أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-















المزيد.....


قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3675 - 2012 / 3 / 22 - 20:10
المحور: مقابلات و حوارات
    


حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان – الحلقة 3

أجراه: توفيق التميمي




بيضة التمرد
النجف عندي أكبر من مدينة، أوسع من مكان، أبعد من جغرافيا.. هي أفق يعيد خلق نفسه باستمرار
أنجبت النجف علماء وفقهاء متميّزين وكانت حوزتها مفتوحة على سواها كما أنجبت ماركسيين وقادة شيوعيين.

قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى "المحفوظات" بتكرار بعض الشعارات والجمل عن ظهر غيب
لم يكن هناك مشروع ديمقراطي في العراق، بل توجّه جنيني لبعض آليات الديمقراطية.
مدينة النجف

*من يجرؤ على اختراق محرّمات ومقدّسات النجف في حياة شاب ومراهق مثلك ..هل هو معلم المدرسة الحكومية ؟ أم صديق سبقك بالتمرّد وعرف مسالك الثقافة المحظورة ؟ أم هي رياح التغيير التي تأتي من المدن الكبرى عادة؟ أي من هذه العوامل التي جعلت مدينة صحراوية تحفها المقابر تنجب عمالقة الشعر كالجواهري وأبطال مثل الحاج نجم البقال او حسين الشبيبي أو سلام عادل وكتاب ومعرفيين مثل عبدالحسين شعبان وغيرهم كثر؟

- النجف عندي أكبر من مدينة، هي أوسع من مكان، وأبعد من جغرافيا.. أرى النجف أفقاً يعيد خلق نفسه باستمرار، النجف عندي صيرورة تنتج نفسها وتبتكر العلائق والروابط مع الآخر، بحبّ متبادل وثقة بالنفس وقدرة على إثبات "الأنا" من خلال الآخر أيضاً، بالتسامح في أحيان كثيرة وبغيره حيناً آخر عندما تقتضي المواجهة والاقتحام.
بيني وبين النجف شيء من البعاد أحياناً، أو قلْ مسافة لا أحاول ردمها، إذ أشعر برغبة غامضة على إبقائها، هي رغبة ناجمة عن عدم التطابق أو التماهي، فالمسافة تتجسّد أحياناً بين الانسان وذاته، وإذا ما التقت ذات الإنسان مع روحه تتحقق تلك الكينونة الرمزية الخاصة، ليكون الإنسان مائزاً رائزاً، هو ذاته التي لا تشبه شيئاً آخر، عندها تسهل عليه العلاقة مع الآخر، وإذا كانت المسافة تتمثل في شيء من البعد المكاني، فهي لا تعني الابتعاد الزماني- الرمزي، وإذا كان في المسافة ثمة تباعد، فهي ذاتها ما يجمّع وما يوحّد، حيث تتمفصل في هوية التكامل الجامعة، لكنها متنوعة وكثيرة، وكأنها حسب أدونيس "تتعدد فيما تتوحد وتتجمعن فيما تتفردن" .

النجف توشوشني... أسمع همسها وأسئلتها الطافحة، "أناها" وكينونتها وتعالقها وتفاعلها مع الآخر، تخالقها وابتكارها مثل الموسيقى ذات الأصوات المتناغمة، المختلفة، المؤتلفة، كأن كل صوت جاء من وترٍ له مكانه الذي لن يتحقق التناسق النغمي (الهارموني) إلاّ بوجوده، ودونه سيكون العزف ناشزاً. ليس غريباً أن تجد في النجف المتديّن واللامتديّن، والمؤمن وغير المؤمن، والديني والعلماني، فقد أنجبت النجف علماء وفقهاء متميّزين وكانت حوزتها مفتوحة على سواها، كما أنجبت ماركسيين وقادة شيوعيين في مقدمتهم حسين محمد الشبيبي وحسين أحمد الرضي (سلام عادل) وحسن عوينه، الأول أعدمته سلطات العهد الملكي في 14 شباط (فبراير) 1949 والثاني قُتل تحت التعذيب في 24 شباط (فبراير) 1963 في قصر النهاية وأعلن عن استشهاده يوم 7 آذار (مارس) 1963، والثالث قتل تحت التعذيب أيضاً في العام 1963.
لا يمكن إلغاء تعددية النجف، فلن تكون نجفاً دونها، المعرفة تعددية والعلم تعددي والشعر تعددي والفلسفة تعددية والفن تعددي والسياسة تعددية، والإنسان تعددي، والذوق والجمال والأمل تعددي أيضاً.
في مدرسة " الأخوند" كانت ثلّة من المتمردين الأُوَل: باضت بيضتها بعد المشروطة وصراعها مع المستبدّة، في "معقل الأحرار" الوكر السرّي بلغة السياسة والمحفل الفكري بلغة الثقافة، كانت حلقة تمرد، ضمّت سعيد كمال الدين وعباس الخليلي وسعد صالح وعلي الدشتي وأحمد الصافي النجفي، ولعلّها هي البؤرة الأولى للتمرد في القرن الماضي، وكان أحد رواد المدرسة الفقهية النجفية محمد سعيد الحبوبي، الشاعر والثائر والعاشق للجمال والحرية، ثم جاء جيل التمرد فشمل إضافة إلى أسماء الأعلام أعلاه، الجواهري وآل الخليلي، عباس وجعفر وبعدهما عبد الغني، وتجمّع حول هذه البؤرة كل من: حسين مروة ولاحقاً محمد شرارة وآخرين، هؤلاء الذين انتقلوا من الفقه الديني إلى الفكر والفلسفة، ومن الإيمانية العقائدية التبشيرية المستقرة، إلى التساؤلية العلمانية التفكيرية النقدية القلقة.
ولم تقتصر المسألة على النخب الفكرية التي تجاوزت حدود المدرسة الدينية التقليدية التي طلّقتها متجهة إلى مدرسة أخرى، بل شهدت المدرسة الدينية ذاتها رغبة في التجديد ومحاولة في نفض الغبار الذي علق بالفكر الإسلامي، لاسيما مع هيمنة المدرسة التقليدية التي تركت المعاني وجوهر الدين، لتتمسك ببعض الشكليات وتقتصر على النقل وتُهمل العقل.
وشملت المدرسة التجديدية السيد محمد باقر الصدر الذي أسس لتيار إسلامي فكري جديد، بالرغم من أنه لم يستكمل تطوره، لاختفائه القسري العام 1980 وهو في أوج عطائه، وكذلك محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله ومحمد بحر العلوم ومصطفى جمال الدين وآخرين، الذين كانوا يمثّلون الحلقة الأولى في الجيل الثاني للمجددين من داخل المدرسة الدينية.
لا يمكن إختزال النجف بفريق سياسي أو عقائدي، علماني أو إسلامي، فهي كالموزائيك بجميع ألوانه وصوره، هي معقل ثورة العشرين ورحابة فكر وحقل أدب ومعرفة وفن: هي مدينة محمد سعيد الحبوبي وعلي الشرقي وعبد الكريم الجزائري وأحمد الصافي النجفي وسعد صالح والجواهري وسيد ابو الحسن وعبد الأمير الحصيري والياس خضر وكاشف الغطاء ومحمد رضا الشبيبي وحسين الشبيبي وسلام عادل ومحمد باقر الصدر وأحمد الحبوبي وموسى صبّار وصدقي أبو طبيخ ومحمد باقر الحكيم وعبد الحسين أبو شبع وعلي الصراف ونجم البقال والفتى الشجاع محمد موسى، هي مدينة الجدل والحوار والاختلاف والتنوّع، والتعايش والمشترك الإنساني.
للنجف عليّ سلطة عليا، وأظنّها سلطة الحق، تواجهني بالقوة الناعمة، وليست تلك السلطة سوى المعرفة خارج حدود اللاهوت ومعه أحياناً، كأني وبهذه العلاقة الروحية أردّد ما ذهب اليه المتنبي حين يتحدث عن الوطن، المنبع الأول، الذي "ينبت العزّ"، وعزّ النجف في حريتها، في معرفتها، في كرامتها، في تعددها، في كونها مدينة خارج حدود الانصياع لهذه اللافتة أو تلك، هي المُمانِعة، الرافضة، المتمرّدة، لأنها تعرف أن ما لديها من مخزون ضوء لا يمكن حجبه في جميع الأحوال والأهوال...
ضوء النجف يفيض ليشرك الآخر ويشاركه، القريب والبعيد، بما فيه "الغريب"... هو ضوء المعرفة المتجدد، دون حدود أو توقف، أسمع صوتاً مثل الرعد أحياناً يأتيني من بعيد، ويظل صداه في أذني يحضر ويغيب، لكنه لا ينقطع، هادراً أو خفيضاً، يوشوشني كلاماً كأنه استحضار لصوت محمد بن عبد الجبار النفّري المتصوّف الكبير وهو ما انفكّ يلاحقني:
إنّي أحدثك لترى
فإن رأيت
فلا حديث!
بدأ وعيي الأول يتفتح في أجواء العائلة ومحيطها، وكانت هذه الأجواء شيوعية ويسارية وثقافية وأدبية، وكنت وأبناء جيلي ننهل المعرفة من خلال ما يتيّسر لنا من كتب ومجلات، حيث لم يكن للتلفزيون آنذاك من وجود، فقد بدأ البث في العراق العام 1956 وانتشر بعد العام 1958، لاسيما في أجواء احتدام الصراع السياسي، حيث كان الجميع، موالين ومعارضين يتجمّعون لمشاهدة محاكمات المهداوي الشهيرة (محكمة الشعب) كما أطلق عليها أو المحكمة العسكرية العليا الخاصة كما هو إسمها الرسمي.
لم نكن نمتلك من وسائل المعرفة أكثر من ذلك، لم نكن نعرف أدوات العصر كالكومبيوتر والانترنت والفيس بوك والتيوتر والهاتف النقّال، تلك الوسائل التي ساهمت في إنجاز انتفاضات تاريخية في موجة التغيير الثالثة عالمياً، لاسيما في تونس ومصر وانتقلت الشرارة إلى العديد من البلدان العربية وبلدان المنطقة من المغرب والجزائر وليبيا إلى الاردن والبحرين وعُمان وغيرها. كما لم يكن هناك سينما باستثناء بعض شاشات عرض بدائية (يدوية) وبعض الزيارات إلى مدينة الحلة أو إلى بغداد التي كنّا نزورها بانتظام في فترة الطفولة حيث كنّا نقضي فيها العطل الصيفية والشتوية والأعياد الخاصة، ولم يكن لنا من مصدر معرفي سوى الكتاب، الذي كان رفيقنا وجليسنا وصديقنا وزميلنا ومعلّمنا.
في أجواء العائلة الثقافية وجدت نفسي في لجّة الانخراط، فقد كان عمّي ضياء من أنصار السلام وعمي شوقي عضواً في الحزب الشيوعي وعدد من أفراد العائلة على ملاك الحركة الشيوعية، وكان أخوالي ناصر ورؤوف وجليل شعبان من وسط قريب من اليسار وأجوائه وإن لم ينخرطوا في العمل السياسي، وكان ميلهم ثقافياً، كما كان الكثيرون من أصدقاء العائلة في إطار اليسار وضد سياسات الحكم الملكي، مثل آل الحكيم وآل الرفيعي وآل الخرسان وآل الجواهري وآل الشبيبي وآل الدجيلي وآل سميسم وآل بحر العلوم وغيرهم (واستخدم هنا صفة الجمع، لأن الكثير من شبابهم الناشط آنذاك كان بهذا الاتجاه) وقسم من هؤلاء كانوا مثل الكثير من أفراد العائلة يعملون في حضرة الإمام علي.
ومع أن جدّي لوالدي الشيخ جابر شعبان كان الأبرز بين الوجوه الاجتماعية للعائلة، وكان يحق له أن يكون من سلك خدمة الإمام علي بموجب فرامين سلطانية من الدولة العثمانية، لكنه فضّل مثل آبائه وأجداده العمل في التجارة وكان يسهر على حلّ مشاكل الأسرة الكبيرة من آل شعبان. أما جدّي لوالدتي فهو الحاج حمود شعبان الذي اختار مثل آبائه وأجداده ذات الطريق فعمل في التجارة، وكان أحد أبرز أعيان ووجوه آل شعبان، وكلاهما كانا من ميسوري الحال ومن التجار المعروفين والأثرياء بأعراف ذلك الزمان. واهتمّا بإرسال أبنائهما إلى المدارس والجامعات .
هكذا وحتى دون تفكير وقبل أن تتبلور رؤيتي ووعيي، شعرت أنني في المواجهة، وعندما حدث العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 حملني المتظاهرون على الأكتاف لأقرأ بعض القصائد:

يــا عبّادة الدولار وأتباعه
مدّ باع الشعب فنّه اليرِدْ باعه
كَرب ليكم الموت وكربت الساعة
وجيوش الحتم بانـت طلايعهــا

وكان ذلك بطلب من محمد موسى الذي قُتل تحت التعذيب العام 1963، والذي طالما تردّد إلى بيتنا حيث طلب منّي حفظ هذه الأبيات لألقيها في اليوم الثاني أثناء التظاهرة الحاشدة التي اخترقت المدينة من أقصاها إلى أقصاها. كما قرأت قصيدة لزاهد محمد بعنوان:
ناضل يا شعب واحقدْ على العدوان
تجلي من الشعيبة وقلعة الذبان
وإمحي هل العبيد اللباعو الأوطان
وإلغــي للابــد صـكّ العبودية

* * *

ليش الشعب جايع ما يحصل القوت
والكادح أطفاله من المجاعة تموت
أنابيب النفط ملك الشعب وتفوت
كل أرباحه بجيب الحراميــــة ...

* * *
يا جيش السلم ومحطّم العـــدوان
يا حامي الشعوب وحارس الأوطـان
ذكرك من يمرّ يبعث ثقة وإيمــان
ميّة مرحبه باسمه وطارّيـــــة
* * *
كلّ الإحنة نناضل لأجــل الاستقلال
أحــرار الشعب والفلح والعمــال
وبالجبهة يختوي نحطّم الأغـــلال
ونحــــرر شعبنا من العبوديــة

وهتفتُ بعد ذلك بسقوط حكومة نوري السعيد وبحياة جمال عبد الناصر: رافعاً صوتي: ماذا تريدون وبأي شيء تطالبون؟ وكان الجواب جماعياً اسقاط حكومة نوري السعيد، وهو ما كنت قد تعلمته في تظاهرة سابقة قبل يوم واحد، وما درّبني عليه الشهيد محمد موسى عشية يوم التظاهرة التاريخية، لاسيما على حياتي اللاحقة.
جدير بالذكر أن جريدة "اتحاد الشعب" كانت قد أشارت إلى ذلك، كما أن عزيز شريف كان قد أصدر كتاباً في دمشق بعنوان "وثبات العراق" في العام 1957 وتطرّق إلى ذلك، ضمن استعراضه لانتفاضة العام 1956 في المناطق المختلفة من العراق.
وبالمناسبة فقد عملت مع زاهد محمد في هيئة حزبية واحدة العام 1971.
أقول لك اليوم ومن باب الاعتراف والنقد الذاتي: لم يكن أياً منّا قد قرأ حينها الماركسية لكي يقول أنه اهتدى إليها، كان احساساً سليقياً وجدانياً بالظلم من جهة، وبالرغبة في تحقيق العدالة والمساواة والرفاه والتطلّع إلى العصرنة والحداثة من جهة أخرى، هو ما دفعنا للانخراط في العمل السياسي الماركسي، خصوصاً التأثّر بأجواء العائلة والاصدقاء، وحتى بعد هذا التاريخ وتحديداً بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وعلى الرغم من تيّسر الكتب الماركسية، فقد ظلّت القراءات محدودة ومدرسية إذا جاز لي التعبير.
ويمكنني الآن القول أن قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى "المحفوظات" بتكرار بعض الشعارات والجمل عن ظهر غيب، ولعل الكثير منّا أراد أن يضفي عليها نكهة "قروية" أي "ريفية" أو حتى "بدوية" أو "عشائرية"، وهو الأمر الذي يتعلق بدرجة فهمنا، وتلك هي طبعة الماركسية التي وصلتنا أو التي حاولنا تكييفها لتنسجم أو لتستجيب لقراءتنا السطحية، ولعلها تلك كانت قراءة بعض القياديين الذين كانوا يديرون الحزب، علماً بأن تشويه ماركس لم يكن يقتصر على الشيوعيين العراقيين في ظروف العمل السري القاسية أو السجون البعيدة والنائية، بل شملت العالم العربي، وحتى في روسيا السوفيتية، حدث فيها ما يمكن اصطلاحه "لنينة" (من لينين) الماركسية بطريقة روسية أو " روسنة" أو "ترويس" الماركسية، ثم أضفى عليها ستالين بُعداً توتاليتارياً استبدادياً، حيث صادر كل شيء وأخضع كل شيء لسطوته وتسلّطه الذي لا حدود له.
وامتدّ الأمر ليشمل الصين حيث جرت محاولة "تصيين" الماركسية، وجنوب شرقي آسيا، فضلاً عن أوروبا، التي امتلك بعض قادتها قلقاً وإرهاصاً إزاء الماركسية السائدة، وسعى لاحقاً لتحرير ماركسيته منها. وهنا يمكن استذكار مساهمات جورج لوكاش وغرامشي وتولياتي ودوبشيك والاوروشيوعية في سبعينيات القرن الماضي.
والمقصود " بالروسنة" أو " الصنينة" أو " الكوبنة" أو "تعريب" الماركسية، لا إخضاعها وتكييفها لدراسة الواقع الروسي أو الصيني أو الفيتنامي أو الكوبي أو العربي، ضمن منهجها الجدلي وقانون التطور التاريخي، فذلك أمرٌ ضروري وأساسي، بل جرت محاولة لتطويعها وإغراقها في الواقع القائم، بحيث هيمنت التطبيقات الخاصة لدرجة أريد تعميمها على تجارب أمم وشعوب مختلفة بطريقة استنساخية وتقليد أعمى.
وهكذا سادت التجربة الروسية الاشتراكية بحذافيرها تقريباً في أوروبا الشرقية، وحاولت الصين أن تحذو حذوها، ولعل هذا الأمر الذي أدى إلى تناقضات خطيرة، ظهرت نتائجه لاحقاً، حين جرى بالتدريج "تصنيم" الماركسية وإفقادها روحها الحية ومنهجها الجدلي، بل والإقفال عليها ببضعة مقولات وتعاليم تتعلق بدور الحزب كطليعة، وتأميمات شاملة، وآحادية سياسية بإسم "دكتاتورية البروليتاريا"، وهيمنة على الدولة وإخضاعها لأجهزة المخابرات في إطار بيروقراطي أوامري استبدادي، وحتى الأحزاب غير الحاكمة سار بعضها على ذات الطريق مبرّراً الاجراءات التعسفية وعبادة الفرد بظروف العمل السرّي.
وعلى المستوى الشخصي أستطيع القول أن قراءاتي النقدية للماركسية، بدأت بعد أكثر من خمسة عشر عاماً أو ما يزيد على علاقتي بالحركة الشيوعية، وتدريجياً بدأت أراجع جوانب منها وأحلل في ضوء المنهج، السياسات السائدة، وهو ما جعلني في تعارض أخذ يكبر وفي خلاف بدأ يتسع بالتدريج، وهو أمر طبيعي.

المشروع المجهض

*برأيك من هو المسؤول عن إجهاض مشروع التيار الديمقراطي في عراق ما قبل الجمهوريات ،هل هو الاحزاب البرجوازية بتوصيف الشيوعيين أم هو التخلف الاجتماعي أم طبيعة الثقافة الشعرية العراقية المهيمنة والمحتكرة لفضاءات الثقافة العراقية ؟ هل هو طبيعة المستعمر البريطاني؟ ولماذا ظلّ دوي الدبابات أعلى ضجيجاً في تاريخنا من حوار السياسة والثقافة في بلادنا؟

- بتقديري لم يكن هناك مشروع ديمقراطي في العراق، بقدر ما يمكن اعتباره توجّهاً جنينياً لبعض آليات الديمقراطية، والأقرب عندي هو إرهاص ديمقراطي حاول واضعو الدستور العراقي الأول (القانون الأساسي 1925) بثّه في بعض ثناياه، الاّ أن هذا الدستور وضع على الرف تدريجياً، بل أهمل في السنوات الأخيرة لاسيما في الخمسينيات، حين تمت تهيئة الأجواء لمشروع النقطة الرابعة الأمريكي والمعاهدات البريطانية- العراقية والأمريكية - العراقية لعام 1954 التي تكيّفت لما بعد معاهدة العام 1930 ومعاهدة بورتسموث العام 1948 التي أسقطها الشعب.
وكانت تلك الإجراءات تحضيراً لحلف بغداد (حلف المعاهدة المركزية – السنتو) الذي انعقد في العام 1955 وانضم اليه العراق وإيران وتركيا وباكستان وبريطانيا، وكان الحلف رأس حربة ضد الاتحاد السوفييتي من جهة، لاسيما بدفع بلدان المنطقة لتكون جزءًا من النفوذ الغربي والصراع الدولي في عهد الحرب الباردة، مع إهمال وجود " إسرائيل" كبؤرة توتر وعدوان في المنطقة، ومن جهة أخرى ضد حركة التحرر الوطني، لاسيما بصعود دور جمال عبد الناصر، بعد كسر احتكار السلاح، فضلاً عن نقطة انطلاق ضد التيار الماركسي والتيار الديمقراطي والتيار القومي العربي من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن مشروع القانون الأساسي (الدستور) أعدّ في وزارة المستعمرات البريطانية من قبل المستر يونيك والسير بونهام ادوارد (مستشار وزارة العدلية العراقية) وكذلك المندوب السامي برسي كوكس، ومشاركة عراقية ضمّت وزير العدلية ناجي السويدي ووزير المالية ساسون حسقيل، وفيما بعد لجنة برئاسة عبد المحسن السعدون وعضوية السويدي ورؤوف الجادرجي، فقد كان متقدّماً في عهده، الاّ أن المستوى المتدني من الممارسات اللاديمقراطية أفرغته من محتواه، فإضافة إلى تزوير الانتخابات شهد العراق فترة الخمسينيات قمعاً مكثفاً بإصدار قوانين ذات عقوبات غليظة، لما سمّي مكافحة الأفكار الهدّامة، حيث كان بالإمكان إتّهام كل وطني عراقي بها، من المنتمين إلى اتحاد الطلبة و إلى منظمة أنصار السلام ورابطة المرأة، إضافة إلى أعضاء الحزب الشيوعي والأحزاب الوطنية الأخرى، وكانت الأحكام العرفية حالة شبه دائمة، كما تقلّصت حرية التعبير إلى حدود كبيرة جداً، وساءت علاقات العراق مع سورية ومصر.
وإضافة إلى ضعف البُنى والهياكل والتراكيب الحكومية، فقد كان العراق يعاني من مشكلة كردية، ظلّت مستفحلة، وشهدت كردستان ثورات وانتفاضات عديدة، فبعد معاهدة سيفر العام 1920، التي أعقبت ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية العام 1919 والتي اعترفت ببعض حقوق الأكراد، حصلت المساومة الدولية في معاهدة لوزان العام 1923 مع تركيا، وتم التنكّر للقضية الكردية التي غابت من الأروقة الدولية حتى العام 1991 عندما عادت بصدور قرار مجلس الأمن 688 في 5 نيسان (ابريل) القاضي بوقف القمع الذي تعرّضت له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، معتبراً هذا القمع تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين.
أما المشكلة الثالثة التي عانت منها الدولة العراقية فهي بعض الممارسات الطائفية التي ابتدأت مع تأسيس الدولة بصدور قانون الجنسية الأول رقم 42 لسنة 1924. ومن المفارقات أن هذا القانون صدر قبل الدستور، والذي وضع درجتين للجنسية "أ" و" ب"، ولم يعتمد على كون العراقيين هم المواطنون بالتأسيس طبقاً لمعاهدة لوزان لعام 1923، وإنما جعل من هم من التبعية العثمانية عراقيين، أما غيرهم فعليهم اكتساب الجنسية العراقية، والأكثر من ذلك حين اشترط القانون "شهادة الجنسية" كوثيقة داعمة للجنسية، وحرم القانون الكثير من عرب العراق من الجنسية العراقية الأصيلة، ممن لم يكن لديهم تبعية عثمانية، وبذلك بذر بذرة التمييز الطائفي قانونياً علماً بأن مفهوم الجنسية كرابطة قانونية وسياسية حديثة لم يكن قد استقر آنذاك، فقد اعتبرت عشائر عربية معروفة كانت ترفض الجنسية العثمانية للتخلص من الخدمة العسكرية، غير عراقية أو أدنى " عراقية" من عراقيين آخرين قبلوا بالجنسية العثمانية، سواءً من الأرمن أو الأتراك أو الكورجيين أو الهنود أو غيرهم، في حين أن قبائل بني كعب وبني أسد وآل مالك الذين ينتقلون ما بين العراق وإيران على الحدود الشرقية، أصبح بعضهم عراقيين من الدرجة الثانية، بعد اكتسابهم الجنسية.
لم يكن المواطن العراقي يعي آنذاك أهمية كونه من التبعية العثمانية أو الإيرانية، طالما هو عربي ويعيش في أرضه، وتهيمن عليها وتتنازعها قوتان وامبراطوريتان "اسلاميتان" الفارسية والعثمانية، خصوصاً وأن العديد من أبناء العشائر العربية كانت تحاول التخلص من الالتزامات التي تفرضها السلطات، ولذلك كان هناك عدم اكتراث من بعض العوائل بموضوع اكتساب الجنسية نظراً لموقفها من السلطة العثمانية حتى بعد تأسيس المملكة العراقية في العام 1921 وتشريع قانون الجنسية العراقية. وكانت الجنسية في الواقع العملي لا تعني شيئاً للعراقي من الناحية الفعلية وفي حياته اليومية.
ولم يكن الحصول على الجنسية دليلاً للولاء القومي أو الوطني سواءً العثماني أم الفارسي، فليس ثمت ما يربط بين الجنسية وبين الانتماء العروبي بالنسبة للعرب أو الكردي بالنسبة للأكراد والانتماء القومي. وقد شجّع بعض القناصل الإيرانيين على حصول بعض من تريد "حمايتهم" أو كسبهم على الجنسية الايرانية لمدّ نفوذ الامبراطورية الفارسية، وكانت ترتبط الدولة الإيرانية مع الدولة العثمانية بمعاهدات لتنظيم شؤون الرعايا والأقليات والحدود، بما يمنحهم بعض "الامتيازات".
وقد فصّلت ذلك في كتابي "من هو العراقي؟" الصادر في العام 2002، وذكرت حادثة طريفة تتعلق بكيف بقي الوزير حسن الدجيلي وهو من عائلة الخزرج العربية " عربياً" بمحض الصدفة، وحواره الطريف مع الرئيس عبد السلام عارف حينها، خصوصاً بمناقشة مشروع دستور العام 1964، وذلك عندما عرض القنصل الإيراني على والده الذي كان يدرس في النجف "منحه" الجنسية الإيرانية، فوافق على ذلك، وعندما ذهب لملء الاستمارات المطلوبة لم يكن القنصل موجوداً، وفي المرّة الثانية تقاعس عن الذهاب، وهكذا بقي عربياً وعراقياً أصيلاً، ولو كان والده قد حصل على الجنسية الإيرانية، حتى ولو كان الأمر شكلياً، لأصبح هو أتوماتيكياً " إيرانياً " وهو ما رواه للمشير عارف، أو من " التبعية" كما هو معروف.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المساءلة: عدالة أم انتقام؟
- الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية ( ...
- حلبجة: العين والمخرز! - شهادة عربية حول حلبجة والأنفال
- “إسرائيل” . . من حل الصراع إلى إدارته
- البارزاني في ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين..الكاريزما الشخصية ...
- الأمن أولا والحرية أخيراً.. والعنف بينهما
- العدالة وإرث الماضي
- الجنادرية والروح الجامعة
- العدالة الانتقالية وخصوصيات المنطقة العربية
- العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!
- كلام في ثقافة التغيير!
- الهوِيّة الوطنية والربيع العربي
- الربيع العربي منظور إليه استشراقياً
- فريضة التسامح وجدلية القطيعة والتواصل!
- مصير الإمام موسى الصدر: متى خاتمة الأحزان؟
- التواصل والقطيعة في فريضة التسامح
- مقهى وروّاد ومدينة: ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!
- العنف واللاعنف في الربيع العربي
- محنة العراق بين الديمقراطية والحرية
- الربيع العربي وردّ الاعتبار إلى السياسة


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - قراءتنا للماركسية كانت أقرب إلى -المحفوظات-