أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - معارضة الحصار















المزيد.....


معارضة الحصار


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3694 - 2012 / 4 / 10 - 18:00
المحور: مقابلات و حوارات
    


معارضة الحصار
حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان -10
أجراه: توفيق التميمي


(القسم العاشر)
معارضة الحصار
زاد ثقل المعارضة التي اتخذت موقفاً من الحصار الدولي الجائر ونظام العقوبات الدولية ومحاولات ضرب العراق لاحقاً، بانضمام قيادات بعثية مثل فوزي الراوي والقيادي السابق صلاح عمر العلي وحامد الجبوري وغسان مرهون وماجد السامرائي، إضافة إلى قيادات إسلامية مثل الشيخ جواد الخالصي والشيخ محمد مهدي الخالصي والسيد أحمد الحسني البغدادي وبعض قيادات الحزب الإسلامي مثل أسامة التكريتي وأياد السامرائي، وآخرين ممن كانوا يوقعون على بيانات معنا، إضافة إلى مواقف باقر ابراهيم وآرا خاجادور وحميد برتو وعدنان عباس وكاظم الموسوي ومحمد جواد فارس وغيرهم.
وأتذكّر ما دار بيني وبين الرفيق عبدالله الأحمر من حوار حين استقبلني في القيادة القومية في العام 1995 وسألني عن اعتقادي بإمكانية مساعدة الشعب العراقي، قلت له دون تردّد: يجب العمل على رفع الحصار، فيمكنكم إرسال بعض ما يحتاجه الشعب العراقي من غذاء ودواء والوقوف معه في محنته بما يعزز العلاقات الطبيعية السورية –العراقية وذلك أضعف الإيمان كما يقال وبغض النظر عن خلافاتكم الحزبية. وكان هناك من كتب رسائل للرئيس حافظ الأسد بهذا الخصوص، واتّخذت القيادة السورية موقفاً سياسياً بفتح الحدود وإطلاق التعامل التجاري مع العراق تحت سقف القرارات الدولية، لكن علاقات الحزبين ظلّت في حالة ارتياب دائم.
وكانت الأجهزة العراقية قد أرسلت من يقوم بمحاولة اغتيالي في العام 1993 في كردستان، وهو ما أخبرني في حينها الصديق كريم السنجاري (وزير داخلية اقليم كردستان حالياً) وعاد وذكّرني بها قبل فترة قصيرة بحضور عدد من الأصدقاء، حين ألقوا القبض على من كان يحمل سموماً خاصة ومدربا تدريباً فنياً، وكان معه بضعة أسماء، كان اسمي من بينهم، كما تم حجز أموالي المنقولة وغير المنقولة مع قائمة ضمّت 125 إسماً بينهم رئيس الجمهورية مام جلال وحميد مجيد موسى وعزيز محمد وفخري كريم ومسعود البارزاني ومهدي الحافظ وابراهيم الجعفري ومحمد بحر العلوم وليث كبة وهاني الفكيكي ورحيم عجينة ومحمد باقر الحكيم وأرشد توفيق واياد علاوي وأحمد الجلبي وتحسين معلّه وآخرون.
تركيب المعارضة
* طالما كانت توصف المعارضة العراقية، ولاسيما من الدكتاتور صدام حسين بأوصاف السوق والدكاكين، هل فعلاً تستحق هذا الوصف بالجملة ودون استثناء أم هناك قوى وشخصيات وطنية لها ثقلها؟
- لعل مثل هذا الوصف تجنّ على الواقع، ولم يكن سوى محاولة لتسويد صفحة "الخصم". ففي المعارضة قوى وأحزاب وشخصيات مرموقة ومحترمة، ولها تاريخها المشهود في العمل الوطني، دون أن يعني أنه لم يكن لها أخطاؤها ونواقصها وبعض مواقفها السلبية، لكن هذا شيء واتّهامها الظالم بالجملة شيء آخر، والحكام دائماً يحاولون التقليل من شأن المعارضات. وأتذكّر أن صدام حسين أراد يوماً أن يكون " موضوعياً" لاسيما بعد اتّساع حجم المعارضة والاحراجات التي تعرّض له نظامه في الموقف منها، فقال في إحد اللقاءات أن نصفه معارضاً أو مع المعارضة، وفي مرّة أخرى، قال متكّهماً بحضور عزة الدوري أن هناك من يريد أن يحضّر لانقلاب عسكري، فخاطب الدوري ضاحكاً: شنو رأيك تجي نسوي انقلاب أنا وأنت، أنا رئيس وأنت نائب (أي ما هو رأيك بالقيام بانقلاب عسكري...) ولعله يمتلك ذكاءً وحسًّا أمنياً عالياً، فقد كان يريد أن يسحب البساط من تحت أرجل من يفكّر بهذه الطريقة، ويقطع الطريق على التقوّلات، لاسيما عندما يطرحها هو وليس غيره.
وأظن أن صدام حسين كان يدرك أكثر من غيره حجم المعارضة، ففي حديث خاص مع عزيز عقراوي قبل اجتماع مجلس الوزراء، سأله هل تعلم ماذا عملت صباح هذا اليوم؟ فأجاب عقراوي عفواً سيادة الرئيس كلاّ: فقال له ضاحكاً: لقد وقعت على إعدام 600 عضو من حزب الدعوة. لقد روى لي عقراوي هذه الحكاية بعد مغادرته بغداد إلى المنفى، حين جاء إلى دمشق وعقد مؤتمراً صحفياً، وكنت قد وصلت دمشق قبل ذلك بأسابيع، ثم أعقب ذلك بالقول منذ تلك الرواية لم أذق طعم النوم على نحو سليم!
يعرف صدام حسين حجم المعارضة الكردية وإمكاناتها على الرغم ما تعرّضت له من قمع وإرهاب ومحاولات تعريب وتبعيث، كما يعرف حجم الحركة الشيوعية واليسارية، فقد كان معها في جبهة واحدة، ولا أذيع سراً أن عدد أعضاء الحزب الشيوعي يوم انفضّت الجبهة كان قد تجاوز 31.000 (واحدا وثلاثين ألفاً) إضافة إلى شبكة الأصدقاء والمؤيدين، ولعل ثقل الحركة الاسلامية برز في أواسط السبعينيات، حين انشغل عنها صدام حسين لملاحقة القوميين العرب والكرد والشيوعيين لاحقاً، وكان قيام الثورة الإيرانية إيذاناً للاعلان عن وجود حركة إسلامية بدأ عودها يتصلّب، وبدأت حركتها تأخذ بُعداً اقتحامياً.
لكن المعارضة العراقية مثلها مثل غيرها من حركات المعارضة بحكم الارهاب والملاحقة والاغتراب الطويل عن ساحة النضال اليومي، تعرّضت إلى تداخلات واختراقات وتصدّعات، فضلاً عن تسلق بعض العناصر الطارئة، لاسيما في التسعينيات، الأمر الذي ألحق ضرراً بسمعتها، ولكن ذلك لا يبرر نظاماً قمعياً استبدادياً أن يطلق عليها مثل تلك النعوت.
لقد عانت المعارضة العراقية من التعويلية وهي حالة قديمة وتعكس فقدان المبادرة وضعف الاستقلالية، وهذا الكلام قلته في مطلع التسعينيات، وفي مقابلة لي في جريدة الرأي الآخر بدمشق مع الصحافي محمد علي الحيدري (الذي يعمل في تلفزيون الحرّة حالياً) وأعتقد أن التربية الحزبية القديمة والامتدادات السياسية الخارجية وبعض الأسباب الفكرية والمادية هي التي تقف وراء تلك التعويلية. فالشيوعيون كانت قبلتهم موسكو المركز الأممي السامي، والاسلاميون وخصوصاً بعد الثورة الإيرانية كانوا يتطلعون إلى إيران، وكان بعضهم يراهن على استمرار الحرب للاطاحة بالنظام وتحضير البديل، والقوميون اعتمدوا على ظروف الصراع الخارجي بين سوريا والعراق بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، أما بعض المعارضين الجدد فكان هواهم في واشنطن التي وعدوها بأن العراقيين سيوزعون على جنودها الورد والحلوى، وإذا بهم يتركون حسب اعترافات البنتاغون أكثر من 4479 قتيلاً ونحو 26 الف جريح، عدا أعضاء الشركات الأمنية.
لقد عوّل قسم من المعارضة في التسعينيات على الولايات المتحدة لحسم الصراع، وأعلوا من شأن العامل الدولي بدلاً من العامل الاقليمي (إيران وسوريا حتى مؤتمر البريستول آذار /مارس 1991) وأصبحت واشنطن لدى البعض وليست موسكو هي المحجّ. ولعل هذه الظاهرة لم تكن موجودة قبل حرب الخليج الثانية. أعتقد ان حالة اليأس وبعض المتغيّرات الدولية كانت مبرراً ومحبّذاً أكثر من غيرها، بحيث أصبح البعض يسخر من مفاهيم "الوطنية" وكان يندفع سرًّا أو علناً في توسيع علاقاته مع القوى الخارجية لدرجة أخذ يتحدث بإسمها أحياناً.
شخصياً أقدّر بعض الأصوات التي كانت تدعو للاعتماد على الولايات المتحدة علناً، بما فيها دعوتها لاستمرار الحصار، وهذه كانت رؤيتها تقولها دون تغليف أو مراوغة، بل أنها قالت أن عليها أن تتلقى دعماً مادياً من واشنطن، وهو ما نشرته الصحافة الأميركية والبريطانية منذ العام 1994 وجرى تقنينه لاحقاً بمشروع تحرير العراق العام 1998، وعلى الرغم من معارضتي لهذه الرؤية، لكنني أعتبرها اجتهاداً خاصاً خاطئاً، وكتبت ونشرت وحاضرت ضد هذا الاتجاه على نحو واضح ودون لبس أو غموض، مع أن الهدف واحد، وهو التخلّص من نظام الاستبداد والقمع الشامل، وبسبب تلك الرؤية المختلفة كنت قد استقلت منذ أواخر العام 1993 من المعارضة الرسمية، لاسيما من موقعي كأمين سر للمؤتمر الوطني الذي اجتمعت فيه الغالبية الساحقة من القوى السياسية آنذاك.
كنت وما زلت أعتقد أن التعويلية قادت وتقود إلى العدمية الوطنية، فهل لنا أن نتصور أن وقع الصواريخ فوق رؤوس أهلنا في بغداد ومحافظات العراق لها رجع صدى موسيقي، بل سمفونية كاملة، وهناك من كان يستبشر باستمرار الحصار الدولي بل ويرسل وفوداً إلى نيويورك للطلب من الأمم المتحدة تشديد الحصار على النظام، الذي لم يكن يعني باستمراره سوى تشديد الحصار على الشعب، ولم يذكر التاريخ أن أي حكومة قد ماتت من الجوع، في حين مات نحو مليون و600 ألف عراقي غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وهو ما برّرته مادلين أولبرايت في برنامج ستون دقيقة لمحاورتها ليزلي ستانلي أن ذلك هو الثمن الذي يستحقه الاطاحة بالنظام العراقي.
لعل ذلك كان أقرب إلى عالم اللامعقول، وبقدر ما يثير السخرية، ففي الوقت نفسه فإنه تراجيديا حقيقية. ربما كان البعض وقد يكون إلى الآن وعلى الرغم من كل ما حصل يعتقد أن لا إمكانية لتغيير النظام دون التدخل الخارجي، ومهما كان الثمن.
وعلى الرغم من انخفاض صوت القوى الداعية لاستمرار الحرب العراقية- الايرانية بعد وقف القتال في 8 آب (أغسطس) 1988، في تلك الحرب التي لا مبرر لها على الاطلاق، فإن هذا الاتجاه أصبح أكثر تأثيراً بعد غزو القوات العراقية للكويت وخلال حرب قوات التحالف لتحرير الكويت، ولكنها تحوّلت في الوقت نفسه لتدمير العراق، وهنا انقسم التيار المعارض إلى أكثر من وجهة نظر: الفريق الأول كان يؤيد الحصار ويدعو إلى إلى استمراره وتشديده لاعتقاده أن الحصار سيطيح بالنظام أو يكون عاملاً أساسياً للاطاحة به، رغم ان كاهله السياسي يقع على الشعب العراقي الذي يسدد الفاتورة مرتين، الأولى " بالمعاناة بل بالمأساة اليومية المستمرة الناجمة عن حروب النظام وسياساته واستمرار الحصار الدولي الظالم، والثانية: استمرار انفلات الارهاب وحكم الاستبداد وهدر حقوق الانسان الذي لم يعدّ هدراً روتينياً فحسب، بل تخطّى ذلك ليصبح فاجعة مستمرة حيث كانت القسوة والهمجية مشرّعتان في قوانين تجسد البشاعة والتخلف بأقسى صورهما، وصار بالامكان قطع اليد والرجل والأذن ووشم الجباه وغيرها من أعضاء الجسد.. كل هذا وجرى في العقد الأخير من القرن العشرين؟؟ ان الحصار والارهاب كلاهما يتضمنان معنى الاستلاب للشعب العراقي سواءً كان هذا الاستلاب خارجياً بحجة " ضمان الشرعية الدولية" أو داخليا لترويض الشعب وتطويعه.
أما الفريق الآخر فكان يدعو إلى إنهاء الحصار بسبب لا جدواه ولهذه المسألة بُعدان، الأول انساني ويتعلق بالمعاناة التي لحقت بالشعب العراقي جرّاء الحصار، والثاني " يتعلق بمهمة إسقاط النظام التي هي مهمة عراقية أولاً وقبل كل شيء، وبالتالي فإنه كان على قوى المعارضة أن تعدّ الوسائل المناسبة للاطاحة بالنظام مستفيدة من كلّ الامكانات الدولية والاقليمية والداخلية بالدرجة الاساسية، لا أن تتشبث باستمرار معاناة الشعب العراقي لكي تتم الاطاحة بالنظام، الذي قاد إلى الاحتلال.
وعلى الرغم من أن موضوع رفع الحصار أو ابقاءه أو تشديده لم يكن يتعلق برغبة هذه القوة السياسية أو تلك، الاّ أن المسألة أخلاقية وأدبية بالنسبة للعراقيين والمعارضين منهم على وجه الخصوص، فالعراقي كان يبحث عن لقمة الخبز ويتشبث بفتات الامكانات في حين يأتي هناك من يبلّغه بأن من المحتمل أن يستمر الحصار عشر سنوات أخرى أو أكثر دون ضمان باسقاط النظام.. وكانت تجربة جنوب افريقيا مثالاً حياً أمامي فقد استمر الحصار أكثر من 15 سنة (دون أن يكون حصاراً كالذي تعرّض له العراق) لكنه لم يؤد إلى اسقاط النظام لولا تطورات دولية ودور المؤتمر الإفريقي وزعيمه مانديلا إذْ تم الاصرار على المواجهة بكل الوسائل بما فيها إجراء انتخابات لكل العروق والأقوام مما أدى إلى كنس ليل التمييز العنصري الطويل.
بالطبع كان التمييز ضرورياً بين بعض الأصوات التي ترتفع من داخل النظام وبين المعارضين الذين يريدون رفع الحصار عن الشعب العراقي، لكي يخففوا معاناته، ولكنهم لا يلقون راية النضال ضد الدكتاتورية والضغط بكل الاتجاهات للاتيان بالبديل الوطني الديمقراطي كما كانوا يدعون في الوقت نفسه لتطبيق القرار 688 وكفالة احترام حقوق الانسان وينددون بمواقف نظام بغداد التي تماطل بخصوص تطبيق القرارين 706 و712 الخاصين بتوزيع مواد الاغاثة على السكان باشراف الامم المتحدة رغم الملاحظات التي يبدونها، ولكن استمرار مماطلة النظام العراقي ثم موافقته فيما بعد تلحق المزيد من الضرر بالسكان.
وإذا كان المقصود بالآلية التي يدعو لها الفريق الثالث هو ما ذكرته فقد كانت تتناسب وتلتقي مع الجانب الانساني الذي يريد التخفيف عن كاهل السكان ومعاناتهم.
وبتواضع أقول اليوم مقيّماً هذا الموقف أنني في كل ما كتبت منذ اليوم الاول لاندلاع الأزمة الناجمة عن احتلال الكويت وخلال الحرب وبعدها كنت أدعو إلى رفع الحصار الدولي الجائر عن الشعب العراقي. وبتقديري لم يكن هناك أي مبرر لاستمرار الحصار دون تخفيض سقف النضال، خصوصاً وأن استمرار الحصار لم يكن مطلباً للمعارضة، بل هو مطلب أميركي بامتياز، إنساقت مع بعض جماعات المعارضة في حينها.
بعد 18 تشرين الثاني
*هل يمكن القول أن الفترة الممتدة من 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 حتى 17 تموز (يوليو) 1968 هي من أفضل الفترات التي نعِمَ بها العراق في مناسيب الحريات وانتهاكات حقوق الانسان؟
- يمكن القول أن انفراجاً نسبياً حصل بعد إنقلاب 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963، لاسيما قياساً لفترة الحرس القومي المظلمة، التي دامت 9 أشهر، لكن العراق تحوّل إلى سجن كبير، فإضافة إلى اضطهاد الشيوعيين وقتل قياداتهم الأساسية وتصفية عشرات ومئات الكوادر، فقد لوحقت تنظيمات الحزب وجرى تفكيكها، كما تم الحكم على الآلاف بأحكام غليظة.
ولعل حادثة قطار الموت وحدها تشهد على مدى الوحشية واللاانسانية التي اتسمت بها السلطة البعثية إزاء معارضيها، حيث كان من المقرر أن يتم القضاء على المئات من الشيوعيين الذي حملهم القطار وبعضهم مقيّد، لولا شهامة سائق القطار عبد العباس المفرجي والد صديقي المرحوم مظهر الذي أودع سجن نقرة السلمان فيما بعد بسبب السرعة التي قاد فيها قطار الشحن الخاص وهي التي أنقذت الركاب، لاسيما وقد عَرِفَ الحمولة الحقيقية حيث تم إغلاق الأبواب بصورة محكمة وتزفيت الأرضية، حتى كاد الركاب يموتون جميعاً. وقد ساهم الدكتور رافد صبحي أديب وعدد من الأطباء من زملائه، وكانوا مع المعتقلين في تقديم النصائح، مثلما احتضن أهالي السماوة هذا الحمل الذي أنزل من القطار، وكان فيه العشرات على حافة الموت بينهم عسكريون ومدنيون وأساتذة جامعة وأطباء ومحامون ومثقفون.
لهذا كان اطلاق سراح أعداد كبيرة من المعتقلين مسألة في غاية الأهمية وإعادة بعض المفصولين أو مسحوبي اليد إلى وظائفهم أمراً إيجابياً خلق إنفراجاً، لكن ملاحقة أعضاء حزب البعث أثار إشكاليات جديدة، خصوصاً وأن المتهمين بالارتكابات أو الذين ساهموا بالتعذيب، بمن فيهم الذين أصدروا الأوامر ظلّوا خارج نطاق المحاسبة أو الملاحقة، بل إن بعضهم كان من أركان النظام التشريني في بداية الأمر بسبب الخلافات البعثية- البعثية، وخصوصاً عند اندلاعها يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) وتسفير علي صالح السعدي ومحسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي وحميد خلخال إلى إسبانيا وانفجار الوضع في مؤتمر الحزب، لكنه سرعان ما اتّجه إلى الهدوء أكثر فأكثر، وبقي أكثر من 1700 شيوعياً معتقلاً، وخصوصاً في سجن الحلة وسجن نقرة السلمان، أما البعثيون فقد كانوا بضع مئات ثم أطلق سراح غالبيتهم لاحقاً.
حاول الرئيس عبد السلام عارف سنّ دستور جديد، لكنه جاء حسب مقاساته محاكياً دستور الجمهورية العربية المتحدة، ولم يسمح بالعمل السياسي الاّ لحزب واحد هو الاتحاد الاشتراكي العربي، وظلّت القضية الكردية بلا حل عادل، مع أن هدنة مهمة حصلت في 29 حزيران (يونيو) العام 1966 بمبادرة من الدكتور عبد الرحمن البزاز، الذي مثل وجهاً مدنياً جديداً لسلطة عسكرية، لكنه لم يتمكن من الموازنة بين متطلبات العسكر وبين وجهته المدنية من جهة أخرى، فتغلّب الاتجاه الأول ونصّب الجنرال عبد الرحمن محمد عارف بعد وفاة الرئيس عبد السلام محمد عارف في 14 نيسان (أبريل) العام 1966 بحادث سقوط الطائرة الشهيرة في جنوب العراق.
وشهدت فترة عبد الرحمن عارف انفراجاً أكبر في الوضع السياسي، وكان شخصية مسالمة ومتصالحة مع نفسها، لكن حدود تفكيرها لم تكن تتخطى ما هو سائد آنذاك. وحتى الاتحاد الاشتراكي " التنظيم الوحيد" الذي تأسس في 14 تموز (يوليو) 1964 شهد هو الآخر انشطارات، فتأسست الحركة الاشتراكية العربية ثم انقسمت أكثر من مرّة وتأسس حزب العمل الاشتراكي لاحقاً، وكذلك تأسس حزب الوحدة الاشتراكي ومؤتمر القوميين الاشتراكيين والحزب العربي الاشتراكي والرابطة القومية وغيرها. ولعل أبرز شخصيات تلك الأحزاب كان أديب الجادر وخيري الدين حسيب وفؤاد الركابي وهاشم علي محسن وعارف عبد الرزاق وعبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد وعبد الرزاق شبيب وأحمد الحبوبي وتوفيق المؤمن ورشيد محسن وسلام أحمد وعبد الاله النصراوي وأمير الحلو ومحل الدليمي وهادي خمّاس ومبدر الويس وأياد سعيد ثابت ويوسف الخرسان وهشام الشاوي، ومعاذ عبد الرحيم وحازم مشتاق ووميض عمر نظمي وآخرين. وقد شهدت الساحة السياسية والثقافية حركة تجديدية وإبداعية مهمة، على صعيد الشعر والمسرح والأدب والفن بشكل عام، ولعلّي أستذكر دائماً كتاب فاضل العزاوي "الروح الحيّة- جيل الستينات" وهو يروي باستفاضة تفاصيل تلك المرحلة المهمة التي عشناها، ولولا وجود بعض هوامش الحريات لما كان بالإمكان الحديث اليوم عن بعض ارهاصات الحداثة تلك.
كما شهدت تلك الفترة انتزاعاً لبعض الحريات المهنية والنقابية، فقد أجريت انتخابات طلابية في ربيع العام 1967 فاز فيها اتحاد الطلبة فوزاً ساحقاً، كما أجريت انتخابات للمعلمين والاقتصاديين والعمال، وتقاربت بعض القوى مع بعضها، لاسيما بعد هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) العام 1967. وأتذكّر تظاهرة كنّا قد خرجنا فيها بمناسبة الذكرى الأولى لعدوان 5 حزيران (يونيو) بالمشاركة مع حزب البعث (مجموعة سوريا اليسارية)، وقد خرجت الحركة الاشتراكية (جماعة عبد الاله النصراوي) مع جماعة القيادة المركزية- عزيز الحاج، أما حزب العمل الاشتراكي العربي (الركابي، هاشم علي محسن) فقد اشتركوا تحت لافتات اتحاد نقابات العمال الذي كان محسن يرأسه.
وأتذكّر أول لقاء مباشر بيني وبين هاشم علي محسن والتقيته لاحقاً خارج العراق في بيروت عدّة مرات ودعوته للانضمام إلى اللجنة الوطنية العراقية للسلم والتضامن ووافق على ذلك، كما إلتقينا في الجزائر وفي البوليساريو وقضينا عدّة أيام ممتعة ومثيرة، وطرحنا على أنفسنا أسئلة كثيرة، وكان اللقاء الأول بعد إضراب الطلاب، أواخر العام 1967 وأوائل العام 1968، وكنّا أربعة من ممثلي الطلبة، وقد كنت أنا المتحدث بإسمهم، قلت له ولقيادة اتحاد نقابات العمال: على الرغم من محاولات كسر الإضراب (من قبل حزب البعث: البكر- صدام) فإن الإضراب سيستمر، بل يمكنه أن يتوسّع، وكان يعرف اتجاهي فأجابني: ألم تسمع راديو موسكو مساء أمس قلت له كلا، قال: الأفضل أن تسمعه لأنه كان قد ندد بالقوى التي تريد استثمار الإضراب لأغراض سياسية، وقصد بذلك القيادة المركزية، فقلت له : الأمر لا يعنينا، فنحن من يقرر الاستمرار في الإضراب وليس غيرنا.
وتناول سمّاعة التلفون واتّصل بفؤاد الركابي ونقل لهم موقفنا ، فقال له وهذا ما فهمناه بعد زيارة الركابي في مكتبه في ساحة الخلاّني، ولشرح مطالبنا أمّا أن التنسيق ضعيف أو أن للشباب وجهة أخرى وقصد الالتباس بين موقف السوفيت وموقفنا، ولعل هذا الموقف الملتبس استوقفني كثيراً وزاد من هواجسي بخصوص صواب موقف الاتحاد السوفيتي (دائماً) وهو ما كانت القيادات تردّده. وكنّا قد زرنا كامل الجاردجي وحسين جميل وعبد الوهاب محمود قبل ذلك، كما زرنا الدكتور جواد هاشم في مكتب غير مكتبه في الجامعة، وأظن أن له علاقة بموضوع الخريجين وتعيينهم، وقد يكون له صلة بوزارة التخطيط، كما التقينا بعمر دبابة وصالح اليوسفي كل على انفراد.
كان ضعف الحكم، لاسيما بعد العام 1967 سبباً مهماً في انفتاح شهية القوى الانقلابية للاطاحة بها، خصوصاً وكان عبد الرحمن عارف في أواخر أيامه يدعو بعض السياسيين إلى القصر للاستماع إلى آرائهم لحلّ الأزمة القائمة، دون أن يدري أن بعضهم كان يستثمر ذلك للاجهاز عليه، وهو ما حصل باتفاق بين كتلة البكر – صدام التي تعاونت مع عبد الرزاق النايف (الاستخبارات العسكرية) والذي أسس حركة الثوريين العرب قبيل الانقلاب للاطاحة بنظام عارف، حيث تم تسفيره إلى تركيا بناءً على طلبه بعد مداهمة القصر وإمطاره بالرصاص، فاضطر هو إلى الاستسلام.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في بشتاشان
- كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
- كلمة الدكتور شعبان في تكريم الاستاذ عزالدين الأصبحي
- الأكراد في النجف
- الحركة الطلابية
- من هو العراقي؟
- الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة
- ماذا بعد الربيع العربي!
- قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-
- المساءلة: عدالة أم انتقام؟
- الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية ( ...
- حلبجة: العين والمخرز! - شهادة عربية حول حلبجة والأنفال
- “إسرائيل” . . من حل الصراع إلى إدارته
- البارزاني في ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين..الكاريزما الشخصية ...
- الأمن أولا والحرية أخيراً.. والعنف بينهما
- العدالة وإرث الماضي
- الجنادرية والروح الجامعة
- العدالة الانتقالية وخصوصيات المنطقة العربية
- العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!
- كلام في ثقافة التغيير!


المزيد.....




- جريمة غامضة والشرطة تبحث عن الجناة.. العثور على سيارة محترقة ...
- صواريخ إيران تتحدى.. قوة جيش إسرائيل تهتز
- الدنمارك تعلن إغلاق سفارتها في العراق
- وكالة الطاقة الذرية تعرب عن قلقها من احتمال استهداف إسرائيل ...
- معلومات سرية وحساسة.. مواقع إسرائيلية رسمية تتعرض للقرصنة
- الفيضانات في تنزانيا تخلف 58 قتيلا وسط تحذيرات من استمرار هط ...
- بطائرة مسيرة.. الجيش الإسرائيلي يزعم اغتيال قيادي في حزب ال ...
- هجمات جديدة متبادلة بين إسرائيل وحزب الله ومقتل قيادي في الح ...
- مؤتمر باريس .. بصيص أمل في دوامة الأزمة السودانية؟
- إعلام: السعودية والإمارات رفضتا فتح مجالهما الجوي للطيران ال ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - معارضة الحصار