ابراهيم زهوري
الحوار المتمدن-العدد: 3774 - 2012 / 6 / 30 - 17:13
المحور:
الادب والفن
حفل خطوبة
في المخيم مساء أول من أمس صعقت مجددا وكفايتي من الصدمات أكثر من رغيف وأقل من بئر ماء , حين كنت مع صديقي نهم بصعود العتبات القليلة لدرج المنزل نحو السطوح للمشاركة في تقديم التهاني لأحد معارفنا بمناسبة خطبته التي وقعت كما يحب هو أن يردد أنها جاءت متأخرة كثيرا , الوقت مساء صيف والناس تقاطرت هربا من قيظ ينسحب وفي لحظة الوصول إلى آخر عتبة سمعنا ولشدة هولنا أحد المشاركين في ترتيب المراسم ينادي بعلوه تعلوه ابتسامة ماكرة : الشيعة لحال والسّنة لحال , تمكنت من دهشتي وأخذت مكانا قصيا حيث بلعت عل مضض وميضي الذي يخبو مع آخر نسمة وتناولت سورة الفاتحة من جميع جوانبها وقلت في علني أهمس لصديقي الذي رافقته إنها البداية فقط , هذه المرة نجونا .. لن أنتظر حتى يكّرس أحدهم تميّز هويته الثقافية الجديدة القديمة وحينها يعتبرني الآخر إن أحسن مراعاة تقيته وإن أخفق صرت له من كل بد عدوا صريحا لا يستحق تحية أو حتى السلام .
صديق من أيام زمان
لم تفاجئني رسالته الالكترونية مع أني كنت أتوق دوما لسماع أخباره التي غابت مع عودته , فمنذ سنوات ليست بالقليلة حين كنت طالبا في الجامعة تعرفت إلى زميل من سكان الضفة الفلسطينية وتحديدا من ريف مدينة رام الله , دمثا كان وأخلاقه واسعة كحلمي عن وطني وكانت كما كنت .. نزاهته كصبر وجه أمي , تقدم الرفقة الطيبة على حصيرة المنفى سلالا من عنب الحاكورة في زاوية المهجع المعد للهدم , لم يطلب الكثير غير العلم ونجح في ذلك , وأنا لم أتمكن من عناقه لحظة الوداع .. افترقنا دون ضجيج يذكر كما الطيبين في صلاة الأحد , رسالة واحدة كانت ليتغير اسمه بالكامل وكأني عرفت شخصا آخر , ما علاقتي بالذي قدّس الله سره أو ذلك الذي دام ظله دون أن أدري , ليشأ ما يكونه وقد كان , تحّسرت على شريط غفلتي المضموم عند ساعد الجدار على آخر زاروب ضّيق يستدعي قطع غيمة تتوسل الهطول دمعا حزينا على ضريح المقاطعة , لماذا بحجة حلقة البحث كان يكذب علي طوال الوقت ؟.
قبل أن يصبح نجما ويصير اسمه " الحاج سمير "
كنت أراه صغيرا مكتنزا يتكئ على شجيرة الجرد الواقف كعلامة طريق , يعدل من وسامته برفع بندقية الكلاشينكوف المحشوة بالقذائف النارية إلى أعلى كتفيه المصنوعان من صخر الجبل , واقفا كان يؤدي القسم وجاثيا كان يلثم العلم ويكتب بابتسامته دون رفيقيه تحية الولد إلى القائد الخالد الناصر , لم تتمكن صورته من نسياني حين ألصقتها على غلاف كتاب القراءة وبدأت أرسم بالقلم الملون خريطة البلاد التي خرجت منها يقطرني ذّل الندم .. ليدخل إليها يندفع مكللا بقصائد العشق الأول عن وحشة القادمين وان افترقوا وعن صبر الأغطية في محنة العراء الأول , لا الخيمة اكتنزت درب الرؤى ولا القرى الشقيقة أيقنت حفظ أناشيدها شلال حاجبين أو أقل , كان على الشاطئ بوابتي للكتابة وكانت الطلقات خلف النزيف الملثم جيوب فمي في الطرقات الضيقة وفي الأحياء التي تعجز حجارتها عن الإبحار المؤجل , هل يكتمل في القيد طول السفر وتختصر الوصايا ليل الحصار , هكذا كتبت في الدرس الأول على المقعد الأمامي كظلي الواضح من آخر الليل إلى أول النهار .. اسمه يقتفي كاهل الأرض ... اسمه سمير القنطار .
" بلال " المنتصر في التسكع والرابح خمرة المغامرة
بعد الرصاصة الأولى أو الرصاص بعام وقبل الهزيمة بعام واحد ولدت ... كبرت بين غصنين وساقية .. وحقول الآخرين كظل النعمة يفور ويختلس صومعة الوقت , للعصافير لم يتمكن وعدنا والفخاخ كانت آخر صبرنا المعجون بقلق الأمهات , طاردت وفي يدي صفيحة تنك لين الفراشات بشقاوة الوعل ممهورة بعينين من كيد واضح .... غمر قمح مخبأ الاستراحة وغذاء خضار الفلاحين تمويننا الغض والسهل منبسطا ملعب العابثين بزنار الظهيرة ولهفة الزعرور المترامي على التلال البعيدة آخر أخبار ما اختبئ تحت الكنزة عند الصّرة , غافلنا التراب مرات لنلثم ذراه الممزوجة بالعرق والدم حتى يلبسنا من غباره المكتنز حوّاف الكون حيث التوت يستوي على الأشجار مهبط وحينا نتدافع إلى غورها ونختفي .. تمزقنا الأغصان كأنها تكتب من سحرها القليل على سواعدنا النحيلة , نسقط على حين غرة ونتداعى إلى الركض كسارق المهرة . لا لن أهابه انه فقط دولاب نار يشتعل عليّ أن أعبره واخترقه مع صرختي الهاتفة نصرا يجيء بعد خمسة من أقراني ونحن نرتدي على غير مقاسنا الأخضر الكاكي المعتم بخطوط متقطعة ونقاط تتبعثر دون ترتيب , نتسلق الحبل الغليظ لنزرع العلم ونزحف تحت الرقبة لنحبس أنفاسنا من غيظ دخان الحفرة , غيرنا يصطّف بعدنا ونغني " أنا بيتي قريب من الصخرة , أحلف بمحمد والعذرا .. أنا راجعلك يا دار " . يحتوينا المخّيم بروحه النافرة ويضمنا إلى صدره الذي يشب كأب يغيب في العمل ويتحسر , من مثلنا سعيدا في بكائه وسعيدا في غرز أشتال الزغاريد في الساحات اللقيطة كيتم القطط , الآن لم يتبق غير تناسل البيوت على أرض لا تخصنا واكتظاظ القاذورات على العتبات والسوق أوسع من رئتيّ كأخطبوط ينسّل في كل فراغ ممكن , نودع من خرج من ثياب الهجرة الأولى ندفنهم على مقربة لنبقى نزورهم لأننا لا نقوى على الفراق , تسكننا العزلة ونبدأ صباحنا في الظل والقادمون من كهف الظلمة يشتمون بمكبر الصوت ويمسدون اللحى بالحناء وأغلب النساء اشترت زيها الداكن من ضواحي صحراء وبادية , لم يتبق غير صغيري يصنع خيمته تحت الكرسي ويتهجى الكلمات.
حقل الريح أوراق المسافر
أرجع إلى القرية ... إلى المكان الأول الذي شققت فيه تباشير عملي كمدرس اللغة الانكليزية , أرجع بعد غياب عدة أشهر أمضيتها في تحصيل دبلوم التربية , أرجع كأن الزمن رجع بي إلى حوافر تلك السنة التي أمضيتها هنا ..إلى وقت يقترح عند باب المدينة وسام التعب ... مقعدا قصيا ومنفى يدور كالثمل منتشيا سورة الفاتحة , أرجع إلى تلك الغمامة المتوحشة رصيف مجهول وقباب ترثي خيام دمي وبكاء الشجر في عوسج البوادي مخلب أيامي الذابلة , الى وقت كنت أقف وحيدا مملا أهز غبار الشمس عن ملامح كوكبي منفرطا ... الخطى دفتر ينز حجرا وراء حجر ... والمساء صدى لطعنة جارحة ... وشغف الندى ألوان الأواني تخطف من زرد الليل فاكهة احتفال وجبين تهلكة ... تركت أضلاعي ورائي وحملت ما يمور قامتي من صليل التراب وشجن البدو صعلكة الرسل المرتبكة , أرقط تقاسيم النعاس الأغبر عن جفوني .... أحمل حقيبة الأِشياء الضرورية أحدق في الزرقة كمتشرد أتقن حفظ المحطات وقلت من أين سبيلي والأجنحة ظلال رجل هارب هو ما تناثر من ضجر على قميص الإسفلت , هكذا من أول النهار منفردا أعدد كم من الغيم الأبيض أستطيع أن أهديه إلى أمي ... وأمي هناك تهوي على دفة الوقت وجوع اللجوء ... ترسم على الجدران الصدئة صورة جدائلها تيمنا , تلعب كالأطفال بصدف الذاكرة ووشم الغزالة و تمضغ الفراغ عنب الدالية وتومئ رمحا من زعتر وزبيب عند أول كنعاني يداه مريم وربيع منفاه غابة المخيم تخرج الى الشارع وتهتف ماء الكلام فضة ولهيب ليمونة صمت الأسئلة , هكذا من أول النهار أدندن ورأسي يتسكع خلف حذائي مخافة الوحشة عن حبة قمح منسية أودعت نجمتها يباس بيادر والجنادب أول الطباشير عند باب الصف الكهل , أرتاح كما يرتاح الهواء مستلقيا صبر الماعز صدر الوعل وحصى التجوال , كيف تنفجر البوادي بعد الهطول بكل ذلك الأخضر الفتان , فاضت أبابيل الطبيعة , امرأة عبرت جوف الصحراء و أمسكت تتنزه وشاح مواويل هي أول ما تحمله اللكنات وصف الغريب وهي أول البراري صحوة النبيذ , هي ما تقدم من ناقة الغياب وهي أول الجنازات على بسمة القتيل , هي أول الهاربين من اليتم وأول القادمين الى الدفن , هي هدير العمر سيفا خشبيا , هي ما يشبه التيه على جسد الحسرات , هي طيف الكروم فحولة إن بدأت وهي نسيم الوضوء في يوم الجمعة , هي المجيء يهرب مني وأنا أعبر الأسلاك الغليظة وسور البوابة السوداء ... التلاميذ أنهكهم انتظار أرعن ورداء المدرسة خرقة تكفي للوقوف تحت العلم والمشتعل خلف الأجفان النشيد وكتاب الأرض مراسيم سيدة تنام على عشب حصارها , أسراب خراف صغيرة تحاول أن تهز ضرة الحليب والبرقوق أصفر , ثياب الفلاحات داكن يرسم فصل الأسى ويقرأ إيقاع التنهدات في ثياب العشاء الأخير والنهر قريب و مازالت تعبرك الطيور المهاجرة قامات الطين تعب الريح ... في كل مرة ينسل معطف الحارات خصر فراشة تحوم , تعبر كما عبر الأقدمون ليعطي ما لديه لغيرك تتعاطى ضجيج الكلمات في جيب انتحارك ... واقفا ترفع المسافات هدير النبوءات هي الحياة تفقد ما تستطيع , صلصال خيل ونار نخل والفصول بدون الأغاني كالفتنة ساحة رقص , نعم فيك يتم المعنى ويكتمل الفناء ... تتدلى من حنجرة قيظ حرب خاسرة كأنك آخر الحكاية الرمل أزرق والبرق جثة الوصايا يباب , كرذاذ تنقش صورتك وتطوي سلال ما خبأته النايات ... الشهوة طليقة مثل كل الطيبين ارتحالك تبوح توق الحناء وهم الغبطة وبريق الضفاف .... الليل باب للخروج ومصيدة للموتى ... استغاثة الأمكنة وغمر الأكاليل متواطئا عربة الآلهة محملة بالأجراس دفوف , تختال من الرغبات احتراب فرائس ومن الأسرار ما يرضيك ... في الأنات طلاء فاصلة أرخت ذاكرتها صيف النحيب , ريش النعامة فاضح ... ضلال الترانيم لهاث وما تمنحه الروح زرافات اشتهاء توزع ما تبقى وشوشة سكون وعلى الشفتين تتكسر مظلومة أوتار فرح وعلى شواهد العزلة أوزع نعي بقاء .
• تلك الغيمة خضراء داكنة .... دائما توزع النسغ خجولا على قبور المحبين .
• نعم ..تسكنني روح ناسك حيران, لا أحسد يقينك ولا أتأسف على قلقي.
• لا حياة في النص إنما الحياة فيها النصوص كثيرة .
• كثرت الهواتف في المخّيم وقل الاتصال بين الناس .
حصة صباحية
في صباح الدرس الأول هرب الصقيع واختصرت الدنيا أغلالها, ضريح من نحب على مفرق ينتظرنا لنغرق في غثيان المدينة ونحزن, في صباح الدرس الأول بكت التلميذة وأورقت كآبة التعب.
- ماذا حصل وهل هي عتمة الضجر ؟
- لا يا أستاذ .... انه معلّم الحصص الشاغرة خريج الشريعة يعلّمنا التاريخ والجغرافية واللغة العربية وحتى الرياضة والفن.
- حسنا ... وماذا فعل !
- رفض موضوع التعبير وقال أن " جول جمّال " ليس شهيدا ولن يدخل الجنة وأن قراءة ما تكتبينه ليس إلا موقد خطر .
#ابراهيم_زهوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟