحمل ثقل ارث الماضي الذي يؤثر في المستقبل ايضا. وهذه الاختلافات في ماضي الانظمة السياسية تعني ان دول العالم لم تبدأ من نفس النقطة الزمنية، ولم تكن لها فرص متماثلة، ولا تشترك بنفس العوامل والمتغيرات. فالشعوب التي لم تعرف سوى الحكم الفاشيauthoritarian rule من غير المحتمل ان تحقق الاستقرار والديمقراطية في بحر اشهر قليلة. لان تاريخها الممتد لحاضرها يضع كافة البصمات الحادة على تناقضاتها بحيث تكون من القوة الى حدود ان بناء السلام الاجتماعي يتطلب فترة زمنية ليست بالقصيرة من الجهود السلمية.
الثاني: درجة الحداثة degree of modernity- يضع التاريخ بصماته الواضحة في شكل مراحل متباينة للتنمية development او الحداثة modernization في المجتمعات السياسية، ولتظهر في اختلافات ضخمة من بلد الى آخر فيما يخص حصة الفرد من الناتج القومي، التعليم والثقافة، المهارات الفنية، التصنيع والتحضر، الصحف والمجلات وما شابه. وهذه العوامل تكون متشابكة ومتداخلة. فالبلد الاقل تطورا نسبيا في مجالات معينة من المحتمل ان تكون كذلك في مجالات اخرى مماثلة.
الثالث: توزيع الموارد السياسية والمهارات distribution of political resources and skills- تتوزع الموارد السياسية والمهارات بطرق متباينة في الانظمة السياسية المختلفة. ورغم انها موزعة على نحو غير متساو في كافة الانظمة، الا ان درجة عدم المساواة تختلف من بلد الى آخر. مثلا كانت50% من مساحة الاراضي الزراعية مملوكة الى7و0% من الملاكين في العراق قبل ثورة تموز 1958، مقارنة بالدنمارك حيث كانت نفس النسبة مملوكة من قبل 21% من الملاكين.
الرابع: اسس الانشقاق والتلاحم bases of cleavage and cohesion- ان نمط الاتفاق السياسي من تعارض وائتلاف coalition له اسباب مختلفة تعود الى عوامل كثيرة واسعة تتطلب دراستها من اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية واثنية وجغرافية، الخ.. كما ان التاريخ يضع بصماته على كيفية التعامل مع هذه الاختلافات. مثال ذلك: الاختلافات العرقية racial differences- ففي الولايات المتحدة الامريكية اتخذت هذه المشكلة طريقا عنيفا لحلها وخلّفت آثارها في التفرقة حتى الوقت الحاضر. وعلى النقيض من ذلك في البرازيل التي كانت تواجه نفس المشكلة (نسبة عالية من السكان العبيد كانوا من اصل افريقي)، اذ ان السكان المسيطرين في البرازيل، وهم من اصل برتغالي، كانوا اقل حدّة في التعامل معها وقبلوا التمازج العرقي بصعوبة اقل. لذلك فرغم استمرار التمايز العرقي في البرازيل الا انه لم يكن مصدرا رئيسا للتناقض على خلاف الولايات المتحدة الامريكية.
الخامس: صرامة التناقضات the severity of conflicts- ان صرامة التناقضات بين افراد وفئات المجتمع تختلف بالعلاقة مع الانظمة المتعددة سواء فيما بينها في فترة زمنية معينة او في اطار النظام السياسي في فترات زمنية مختلفة. فقبل اكثر من قرن مضى كان الامريكيون متورطون في قتل بعضهم البعض على نحو واسع خلال الحرب الاهلية التي دامت طيلة الفترة الاولى لرئاسة ابراهام لنكولن، بالاضافة الى سنة اخرى من رئاسته الثانية (1860-1865)، اي خمس سنوات انتهت بانتصار الشماليين وباغتيال لنكولن نفسه. وكان ذلك دليلا على وجود تناقض حاد في المجتمع الامريكي. ان حالات العصيان المسلح، الحرب الاهلية، الثورات العنيفة، حرب العصابات، معارك الشوارع، التهجير الواسع. كلها تناقضات اجتماعية تعبّر عن حدود قصوى من الصرامة. اما الخطابات والمناقشات والاجتماعات والمظاهرات والاضرابات السلمية والانتخابات الدستورية فهي جميعا ترمز الى انفتاح المجتمع على الطرق السلمية لحل تناقضاته ومحاولة بلوغ حلول مشتركة على اساس الاقناع والقناعة لمصلحة كافة الاطراف المتعارضة.
السادس: مؤسسات تحصيص وممارسة السلطة institutions sharing and exercising power- واخيرا، تختلف الانظمة السياسية في مؤسساتها وكيفية توزيع السلطة بينها وممارستها. فهناك انظمة تتركز فيها السلطة بيد اقلية نخبوية، مقابل انظمة اخرى تتوزع فيها السلطة على مجموعة مؤسسات تقوم على المشاركة الشعبية.

وفي الصفحات التالية مناقشة لثلاثة انواع من تصنيفات الانظمة السياسية وذلك بالعلاقة مع: عدد من بيدهم السلطة وطبيعة استخدامها، ومدى الفصل بين السلطات الثلاث- اي تجزئة السلطة بدلا من حصرها في جهة واحدة، ومسألة انتقال السلطة (التعاقب).


(1) الاشكال المعاصرة للانظمة الحكومية
تتراوح اشكال الانظمة الحكومية بين الاستبدادية المطلقة وشبه المطلقة وحكومة القلة والحكومة الدستورية التعددية.(17) فالانظمة الحكومية الملكية قامت في صورتها القديمة على الاستبدادية المطلقة absolution. والاستبدادية هي آيديولوجية تنسب الى توماس هوبز Thomas Hobbs (1588-1679). ظهرت بعد منتصف القرن السابع عشر بقليل اثناء الحرب الاهلية البريطانية (1642 – 1652) عندما انبرى هوبز مدافعا عن الملكية في بريطانيا بدعوى انها ضمانة للاستقرار. وهذه الايديولوجية تعود في جذورها الى فترة القرون الوسطى medieval التي شهدت مذهب "الحق الالهي للملك" The Divine Right of King، والداعي الى ضرورة عدم وجود اية قيود على تصرفات الحكومة- الملك. اي الدعوة الى حكومة ملكية مطلقة absolute monarchy. وتتسم الحكومة الاستبدادية المطلقة بغياب كافة اشكال المؤسسات الدستورية (الدستور، الانتخابات، البرلمان، الاحزاب، الخ..). ويلاحظ حاليا، فيما عدا انظمة خليجية عربية، زوال الانظمة الاستبدادية المطلقة على المستوى الدولي تقريبا.(18) هذا بعد ان شهد القرن العشرين تحولات جوهرية في الانظمة الملكية الاستبدادية المطلقة لتتراوح بين خسارة عروشها في العديد من دول العالم وبين تحول بقاياها الى ملكيات دستورية اصبح فيها الملك رمزا للوحدة الوطنية وشخصية غير سياسية كما في بريطانيا والسويد والدنمارك وهولندة وغيرها من انظمة الحكم الملكية الاوربية القائمة على الديمقراطية الليبرالية. بينما تحولت الملكيات المطلقة في دول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية الى ملكيات استبدادية شبه مطلقة اخذت جزئيا تطبيق بعض الاشكال الدستورية المحدودة من دستور وانتخابات واحزاب سياسية، باعتبارها منحة من الملك وليست حقا للشعب، اي ان للملك القدرة على اعادة النظر في هذه "المنحة" بتطويرها او استرجاعها في ضوء استمرار قبضته القوية على مفاتيح السلطة في البلاد.

يوفر العالم المعاصر امثلة عديدة حية و/ او تاريخية لانماط الحكم الفردي: الملكيmonarchy والجمهوري republican.. الحكم المطلق autocracy.. الحكم الدكتاتوري dictatorship، بالاضافة الى صورها الفاشية fascism والنازية nazism، وسواء كانت مدنية او عسكرية. وتتواجد اشكال متنوعة من الحكم الفردي الاستبدادي tyranny في دول العالم الثالث المعاصرة والتي جاءت- في الغالب- على انقاض الانظمة الاستعمارية. وبغض النظر عن تسمية الطاغية/ الدكتاتور- رئيس جمهورية، ملك، او قائد عسكري.. فان هذه الانظمة الاستبدادية قامت على جذور مشتركة من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. علاوة على ظهور نمط دكتاتوري آخر في امريكا اللاتينية باسم "كاديلو"Caudillo ، اذ تراوح بين الكاديلو الريفي في القرن التاسع عشر بتمثيله لمصالح اصحاب الارض في الريف وبين الكاديلو العصري في القرن العشرين، كما في نظام بيرون (الارجنتين) الذي قام على اكتاف ضباط الجيش الوطني ممن تعهدوا برنامج اصلاح وطني في سياق اهداف آيديولوجية.

كذلك تباينت الدكتاتورية في الانظمة الشمولية totalitarian المتقدمة تكنولوجيا والمستندة الى نظام الحزب الواحد بالمقارنة مع تلك في دول العالم الثالث. فالنازية الالمانية بقيادة هتلر اعتمدت في حكم الدولة على الحزب الواحد. واستند قائد الحزب الى حب الجماهير (الكارزمية) charismatic leader، رغم استخدام الايديولوجية الرسمية لبناء شرعية الحكم والحفاظ على النظام السياسي، بالاضافة الى استخدام القوة البوليسية الارهابية والصحافة الموجهة controlled press وتطبيق كافة الوسائل العلمية والتكنولوجية الحديثة المتاحة لتحقيق السيطرة على سلوكية الاقتصاد والفرد. واقترن النظام بالعنصرية في ايديولوجيته. ومع ان النازية الالمانية تبنت صيغة "الاشتراكية الوطنية" الا انها في الاساس كانت معادية لفكرة الثورة، وعبأت مجموعات من الطبقة الوسطى لمتابعة تحقيق اهداف عسكرية وفق مبدأ تنظيمي وحيد تمثل في الطاعة الى الفوهر Fuher.

وتدخل ضمن الانظمة الشمولية ايضا تلك الماركسية التي قامت على نظام الحزب (الشيوعي) الواحد، واعتمدت ايضا على آيديولوجية رسمية واستخدمت كذلك القوة البوليسية الارهابية والصحافة الموجهة والسيطرة المركزية على سلوك الاقتصاد والفرد. الا انها كانت مختلفة جوهريا، اذ ان آيديولوجيتها تجاوزت المفاهيم العنصرية بالدعوة الى الاممية، وقامت على هدف ثوري في بناء الاشتراكية، وتوجهت في دعوتها الى الطبقة العاملة والفئات الكادحة لتحقيق اهدافها الاجتماعية. وحققت انجازات اقتصادية ضخمة في بحر فترة قياسية مقارنة باوضاعها التاريخية. وليست اقل اهمية، مصداقية دعوتها الى السلام العالمي، حيث انها لم تدمر نفسها واهلها وغيرها، كما هي عادة نهاية الانظمة الدكتاتورية.

تبدأ انظمة القلة-كما سبقت الاشارة- من الارستقراطية المثالية ولغاية الاوليغاركية الفاسدة. وتنتشر في دول العالم الثالث في صورتها التقليدية القائمة على الوراثة وفي صورتها الحديثة غير الوراثية. كما ظهرت الاتجاهات الاوليغاركية في كافة الهياكل البيروقراطية المتضخمة للانظمة السياسية المتقدمة نتيجة نمو المجتمع الصناعي المعاصر الذي دفع الحكومة على نحو متزايد وضع مزيد من السلطة في ايدي مديريها ولجانها وهيئاتها سواء كانت تنفيذية ام تشريعية. وفي الانظمة الدستورية الحديثة، بصفة خاصة، لم يتم التوصل بعد الى حل شاف حول كيفية مساءلة هؤلاء البيروقراطيين صانعي القرار وكبح القوة الضخمة التي يمارسونها، ولكن دون التأثير في كفاءة efficiency وعقلانية rationality العملية السياسية. يضاف الى ذلك ان الديمقراطيات الغربية متهمة كذلك بحكم الاوليغاركية نتيجة احتكار الاقلية للسلطة الحكومبة.

اما انظمة الحكم الدستورية constitutional فهي تقوم على وجود دستور دائم يرسم كيفية اختيار اشخاص الحكم وفق الانتخابات العامة السرية، بناء السلطات الثلاث والرقابة المتبادلة بينها، مع ضمان التعددية والانتقال السلمي للسلطة، بالاضافة الى الحريات العامة وحقوق الانسان، بما فيها حرية تشكيل الاحزاب السياسية كواحدة من الآليات المحورية للنظام الديمقراطي، علاوة على اهميتها في مد الجسور بين الجماهير والحكومة. ومع ذلك تبقى الحاجة الى ابداء ملاحظتين:
الاولى: ان هذا النظام السياسي الذي يقوم على آلية التحول الديمقراطي ليس كافيا في حد ذاته. اي ان الحقوق السياسية ليست الهدف النهائي للانسان- المجتمع، بل وسيلة حضارية لنيل حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، وتحسين اوضاعه المعيشية- الحياتية. عليه لا يكفي الحديث عن النظام السياسي فقط، بل لا بد من ربطه بالنظام الاجتماعي، اي الايديولوجية التي يستخدمها النظام لتحقيق الاغراض المجتمعية في سياق السير نحو هدف الاقتراب النمطي المستمر من مبدأ التوازن بين الحرية السياسية وبين المساواة الاقتصادية او العدل الاجتماعي. ووفق هذا المنطق يحق لنا ان نتحدث عن ديمقراطية ليبرالية او ديمقراطية ماركسية او ديمقراطية دينية او ديمقراطية قومية، الخ.. اي احقية الخطابات الاجتماعية اختيار وتطويع هذه الوسيلة الحضارية لبلوغ غاياتها المجتمعية.
الثانية: ان مجرد وجود دساتير وانتخابات وبرلمانات واحزاب سياسية لا يعني في حد ذاته غياب المضمون التسلطي للنخب الحاكمة، ولا يمنع من احتكار السلطة. والامثلة على ذلك كثيرة في دول العالم الثالث ومنها منطقتنا العربية. ذلك ان مهمة التطبيق الفعلي والممارسة في الساحة السياسية من حيث مدى صحته ودقته وسلامة توجهاته ومصداقية التزامه تبقى تشكل الجانب الاخر الذي لا يقل اهمية عن الدستور نفسه في توليد حكومات ترتكن في شرعيتها الى اغلبية الجمهور. وهذه المسألة ترتبط بدورها، والى حد بعيد، بمدى التطور الحضاري للمجتمع وقدرته على تحقيق الاستمرارية النمطية والمتصاعدة للتحول الديمقراطي بعيدا عن المراوحة والتراجع.

(2) التقسيمات المعاصرة للسلطات الحكومية
ميّز ارسطو بين ثلاثة اصناف لنشاطات الحكومة متمثلة في: التداول في قضايا عامة، قرارات تنفيذية للحاكم، والاحكام القضائية. الا ان هذا التقسيم الثلاثي لا ينطبق على التقسيم المعاصر للسلطات الثلاث من تشريعية وتنفيذية وقضائية. كما ان ارسطو اقتصر في مناقشته على اجراء تميز نظري فقط بين وظائف معينة. ووقف عند هذا الحد short stopped دون التوصية بانشاء ثلاث هيئات منفصلة لهذه السلطات. بل انه في الواقع وضع السلطة في يد شخص واحد هو الرجل الفاضل pre - eminent virtue، وبالنتيجة فهو لم يأخذ في الاعتبار ابدا مبدأ الفصل بين السلطات. كذلك ميّز الفيلسوف البريطاني جون لوك John Locke في القرن السابع عشر بين الوظيفتين التشريعية والتنفيذية، وفشل مثل ارسطو في تحديد المؤسسات المنفصلة لوظائف الدولة.(19)

ان مجال الاهتمام الرئيس في دستور مصنف codified constitution هو التميز بين السلطات الثلاث الرئيسة: سلطة صنع القوانين- الوظيفة التشريعية legislative function، وسلطة فرض وتنفيذ القوانين- الوظيفة التنفيذية executive function، وسلطة تفسير وتطبيق القوانين- الوظيفة القضائية judicial function . اذ ان المقارنة بين الانظمة الحكومية يمكن ان تقوم على محاولة كشف ما اذا كانت هذه السلطات قد حوفظ على الفصل بينها او تأكيد شخصية كل منها- من ناحية الممارسة العملية- او تم تجميعها وربطها مع بعضها في مركز واحد هو السلطة التنفيذية.

وكان الفيلسوف الفرنسي البارون مونتسكيو Baron Montesquieu (1869- 1755) اول من اجرى تقسيما حديثا بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، موضحا ان العدو الخطير للحرية- الاستبداد tyranny- يتمثل في تجميع accumulation السلطات الثلاث في جهة واحدة. وجاء بنظريته هذه عام 1748. واصبح مفهوم فصل السلطات الثلاث احد المذاهب الرئيسة في الدساتير الحديثة. كما ادت افكاره هذه الى تأثيرات جوهرية، واخذت في الاعتبار على نحو واسع من قبل مؤطري دستور الولايات المتحدة الامريكية عندما اعلن جيمس ماديسون James Madison (1751-1836) بقوله "ان تراكم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في نفس الجهة قد يؤكد المفهوم العميق للحكم الاستبدادي".(20)

ان الوظائف المميزة عموما للسلطة التشريعية هي صنع القانون making of law. ولكن السلطة التشريعية تقوم عادة بمهام اخرى منها: اختيار السلطة التنفيذية والرقابة عليها ومحاسبتها من توجيه اللوم ولغاية سحب الثقة واسقاطها.. الاشراف على الادارة.. تخصيص الارصدة المالية.. تصديق المعاهدات الخارجية.. النظر في تعيين عناصر تنفيذية او قضائية مرشحة للوظائف العليا.. توجيه الاتهام الى عناصر تنفيذية او قضائية مسؤولة.. اقرار امور الحرب والسلام.. الموافقة على اجراء الانتخابات العامة.. عقد جلسات استماع عامة public hearing petitions. فالسلطة التشريعية في الواقع تقوم بهذه المهام على نحو اكثر اصالة من مهمة صنع القانون. اذ تشارك السلطة التنفيذية عادة بالمهمة التشريعية من خلال المبادرة بتقديم مسودات القوانين الى السلطة التشريعية، بالاضافة الى حق السلطة التنفيذية ممارسة سلطات تشريعية اصيلة او مفوضة original or delegated ، كما في اصدار الانظمة والمراسيم. وكذلك حق السلطة التنفيذية استخدام الفيتو على قرارات السلطة التشريعية. علاوة على ان القضاء، من واقع منزلته، يشارك ايضا في صنع القوانين سواء من خلال تفسيره و/ او ممارسته سلطة المراجعة القضائية للقوانين الصادرة، كما هو الحال في الولايات المتحدة الامريكية. وحتى العناصر الادارية الرسمية تمارس سلطات شبه تشريعية quasi - legislature power من خلال القواعد والاوامر الادارية التي تصدرها وتقرير حالات سابقة على الاجراءات التشريعية او القضائية.

تختلف الهيئات التشريعية بشكل لافت للنظر في حجومها واجراءآتها ودور وحيوية vitality الاحزاب السياسية في العملية التشريعية، بالاضافة الى ما اذا كانت مكونة من مجلس واحدcameral ( one chamber ) او مجلسين bicameral ( two chambers ). ويعتبر مجلس العموم الريطاني House of Commons من اكبر الهيئات التشريعية في العالم الغربي. بينما تشكل قواعد العمل في المجلس النيابي الامريكيHouse of Representatives - التي دونت من واقع دليل اجراءات توماس جيفرسون Thomas Jefferson- الاكثر تفصيلا elaborated للقواعد البرلمانية، اذ تتطلب الدراسة والملاحظة بعناية لفترة ليست قصيرة قبل ان يصبح العضو البرلماني بارعاproficient في الشؤون البرلمانية.

وتشكل السلطة التنفيذية بطبيعتها اقوى السلطات الثلاث لأنها تمارس مهمة تطبيق القوانين والاحكام القضائية، بالاضافة الى وظائف اخرى. وحيث انها تحتكر مهمة تنظيم وادارة القوات المسلحة والامن الداخلي، لذلك فهي تمتلك وحدها القوة والسلطة الشرعية لاستخدام هذه القوة. وهذه وحدها كافية لتبرير المخاوف من احتمالات سوء استخدام هذه القوة. وفي غياب او ضعف رقابة السلطتين الاخريين على ادائها عندئذ تكون مخاطر سوء استخدام السلطة التنفيذية لقوتها جسيمة حقا تجاه الحقوق والحريات العامة.

اما السلطة القضائية فهي حاملة راية العدالة والمساواة امام القانون- ويعتبر القضاة مثل المشرعين والمنفذين- مساهمين رئيسين في صناعة العملية السياسية policy - making process. كما ان المحاكم- مثل الهيئات التشريعية والتنفيذية- تعلن قواعد سلوكية لها طبيعة قانونية.

ان عملية صنع القرار القضائي او الحكم القضائي لها صفة مميزة لأنها تهم مجالات محددة تتعلق بحصول تناقض بين الفرد والمجتمع عندما تنتهك قواعده norms او حصول تناقض بين الافراد انفسهم. وهي تستخدم اجراءات تتكامل مع تلك في الاجهزة البرلمانية والتنفيذية. فحالما يتم تشريع القانون يبدأ دور السلطة القضائية في ضمان تطبيقه على نحو متساو بين النا س. وهذا يعني من الناحية العملية اكثر من مجرد اصدار احكام في النزاعات بين الافراد والفئات انفسهم او بينهم وبين السلطة الحكومية. اذ انها تتضمن كذلك تفسير القوانين باعتباره عملية مستمرة وبالغة الاهمية. وهنا يلاحظ ان استقلالية القضاة تتطلب ان تكون مضمونة دستوريا تضمن استمرارهم في وظائفهم طالما يمارسون واجباتهم بامانة good behaviour.

والخلاصة، فان علاقة السلطات الثلاث في نظام دستوري تتطلب تأكيد مجموعة مبادئ تتقدمها:
* تحاشي تجميع السلطات في مركز واحد والمتمثل بالسلطة التنفيذية عادة، لما في ذلك من مخاطر اساءة استخدامها تجاه المواطنين في ظروف قيام الاستبداد.
* اقامة نظام مرن من العلاقات لتحقيق التكامل بين هذه السلطات وليس مجرد الفصل بينها. وهذا يتطلب بناء نظام متكامل للرقابة المتبادلة بينها، وبما يؤدي الى سلامة ادائها ودفعها الى التعاون المشترك.
* قيام الجمعية الوطنية- البرلمان (مجلس واحد او مجلسين)- على اساس الانتخابات العامة السرية المباشرة. وهذا لا يمنع وضع شروط ملائمة للمرشحين من حيث: العمر، المستوى التعليمي، الخبرة، المساهمة الاجتماعية، وغيرها، لتكون اصعب في المجلس الثاني مقارنة بالمجلس الاول.
* تثبيت وظائف السلطات الثلاث والرقابة المتبادلة بينها في القوانين الدستورية، مع اعطاء مساحة كافية من المرونة لنمو قيم التعاون والتكامل بين هذه السلطات.
* التأكيد على استقلال السلطة القضائية دستوريا لابعادها عن تأثيرات السلطتين الاخريين، مع ضرورة تمكينها من المراجعة الدستورية لقوانين السلطة التشريعية وقانونية اجراءات وانظمة ومراسيم السلطة التنفيذية.
* الاهمية القصوى لتأكيد الممارسة العملية لهذه المبادئ.

(3) تصنيف الانظمة الحكومية وفق أسلوب التعاقب
ان المسألة الاساسية في استمرارية الانظمة السياسية هي التعاقب، اي مسألة انتقال السلطة. فحينما صاح المنادي "مات الملك" كان جوابه "عاش الملك". الا ان الجواب لم يتحقق بالضرورة في لحظته او دون مناقشة. ففي الملكية الوراثية الاوربية كان السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه الحالة هو: من الحاكم بعد الملك الراحل؟ وكان السؤال الثاني الذي يرتبط بالسؤال الاول: كيف يستبدل الحاكم الحالي او يحرم من السلطة ومن قبل من؟ رغم ان هذا السؤال الاخير لم يجد جوابا محددا من قبل الملكية (الوراثية).

واجهت الانظمة السياسية حتى في المجتمعات القبلية البدائية هذين السؤالين بطرق مختلفة. فالسجلات الانثروبولوجيةanthropology records (المتعلقة بعلم الانسان)، تبين ان رؤساء قبائل وملوك كان يتم اختيارهم بطرق عديدة منها: اختبارات طقوسيةritual tests او اصول دينية divine originكانت تتقرر من قبل رجال القبيلة او الكهنة. وفي احيان اخرى تم اضعاف مبدأ الوراثة باختيار الزعيم من بين الراشدين لعدد من العائلات المرموقة. كذلك تباينت طرق ابعاد حكام القبائل، فاحيانا يتم قتل الحاكم بعد فترة زمنية محددة او عندما تضعف قدراته السحرية او تفتر قواه البدنية والصحية. وفي احيان اخرى كان الزعيم عرضة لاختبارات التحدي بمنازلة combat مرشح كفوء.(21)

تفرز مشكلة التعاقب توترات ضخمة great strains للنظام السياسي عموما. ان لحظة اتخاذ القرار بانتقال السلطة تعبّر عن توقف استمرارية الحكم مؤدية الى ظهور حالات مرتبكة من الفعل interruption action وعدم التوكدuncertainty من المستقبل. وهذه الظاهرة تجسّد بطبيعتها ازمة سياسية تختبر سلوكية الانظمة المعنية بطرق قد تكون في غاية الاهمية للتحليل السياسي المقارن. ومع امكانية رسم عدد من المقارنات المهمة لدراسة حالات التعاقب في الواقع العملي، الا ان المسألة المحورية هنا تتمثل في التميز بين تلك الانظمة التي وفرت طرقا قانونية او عرفية من دستورية- انتخابية او وراثية/ تقليدية، مقرونة بممارسات حقيقية، ضمانا سلميا وتعاقبا منتظما.. وبين تلك التي عجزت عن نقل السلطة الا بالتوترات واحتمالات استخدام العنف.

وعادة ما تكون الانظمة السياسية عرضة لنوع آخر من التوترات عندما يواجه من بيدهم السلطة محاولات التحدي لابعادهم عنها. وهذه هي مشكلة نقل السلطة. وبغض النظر عن الطريقة المستخدمة بشأن من يحل محل الحاكم، فهي مشكلة مستمرة في كافة الانظمة السياسية. وفي سياق الممارسات الفعلية للتعاقب فان اشكال ردود فعل هذه الانظمة تجاه التوترات التي تواجهها تطرح لغزا مهما important clue بشأن سلوكها. ومن المنطقي ان تكون الازمة السياسية في بعض اوجهها ازمة ارتجاجية shaken crisis قد تنتهي سلميا وقد تأخذ طريق العنف. وفي بعض الاحيان ربما تقترب من نقطة التدمير point of destruction عندما تغيب عن النظام السياسي المعني المناعة، متمثلة ليست فقط في التدابير القانونية المثبتة لاسلوب التعاقب، بل وبنفس الاهمية الممارسات الفعلية السلمية.

ورغم ان الحكام المستبدين لا زالوا احيانا يحاولون تنصيب ابنائهم او الاقربون اليهم خلفاء او ورثة من بعدهم، الا انهم يستندون الى القوة اكثر من ادعاءات الوراثة او الادعاءات الاخرى. ويمكن القول ان هذه الحالة قائمة في الوطن العربي بصفة عامة، حيث يغلب على الحاكم احتكار السلطة ومحاولته تنصيب خليفته من بعده بغض النظر عن المبررات والتفسيرات المعلنة. كما ان الحاكم مهما كانت مزاعمه يبقى يمثل الرأس الفعال للدولة ومسيطرا على السلطة (القوة) الفعلية الى ان يبلغ قبره في غالب الاحيان. وهذه الظاهرة وجدت خلفيتها في المقالة الصحفية المثيرة التي نشرها عالم الاجتماع العربي الدكتور سعدالدين ابراهيم بعنوان: جمهوريات عربية نحو ملكيات دستورية؟ (الحياة-العدد13352 في 28 أيلول/ سبتمبر1999).

ان الاسلوب الحضاري في مسألة التعاقب على السلطة يتطلب تطبيق الطرق السلمية وتأكيدها في قواعد دستورية و/ او انتخابات عامة لضمان انتقال السلطة بصفة دورية وسلمية، مع توكيد صحة وموثوقية ومشروعية الممارسات الانتخابية. اما الاسلوب الآخر لحل مسألة التعاقب فهو باستخدام القوة force التي تأخذ اشكالا متعددة. وتعتبر الثورة العنيفة اكثرها قسوة وتأثيرا، لأنها تجسد اقصى حالات ازمة الحكم بحيث تتجاوز اسقاط الحكومة الى الغاء النظام السياسي برمته واحلال نظام سياسي بديل. ويعبر الانقلاب عن الشكل الآخر للعنف، ويقتصر على اسقاط الحكومة مع الابقاء على النظام السياسي، رغم انه قد يكون المرحلة الاولى للثورة او يشكل صورة تراجعية محافظة، معتمدة في كلا الحالتين على طبيعة العناصر التي تقوده. وبالاضافة الى الثورة والانقلاب، قد تدفع ازمة الحكم الى اشكال اخرى من ردود الفعل السياسية العنيفة مثل الحرب الاهلية، الحركات الانفصالية، حرب العصابات، اعمال الارهاب، الهجرة الواسعة، الخ..


4- تطور وتبدل الانظمة الساسية
تتطلب دراسة الانظمة السياسية التعامل ليس فقط مع العناصر الكبيرة من نمو growth وانحلال decay وانهيار breakdown، بل كذلك التعامل مع الحركة الدائمة الاستمرار للتعديل والتكيف. ان ضخامة وتنوع التغيرات التي حدثت في الانظمة السياسية على مستوى العالم بين العقدين الثاني والاخير من القرن العشرين تعكس بشكل واضح ابعاد هذه المسألة. فقد انهارت عروش وانظمة عديدة، وواجهت السياسات المحلية لكافة الانظمة نزاعات اجتماعية وأزمات اقتصادية، واتسعت الانشطة الحكومية، وظهرت تهديدات الحرب الذرية. واخيرا، وليس آخرا، شهدت نهاية القرن نفسه انهيار اول جمهورية سوفيتية رفعت راية الطبقة العاملة بعد تجربة تجاوزت السبعين عاما من العمل والبناء. هذا علاوة على ما تركه هذا الحدث الضخم من فراغ دولي هائل قاد الى ظهور عالم القطب الواحد، على الاقل في الزمن الحاضر. وفي السطور التالية محاولة مكثفة لمناقشة العوامل الكامنة وراء استقرار او عدم استقرار الانظمة السياسية، وانماط التغييرات التي تواجهها.(22)

(1)الانظمة السياسية المستقرة وغير المستقرة
اختبرت الانظمة السياسية بعامة اشكالا من الحرب الداخلية internal war مؤدية الى انهيار عنيف collapse للحكومات- الانظمة. ان ظهور ازمات معينة certain crisis قد تقود الى هذا الانهيار. فالحرب، خاصة الهزائم العسكرية الوطنية national military defeats كانت حاسمة في تحفيز ثورات عديدة. ان كوميونة باريس (1871)، والثورات الروسية (1905/ 1917)، واسقاط هتلر لدستور فيمار (المانيا) وثورات الصين، كلها حدثت على انقاض الكوارث disasters العسكرية الوطنية. ويرتبط بذلك عوامل عديدة منها: النظرة الرخيصة لحياة الانسان life cheapen of human، بروز اضطراباتdiscrediting في القيادة الوطنية، والتي تساهم في خلق جو atmosphere ملائم لاحداث تغييرات سياسية عنيفة وواسعة تحظى بدعم اعداد كبيرة من الناس. كما تشكل الازمة الاقتصادية economic crisis حافزا مشتركا common stimulus آخر لاندلاع الثورة، لأنها تولد ليس فقط ضغوطا واضحة بشأن ندرة الموارد والحرمان deprivation، بل كذلك تهديدا للموقع الاجتماعي للافراد والجماعات، خاصة الطبقات والفئات الفقيرة من عاملة وكادحة وفكرية ووظيفية، حيث تتأثر اكثر من غيرها، لان آثار الازمة تتوزع عادة على نحو غير متكافئ لصالح الاغنياء ورجال الاعمال، في حين يقع عبئها على الفقراء واصحاب الدخول الثابتة من اكثرية ابناء المجتمع. وهنا تتكون لدى الاغلبية الاحساس بفقدان الامن insecurity، بالاضافة الى تفاقم العلاقات بين الطبقات الاجتماعية. وغالبا ما تعمل الازمة الاقتصادية الحادة على نحو مماثل والكوارث العسكرية من فقدان الثقة بالقيادة والنظام السياسي. عامل آخر سريع الانفجار tiger factor هو اندلاع الثورة في انظمة سياسية اخرى، خاصة دول الجوار. ذلك ان الثورات تميل الى الانتشار. فالثورة الفرنسية (1879) انتشرت بذورها في اوربا ووجدت صداها في الثورات العديدة التي قامت عام 1848. بينما اعقبت الثور البلشفية في روسيا (1917) عشرات الثورات. وجاءت حركات التحرر الوطنية من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية لتجد صداها في معظم المستعمرات السابقة.

تبرهن الانظمة السياسية غير المستقرة unstable على سهولة تعرضها للعطب vulnerable، وتفشل امام ضغوط الازماتcrisis pressure لتتحول الى مختلف اشكال الصراع الداخلي التي تقود الى اضعافها وسقوطها. ان الاسباب الاساسية fundamental causes لعوامل الفشل هذه هي نقص lack الاحساس الواسع بشرعية سلطة الحكومة وغياب absence الحد الضروري للاتفاق العام على الاشكال المناسبة للفعل السياسي. فالحكومات تعاني احدى عقباتها القاتلة gravest handicap عندما تحكم في غياب موافقة الاغلبية consent او عندما تخضع شرعية النظام legitimacy لتساؤلات واسعة.

مسألة اخرى ترتبط عن قرب بمشكلة الشرعية كسبب لانهيار الانظمة السياسية، هي غياب اجماع عام على سياسة ملائمة. فالنظام السياسي يكون محظوظاfortunated اذا بادر بفتح قنوات العمل السياسي وتبنّى اجراءات عملية لحل المظالم grievances. ذلك ان اهمية ادارة "قواعد اللعبة" rules of the game هذه تسمح باحداث تغييرات بطرق سلمية. فالانظمة السياسية المستقرة غالبا ما تعكس صبرا مدهشا surprising tolerance امام الاشكال الاحتمالية الغاضبة للسلوكية السياسية مثل الاضرابات strikes والمظاهرات العامة mass demonstration . ومثل هذه السلوكية "التنفسية" مرفوضة في انظمة تقوم على العنف وتخشى من المخاطر العالية المحتملة لمثل هذه الحركات وتصاعدها الى النقطة التي يمكن ان تولد صراعا حقيقيا لغير صالحها.

لعلّ ابسط تعريف للنظام السياسي المستقر stable هو القادر على الاستمرار في الحياة survive اثناء الازمات بعيدا عن العنف والصراعات الداخلية الحادة. ولقد حققت الديمقراطيات الليبرالية الغربية في معظمها تقدما سلميا بهذه الطريقة، بسبب حساسية ردود الفعل السياسية تجاه قوى التغيير، والتكيف المرن flexible adjustment لهياكل النظام لمقابلة الضغوط المتولدة، بالاضافة الى الممارسات السياسية المفتوحة والتي سمحت بالتطور التدريجي المنظم. هذا رغم ظهور فلسفات سياسية جديدة، وحصول زيادات سكانية، وبروز المشكلات الصناعية، وعوامل اخرى كثيرة من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.

(2) انماط تغيير الانظمة السياسية
ان دراسة التغيير السياسي political change مهمة صعبة، لان التغيير يحدث بطرق كثيرة مختلفة وفي نقاط زمنية عديدة في النظام السياسي. وفي السطور التالية محاولة للتفرقة بين اربعة انماط رئيسة من التغيير السياسي هي: الثورة الجذرية radical revolution، والتطوير الهيكلي structural revision، وتغيير القادة change of leaders، وتغيير السياسات change of policies.

تعبّر الثورات العنيفة عن اكثر نمط سياسي fundamental type مقارنة بالانماط الاخرى للتغيير السياسي، لأنها- كما لوحظ- تقود الى احداث تغيير جذري في النظام السياسي نفسه. كما ان آثارها لا تنحصر في تغيير الحياة السياسية فحسب، بل تقود الى تحولات مماثلة في النظام الاجتماعي برمته. ومما يجدر ذكره، ان الاحداث السياسية القاسية drastic التي رافقت هذا النمط من التغيير ظهرت في ثلاث ثورات كبرى غير مسبوقة unprecedented في العصر الحديث بدءا من اواخر القرن الثامن عشر، متمثلة في الثورة الامريكية- حرب التحرير (1776-1783) والثورة الفرنسية (1789) والثورة البلشفية (1917). هذه الثورات الثلاث افرزت آثارا واسعة وعميقة في الحياة السياسية مؤدية الى تغيير دائم في معتقدات الناس وحياتهم. ولم تقف نتائجها عند حدود مجتمعاتها، بل امتدت كذلك الى الانظمة السياسية الاخرى.

ورغم ان الثورة الامريكية تجسّدت واقعيا في حرب الاستقلال، فقد تضمن اعلان الاستقلال Independent Declaration معيارا شاملا جديدا للحكومات الحرة. لقد حاربت الثورة من خلال رجال عاشوا في كنف مؤسسات احتضنت harboured سياسة حرية التجارة Free Commercial Polity، وبقيت الثورة بعيدة عن الهيجان الاجتماعي social upheaval ولم تحرض طبقة ضد اخرى. ويرتبط بذلك ان افكار قادة الثورة تشربت من مؤسسات حكومية واجتماعية عبّرت نسبيا عن الحرية في ظل الكولونيالية. وكانوا اكثر المواطنين شهرة prominent citizens ممن آمنوا بفكرة استمرار التطور التدريجي evolutionary development للمجتمع. ولكنهم جددوا افكارهم هذه بعد تأثرهم بأفكار مونتسكيو التي انبثقت من قلب الافكار الفرنسية، وطوّروا ثورتهم من المطالبة بالحكم الذاتي، self-government الى المطالبة بالاستقلال عن الحكم الاجنبي وليحققوا بناء اول جمهورية عصرية. ومما تجدر الاشارة هنا الى ان جورج واشنطن (1732-1799) قائد حرب التحرير والثورة الامريكية ضد الانكليز واول رئيس جمهورية للولايات المتحدة (1789- 1797)- سبق له وان خدم في الجيش البريطاني واشترك في حرب السبع سنوات ضد فرنسا (1756- 1763).

اما الثورة الفرنسية- التي اوقعت اوربا في حرب ضروس، فقد دمرت الاقطاع وقادت الى انتشار مفهوم الحكومات الشعبية المعاصرة والحريات السياسية، اذ انها صاحبة اول اعلان لحقوق الانسان. كما انها شكلت نقيضا حادا للثورة الامريكية. فلم تكن الثورة الفرنسية دعوة الى الاستقلال، بل كانت تمزيقا disruptive اجتماعيا سريعا ضد الحكام (الملك والنبلاء) الذين عاشوا على اكوام من المظالم الاجتماعية. بينما حققت الثورة البلشفية الروسية اول جمهورية سوفيتية عمالية معاصرة ذات افكار اصيلة في الدعوة الى الاممية الاشتراكية. وتماثلت مع الثورة الفرنسية في انها كانت ضد الحكام (الملكية القيصرية) والمظالم الاجتماعية، وقادت سريعا الى تصفية الملكية والاوضاع الاقطاعية المتخلفة.

يتضمن النمط الثاني للتغيير (التطوير الهيكلي) اجراء عمليات تبديل وتكييف وتطوير مستمرة في هيكل النظام السياسي. ولان هيكل النظام (التدابير المؤسسية) هي مقرر لنواتج السياسة، لذلك يجسّد هذا النمط من التغيير اهداف الفعل السياسي بمختلف اشكاله. ذلك ان الناشط السياسي political activist والمصلح reformer والثوري revolutionary يشاركون جميعا في ادراك ان السياسة الحكومية يمكن ان تتغير على نحو فعال عند تعديل الاشكال المؤسسية التي تعمل الحكومة من خلالها. فالانظمة السياسية تعاني suffer من مخاطر الانهيارات العنيفة عندما تفشل هياكلها المؤسسية وممارساتها تبنّي سياسات مقبولة لحل التناقضات الاجتماعية، وتحمل مسؤولياتها تجاه تسوية هذه المتطلبات.

يعتبر تغيير القادة النمط الثالث للتغيير السياسي. ومن المهم الاشارة الى ان ادراك تبديل اشخاص الحكومة قد يكون طريقة فعالة لتغيير سياسة الحكومة وتقرير مختلف اشكال الفعاليات السياسية السلمية. لذلك فالانظمة السياسية التي تتوفر لها اساليب قاعدية ودستورية وممارسات سلمية لاستبدال قادتها، تمتلك في الوقت نفسه مزايا ايجابية لنجاحها في معالجة ازماتها.

واخيرا، قد تكون السياسة الحكومية نفسها واسطة مهمة للتغيير السياسي. فالسياسة الاقتصادية والاجتماعية للرئيس الامريكي الاسبق روزفلت، والبرنامج الاجتماعي لحزب العمال البريطاني بعد عام 1945، امثلة في هذا السياق. اذ ادت السياسة الحكومية الجديدة في الحالتين الى تعديلات modifications واسعة في وظيفة النظام السياسي: التوسع السريع لدور الحكومة في الاقتصاد، استخدام نظام متقدم للضرائب لتوزيع الدخل، تنفيذ برامج وطنية للرفاهية الاجتماعية. وعموما، فهذا النمط من انماط التغيير السياسي هو في الغالب استجابة response لضغوط ومطالبات واسعة. واذا لم تتحقق هذه المطالبات بشكل مرض من قبل الحكومة عندئذ ربما تشتد وتقود الى مختلف اشكال العنف السياسي.
مممممممممممممممممممممممممممممـ
د. عبدالوهاب حميد رشيـد، الديمقراطية والتحول الــديمقـراطي (( مناقشة فكرية وأمثلة لتجارب دولية ))،
First Edition- Stockholm, Sweden 2005. ‏ISBN-91-630-9332-4



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءات في كتاب:*
- ليبيا: حرب الجميع ضد الجميع!؟
- أنت مقبوض عليك Youre nder Arrest
- تقرير جديد يكشف ارتفاع مستوى الفقر بين أطفال الولايات المتحد ...
- أسئلة المدقق/ المراقب العام في العراق SIGIR بشأن تكاليف بمبل ...
- اليمن بحاجة إلى الكفاح من أجل الخبز لا القنابل
- فضائح الفساد تهدد بزعزعة كردستان العراق
- نثريات بمناسبة انعقاد مؤتمر القمّة العتيد!!
- المرأة العراقية.. التكيف وسط الرعب
- الأفغان يواجهون سوء التغذية الحاد في سياق انعدام الأمن الغذا ...
- العراق.. بين الأكاذيب في البداية والأكاذيب في النهاية
- سجين سابق.. زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين PFLP.. الإضراب ...
- الياخونت الروسي كسرت حصار الأطلسي
- مأزق المرأة (التجربة العراقية) *
- عين العسكر الحاكم في مصر على البرادعي لتشكيل حكومة إنقاذ وطن ...
- لماذا لا يوجد مَنْ يحمي الأطفال العرائس في المملكة العربية ا ...
- كوالا لامبور.. محاكمة بوش (و) بلير..
- الحرب في العراق لم تنته.. بغض النظر عن ما يقوله اوباما!!
- غزو/ احتلال الناتو لليبيا توقف عند العاصمة وعدد من المدن الس ...
- رقم قياسي للفقراء الأمريكان


المزيد.....




- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...
- بلينكن يأمل بإحراز تقدم مع الصين وبكين تتحدث عن خلافات بين ا ...
- هاريس وكيم كارداشيان -تناقشان- إصلاح العدالة الجنائية
- ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟
- عراقيل إسرائيلية تؤخر انطلاق -أسطول الحرية- إلى غزة
- فرنسا تلوح بمعاقبة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف بالضفة ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - قراءات.. الديمقراطية والتحول الديمقراطي